المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

‌سد الذرائع

إعداد

الدكتور علي داود جفال

دولة الإمارات العربية المتحدة

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله والطيبين الطاهرين، وأصحابه الهداة الراشدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

إن أهمية اختيار موضوع سد الذرائع من موضوعات الدورة التاسعة، هو أن أكثر الدول الإسلامية بعدت في عهد الاستعمار عن التشريع الإسلامي وبخاصة الحدود الشرعية. واستبدلت بهذا التشريع تشريعًا وضعيًا منقولًا من قوانين البلاد الأوربية، فلما زال كابوس الاستعمار بقيت تلك التشريعات الوضعية مدة نظرًا لتمكنها من النفوس ورسوخها في عقول المشرعين لطول ممارستهم إياها، ثم كثرت دعوة أهل الخير والدين إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعل التشريع الإسلامي المصدر الرئيسي لقوانين البلاد، فاستجابت الحكومات الإسلامية إلى هذه الدعوة الصالحة، لهذا رأيت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع فأبين موضوع سد الذرائع كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي التبعية وموقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ به وقد قسمت هذا الموضوع إلى سبعة فصول وأسال الله تعالى الهداية والتوفيق إلى أقوم طريق، إنه نعم المولى ونعم النصير.

ص: 1460

الفصل الأول

في تحديد الذرائع وبيان حقيقتها

والفرق بين الذريعة والسبب والذريعة والوسيلة

1-

تعريف سد الذرائع:

الوضع المنطقي السليم في كتابة البحوث العلمية، وترتيب الأعمال العقلية، يقتضينا حين نطلب حقيقة معينة، أن نبدأ ببيان حقيقتها. أي عناصرها العامة المكونة لها، قبل أن نأخذ في البحث عن تعيين خصائصها، وتبيين مشخصاتها.

ذلك لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، على حد تعبير علماء المنطق.

وإذا كان هذا هكذا، فينبغي قبل كل شيء أن تعرف معنى (سد الذرائع) في جملتها، فنقول: إن كلمة (سد الذرائع) مركب إضافي، والمركب الإضافي لا يمكن معرفته إلا بعد معرفة أجزائه، وبناء عليه، فدونك تعريف كل جزء على حدة.

أ -تعريف السد:

أصل السد: مصدر سددته، ومنه قوله تعالى:{بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] .

أي: حاجزًا يمنعهم من الوصول إلينا والإفساد في أرضنا. فشبه به الموانع.

ومنه قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} (1)[يس: 9] .

فالسد: المنع. يقال: سد عليه الطريق. أي: منعه من الدخول فيه، وهذا أصل قول علماء الفقه والأصول، في قاعدة (سد الذرائع) : منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز، فقد منع الشارع ما يجوز في نفسه، خشية أن يتوصل به إلى المحرم.

(1) راجع المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (مادة ـ سد) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، في تفسير الآيات المذكورة.

ص: 1461

ب -تعريف لفظه ذرائع:

من تأمل فيما ذكره اللغويون من معاني مادة (ذرع) ، متحريًا البحث عما يصلح أن يكون معنى لها، وجد في كتب اللغة المعتبرة، مثل الصحاح للجوهري، ولسان العرب لابن منظور وغيرهما: أن من المعاني التي جرى الأمر على اعتبارها، خاصة مميزة للفظة (ذريعة) : هي وسيلة.

فالذريعة ـ في اللغة ـ هي الوسيلة إلى الشيء يقال: تذرع فلان بذريعة. أي: توسل بوسيلة إلى مقصده. ويقال أيضًا: جعلت ذريعتي لفلان فلانًا. أي: وسيلتي إليه، وجمعها:(ذرائع)(1) .

ثم أطلقت (الذريعة) على كل شيء دنا من شيء، أو قرب منه (2) .

ومعنى هذا المركب الإضافي (سد الذريعة) : هو حسم مادة وسائل الفساد، منعًا منها ودفعًا لها، إذا كان الفعل السالم من المفسدة، وسيلة إلى مفسدة (3) .

(1) تهذيب الأسماء واللغات للنووي (مادة ـ ذرع) .

(2)

لسان العرب لابن منظور (مادة ـ ذرع) .

(3)

حاشية العطار على جمع الجوامع لابن السبكي (2/ 198

ص: 1462

جـ- التعريف الشرعي للذريعة:

لقد جرى عرف العلماء، على تسمية الألفاظ المستعملة في معان وضعها لها الفقهاء وأهل علم الأصول، بالاصطلاحات الشرعية.

ويستفاد من كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) لسيف الدين أبي الحسن الآمدي المتوفى سنة 383 هـ. (ج1 ص48، 61) : أن علماء الإسلام يعتبرون المعاني الشرعية، متفرعة عن المعاني اللغوية، وثيقة الصلة بها.

ولسوف يكون من باب الإطالة، أن نذكر جميع التعريفات الشرعية، التي تقر هذا المبدأ، أو الأصل، ولهذا نجتزئ منها ببعضها، وهي التي تنص على هذا فالأصل في ألفاظ تامة الوضوح.

1-

تعريف الإمام الشاطبي:

أوضح الإمام الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ في كتابه الموافقات في أصول الأحكام (4/ 198) ، الذريعة الممنوعة في المذهب المالكي، فأفاد أنها:(التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة) .

2-

تعريف الإمام القرافي:

ولقد لخص الإمام الفقيه الأصولي (القرافي) ، قاعدة سد الذرائع أبلغ تلخيص، وبين حقيقتها أحسن بيان، فقال:(سد الذرائع) معناه: حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة، منع (مالك) من ذلك الفعل في كثير من الصورة) (1) .

3-

تعريف (ابن رشد الجد) :

وقال الفقيه الجليل (ابن رشد الجد) ، قاضي الجماعة في قرطبة، المتوفى سنة 520 هـ في كتابه المقدمات (2) . الممهدات (2/ 198) :(الذرائع: هي الأشباه التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها إلى فعل محظور) .

4-

تعريف الإمام المازري:

وقال الإمام المازري الفقيه المالكي، في كتاب (شرح التلقين (3)) للقاضي عبد الوهاب المالكي البغدادي:(سد الذريعة: منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز) .

وهذه التعريفات وأمثالها، هي على اختلاف ألفاظها كما قال الشاعر

عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير

وجماع القول في هذا الأصل (سد الذرائع) : هو أن الذريعة في اللغة: هي الوسيلة التي يتوصل بها إلى شيء آخر مطلقًا.

وفي الاصطلاح الشرعي: هي ما تكون وسيلة وطريقًا إلى الشيء الممنوع شرعًا. وسدها: هو الحيلولة دونها والمنع منها.

(1) الفروق للقرافي (الفرق ـ 58) ج2 ص 32

(2)

مطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1325 هـ وهو كتاب نفيس جدًا لمعرفة المذهب على ما جاء في (المدونة) المشهورة، فهو يمهد حقًا لفهمها وبيان أمهات مسائلها

(3)

في مطلع باب بيوع الآجال

ص: 1463

د- ألفاظ لها تعلق بهذا الأصل:

يرتبط بلفظ (الذريعة)، لفظان. هما: الوسيلة، والسبب، والواقع أن هذه الألفاظ الثلاثة، يأخذ بعضها بحجز بعض، ويتعلق أحدها بالآخر، ويؤديه ويدعمه، فإذا وجدت اللفظة الأولى، تتابعت الأخريان على أثرها، وإذا اختفت، ذهبنا على الفور في أعقابها.

على أن الترادف في الألفاظ، والاتحاد في المعنى، لا يعني دائمًا الاتفاق في النتائج، ولسوف نحاول من جانبنا، أن نستخلص هذا من الدراسة التالية:

1-

الوسيلة:

ونبدأ بالوسيلة: ونتخذ من التعريفات السابقة للذريعة ذاتها، نقطة انطلاقنا لنستخرج منها ما نبغيه، فإن كنت لا تزال على ذكر ما سبق في تحديد معنى (الذريعة) تبين لك في ضوء هذا التحديد، مقدار التعلق القوي بين (الذريعة) ، و (الوسيلة) ولكي يطمئن قلبك، وتتأكد مما نقول، نعيد عليك بعض الذي ذكرناه، ليكون شاهدًا أمام عينيك وبرهانًا بين يديك.

قال أهل اللغة وأهل العلم: الذريعة: هي الوسيلة والذرائع: هي الوسائل. وذكروا أنه يقال: تذرع فلان بذريعة. أي: توسل بوسيلة إلى مقصده، وذكروا أيضًا أنه يقال: جعلت ذريعتي لفلان فلانًا. أي: وسيلتي إليه (1) .

وقال الراغب الأصفهاني ـ علاوة على ذلك: (الوسيلة: هي التوصل إلى الشيء برغبة) . فهي تلتقي مع الذريعة من جهة أن المتوسل أو المتذرع، تميل نفسه ويصبو قلبه لنيل مقصوده، هذا، والوسيلة تجمع على وسائل، ومنه تعبير أهل عصرنا عن الأمور التي تساعد على التعليم من وسائل التعليم، ومنه وسائل الإعلام، كالصحف والإذاعة والتفزيون.

(1) لسان العرب لابن منظور، والصحاح للجوهري (مادة ـ وسل) وتكملة المجموع لابن السبكي (ج10 ص 160) ، والفروق للقرافي (ج2 ص 32) .

ص: 1464

2-

السبب:

وأمامك الآن اللفظة الثانية، التي لها تعلق بلفظة ذريعة، فخذ (غير مأمور) بيان أصلها وحقيقتها: الأصل الأصيل في السبب: هو الحبل.

وبالمعنى الواسع للكلمة: هو الحبل القوي الطويل. (قالوا) : ولا يسمى الحبل سببًا، حتى يرتقى به وينحذر ثم زادوه بسطة، فقالوا: بل لا يطلق عليه ذلك، حتى يكون طرفه معلقًا بالسقف أو نحوه ومنه سمي الطريق سببًا، تشبيهًا بالحبل الطويل الممتد، ولأنه يمكن سالكه من الوصول إلى الموضع المراد.

ثم استعير (السبب) لكل شيء يتوصل به إلى غيره، ومنه قول الله عز ولج:{وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84] أي: طريقًا موصلًا لكل شيء أراده. وقال العلامة الراغب الأصفهاني في (المفردات) : (معناه: أن الله تعالى آتاه من كل شيء معرفة وذريعة يتوصل بها. فأتبع واحدًا من تلك الأسباب) .

وعلى ذلك قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36 ـ 37] أي: لعلي أعرف الذرائع والأسباب الحادثة في السماء، فأتوصل بها إلى معرفة ما يدعيه موسى عليه السلام (1) .

هذا، ومن العبارات الجارية على الألسنة، قولهم: أنت السبب في كذا، أي: أنت المسبب الأكبر، وقولهم: كان ذلك بسببك. أي: بسبب فعلك، ومن أجلك، ومن الأمثال السائدة: إذا عرف السبب بطل العجب.

(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الصفهاني (سبب) والكليات لأبي البقاء الكعبري (سبب) ولسان العرب لابن منظور (سبب) وتفسير الكشاف للزمخشري في تفسير الآية (84 ـ سورة الكهف) ، وتاج العروس للزبيدي (سبب) .

ص: 1465

هذه بعض معاني السبب عند أهل اللغة. وأما معناه في عرف أهل الأصول. فيطلق على بعض مسبباته في اللغة، فقد عرفه الآمدي المتوفى 631 هـ بقوله: السبب كل وصف ظاهر منضبط، دل الدليل السمعي على كونه معرفًا لحكم شرعي.

وعرفه الشاطبي بأنه: " ما وضع شرعًا لحكم، لحكمة يقتضيها ذلك الحكم، كما أن حصول النصاب سببًا في وجوب الزكاة، والسرقة سببًا في وجوب القطع، وما أشبه ذلك".

وعرفه الكعبري بأنه: " عبارة عما يكون طريقًا للوصول إلى الحكم، دون أن يؤثر فيه "(1) . ولك أن نقول: هو كل أمر تسبب عنه أثر شرعي.

ومن ناحية أخرى يمكن القول: بأن (السبب) بمعناه العام، يشمل ـ عند الأصوليين ـ جميع أبواب الفقه، من عبادات ومعاملات ومناكحات وعقوبات....

وبهذا المعنى الواسع، قيل عن الإرشاد، وعن عقود التمليك: إنها من الأسباب الشرعية، التي تجوز أخذ مال الغير.

وبهذا المعنى وردت أيضًا، كلمة (السبب) في القاعدة العامة:" لا يجوز لأحد أن يأخذ مال واحد، بلا سبب شرعي ". المجلة (م/ 97) . فلا بد من سبب شرعي لأخذ مال الغير. (مثال ذلك) : لو اشترى أحد شيئًا، حق له أخذه بسبب الشراء.

وكذلك لو مات وترك مالًا، فورثته بأخذونه بسبب الميراث، وإرث الزوجين: أحدهم من الآخر، بسبب النكاح (الزواج) وهلم جرًا.

(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 181) الموافقات للشاطبي (1/ 158) ، والكليات لأبي البقاء الكعبري (مادة ـ سبب) ويراجع المستصفى للغزالي (1/ 93 ـ 94) .

ص: 1466

الفصل الثاني

في المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية

ومدى الوفاق أو الخلاف بينهما

معلومات أولية:

أول ما يجب ذكره هنا، هو: بيان معنى الحيلة"، في الوضع اللغوي، والوضع الشرعي (يعني الاصطلاحي) ليتسنى لنا أن نقرر مقدار الائتلاف أو الاختلاف بين الذرائع والحيل.

ولكي يتم لنا هذا، لن يكون لدينا سوى أن نركن إلى الذين سبقونا بالعلم والفقه، فنقتبس من علومهم، ونغترف من بحورهم، والله تعالى من وراء الجميع بعلمه محيط.

قال أهل اللغة: الحيلة: اسم من الاحتيال، وهي: الحذق في تدبير الأمور، وجودة النظر، وهو: تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المراد، وتجمع على حيل، وهي أيضًا: ما يتوصل به إلى حالة ما في خفية، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل فيما فيه حكمة، ولهذا قيل في وصف الله عز وجل:{وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] أي: الوصول في خفية عن الناس، إلى ما فيه حكمة (1) .

أما أهل العلم من الفقهاء والأصوليين، فقد تولى الإمام الكبير، أبو إسحاق الشاطبي، تعريفها تعريفًا جامعًا مانعًا، ممتعًا مقنعًا، وراح يقول في حقيقتها المشهورة بأنها:(تقديم عمل ظاهر الجواز، لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر) . وذكر أن مآل العمل فيها، خرم قواعد الشريعة في الواقع.

وضرب لها مثلًا بالرجل الغني، الواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة، وشرحة قائلًا: إن أصل الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة، لكان ممنوعًا، فإن كل واحد منهما، ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد، صار مآل الهبة، المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية) (2)

هذا ما عرف به الحيلة (أبو إسحاق الشاطبي) ، من أئمة المالكية، ولعله أفضل التعاريف المأثورة المشهورة للحيلة، وأشملها لأنواعها..

وإذا أردنا أن نزداد علمًا، قلنا: إن (الحيلة) هي: إظهار عمل ممنوع شرعًا، في صورة عمل جائز، يتحول به فاعله من حال يكرهه، إلى حال يحبه.

وقد غلب استعمالها في سلوك الطرق الخفية، التي يتوصل بها إلى حصول لغرض بحيث لا يتفطن لها، إلا بنوع خارق من الذكاء والدهاء، والمهارة والشطارة.

(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (مادة ـ حول) ، والمصباح المنير للفيومي (المادة نفسها) .

(2)

الموافقات من أصول الأحكام (ج4 ص 201) بتحقيق الشيخ العلامة عبد الله دراز

ص: 1467

أنواع الحيل:

والحيل نوعان: أحدهما: حيل مشروعة مباحة، و (الآخر) : حيل غير مشروعة.

فالمشروعة: هي تدابير لطيفة لا تصطدام مع النصوص، ويقصد منها التخلص من الآصار والأغلال والوصول إلى الحلال، من غير إبطال حق، أو إحقاق باطل، أو الدخول في التمويه والخداع أو هي: التي تتخذ بقصد التوصل إلى إثبات حق أو دفع مظلمة. دون أن تناقض مصلحة شرعية، أو تهدم أصلًا شرعيًا.

وغير المشروعة: هي التي تتضمن تحليل ما حرمه الله، أو تحريم ما أحله، أو إسقاط واجب.

أو هي التي يقصد منها التحيل على قلب الأحكام الشرعية الثابتة، إلى أحكام آخر، بفعل صحيح الظاهر، لغو في الباطن (1) .

أو هي: التي تهدم أصلًا شرعيًا، أو تناقض مصلحة شرعية، وتقوم على التمويه والخداع، والتلبيس والتدليس.

وأصحاب الحيل لما رأوا نفرة الناس، من اسم الحيل، قالوا: إنما نسمي ما يتوصل به إلى ممنوع (وجوه المخارج من المضايق) ، ولا نسميها (الحيل) . وقد نسب القول بجواز الحيل، إلى بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة (النعمان) رضي الله عنه.

وقد أثر عنهم أنهم ألفوا بعض الكتب فيها، ومن أشهرها (كتاب الحيل) للخصاف، المطبوع في مصر سنة 1314 هـ. وكتاب المخارج من الحيل) . المنسوب للإمام محمد، صاحب أبو حنيفة. الذي نشره المستشرق الألماني، يوسف شخت.

(1) راجع الإعلام الموقعين (4/ 113) والموافقات (2/ 380) .

ص: 1468

والحق أن كلام أصحاب الحيل هؤلاء، كلام منمق، لا يرجع إلى معنى محقق، فهو يمتع ولكنه لا يقنع.

ذلك لأنه ليس في الشريعة الإسلامية السمحة (1) ، مضايق ومأزق ومحارج، حتى يحتاج إلى الخروج منها، فإن أرادوا بالمضايق، وما نهى عنه الشارع نهي تحريم أو أمر به أمر إيجاب، فالتكاليف التي تتضمن تحريمًا أو إيجابًا كلها مضايق إذا، والله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

والنصوص من الكتاب والسنة على يسر الشريعة، أكثر من رمل عالج، ومن أصناف التمور في العراق.

ثم إن الناظر في كتب الحيل. المنسوبة لأصحاب الإمام أبي حنيفة، قد يروقه ما فيها من نسيج بديع الصنعة، ولكن الذي يغلي سداها (بفتح السين) ولحمتها، يجد في طياتها خيوطًا واهنة وعناصر غريبة واهية، سترتها مهارة الصنعة وحسب السبك، وروعة المخارج من المحارج!!

وإن من العبث، أن نقف لبيان ما لهذه الحيل، من قيمة ضئيلة، فهي تصطدم بحقائق ودقائق، وبينات وبراهين، عقد لها (ابن قيم الجوزية) الفقيه الحنبلي المشهور، فصولًا طويلة وقد ناقش أصحاب الحيل فيها مناقشات دامغة، تمتاز بأسلوبها العملي الدقيق، وإيراد الحيل واحدة واحدة، ونقضها بالدليل النقل والبرهان العقلي في أناة وهدوء وانسجام، ثم فرق بين الحيل المباحة والحيل المحرمة، وضرب الأمثلة، وأقام البراهين واستشهد بالغائب على الحاضر.

وكنت أود أن أعرض بعض النماذج و (العينات) من كلام هذا الإمام الهمام، فهو من أوسع ما كتبه علماء الإسلام، إلا أن ضيق المجال، ومنهاج البحث لا يسمحان بإطالة الشرح والتبسط في ذكر الشواهد وضرب الأمثال، فأضربت عن ذلك كله صفحًا. ومن أراد المزيد من الاطلاع، فعليه بالرجوع في هذا الموضوع، إلى كتاب إعلام الموقعين (الجزء الثالث من صحفة 171 ـ 415) و (الجزء الرابع من صفحة 1ـ 117) من طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد يجد كلامًا تشد إليه الرحال في هذا المجال.

(1) بعض الكاتبين يستعمل في تعبيره لفظة (السمحاء) . وهذه الفظة (أعني: السمحاء لا توجد في الأرض ولا في السماء) .

ص: 1469

الموازنة بين الذرائع والحيل، والوفق (1) . والفرق بينها.

إذا نحن تأملنا من قريب، في حقيقة كل من (الذريعة) ، و (الحيلة) . وجدنا أنهما يسيران جنبًا إلى جنب، على الطريق التي تؤدي إلى إهمال أوامر الشريعة، والتهرب منها، أو يؤديان إلى الوقوع في الممنوع، كبيوع الآجال وغيرها من العقود والتصرفات، فالمآل واحد، وهو الوقوع في الفاسد والمحرمات.

فهما في التسابق إلى الشر، كحماري العبادي. قيل له: أي حماريك شر (2) فقال: هذا ثم هذا، غير أن الاتفاق في النتائج، لا يعني دائمًا الاتحاد في القصد (أي: النية) فهما يبتدئان في الافتراق، منذ اللحظة التي يصبح الأمر فيها متعلقًا بالنية.

فالنية: هي الفارق ما بين الذريعة والحيلة. ولكي نقدم للقارئ بيانًا واضحًا يلخص ويستوعب التفرقة بينهما، لا نجد خيرًا من أن نعيد ذكر التعريف الجامع لكل منهما، وهو ما زال نصب أعيننا، وبين أيدينا.

فالذريعة ـ لو تذكرنا ـ هي الوسيلة التي يتوصل بها إلى الشيء الممنوع، المشتمل على مفسدة، ولو عن غير قصد.

فالعبارة في الذريعة ـ كما ترى ـ معيار موضوعي لا شخصي، ينظر فيه إلى المآل، ومصير العمل ونتيجته، ولا دخل فيه لنية الشخص الفاعل وقصده.

فالمنظور إليه في (الذرائع) ليس هو القصد السيئ من الفاعل، بل المنظور إليه هو الفعل الذي يؤدي إلى النتيجة التي لا تطابق الشرع، ولو كان الفاعل حسن النية.

(1) الوفق: المطابقة بين الشيئين. قال تعالى: {جَزَاء وِفَاقًا} [النبأ: 26] .

(2)

يقال: يقال هو شر منك، ولا يقال: هو أشر منك، إلا في الشاذ الردئ من الكلام (تاج العروس) للزبيدي ـ 17ـ.؟.

ص: 1470

والمثال التالي يرينا بشكل واضح، كيف أن النية الحسنة، مع العمل غير المشروع، لا تكفي وأنه ليس باستطاعتها أن تجعل من الشر خيرًا. وهاك مثالًا:

كلنا نعلم أن كثيرين من الناس، شديدو التأثر والحساسية تجاه مقدساتهم، لدرجة أن أية إساءة إلى آلهتهم الزائفة، التي يعبدونها قد تستدعي من جانبهم، أن يجدفوا في حق الله تعالى المعبود بحق.

ومن ثم نهي القرآن الكريم عن هذه الإثارة (أي: سب أصنامهم) فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .

ولكن لو أن مؤمنًا غيورًا دفعته حرارة إيمانه، إلى أن يعبر عن احتقاره للأصنام فيسبها، دون أن يفكر في ردود الفعل المحتملة، أفيكون معذورًا بنزاهة قصده، وحسن نيته، وانتصاره لربه؟! كلا ثم كلا.. إن الشر لا يمكن أن يصبح خيرًا بفضل كيمياء الإرادة، بل إن هذا الخلط والتلون يعتبر عند الإمام الغزالي، إثمًا آخر. قال: إن (قصده الخير بالشر، على خلاف مقتضى الشرع، بشر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله (فجهله مزدوج؛ لأن يجهل الشرع ويجهل أنه يجهله، وقد قيل: أشد من الجهل الجهل بالجهل)(إحياء علوم الدين: ج4 ص 257) طبع الحلبي بالقاهرة.

وموجز القول هو: أن الذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة. و (الحيلة) لا بد فيها من القصد. أما (الذريعة) فبصرك فيها حديد، وعهدك بها غير بعيد.

ص: 1471

وأما الحيلة، فنوع آخر من الانحراف الذي يتمثل، لا في جهل الصفة الشرعية للعمل في ذاتها، بل على وجه التحديد، في إرادة استعمال هذه الشرعية حرفيًا، لإخفاء عملية أخرى يحرمها الشرع.

وتلك هي (الحيل) التي يستعملها بعض رجال الأعمال، من أجل أن يحللوا الربا والكسب الحرام.

ففي هذه الطريقة، نجد أن الاختلاف لا ينصب على الموضوع المباشر، بل على غاياته.

ولا حاجة بنا إلى مزيد من القول، لإثبات تفوق (الحيلة) ، على (الذريعة) ، في المكر والخديعة، والطرق الملتوية، والتخافت والنية السيئة المبيتة، والخبث والأنانية الجشعة، وغير ذلك من التفنن في ارتكاب الوسائل المفضية إلى الأمور المحرمة.

وإنما نريد إبراز الصورة، التي تتوضح معانيها وملامحها بالتمثيل لها، فإنها من دونه تبقى صورة مبهمة غامضة، غير أن هذا يستغرق كتابًا ضخمًا، وطبيعة البحث تستدعي منا اقتضابًا، لا استيعابًا.

ومع هذا فإني مضطر إلى أن أقول شيئًا، وساقتصر على إبراز الحالات الواضحة، التي ركز عليها الكتاب والسنة، تركيزًا خاصًا.

(وكلمة أخرى) : تمس الحاجة إليها، وهي: أن أي انحراف عن (الطريقة المستقيمة) ، يفضي بالضرورة إلى ما لا نهاية له من الاتجاهات، والمنعطفات، والغوايات، والتخبطات. وهو ما أشار إليه القرآن الكريم، في قوله:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] .

ولنشرع الآن في معالجة بعض الانحرافات التي تتمثل في التهرب من الأوامر الشرعية، أو الاحتيال عليها.

ص: 1472

الاحتيال على الشرع:

هناك طريقة للتحايل على الشرع، وذلك بإهمال شروط تطبيقه وإضاعتها، وغنى عن البيان، أن الذي يتحايل على الشرع، على هذا النحو، هو يسعى إلى فائدته الخاصة، ومنفعته الشخصية، فهو إنسان أناني ممقوت.

هذه الأنانية الممقونة، التي يفرضها على الناس، حبهم المفرط للأعراض الدنيوية، تتجلى سافرة في صورتين:

(إحداهما) : سلبية محافظة.

(والأخرى) : جشعة محتكرة.

وإن أقل أنواع الأنانية حركة ونشاطًا، تلك التي تحمل صاحبها على الانطواء على نفسه، فتجعله ضنينًا بماله، قليل الإيثار، عديم الإحسان، في حين أن الأنانية الجشعة الجامحة، لا تقنع بالوضع السلبي، وإنما تمعن في جمع المال، بكل وسيلة، مشروعة أو غير مشروعة.

والحيل ـ في جميع صورها وألوانها ـ معروفة مكشوفة، في أبواب الفقه الإسلامي، وإنا لنجدها مستفيضة في باب (فريضة الزكاة) . وليس لدينا مثال أوضح ولا أدق، من الوسيلة للتهرب بالحيلة، من هذه الفريضة المقدسة، ما ذكره أبو إسحاق الشاطبي في كتابه الموافقات (ج4 ص 201) .

فقد مثل (أي: ضرب لها مثلاً) بالواهب ماله، عند اقتراب موعد جباية أموال الزكاة، أو عند رأس الحول، تهربًا من أداء هذه الفريضة.

وغني عن البيان، أن الذي يتحايل على الشريعة، على هذا النحو، فيبطل حكمًا شرعيًا، ويسقط فريضة دينية، بعد مرتكبًا ـ دون ريب ـ لعمل من الأعمال المخلة بالدين والخلق.

وعلى هذا النسق، نجد حيلة أخرى، تتمثل في تجميع رؤوس أموال كثيرة، أو قطعان الغنم تخص أشخاصًا مختلفين.

ص: 1473

(وقد تكون الحيلة متمثلة، وفقًا لأفضل المنافع، في فصل رأس مال مشترك) بقصد تجنب كل منهم، إلزامًا فادحًا، وحملًا ثقيلًا.

ولقد حرم الحديث الشريف، صراحة هذه الطريقة في الزيغ عن المحجة، وتنكبها فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، كتب له فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة)(1) .

بقت بعض المنافذ، التي يمكن أن يتصورها، ويتبجح فيها أولئك الأغنياء قساة القلوب، حتى يفروا من العدالة الإنسانية، فهل بوسعهم أن يكونوا مطمئنين إلى الفرار، بهذه الحيل من العدالة الأبدية {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ} [الأحزاب: 16] .

لقد ساق القرآن الكريم لنا في هذا الصدد عبرة في قصة أصحاب الجنة، فإنهم أقسموا عشية الحصاد، أن يذهبوا إلى حديقتهم مبكرين، خفية حتى لا يلفتوا إليهم انتباه المساكين، وبذلك يطرحون عن كاهلهم، عبء اقتطاع جزء من ثروتهم.

ويا لها من مفاجأة مذهلة طالعتهم، حين وصلوا إلى جنتهم، لقد طاف على ثمراتها جميعًا، طائف العذاب الرباني، فدمرها وهم نائمون. (القصة في سورة ن 17 ـ 33) .

قال أبو إسحاق الشاطبي (2)" تضمنت الإخبار بعقابهم على قصد التحيل، لإسقاط حق المساكين، بتحريم المانع في إتيانهم، وهو وقت الصبح، الذي لا يبكر في مثله المساكين عادة":

(1) انظر صحيح البخاري ـ كتاب الحيل ـ باب رقم 3

(2)

في الموافقات (1/ 289)

ص: 1474

وينبغي أن نوغل في التاريخ، إلى العصر اليهودي، لنجد حالات نموذجية من هذه الحيل الملتوية، التي تذهب في سبيل ضمان انتظام السلوك، إلى أن تبدأ بتحريف القاعدة ذاتها وتشويهها، وطيها بطريقة أو بأخرى، حسب الأهواء والشهوات، وقد أشار القرآن الكريم، إلى بعض هذه الألاعيب التي حاول بنو إسرائيل، أن يعثروا عليها، حتى يستبيحوا الصيد يوم السبت، فحفروا حياضًا تصلها قنوات بالبحر، حتى تدخلها الحيتان يوم السبت، ثم يحبسونها حتى يصيدوها في الأيام الجائز فيها الاصطياد، وهو قوله تعالى:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} (شارعة ظاهرة على وجه الماء من كل ناحية، كشوارع الطرق، دانية من الساحل، جمع شارع، من شرع عليه: إذا دنا وأشرف) .

{وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] وقد كان عقابهم بالمسخ، والتحليل واضح في فعلهم.

ويروي لنا الحديث النبوي، قصة حيلة أخرى، هي قصة الشحم، الذي كان محرمًا عليهم.، فامتنعوا عنه قاعدة، وباعوه تجارة. (قال عطاء) : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود، لما حرم الله عليهم شحومها، جملوه ثم باعوه، فأكلوه)) (1) .

وقد لعن الله اليهود بسبب فعلهم هذا وهم إنما فعلوا ذلك بقصد الحصول على المال، الذي ضرب بهم المثل في حبهم له.

قال فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة (أبو حيان التوحيدي) ، في رجل لطيف الحس، هو: أعشق للجمال من اليهودي للمال) ومنه قول حافظ إبراهيم، يصف غادة اليابان:

كنت أهوى في زماني غادة

وهب الله لها ما وهبا

ذات وجه مزج الحسن به

صفرة تنسي اليهود الذهب

ولنا أن نستنتج من ذلك، أنه عندما يحرم الله شيئًا، فإنه يحرم في الوقت نفسه، تملك ثمنه ولذلك ذم الإسلام، كسب السحرة والكهنة، والفواجر، وأجر النائحة والمغنية، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم، عن ثمن الكلب ومهر البغي، وحلوان الكاهن (2) .

وهناك حالات كثيرة، تعاطاها الناس، على رغم الشرع، في المجتمعات الإسلامية، وهي مدونة ومدروسة في المؤلفات الفقهية، تبعًا لمختلف المذاهب.

(1) صحيح البخاري تفسير سورة الأنعام، باب/رقم6/؛ والموافقات للشاطبي (2/278) .

(2)

صحيح البخاري ـ كتاب الإجارة (باب كسب البغي والإماء) .

ص: 1475

النتيجة:

يتضح من كل ما تقدم: أن الفرق بين (الذريعة) ، و (الحيلة)، هو: القصد: وعدم القصد. فالمنظور إليه في (الذريعة) ليس هو النية السيئة من الفاعل، بل هو مجرد إفضاء الفعل إلى النتيجة التي لا يقرها الشرع، ولو كان الفاعل حسن النية، وبعبارة أوجز: إن الذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة.

وأما (الحيلة: فلابد فيها من القصد. هذه واحدة. (والثانية) : يفهم من التعريفات السابقة، لكل منهما، ولا سيما تعريف الشاطبي: أن الذريعة شاملة للحيلة، وأن الحيلة تندرج تحت الذريعة.

فالنسبة بينهما، هي من قبيل العموم والخصوص، فالذريعة أعم من الحيلة، والحيلة أخص، ومن المقرر في علم المنطق: أن الأخص يسلتزم دائمًا معنى الأعم، ولا عكس. وعليه، فكل حيلة ذريعة، وليست كل ذريعة حيلة، وهذا ما يطلقون عليه، العموم والخصوص المطلق بين الشئين.

هذا، وقد ذكر الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور من الفروق بينهما: أن الحيلة يراد منها أعمال يأتيها بعض الناس في خاصة أحواله، للتخلص من حق شرعي عليه بصورة هي معتبرة شرعًا، حتى يظن أنه جار على حكم الشرع.

وأما الذريعة فهي ما يفضي إلى فساد، سواء أقصد الناس به إفضاءه، أم لم يقصدوا، وذلك في الأحوال العامة، فحصل الفرق بين الذرائع والحيل، من جهتين: جهة العموم والخصوص، وجهة القصد وعدمه، ثم أضاف قائلًا: إن الحيل لا تكون إلا مبطلة لمقصد شرعي، والذرائع قد تكون مبطلة لقصد الشارع، من الصلاح وقد لا تكون مبطلة (1) . وذكر الشيخ الجليل العلامة عبد الله دراز في تعليقه على كتاب الموافقات (ج4 ص 199) : أن هناك فرقًا آخر بينهما، وهو: أن الحيلة تجري في العقود، والذريعة أعم.

وأختم هذا الفصل، بكلمة ذهبية للفقيه الحنبلي الجليل، الإمام (ابن قيم الجوزية) ، فقد قال ـ وهو يذكر الاختلاف الصارخ بين الحيل، وسد الذرائع ـ: (

وتجويز الحيل: يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسد الطريق إلى المفسدة بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة، فأين من يمنع من الجائز، خشية الوقوع في المحرم، ممن يعمل الحيلة في التوصل إلى المحرم) (2) . وكأني بابن القيم رحمه الله ، كان يوشك أن يقول: إن الجمع بينهما كالجمع بين الحركة والسكون أو بين الضب والنون. وأن بين الكلمتين من البعد، مسيرة شهر للراكب المغذ.

(1) مقاصد الشريعة الإسلامية (صفحة/ 116) ، نشر الشركة التونسية للتوزيع.

(2)

إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج3 ص171) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد

ص: 1476

الفصل الثالث

في أقسام الذرائع وأحكامها وشروطها

يرى فقهاء المالكية، الذين يقيمون وزنًا (لقاعدة الذرائع) : أن هذه القاعدة لا تعني أن كل ذريعة يتوصل بها إلى الشيء الممنوع، تعتبر ممنوعة، بل إن في المسألة تفصيلًا، ومفتاح هذا التفصيل، عند فقيه جليل من فقهائهم، هو: الإمام القرافي (1) .

فقد ذكر أن الذرائع ثلاثة أقسام:

(أولها) : ما أجمع العلماء على سده ومنعه، من حيث يفضي كثيرًا إلى ما فيه مفسدة كحفر الآبار في طرق المسلمين، إذا علم وقوعهم فيها في غفلة أو ظلام، وكإلقاء السموم في الأطعمة، فإنه يفضي على وجه القطع أو الظن القريب منه، إلى موت من يتناول الطعام.

وكسب آلهة المشركين في وجوههم، فإنه يؤدي إلى ما فيه المفسدة، وهو سب الإله المعبود بحق، وإن كان سب آلهة المشركين في نفسه، ليس فيه مفسدة.

(وثانيها) : ما أجمعوا على إلغائه، وعدم سده، لقلة ما يفضي إليه من مفسدة، بالنسبة لكثرة ما ينتج عنه من المصلحة: كزراعة العنب، فقد يفضي إلى اتخاذ الخمر منه لشربها، فلم يمنعه الشارع؛ لأن المفسدة قليلة بالنسبة إلى الانتفاع بالعنب، من حيث أنه ثمرة طيبة من جملة الثمرات، فلا تمتد حرمة معاقرة الخمر وشربها، إلى وسيلته التي هي: زرع العنب، بل تبقى منوطة بتعاطي ما يسكر من عصيره.

وكالتجاور في البيوت، خشية الوقوع في الزنى، فهذا وأمثاله، يعد من الذرائع، التي اتفقوا على إلغائها، عدم الالتفات إليها.

(1) في كتابه النفيس الفروق ـ الفرق 85 (الجزء الثاني، صفحة 32) من طبعة عيسى الحلبي بالقاهرة وقد تصرفت بعض التصرف في عبارته

ص: 1477

(وثالثها) : ما يتردد بين أن يكون ذريعة إلى مفسدة، وبين أن لا يكون وهذا ما اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال بالمنع من هذا القسم، نظرًا إلى ما قد يفضي إليه من المفسدة، ومنهم من ذهب إلى الإغماض عنه، وعدم عده في الذرائع التي يجب سدها (كبيوع الآجال) : وذلك مثل أن يبيع البائع سلعة بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يشتريها من المشتري بخمسة نقداً (1) .

فالإمام مالك يقول بمنعها؛ لأن البائع خرج منه خمسة دراهم، وأخذ عند حلول الأجل عشرة، والسلعة قد جعلت ذريعة إلى الربا. والإمام الشافعي كان يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيته، وكان يقول: حمل المسلمين على التهم لا يجوز. (وهذا القسم مختلف فيه) ، هو الذي بحث فيه المجتهدون.

وهكذا يقرر الإمام القرافي القول في هذه (القاعدة)، ويعيده قائلًا:(ليس سد الذرائع من خواص مذهب مالك، بل منها ما أجمع عليه، وإنما الخلاف والنزاع في ذرائع خاصة فرعية، كالصور المعروفة في (بيوع الآجال) ونحوها. أي: من كل مباح أفضى إلى مفسدة غالبًا، وهذه النتيجة التي وصل إليها (القرافي) ، تلقاها كثير من الباحثين بحماسة شديدة، وقبول حسن.

(1) الفروق (ج2 ص32) ، وانظر تقسيم الإمام الشاطبي للذرائع في كتاب (الموافقات 2/ 357) .

ص: 1478

(مسألة) ـ بيوع الآجال:

هذا، وإن خطر هذه المسألة، وتنازع الفقهاء فيها، ليبيحان لنا أن نطيل الحديث قليلًا، حتى نعطي للقارئ فكرة واضحة عنها.

فلنأخذ ـ أو: بالحري: لنعد إلى مثال (عقد المخاطرة) أو: بيع العينة، أو: بيع الأجل

الذي يحاول فيه البائع، إخفاء وجه الربا القبيح، وإظهار وجه البيع الصحيح المليح، والذي نفى الإمام مالك على المالكية، أن يستبيحوه.

ونحن نعلم أن القرآن الكريم، يحرم الربا بالمعنى الأوسع للكلمة (أعني: تحريمًا قاطعًا مطلقاً) ، وهو: كل منفعة تؤخذ ممن يقرضون. ذلك لأن الإقراض ليس متاجرة، بل هو معاونة، والمعاونة يجب أن تكون نزيهة نزاهة مطلقة ومعروف أن القصد من (عقد المخاطرة) ، تقديم النقود المقترضة، في صورة ثمن بيع، وهاكم وصف العملية وتفصيلها: فالمقرض يقدم أولًا للمستقرض، سلعة يبيعه إياها بثمن مؤجل أعلى، ثم هو بعد ذلك، يشتريها منه نقدًا وبثمن أدنى، بحيث تجدنا ـ في نهاية العمليتين، في حالة الربا الصريح.

فالمستقرض يقبض نقودًا الآن، وقد استعمل خروج السلعة ودخولها، لتغطية الوجه الوقح، للكسب غير المشروع.

ص: 1479

ما قيمة هذا البيع عند الفقهاء؟

إن الأمور إذا سارت علنية، على نحو ما وصفنا، أعني. إذا كان من المتفق عليه مقدمًا بين الطرفين إعادة بيع ما سبق شراؤه للشخص نفسه، فإن اتفاق الفقهاء إجماعي على إبطال هذا البيع، باعتباره بيعًا ربويًا، ولكن إذا كنا أمام عمليتين متتابعتين، دون أن نلاحظ فيهما تواطؤا، فهل يجب أن نعتبر العمليتين عملية واحدة؟ أليس من الممكن أن تكون هناك سوقان منفصلتان، يجوز أن تكون ثانيتهما مفروضة على إثر رجوع المشتري عن رأيه فجأة، بعد فوات الأوان، ندمًا على إبرامه الأولى؟

إن من الصعب، أن نحكم بيقين على النية الباطنة العميقة لدى الناس، ولكن كيف نحكم على قضية مشكلة من هذا القبيل؟

أما المالكية، فيرون أن هذا الكسب غير مشروع، وهو ربا؛ لأن السلعة قد جعلت ذريعة للربا، وجعل هؤلاء الأئمة من المالكية علة المنع من العقد، كثرة قصد الناس منه الوصول إلى الربا، وجعلوا المنع حكمًا مطردًا، من غير نظر، إلى من يقصد الربا ومن لا يقصده؛ لأن علة الحكم، يكفي فيها أن تكون مظنونة، ولا يشترط فيها أن تكون محققة.

وأما الشافعية: فيبيحونه ويقرونه شرعًا. ويقولون: إن كلا البيعين في ذاته جائز، يمكن أن تحصل المصلحة المقصودة من البيع، وينبغي حمل حال المسلم على الصلاح، وعدم القصد إلى الربا المحرم، وما لم يقم دليل زائد على مجرد العقد، يدل على القصد إلى الممنوع، كان العقد جائزًا، وأما الحنفية، فيرون أن العقد الأول جائز وصحيح، بخلاف العقد الثاني، فإنه فاسد من حيث إنه هو الذي يتحقق به معنى الربا.

والواقع أنه لو كان ممكنًا، أن نكشف ما يجري في فكر المتعاقدين، فلربما لم نشهد هذا الخلاف الواسع، ذلك أن مالكًا من ناحيته، لا يمنع في الأحوال الاعتيادية الطبيعية، أن يبيع المرء مرة أخرى نقدًا، وبسعر أقل مما سبق أن اشتراه غالبًا وبأجل، والشافعي من جانبه، لا يوافق على أن يجعل المرء من هاتين العمليتين، مجموعًا يستهدف به الربح الدنس، قصدًا ونية، فالمشكلة منحصرة في جمع العمليتين، فهو الذي يثير الاهتمام بأن لدى صاحبيها قصدًا غير مشروع.

ص: 1480

- (وخاتمة المطاف) : أن الشافعية يرون أنه لا يجوز حمل المسلمين على التهم. ولما كانت البراءة هي الأصل، فيجب التمسك بها، إلى أن يثبت العكس.

وهذا ما أراده المالكية، فقالوا: ليس الأمر هنا أمر تهمة مطلقًا، ولكنه أمر ملاحظة وإدراك للواقع في مدلولها العقلي (1) .

والإمام (ابن قيم الجوزية) ، جعل صورة البيع المذكورة، من أمثلة (الذارئع) . ثم ذكرها في مسألة الحيل بعد ذلك، وقال: (إن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة

) .

وذكر الإمام الشافعي بخير فقال: (ومن عرف سيرة الشافعي وفضله ومكانته في الإسلام، علم أنه لم يكن معروفًا بفعل الحيل، ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشير على مسلم بها، وكان يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيته، ولو قيل للشافعي إن المتعاقدين، تواطآ على ألف بألف ومائتين، لم يجوز ذلك.)(أعلام الموقعين) .

(1) بداية المجتهد لأبي الوليد (ابن رشد) الحفيد (2/ 153) وراجع في المسألة: الهداية باب البيع الفاسد وشرح فتح القدير القدير لابن الهمام (5/ 207) المطبعة الأميرية.

ص: 1481

أقسام الذرائع عند (ابن قيم الجوزية) ، ونقدها

تناول الإمام (ابن قيم الجوزية) ، في كتابة (أعلام الموقعين) ، الذي هو أحد محاسنه على وجه الدهر، بحث (سد الذرائع) وأفاض القول فيه، ووسع العبارة، وزاد في الإسهاب والإطناب، وبالغ في التعمق والتدفق، حتى أورد تسعة وتسعين وجهًا، للدلالة على (سد الذرائع، والمنع منها، ثم قسمها إلى أربعة أقسام.

1-

القسم الأول: ما وضع للإفضاء إلى المفسدة، كشرب الخمر المفضي إلى السكر، والزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب وفساد الفراش.

2-

القسم الثاني: ما وضع للإفضاء إلى مباح، ولكن قصد به التوصل إلى مفسدة، كعقد النكاح المقصود به التحليل، وكعقد البيع الذي قصد به التوصل إلى الربا.

3-

القسم الثالث: ما وضع لمباح، لم يقصد به التوصل إلى مفسدة، ولكنه يفضي إليها غالبًا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، وذلك مثل سب آلهة المشركين في وجوههم وبين أظهرهم، وتزين المتوفى عنها زوجها في زمن العدة.

فهذه أفعال مباحة في الأصل، لما يترتب عليها من المصالح، ولم يقصد فاعلها بها مفسدة، ولكن مآلها في الغالب إلى مفسدة نهى الشرع عنها، وهذه المفاسد راجحة على مصلحة العقل.

4-

القسم الرابع: ما وضع لمباح، ولكنه قد يفضي إلى مفسدة، ومصلحته أرجح من مفسدته، كالنظر إلى وجه المخطوبة، والمشهود عليها (1) .

وهكذا يأخذ الفقيه الجليل (الذريعة) ، بمعناها الواسع، الشامل للأقسام الأربعة، ويقرر فقه الشريعة في (الذرائع) .

(1) إعلام الموقعين (ج3 ص 119)

ص: 1482

وفيما قرره وقسمه هذا الفقيه النبيه، الذي لا ينكر فضله وعلمه، أخذ ورد، وقبول ورفض ولكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة، و (كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه) ، والسبب في هذا كله، هو: تدفقه في القول وإكثاره من الصول والجول، وزيادته في التقسيم والتعميم، فوق اللزوم، والإكثار لا يسلم صاحبه من العثار، والتدفق لا يخلو من الكدورة والتورط.

1-

وأولًا: إن القسم الأول من الذرائع، وهو: ما وضع للإفضاء إلى مفسدة، كشرب الخمر، والزنى ليس من (الذرائع) ، في ورد ولا صدر، وإنما هو من باب المقاصد، ذلك لأن الزنى ـ الذي مثل به (ابن قيم الجوزية) لهذا القسم ـ متضمن المفسدة في ذاته، وليس ذريعة إلى مفسدة أخرى أكبر منه، وكذلك بقية الأمثلة.

وليس أدل على ذلك، من أن الإمام القرافي، قد جعل هذا القسم، من باب المقاصد لا الوسائل فقال: (موارد الأحكام على قسمين:

مقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها.

ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها" (1) .

(وبالجملة) : فإن الشريعة قد جاءت بالمنع من هذا القسم.

وما تمنعه الشريعة من الأفعال قسمان: قسم يشتمل بنفسه على المفسدة، كالزنى، وشرب الخمر، والقذف، والسرقة، والقتل بغير حق

وقسم لا يشتمل على المفسدة بنفسه، ولكنه يفضي إلى ما فيه المفسدة، وهذا هو الذي يسمى (ذريعة) ويسمى منعه سدًا.

ومن حكمة الشريعة الإسلامية: أنها لم تقصر النظر على ما يحتوي المفسدة بنفسه، بل وجهت نظرها إلى وسائل ما فيه المفسدة، فمنعتها. والآيات والأحاديث الواردة في الكتاب والسنة، بالنهي عن وسائل ما تقع المفسدة بوقوعه، غير قليلة، ومن شواهد هذا، ما ذكرناه من قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .

ويضاهي هذا الشاهد، قوله صلى الله عليه وسلم:((إن من أكبر الكبائر، أن يلعن الرجل والديه)) قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه)) . أخرجه البخاري في صحيحه.

ولباب القول: هو أن (القسم الثاني) : وهو ما وضع للمباح، ولكنه اتخذ وسيلة، إلى مفسدة، هو (بيت القصيدة،) ، وهذا هو السر، في أن كثيرًا من علماء الأصول، يعرفون (الذريعة) ، بما يقصرهم على هذا القسم؛ لأنه هو محل الخلاف، فيقولون: إن الذريعة: هي الأمر المباح، الذي يتخذ وسيلة إلى مفسدة. (والله تعالى أعلم) .

(1) الفروق (ج2 ص 33)

ص: 1483

حكم الذريعة:

كان الكلام في فاتحة هذا الفصل، مخصصًا لأقسام الذرائع. وقد لاحظنا أن المتحمسين من الفقهاء لهذه القاعدة، لا يتبعون دائمًا خطًا متوازيًا، فعلى حين يذكر أحدهم أنها ثلاثة أقسام كالقرافي، يعدها الآخر أربعة كابن قيم الجوزية.

وقد قمنا بتشريح الأقسام التي ذكرها هذا الأخير، وأخرجنا منها قسمًا، ليس منها في شيء، وقد استدعى هذا التعديل، انهيارًا جزئيًا، في صرح تقسيم هذا الإمام العظيم.

وعلينا الآن أن نستنبط من مجموع هذه الأقسام، حكم الذريعة، فنقول:

إن الذريعة تعطي حكم الشيء للتوصل بها إليه، وحكم الذريعة: هو حكم المقصود، فإن كان المقصود الذي تفضي إليه الذريعة فرضًا. كالحج المقصود من السعي إلى البيت الحرام، في مكة المكرمة، كانت الذريعة مثله في الفرضية، فيكون السعي فرضًا. وإن كان المقصود، الذي تفضي إليه الذريعة حرامًا، كالزنى، كانت الذريعة، وهي النظر إلى النساء حرامًا، وبهذا تكون الوسيلة إلى المحرم محرمة، والوسيلة إلى الواجب واجبة، وهذا ما نجده في التكاليف الشرعية، التي كلفنا الله بها. فإنه يعطي الوسيلة حكم الغاية، فإذا نهى الله تعالى عن شيء وحرمه، كان مقتضاه: النهي عن كل ما يتوصل به إلى ذلك المنهي عنه، وإذا أمر بشيء فمعناه، أنه أمر بكل ما يوصل إليه.

فمثلًا نهى الله تعالى عن شرب الخمر، لأنها توصل إلى العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله فقال عز وجل:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) } [المائدة: 90: 91] .

ص: 1484

ونستنتج من هذا، أن موارد الأحكام على نوعين: مقاصد، ووسائل.

فالمقاصد: هي الغايات التي تشتمل على المفاسد والمصالح.

والوسائل: هي الأمور الموصلة إلى المقاصد وتفضي إليها.

كما نستخرج: أن حكم المقاصد والوسائل متحد؛ لأن الوسيلة (وهي: الذريعة) تابعة لما تفضي إليه، فإن أفضت إلى تحريم كانت محرمة، وإن أفضت إلى تحليل كانت محللة، غير أنها أخف رتبة من المقاصد في حكمها.

ثم إن ههنا نقطة مهمة، وهي: أن الوسيلة إلى الشيء المحرم، قد تكون غير محرمة، إذا أفضت إلى مصلحة راجحة.

وبعبارة أوضح: إن الشريعة تأتي إلى الشيء يكون له وجه من الضرر، فتأمر به حيث يكون ذريعة إلى ما فيه مصلحة أكبر من ذلك الضرر، ومن هذا القبيل:

1-

بذل الماء لفداء الأسرى المسلمين:

فالمال المبذول للأعداء يزيدهم قوة، وحرام على المسلمين، أن يمدوا عدوهم ولو بمثقال ذرة من ذهب أو فضة. ولكن هذا البذل ذريعة إلى مصلحة يصغر في جانبها ضرر بذل المال للأعداء، وهذه المصلحة هي إنقاذ الأسرى المسلمين من أيد تسومهم سوء العذاب.

2-

دفع مال لرجل يأكله حرامًا، حتى لا يزني بامرأة مسلمة.

فهذا الفعل يعد ذريعة إلى مفسدة، وهي: أكل مال المسلم بالباطل، إذ لا يستحق أحد أجرًا على ترك الفسوق والفجور، ولكن هذا الفعل أجيز لما يؤدي إليه من المصلحة الراجحة، وهي حفظ عرض المسلمة ومنع وقوع الفاحشة، ومصلحة حفظ الأعراض أهم في نظر الشارع، من مفسدة دفع المال إلى أن يأكله باطلًا.

3-

دفع المال للمحارب، حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال:

فهذا أيضًا ذريعة إلى مفسدة أكل المال بالباطل، ولكنه لم يمنع منه، نظرًا لأن هذا الدفع، يترتب عليه مصلحة أكبر، وهي: منع القتل.

ص: 1485

فهذه الصور الثلاث، كان الدفع من أجلها وسيلة إلى المعصية بأكل المال، ومع ذلك فهو مأمور به، لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة (1) .

هذا بعض ما يستخلص من كلام الإمام القرافي، في حكم الذريعة، وتوفية للبحث وإتمامًا له، أعرض بعض أنواع الذرائع وأحكامها عند الإمام أبي إسحاق الشاطبي، والأنواع التالية، تعطينا فكرة مجملة عن أحكامها.

(وأولها) : الوسيلة (أو: الذريعة) التي تفضي إلى ما فيه مفسدة قطعًا.

وذلك كحفر بئر خلف باب الدار في الظلام، بحيث يقع فيه كل من يدخل إلى الدار، لا محالة، فحكم هذا النوع: المنع إجماعًا.

(وثانيها) : الذريعة التي تفضي إلى ما فيه مفسدة غالبًا.

وذلك كبيع السلاح في زمن الفتن والحروب، وبيع العنب للخمار (الذي يصنع خمراً) وحكم هذا النوع: هو سد هذه الذريعة وتحريمها في مذهب مالك، وأحمد.

(وثالثها) : الذريعة التي تفضي إلى ما فيه المفسدة كثيرًا.

ومعلوم أن الكثير، لا يبلغ درجة (الغالب) . ومثال هذا النوع بيوع الآجال، والعينة وهذا النوع موضع نظر والتباس (وقد بسطنا القول فيه، فيما مضى من هذا الفضل، وذكرنا تنازع العلماء فيه وتدارءهم. فارجع إليه) .

(ورابعها) : الذريعة التي تفضي إلى ما فيه المفسدة نادرًا.

وذلك كحفر بئر في موضع، لا يؤدي في الغالب إلى وقوع أحد فيه، وحكم هذا النوع: هو الإلغاء وعدم الالتفات إليه؛ لأنه نادر (والنادر لا حكم له) كما يقولون: وخلاصة الكلام في هذا المقام، هو: أن الذريعة التي تفضي إلى المفسدة، تمنع إذا كان إفضاؤها إليها قطعيًا أو غالبًا أو كثيرًا، ولا تمنع ولا تعتبر إذا كان الإفضاء للمفسدة نادراً (2) .

(1) راجع في هذا كله الفروق للقرافي ـ الفرق 58 (ج2 ص 32 ـ 33) .

(2)

راجع الموافقات في أصول الأحكام للإمام الشاطبي (ج2 ص 357) بتحقيق الشيخ العلامة عبد الله دراز

ص: 1486

- (تتمة وفائدة مهمة) :

وأخيرًا أرجو وآمل: أن تحتمل لي هذه التتمة والفائدة المهمة، ولا أزيد وسأجعلها طويلة، ولا أعود.

والذي أعنيه هنا: هو التنبيه على أن شيئًا من الصور والأنواع التي ذكرتها، لم تكن مفسدة في نفسها، أو ما يسمى محرمًا لذاته، بل كل ما في الأمر، أنه كانت ذريعة إلى المفسدة. وهي في الوقت نفسه، تحقق مصلحة أكبر من مفسدتها وأما إذا كان الفعل محرمًا لذاته، فإنه يمنع منعًا باتًا قولًا واحدًا.

ذلك لأن الحرام القطعي لا يمكن أن يأتي بالحلال، وإن الشر لا يمكن أن يصبح خيرًا؛ لأن الله عز وجل، لم يحرم شيئًا لذاته، ثم يرتب عليه مصلحة راجحة، وعليه. فإن الذي يسرق ليبني مسجدًا يرتكب إثمًا يوجب عليه حدًا؛ لأن السرقة فعل محرم لذاته، ويتضمن المفسدة في نفسه.

ومثله: المرأة الفاجرة، التي أرادت أن تتصدق بكسبها الخبيث!! (والقصة مشهورة) .

ص: 1487

شروط الذرائع:

قد علمنا مما سبق: أن وسيلة المحرم محرمة، وأن ما يؤدي إلى المفسدة ممنوع غير مشروع، ووضح لنا وضوحًا تامًا، أن قاعدة الذرائع، تعمل عملها، إذا كان الفعل الجائز المشتمل على مصلحة، يؤدي غالبًا إلى مفسدة، تساوي مصلحة هذا الفعل، أو تزيد. ويمكن القول إجمالًا: بأن الفقهاء قد قيدوا تطبيق هذه القاعدة بثلاثة قيود، أو ثلاثة شروط:

الأول: أن يؤدي الفعل المأذون إلى مفسدة.

الثاني: أن تكون تلك المفسدة راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه.

الثالث: أن يكون أداء الفعل المأذون فيه إلى المفسدة كثيرًا.

وهذا بيانها:

الشرط الأول: إن الفعل المأذون فيه، فعل يتضمن مصلحة، ومن هنا، لا يجوز المنع من هذا الفعل، طالما أن هذا الفعل يحقق تلك المصلحة، ولا يؤدي إلى مفسدة، تقطع هذه المصلحة. أما إذا كان هذا الفعل ذريعة إلى المفسدة، فإن الشرع يمنع منه، وذلك لتعارض مصلحة الفعل مع المفسدة التي يؤول إليها.

وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة، قدم درء المفسدة، على جلب المصلحة. تطبيقًا لقاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وفي هذا يقول الشاطبي:" لا مصلحة تتوقع مطلقًا. مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد عليها"(1) .

وهذا الشرط يبدو واضحًا من تعريف الذريعة الممنوعة: بأنها " التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة ". أو: " الذريعة بفعل جائز على عمل غير جائز ". أو: " المنع من الجائز لئلا يتوصل به إلى الممنوع"(2) . هذا هو الشرط الأول للذريعة.

الشرط الثاني: أن تكون المفسدة المتذرع إليها، بالفعل المشروع، مساوية، أو: راجحة على مصلحة ذلك الفعل. (يوضحه) : أن الفعل المشروع إذا كان يحصل مصلحة، ولكنه ذريعة إلى ما فيه مفسدة، فإن هذا الفعل ممنوع، وتلك الذريعة تسد إذا كانت المفسدة التي يتذرع بالفعل المشروع إليها، موازية لمصلحة الفعل وتزيد عليها.

وأما إذا أربت مصلحة الفعل المشروع على مفسدته، فإن الفعل لا يمنع، والذريعة لا تسد. وفي هذا يقول القرافي: " وقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة، إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع به، وكدفع مال لرجل يأكله حرامًا، حتى لا يزني بامرأة مسلمة، إذا عجز عن دفعه عنها إلا بذلك (3) .

الشرط الثالث: أن يكون أداء الفعل المأذون فيه إلى المفسدة كثيرًا. فقاعدة الذرائع: لا تعني أن كل ذريعة إلى ممنوعة. بل إن في المسألة تفصيلًا، فالذرائع على أقسام كما عرفت. (منها) ما أجمعت الأمة والأئمة على سده، (ومنها) ما أجمعوا على إلغائه وعدم سده، و (منها) ما اختلفوا فيه.

وقد أفضت القول فيه فيما مضى، فلا أعيده، تجنبًا للتكرار، وفي هذا القدر كفاية والإشارة تغني عن العبارة، والسلام.

(1) الموافقات (ج4 ص196

(2)

الموافقات (ج3 ص 267 و (ج 4 ص 198 ـ 199)

(3)

الفروق للقرافي (ج3 ص 33) راجع الموافقات 2/ 352 فقد ضرب على ذلك أمثلة

ص: 1488

الفصل الرابع

موقف أئمة الفقه الإسلامي من الاحتجاج

بسد الذرائع وتحرير محل النزاع في ذلك

حقائق أساسية:

لا بد ـ قبل كل شيء ـ من تحرير هذا الموضع، قبل تقريره، ليزول الالتباس فيه. وإنه بوسعنا ـ بتأييد الله وتسديده ـ أن نقدم للقارئ مباشرة، جملة من الحقائق، لا تسبق فيها المقدمات نتائجها، ولا الأحكام مسبباتها. فنقول:

إن من تبصر في مذاهب الأئمة الفقهاء، يجد أنهم لم يختلفوا في أن (سد الذرائع) ، من أصول الشريعة وقواعدها، وإنما نجدهم قد اختلفوا في بعض الفروع، فيذهب بها بعضهم نحو (سد الذرائع) ويرجع بها بعضهم الآخر، إلى أصل غير هذا الأصل.

ولدينا في هذا المقام، كلام أقطع من الحسام، يقدمه لنا الإمام أبو إسحاق الشاطبي، قائلًا:" إن سد الذرائع أصل شرعي قطعي. متفق عليه في الجملة، وإن اختلف العلماء في تفصيله، وقد عمل به السلف، بناء على ما تكرر من التواتر المعنوي، في نوازل متعددة دلت على عموميات معنوية، وإن كانت النوازل خاصة، ولكنها كثيرة"(1) .

ولقد استطاع الشاطبي، في تحليله العميق، لهذه القاعدة، أن يكشف لنا عن قاعدة سد الذرائع، وأنها مشروعة مطلوبة، وأن السلف جروا في تفصيل بعض الأحكام، على أصل سد الذرائع.

ومستندهم في تحقيق هذا الأصل، ما ورد في الكتاب والسنة، من الأحكام العائدة إلى هذا الأصل.

(1) الموافقات (ج3 ص 61)

ص: 1489

وهذه الأحكام، وإن كان كل واحد منها، متعلقًا بنازلة (أي: واقعة، أو حادثة) خاصة، فقد بلغت من الكثرة، ما يدل على قصد الشارع، إلى (سد الذرائع) الفساد.

فتكون هذه الأحكام الكثيرة، بمنزلة قول عام يرد في القرآن، أو السنة، مصرحًا ببناء الأحكام على سد الذرائع.

وفي هذا المعنى يقول الشاطبي (1) :

" والعموم إذا ثبت، فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط، بل له طريقان:

(أحدهما) : الصيغ إذا وردت، وهو المشهور في كلام أهل الأصول.

(والآخر) : استقراء مواقع المعنى، حتى يحصل منه في الذهن، أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم، المستفاد من الصيغ".

ويردف قائلًا:

" إن قاعدة الذرائع، إنما عمل السلف بها، بناء على هذا المعنى، كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها، وكإتمام عثمان الصلاة في حجة بالناس، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به، من (سد الذريعة) .

وقد سلك الإمام (ابن قيم الجوزية) ـ الذي يعتبر بحق حاملًا لواء الدعوة إلى سد الذرائع، ومنع الحيل ـ في الاستدلال على قاعدة سد الذرائع الطريق نفسه، الذي سلكه الشاطبي، فقررـ بعد أن حررـ: أن قاعدة سد الذرائع من القواعد القطعية في الدين، وأن الشارع اعتبرها في التشريع، وسار عليها في تفريع الأحكام، وعرفت ملاءمتها، لجنس تصرفات الشارع، لا من دليل واحد، ولا من نص معين، بل جملة نصوص، ومجموعة أدلة تفوق الحصر، وتفيد في مجموعها القطع، وذكر تسعة وتسعين دليلًا على صحة دعواه واستقرائه (2) .

والذي نستخلصه من كلام هذين الإمامين الجليلين: أن قاعدة سد الذرائع، من القواعد القطعية، التي أجمع الأئمة على اعتبارها والعمل بها، في التشريع والتفريع. وإنما الخلاف بينهم ينحصر في تحقيق مناط هذه القاعدة.

(1) الموافقات (ج3 ص 298) ، و (ج3 ص 304*

(2)

انظر في هذه الأدلة والأوجه: إعلام الموقعين (ج3 ص 149 ـ 171)

ص: 1490

ولقد فهم كثير من الفقهاء هذه المعاني، وتلقوها بقبول حسن، وطبقوها في كثير من الفروع الفقهية، ما بين مكثر في الأخذ بها، وبين مقل ومتوسط، ولكن الفقيه الشافعي الكبير (ابن السبكي) صاحب كتاب جمع الجوامع في الأصول، قد رفض الأخذ بها بشدة، واستهواه المضي في المراء، وجذب معه بعض الفقهاء إلى بعيد، وراح يقول:(الذرائع: هي الوسائل، وهي مضطربة اضطرابًا شديدًا، فلا يمكن دعوى كلية باعتبارها، ولا بإلغائها " (1) .

فقيل له: إن إمامك الشافعي وقدوتك، قد قال في (إحياء الموات من كتابه الأم) بعد أن ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم:((ومن منع فضل الماء، ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته)) .

قال الشافعي: (فإذا كان هذا هكذا، ففي هذا ما يثبت، أن الذرائع في الحلال والحرام، تشبه معاني الحلال والحرام)(قال ابن السبكي) : هذا كلام الشافعي. وقد تأملته فلم أجد فيه متعلقًا قويًا، لإثبات قول سد الذرائع" (2) .

ولعمري! من ذا الذي لا يرى في كلام الإمام (ابن السبكي) ، سفسطة ومخرقة ومكابرة!!؟ واستمع لما يقوله الإمام القرافي، الذي ولد في بحبوحة (سد الذرائع) منذ كان في المهد صبيًا.

" يحكى عن المذهب المالكي، اختصاصه بسد الذرائع، وليس كذلك، بل منها ما أجمع الناس على سده، ومنها ما أجمعوا على عدم سده، وإنما النزاع في ذرائع خاصة، وهي (بيوع الآجال) ونحوها".

يعني: من كل مباح يتذرع به إلى مفسدة ثم أورد إشكالًا، فقال: " وحينئذ يظهر عدم فائدة استدلال الأصحاب (يعني المالكية) ، على الشافعية، في سد الذرائع بقوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] . وبقوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] .

وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها)) . الحديث. وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين وتحريمهما مجتمعين، لذريعة الربا.

(1) تكملة المجموع (ج10 ص 158 وما بعدها) من الطبعة المنيرية بالقاهرة.

(2)

تكملة المجموع (ج10 ص 158 وما بعدها) من الطبعة المنيرية بالقاهرة.

ص: 1491

ومنع شهادة الآباء للأبناء وبالعكس فهذه وجوه كثيرة، يستدلون بها وهي لا تفيد فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا مجمع عليه.

وإنما النزاع في ذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن نذكر أدلة خاصة، لمحل النزاع، وإلا فهذه لا تفيد.

وإن قصدوا (يعني المالكية) القياس على الذرائع المجمع عليها، فينبغي أن يكون حجتهم القياس خاصة، ويتعين حينئذ عليهم إبداء الجامع (يعني بين الأصل والفرع) ، حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق (أي حتى يتمكن الشافعية من إبطاله) ، والمالكية لا يعتقدون أن دليلهم هو القياس وحده، بل يصرحون بأن مدركهم (أي: دليلهم) هو النصوص التي قضت بسد الذرائع جملة، وليس ذلك بصحيح، بل على المالكية أن يذكروا، نصوصًا أخرى خاصة بذرائع بيع الآجال ويقتصرون عليها (1) .

ويعترض الإمام الشاطبي ـ وهو من شيعة الإمام القرافي، ومن أهل مذهبه ـ قائلًا: إن إشكال القرافي، غير وارد ذلك لأن العام الاستقرائي يقوم مقام العام المستفاد من الصيغة، ولأن الذرائع قد ثبت سدها في خصوصيات كثيرة بحيث أعطت في الشريعة، معنى السد مطلقًا عامًا، وخلاف الشافعي هنا غير قادح، ولا خلاف أبي حنيفة.

أما الشافعي: فالظن به أنه تم له الاستقراء في سد الذرائع على العموم، ويدل لذلك قوله بترك الأضحية، إعلامًا بعدم وجوبها، وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة، لكن عارضة في مسألة (بيوع الآجال) دليل آخر رجح على غيره فأعمله، فترك سد الذريعة من أجله، وإذا تركه لعارض راجح، لم يعد مخالفًا.

وأما أبو حنيفة: فإنه ثبت عنه جواز إعمال الحيل، لم يكن من أصله في بيوع الآجال، إلا الجواز، ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع، وهذا واضح، إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها (يعني بيوع الآجال) وإن خالفه في بعض التفاصيل، وإذا كان ذلك كذلك، فلا إشكال (2) .

وبهذه البينات من أبي إسحاق الشاطبي، نختتم هذا الفصل، سائلين الله تعالى، التوفيق لأقوم طريق.

(1) الفروق للقرافي (ج3 ص 226) . وقد تصرفت بعض التصرف في عبارته، بغية الإيضاح.

(2)

الموافقات (3/ 305) .

ص: 1492

الفصل الخامس

في الكلام على موقف المذاهب الفقهية

من قاعدة الذرائع عمومًا، والمذهب المالكي خصوصاً

إن نظرة سريعة نلقيها على عنوان هذا الفصل، والفصل الذي تقدمه، كافية لنلحظ فيها تماثلًا واضحًا بين الفصلين، فهذا الفصل في حقيقته ومضمونه، ومبناه ومعناه، لا يخرج عن الفصل السابق، وإنما أفرد عنه، وجعل مستقلًا بنفسه، لتفصيل ما أجمل هناك، وتحقيق ما أغفل، ثم لأمر آخر، وهو: معرفة ما إذا كان المذهب المالكي قد اختص بسد الذرائع وحده، وانفرد بها دون غيره، من بين المذاهب الفقهية الأخرى، أم شاركه في الأخذ بها واعتبارها، سائر المذاهب الفقهية المعنية؟!

وينبغي للإجابة عن هذا السؤال، أن نشمر عن ساعد الجد، لعرض موقف المذاهب بإيجاز، باستثناء مذهب الشافعي، فنعني في عرضه بشيء من البسط، توضيحًا لموقفه الحقيقي، وواقع أمره.

مذهب المالكية ـ والحنابلة:

أما المالكية، فلسنا في حاجة إلى إجهاد أنفسنا في البحث كثيرًا من أجل الوقوف على موقفهم من هذه القاعدة، فموقفهم معروف ومكشوف وقد كفانا إياه الإمام الشاطبي، بقوله:" إن قاعدة سد الذرائع، حكّمها مالك في أكثر أبواب الفقه"(1) . فهذه بينة كافية لتأكيد أن هذه القاعدة، قد أخذت حظها من المكانة والوجاهة عند المالكية.

أما الحنابلة قد أغنانا عن موقفهم من هذه القاعدة الأصولية، شيخ الإسلام " ابن تيمية " وتلميذه " ابن القيم " بل قد بلغت الحماسة بهذا الأخير مداها، مثل لها في إعلام الموقعين (2) ، بتسعة وتسعين مثالًا للدلالة عليها وتأييد العمل بها، وقال:(إن سد الذرائع المفضية إلى الحرام، ربع الدين) .

ونقل القرطبي في تفسيره، رواية عن الإمام أحمد، أنه يقول بها. فالحنبلية نحوًا منحى المالكية، في اعتبار سد الذرائع أصلًا يعتمد عليه، في تقرير الأحكام الشرعية.

(1) الموافقات (ج4 ص 195)

(2)

(ج3 ص119 وما بعدها)

ص: 1493

مذهب الحنفية:

وأما الحنفية، فإن الدارس لأصولهم وقواعدهم، يجدهم لا يعدون هذا الأصل من أصولهم، ولكن إن صح عنهم جواز إعمال (الحيل) لم يكن من أصلهم في (بيوع الآجال) ، إلا الجواز، ولا يلزم من ذلك تركهم لأصل (سد الذرائع) إلا أنه نقل عن أبي حنيفة موافقته مالكًا في سد الذرائع فيها، وإن خالفه في بعض التفاصيل (1) .

ثم إنهم راعوا سد الذرائع، وعملوا بها في كثير من الفروع الفقهية عندهم. وإذا كان هذا هكذا، فمن دينهم ندينهم، ذلك لأن الذي يقر صحة الفروع، يلزمه التسليم بصحة أصولها.

بيد أن أكثر ما يدهش في موقف الحنفية، هو: أنه قليلًا ما يتفق مع نظريتهم العامة الكثيرة الاعتماد على الرأي والعقل. فنحن نعلم كيف كانوا في مواجهة النصوص الشرعية، يمتازون بثاقب الفكر، محاولين دائمًا، أن يدركوا علتها، ومستعملين غالبًا التعليل بالقياس، وربما أفرطوا في استعماله، ولكنهم ـ وا اسفا، حين يتعرضون لتفسير عقد، أو نذر، وبصفة عامة كل ما يقتضي جزءا، أو كفارة، فإنهم يمسكون عن كل تفسير، ويقبلون الوسائل الملتوية، بشرط واحد فقط، وهو: ألا تتعارض هذه الوسائل مع النص الجامد للقاعدة المقررة (2) .

ومن هنا فهم الحدة والقسوة، عند (ابن حزم) حين ذهب إلى حد اتهامهم بأنهم طريقتهم هذه يشجعون على الرذيلة، ويعلمون المجرمين كيف يرتكبون كل ما يريدون، من السرقة، وهتك العرض، وقتل النفس، وهم آمنون من إقامة الحد عليهم، حتى ولو أنهم أخذوا في حالة التلبس.

الواقع أن (ابن حزم) في حدة اعتراضاته، لم يصل إلى حد اتهام الحنفية في تسويغ الحيل، تعمدًا وتعديًا على الشرع، وإنما كل ما يأخذ عليهم هو أنهم، يفوتون بعض الوقائع الإجرامية، بحجة عدم وجود بعض شروط العقوبة، وربما كانت هذه نقطة ضعفهم.

(1) الموافقات للشاطبي (ج3 ص 305) والهداية (باب البيع الفاسد) ، وشرح فتح القدير لابن الهمام (ج5 س 207) المطبعة الأميرية بالقاهرة

(2)

راجع المحلي لابن حزم (11/ 302

ص: 1494

موقف الإمام الشافعي، من (سد الذرائع) .

وهذا أوان التشمير عن ساعد الجد، والآن (حمي الوطيس) . ولكن ماذا عساي أن أقول، عن موقف إمام همام، من أصل من الأصول، إذا كان هو أول من أصل الأصول في كتابه المدهش (الرسالة) ، وأول من طبق الفروع على هذه الأصول، في كتابه العجب العجاب (الأم) .

حسبي أن أنوه بفضله، وأشيد بعمله، وأذكر النقول المضطربة عنه، من الذين درسوا فقهه، وأفندها، وكفى.

أما تحديد موقفه من هذا الأصل، فقد حدده هو رضي الله عنه نفسه، من أول الأمر، وسيأتيك بيانه بعد قليل، بإذن الله وتوفيقه، وإذا قد تمهد لنا هذا، فلنأخذ في بيان ما نحن فيه، فنقول:

إن المسألة واحدة من ثلاث:

1-

إما أن يكون الشافعي، لا يسد الذرائع ولا يعتبرها أصلًا يعول عليه، ولا يعطي الوسيلة حكم المقصد كما زعم (ابن قيم الجوزية) في كتابه (أعلام الموقعين: ج3 ص146) .

2-

وإما أن يكون من الآخذين بهذا الأصل، في بعض الفروع الفقهية، دون بعض، كما ادعى القرافي في كتابه الفروق (2/ 32) وكتابه الآخر تنقيح الفصول (ص/ 200) .

3-

وإما أن يكون من الآخذين بها مطلقًا، كما يرى الشاطبي في كتاب الموافقات (3/ 305) فقد أشار إلى أن دراسته لفقه الشافعي، دلته على أن الشافعي إذا ترك العمل بهذه القاعدة ولم يأخذ بها في بعض الفروع، فإن ذلك يرجع إلى وجود دليل راجح على هذه القاعدة في نظره.

ص: 1495

فالمسألة الأولى: غير مقبولة، والثانية غير معقولة، والثالثة فيها كلام.. ودونك البيان.

1-

ليس بنا حاجة إلى استنباط رأي الشافعي من بعض الفروع؛ لأن ما تعين أصولًا، تعين تقديمه شروعًا، وإنما يكون ذلك، إذا جعلنا الفرع هو المأموم، والأصل هو الإمام.

وأما أن نجعل الفروع أصلًا، ونرد الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه، فذلك عندنا من أراد الرأي، وأسوأ الطرق. ذلك لأن الشافعي نفسه قد نص صراحة في كتابه الأم، على الأخذ بقاعدة سد الذرائع، واعتبارها أصلًا من أصول الفقه.

2-

وأما أنه رضي الله عنه ، لم يسد الذرائع في بعض الفروع، فلأن مناطًا لقاعدة غير متحقق في هذه الفروع، وليس لعدم حجية القاعدة فيها، ولا لوجود الدليل الراجح عنده فيها، فقط.

3-

وهاك الآن نص الشافعي على اعتباره لهذا الأصل، الذي نحوم حوله ولم نرده، ونصفه دون أن نقطفه.

قال الشافعي في (إحياء الموات، من كتاب: الأم) ـ بعد أن ذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من منع فضل الماء، ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته)) . ففي هذه دلالة على أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله، لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى.

ص: 1496

(قال الشافعي) : فإن كان هذا هكذا، ففي هذا ما يثبت: أن الذرائع إلى الحلال، والحرام، تشبه معاني الحلال والحرام. اهـ، كلام الإمام الشافعي. وليس من وراء هذا القول، قول:(ليس وراء عبادان قرية) . وبه يكون آخذًا بسد الذرائع، في كل حادثة يتحقق مناط الأخذ بها.

وقد سار بعض الأئمة من فقهاء الشافعية، على نهج إمامهم. وأكدوا أن هذا الأصل، من الأصول التي يعول عليها، في بيان حكم النوازل والحوادث، التي تجد إذا لم يكن هناك نص دل على حكم فيها بعينها.

ومن هؤلاء الأئمة، سلطان العلماء، العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج1 ص 170)، فقد أفاد:

" الوسيلة إلى أرذل المقاصد، أرذل الوسائل، فالتوسل إلى القتل، أرذل من التوسل إلى الزنى، والتوسل إلى الزنى، أقبح من التوسل إلى أكل الأموال بالباطل، والإعانة على القتل بالإمساك، أقبح من الدلالة عليه. والنظر إلى الأجنبية محرم، لكونه وسيلة إلى الزنى، والخلوة بها أقبح من النظر إليها، وهكذا تختلف رتب الوسائل، باختلاف قوة أدائها إلى المفاسد.

(وقال) : " وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، لا من جهة كونه معصية بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة، وله أمثلة:(منها) : ما يبذل من الأموال، لافتكاك الأسرى، فإنه حرام على آخذه، مباح لباذله.

(ومنها) : أن يكره امرأة على الزنى، ولا يتركها إلا بافتداء من مالها أو مال غيرها، فيلزم ذلك عند الإمكان.

ص: 1497

وليس هذا عند التحقيق، معاونة على الإثم والعدوان، والفسوق والعصيان، وإنما هو إعانة على درء المفاسد، فكانت المعاونة على الإثم والعدوان، فيها تبعًا لا مقصود".

فقد تناول (ابن عبد السلام) بهذا الكلام قاعدة الذرائع، أو جوانب منها، وحدد نطاق الأخذ بها كالإمام القرافي.

فابن عبد السلام يقرر أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أشرف الوسائل، وإلى أرذل المقاصد، أرذل الوسال. والقرافي يقول:" الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسط"

وفي المعاونة على الإثم والعدوان، نجد القرافي يقول عن هذا الجانب " وقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، وضرب الأمثلة نفسها التي ضربها العز بن عبد السلام ".

ولباب القول: أن كلام العز بن عبد السلام الفقيه الشافعي، يتفق مع كلام القرافي الفقيه المالكي، فيما يتعلق بقاعدة الذرائع ونطاق الأخذ بها وأن ذلك يتفق أيضًا مع ما نص عليه الشافعي في كتاب الأم من الأخذ بها واعتبارها دليلًا. وأن (سد الذرائع) ، ليس من خواص مذهب مالك، كما يتوهمه كثير من المالكية (وغيرهم) . بل منها ما أجمع على سده ومنها ما أجمع على إلغائه، وإنما النزاع في ذرائع خاصة، وهي: بيوع الآجال ونحوها " (الفروق" ج3 ص 266) .

ص: 1498

طائفة مختارة من الأمثلة التطبيقية لهذه القاعدة الأصولية،

من مختلف المذاهب الفقهية

وبعد أن أصبح معلومًا لدينا، موقف الأئمة المجتهدين من هذا الأصل، وأنهم جميعًا قد لجأوا إليه في في أحكامهم وقرروها على أساسه، ما بين مكثر منهم، ومقل ومتوسط، نورد هنا بعض الفروع الفقهية، من مختلف المذاهب، وذلك تأييدًا أو توكيدًا لما اتفقوا عليه، من أن (سد الذرائع) من أصول الشريعة، وأنه لا غنى لأحد من الرجوع إليه والعمل به.

1-

ونبدأ بالحنفية:

أ - فمن شواهدهم التي قرورها: أن للزوجة التي طلقها زوجها طلاقًا بائنا، دون رضاها، في مرض موته. حق الإرث من زوجها الذي طلقها، لكيلا يتخذ من حقه في الطلاق، ذريعة إلى حرمان الزوجة ميراثها المشروع، عند يأسه من الحياة، بقصد المضارة (وهذا الطلاق يسمى عندهم: طلاق الفار) .

ب - ومنها أنهم كانوا يكرهون إتباع صوم رمضان، بصوم ستة أيام من شوال؛ مخافة أن يعتقد العامة، أنها في حكم صوم رمضان. (بدائع الصنائع: 2/78) .

ج- ومنها قضاء القاضي لمن يتهم فيه من ذوي رحمه، فقد ذكر السمرقندي: أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه، ولا لأبويه وإن علوا، ولا لزوجته، ولا لأولاده وإن سفلوا، ولا لكل من لا تجوز شهادته لهم. وذلك سدًا لذريعة، ومنعا للشبهة. (تحفة الفقهاء: ج3 ص 639) .

د- ومنها شهادة الزوج لزوجته، وبالعكس. فقد ذهب أبو حنيفة إلى عدم قبول شهادة أحد الزوجين للآخر، وذلك سدًا للذرائع وردًا للتهمة؛ لأن النفع بينهما، وكل منهما يرث الآخر ويستفيد من ماله. (الهداية وشرحها فتح القدير: ج6 ص32) .

ص: 1499

2-

المالكية:

أ- قضاء القاضي بعلمه:

ومثاله: استناد القاضي في الحكم، إلى ما يعلم من حال القضية ترفع إليه، فالمالكية ذهبوا إلى أن القاضي لا يقضي بعلمه مطلقًا وأوجبوا عليه الرجوع إلى البينات والوقوف عندها؛ مخافة أن يتخذ قضاء السوء، الذين لم تشرب قلوبهم التقوى، الاستناد إلى علمهم، ذريعة إلى الجور في القضية، فيفصل فيها اتباعًا للهوى، ويزعم أنه يعلم منها، ما لم تعلمه البينة.

نقل الشوكاني في (نيل الأوطار)، عن أبي علي الكرابيسي: أنه لا يقضي القاضي، بما علم لوجود التهمة، ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه: أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط، أن يرجمه، ويدعي (القاضي) : أنه رآه يزني، أو يفرق بينه وبين زوجته، ويزعم أنه سمعه يطلقها. فإن هذا الباب لو فتح، لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه. والتفريق بينه وبين زوجته، ومن هنا قال الشافعي: لولا قضاة السوء، لقلت: إن للحاكم أن يحكم بعلمه.

(المهم) : إن استناد القاضي إلى علمه متردد بين أن يكون وسيلة إلى حفظ الحق وأن يكون ذريعة إلى مفسدة الجور في القضاء، والمحققون من الفقهاء على سد الذريعة في مثل هذا الفرع (1) .

(1) راجع بداية المجتهد (ج2 ص458)

ص: 1500

ب- بيوع الآجال:

وقد مثلوا له برجل يبيع لآخر سلعة بمائة إلى أجل، ثم يشتريها منه نقدًا بخمسين فالإمام مالك يقول: إن ذلك ممنوع، والبيع فاسد، فإن العقد نفسه يحمل الدليل على قصد الربا، وذلك لأن مآل هذا التعاقد هو بيع خمسين نقدًا بمائة إلى أجل، والسلعة فيما بين ذلك ذريعة إلى الربا. وجعل المالكية علة المنع من هذا العقد قصد الناس منه الوصول إلى الربا، وجعلوا المنع حكمًا مطردًا من غير نظر إلى من يقصد الربا ومن لا يقصده (1) .

ج- بيع العنب للخمار (صانع الخمر) :

فإنه يفضي إلى مفسدة تعاطي شربها، وللحاكم المسلم أن يمنع بمقتضى هذا من زرع المخدرات والاتجار بها، ويضع على ذلك أشد العقاب.

د- ومن هذا (بيع السلاح في زمن الفتن) . وذلك سدًا لذريعة الإعانة على المعصية.

هـ- تضمين الصناع.

يخرجه القرافي على قاعدة الذرائع، فيقول: إن الصناع لا يضمنون في الأصل. ولكن لما كان عدم تضمينهم ذريعة إلى أن يتعدوا ويقصروا ويدعوا التلف والهلاك، ولم يعفوا من الحكم بالضمان.

و النظر إلى المرأة الأجنبية:

فإنه يؤدي إلى الزنى، فيحرم سدًا للذريعة.

(1) راجع بداية المجتهد لابن رشد، وقوانين الأحكام الشرعية (كتاب بيوع الآجال، والبيوع الفاسدة) .

ص: 1501

3 -

الشافعية:

تطبيقات الشافعية على قاعدة (سد الذرائع) غير قليلة، وهذا بعضها:

1-

لو أحاط الكفار المسلمين، ولم يستطيعوا المقاومة، جاز لهم أن يدفعوا المال للكفار المحاصرين لهم.

وكذا استنقاذ الأسرى منهم بالمال، إذا لم يمكن غيره؛ لأن مفسدة بقائهم في أيديهم واصطلامهم للمسلمين، أعظم من بذل المال، (راجع الأشباه والنظائر للسيوطي ـ صفة 78) .

2-

ما حرم أخذه، حرم إعطاؤه، كالربا، ومهر البغي، والرشوة، وأجرة النائحة، ويستثنى من ذلك: رشوة الحاكم للوصول إلى الحق، وفك الأسير، الأشباه والنظائر للسيوطي: صفحة 153) فهذه القاعدة تفريع على قاعدة الذرائع حيث كان الأخذ مفسدة محرمة، وكان الإعطاء ذريعة إلى هذه المفسدة المحرمة فحرم.

3-

نبش الأموات مفسدة محرمة، لما في ذلك من انتهاك حرماتهم، لكنه واجب إذا دفنوا بغير غسل، أو وجهوا إلى غير القلبة؛ لأن مصلحة غسلهم وتوجيههم إلى القبلة، أعظم من توقيرهم بترك جثثهم وعدم نبشها.

وكذلك شق جوف المرأة على الجنين المرجو حياته؛ لأن حفظ حياته، أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة جثة المرأة (قواعد الأحكام 1/ 87) .

4-

بيع السلاح للحربي، باطل عند الشافعية لأنه ذريعة إلى المفسدة، وإن كان البيع في ذاته مصلحة، إلا أن مفسدة الفعل أرجح من مصلحته، فمنع منه وبطل. (الأشباه والنظائر صفحة 328) .

ص: 1502

4-

الحنابلة:

حامل راية الحنابلة في سد الذرائع، هو الإمام ابن قيم الجوزية " ولقد أورد تسعة وتسعين وجهًا للدلالة عليها والمنع منها. وسوف أذكر طائفة منها:

1-

أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية، ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين، سدًا للذريعة ما يحذر من الفتنة وغلبة الطباع.

2-

أنه صلى الله عليه وسلم، حرم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها؛ لأن ذلك ذريعة قطيعة الحرم.

3-

إن القاضي ممنوع من القضاء بعلمه، لئلا يكون ذلك ذريعة، إلى حكمه بالباطل، ويقول: حكمت بعلمي.

4-

قال الإمام أحمد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة، ولا ريب أن هذا من باب سد الذريعة؛ لأن في بيعه إعانة له على المعصية، وعلى الإثم والعدوان، وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو معاوضة تعين على المعصية، وفي معنى هذا عصر العنب لمن يتخذ خمرًا، فإنه ذريعة إلى شربها، والامثلة على ذلك كثيرة ومن أراد المزيد منها، فليرجع إلى إعلام الموقعين (ج3 ص 149 ـ 171) .

ص: 1503

الفصل السادس

في الكلام على أثر القول في سد الذرائع

يمكننا الآن ـ بعد كل ما تقدم بيانه ـ أن نقول: إن هذه القاعدة التي ظهرت أهميتها الكبرى، في عصرنا الحاضر، هي من العوامل الداعية إلى إصلاح شؤون الأمة، والأخذ بها إلى الفضيلة، والاستقامة، والنهوض بها على أسس قوية قويمة، من قواعد الشريعة وأحكامها.

وهي توجب على الفقيه أو الحاكم، أن يلجأ إليها في استحداث أحكام جديدة، وتدابير يتوقف عليها تنظيم شؤون المجتمع، فإن ولي الأمر، إذا رأى شيئًا من الأمور المباحة، قد اتخذه الناس، ذريعة أو وسيلة إلى مفسدة. أو: أنه بسبب فساد الزمان، أصبح يفضي إلى مفسدة، أرجح مما قد يفضي إليه من المصلحة، كان له أن يمنعه ويسد بابه، وبكون ذلك من الشريعة، وعملًا بالسياسة الشرعية، التي تعتمد ـ فيما تعتمد ـ على قاعدة سد الذرائع.

وبذلك يحول بهذه السياسة بين الناس وبين كثير من دوافع الفساد، فقاعدة الذرائع، قاعدة محملة، وفيها أكبر شهادة على أن الشرع الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وعلى أن فيه لكل قوم منهاجًا، ولكل داء علاجًا، ولكل مشكلة حلًا.

ص: 1504

ولو طبقت مجموع الإجراءات التي تشمل عليها هذه القاعدة، تطبيقًا أمينًا، لأدت ـ دون أي تقصير ـ إلى بناء مجتمع قوي متماسك متضامن، يعمه الأمن والرخاء وتشمله السعادة والاستقرار. ولكننا نعلم من ناحية أخرى، أن أفضل شرائع العالم وقوانينهم، تصبح عاجزة إذا فقدت الإرادة القوية، والعزيمة الصادقة والنية الحسنة، لدى الناس الذين يدعون إلى تطبيقها وتنفيذها والعمل بها.

وإن أعظم طريقة لتخريب أي شريعة أو قانون، لا تتمثل في إهمال العمل، أو التهرب من الواجب فقط، بل إن أسوأ المواقف وأشنعها، وأشدها ضرارًا وفتكًا بشريعة ما، هو: أن نتظاهر في مواجهتها بمظهر الورع، محترمين حروفها بكل عناية ورعاية، وإن كنا نتفق على تغيير اتجاهها، وتحريف هدفها، فنجعلها جامدة مقيتة، بعد أن كانت مرنة سمحة محبوبة ذات فضل على الناس.

فذلك هو ما أطلق عليه القرآن، وهو يتحدث عن بعض الحالات (والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) . باتخاذ آيات الله هزوًا.

ونرجع فنقول: إن من أصول الشريعة ـ سد ذرائع الفساد، وإغلاق منافذ الشر، ومنع الطرق التي تؤدي إلى الاحتيال على أوامر الشريعة، أو تؤدي إلى الوقوع في المحظورات أو إهمال الواجبات.

وكل ذلك هو من اختصاص صاحب السلطة العليا في الدولة، بمقتضى الولاية العامة، فإنه على ولي الأمر وله أن ينظم الأوضاع، ويؤسس المؤسسات، ويسن الأنظمة والتشريعات التي يتوقف عليها تنظيم المصالح العامة ورعايتها، ومن ذلك (مثلاً) :

1-

تحديد الأسعار وتقييدها وضبطها، وبخاصة عند الحاجة، وذلك لكيلا يطغي التجار والباعة، ويتحكموا بحاجات الناس.

2-

ومن هذا القبيل في عصرنا الحاضر، منع زراعة المخدرات والاتجار فيها، وفرض أقسى العقوبات على الذين يتعاطونها.

3-

ومن الأمثلة الواقعية في النظام الاجتماعي، على هذا النوع، منع الطلاب الذين يدرسون في الخارج من الزواج بأجنبية، وفي أثناء الدراسة وكذا منع رجال السلك الدبلوماسي من الزواج بأجنبيات، وذلك سدًا لذريعة المساس بمصلحة الدولة العامة والخاصة، كإفشاء الأسرار وانشغال الطلبة عن العلم.

وقد منع عمر بن الخطاب، بعض الصحابة من التزوج باليهوديات، لما كان ذريعة التزوج بالمومسات؛ لأن أكثر اليهود لا يرون حرجًا في اتخاذ الدعارة حرفة، إذا كان في ذلك مصلحة لبني جنسهم، ولئلا يتخذ ذريعة إلى الزواج من اليهوديات الجميلات، والعزوف عن الزواج من المسلمات، وفي ذلك من الفتنة والفساد ما فيه.

4-

ومن هذا القبيل: منع الدولة بعض الأجانب من ممارسة بعض الأعمال التي تتعلق بالمصالح العليا للدولة، ولا يؤتمن عليها إلا المواطن، وذلك سدًا لذريعة الفساد والضرر. وبالجملة: فكل هذه الأمور، إنما هي من قبيل بناء الأحكام على مقتضى قاعدة سد الذرائع.

ص: 1505

الفصل السابع

ذكر أمثلة على فتح الذرائع وسدها

يرى الإمام القرافي ـ وهو من المتبحرين في فقه (سد الذرائع) ـ: أن الذريعة، كما يجب سدها، يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة: هي: الوسيلة. فكما أن الوسيلة المحرمة محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة، والحج. (الفروق ـ الفرق 58) .

وكلمات القرافي هذه، كلمات قصار جوامع، صدرت عن علمه الواسع، فكما أن الذريعة المفضية إلى الفساد تسد وتمنع. فكذلك الذريعة المقدور عليها، الموصلة إلى الواجب تفتح.

وقد مثل لفتح الذرائع بالسعي لصلاة الجمعة، والرحلة إلى الحج، لمن كان خارج الحرم، قال تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] هذا ما مثل به القرافي لفتح الذرائع.

ونحن نزيد على هذين المثالين، بعض الأمثلة الأخرى، من نوعها، فنقول:

1-

ومن هذا النوع: السلاح الذي يقاتل به الأعداء، فالأمر بإعداد السلاح، أمر واجب، لا لذاته، بل لتحقيق واجب هو القتال، (وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .

2-

وكذلك الرحلة لطلب العلم مأمور بها، لأنها ذريعة إلى طلب العلم اللازم للفرد والأمة قال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا} التوبة: 122] .

3-

ومن أمثلة هذا النوع: تسعير ما يباع في الأسواق من نحو الأقوات، فإنه ذريعة إلى حماية العامة من أن يغبنوا، ويغلي الباعة عليهم ما يحتاجون إليه في كل يوم. فالإذن بالتسعير، فتح ذريعة إلى مصلحة اقتصادية لا يستهان بها.

4-

ومن هذا القبيل: نبش الأموات إذا دفنوا بغير غسل، أو وجهوا إلى غير القبلة؛ لأن مصلحة غسلهم وتوجيههم إلى القبلة أعظم من توقيرهم بترك دفنهم.

وكذلك شق جوف المرأة على الجنين المرجو حياته لأن حفظ حياته أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة أمة ويمكن أن يقاس على ذلك، تشريح جثث الموتى للمصلحة العامة. فهنا نجد أن الفعل الممنوع في الأصل لما فيه من المفسدة، ولكنه ذريعة إلى مصلحة، تزيد على مفسدته، فجاز ذلك (فتحا للذريعة) . فكل ذلك من قبيل فتح الذرائع.

والله سبحانه أعلم.

الدكتور علي داود جفال

ص: 1506

أهم مراجع البحث

-تفسير القرطبي

-الفروق للقرافي

-تبصرة الحكام لابن فرحون

-حاشية العطار على جمع الجوامع.

-المقدمات لابن رشد

-إعلام الموقعين لابن القيم

-الموافقات للشاطبي.

-تكملة المجموع للنووي، ابن السبكي

- الإمام الشافعي (كتاب إحياء الموات) .

-لسان العرب لابن منظور

-المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني

-شرح فتح القدير للكمال بن الهمام، بولاق

ص: 1507