الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخم
النقدي وأثره بالنسبة للديون السابقة
وفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكساد
إعداد
الدكتور مصطفى أحمد الزرقا
المستشار الشرعي بمؤسسة الراجحي المصرفية
بسم الله الرحمن الرحيم
انخفاض قيمة العملة وتأثيره في الديون السابقة
- من أكبر المشكلات المعاصرة من قضايا الساعة مشكلة التضخم النقدي، لما أصبح النقد المتداول في جميع أنحاء العالم ورقاً مطبوعاً وما يترتب على هذا التضخم من هبوط في قيمة العملة الورقية، بحيث تصبح الوحدة النقدية لبلد ما، كالليرة والدينار والدرهم واللير والدولار والفرنك مثلاً، قوتها الشرائية لا تساوي إلا جزءاً من خمسة أو عشرة أو مئة مثلاً من قوتها الشرائية السابقة.
إن الديون المعقودة قبل الهبوط بمدة طويلة كالمهور المؤجلة في عقود النكاح، وكالديون القديمة إذا قضيت بالعملة ذاتها وبالعدد المذكور في العقد القديم قبل الهبوط ينال الدائن بهذا الهبوط في قيمة العملة ضرر كبير بحيث يعتبر معه أنه لم يقبض من دينه إلا واحداً من خمسة أو من عشرة أو من مئة. وهذا بعيد جدًّا عن العدل والإنصاف الذي هو أهم سمة من سمات الشرع الإسلامي.
وفي الوقت نفسه إذا كلف المدين أن يدفع، بعد الهبوط العظيم المروع، دينه من النقود بحسب قيمتها السابقة، فإن ذلك مرهق له إرهاقاً لا يحتمل؛ فكلا الحلين لا ينطوي على عدل، سواء حملنا الفرق في قيمة العملة كله على الدائن، أو على المدين، وهنا تكمن المشكلة.
قبل سنوات من هذا التاريخ، في دورة هذا المجمع الفقهي التي عقدت في الكويت كان من جملة جدول أعمالها موضوع التضخم وهبوط سعر العملة التي عقدت بها عقود قديمة من قروض ومهور أو أثمان مبيعات. فاتخذ المجمع إذ ذاك قراراً بشأنها بين فيه أنه لا تأثير لذلك الهبوط في قيمة العملة مهما فحش، ولا يكلف المدين إلا بالمقدار نفسه من النقود التي عقد بها العقد القديم، دون أي اعتبار لهبوط قيمتها وقوتها الشرائية. ولم أكن أنا حاضراً تلك الدورة المذكورة؛ لأن الجامعة الأردنية التي كنت فيها لم تأذن لي ولم تعطني إجازة لحضور تلك الدورة.
وفي نظري أن قرار المجمع إذ ذاك كان فيه شيء من التسرع يجعله في حاجة إلى إعادة النظر في موضوعه. فما ذنب الدائن من مقرض أو بائع أو امرأة عقدت على مهرها المؤجل بالليرات السورية أو اللبنانية ثم استحقت أخذه بوفاة الزوج أو تطليقه إياها أن تأخذ مهرها المؤجل بما يساوي واحداً من المئة أو أقل؟!!!
وإن قلنا بالعكس فما ذنب الرجل أن يدفع المهر مئة ضعف أو أكثر عما تعاقد عليه، ولم يكن في حسبانه مثل هذا الهبوط المروع؟!
إن الموضوع خطير، ويحتاج إلى تروٍّ وتفكير في ضوء مبادئ الشريعة، والقوانين الوضعية ليستنير الفقيه بما عند غيره من رأي، ولا يصح أن يؤخذ فيه قرار مبتسر على عجل كما لو كان الأمر بسيطاً ليس ذا خطورة كبيرة في نتيجته.
والذي بدا لي بعد طول تفكير عقب صدور القرار من المجمع الكريم في دورة الكويت المذكورة أن هذا الموضوع ليس له حل عادل مع الطرفين الدائن والمدين سوى الحل المستوحى من نظرية الظروف الطارئة المعروفة في عالم القانون الوضعي والتي تتقبلها مبادئ الشريعة الإسلامية وفقهها بكل ترحاب.
-نظرية الظروف الطارئة-
ما هو الظرف الطارئ؟
يعرف العلماء القانون الطارئ بأنه ظرف يحصل بعد التعاقد بصورة مفاجئة لم يكن في حسبان العاقدين وقت التعاقد، تختلف فيه قيمة الالتزام الذي التزمه أحدهما تجاه الآخر اختلافاً جسيماً من شأنه أن يجعل الالتزام مرهقاً للملتزم إرهاقاً شديداً.
وأبرز ما يحصل الظرف الطارئ بالمعنى المبين في تعريفه عقود التوريد، وعقود المقاولة التي يعقدها المتعهدون لإقامة المنشآت والمباني.
فقد يتعاقد مقاول متعهد بإقامة بناء ضخ لشركة أو لحكومة في ظرف طبيعي بالعملة السائدة، فتقع حرب مفاجئة تنقطع بها طرق المواصلات، ويتوقف أو يتعسر استيراد مواد البناء فتغلو أسعارها ويندر وجودها، وتصبح تكاليف البناء أضعافاً مضاعفة عما كان محسوباً وقت التعاقد.
وكذلك قد يتعاقد متعهد عقد توريد مواد أغذية أو أدوية لمستشفى لمدة معينة، فيحصل زلزال كبير أو إعصار مدمر، أو تندلع حرب، فتقل المواد المتعاقد على توريدها في مدة العقد وترتفع أسعارها أضعافاً كثيرة من شأنها أن ترهق الملتزم إرهاقاً شديداً.
هذا هو معنى الظرف الطارئ عند علماء القانون. ومن شروطه:
1-
أن يكون من شأنه أن يرهق الملتزم إرهاقاً شديداً، ولا عبرة لكون هذا الملتزم قويًّا ماليًّا بحيث إنه يستطيع أن يوفي الالتزام رغم إرهاقه الشديد. وهذا ما يفيده تعبير (من شأنه أن يرهق..) ولو كان خصوص هذا الملتزم قادراً على التنفيذ الأصلي.
2-
أن يكون الظرف الطارئ غير قائم عند التعاقد، ولا متوقع الوقوع؛ لأنه لو كان كذلك يكون محسوباً له حسب عند التعاقد، فلا يفاجأ الملتزم بما لم يكن في حسبانه.
ماذا توجب النظرية في هذه الحال
إن علماء القانون مجمعون على أن الظرف الطارئ بمعناه المشروح وشروطه إذا وقع فإن نظريتهم فيه أنه يعطي القاضي حقًّا وسلطة في أن ينظر الفرق الذي حصل في الأسعار بسبب الظرف الطارئ فيحمله على الطرفين معاً، أي يقسمه نصفين، فيحمل كلًّا منهما نصف الفرق تحقيقاً للعدل بينهما، إذ ليس من العدل أن يبوء به أحدهما دون الآخر.
ويحق للقاضي أن يمهل الملتزم إذا كان السبب الطارئ مرجو الزوال قريباً.
وللقاضي سلطة أيضاً إذا لم يكن العقد قد بدئ بتنفيذه، أو كان الذي نفذ منه جزءاً يسيراً أن يفسخ العقد ويلغي التزام المتعهد أوالمقاول، كما يحق له أن يفسخه جزئيًّا فيما لم يتم تنفيذه، ويحكم للملتزم له بتعويض عادل عن فسخ العقد، كما له أن ينتقص من التزامات الملتزم تخفيفاً عنه، أو يزيد في حقوق الملتزم له، معتمداً رأي أهل الخبرة في ذلك.
وهذا كما يبدو حل في منتهى المعقولية والعدل، إذ أن تحميل الفرق كله على أحد الطرفين ظلم واضح له، مع أن الظرف الطارئ ليس من صنعه، وتأثيره يشمل المجتمع كله، وكلا الطرفين من أعضاء المجتمع الذي تأثر بالظرف الطارئ فلا مبرر لإعفاء أحد الطرفين المتعاقدين من تأثيره، وتحميل الفرق كله على الآخر.
مدى قبول هذا الحل الذي توجبه النظرية القانونية
في قواعد الفقه الإسلامي
كنت قدمت في المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة مذكرة دعوت المجمع فيها إلى تبني حل لمشكلة التضخم نظير الحل الذي تفرضه نظرية الظروف الطارئة القانونية؛ لأنه يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي قوامها العدل الذي قال فيه ابن القيم رحمه الله:
"حيث ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره".
وكون هذا الحل مستوحى من نظرية قانونية لا يضير، إذ ليس كل ما في القانون الوضعي مخالفاً لمبادئ الشريعة الإسلامية وفقهها. بل إن المتفق فيه مع أحكام الشريعة أكثر كثيراً من المختلف. فما كان من المتفق مع أحكام الشريعة يمكن تبنيه وتخريجه تخريجاً جديداً على قواعدها، وتفريعه على مبادئها الحكيمة الثابتة بنصوص عامة أو بشواهد فقهية تؤيده، ونضيفه إلى فقهنا الجليل الذي نشأ كثير من أحكامه بمثل هذه الطريقة التخريجية لحاجات زمنية دعت فقهاؤنا إلى تلبيتها، أصبحت من صلب الفقه.
وبناء على مذكرتي تلك قام المجمع بتكليف أحد أعضائه الدكتور الأستاذ رشيد القباني بتقديم بحث عن نظرية الظروف الطارئة في القانون. ثم في دورة تالية أدخل الموضوع في جدول أعماله، ثم انتهى إلى قرار يعتبر فيه الظروف الطارئة بمعناها المشروح موجبة لتعديل الالتزامات والحقوق في العقود المتراخية التنفيذ كعقد التوريد مثلاً، وذلك بتنصيف فرق العملة الفاحش وتحميله على الطرفين على كل منهما نصفه
…
إلخ.
وقد قام المجمع بتخريج ذلك كله على أصول الشريعة وعلى نصوص الفقهاء في عقد الإجارة الذي قرر الفقهاء جواز فسخه بالأعذار وعلى حكم الجوائح الطارئة على الثمار المتعاقد عليها وهي على أشجارها كما استند المجمع إلى قاعدة وجوب العدل في الشريعة، والمبدأ الذي أعلنه ابن القيم رحمه الله في كلامه الذي نقلنا بعضه آنفاً.
وإني أربط صورة كاملة لقرار المجمع الفقهي بمكة المكرمة في هذا الشأن تسهيلاً للاطلاع عليه عند النظر في مذكرتي هذه.
ثم بعد صدور هذا القرار من المجمع الفقهي بمكة رأيت في كتاب الدكتور الأستاذ عبد السلام الترمانيني (1) الذي عنوانه: (نظرية الظروف الطارئة – دراسة تاريخية ومقارنة بالشريعة الإسلامية)(2) في الفصل السادس منه الذي عقده للمقارنة بين النظرية الضرورة في الفقه الإسلامي، ونظرية الظروف الطارئة في القانون المدني كلاماً جيداً في تطبيق النظريتين على هبوط سعر النقود الفاحش، ووجوب تنصيف الفرق في السعر وتحميله على الطرفين؛ أربط صورته بنصه أيضاً مع هذه المذكرة دعماً لما بينته فيها.
ثم إن الدكتور نزيه حماد في كتابه المسمى (دراسات في أصول المداينات) في المبحث الرابع منه الذي عنوانه: تغير النقود وأثره على الديون في الفقه الإسلامي – نقل الآراء الفقهية الثلاثة وهي:
1-
عدم تأثير صعود قيمة النقود وهبوطها على المداينات السابقة وبه أخذت مجلة الأحكام العدلية.
2-
اعتبار قيمتها يوم العقد في البيع، ويوم القبض في القرض، وهو القول الثاني للإمام أبي يوسف والمفتى به في المذهب الحنفي.
3-
قول عند المالكية بأن التغير إذا كان يسيراً لا عبرة له ويجب الوفاء بمثل ما وقع عليه العقد دون تأثيره لصعود قيمة النقود أو هبوطها. وأما إذا كان التغير فاحشاً فإن الوفاء يجب بحسب قيمة النقود وقت التعاقد؛ لأنه لو وفى بالمثل فقط حينئذ يصير القابض للنقود بعد هبوطها الفاحش كالقابض لما ليس له كبير منفعة.
(1) هو نقيب سابق للمحامين بحلب، وعميد سابق لكلية الحقوق فيها، ثم رئيس قسم القانون الخاص، وأستاذ القانون المدني في كلية الحقوق بجامعة دمشق سابقاً.
(2)
طبعة دار الفكر، سنة 1971م، ص 86-87.
وهذا ما رجحه الرهوني من المالكية (ز: الكتاب المذكور، ص 225-226، الفقرة 28) وعقب عليه الدكتور نزيه حماد بقوله ما نصه:
"وبالنظر في هذه الأقوال الثلاثة وتعليلاتها يلوح لي:
أ- أن الاتجاه الفقهي: لإيجاب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة هو الأولى بالاعتبار من رأي الجمهور الذاهبين إلى أن الواجب على المدين أداؤه إنما هو نفس النقد المحدد في العقد والثبات في الذمة دون زيادة أو نقصان، وذلك لاعتبارين:
(أحدهما) – أن هذا الرأي هو الأقرب للعدالة والإنصاف، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، والله يأمر بالقسط.
(والثاني) – أن فيه رفعاً للضرر عن كل من الدائن والمدين، فلو أقرضه مالاً فنقصت قيمته، وأوجبنا عليه قبول المثل عدداً تضرر الدائن؛ لأن المال الذي تقرر له ليس هو المستحق، إذ أصبح بعد نقصان القيمة معيباً بعيب النوع المشابه لعيب العين المعينة (حيث إن عيب العين المعينة هو خروجها عن الكمال بالنقص، وعيب الأنواع نقصان قيمتها) . ولو أقرضه مالاً فزادت قيمته، وأوجبنا عليه أداء المثل عدداً تضرر المدين، لإلزامه بأداء زيادة عما أخذ.. والقاعدة الشرعية الكلية أنه "لا ضرر ولا ضرار".
ب- إن الرأي الذي استظهره الرهوني من المالكية بلزوم المثل عند تغير النقد بزيادة أو نقص إذا كان ذلك التغير يسيراً، ووجوب القيمة إذا كان التغير فاحشاً هو أولى في نظري من رأي أبي يوسف – المفتى به عند الحنفية- بوجوب القيمة مطلقاً، وذلك لاعتبارين:
(أحدهما) –أن التغير اليسير مغتفر قياساً على الغبن اليسير والغرر اليسير المغتفرين شرعاً في عقود المعاوضات المالية من أجل رفع الحرج عن الناس نظراً لعسر نفيهما في المعاملات بالكلية، ولغرض تحقيق أصل تشريعي مهم وهو استقرار التعامل بين الناس، بخلاف الغبن الفاحش والغرر الفاحش فإنهما ممنوعان في أبواب البيوع والمعاملات.
(والثاني) - أن التغير اليسير مغتفر تفريعاً على القاعدة الفقهية الكلية أن: " ما قارب الشيء يعطى حكمه "، (1) بخلاف التغير الفاحش فإن الضرر فيه بين والجور فيه محقق" اهـ.
(1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 70، والمنثور في القواعد للزركشي 3/144.
أقول: إن هذا القول الثالث للمالكية الذي أيده الشيخ الرهوني يتفق تمام الاتفاق مع ما هو مقرر في نظرية الظروف الطارئة التي عرضنا خلاصتها في هذه المذكرة، فقد بينا أنها تشترط في الظرف الطارئ أن يؤدي إلى غبن فاحش جدًّا للملتزم بحيث يكون من شأنه أن يرهقه إرهاقاً شديداً، أما إذا أدى إلى فرق غير كبير ولا فاحش، فإنه لا عبرة له.
ملاحظة: يتبين مما أسلفنا أن هبوط العملة الذي يجب أن يؤخذ بالاعتبار، ويتصف به الفرق الناشئ ويوزع على الطرفين الملتزم والملتزم له على كل منهما نصفه إنما هو في حالة الهبوط المفاجئ الذي يحصل عادة بقرار حكومي يتخذ سرًّا ثم يعلن فجأة ويفاجأ به الناس، أو بحدوث طارئ آخر مفاجئ.
أما إذا كانت العملة تهبط قيمتها هبوطاً تدريجيًّا ملحوظاً للعاقدين عند التعاقد فلا عبرة له إلا إذا كان الدين مؤجلاً إلى أجل طويل غير محدد، وأدى الهبوط التدريجي إلى درجة فاحشة بطول الزمن، كما في المهر المؤجل في عقود الزواج، فعندئذ تعتبر القيمة وقت العقد وينصف الفرق بين الزوجين؛ لأنه غير ملحوظ عند التعاقد.
متى يعتبر الهبوط فاحشاً
أما متى يعتبر الهبوط فاحشاً يلحق بكساد النقود ويؤدي إلى تنصيف الفرق؟ فالذي أرى أن الهبوط إذا تجاوز ثلثي قيمة النقد وقوته الشرائية عند العقد في البيع وعند القبض في القرض، وبقي من قيمته أقل من الثلث. فإنه حينئذ يعتبر فاحشاً ويوجب توزيع الفرق على الطرفين، أخذاً من الأدلة الشرعية والآراء الفقهية التي تحدد حد الكثرة بالثلث، والله سبحانه أعلم.
وفي الختام أدعو هذا المجمع الفقهي الكريم إلى أن يعيد النظر في قراره السابق الذي اتخذه في دورة انعقاده في الكويت، وأن يقرر في ضوء ما أوضحته ونقلته آنفاً وجوب تنصيف الفرق الفاحش في سعر العملة في المداينات السابقة، وفي العقود المتراخية التنفيذ، وأن للقاضي سلطة، بناء على رأي الخبراء، في فسخ العقد كليًّا أو جزئيًّا فيما لم يتم تنفيذه، وفقاً لما جاء في قرار المجمع الفقهي بمكة، واستناداً إلى ما استند إليه من الأدلة الشرعية. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
الدكتور مصطفى أحمد الزرقاء
قرار
مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي
في دورته الرابعة
المنعقدة في سنة 1402 هـ
بشأن الظروف الطارئة وتأثيرها
في الحقوق والالتزامات العقدية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فقد عرض على مجلس المجمع الفقهي الإسلامي مشكلة ما قد يطرأ بعد إبرام عقود التعهد ونحوها من العقودات ذات التنفيذ المتراخي في مختلف الموضوعات من تبدل مفاجئ في الظروف والأحوال ذات التأثر الكبير في ميزان التعادل الذي بنى عليه الطرفان المتعاقدان حساباتهما فيما يعطيه العقد كلًّا منهما من حقوق وما يحمله إياه من التزامات مما يسمى اليوم في العرف التعاملي بالظروف الطارئة.
وقد عرضت مع المشكلة أمثلة لها من وقع أحوال التعامل وأشكاله توجب التفكير في حل فقهي مناسب عادل يقضي على المشكلة في تلك الأمثلة ونظائرها الكثيرة. فمن صور هذه المشكلة الأمثلة التالية:
1-
لو أن عقد مقاولة على إنشاء بناية كبيرة يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة ثم بين طرفين، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته بمبلغ مئة دينار مثلاً، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وأسمنت وأخشاب وسواها وأجور عمال تبلغ عند العقد للمتر الواحد ثمانين ديناراً فوقعت حرب غير متوقعة أو حادث آخر خلال التنفيذ قطعت الاتصالات والاستيراد وارتفعت بها الأسعار ارتفاعاً كبيراً يجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً جدًّا.
2-
لو أن متعهداً في عقد توريد أرزاق عينية يوميًّا من لحم وجبن ولبن وبيض وخضراوات وفواكه ونحوها إلى مستشفى أو إلى جامعة فيها أقسام داخلية، أو إلى دار ضيافة حكومية، بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدى عام. فحدثت جائحة في البلاد أو طوفان أو زلزال، أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية، فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة عما كانت عليه عند عقد التوريد، إلى غير ذلك من الأمثلة المتصورة في هذا المجال.
فما الحكم الشرعي الذي يوجبه فقه الشريعة في مثل هذه الأحوال التي أصبحت كثيرة الوقوع في العصر الحاضر الذي تميز بالعقود الضخمة بقيمة الملايين، كالتعهد مع الحكومات في شق الطرق الكبيرة وفتح الأنفاق في الجبال، وإنشاء الجسور العظيمة، والمجمعات لدوائر الحكومة أو للسكنى، والمستشفيات العظيمة أو الجامعات. وكذا المقاولات التي تعقد مع مؤسسات أو شركات كبرى لبناء مصانع ضخمة، ونحو ذلك مما لم يكن له وجود في الماضي البعيد.
فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره قبل تبدل الظروف وطروء التغييرات الكبيرة المشار إليها مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقة ساحقة، تمسكاً بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات، أو له مخرج وعلاج من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة يعيد كفتي الميزان إلى التعادل، ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟
وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع من فقه المذاهب واستعراض قواعد الشريعة ذات العلاقة مما يستأنس به ويمكن أن يوصى بالحكم القياسي والاجتهاد الواجب فقهاً في الشأن كما رجع إلى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي:
1-
إن الإجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة كالحرب والطوفان ونحو ذلك، بل الحنفية يسوغون فسخ الإجارة أيضاً بالأعذار الخاصة بالمستأجر، مما يدل على أن جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم أيضاً بطريق الأولوية فيمكن القول إنه محل اتفاق، وذكر ابن رشد في بداية المجتهد 0ص 192 من طبعة الخانجي الأول بالمطبعة الجمالية بمصر) تحت عنوان: أحكام الطوارئ) أنه: (عند مالك أن أرض المطر – أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط – إذا كريت فمنع القحط من زراعتها، أو إذا زرعها المكتري فلم ينبت الزرع لمكان القحط –أي بسببه- أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة فلم يتمكن المكتري من زرعها) . انتهى كلام ابن رشد.
2-
وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الإجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير 6/30) أنه: (إذا حدث خوف عام يمنع من سكنى ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصر البلد فامتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع أو نحو ذلك، فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ؛ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة. فأما إذا كان الخوف خاصاً بالمستأجر، من أن يخاف وحده لقرب أعدائه
…
لم يملك الفسخ؛ لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية فأشبه مرضه) .
3-
وقد نص الإمام النووي رحمه الله في روضة الطالبين (5/239، أنه لا تنفسخ الإيجارة بالأعذار، سواء أكانت إيجارة عين أو ذمة، وذلك كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض، أو حانوتاً لحرفة فندم، أو هلكت آلات تلك الحرفة، أو استأجر حماماً فتعذر الوقود. قال النووي وكذا لو كانا لعذر للمؤجر بأن مرض وعجز عن الخروج مع الدابة، أو أكرى داره وكان أهله مسافرين واحتاج إلى الدار أو تأهل قال: فلا فسخ في شيء من ذلك، إذ لا خلل في المعقود عليه) اهـ.
4-
ما يذكره العلماء رحمهم الله في الجوائح التي تجتاح الثمار المبيعة على الأشجار بالأساليب العامة كالبرد والجراد وشدة الحر والأمطار والرياح ونحو ذلك مما هو عام؛ حيث يقررون سقوط ما يقابل الهالك بالجوائح من الثمن وهي قضية الجوائح المشهورة في السنة والفقه.
5-
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مختصر الفتاوى (ص 376) أن من استأجر ما تكون منفعة أجارته لعامة الناس، مثل الحمام والفندق والقيسارية، فنقضت المنفعة لقلة الزبون أو لخوف أو حر أو تحول سلطان ونحوه فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة.
6-
وقال ابن قدامة أيضاً في الصفحة (29) من الجزء السابق الذكر نفسه (ولو استأجر دابة ليركبها أو يحمل عليها إلى مكان معين، فانقطعت الطريق إليه لخوف حادث أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق فلكل واحد منهما فسخ الإجارة وإن أحب إبقاءها إلى حين إمكان استيفاء المنفعة جاز) . وقال الكاساني من فقهاء الحنفية في الإجارة من كتاب بدائع الصنائع (4/197) : (إن الفسخ في الحقيقة امتناع من التزم الضرر، وإن إنكار الفسخ عند تحقق العذر خروج عن العقد والشرع؛ لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه، فاستأجر رجلاً لقلعها، فسكن الوجع يجبر على القلع، وهذا قبيح عقلاً وشرعاً) .
هذا وقد ذكر فقهاء المذاهب في حكم الأعذار الطارئة في المزارعة والمساقاة والمغارسة شبيه ما ذكروا في الإجارة.
7-
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، وقرر كثير من فقهاء المذاهب في الجوائح التي تجتاح الثمار ببرد أو صقيع، أو جراد، أو دودة، ونحو ذلك من الآفات، إنها تسقط من ثمن الثمار التي بيعت على أشجارها ما يعادل قيمة ما أتلفته الجائحة وإن عمت الثمر كله تسقط الثمن كله.
8-
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه: ((لا ضرر ولا ضرار)) وقد اتخذ فقهاء المذاهب من قوله هذا قاعدة فقهية اعتبروها من دعائم الفقه الكبرى الأساسية، وفرعوا عليها أحكاماً لا تحصى في دفع الضرر وإزالته في مختلف الأبواب.
ومما لا شك فيه أن العقد الذي يعقد وفقاً لنظامه الشرعي يكون ملزماً لعاقديه قضاء عملاً بقوله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي الملزم للمخاطبين به كافة، وقد وجد المجمع في مقاييس التكاليف الشرعية، ومعايير حكمة التشريع أن المشقة لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته، كمشقة القيام في الصلاة، ومشقة الجوع والعطش في الصيام، لا تسقط التكليف، ولا توجب فيه التخفيف، ولكنها إذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكليف بحسبه، أسقطته أو خففته، كمشقة المريض في قيامه في الصلاة ومشقته في الصيام وكمشقة الأعمى والأعرج في الجهاد، فإن المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي توجب تدبيراً استثنائيًّا يدفع الحد المرهق منها، وقد نص على ذلك وأسهب في بيانه، وأتى عليه بكثير من الأمثلة في أحكام الشريعة الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة) .
فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة لا تأثير لها في العقود؛ لأنها من طبيعة التجارة وتقلباتها لا تنفك عنها، ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيراً بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيراً استثنائيًّا.
ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) :
(إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض وكل أمر أخرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها فليس من شرع الله في شيء وحيثما ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره)(إعلام الموقعين) وقصر العاقدين إنما تكشف عنه وتحدده ظروف العقد، وهذا القصر لا يمكن تجاهله والأخذ بحرفية العقد مهما كانت النتائج فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفاً في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء، ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية، يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:
1-
في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلاً غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييراً كبيراً بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لو يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانباً معقولاً من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعاً رأي أهل الخبرة الثقات.
2-
ويحق للقاضي أيضاً أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيراً بهذا الإمهال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقاً للعدل الواجب بين طرفي العقد، ومنعاً تتضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لا يد له فيه، وأن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعي الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها والله ولي التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
[توقيع][اعتذر لمرضه]
نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي
محمد علي الحركان عبد الله بن حميد
الأعضاء
[توقيع][توقيع][توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد محمود الصواف صالح بن عثيمين
[توقيع][تخلف عن الحضور][توقيع]
محمد بن عبد الله بن السبيل مبروك العوادي محمد الشاذلي النيفر
[توقيع][توقيع][توقيع]
مصطفى أحمد الزرقاء عبد القدوس الهاشمي محمد رشدي
[تخلف عن الحضور][توقيع][تخلف عن الحضور]
أبو الحسن علي الحسني الندوي أبو بكر محمود جومي حسنين محمد مخلوف
[توقيع][تخلف عن الحضور][توقيع]
محمد رشيد قباني محمود شيت خطاب محمد سالم عدود
مقرر المجمع الفقهي الإسلامي
محمد عبد الرحيم الخالد
من كتاب نظرية الظروف الطارئة – د. عبد السلام الترمانيني-
3-
وفي النقود يظهر الطارئ غير المتوقع الذي يؤثر في قيمة النقد المتعاقد به هبوطاً وارتفاعاً، وقد عرفت سورية ولبنان مشكلة هبوط النقد في الحرب العالمية الأولى عندما هبطت قيمة الأوراق النقدية العثمانية. وبعد الحرب حين هبط الفرنك الفرنسي، وكان التعامل بين الناس آنئذ يجري بالعملية الذهبية، كما عرفت مصر أيضاً هذه المشكلة بعد تلك الحرب في العقود المعقودة بالفرنك وبالمارك الألماني الذي هبطت قيمته هبوطاً كبيراً. (1)
وقد عالج الفقه الإسلامي مسألة النقد معالجة واسعة على ما فصلناه فيما تقدم، فميز بين العملة الخالصة والمغلوبة الغش، وبين العملة الخالصة والغالبة الغش، أي بين ما يكون نقداً بذاته، وبين ما يكون نقداً بالاعتبار، وهذا النوع الثاني يطابق مفهوم العملة الورقية أجزائها المعدنية التي أصبحت مدار التعامل في كل أنحاء العالم.
ويظهر من قول الإمام أبي يوسف أنه قد اعتبر الذهب أساساً للعملة الاعتبارية، فأوجب الوفاء بما يعادل قيمتها يوم العقد أو القبض من الذهب عند تبدل القيمة والكساد والانقطاع. (2)
ومع أن رأي أبي حنيفة وتلميذه محمد، بالوفاء بالنقد المتعاقد به دون النظر إلى تبدل قيمته، يطابق ما استقر عليه الرأي في زماننا قانوناً وفقهاً واجتهاداً، إلا أن في الأحكام القضائية التي رجعت إلى قيمة النقد يوم العقد في الدعاوى التي أقيمت في مصر على أثر سقوط الفرنك والمارك ما يطابق رأي أبي يوسف. ويبدو من هذه الأحكام أنها قد طبقت نظرية الحوادث الطارئة بطريق غير مباشر استناداً إلى نية المتعاقدين ومبدأ العدالة. (3)
(1) نصيف زكي –اضطراب سعر النقد ونظرية الطارئ المفاجئ- مجلة المحاماة نوفمبر 1932 ص 127.
(2)
الأتاسي –شرح المجلة 2/162- علي حيدر- درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/289.
(3)
نصيف زكي –المصدر المتقدم- وأحكام القضاء المختلط المشار إليها في هذا المصدر هي حكم محكمة الاستئناف المختلط الصادر في 4 مارس 1925 والمنشور في مجلة المحاكم المختلطة في مايو 1925 وحكمها في 5 سبتمبر 1925 وحكمها في 18 مارس 1926 وحكمت فيها جميعاً بأن يكون السداد طبقاً لسعر المارك يوم التعاقد، واستمر اجتهادها إلى أن حكمت في 25 مارس 1930 بأن السداد يكون بسعر النقد يوم الوفاء.
على أن تطبيق نظرية الظروف الطارئة في مسائل النقد في الفقه الإسلامي يظهر واضحاً فيما قرره ابن عابدين في العقود المعقودة بالقروش، إذا هبطت قيم العملات التي كان يحصل بها الوفاء هبوطاً متفاوتاً، فقد رأى أن الضرر الناشئ من هذا الهبوط لا يجوز أن يتحمله أحد العاقدين وحده، وإنما يجب أن يتحمله الاثنان معاً، وذلك بالوفاء من الأوسط من تلك العملات. وقد بنى رأيه على نية المتعاقدين (1) وعلى حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) وهو من قواعد نظرية الضرورة التي قامت على مبدأ العدالة (2) وهذا الرأي يطابق ما أخذ به القانون المصري والسوري من رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول.
وخلاصة ما ننهي به هذا الفصل أن نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي بتطبيقاتها التي عرضنا لها، تتسع الاتساع لنظرية الظروف الطارئة، بل يمكننا القول بأن هذه الأخيرة تعد من جملة تطبيقات نظرية الضرورة، ما دامت النظريتان قائمتين على أساس واحد هو مبدأ العدالة.
(1) ابن عابدين –رسالة النقود- ص 66 و67 وقد جاء في الصفحة 67: "إذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً، ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشاً من الريال أو الذهب مثلاً، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي باع قدره ورضي به ثمناً لسلعته".
(2)
ابن عابدين –رسالة النقود- ص 66 و67