الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحث في
الذهب في بعض خصائصه وأحكامه
إعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على الرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد رسول رب العالمين الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا وبعد:
فالذهب معدن نفيس استهوى الإنسان منذ القدم بحبه وإيثاره والافتخار بتملكه والتزين به حتى أغراه بعبادته قال تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه: 87- 88] .
فالذهب معدن نفيس يتميز عن المعادن الأخرى بميزات طبيعية تكمن في قدرته على مقاومة عوامل التعرية وسلامته من التعرض للصدأ، فبمشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ عرفجة بن هرثمة أنفا من ذهب حينما قطع أنفه في إحدى المعارك مع رسول الله وبالرغم من حرمة التحلي به على الرجال فقد أذن في اتخاذ الأسنان منه للرجال للحاجة.
ولوقور محبته في النفس البشرية وإيثاره في حب التملك ذكره الله تعالى في عداد أمور زين للناس حب تملكها قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] وقد جعله الله في الجنة من وسائل الإنعام والتنعيم قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23] .
ولما وقر في النفس البشرية من إيثار لهذا النوع من المعادن دون غيره عدا الفضة وكونهما بعد التملك مظنة البخل بهما وإمساكهما فقد حذر تعالى من كنزهما دون إنفاقهما في سبيل الله فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] .
ولما في الذهب من تأثير على النفس البشرية من حيث الافتخار والاعتزاز، واعتبار ذلك من مقومات الوجاهة والقيادة والاعتبار قال تعالى حكاية عن قوم فرعون وفي معرض إنكارهم رسالة موسى عليه السلام، وأن دعواه الرسالة تفتقر إلى ما يسندها من مقومات الاعتبار {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53] .
وقال تعالى في معرض الفداء مشيرا إلى أغلى ما يملكه الإنسان وهو الذهب وإنه لو ملك منه ملء الأرض لرضي ببذله فداء له لما حل به من سوء العذاب قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91] .
ولما في الذهب والفضة من الإغراء للنفوس البشرية فقد جعلهما الإنسان أكثر إيثارا من غيرهما من المعادن الأخرى في اتخاذ زينته منهما. ولحكمة ربانية تقتضي كبح النفس البشرية عن التجبر والتكبر والطغيان فقد حرم الله تعالى على الرجال اتخاذهما زينة لهم إلا ما استثنى. وذكر صلى الله عليه وسلم تعليل التحريم بأن فيهما كسرا لقلوب الفقراء، ولما فيهما من الإغراء والتمتع بالتزين بهما ولأن النساء في وضع يقتضي تمكينهن من أسباب تعلق الرجال بهن فقد أباح للنساء اتخاذهما حليا لزينتهن أمام أزواجهن وحرم ذلك على الرجال. كما حرم تعالى اتخاذ الأواني المنزلية والتحف الجمالية منهما لما في ذلك من كسر قلوب الفقراء. يستوي في ذلك الرجال والنساء.
وقد أشار تعالى إلى طبيعة النفس البشرية في تمتعها بالذهب فجعل من تمتع الصالحين من بني آدم في الجنة أن من أدواتهم المنزلية صحافا من ذهب قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71] .
النشأة التاريخية لاتخاذه ثمنا:
لقد مر على الإنسان حين من الدهر وهو يعاني الإشكال في حصوله على احتياجه من طعام وشراب ومسكن ومركب ونحو ذلك. فهو مدني بطبعه قليل بنفسه كثير ببني جنسه. لا يستطيع العيش بدون معونتهم. فبالرغم من البساطة التامة في حياته إبان العصور الأولى فقد كان محتاجا إلى ما عند الآخرين. فإن كان مزارعا فهو محتاج إلى أدوات الحرث والري من الصناع. وإن كان صيادا أو راعي أنعام فهو محتاج إلى بعض الحبوب والثمار من المزارعين. ولا شك أن كل فرد في الغالب يضن ببذل ما عنده لحاجة غيره، ما لم يكن ذلك البذل في مقابلة عوض.
وتحقيقا لعوامل الاحتياج نشأ لديهم ما يسمى بالمقايضة، بمعنى أن الصياد أو مستنتج الأنعام مثلا يشتري حاجته من الإنتاج الزراعي، مما يملكه من لحوم وأصواف وجلود وأنعام وهكذا.
ويعتقد علماء الاقتصاد أن نظام المقايضة قد ساد وقتا ما، إلا أن تطور الحياة البشرية، وما يعترض الأخذ بمبدأ المقايضة من صعوبات أهمها:
أ- صعوبة التوافق المزدوج بين متبادلين، فصاحب القمح قد لا يجد من يبادله بما هو في حاجة إليه من أدوات الحرث مثلا.
ب- صعوبة توازن قيم السلع وحفظ نسب التبادل بينها، فلا يمكن قياس كمية من السكر بجزء من السمن أو الشاي أو غيرهما إلا بعناء.
ج- صعوبة التجزئة إذ قد تكون الحاجة إلى شيء تافه، فلا يتكافأ هذا الشيء التافه مع ما يرغب فيه من سلعة أخرى.
د- صعوبة احتفاظ السلع بقيمتها لتكون مستودعا للثروة وقوة للشراء المطلق ومعيارا للتقويم.
كل ذلك إلى الاستعاضة عنها بطريقة يحصل بها التغلب على الصعوبات المشار إليها، فنشأ مبدأ الأخذ بوسيط في التبادل، وليكون في ذلك الوسيط وحدة للمحاسبة ومقياس للقيم، وخزانة للثروة، وقوة شرائية مطلقة. إلا أن نوعية هذا الوسيط لم تكن موحدة بين الناس فكان للبيئة أثرها في تعيين وسيط التبادل فالبلاد الساحلية كانت تختار الأصداف نقدا، والبلاد الباردة وجدت في الفراء ندرة تؤهلها لاختيارها وسيطا للتبادل، أما البلاد المعتدلة فنتيجة للرخاء في عيشة أهلها آثروا المواد الجميلة كالخرز والرياش وأنياب الفيلة والحيتان نقودا، ويذكر أن اليابان كانت تستعمل الأرز وسيطا للتبادل، كما كان الشاي في وسط آسيا، وكتل الملح في أفريقيا الوسطى، والفرو في الشمال من أوربا.
وبتطور الحياة البشرية بمختلف أنواعها من فكرية واجتماعية واقتصادية ظهر عجز السلع، وسيطا للتبادل عن مسايرتها هذا التطور الشامل.
هذا العجز يكمن في تأرجح قيم السلع ارتفاعا وانخفاضا، تبعا لمستلزمات العرض والطلب، وأن السلع عرضة للتلف فضلا عن صعوبة حملها، وعن الأخطار التي تصاحب نقلها من مكان إلى آخر.
وفضلا عن ذلك كله فهناك مجموعة من السلع لا تنسب لها قيمة تذكر بجانب السلع المتخذة وسائط تبادل كالبيضة والبطيخة والرغيف من الخبز ونحو هذه المعدودات مما يحتاجه الجميع دائما.
لذلك اتجه الفكر الاقتصادي إلى البحث عن الاستعاضة عن السلع وسيطا للتبادل بما يسهل حمله، وتكبر قيمته، ويكون له من المزايا والصفات الكيماوية والطبيعية ما يقيه عوامل التلف والتأرجح بين الزيادة والنقصان.
فاهتدى إلى المعادن النفيسة من ذهب وفضة ونحاس، ووجد فيها أسباب التغلب على الصعوبات التي كانت تصاحب السلع كوسائط للتبادل، فساد التعامل بها ردحا من الزمن على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة، إلا أن اختلاف أنواع هذه المعادن وخصوصا الذهب، أوجد في استعمالها ثغرة كانت ميدانا للتلاعب والفوضى، فليس كل الناس يعرف المادة الأصلية للذهب وليس كل الناس يعرف المعيار المقبول للتبادل، ثم إن ترك تقدير القطع النقدية وخصوصا فيما له ندرة عالية كالذهب، وإرجاع ذلك إلى الوزن، أوجد فرصا لسرقتها بالتلاعب بوزنها، فضلا عما في كل صفقة بيع من المشقات الناتجة عن وزن المقادير المتفق عليها من المعدن الثمين.
لهذا كان واجبا على ولاة الأمور التدخل في شؤون النقد وحصر الإصدار في الإدارات الحكومية، وأن يكون على شكل قطع مختلفة من النقود المعدنية لكل منها ووزن وعيار معلومان، وأن تختم كل قطعة بختم يدل على مسؤولية الحاكم عن الوزن والعيار
فتدخل الحكام في ذلك، وأصبحت العمل المعدنية معدودة بعد إن كانت توزن، وصار كل جنس منها متفقا بعضه مع بعض في النوع والمقدار.
ويذكر أن أول من ضرب النقود كرويوس ملك ليديا في جنوب آسيا الصغرى في القرن السابع قبل الميلاد. ويقال بأنه يوجد أنموذج من نقوده في المتحف البريطاني.
ثم قام بتقليده غيره من ملوك المماليك المتاخمة لها. وفي ازدهار الحضارة اليونانية اتخذت لنفسها عملة خاصة أطلقت عليها اسم الدراخمة، ومعناها قبضة اليد. ولا يزال هذا الاسم هو اسم العملة اليونانية حتى يومنا هذا، ويقال بأن العرب نقلوا اسم الدراخمة إلى العربية وعربوها باسم الدرهم.
وقد ذكر بعض العلماء أن الذهب والفضة يعتبران أثمانا بالخلقة والطبيعة، سواء في ذلك مسكوكهما وسبائكهما بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن، ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزامن هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: ((زن وأرجح)) .
ومثله حديث جابر بن عبد الله وبيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: ((يا بلال اقضه وزده)) فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا. وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فجاء في مجموع الفتاوى ما نصه:
(إن الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا) اهـ (1) .
والذي يظهر لي أن الأثمان يتم اعتبارها بالاصطلاح وأن أي شيء يتعارف عليه الناس ويتخذونه ثمنا فيلقي قبولا عاما فهو ثمن يحمل في نفسه مقومات الثمينة من قبول عام ومستودع للثروة ومقياس للقيم.
ولهذا كان أقرب تعريف للنقد وأصوبه تعريفه بأنه: أي شيء يلقي قبولا عاما كوسيط للتبادل مهما كان ذلك الشيء وعلى أي حال يكون.
وقد أشار بعض المحققين من علماء الإسلام إلى هذا، ففي المدونة الكبرى للإمام مالك في كتاب الصرف ما نصه:
(ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة) اهـ.
وفي مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه:
(وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولهذا كانت أثمانا – إلى أن قال – والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت) . اه (2) .
ففي قوله رحمه الله: (والوسيلة المحضة لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت) . في قوله هذا إشارة إلى أن النقد هو ما يلقى قبولا عاما كوسيلة للتبادل على أي صورة كان ومن أي مادة اتخذ.
(1) ج19 ص248
(2)
ج19 ص251
وذكر لنا سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد – رحمه الله – أنه اطلع على نقل عن الغزالي بأنه يرى أن النقد ما تم الاتفاق على اعتباره، حتى ولو كانت قطعة من أحجار أو أخشاب.
وعليه فإننا في شك من صحة ما قيل بأن النقدين الذهب والفضة خلقا للثمنية. وقد يقوى الشك في صحة هذا القول لمن يتم له استعراض الأدوار التاريخية التي مر بها النقد حتى صار إلى ما هو عليه الآن (1) .
وبما ذكرنا نستطيع القول بأن النقد شيء اعتباري، سواء كان ذلك الاعتبار ناتجا عن حكم سلطاني أو عرف عام. وأن القول بأن الذهب والفضة خلقا للثمنية: قول يفقد مقومات اعتباره من الناحية الشرعية، ومن الناحية اللغوية، والناحية التاريخية: وهذا لا يعني عدم التسليم بأنهما أكثر من غيرهما إيغالا في الثمنية، بل هما موغلان فيها، ولهذا جاء النص بعموم جريان الربا فيهما، سواء في ذلك تبرهما ومسكوكهما، إلا ما أخرجته الصنعة منهما كالحلي، ففي جريان الربا فيه خلاف بين العلماء نذكره في موضعه من هذا البحث إن شاء الله.
علة الربا في النقدين:
لا أدري لعل غيري كان يتساءل كما كان مني التساؤل منذ كنت في المرحلة الثانوية أدرس ضمن دراستي مادة الفقه مسائل الربا، وذلك حينما أجد الفقهاء رحمهم الله يعبرون عن ضابط ما يجري فيه الربا بالعلة فيقولون: علة الربا في النقدين الوزن، وفي غيرهما الكيل، فأي مناسبة في الوزن لجريان الربا في النقدين، وفي الكيل لجريانه في غيرهما من الأصناف الأربعة الواردة في حديث عبادة بن الصامت؟. الواقع أن التعليل بالوزن أو بالكيل لجريان الربا تعليل بوصف طردي لا حكمة فيه، والتعليل بالوصف الطردي ممتنع لدى جمهور علماء الأصول ومحققيهم. قال الآمدي في كتابه إحكام الأحكام في بحثه القياس وشروطه (2) :
(اختلفوا في جواز كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة المجردة، والمختار أنه لا بد أن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث. أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وإلا فلو كانت وصفا طرديا لا حكمة فيه، بل أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع لوجهين: الأول أنه لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم، والحكم في الأصل معروف بالخطاب، لا بالعلة المستنبطة منه. الثاني أن علة الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عنه، فلو كانت معرفة لحكم الأصل لكان متوقفا عليها ومتفرعا عنها وهذا دور ممتنع) اهـ.
(1) انظر الورق النقدي ص26- 32 لمؤلفه عبد الله بن منيع
(2)
ج3 ص12
وقال الأستاذ علي حسب الله في كتابه أصول التشريع الإسلامي نقلا عن صاحب شرح التلويح ما نصه (1) :
(إن جمهور العلماء على أن الوصف لا يصير علة بمجرد الاطراد، بل لا بد لذلك من معنى يعقل بأن يكون صالحا لبناء الحكم عليه) اهـ.
وفي مسودة آل تيمية جاء ما نصه (2) :
(مسألة: قال ابن برهان: لا يجوز القياس والإلحاق إلا بعلة أو شبه يغلب على الظن عند أصحابنا وأكثر الحنفية – إلى أن قال – وكذلك ذكر المسألة أبو الخطاب صاحبنا والقاضي، وهو منصوص أحمد ولفظه في المجرد: ولا يجوز رد الفرع إلى أصل حتى تجمعها علة معينة تقتضي، فأما أن يعتبر ضرب من التنبيه فلا) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض انتقاده التعليل بالوزن لجريان الربا في النقدين ما نصه (3) :
(وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض) اهـ.
ففي انتقاده التعليل بالوزن لعدم وجود مناسبة، إشارة إلى أنه رحمه الله يشترط المناسبة في العلة كغيره من محققي علماء الأصول، وفي انتقاد القول بأن علة الربا في النقدين الوزن وفي غيرهما الكيل، يقول الأستاذ محمد رشيد رضا في كتابه (يسر الإسلام وأصول التشريع العام) ما نصه (4) :
(ولم أر مثلا لجعل الكيل والوزن علة للربا بأظهر من جعل الدخول في الجوف علة لتحريم الأكل والشرب على الصائم، في كون كل من العلتين لا يدل عليهما الشرع ولا اللغة ولا العقل المدرك للحكم والمصالح) اهـ.
وهناك من العلماء من أجاز التعليل بالوصف الطردي، واعتبره بمثابة المناط. ففي المستصفى للغزالي قال ما نصه (5) :
(لا معنى لعلة الحكم إلا أنها علامة منصوبة على الحكم، ويجوز أن ينصب الشرع السُّكْر علامةً لتحريم الخمر، ويقول اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر، ويجوز أن ينصبه علامةً للتحليل أيضا، ويجوز أن يقول: من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مُسْكِر، ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مُسْكِر) اهـ.
(1) ص132 طبع دار المعارف بمصر الطبعة الثالثة
(2)
ص377 من مسودة آل تيمية
(3)
ج2 ص137
(4)
ص62
(5)
(2/57)
وقال في موضع آخر من المستصفى (1) :
(وأما الفقهيات فمعنى العلة فيها العلامة) اهـ.
وقال في كتابه شفاء العليل حسبما نقله عنه الدكتور سعيد رمضان في كتابه (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) ما نصه (2) :
(فكل ما جعل علة للحكم فإنما جعل علة، لأن الشارع جعله علة لا لمناسبة) اهـ.
وقال ابن قدامة رحمه الله في كتابه (روضة الناظر) ما نصه (3) :
(ومعنى العلة الشرعية العلامة. ويجوز أن تكون حكما شرعيا – إلى أن قال – وتكون مناسبا وغير مناسب) اهـ.
علي أي حال فليس هذا موضوع بحثنا، وإنما ذكرنا ذلك استطرادا وتبريرا لتساؤلنا. وعلي أي حال فسواء أَكَثُر القائلون بجواز التعليل بالوصف الطردي، أم قَلُّوا فإن هذا لا يغير ما نحن بصدده من ذكر أقوال الفقهاء رحمهم الله في علة الربا في النقدين، ومناقشتها واختيار ما نراه أقرب إلى الصواب منها.
لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في الذهب والفضة، نتيجة اختلاف مفاهيمهم في حكمة تحريمه فيهما. فمن تعذر عليه إقامة دليل يرضاه على حكمة التحريم، قصر العلة فيهما مطلقا. سواء أكانا تبرا أم مسكوكين أم مصنوعين. وهذا مذهب أهل الظاهر، ونفاة القياس، وابن عقيل من الحنابلة حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها. فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية، ولا في غيرهما مما يعد نقدا. والأمر في تحريم الربا فيهما عندهم أمر تعبدي.
(1)(2/93)
(2)
ضوابط المصلحة ص92
(3)
روضة الناظر 2/313
وغير أهل الظاهر ومن قال بقولهم فهموا للتحريم حكمة تتفق مع مراعاة الشريعة تحقيق العدل والرحمة والمصلحة بين العباد في الأحكام، ونتفق مع ما لهذه الشريعة من شمول واستقصاء، فاعتبروا النص علي جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة من قبيل التمثيل بهما لما ينتج التعامل به في حال التفاضل أو الإنظار من الفساد والظلم والقسوة بين العباد. فاستخرجوا مناطا تنضبط به قاعدة ما جري فيه الربا، إلا أنهم اختلفوا في تخريج المناط، فذهب بعضهم إلى أن علة الربا في النقدين الوزن. فطردوا القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن، كالحديد والنحاس والرصاص والصفر والذهب والفضة والصوف والقطن والكتان وغيرها. وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد، وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي.
وقد اختلفوا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن ما لم يكن ذهبا أو فضة، كاللجم والإبر والأسطال والقدور والسكاكين والألبسة من قطن أو حرير أو كتان، وكالفلوس فذهب جمهورهم إلى عدم جريان الربا فيها. وذهب بعض العلماء إلى أن علة الربا في الذهب والفضة غلبة الثمنية. وهذا الرأي هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي ،فالعلة عندهما في الذهب والفضة قاصرة عليهما. والقول بالغلبة احتراز عن الفلوس إذا راجت رواج النقدين.
فالثمنية عندهم طارئة على الفلوس فلا ربا فيها. وذهب فريق ثالث إلى أن العلة فيهما مطلق الثمنية. وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام مالك وأبي حنيفة وأحمد. قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من محققي العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (1) :
(والمقصود هنا الكلام في علة الربا في الدنانير والدراهم، والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية لا الوزن، كما قال جمهور العلماء – إلى أن قال – والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية. واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوصل بها إلى تحصيل المطالب، فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها في الذمة، مع أنها ثمن من طرفين، فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل، فإذا صارت الفلوس أثمانا صار فيها المعنى فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل) .
(1)(29/473- 474)
نقاش هذه الآراء:
لقد استعرضنا بصورة سريعة ومختصرة جدا أشهر آراء العلماء في مناط الربا في النقدين: الذهب والفضة، دون مناقشة أي من هذه الآراء، ونحب الآن مناقشة هذه الآراء لتظهر لنا حقيقتها، وليترجح لنا منها ما يتفق مع حكمه حظر الربا على الأمة الإسلامية، ليكون لنا عونا ومبررا في توجيهنا ما نراه علة للربا في الذهب.
لقد أورد بعض أهل العلم على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين، إيرادا ملخصه أن العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، وفي جواز ذلك نقض للعلة.
قال أبو محمد عبد الله بن قدامة رحمه الله في (المغني) في معرض توجيهه قول القائلين بالثمينة (1) :
(ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات، لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النسأ) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه في معرض توجيهه القول بالثمنية (2) :
(ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا.
والمنازع يقول: جواز هذا استحسان وهو نقيض للعلة ويقول: إنه جوز هذا للحاجة مع أن القياس تحريمه) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض توجيهه القول بالثمنية وتصحيحه ما نصه (3) : (فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد ونحوهما. فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا. فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النسأ.
والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض) اهـ.
وقد أجاب القائلون بهذا من الحنابلة عن إيراد اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، مع أنه بيع موزون إلى أجل، باستثناء هذه الجزئية من القاعدة للحاجة الماسة إلى الإسلام بأحد النقدين، فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في على ربا الفضل ليس أحدهما نقدا، أما الحنفية فوضعوا قيدا ليدفعوا به هذا الاعتراض، فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل وطريقته، وقالوا إن مسألة السلم لا تنقض قاعدتنا، حيث إن النقدين موزونان بالميزان، أما ما يسلم فيه مما يوزن فوزنه بالقبان، فاختلف الميزان فجاز (4) .
(1) المغني: (4/4)
(2)
الفتاوى: (29/471)
(3)
إعلام الموقعين: (2/137)
(4)
بدائع الصنائع: (5/186)
ولا يخفى ما في هذا القيد من تكلف ظاهر.
وأورد أيضا على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين إيرادا آخر ملخصه أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على ما يوزن، بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا كالفلوس والورق النقدي، بل إن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي، وبشكل واضح في غالبه، تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين، نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها كفئات الخمسمائة ريال والألف دولار.
فليس التعليل بالوزن جامعا لأجزاء ما يجري فيه الربا من أنواع الأثمان، فتعين المصير إلى مناط جامع مانع.
أما القائلون بغلبة الثمنية علة لجريان الربا في النقدين، فأورد عليهم أن العلة عندكم قاصرة على النقدين: الذهب والفضة، والعلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم، قال النووي رحمه الله في (مجموعة شرح المهذب) في معرض سياقه الرد على الشافعية لقولهم بالعلة القاصرة (1) :
(وعندكم في العلة القاصرة وجهان لأصحاب الشافعية، أحدهما أنها فاسدة لا يجوز التعليل بها لعدم الفائدة فيها، فإن حكم الأصل قد عرفناه، وإنما مقصود العلة أن يلحق بالأصل غيره، والوجه الثاني أن القاصرة صحيحة، ولكن المتعدية أولى. قالوا: فعلتكم مردودة على الوجهين لأن حكم الذهب والفضة عرفناه بالنص. قالوا: ولأن علتكم قد توجد ولا حكم، وقد يوجد الحكم ولا علة كالفلوس بخراسان وغيرها، فإنها أثمان ولا ربا فيها عندكم، والثاني كأواني الذهب والفضة يحرم الربا فيها مع أنها ليست أثمانا) اهـ.
وأورد عليهم أيضا ما أورد على القائلين بالوزن علة من أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على النقدين، بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي إلى آخر الاعتراض المتقدم قريبا.
أما القائلون بأن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية، فقد استخرجوا مناطا جامعا مانعا متفقا مع الحكمة في جريان الربا في الذهب والفضة.
(1) المجموع: (9/445)
وما ذكره ابن مفلح رحمه الله في كتابه الفروع من قوله: بأنها علة قاصرة لا يصلح التعليل بها في اختيار الأكثر، منقوضة طردا بالفلوس، لأنها أثمان وعكسا بالحلي. فهذا الإيراد لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية. أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا بنوعيه كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة.
كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة، لأن الصناعة قد نقلته من مادة الثمنية إلى جنس السلع والثياب.
ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور مع أنه من مادة الذهب والفضة.
وفي امتناع جريان الربا في الحلي المباح من الذهب والفضة يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) ما نصه (1) :
(وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا، فإن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة، كالآنية: حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره علي ومعاوية، فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي. وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك، فالشريعة لا تأتي به، ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه، لحاجة الناس إليه. فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة، بل بيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع، وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر، لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه؟ فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع، فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغاياتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة، والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحيلة، ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير، كقوله: (الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير) . وفي الزكاة قوله: (في الرقة ربع العشر) . والرقة هي الوَرِق، وهي الدراهم المضروبة. وتارة بلفظ الذهب والفضة فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيا عن الربا في النقدين، وإيجابا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما بل فيه تفصيل. فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها، وفي هذا توفية الأدلة حقها، وليس فيه مخالفة شيء لدليل منها.
(1) الإعلام: (2/140- 141)
يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وسائر السلع، وإن كانت من غير جنسها، فإن هذه الصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة، فلا محظور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) . كما لا يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل. ولا ريب أن هذا قد يقع فيها لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين، وتضرروا بذلك غاية الضرر. يوضحه أن الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها. ومن المعلوم بالضرورة أنهم كانوا يعطونها للمحاويج ويعلم أنهم يبيعونها. ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه. ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارا، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه، وأعلم بمقاصد رسوله أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس. يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف، يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدم بيانه، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر. وكما أبيح النظر للخاطب، والشاهد والطبيب، والمعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال، حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلي المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
وقد يرد على ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله من أن الحلية المصنوعة لا يجري فيها الربا، ما رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا، فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:((لا يباع حتى يفصل)) ، وفي لفظ لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقلادة ابتاعها رجل بتسعة أو سبعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا حتى تميز بينه وبينه)) فقال: إنما أردت الحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا حتى تميز بينهما)) ، قال: فرده حتى ميز بينهما.
ووجه الإيراد أن القلادة حلية فيها ذهب وقد اشتريت بذهب، ومع هذا فقد اعترض صلى الله عليه وسلم على صحة هذا البيع وأمر برده حتى يفصل. وقد يكون من الجواب عليه أن ذهب القلادة كان أكثر من ثمنها، حيث ذكر فضالة أنه فصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارا. وأكثر ما روي في ثمنها أنه اثنا عشر دينارا، وقد روي أنه اشتراها بسبعة دنانير أو تسعة، فإذا كان ما فيها من الذهب أكثر من ثمنها ذهبا، لم يكن للصياغة فيها مقابل. وآل الأمر فيها إلى بيع ذهب بذهب متفاضلا، لم يكون لزيادة بعضه على بعض مقابل.
وابن القيم رحمه الله يشترط أن يكون ثمن الحلية أكثر منها وزنا، ليكون الزائد على ثمنها في مقابلة الصياغة، وقد مر بنا قوله:(وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها) .
وقال رحمه الله بعد هذا في معرض الدفاع عن هذا الرأي (1) :
(فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة) اهـ.
وأجاب بنحو هذا شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض جوابه عن جواز بيع الأكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية مع القطع بأن بينهما تفاوتا في الوزن، فقال رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (2) :
(وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي بل يخرص خرصا، مثل القلادة التي بيعت يوم حنين، وفيها خرز معلق بذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تباع حتى تفصل)) ، فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل، لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون، فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله. (3) . وزيادة خرز وهذا لا يجوز.
وإذا علم المأخذ فإذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها، وكان المفرد أكثر من المخلوط كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة، بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط، لم يكون في هذا من مفسدة الربا شيء إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها، ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك فيجوز التفاوت) . اهـ.
ومما أجيب به عن هذا الحديث أن فيه اضطرابا واختلافا، يوجب ترك الاحتجاج به، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير ما نصه (4) :
(وله عند الطبراني في (الكبير) طرق كثيرة جدا، في بعضها قلادة فيها خرز وذهب. وفي بعضها: ذهب وجوهر. وفي بعضها خرز وذهب. وفي بعضها: خرز معلقة بذهب. وفي بعضها: باثني عشر دينارا. وفي أخرى: تسعة دنانير، وفي أخرى، بسبعة دنانير، وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة) اهـ.
وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب. اهـ.
(1) الإعلام (2/142)
(2)
مجموع الفتاوى (29/453)
(3)
هكذا في المطبوع، ولعل الصواب: قد باع ذهبا بذهب مثله زيادة وخرز، والله أعلم
(4)
تلخيص الحبير: (3/9)
قلت: قد رأيت لبعض المتأخرين من محدثي الهند تعقيبا على ابن حجر رحمه الله في جوابه هذا، فقد ذكر المفتي عبد اللطيف الرحماني في شرحه (جامع الترمذي) الجزء الثاني ص709 ما نصه (1) :
وأما ما أجاب الحافظ عنه بأن المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل. ففيه أيضا أنه غير محفوظ بما روى البيهقي في (السنن) عن فضالة بن عبيد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الأوقية من الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن)) ففي هذا الحديث ليس للقلادة ذكر، وليس فيه النهي عن بيع ما لم يفصل، بل فيه النهي عن بيع الذهب بالدينار إلا مماثلا. وأما ما قال الحافظ من أنه ينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات، فنحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم. ففيه أنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح؟ وأيضا لا يجوز تغليظ ثقة؛ لأن عليه الاعتماد.
فعلى هذا لا حجة في هذا الحديث لاضطرابه، وكيف وفيه حرج عظيم ومشقة على الأمة، إذا حكم بفصل الذهب والفضة عن الأشياء التي تحلى بالذهب والفضة؛ لأن بعض الأشياء بعد نزوع الذهب والفضة منها ينقص قيمتها كثيرا، بل بعضها لا يكون لها قيمة. فكيف يحكم بهذا الشارع، ويحكم بإبطال الصنع وهو حكيم؟ اهـ.
أقول: في اعتراضه رحمه الله بقوله: ففيه أنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح؟ في قوله هذا نظر ملخصه: هل تحقق أن رواة هذه الروايات المختلفة كلهم سواء في الحفظ والضبط؟ كما أن قوله: لا يجوز تغليظ ثقة لأن عليه الاعتماد. ليس على إطلاقه بل إذا روى الثقة حديثا يخالف ما روى الناس اعتبرت روايته هذه شاذة، ويتعين التوقف فيها وعدم الاحتجاج بها. قال ابن كثير رحمه الله في كتابه (الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث) في معرض تعريفه الشاذ ما نصه (2) :
قال الشافعي: وهو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره. وقد حكاه الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني عن جماعة من الحجازيين أيضا. قال: والذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ به ثقة أو غير ثقة، فيتوقف فيما شذ به الثقة ولا يحتج به، ويرد ما شذ به غير الثقة. – إلى أن قال – فإذن الذي قاله الشافعي أولا هو الصواب: إنه إذا روى الثقة شيئا قد خالفه فيه الناس فهو الشاذ. يعني المردود. اهـ.
(1) الكتاب المذكور جرى مني الاطلاع عليه مخطوطا حينما أحيل من المقام السامي إلى سماحة شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله لأخذ رأيه في طباعته
(2)
انظر ص61 من الكتاب نفسه
ومن المسائل التطبيقية لهذه المسألة ما ذكره ابن حجر رحمه الله في كتابه هدي الساري مقدمة فتح الباري من قوله (1) :
قال الدارقطني: أخرجا جميعا حديث مالك عن الزهري عن أنس قال: (كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة) .
وهذا مما ينتقد به على مالك لأنه رفعه، وقال فيه إلى قباء. وخالفه عدد كثير منهم شعيب بن أبي حمزة، وصالح بن كيسان، وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد، ومعمر، والليث بن سعد، وابن أبي ذئب وآخرون – انتهى.
وقد تعقبه النسائي أيضا على مالك، وموضع التعقيب منه قوله إلى قباء، والجماعة كلهم قالوا إلى العوالي. ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث لا سيما وقد أخرجا الرواية المحفوظة اهـ.
فقول ابن حجر رحمه الله: ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث: يدل على أنه يرى كغيره من حفاظ الحديث، إن الثقة إذا شذ عن الجماعة برواية خالفهم فيها وترتب على هذه الرواية وهم غير يسير، لزم من ذلك القدح في صحة الرواية، وإن كان مالكا أو من يدانيه، فضلا عمن هو دونه.
كما أنه قد يورد مورد اعتراضا على القائلين بمطلق الثمنية، بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه، في الذهب والفضة، سواء أكانا سبائك أم كانا مسكوكين، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه لكونه ثمنه، وإنما الإشكال في جريان الربا بنوعيه في سبائكهما، مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا. إلا أنه يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن الثمنية في الذهب والفضة موغلة فيهما، وشاملة لسبائكهما ومسكوكهما، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا. وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن، ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس. قال:(جلبت أنا ومخرمة العبدي بَزًّا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: ((زن وأرجح)) . ومثله حديث جابر في بيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: ((يا بلال اقضه وزده)) . فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا فجاء في مجموع الفتاوى (2) :
(إن الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا) اهـ.
(1) الجزء الثاني من هدي الساري ص111
(2)
مجموع الفتاوى: (19/248)
ويمكن أن يجاب أيضا بما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض توجيهه جريان الربا في الأصناف الستة الواردة في حديث عبادة وغيره، فقال (1) :
(وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات. وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين؛ لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينهما، ولهذا قال: تبرها وعينها سواء) اهـ.
ولابن القيم رحمه الله توجيه رائع للتعليل بالثمنية يحسن بنا ونحن نرى أن التعليل بالثمنية أصوب الأقوال وأصحها أن نذكره كختام لمبحثنا هذا.
قال رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) ما نصه (2) :
(وأما الدراهم والدنانير، فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة. وطائفة قالت: العلة فيهما الثمنية. وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى. وهذا هو الصحيح بل الصواب.
فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النسأ. والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية.
فإن الدراهم والدنانير أثمان مبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا، لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع، لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره. إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس- إلى أن قال – فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير، مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرة، أو خفافا ويأخذ ثقالا أكثر منها، لصارت متجرا وجر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد. فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلعة. فإذا صارت في نفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود ولا يتعدى إلى سائر الموزونات) اهـ.
ونظرا لوجود النص الثابت الصريح في جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة وذلك فيما روى الإمام أحمد ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) وحيث إنه لا اجتهاد مع نص فإن الربا بنوعيه يجري فيهما في مسكوكهما وسبائكهما وتبرهما إلا ما أخرجته الصنعة منهما؛ فقد اتجه بعض المحققين من أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما إلى جواز التفاضل في بيع الذهب بجنسه والفضة بجنسها إذا كان أحد العوضين مما أخرجته الصنعة كالحلي مع بقاء الحكم بوجوب التقابض في مجلس العقد رعاية للنص الخالي عما يصرفه عن الحكم العام في جريان ربا النسيئة فيهما. وقد تقدم النقل عن ابن القيم رحمه الله في تعليل ذلك وأن للصنعة فيهما قيمة تقابل زيادة الثمن وزنا على وزن الحلية المبيعة من ذهب أو فضة.
(1) الإعلام: (2/140)
(2)
إعلام الموقعين: (2/140) .
مما تقدم يتضح أن الثمنية في الذهب والفضة موغلة فيهما، وأن النص صريح في اعتبارهما مالا ربويا يجب في المبادلة بينهما التماثل والتقابض في مجلس العقد فيما اتحد جنسه والتقابض في مجلس العقد في بيع بعضهما ببعض إلا ما أخرجته الصناعة عن معنى الثمنية، فيجوز التفاضل بين الجنسين منهما دون النسأ على ما سبق من توضيح وتعليل.
وتأسيسا على ما تقدم في البحث من خصائص الذهب وكونه أكثر الأثمان إيغالا في الثمنية، وما جاء فيه من نص صريح يقضي باعتباره مالا ربويا يلزم في المبادلة بين الجنس منهما المماثلة والتقابض في مجلس العقد والمبادلة بين الجنسين التقابض في مجلس العقد وما تقدم لنا من اعتبار الثمنية علة الربا فيه تأسيسا على ما تقدم يمكننا الحكم على المسائل التي عرضها مجمع الفقه الإسلامي بجدة.
ومنها:
حكم المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضمونا إليه جنس آخر، الحكم في ذلك فيما يظهر لي الجواز؛ لأن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني أشبه الحكم بجواز بيع حلي الذهب بأكثر من وزنه ذهبا حيث إن الزيادة في الثمن وزنا هي قيمة الصنعة في الحلي وقد مر بنا النقل عن ابن القيم رحمه الله في ذكر هذا الحكم وتعليله.
ومنها:
بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولا – أي فيه صنعة وصياغة – لا يخفى أن الذهب قد يباع بذهب وقد يباع بنقد آخر من فضة أو روق نقدي أو فلوس. فإذا كان الذهب المبيع مشغولا كأن يكون حليا فإن بيع بذهب فلا بأس أن يكون الثمن أكثر وزنا من وزن الذهب الحلي، وتكون الزيادة في الوزن في مقابلة الصياغة والعمل وقد مر بنا رأي ابن القيم في ذلك وذكره تعليل القول بالجواز إلا أنه يشترط للمبادلة بينهما الحلول والتقابض في مجلس العقد. وأما إذا كان أحد العوضين ثمنا غير الذهب فلا بأس في البيع مطلقا لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت:((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
ومنها:
المتاجرة في الأواني أو الحلي والساعات الذهبية المصنوعة للرجال.
لا يخفى أن الحكم الشرعي في تملك الأواني الذهبية والفضية التحريم وما حرم تملكه حرم بيعه. أما الحلي فإن كان معدا للرجال فهو حرام والنصوص في ذلك أشهر من أن تذكر وما حرم تملكه حرم بيعه.
وأما المتاجرة في الحلي المعد للنساء فلا بأس فيه إلا أنه ينبغي مراعاة الحكم الشرعي في بيوعه من حيث الحلول والتقابض، وقد يتفرع من هذه المسألة مسألة هي: هل يجوز لتاجر الحلي حينما يعرض عليه أحد الناس حليا قديما ويبدي له رغبته في شرائه حليا جديدا هل يجوز لهذا التاجر أن يشترط عليه في شرائه الحلي القديم أن يشتري منه حليا جديدا؟ هذه المسألة بحثت في هيئة كبار العلماء في المملكة وصدر القول بمنعها باعتبارها بيعتين في بيعة إلا أن هذا القول لم يكن محل إجماع. ونظر إلى أن هذا النوع من البيع لم يشتمل على غرر ولا على جهالة ولا مخالفة في الصرف ولم يكن في معنى بيعتين في بيعة؛ فلم يظهر لي وجه للقول بمنعه، وقد قال بجواز مثل هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله حيث قال: الصحيح جواز قوله: بعتك داري بكذا على أن تبيعني عبدك أو نحوه بكذا، ولا يدخل تحت نهيه عن بيعتين في بيعة لأن المراد أن يعقد على شيء واحد في وقت واحد عقدين، وذلك كمسائل العينة وما أشبهها. اهـ (1) .
وقال رحمه الله في معرض إجابته عن الذي يدخل في النهي عن بيعتين في بيعة:
(ويدخل في ذلك مسائل العينة وضدها
…
– إلى أن قال – وأما تفسيره بأن تقول: بعتك هذا البعير مثلا بمائة على أن تبيعني هذه الشاة بعشرة فالمذهب إدخالها في هذا الحديث والقول الآخر في المذهب عدم ادخالها وأن لا يتناولها النهي لا بلفظه ولا بمعناه ولا محظور في ذلك وهو الذي نراه ونعتقده. اهـ (2) .
وأما الساعات الذهبية فإن كانت للنساء فلا بأس بتملكها واستعمالها والمتاجرة فيها بالبيع والشراء، وأما إن كانت للرجال فحكمها حكم حلي الرجال من حيث تحريم التملك والمتاجرة فيها بيعا أو شراء أو اقتناء. والله أعلم.
(1) الفتاوى الجلية ص96
(2)
الفتاوى السعدية ص298
وأما ما كان مموها بالذهب أو الفضة أو مشغولا بهما أو بأحدهما بحيث تكون كمية الذهب أو الفضة فيها قليلة جدا بالنسبة إلى ما شغلت به فهذه المسألة محل اجتهاد ونظر وفيها اختلف العلماء بين الإباحة والحظر. فمن نظر إلى الحكمة من التحريم وهي كسر قلوب الفقراء ورأى أن في التمويه بهما وشغل الأداة بشيء منهما بما يعطي الأداة لون أحدهما من نظر إلى هذا قال بالتحريم بصرف النظر عن كامل محتوى الأداة بأحدهما أو بجزء منها لما في ظاهرها من بهجة وزينة وإغراء ينكسر برؤيته قلب الفقير العاجز عن تملكها. ومن نظر إلى أن غالب محتوى الأداة من غيرهما وأن ما فيها من أحدهما لو استخرج لما كان شيئا.. ونظر إلى القاعدة الشرعية: يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا.. قال بجواز ذلك؛ ولكل من الرأيين وجاهته واعتباره ويكون للاختيار منهما التوجه بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) . والله أعلم. ومنها: شراء الفرد الذهب بالشيك أو ببطاقة الائتمان أيعد ذلك قبضا للثمن؟ اصطلح الفقهاء على تسمية بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة مراطلة، وعلى تسمية بيع الذهب بالفضة أو بأي ثمن آخر أو العكس صرفا، واشترطوا في المراطلة المماثلة في الوزن والحلول والتقابض في مجلس العقد، واشترطوا في الصرف المتمثل في بيع أحد المعدنين الذهب والفضة بأحدهما أو بأي ثمن آخر من ورق أو فلوس التقابض في مجلس العقد؛ وأصل ذلك حديث عبادة بن الصامت المتقدم ذكره 0 الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلى آخره – واتفق العلماء على أن القبض أمر مرده إلى العرف والعادة فأي طريقة يتم فيها الاستيلاء الكامل على العين محل العقد تعتبر قبضا. وقد بحث العلماء وضع الشيك وهل يعتبر قبضه قبضا لمشموله مبرئا؟ فأصدر مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي قرارا باعبتار قبض الشيك المعتبر قبضا لمحتواه. وقد وجد الخلاف بين فقهاء العصر في تفسير معنى الشيك المعتبر فذهب بعضهم إلى أن الاعتبار في الشيك أن يكون مصدقا من البنك المسحوب عليه؛ لأن تصديقه يعني حمايته من الساحب أن يعود فيه كما يعني وجود رصيد كامل للساحب لتغطية سداد الشيك، وهذا المعنى يعطي القناعة الكاملة بالقدرة على التصرف في مشمول الشيك في أي وقت يريده المستفيد منه، وهذا معنى القبض.
وذهب آخرون إلى أن المراد بالشيك المعتبر هو أن يكون له رصيد في البنك المسحوب عليه لتغطيته. ولكن هذا المعنى لا يعطي القناعة بالقدرة على تصرف المستفيد منه بمشموله. فلئن كان للساحب رصيد لتغطيته فقد يرجع الساحب في الشيك قبل قبضه، وهذا الاحتمال الوارد ينفي عن هذا الشيك الثقة في القدرة على التصرف فيه، وبالتالي فينتفي عن هذا الشيك معنى القبض، وهو القدرة على قبض محتواه أو الأمر بقيده في حسابه.
والذي يظهر لي – والله أعلم – أن الشيك المعتبر والذي هو في معنى القبض هو الشيك المصدق. وتأسيسا على هذا فإذا اشترى الفرد ذهبا أو فضة بثمن آخر وبموجب شيك بذلك الثمن فإن كان مصدقا فقبضه قبض لمحتواه والمصارفة بذلك صحيحة. وإن كان غير مصدق فقبضه ليس قبضا لمشموله وبالتالي فقبضه ليس في حكم القبض المبرئ للذمة والمصارفة بموجبه غير صحيحة لأن التقابض في مجلس العقد غير محقق.
فمثل هذا الشيك آفاته كثيرة: منهما احتمال سحبه على غير رصيد، أو على رصيد لا يكفي لتغطيته، أو لاحتمال رجوع ساحبه في سحبه قبل تقديمه للبنك المسحوب عليه؛ فهذه العيوب تجعله غير أهل للاعتبار في القول بأن قبضه قبض لمحتواه. والله أعلم.
وأما شراء الذهب ببطاقة الائتمان فنظرا إلى أن بطاقة الائتمان تعتبر مبرئة للذمة براءة كاملة بين المتصارفين وحق بائع الذهب بموجب بطاقة الائتمان ثابت كثبوت حقه في الشيك المصدق من حيث إن صاحب البطاقة حينما يوقع بموجبها على فاتورة الدفع لا يستطيع الرجوع في توقيعه، ولا يستطيع مصدر البطاقة أن يتأخر عن سداد القيمة عند الطلب مهما كانت حال صاحب البطاقة.
ونظرا لهذا فإن القول بصحة المصارفة ببطاقة الائتمان قول وجيه يؤيده أن معنى القبض متوفر فيها حيث يتفرق المتصارفان بموجبها وليس بينهما شيء. ومع هذا فالمسألة في حاجة إلى مزيد من النظر والتأمل في ضوء التصور لحقيقة البطاقة الائتمانية. والله المستعان.
ومنها:
التعامل بشهادات الذهب أو حسابات الذهب، وهي شهادات تصدرها مؤسسات متخصصة تخول صاحبها قبض كمية من الذهب ولا يلزم أن تكون تلك الكمية معينة منفصلة عن غيرها. وقد لا تكون موجودة فعلا لدى المؤسسة في كل الأوقات.
هذا التعامل يعني أن أحد الرجال مثلا يشتري كمية من الذهب يجري تسلمه شهادة بها يتسلم بموجبها هذه الكمية من الذهب من مخازن إحدى هذه المؤسسات أو من مخازن متخصصة لهذه المؤسسة حق التحويل عليها بذلك وقد لا يكون الذهب موجودا في هذه المخازن وقت المصارفة.
الذي يظهر لي، والله أعلم، أن هذا النوع من المصارفة لا يتحقق فيه معنى التقابض في مجلس العقد لأمرين: أحدهما أن المؤسسة المتخصصة في إصدار شهادات الذهب ليس لشهاداتها اعتبار موجب للثقة كالثقة في الشيك المصدق. حيث إن مشتري الذهب لا يستطيع التصرف فيما اشتراه في مجلس العقد للاحتمال القوي في بعد هذه المخازن عن قدرته على حيازة ما اشتراه. الثاني أن وجود الذهب في المخازن المختصة مشكوك فيه فقد يكون موجودا وقد لا يوجد إلا بعد وقت لا يعلم تحديده، فيطلب من المشتري الانتظار، والرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر من عناصر المصارفة وصحتها التفرق بين المتصارفين وليس بينهما شيء؛ وهذا العنصر مفقود في هذه المصارفة فضلا عن أن التقابض في مجلس العقد مفقود حسا ومعنى.
وتأسيسا على هذا فلا يظهر لي جواز هذا النوع من المصارفة لفقده شرطها. والله أعلم.
ومنها:
حكم شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب وتعد أكثر أصولها منه، هل يمثل السهم حصة شائعة في الذهب؟ هل لذلك تأثير على حكم التعامل بأسهمها؟
لا يظهر لي مانع من شراء أسهم في شركة تعمل في استخراج الذهب ولو كانت غالب أصولها من ذلك الذهب؛ وذلك لأن الشركة شخص اعتباري له ذمة محدودة ذات وعاء قابل للحقوق والواجبات والتملك والتبرع وغير ذلك من التصرفات المالية، فأسهم هذه الشركة حصص شائعة في عموم مقوماتها وعناصر وجودها ومن هذه العناصر والمقومات قيمتها المعنوية المتمثلة في اعتبارها ومكانتها في سوق الشركات وأسواق الإنتاج، وقد تكون قيمة الجانب الاعتباري للشركة أكثر حجما من قيمة ما لديها من أصول متحركة. كما أن للشركة أصولا ثابتة للإدارة والتشغيل غير الذهب فسهم الشركة ليس محصورا في كمية الذهب الذي تقوم الشركة باستخراجه حتى يقال بمراعاة شروط الصرف، وإنما تمثل أسهمها كامل عناصر وجودها والسهم فيها حصة مشاعة في عموم مقومات الشركة واعتبارها. فمن يشتري سهما أو أكثر من أسهم هذه الشركة لا يعتبر نفسه قاصدا شراء كمية من الذهب المستخرج.
فالذهب المستخرج مادة متحركة يخرج اليوم ويباع غدا ويخرج غيره بعد ذلك ويستمر نشاط الشركة في هذا السبيل على هذا الاتجاه. ولكنه يقصد الدخول في المساهمة في هذا النشاط وفي هذه الحركة الانتاجية والصناعية والاشتراك في تملك الاختصاص في ذلك، ومن القواعد الشرعية أنه يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا. ألا نرى أن تملك الشركات المساهمة سيولة من النقود ووجود ديون لها وانتفاء الوضوح الكامل لموجودات الشركة مما يعطي نوع جهالة. كل ذلك يغتفر ولا يؤثر في صحة تداول أسهم الشركات بيعا وشراء وتملكا وتمليكا حيث يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا.
الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة:
من النشاطات المصرفية المعتادة والمتكررة لدى المؤسسات المالية الحوالات.
والحوالات قد تكون بعملة البلد المحال فيه كأن يطلب أحد الناس من أحد المصارف تحويل مبلغ من المال بعملة معينة كالريال السعودي والدولار الأمريكي فيدفع للمصرف هذا المال ويطلب منه تحويله إلى بلد معين فيقوم المصرف بذلك ويعطيه إشعارا بالتحويل إلى ذلك البلد على أحد المصارف أو على فرع من فروعه، هذا النوع من التحويل المصرفي حوالة محضة ليس لها تعلق بمسائل الصرف وإنما هي من مسائل السفتجة. وقد عرفها بعضهم بقوله:
السفتجة: هي أن يعطي مالا لآخر مع اشتراط القضاء في بلد آخر وذلك لضمان الطريق على سبيل القرض لا على سبيل الأمانة.
وقد اختلف العلماء في حكمها فجمهورهم قالوا بجوازها مستدلين على ذلك بما روي عن عطاء أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كان يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب بها إلى أخيه مصعب بن الزبير في العراق ويأخذونها منه، فسئل ابن عباس عن ذلك فلم ير به بأسا، فقيل له: إن أخذوا أفضل من دراهمهم؟ قال: لا بأس إذا أخذوا بوزن دراهمهم.
وروي أيضا مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فهؤلاء ثلاثة من أصحاب رسول الله أجازوا ذلك.
ورد المجيزون على المانعين قولهم بأن هذا من قبيل القرض الذي يجر نفعا، وكل قرض جر نفعا فهو ربا، فإن دافع النقود يستفيد من ذلك أمنه من خطر الطريق. رد المجيزون على ذلك بقولهم:
المنفعة التي تجر إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض كسكنى دار المقترض وركوب دوابه واستعماله وقبول هديته ولا مصلحة له في ذلك، بخلاف هذه المسألة فإن المنفعة مشتركة بينهما وهما متعاونان فهي من جنس المعاونة والمشاركة (1) .
وهذا المعنى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى حيث قال:
(والصحيح الجواز؛ لأن المقرض رأى النفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضا بالوفاء في ذلك وأمن خطر الطريق فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم وإنما ينهى عما يضرهم)(2) اهـ.
(1) المغني: (4/320) وتهذيب السنن لابن القيم (5/152) بواسطة الشيخ عمر المترك رحمه الله من كتابه (الربا والمعاملات المصرفية) ص283- 284
(2)
(29/531)
وفي مجموع رسائل وفتاوى شيخنا الجليل محمد بن إبراهيم رحمه الله ما نصه:
(فقد جرى الاطلاع على الاستفتاء الموجه إلينا منك المتضمن أنك تقرض من تتولى بيع ماشيته لاستعجاله وتستوفي ما أقرضت مما تقبضه من قيمة ماشيته المباعة بواسطتك حتى تستكمل قرضك وتذكر أنك تتخذ هذه الطريقة لترغيب الجالبين وإيثارهم إياك دون غيرك. والجواب: الحمد لله لا شك أن أصل مشروعية القرض واستحبابه التقرب إلى الله في تفريج كرب المحتاجين وهذا القرض ليس مقصدا من مقاصدك في الإقراض وإنما غرضك جر منفعة لذاتك، وحيث إن هذه المنفعة لا تنقص المقترض شيئا من ماله فغاية ما في الأمر الكراهة)(1) اهـ.
وقال آخرون بمنعها بحجة أن السفتجة قرض يستفيد منها المقترض أمن الطريق وكل قرض جر نفعا فهو ربا. وقد تقدم رد هذا الاحتجاج بما يكفي عن إعادته.
وذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السفتجات حرام)) وهو حديث ضعيف ذكره ابن الجوزي في الموضوعات فلا يصح الاحتجاج به والقول بجواز ذلك هو ما تطمئن إليه النفس لما في ذلك من المصلحة العامة والتيسير على المسلمين في معاملاتهم وانتفاء الدليل المقنع على المنع ولأن الأصل في المعاملات الإباحة.
وقد تكون الحوالة بنقد مغاير للنقد المراد تسلمه في البلد الآخر فهذا النوع من التحويل يجتمع فيه الصرف والحوالة، ولا يخفى أن للصرف في حالة اختلاف العوضين جنسا شرطا هو التقابض في مجلس العقد، وقد تقرر لدى المجامع الفقهية، والهيئات العلمية أن كل عملة ورقية جنس يجوز المصارفة بينها وبين غيرها من عملات الدول الأخرى مطلقا إذا كان يدا بيد، لقوله صلى الله عليه وسلم:((فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
(1)(7/210) ، رقم الفتوى 1706
وعليه فيجب قبل التحويل إجراء عملية الصرف بحيث يتسلم المحيل العملة التي يريد تحويلها بعد انتهاء عملية الصرف سواء أكان تسلما حسيا أم تسلما في معنى الحس كأن يعطيه شيكا مصدقا يملك بقبضه القدرة على التصرف فيه بتسلم محتواه أو بقيده في حسابه أو تحويله فإذا تسلم الشيك المصدق أمكنه بعد ذلك تحويله، وصار الأمر إلى الإجراءات المتخذة في الحال الأولى وهي تحويل نقد معين إلى بلد آخر، ولفضيلة الدكتور الشيخ عمر المترك رحمه الله بحث في الموضوع يحسن إكمال بحث مسألتنا بنقل قوله في ذلك، قال رحمه الله:
(فإن كان المدفوع للمصرف نقودا ويراد تحويلها إلى نقود من غير جنسها تسلم في مكان آخر. كأن يتقدم شخص إلى مصرف ويسلم نقودا من الريالات السعودية طالبا تسليمها له جنيهات مصرية في مصر أو ليرات في سورية أو نحو ذلك، فإننا إذا نظرنا إلى هذه العملية نجد أنها مركبة من صرف وتحويل، ومن شروط الصحة للصرف التقابض في مجلس العقد ولا تقابض في هذا الصرف لأن الواقع العملي والعادة المتبعة في المصارف أنهم لا يسلمونه المبلغ وإنما يسلم طالب التحويل للمصرف النقود المطلوب تحويلها فيقوم المصرف بتسليمه إيصالا مع شيك يتضمن حوالة على مصرف آخر بمبلغ يعادل هذا من النقود المطلوب التحويل إليها دولارات أو جنيهات مصرية فتكون هذه العملية صرفا من غير تقابض وهو غير جائز، إلا أنه يمكن أن يقال إن العرف يعتبر تسليم الشيك بمثابة تسليم النقود في المعنى لأنه في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية وأنه يجري تداولها بينهم كالنقود لأنه محمي من حيث إن سحب الشيك على جهة بدون أن يكون له رصيد يفي بقيمة الشيك يعتبر جريمة شديدة يعاقب عليه قانونا حتى يطمئن جمهور المتعاملين إلى الثقة الواجب توفرها في الشيك كأداة وفاء؛ لذا فإنه يمكن القول بأن قبض الشيك كقبض مضمونه فيتحقق التقابض بناء على هذا التوجيه.
ولكن خروجا من شبهة الربا والريبة أرى أن يشتري المحيل النقود التي يريد تحويلها من المصرف أو غيره وبعد قبضها يحيلها، فإن لم يمكن شراء العملة الأجنبية لكونها ممنوعا تصديرها خارج دولتها فللمخرج أن يشتري عملة من العملات الأجنبية وبعد قبضها ودفع قيمتها يحيلها ثم بعد ذلك يصارف البنك المحالة عليه بالعملة التي يريدها) (1) اهـ.
هذا ما تيسر إعداده وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
(1)(الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة) ص384
ملخص البحث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على الرسول الأمين سيدنا ونبينا محمد رسول رب العالمين الهادي إلى الصراط المستقيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فالذهب معدن نفيس استهوى الإنسان منذ القدم بحبه وإيثاره والافتخار بتملكه والتزين به حتى أغراه بعبادته قال تعالى:{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه: 87- 88] ،
فالذهب معدن نفيس يتميز عن المعادن الأخرى بميزات طبيعية تكمن في قدرته على مقاومة عوامل التعرية وسلامته من التعرض للصدأ فبمشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ عرفجة بن هرثمة أنفا من ذهب حينما قطع أنفه في إحدى المعارك وبالرغم من حرمة التحلي به على الرجال فقد أذن في اتخاذ الأسنان منه للرجال للحاجة.
ولوقور محبته في النفس البشرية وإيثاره في حب التملك ذكره الله تعالى في عداد أمور زين للناس حب تملكها قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14]، وقد جعله الله في الجنة من وسائل الإنعام والتنعيم قال تعالى:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج:] .
ولما وقر في النفس البشرية من إيثار لهذا النوع من المعادن دون غيره عدا الفضة وكونهما بعد التملك مظنة البخل بهما وإمساكهما فقد حذر تعالى من كنزهما دون إنفاقهما في سبيل الله فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] .
ولما في الذهب من تأثير على النفس البشرية من حيث الافتخار والاعتزاز ذلك من مقومات الوجاهة والقيادة والاعتبار قال تعالى حكاية عن قوم فرعون في معرض إنكارهم رسالة موسى عليه السلام وأن دعواه الرسالة تفتقر إلى ما يسندها من مقومات الاعتبار {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53] .
وقال تعالى في معرض الفداء مشيرا إلى أغلى ما يملكه الإنسان وهو الذهب وأنه لو ملك منه ملء الأرض لرضي ببذله فداء له لما حل به من سوء العذاب، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91] .
ولما في الذهب والفضة من الإغراء للنفوس البشرية فقد جعلهما الإنسان أكثر إيثارا من غيرهما من المعادن الأخرى في اتخاذ زينته منهما. ولحكمة ربانية تقتضي كبح النفس البشرية عن التجبر والطغيان، فقد حرم الله تعالى على الرجال اتخاذهما زينة لهم إلا ما استثني. وذكر صلى الله عليه وسلم تعليل التحريم بأن فيهما كسر لقلوب الفقراء. ولما فيهما من الإغراء والتمتع بالتزين بهما ولأن النساء في وضع يقتضي تمكينهن من أسباب تعلق الرجال بهن فقد أباح للنساء اتخاذهما حليا لزينتهن أمام أزواجهن وحرم ذلك على الرجال. كما حرم تعالى اتخاذ الأواني المنزلية والتحف الجمالية منهما لما في ذلك من كسر قلوب الفقراء، يستوي في ذلك الرجال والنساء.
وقد أشار تعالى إلى طبيعة النفس البشرية في تمتعها بالذهب فجعل من تمتع الصالحين من بني آدم في الجنة أن من أدواتهم المنزلية صحافا من ذهب، قال تعالى:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71] .
النشأة التاريخية لاتخاذه ثمنا:
لقد مر على الإنسان حين من الدهر وهو يعاني الإشكال في طريقة حصوله على حاجاته الأساسية من طعام وشراب وسكن فاضطر إلى الأخذ بمبدأ المقاضاة، ثم إنه وجدها لا توفر له احتياجه ووجد فيها من المشاكل ما جعله يبحث عن وسيلة أخرى لتيسير تبادله مع غيره طلبا لحاجته فنشأ مبدأ الأخذ بوسيط للتبادل فاتجهت الدول المختلفة إلى اتخاذ السلع وسيطا للتبادل كالفراء في البلاد الباردة والأصداف في البلاد الساحلية وأنياب الفيلة والخرز والرياش في البلاد المعتدلة، وبتطور الحياة الاقتصادية ظهر عجز هذه السلع عن القيام بوظيفتها كوسيلة تقويم فاتجه الفكر الاقتصادي إلى الاستعاضة عن ذلك بالمعادن وخصوصا الذهب والفضة، لما فيهما من عناصر وخصائص جعلتهما أفضل وسيلة للتقويم فساد التعامل بهما ردحا من الزمن على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة، إلا أن اختلاف أنواع هذين المعدنين أوجد في استعمالهما ثغرة كانت ميدانا للتلاعب والفوضى، فليس كل الناس يعرف المادة الأصلية للذهب والمعيار المقبول للتبادل ثم إن تقدير ذلك بالوزن أوجد فرصة لسرقتها بالتلاعب في وزنها فتدخل الحكام في ذلك بسكها نقودا على شكل قطع مختلفة المقدار والوزن.
فأصبحت العملة المعدنية الذهبية معدودة بعد أن كانت موزونة وصار كل جنس منها متفقا بعضه مع بعض في النوع والمقدار.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن الذهب والفضة خلقا للثمنية وهذا القول فيه تجاوز، فقد مر بنا أن أول عهد الإنسان بالتبادل كان على سبيل المقايضة ثم اتخذت السلع ذات الندرة وسيلة للتبادل ثم اتجه إلى الذهب على نحو ما ذكر، وقد اتجه المحققون من علماء الفقه الإسلامي والاقتصاد إلى أن الثمن هو أي شيء يلقى قبولا عاما للإبراء المطلق بصلاحه للتقويم والاختزان.
وهذا لا يعني التقليل من أهمية الذهب في مقام الثمنية فلا شك أنه غير موغل في الثمن، ولهذا جاءت النصوص بجريان الربا فيه عموما؛ في مسكوكه وسبائكه وغيره.
وعليه فإننا في شك من صحة ما قيل بأن الذهب خلق للثمنية، وقد يقوى الشك لمن يتم له استعراض الأدوار التاريخية التي مر بها النقد حتى صار إلى ما هو عليه الآن (1) .
علة الربا في الذهب:
اختلف العلماء رحمهم الله في تعيين علة الربا في الذهب إلى مجموعة أقوال. فقد قيل: إن العلة في ذلك الوزن، وقيل بأن العلة فيه غلبة الثمنية، وقيل بأن العلة في ذلك مطلق الثمنية. وجرى في البحث استعراض هذه الأقوال ومناقشتها، واختيار القول بأن علة الربا في الذهب مطلق الثمنية، وتوجيه الاختيار والرد على الأقوال الأخرى بما يبرر الاختيار ويؤيده.
وفيما يلي الإجابة عن المسائل التي طرحها مجمع الفقه الإسلامي ورغب الإجابة عنها.
ومنها: حكم المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر.
الحكم في ذلك فيما يظهر لي الجواز لأن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني أشبه الحكم بجواز بيع حلي الذهب بأكثر من وزنه ذهبا حيث إن الزيادة في الثمن وزنا هي قيمة الصنعة في الحلي، وقد مر بنا النقل عن ابن القيم رحمه الله في ذكر هذا الحكم وتعليله.
ومنها: بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولا أي فيه صنعة وصياغة.
لا يخفى أن الذهب قد يباع بذهب وقد يباع بنقد آخر من فضة أو ورق نقدي أو فلوس. فإذا كان الذهب المبيع مشغولا كأن يكون حليا فإن بيع بذهب فلا بأس أن يكون الثمن أكثر وزنا من وزن الذهب الحلي وتكون الزيادة في الوزن في مقابلة الصياغة والعمل، وقد مر بنا رأي ابن القيم في ذلك وذكره في تعليل القول بالجواز إلا أنه يشترط للمبادلة بينهما الحلول والتقابض في مجلس العقد. وأما إذا كان أحد العوضين ثمنا غير الذهب فلا بأس في البيع مطلقا لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت:((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
ومنها: المتاجرة في الأواني أو الحلي والساعات الذهبية المصنوعة للرجال.
(1) انظر الورق النقدي ص26- 32 لمؤلفه عبد الله بن منيع
لا يخفى أن الحكم الشرعي في تملك الأواني الذهبية والفضية: التحريم، وما حرم تملكه حرم بيعه. أما الحلي فإن كان معدا للرجال فهو حرام، والنصوص في ذلك أشهر من أن تذكر وما حرم تملكه حرم بيعه.
وأما المتاجرة في الحلي المعد للنساء فلا بأس فيه إلا أنه ينبغي مراعاة الحكم الشرعي في بيوعه من حيث الحلول والتقابض، وقد يتفرع من هذه المسألة مسألة هي: هل يجوز لتاجر الحلي حينما يعرض عليه أحد الناس حليا قديما ويبدي له رغبته في شرائه حليا جديدا، هل يجوز لهذا التاجر أن يشترط عليه في شرائه الحلي القديم أن يشترط منه حليا جديدا؟ هذه المسألة بحثت في هيئة كبار العلماء في المملكة وصدر القول بمنعها باعتبارها بيعتين في بيعة، إلا أن هذا القول لم يكن محل إجماع. ونظرا إلى أن هذا النوع من البيع لم يشتمل على غرر ولا على جهالة ولا مخالفة في الصرف ولم يكن في معنى بيعتين في بيعة فلم يظهر لي وجه للقول بمنعه وقد قال بجواز مثل هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله وقد جرى نقل رأيه في البحث.
وأما الساعات الذهبية فإن كانت للنساء فلا بأس بتملكها واستعمالها والمتاجرة فيها بالبيع والشراء وأما إن كانت للرجال فحكمها حكم حلي الرجال من حيث تحريم التملك والمتاجرة فيها بيعا أو شراء أو اقتناء والله أعلم.
وأما ما كان مموها بالذهب أو الفضة أو مشغولا بهما أو بأحدهما بحيث تكون كمية الذهب أو الفضة فيهما قليلة جدا بالنسبة إلى ما شغلت به فهذه المسألة محل اجتهاد ونظر وفيها اختلف العلماء بين الإباحة والحظر. فمن نظر إلى الحكمة من التحريم وهي كسر قلوب الفقراء ورأى أن في التمويه بهما أو شغل الأداة بشيء منهما بما يعطي الأداة لون أحدهما؛ من نظر إلى هذا قال بالتحريم بصرف النظر عن كامل محتوى الأداة بأحدهما أو بجزء منها لما في ظاهرها من بهجة وزينة وإغراء ينكسر برؤيته قلب الفقير بالعاجز عن تملكها. ومن نظر إلى أن غالب محتوى الأداة من غيرهما وأن ما فيها من أحدهما لو استخرج لما كان شيئا، ونظر إلى القاعدة الشرعية: يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا قال بجواز ذلك.. ولكل من الرأيين وجاهته واعتباره ويكون للاختيار منهما التوجه بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) والله أعلم.
ومنها: شراء الفرد الذهب بالشيك أو ببطاقة الائتمان أيعد ذلك قبضا للثمن؟
اصطلح الفقهاء على تسمية بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة مراطلة وعلى تسمية بيع الذهب بالفضة أو بأي ثمن آخر أو العكس صرفا، واشترطوا في المراطلة المماثلة في الوزن والحلول والتقابض في مجلس العقد واشترطوا في الصرف المتمثل في بيع أحد المعدنين الذهب والفضة بأحدهما أو بأي ثمن آخر من ورق أو فلوس التقابض في مجلس العقد وأصل ذلك حديث عبادة بن الصامت المتقدم ذكره – الذهب بالذهب والفضة بالفضة
…
إلى آخره.
واتفق العلماء على أن القبض أمر مرده إلى العرف والعادة فأي طريقة يتم فيها الاستيلاء الكامل على العين محل العقد تعتبر قبضا. وقد بحث العلماء وضع الشيك وهل يعتبر قبضه قبضا لمشموله مبرئا، فأصدر مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي قرارا باعتبار قبض الشيك المعتبر قبضا لمحتواه. وقد وجد الخلاف بين فقهاء العصر في تفسير معنى الشيك المعتبر فذهب بعضهم إلى أن الاعتبار في الشيك أن يكون مصدقا من البنك المسحوب عليه لأن تصديقه يعني حمايته من الساحب أن يعود فيه كما يعني وجود رصيد كامل للساحب لتغطية سداد الشيك؛ وهذا المعنى يعطي القناعة الكاملة بالقدرة على التصرف في مشمول الشيك في أي وقت يريده المستفيد منه وهذا معنى القبض. وذهب آخرون إلى أن المراد بالشيك المعتبر هو أن يكون له رصيد في البنك المسحوب عليه لتغطيته؛ ولكن هذا المعنى لا يعطي القناعة بالقدرة على تصرف المستفيد منه بمشموله. فلئن كان للساحب رصيد لتغطيته فقد يرجع الساحب في الشيك قبل قبضه وهذا الاحتمال الوارد ينفي عن هذا الشيك الثقة في القدرة على التصرف فيه وبالتالي فينفي عن هذا الشيك معنى القبض وهو القدرة على قبض محتواه أو الأمر بقيده في حسابه.
والذي يظهر لي – والله أعلم – أن الشيك المعتبر والذي هو في معنى القبض هو الشيك المصدق. وتأسيسا على هذا فإذا اشترى الفرد ذهبا أو فضة بثمن آخر وبموجب شيك بذلك الثمن فإن كان مصدقا فقبضه قبض لمحتواه والمصارفة بذلك صحيحة.
وإن كان غير مصدق فقبضه ليس قبضا لمشموله وبالتالي فقبضه ليس في حكم القبض المبرئ للذمة والمصارفة بموجبه غير صحيحة لأن التقابض في مجلس العقد غير محقق.
فمثل هذا الشيك آفاته كثيرة منها احتمال سحبه على غير رصيد أو على رصيد لا يكفي لتغطيته أو لاحتمال رجوع ساحبه في سحبه قبل تقديمه للبنك المسحوب عليه فهذه العيوب تجعله غير أهل للاعتبار في القول بأن قبضه قبض لمحتواه. والله أعلم.
وأما شراء الذهب ببطاقة الائتمان فنظرا إلى أن بطاقة الائتمان تعتبر مبرئة للذمة براءة كاملة بين المتصارفين وحق بائع الذهب بموجب بطاقة الائتمان ثابت كثبوت حقه في الشيك المصدق من حيث إن صاحب البطاقة حينما يوقع بموجبها على فاتورة الدفع لا يستطيع الرجوع في توقيعه ولا يستطيع مصدر البطاقة أن يتأخر عن سداد القيمة عند الطلب مهما كانت حال صاحب البطاقة. ونظرا لهذا فإن القول بصحة المصارفة ببطاقة الائتمان قول وجيه يؤيده أن معنى القبض متوفر فيها حيث يتفرق المتصارفان بموجبها وليس بينهما شيء. ومع هذا فالمسألة في حاجة إلى مزيد من النظر والتأمل في ضوء التصور لحقيقة البطاقة الائتمانية. والله المستعان.
ومنها: التعامل بشهادات الذهب أو حسابات الذهب.
وهي شهادات تصدرها مؤسسات متخصصة تخول صاحبها قبض كمية من الذهب ولا يلزم أن تكون تلك الكمية معينة منفصلة عن غيرها، وقد لا تكون موجودة فعلا لدى المؤسسة في كل الأوقات.
هذا التعامل يعني أن أحد الرجال مثلا يشتري كمية من الذهب يجري تسلمه شهادة بها يتسلم بموجبها هذه الكمية من الذهب من مخازن إحدى هذه المؤسسات أو من مخازن متخصصة لهذه المؤسسة حق التحويل عليها بذلك وقد لا يكون الذهب موجودا في هذه المخازن وقت المصارفة.
الذي يظهر لي والله أعلم أن هذا النوع من المصارفة لا يتحقق فيه معنى التقابض في مجلس العقد لأمرين أحدهما أن المؤسسة المتخصصة في إصدار شهادات الذهب ليس لشهاداتها اعتبار موجب للثقة كالثقة في الشيك المصدق. حيث إن مشتري الذهب لا يستطيع التصرف فيما اشتراه في مجلس العقد للاحتمال القوي في بعد هذه المخازن عن قدرته على حيازة ما اشتراه.
الثاني أن وجود الذهب في المخازن المختصة مشكوك فيه فقد يكون موجودا وقد لا يوجد إلا بعد وقت لا يعلم تحديده فيطلب من المشتري الانتظار والرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر من عناصر المصارفة وصحتها التفرق بين المتصارفين وليس بينهما شيء. وهذا العنصر مفقود في هذه المصارفة فضلا عن أن التقابض في مجلس العقد مفقود حسا ومعنى. وتأسيسا على هذا فلا يظهر لي جواز هذا النوع من المصارفة لفقده شرطها. والله أعلم.
ومنها: حكم شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب وتعد أكثر أصولها منه، هل يمثل السهم حصة شائعة في الذهب؟ هل لذلك تأثير على حكم التعامل بأسهمها؟
لا يظهر لي مانع من شراء أسهم في شركة تعمل في استخراج الذهب ولو كانت غالب أصولها من ذلك الذهب لأن الشركة شخص اعتباري له ذمة محدودة ذات وعاء قابل للحقوق والواجبات والتملك والتبرع وغير ذلك من التصرفات المالية فأسهم هذه الشركة حصص شائعة في عموم مقوماتها وعناصر وجودها ومن هذه العناصر والمقومات قيمتها المعنوية المتمثلة في اعتبارها ومكانتها في سوق الشركات وأسواق الانتاج وقد تكون قيمة الجانب الاعتباري للشركة أكثر حجما من قيمة ما لديها من أصول متحركة. كما أن للشركة أصولا ثابتة للإدارة والتشغيل غير الذهب فسهم الشركة ليس محصورا في كمية الذهب الذي تقوم الشركة باستخراجه حتى يقال بمراعاة شروط الصرف وإنما تمثل أسهمها كامل عناصر وجودها السهم فيها حصة مشاعة في عموم مقومات الشركة واعتبارها. فمن يشتري سهما أو أكثر من أسهم هذه الشركة لا يعتبر نفسه قاصدا شراء كمية من الذهب المستخرج. فالذهب المستخرج مادة متحركة يخرج اليوم ويباع غدا ويخرج غيره بعد ذلك ويستمر نشاط الشركة في هذا السبيل على هذا الاتجاه. ولكنه يقصد الدخول في المساهمة في هذا النشاط وفي هذه الحركة الإنتاجية والصناعية والاشتراك في تملك الاختصاص في ذلك ومن القواعد الشرعية أنه يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا. ألا نرى أن تملك الشركات المساهمة سيولة من النقود ووجود ديون لها وانتفاء الوضوح الكامل لموجودات الشركة مما يعطي نوع جهالة. كل ذلك يغتفر ولا يؤثر في صحة تداول أسهم الشركات بيعا وشراء وتملكا حيث يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا.
الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة:
من النشاطات المصرفية المعتادة والمتكررة لدى المؤسسات المالية الحوالات. والحوالات قد تكون بعملة البلد المحال فيه كأن يطلب أحد الناس من أحد المصارف تحويل مبلغ من المال بعملة معينة كالريال السعودي أو الدولار الأمريكي فيدفع للمصرف هذا المال ويطلب منه تحويله إلى بلد معين فيقوم المصرف بذلك ويعطيه إشعارا بالتحويل إلى ذلك البلد على أحد المصارف أو على فرع من فروعه، هذا النوع من التحويل المصرفي حوالة محضة ليس لها تعلق بمسائل الصرف وإنما هي من مسائل السفتجة. وقد عرفها بعضهم بقوله: السفتجة هي أن يعطي مالا لآخر مع اشتراط القضاء في بلد آخر وذلك لضمان الطريق على سبيل القرض لا على سبيل الأمانة.
وقد اختلف العلماء في حكمها فجمهورهم قالوا بجوازها مستدلين على ذلك بما روي عن عطاء أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كان يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب بها إلى أخيه مصعب بن الزبير في العراق ويأخذونها منه فسئل ابن عباس عن ذلك فلم ير به بأسا فقيل له: إن أخذوا أفضل من دراهمهم؟ قال: لا بأس إذا أخذوا بوزن دراهمهم.
وروي أيضا مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازوا ذلك.
ورد المجيزون على المانعين قولهم بأن هذا من قبيل القرض الذي يجر نفعا وكل قرض جر نفعا فهو ربا، فإن دافع النقود يستفيد من ذلك أمنه من خطر الطريق. رد المجيزون على ذلك بقولهم:
المنفعة التي تجر إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض كسكنى دار المقترض وركوب دوابه واستعماله وقبول هديته ولا مصلحة له في ذلك، بخلاف هذه المسألة فإن المنفعة مشتركة بينهما وهما متعاونان، فهي من جنس المعاونة والمشاركة (1) . وهذا المعنى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى وجرى نقل نصه في ذلك.
(1) المغني: 4/320 وتهذيب السنن لابن القيم: 5/152 بواسطة الشيخ عمر المترك رحمه الله من كتاب (الربا والمعاملات المصرفية) ص283- 284
وقال آخرون بمنعها بحجة أن السفتجة قرض يستفيد منها المقترض أمن الطريق وكل قرض جر نفعا فهو ربا. وقد تقدم رد هذا الاحتجاج بما يكفي عن إعادته. وذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السفتجات حرام)) ، وهو حديث ضعيف ذكره ابن الجوزي في (الموضوعات) فلا يصح الاحتجاج به، والقول بجواز ذلك هو ما تطمئن إليه النفس لما في ذلك من المصلحة العامة والتيسير على المسلمين في معاملاتهم وانتفاء الدليل المقنع على المنع ولأن الأصل في المعاملات الإباحة.
وقد تكون الحوالة بنقد مغاير للنقد المراد تسلمه في البلد الآخر فهذا النوع من التحويل يجتمع فيه الصرف والحوالة ولا يخفى أن للصرف في حالة اختلاف العوضين جنسا شرطا هو التقابض في مجلس العقد وقد تقرر لدى المجامع الفقهية والهيئات العلمية أن كل عملة ورقية جنس يجوز المصارفة بينها وبين غيرها من عملات الدول الأخرى مطلقا إذا كان يدا بيد لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
وعليه فيجب قبل التحويل إجراء عملية الصرف بحيث يتسلم المحيل العملة التي يريد تحويلها بعد انتهاء عملية الصرف، سواء أكان تسلما حسيا أم تسلما في معنى الحس، كأن يعطيه شيكا مصدقا يملك بقبضه القدرة على التصرف فيه بتسلم محتواه أو بقيده في حسابه أو تحويله، فإذا تسلم الشيك المصدق أمكنه بعد ذلك تحويله، وصار الأمر إلى الإجراءات المتخذة في الحال الأولى وهي تحويل نقد معين إلى بلد أخرى (1) .
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
(1) هذا ملخص للبحث المعنون: بحث في الذهب في بعض خصائصه وأحكامه، إعداد عبد الله بن سليمان بن منيع