الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لما ذكر عنده استهانة بعض أهل المعرفة بالعبادات -: (العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك)
…
فلا تصغ إلى قول ملحد قاطع للطريق في قالب عارف يقول: إن منزلة القرب تنقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة، وتحمل على الاستهانة بالطاعات الظاهرة، وتريحه من كد القيام بها" (1)
ويعنف رحمه الله على من ادعى سقوط التكاليف الشرعية عن السالك إذا ازداد قربا من الله، فيقول:"من زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد، فهو زنديق كافر بالله ورسوله، وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله والانسلاخ من دينه"(2) والتكاليف الشرعية "إنما هي قرة عين، وسرور قلب، وحياة روح، صدر التكليف بها عن حكيم حميد. فهي أشرف ما وصل إلى العبد من ربه، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه الله للعبد"(3)
(1) مدارج السالكين، ج3/ص91 - 94، بتصرف يسير.
(2)
المصدر السابق، ج1/ص87.
(3)
المصدر السابق، ج3/ص117.
المبحث السابع: اجتناب الذنوب والمعاصي:
ولا بد للسالك كذلك من اجتناب مقارفة الذنوب والمعاصي ليصح له سيره، وذلك لأن حياة القلب إنما هي في هذا الاجتناب،
ولما للذنوب والمعاصي من أضرار كثيرة جدا في القلب كأضرار السموم في البدن.
يقول ابن القيم: "حياة القلب بدوام الذكر وترك الذنوب، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب
…
وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
…
وخير لنفسك عصيانها (1)
ويقول: "مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا بد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟.
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة - دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور - إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه فجعل صورته أقبح صورة، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبدل بالقرب بعدا، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحا،
(1) مدارج السالكين، ج3/ص197.
وبالجنة نارا تلظى، وبالإيمان كفرا، وبموالاة الولي الحميم أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الإيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان، فهان على الله غاية الهوان، وحل عليه غضب الرب تعالى فأهواه، ومقته أكبر المقت فأرداه، فصار قوادا لكل فاسق ومجرم، رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة
…
وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما دمرت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم، حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟
ومن الذي رفع قوم لوط حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعا، ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم؟
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارا تلظى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم فالأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرا؟
وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قوما أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجال، وسبوا الذرية والنساء، وأحرقوا الديار ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علوا تتبيرا؟ " (1)
ويبين رحمه الله قبح أثر الذنوب والمعاصي والضرر الناشئ منها، فيقول: " وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله، فمنها:
1 -
حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.
2 -
حرمان الرزق، وفي المسند «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (2)»
(1) الجواب الكافي، ص42 - 43، ط الأولى 1424هـ - 2003م، بدون ذكر الناشر.
(2)
رواه الإمام أحمد في المسند من حديث ثوبان رضي الله عنه، الحديث رقم (22386)، ج37/ص68، وضعف محققو المسند إسناده. ورواه ابن ماجه في سننه الحديث رقم (90) ورقم (4022)، ط مكتبة المعارف للنشر والتوزيع – الرياض. وقد ضعفه الألباني في تحقيقه لهذه السنن. كما رواه الحاكم في المستدرك في كتاب (الدعاء والتكبير)، الحديث رقم (1814)، ج1/ص670، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط الأولى 1411هـ - 1990م، دار الكتب العلمية – بيروت، وقال:"حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
3 -
وحشة يجدها العاصي في قلبه وبينه وبين الله لا توازيها ولا تقارنها لذة أصلا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة. وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بميت إيلام.
4 -
وحشة تحصل بينه وبين الناس، ولا سيما أهل الخير منهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم، وحرم بركة الانتفاع بهم، وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن.
5 -
ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره، فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة.
6 -
أن المعاصي تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضا، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها.
7 -
أن المعاصي سبب لهوان العبد على ربه. قال الحسن
البصري: (هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم)، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد كما قال الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (1). 8 - أن المعاصي تورث الذل ولا بد، فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (2) 9 - أنها تفسد العقل، فإن للعقل نورا، والمعصية تطفئ نور العقل ولا بد، وإذا طفئ نوره ضعف ونقص.
10 -
أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، وتضعف وقاره في قلب العبد ولا بد شاء أم أبى، ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه.
11 -
أنها تذهب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وهو أصل كل خير. وذهابه ذهاب الخير أجمعه. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الحياء خير كله (3)» (4)
(1) سورة الحج الآية 18
(2)
سورة فاطر الآية 10
(3)
رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب (الإيمان) باب (بيان عدد شعب الإيمان)، ج2/ص7
(4)
انظر الجواب الكافي، في الصفحات: 51، 54، 55، 58، 59، 68، 69.