الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا الباب، فلم التشنيع والإنكار (1)
4 -
أنه لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى، وقد سارت الأمة على هذا، فكانت الفتوى زمن الصحابة والتابعين للفاضل والمفضول (2) فليكن تقليد المذاهب على الأقل من هذا الباب، ثم أخيرا فهو القول الوسط الذي يتمشى مع سماحة الإسلام ويسره، فلا إفراط ولا تفريط، ويوافق فطر الناس كما ذكرنا، فإن قلب العامي متى وثق بشخص واطمأن له لم يقتنع بسواه، فهو لا يعرف الراجح من المرجوح، فلا يمكن أن يقتنع بفتوى غير مفتيه إلا بعد لأي، وحيث إن الشرع قد أباح العمل بكل اجتهاد سار في مساره الصحيح، فلم نحجر واسعا. والله أعلم.
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (20/ 207)
(2)
قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (2/ 135)
معالم رئيسة في مسألة التمذهب:
عرفنا أن الرأي الوسط في مسألة التمذهب هو القول بجواز التمذهب وعدم الإنكار على من ترك التمذهب، وبقي بعض الأمور التي ينبغي أن ينتبه لها كل مسلم عموما، ومن أراد التمذهب بأحد
مذاهب الأئمة خصوصا، فمن هذه الأمور ما يأتي:
1 -
أن المقلد يجب عليه أن يوقن بأن متابعته لعالم ما أو لمذهب ما إنما هي لكون هذا العالم أو هذا المذهب هو طريقه إلى معرفه حكم الله تعالى، يقول الشاطبي:(ومعلوم أنه لا يقتدي به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم، لا من جهة كونه فلانا، وهذه الجملة لا يسع فيها خلاف عقلا ولا شرعا). اهـ (1)
2 -
ألا يصر المقلد على تقليد من تبين له خطؤه، بل على المقلد إذا بان له خطأ متبوعه أن يقلع من ساعته ويتبع الصواب الذي ظهر له، فإن أصر على متابعته والتعصب له فقد خالف أمر الشارع وخالف أمر متبوعه؛ لأن كل عالم يصرح أو يعرض بترك قوله إذا بان للمتبع خطؤه كما نقلناه عن الشاطبي. (2)
يقول القرافي رحمه الله: (يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه حكم الحاكم وهو أربعة: ما خالف الإجماع،
(1) الاعتصام للشاطبي (2/ 343).
(2)
الاعتصام (2/ 345)، والإنصاف (101، 102)
أو القواعد أو النص أو القياس الجلي) (1)
فإذا رأى متبع المذهب رأيا في مذهبه مخالفا لدليل شرعي، أو قاعدة شرعية، أو قياس صحيح أو إجماع الأمة، وجب عليه تركه لما ترجح عنده.
3 -
أنه لا يلزم الشخص أن يتقيد بمذهب ما، لا يتجاوز ما فيه، وإنما التزامه بمذهب ما، مما يسوغ له ويجوز (2) وعلى هذا يجوز أن يستمر في تقليده ويجوز أن ينتقل إلى غيره إذا كان قصده من الانتقال أمرا دينيا قال القرافي في التنقيح: (قال الزناتي: يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط:
أ- أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن كل عالم يقول ببطلان النكاح في هذه الصورة المجموعة.
ب- أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلده رميا في عماية.
(1) شرح تنقيح الفصول (432)
(2)
مجموع الفتاوى (20/ 209)
ج. أن لا يتتبع رخص المذاهب). اهـ (1)
ومعنى هذا أن يكون قائده في التمذهب وفي الانتقال البحث عن حكم الله ونشدان الحق وطلب الخير، لا أغراض النفس وشهواتها.
4 -
يجب على مريد اتباع أحد من مذاهب الأئمة رحمهم الله أن يعرف للأئمة غير إمامه وللفقهاء غير فقهاء مذهبه حقهم وفضلهم، فلا ينال منهم، ولا يتعرض لهم بسوء، بل عليه أن يرى الجميع أئمة فضلاء، وأن كلا منهم سالك في الطريق المكلف به، وألا يتعصب لمتبوعه على غيره، فإن هذا يؤدي إلى تحكيم الرجال في الحق والإعراض عن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. (2)
وعليه أن يعلم أن هذا الخلاف القائم بين العلماء لا ينبغي أن يكون سببا للخصومة والقطيعة، وقدوتنا في هذا الموقف الأئمة الأربعة ومن بعدهم من علماء الإسلام.
فهذا الشافعي يصلي قريبا من مقبرة أبي حنيفة فلا يقنت تأدبا معه ويقول: (ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق).
والإمام أحمد رحمه الله يرى الوضوء من الرعاف والحجامة،
(1) شرح تنقيح الفصول (432)
(2)
الاعتصام (2/ 348)
فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ قال: (كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب؟)(1) وأخبار السلف في هذا كثيرة، فالأئمة رحمهم الله لا يرون أنهم خير من مخالفيهم، أو أن مخالفيهم على غير هدى، بل كل يعرف لصاحبه حقه ويعمل بما أداه إليه اجتهاده، ويعلم أن هذا الاختلاف كما قال ابن العربي:(اختلاف العلماء رحمة للخلق، وفسحة في الحق، وطريق مهيع إلى الرفق)(2) اهـ، أو كما قال قبله عمر بن عبد العزيز:(ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة)(3)
5 -
أن على العلماء وطلبة العلم من أرباب المذاهب الابتعاد عن المناظرات والمجادلات في كل مسألة لا يطمع فيها أحد الطرفين أن يرجع صاحبه إلى الحق إذا ظهر له، وليس فيها فائدة ترجع إلى استجلاب مودة ولا إلى توطئة القلوب لوعي الحق، بل هي كما نقل الإمام ابن تيمية
(1) رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (1097)
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (3/ 322)
(3)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 80)
على الضد من ذلك كله، فإن مثل هذا مما قد تكلم فيه العلماء، وأظهروا من عوره ما أظهروا، ولا يتمارى في أنه محدث متجدد. (1)
وعلى هذا فينبغي لكل من اطلع على قول ضعيف في مذهبه أو مذهب غيره ألا يعمل به في خاصة نفسه، وأن يخبر من رآه يعمل به بشيء من اللطف واتباع الحسنى من غير تعرض للمذهب أو المذاهب بتخطئة أو تسفيه، ويجعل بين عينيه أنه بعمله هذا ينتصر للحق لا ينتصر لنفسه، وعليه أن يعلم القاعدة الشرعية، وهي أن المنكر إذا خشي منكره من ترتب منكر أكبر على إنكاره، وجب عليه الكف عن الإنكار، فكيف بقول له عاضد من اجتهاد أئمة الإسلام ولعلهم رأوا ما لم نر، فإن الحكم يتغير بتغير الزمان والمكان ونحوها كما هو معلوم.
وليعلم أيضا أن البعد عن إثارة الضغائن والأحقاد من أهداف الإسلام، فلذا يجب كما قلنا ترك الأفضل والعمل بالمفضول إذا خشي ترتب مفسدة أو ذهاب مصلحة عند العمل بالأفضل، وهذه قاعدة لا إشكال فيها عند أئمة الإسلام، وأصلها قوله تعالى:
(1) المسودة (541)
{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1).
6 -
ليعلم الملتزم بالمذهب وغيره من المسلمين أنه قد حدثت عبر العصور الإسلامية فتن ومحن وتعصبات بين المذاهب الإسلامية كانت سببا لفساد كبير، وعلى المسلم إزاء هذه الأحداث أن يعلم أنها ليست من خلق الإسلام ثم إنها من فعل العامة وبعض طلاب العلم المبتدئين ونحوهم، وكلها ليس دافعها دينيا بحتا، بل أكثرها ردود فعل لمواقف شخصية وأغراض خاصة، أو هي من صنع الولاة والحكام لغرض ما، وعلى المسلم أن يعتبرها من الهفوات والعثرات التي يجب سترها كسائر العيوب، وأن لا تشاع وتذكر على أنها من عيوب التمذهب، وقد بينا فيما سبق بعض أسبابها وخلفياتها التي كانت سببا لفساد كبير.
هذه بعض المعالم التي أحببت التنبيه إليها في نهاية الكلام على مسألة التمذهب، ليلقي المسلم سمعه ونظره إليها، ويمرن عقله وقلبه وجوارحه على العمل بها والله المستعان.
(1) سورة الأنعام الآية 108