الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والنقطة التي دار فيها الإشكال أن من قلد عددا من العلماء في مسائل عدة كلا منهم في مسألة هل يعد متمذهبا؟
أنصار التمذهب يرون أنه متمذهب؛ لأنه تبع مذهب كل منهم فيما تابعه فيه، كما قرر ذلك الدكتور البوطي في رسالته حول هذا الموضوع (1)
أما أنصار اللامذهبية فيقولون: ليس بمتمذهب؛ لأن التمذهب سلوك طريق واحدة ومذهب واحد لا يحيد عنه سالكه، فلو كان فاعل هذه المسألة متمذهبا، لم يعد هناك أحد لم يتمذهب.
والقول الحسن في هذا أن اللغة لا تمنع من إطلاق التمذهب على هذه الحالة، لكن العرف الفقهي عند العلماء قيدها بالتزام مذهب واحد، كما قال الحطاب، أما إذا لم يتبع أحدا بعينه في كل أقواله فإنه لا يكون ملتزما بمذهب، وعلى هذا فلا يكون متمذهبا. والله أعلم.
(1) اللامذهبية (11)
نشأة التقليد والتمذهب وتطورهما
(1)
يمكن أن يقال: إن التقليد قد وجد مع وجود البشر على هذه
(1) انظر لهذا: تاريخ المذاهب لأبي زهرة (301) وما بعدها، والاجتهاد للأيوبي (147)
الأرض، فالأبناء يقلدون الآباء، والصغار يقلدون الكبار في أخلاقهم وعاداتهم وطرق حياتهم.
ولما جاء الإسلام وعرفت الأحكام كان من بين الناس في القرون المفضلة مقلدون يأخذون الأحكام وما يتعلق بها من علمائهم، ويسألونهم عما يعرض لهم، والمحفوظ من فتاوى الصحابة والتابعين شاهد على هذا الأمر الذي لا مجال فيه للشك فضلا عن الإنكار.
ولما كثر الإقبال على تعلم العلم، وانصرف عدد من الناس إلى الاهتمام به ودراسته، برز جمع من العلماء ممن بلغوا في العلم منزلة عالية، فتصدروا للتدريس والإفتاء، فقصدهم الطلاب والتفوا حولهم، وأخذوا ينهلون من موردهم ويقيدون ما يأخذونه عنهم، حتى إذا ذهب الجيل الأول أخذ الجيل الثاني - جيل التلاميذ - مكان الصدارة، وكان من الطبيعي أن ينهج كل تلميذ منهج شيخه وطريقته في التأصيل والتفريع غالبا، وكان من الطبيعي أيضا أن يستشهد بأقوال شيخه ويوليها اهتماما في تدريسه، وذلك لما لشيخه من المكانة في قلبه، إضافة إلى ذلك فإن الإنسان يألف الأفكار والتصورات التي تأتيه ابتداء ويطمئن لها ويعتقد صحتها، خصوصا إذا جاءته من ثقة عنده، فيسخر جميع إمكاناته لتأييدها ونصرها ورد ما يخالفها.
ولعل في واقعنا ما يقارب هذا المسلك، فإنك ترى الجماعات الإسلامية وضعت لها هدفا محددا هو الدعوة إلى الله وقد اتخذت كل جماعة منها منهجا رأته الصواب، فهي تؤيده وتدافع عنه، حتى حدث بسبب ذلك صراع بينها ومشاحنات مع أنها تدعو إلى هدف واحد.
كذلك مشجعو الكرة، فإن الفرد منهم إذا ما ألف فريقا معينا اشتد حماسه له، حتى يصل الحد ببعضهم إلى المعاداة والموالاة في الكرة، وهي أمر دنيوي تافه، فكيف بأمور الدين التي هي أساس ما لدى المسلم؟.
ولذلك فإن تلاميذ هؤلاء الأئمة ألفوهم، فاتبعوهم، ثم اتبع هؤلاء تلاميذهم، وهكذا تسلسل الاتباع جيلا بعد جيل، كلما جاء جيل جديد قوى اتباع ما قبله، فكان القدم يضفي على أقوال السابقين نوعا من التقدير، حتى شاع بين الناس ما يعرف بالتمذهب، وهو اتباع كل فئة من المسلمين مذهبا من المذاهب الأربعة المعروفة اليوم، فاندرس ما عداها من المدارس الفقهية، أو قل أتباعه جدا، وأصبح أرباب كل مذهب يدرسون الأحكام على ضوء ما سطره علماؤهم السابقون، ويقرون ذلك ويرجحونه، ويضعفون ما سواه، حتى جاء عصر لم يعد فيه للعلماء أثر من حيث إضافة شيء جديد، بل غلب عليهم دراسة كتب السابقين وشرحها واختصارها والدفاع عنها
بالتأليف والمناظرات.
وهذا الواقع الذي لا يستطيع الباحث إنكاره، بل يقف أمامه مشدوها بتساؤل: كيف ركن علماء أجلاء فطاحل إلى التمذهب والتقليد واستساغوه؟
وللإجابة عن هذا السؤال أعرض هذه النقاط:
أولا: لم يكن علماء المذاهب - بل لم يكن علماء المذهب الواحد - على قدر واحد من حيث التقليد والتمذهب، بل كان هذا الأمر فيهم على مراتب، أدناها الانتماء المجرد، وأعلاها التعصب المقيت وتحريم الصلاة خلف المخالف للمذهب، ولبيان ذلك أقول: إن المذهب الواحد ينسب إليه عدة طبقات، يختلف تناولهم للمذهب من طبقة إلى طبقة، ومن فرد إلى فرد، ولنضرب لذلك مثلا:
فالإمام أحمد رحمه الله يفتخر به الحنابلة ويوردون أقواله على أنها آراء مذهب الحنابلة، فهي من المذهب وهو إمام المذهب.
وتلاميذ الإمام يأخذ علماء المذهب اختياراتهم وترجيحاتهم بين الروايات على أنها من مذهب الحنابلة، وعلى أنهم أئمة الحنابلة.
ثم هناك فئة تابعت الإمام في أصوله وخرجت عليها فروعا، فما خرجوه يعده الحنابلة المتأخرون من مذهبهم، ويصنفون هؤلاء العلماء مع الحنابلة، وفئة أخرى تابعت الإمام ومتقدمي الأصحاب
في بعض الفروع، وانفردوا بفروع أخرى، فنسب الجميع إلى المذهب، وإن كانت هذه الفئة لم تصرح بالانتساب إلى المذهب.
ثم إن هناك فئة انتمت انتماء إلى المذهب مع قولها بفروع عديدة مخالفة لما في المذهب، فكما رأيت فإن هذه الفئات كلها نسبت للمذهب، مع أنها في التحقيق لم تلتزم بالمذهب، مما يجعلنا نقول: إن التزام المتقدمين بالمذهب إنما هو التزام انتساب وولاء بحكم تعلمهم وبداية تحصيلهم على هذا المذهب، قال ابن الجوزي رحمه الله:(فأما المجتهد من أصحابه فإنه تتبع دليله من غير تقليد له، ولهذا يميل إلى إحدى الروايتين عنه دون الأخرى، وربما اختار ما ليس في المذهب أصلا، لأنه تابع للدليل، وإنما ينسب إلى عموم مذهبه لميله لعموم أقواله). اهـ (1)
وقال ابن بدران الدمشقي: (المراد باختيار مذهبه إنما هو السلوك على طريقة أصوله في استنباط الأحكام، وإن شئت قل السلوك في طريق الاجتهاد مسلكه دون مسلك غيره على الطريقة التي سنبينها فيما بعد إن شاء الله تعالى، وأما التقليد في الفروع فإنه يترفع عنه كل من له ذكاء وفطنة وقدرة على تأليف الدليل
(1) المدخل لابن بدران (39)
ومعرفته
…
الخ) (1)
قلت: وهذا هو الصواب إن شاء الله في هذا المقام، فإن ابن حامد وأبا يعلى وأبا الخطاب والموفق وابن تيمية وأضرابهم من الحنابلة لا يمكن أن يكونوا مقلدين بكل ما نفهمه من كلمة تقليد، وهناك أمثالهم من المذاهب الأخرى، كأبي بكر الباقلاني وابن عبد البر من المالكية، وكالشيرازي والجويني والغزالي من الشافعية، وكالسرخسي والنسفي وابن همام من الحنفية.
ويؤيد ما ذهبنا إليه هنا ما قاله ابن عبد البر في مقدمة كتابه: الكافي، حيث قال:(اعتمدت فيه على علم أهل المدينة، وسلكت فيه مسلك مذهب الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله (2)
فينبغي أن يتنبه الباحث لهذه الحقيقة، بل أن يبحث باحثون كيف تدرج التمذهب من التتلمذ إلى الانتماء إلى الاتباع إلى التقليد إلى التعصب، ولعلي فيما بقي من نقاط هذا البحث آتي بشيء يضيف فائدة إلى هذه المسألة.
ثانيا: إن مما مكن لشيوع التمذهب في بدايته وتمكنه من علماء المذاهب وحماس علماء كل مذهب لمذهبهم أمرين:
(1) المصدر السابق (40)
(2)
مقدمة كتاب الكافي لابن عبد البر
الأول سياسي: حيث تبنت الدولة العباسية مدرسة الرأي التي يمثلها الحنفية، وقربت رجالها، فكانوا يولون القضاء والمناصب الدينية لمن هو على منهجهم، ولذا توجه كثير من الطلاب لدراسة هذا المذهب رغبة في الفوز بالمناصب، كما دعا هذا الصنيع الفريق المقابل وأبرزهم الشافعية إلى التعصب لمذهبهم ومحاولة الدعوة إليه والدفاع عنه، وهكذا نشأت بذرة التمذهب، وقد كان للمالكية في المغرب المهمة نفسها التي قام بها الحنفية في المشرق، حيث نصر مذهبهم بالأندلس هشام بن عبد الرحمن بن معاوية. (1)
والأمر الثاني عقدي: ذلك أن الحنابلة - في الجملة- كانوا يتبنون المذهب السلفي في الصفات وبعض العقائد التي يخالفهم فيها الأشاعرة والمعتزلة، وهذا جعل أرباب المذاهب الأخرى يتعصبون ضدهم ويحاربون مذهبهم، فكان رد الفعل من الحنابلة التعصب لمذهبهم والدعوة إليه والرد على مخالفيه، وقد حدث بسبب ذلك عدة فتن في عدد من البلدان الإسلامية، كان أغلب من يثيرها العامة من الحنابلة وغيرهم.
ثالثا: مما مكن للتمذهب بل لاختفاء الاجتهاد خصوصا فيما بعد القرن الخامس، إحجام كثير من العلماء عن الاجتهاد، إما رغبة في
(1) ترتيب المدارك لعياض (1/ 15)