المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

‌أثر التضخم والكساد

في الحقوق والالتزامات الآجلة

وموقف الفقه الإسلامي منه

إعداد

الدكتور علي محيي الدين القره داغي

الأستاذ بكلية الشريعة

جامعة قطر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.. وبعد:

فلا شك أن النقود تعتبر العمود الفقري للاقتصاد العالمي اليوم، فهي الوسيلة للتداول والتقويم، والمعيار للسلع والبضائع، ومن خلالها تعرف قوة الدولة الاقتصادية، أو ضعفها..

وحينما كانت النقود معدنية (ذهباً وفضة) لم تكن هناك المشاكل التي يعاني منها العالم اليوم سواء كانت على مستوى الأفراد، أم على مستوى الحكومات؛ وذلك لأنها كانت تحمل في طياتها قيمتها حتى لو ألغيت قيمتها النقدية لظلت لها قيمتها الذاتية كمعدن نفيس يستعمل في التزيين وغيره، أما نقودنا الورقية لو ألغيت، أو انهارت لم تبق لها أي قيمة تذكر، بل حتى لا يستفاد منها كورق يستعمل للكتابة ونحوها..

وخلال مسيرة النقود الورقية حدثت أزمات اقتصادية عالمية، ومشاكل كبرى كان لها دورها الكبير فيها، وخسر معها الكثيرون، بل تحول الغني فقيراً في كثير من الأحوال، ومن سوء الحظ أن نصيب العالم الإسلامي من التضخم وانهيار النقود كان كبيراً فالليرة اللبنانية كانت في عام 1970م تساوي نصف دولار تقريباً، واليوم يساوي ألف وخمسمائة منها دولاراً واحداً، والليرة التركية نسبة التضخم فيها أكثر من ثلاثين مرة خلال 15 سنة، وكذلك الليرة السورية، والجنيه السوداني، وأما الدينار العراقي فكان سعره الرسمي عام 1990م (قبل الاحتلال) يساوي أكثر من ثلاثة دولارات، حيث الدولار يساوي (310 فلساً) أما اليوم فالدولار الواحد يساوي ألفاً وخمسمائة دينار.

ص: 975

فعلى سبيل المثال (حتى تتضح الصورة) كان الشخص الذي يملك 30.000 دينار عراقي عام 1990م كان غنيًّا حيث كان يساوي أكثر من 90.000 دولار، وكان بإمكانه أن يشتري به منزلاً وسيارة، أما اليوم فهو يساوي عشرين دولاراً فقط، وهو لا يكفي لاستضافة شخصين من الأكل العادي.

وأمام هذه الهزات العنيفة للنقود الورقية، والمشاكل الكبرى التي تحدث بين حين وآخر حاول مجمع الفقه الموقر التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي الوصول إلى حلول ناجعة لحماية أصحاب الحقوق منذ فترة مبكرة، ولخطورة الموضوع ظلت هذه المسألة تناقش في المجمع الموقر عدة مرات في دورته الخامسة، ثم السادسة والسابعة والثامنة، وقد كان القرار الصادر الذي صدر من المجمع الموقر في دورته الخامسة والذي ينص على مثلية النقود.. قراراً صدر بالأكثرية، ولم يكن بالإجماع، ولذلك ظل مثار نقاش وعرض وطلب، حيث قدمت مذكرة إلى مجمع الفقه في دورته السادسة، وهكذا..

وفي هذه الدورة التاسعة للمجمع الموقر تناقش قضيتان هما روح المشكلة وجوهرها وأساسها، وأما وجوب الزكاة في النقود، وجريان الربا فيها فمحل إجماع بين جميع العلماء المعتمدين المعاصرين.

وبناء على طلب الأمين العام لمجمع الفقه الموقر سعادة الشيخ الجليل الأستاذ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، وحرصه الشديد على الوصول إلى الحق أو القريب منه (إن شاء الله) استجبت لهذا الطلب لنعرض الموضوع من هذه الزاوية فقط دون الخوض في تفصيلات قد لا تخدم القضية، ولا سيما أنني قد درست في السابق هذا الموضوع في أكثر من بحث وكتاب..

وغرض الجميع هو الوصول إلى الحق، وخدمة الإسلام، والله نسأل أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل..

ص: 976

بسم الله الرحمن الرحيم

التعريف بالتضخم والكساد:

التضخم في اللغة مصدر باب تفعل يعني قبول الشيء للضخامة، وجاء في معظم الوسيط "ضخم-بضم الخاء-ضخامة: عظم وغلظ..، التضخم:(في الاقتصاد) زيادة النقود، أو وسائل الدفع الأخرى على حاجة المعاملات" (مج) . (1)

وفي الاقتصاد الحديث نرى أن أولى النظريات التي حاولت تفسير التضخم وربطه بالنقود هي نظرية البروفيسور (إفنج فشر) في مطلع القرن الحالي، حيث ربطت بين كمية النقود في المجتمع، وسرعة تداول النقود، وحجم الناتج القومي، والمستوى العام للأسعار (2) وذلك بأن تصدر الدولة قدراً زائداً من النقود الورقية لتغطية بعض نفقاتها حينما لا تكفي الموارد العادية لذلك، وهذا يعني وجود عجز بسبب عدم كفاية الموارد الاقتصادية لتغطية النفقات العامة، وهذا المعنى ينشغل به علم المالية العامة، بينما ينشغل علم الاقتصاد السياسي بالتضخم من ناحية ارتفاع متواصل للأسعار بسبب زيادة الطلب فيؤدي إلى إصدار النقود بكميات أكبر (3)

غير أن هذه النظرية قد وجهت إليها عدة انتقادات؛ لأنها تقوم على علاقة ميكانيكية لتأثير التغير في كمية النقود على مستوى الأسعار في الاقتصاد القومي مع أن هذا التلازم بينهما غير مسلم، حيث قد ترتفع الأسعار لأسباب لا دخل لتغير كمية النقود فيها، لذلك لا يمكن أن ينظر فيها على أنها ظاهرة نقدية بحتة (4) فالمشكلة أكبر من أن تكون أحادية الظاهرة والسبب والتفسير، فهي متعددة الأبعاد، وأسبابها تتوزع على الجوانب النقدية والاجتماعية والدولية، وهيكلة النظام الرأسمالي، ولكن آثار هذه المشكلة تظهر مباشرة على النقود من حيث القوة والضعف والقدرة الشرائية، فتزداد الأسعار زيادة كبيرة تستتبعها زيادة مماثلة في الأجور وزيادة نفقات الإنتاج وخفض معدل الربح.

ومن جانب آخر فإنه قد يكون هناك فعلاً تضخم، ولكن الدولة تتدخل فتمنع زيادة الأسعار من خلال الدعم ونحوه، أو يسمى هذا النوع التضخم المكبوت.

(1) المعجم الوسيط، ط. قطر (1/536) ويراجع القاموس المحيط، ولسان العرب، مادة "تضخم".

(2)

إفنج فشر: كتابه حول قوة النقود، ط. نيويورك 1911 ص 8 المشار إليه في: د. محمود عبد الفضيل، مشكلة التضخم في الاقتصاد العربي، ط. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص 12.

(3)

د. محمود عبد الفضيل: المرجع السابق، ص 12

(4)

د. محمد خالد الحريري: قضايا اقتصادية معاصرة، ط. دمشق، ص 28.

ص: 977

أسباب التضخم:

ودراستنا هذه وإن لم تكن مخصصة لبيان أسباب التضخم ومعالمه، وكيفية علاجه، ولكننا نوجز القول في هذه المسائل حتى تكون على تصور متكامل للوصول إلى حكم مناسب؛ لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره.

فللتضخم أسباب كثيرة يمكن حصرها في تطبيق النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يعيش منذ عدة عقود أزمة هيكلية حادة أدت إلى تدهور معدلات النمو الاقتصادي، وتعايش البطالة مع التضخم، وتزايد العجز في موازين المدفوعات، وركود التجارة الدولية، وانهيار نظام النقد الدولي، وبروز أزمة الطاقة، وتفاقم مشكلة الديون الخارجية وتقلبات أسعار المواد الاستهلاكية والإنتاجية، وتقلبات الإنتاج نفسه والعجز في ميزان المدفوعات، وارتفاع المديونية الخارجية الأمريكية لتصل على سبيل المثال في عام 1980 م إلى رقم 175 مليار دولار.

كما أن نظام النقد الدولي الحالي يتحمل كثيراً من أسباب هذا التضخم، وذلك لأن النظام النقدي الدولي الحالي قد أرسيت دعائمه في اتفاقية بريتون وودز عام1944 م على أساس المشروع الأمريكي الذي قدمه ريتشارد هوايت مندوب أمريكا بعد أن فشل مشروع اللورد كينز، واستطاعت أمريكا أن تلعب دور القائد في صياغة نظام النقد الدولي الجديد، وتجديد قواعد اللعبة فيه طبقاً لمصالحها الخاصة، نظراً لما كانت عليه حينئذ من قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية حيث كانت الدولة الأولى إضافة إلى أنها كانت تملك 5/4 من حجم الذهب في العالم، لذلك تمكنت من أن تجعل الدولار العملة الدولية في النظام في مقابل التزامها بقابلية تحويله إلى ذهب على أساس 35 دولاراً للأوقية من الذهب الخالص دون أية عوائق، وذلك اكتسب الدولار ميزة لم تتحقق لغيره من العملات حيث أصبح الدولار الورقي يعني الذهب الخالص، حتى حرصت البنوك المركزية في مختلف دول العالم على اقتنائه ضمن احتياطياتها النقدية جنباً إلى جنب مع الذهب، بل إن حيازته تجلب لحائزه دخلاً في صورة فائدة ما كانت تعطى على الذهب، وهكذا غدا الدولار الورقي هو الصورة الرئيسية المجسدة للاحتياطيات الدولية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. (1)

(1) د. رمزي زكي: ص 74

ص: 978

وكانت اتفاقية بريتون وودز تتجه إلى تحقيق هدفين:

1-

تحديد قابلية العملات للتحويل على أساس الذهب.

2-

عدم لجوء أية دولة عضو إلى تخفيض سعر الصرف إلا بعد موافقة الصندوق.

والخلاصة: أن النظام النقدي الدولي قد صيغ بما يضمن مصالح أمريكا، وأصبح يتوقف استقراره على الطريقة التي تحدد بها أمريكا سياستها النقدية وأحوالها الاقتصادية، أو على حد قول ميلتون فريد مان:" أنه في ظل النظام القائم على الدولار.. تتحدد السياسات النقدية في العالم بالسياسة النقدية التي يرسمها بنك الاحتياط الفيدرالي في واشنطون"(1)

ولذلك لما أصبحت أمريكا عاجزة عن توفير الغطاء الذهبي للدولار أعلن الرئيس الأمريكي نيكسون في أغسطس عام 1971 م إيقاف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، وهكذا، وبقرار منفرد سقطت أهم دعامة كان يقوم عليها نظام بريتون وودز، حيث تلاه تخفيض في الدولار في عام 1971 م نفسه، فتلاه الإفراط في حجم السيولة النقدية، بل ظهرت السوق الأوربية للدولارات التي بلغ حجم الموارد التي استخدمت في هذه السوق عام 1980 م حوالي 575 بليون دولار، حيث أصبحت أحد مصادر التضخم العالمي، وعائقاً ضد السياسات النقدية الداخلية التي تستهدف محاربة التضخم، إضافة إلى العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي.

ثم انعكست آثار هذا التضخم على معظم البلاد الإسلامية (والعالم الثالث) بسبب تبعيتها اقتصاديًّا للنظام الرأسمالي العالمي حتى ولو كانت بعض هذه الدول لها مواردها الكثيرة فإن ظاهرة التضخم تعتبر أحد المحاور الهامة التي يستند إليها الاقتصاد الرأسمالي الغربي في نهب خيرات بلادنا، وزيادة في تخلفها وتعميق تبعيتها (2)

(1) د. رمزي زكي: المرجع السابق، ص 76، ود. إسماعيل صبري عبد الله: بحثه المقدم إلى المؤتمر العلمي السنوي التاسع للاقتصاديين المصريين، القاهرة 1984 م بعنوان: انهيار نظام بريتون وودز والامبريالية النقدية الأمريكية.

(2)

د. رمزي زكي: التضخم المستورد، ط. دار المستقبل العربي 1986 ص 7،8؛ ود. هشام مهروسة: بحثه في: الأزمة الراهنة والوجه الآخر المنشور في: دراسات عربية العدد 3 ص 21

ص: 979

ويمكن أن نفصل أسباب التضخم في بلادنا حيث إنها تعود إلى ما يأتي:

1-

الحروب الطاحنة التي وقعت في العالم الإسلامي التي أكلت الأخضر واليابس، وحطمت البنية الاقتصادية من أساسها، كما في الصومال، ولبنان وأفغانستان وغيرها، بل إن الحرب الخليجية الأولى (بين إيران والعراق لمدة ثماني سنوات) والثانية (الاحتلال العراقي للكويت، وما تبع ذلك) قد كلفت المسلمين تريلون وأربعمائة مليار دولار، كما في بعض الإحصائيات الأخيرة، ولذلك انهارت نقود هذه الدولة انهياراً كاملاً.

2-

قلة الإنتاج، أو عدمه في بعض الأحيان، حيث تدهورت معدلات نمو الإنتاجية على مستوى العالم الرأسمالي وغيره، منذ عام 1973 م، وقد نوقش أسباب هذا التدهور أو الانخفاض الحادث في نمو الإنتاجية في الاجتماع الدولي الذي عقده خبراء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في عام 1980 م، وتوصلوا إلى رصد أهم العوامل الكامنة وراء هذه الظاهرة، وهي:

أ- الانخفاض الذي حدث في مجالات أبحاث التطوير.

ب- انخفاض معدلات التكوين الرأسمالي.

ج- التضخم المرتفع، وبالذات بعد ارتفاع أسعار مواد الطاقة.

د- التغيرات التي حدثت في هيكل العمالة.

والإنتاج في عالمنا الإسلامي قد تدهور ولا سيما الإنتاج الزراعي والصناعي حتى أصبح يستورد أكثر من 70? على الرغم من كل هذه المواد الخام التي حبانا الله تعالى بها.

3-

تناقص معدل الربح بشكل كبير.

4-

تدهور معدلات استغلال الطاقة الإنتاجية، حيث تؤكد البيانات إلى الانخفاض، بل إلى أن الطاقات العاطلة هي ظاهرة ذات حجم كبير حتى وصلت نسبتها في 1983 م إلى أكثر من ربع الطاقات القصوى الممكنة في قطاع الصناعات التحويلية في كل من كندا وفرنسا والنرويج، في حين وصلت إلى حوالي 20? في أمريكا وبريطانيا (1)

(1) د. رمزي زكي: المرجع السابق، صـ26، وقد سرد جداول وبيانات معتمدة.

ص: 980

أما في عالمنا الإسلامي فإن معدلات الطاقة الإنتاجية لمصانعه –على الرغم من أن دورها لا يتجاوز التجميع- تكاد تكون منهارة في كثير من البلاد والأحيان.

5-

الاستهلاك الحكومي والنفقات الباهظة في عالمنا الإسلامي دون ما يقابله من الإنتاج والنمو الاقتصادي المطلوب.

6-

الديون الخارجية وفوائدها وخدماتها الباهظة مع عدم استغلالها الاستغلال المطلوب، فقد بلغت في بعض الدول عشرات المليارات.

7-

زيادة إصدار أوراق البنكنوت، وتخفيض سعر الصرف للعملة الوطنية، وتدخل صندوق النقد الدولي في هذا المجال.

8-

زيادة العجز في ميزان المدفوعات بسبب اتساع الفجوة بين الموارد المحلية، والاستيراد الخارجي، ويكفي أن نشير إلى أن نسبة العجز قد تصل في بعض الدول إلى 94? في عام 1982م.

9-

ارتفاع الاستيراد، وقلة التصدير.

10-

قلة الادخارات اللازمة للتوسع المستمر في الأعمال فأصبح التمويل يتم عن طرق التضخم. (1)

11-

التضخم المستورد: وعلى الرغم من الأسباب الداخلية للتضخم، فإن للتضخم العالمي وبالأخص الغربي تأثيراً على الاقتصاد القومي في العالم الإسلامي، وبالأخص الدولة المصدرة للبترول، فقد أثبتت الدراسات العلمية أن ظاهرة التضخم بالبلاد الإسلامية المصدرة للبترول يعود الجزء الأكبر منها إلى تأثير العوامل الخارجية، وأن تأثيره في هذه البلاد أكثر من تأثيره على البلاد غير النفطية، فالتضخم المستورد قد ساهم في عام 1979م بحوالي 10? في التضخم في السودان وبين 14 و37? في مصر، وبأقل من 20? في سوريا، في حين ساهم التضخم المستورد بنحو 278? في السعودية، و82? في الكويت و64? في قطر وبنحو 892? في ليبيا (2)

(1) يراجع: د. رمزي زكي، المرجع السابق، صـ 196، ود. محمد الحريري، المرجع السابق، صـ26.

(2)

علي توفيق الصادق: العوامل الخارجية في إحداث ظاهرة التضخم في البلاد العربية، بحث مقدم إلى اجتماع خبراء التضخم في العالم العربي الذي عقد بالمعهد العربي للتخطيط بالكويت الذي عقد في الفترة من 16-18 مارس 1985م.

ص: 981

آثار التضخم: ثم ومن المتضرر؟!:

لا شك أن المتضرر الأول على مستوى الدول: هي الدول النامية (العالم الثالث) ونحن لا نتحدث عن هذا الجانب، وإنما نتحدث عن آثار التضخم على الأفراد. فالمتضررون هم:

أولاً: أصحاب الدخول الثابتة مثل الموظفين والعمال ومستحقي الإعانات ونحوهم.

وثانياً: مؤجرو الدور والمحلات والعمارات ونحوها.

ثالثاً: أصحاب الديون المؤجلة الذي تتآكل حقوقهم بسبب التضخم، فيخرجون بلا شيء يذكر مع مرور السنوات على ديونهم.

فهؤلاء الأصناف يتضررون أكثر من غيرهم، وإلا فجميع أفراد الشعب متضررون بسبب ارتفاع الأسعار وانتقاص قيمة النقود، وانهيارها وتدهورها (1)

وأن أهم آثار التضخم إضافة إلى ما ذكر تكمن فيما يأتي:

أولاً: يؤدي التضخم إلى إعادة توزيع الدخل فرديًّا وقوميًّا بصورة عشوائية وتنتفي معه أسس العدالة، أو تتضاءل، وفي تقرير لوزارة التخطيط المصرية جاء فيه:" أن التضخم قد أدى إلى امتصاص القوة الشرائية من الطبقات ذات الدخل الثابت وتحويلها في صورة أرباح وفوائد لدى كبار التجار، وذوي الدخل غير الثابت.. وأن أخطر مضاعفات التضخم هو أن القوة الشرائية لدى الجماهير العريضة قد تم امتصاصها بالفعل، وأن توزيع الدخل القومي أصبح لغير صالح هذه الطبقات"(2)

ثانيًّا: يؤدي التضخم إلى تخفيض حجم المدخرات الاختيارية الممكنة في ظل استقرار النقود، كما أنه سيؤدي إلى سوء استخدام المدخرات الإجبارية مما يؤثر في معدل النمو الاقتصادي وبالأخص في ظل أوضاع البلدان النامية.

ثالثاً: يؤدي التضخم إلى التأثير السلبي على الاستثمار وأنماطه، واتجاه المستثمرين إلى الامتناع عن الاستثمار الداخلي، والتوجه نحو الاستثمار في الدول التي تتمتع نقودها بنوع الاستقرار.

وحينئذ يكون الخاسر في هذه المعادلة هو الدول النامية. (3)

(1) يراجع: د. موسى آدم عيسى، آثار التغيرات في قيمة النقود، ط. دلة البركة، صـ 221.

(2)

الخطة الخمسية 1978-1982م الجزء الأول: الاستراتيجية العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، إصدار وزارة التخطيط بالقاهرة صـ1-8، ويراجع المتغيرات الاقتصادية الكلية في الاقتصاد القومي 64/65 –1975م، إصدار وزارة التخطيط بالقاهرة عام 1978م، ويراجع أيضاً، د. محمود عبد الفضيل: المرجع السابق صـ 80.

(3)

د. موسى آدم: المرجع السابق، صـ241..، والمراجع السابقة.

ص: 982

رابعاً: يلعب التضخم دوراً كبيراً في التغيرات الاجتماعية ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل على صعيد الأبعاد الاجتماعية من حيث التمايز الاجتماعي، والتغير في القيم والمثل العليا، وتكوين الطبقات، والتأثير على الشرائح المتوسطة التي هي كانت أكثر عدداً لتقل بسبب التآكل المطرد في مستويات معيشتها، وتلتحق معظمها بالطبقة الفقيرة أو المعدمة، مما يهدد بأزمة حادة تمس جوهر الاستقرار والسلام الاجتماعي.

كما أنه بسبب التضخم (وأسباب أخرى) انتشر في ظله الرشوة والفساد الاجتماعي والإداري، وتدهور قيمة العمل والإنتاج، والنمط الاستهلاكي الترفي والتضخمي (1)

الكساد:

الكساد: فهو مصدر "كسد الشيء كساداً وكسوداً، أي لم يرج، لقلة الرغبة فيه، فهو كاسد، ويقال: كسدت السوق أي لم تنفق فهي كاسد، وكاسدة، ويقال: سلعة كاسدة "(2)

وفي الاصطلاح يقصد بالكساد الانخفاض في مستوى الأسعار بحيث يصل إلى مرحلة خطيرة.

فالكساد هو آخر مرحلة الانكماش الذي يعني انخفاض المستوى العام للأسعار، وارتفاع قيمة النقود، ولقد شهد العالم أسوأ صورة للكساد في الفترة ما بين (1929-1933م) .

وكل من الانكماش والكساد له آثار كبيرة على توزيع الدخل القومي، والثروة القومية، ويتضرر به أرباب الأعمال، والمدينون بديون مؤجلة سابقة بصورة خاصة، كما أنه يؤدي إلى انتشار البطالة وعدم وجود فرص للتوظيف، فمثلاً بلغ عدد العمال العاطلين عام 1933م في أمريكا وحدها ثلاثة عشر مليوناً أي حوالي 25? من حجم القوى العاملة (3)

(1) د. محمود عبد الفضيل: المرجع السابق (16/90000)

(2)

د. موسى آدم عيسى: المرجع السابق صـ 257.

(3)

وليم جاك، ولسترفونن جاندلر: علم الاقتصاد، العمليات والسياسات الاقتصادية، ترجمة سعيد السامراتي وآخرين، ط. دار المثنى ببغداد 1/119

ص: 983

كيف العلاج؟ وما موقف الفقه الإسلامي؟

والخلاصة أن أضرار التضخم والانكماش كبيرة جدًّا على الفرد والمجتمع، والدولة، وأن علاجهما يحتاج إلى خطة طموحة محكمة، واستراتيجية بعيدة المدى تتوافر فيها كل عناصر النجاح من حيث التنظير والعمل والإخلاص.

وإذا كان تطبيق ذلك ليس بأيدينا، بل يحتاج إلى سياسات دولة اقتصادية ناجحة تشترك فيها جميع الدول المؤثرة، وإن كنا نتمناه، فهل يعني ذلك أن نترك علاج الواقع لما بعد عشرات السنين؟ وهل نقول لهؤلاء الذين لهم حقوق والتزامات: عليكم بالصبر إلى ذلك الأجل؟ أو نقول لهم: إن النقود مثلية، فعليكم بأخذ نقودكم التي ثبتت لكم منذ سنوات والتي كانت لها القيمة.. فعليكم أن تأخذوا مثلها من الأوراق التي لم تبق لها قيمة تذكر؟

والذي أراه واجباً على أهل العلم النظر والاجتهاد أن ينظروا في هذه المسألة نظرة واقعية واعية فيجدوا لها حلًّا للأمور اليومية مع الحث على إيجاد حل دائم بعيد المدى.

إن استقرار النظام النقدي شرط أساسي لإقامة نظام اقتصادي إسلامي، وأنه هدف لا غنى عنه، حيث دلت الآيات والأحاديث الكثيرة على ذلك وأكدت بوضوح على وجوب رعاية المكاييل والموازين بكل عدالة وقسط، ومن المعلوم أن هذه الموازين ليست لوزن الأمور المادية فقط، وإنما هي مقاييس للقيمة.

وحينما يوجد التضخم فإنه يعني أن النقود لم تعد قادرة أن تكون مقياساً عادلاً، بل هو مقياس غير عادل يؤدي إلى عدم التوازن.

يقول الدكتور محمد عمر شابرا: "فإن التضخم يتعارض مع الاقتصادي الخالي من الربا، أنه يأكل بالتدريج سبب وجوده المتمثل في تحقيق العدالة الاجتماعية، ومع أن الإسلام يحث على إنصاف المقترض، فإنه لا يوافق على ظلم المقرض، والتضخم بلا شك يظلم المقرض في نطاق النظام الاقتصادي اللاربوي، وذلك من خلال التآكل التدريجي للقيمة الحقيقية للقرض الحسن الذي يقدم دون أي فائدة، أو حصة في الربح"(1)

ونحن نقترح للعلاج الوقتي ما يأتي:

أولاً: بيان معيار التضخم والانكماش: وأرى أن المعيار لذلك هو ربط النقود الورقية بسلة الذهب والفضة، أو السلع الأساسية، أي بمتوسط أسعارها عند نشأة الالتزام إلى قضائه، فإذا كان الفارق هو نسبة 30? فيكون هناك تضخم إذا زادت الأسعار، أو انكماش إذا قلت الأسعار.

(1) د. محمد عمر شابرا: نحو نظام نقدي عادل.

ص: 984

ثانياً: الربط القياسي (في مجال الديون والأجور والرواتب) وذلك بأن ترتبط قيمة النقود الورقية بأهم السلع الأساسية (الذهب والفضة) .

معايير لمعرفة الأسعار، والتغيرات في قيمة النقود:

وبما أن القيمة الحقيقية للنقود الورقية تكمن في قوتها الشرائية وقدرتها على أن يتبادل بها مقدار من السلع والخدمات، فإننا نحتاج للوصول إلى الحل السليم إلى معرفة أمرين:

1-

مفهوم الأسعار التي ترتبط بها قيمة النقود.

2-

معايير لقياس التغييرات في قيمة النقود.

أما الأمر الأول –فهناك نظريات حوله، ولكن الذي عليه معظم الاقتصاديين هو النظر إلى المستوى العام لأسعار أهم السلع المنتشرة في المجتمع، بحيث ينظر إلى قيمة السلعة بالنظر إلى وحدات النقود، فمثلاً لو كان سعر كيلو واحد من الأرز ريالين في عام 1990م في حين بلغ سعره من نفس النوع عام 1991م ثلاثة ريالات، وهكذا الأمر في القمح، ومعظم السلع الأساسية، فإنه حينئذ يقال بوجود التضخم في ذلك النقد بنسبة الثلث مثلاً وهكذا.

وهناك معيار آخر وهو ما يسمى بالقياس النسبي الذي يعتد بنسبة مبادلة سلعة بسلعة أخرى، ثم ينظر إلى علاقاتها التبادلية والفروق بينهما، فمثلاً حينما نبادل كمية معينة من القمح بكمية معينة من الأرز دون أن توسط النقود، فقد عرفنا السعر النسبي للقمح بالنسبة للأرز وبالعكس، وهكذا الأمر في بقية السلع، وحينئذ تكون مجموع القيم، أو العلاقات الناشئة عن المبادلات بين السلع والخدمات المختلفة في فترة معينة، هيكل الأسعار في الاقتصاد القومي غير أن هذا المقياس قد انتقد؛ لأنه يؤدي إلى ما يقترب من نظام المقايضة (1)

وعلى أي حال فإن النظر إلى المستوى العام للأسعار، أو ما يسمى بالأسعار النسبية يتطلب معرفة معايير لقياس التغيرات في قيمة النقود، وهي تعتمد على عدة أسس وقواعد ينبغي مراعاتها عند تكوين هذه المعايير، وهي:

1-

اختيار سنة الأساس، وهي الفترة التي نرجع إليها عند المقارنة، حيث يكون الرقم القياسي فيها 100?.

2-

اختيار السلع التي يتكون منها الرقم القياسي، وإعطاء كل سلعة داخلة في تركيب الرقم القياسي الوزن الحقيقي لها عند الحساب (2)

(1) د. عبد الرحمن يسري أحمد: اقتصاديات النقود، ط. الإسكندرية 1979م صـ 140؛ ود. مصطفى رشدي: الاقتصادي النقدي والمصرفي، ط. بيروت صـ 448.

(2)

يراجع للمزيد من التفصيل في كتب الإحصاء، ود. عبد المنعم ناصر الشافعي: مبادئ الإحصاء، الجزء الأول، القاهرة 1967م صـ 302؛ ويراجع د. موسى آدم: المرجع السابق صـ 71

ص: 985

3-

ثم استخدام طريقة النسبة والتناسب بين السلع بعضها إلى بعض، وبينها وبين النقود وملاحظاً فيها سنة الأساس، والسنة الحالية، والمستوى العام السنوي والمستوى العام الكلي، كما سبق.

وأما المعايير المستخدمة للتعريف على التغيرات في قيمة النقود فهي:

1-

معيار الجملة أي النظر إلى سعر الجملة، باعتبار أنه يمكن حسابه بسهولة، فننظر إلى قيمة البضاعة بالجملة عام 1990م، ثم في عام 1995م فيظهر الفرق.

2-

معيار نفقات المعيشة من المأكل والمشرب، والمسكن، وسائر المصروفات العادية، أو حسب تعبيرات فقهاؤنا: الضروريات، والحاجيات، والمحسنات، أي ما يحتاج إليه الفرد من السلع الضرورية لحفظ الضروريات الخمس، والسلع الحاجية من مواصلات، وتعليم، والسلع الكمالية المباحة شرعاً (دون إسراف ولا تبذير ولا تقتير) ، فينظر إلى الفرد العادي في عام 1990م وما يكفيه من النقود ليعيش عيشة متوسطة، فيحسب أنه يكفيه مثلاً ثلاثمائة دينار، ثم ينظر إلى مثل هذا الشخص وكم يكفيه عام 1995م مع ملاحظة نفس المستوى؟ فإذا كان يكفيه الآن خمسمائة فإن نسبة التضخم إذن هي عالية جدًّا أي 60? وهكذا.

3-

معيار العمل من خلال سوق العمل حيث ينظر إلى معدل الأجر في عام 1990م –مثلاً- مع ملاحظة معدل الأجر في عام 1995م فيظهر الفرق، والتضخم (1)

فقهاؤنا القدامى فرقوا بين النقود الاصطلاحية، والنقود الذاتية.

فقد بين العلامة ابن عابدين أن الخلاف الجاري بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف في رد المثل، أو القيمة عند اقتراض النقود إنما هو في النقود الاصطلاحية مثل الفلوس، والدنانير والدراهم اللتين غلب الغش عليهما، أما النقود الذاتية –كالدنانير والدراهم الخالصة- فيكون الرد فيها بالمثل بالإجماع، حيث يقول: "ثم اعلم أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس، والدراهم التي غلب غشها.. ويدل عليه تعليلهم لقول أبي حنيفة بعد حكايتهم الخلاف بأن الثمنية بطلت بالكساد؛ لأن الدراهم التي غلب غشها إنما جعلت ثمناً بالاصطلاح، فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح فلم تبق ثمناً.. وكذا اختلافهم في أن الواجب رد المثل أو القيمة، فإنه حيث كانت لا غش فيها لم يظهر للاختلاف فيها معنى، بل كان الواجب رد المثل بلا نزاع أصلاً (2)

وقد أشار ابن عابدين إلى ما نحن نسميه اليوم بمعيار تغيير قيمة النقود من خلال تقويم النقود بالسلع، فذكر أن النقود الاصطلاحية "تقوم بغيرها" في حين أن النقود الذاتية يقوم بها غيرها" (3)

وهذا النص الفقهي يستأنس به في عملية التقويم الذي ذكرناه.

(1) انظر: د. سامي خليل: النظريات والسياسات النقدية والمالية، الكويت 1982م (2/33)

(2)

تنبيه الرقود على مسائل النقود، ط. استنبول 1321هـ (2/6-62)

(3)

تنبيه الرقود (2/62)

ص: 986

الآراء الفقهية في تغير قيمة النقود:

منذ اشتغالي بهذا الموضوع في عام 1986م إلى يومنا هذا أجد أن آراء المعاصرين تدور حول نقطتين.

أولاهما: أن نقودنا الورقية هل هي مثلية مثل الذهب والفضة، أم أنها يمكن أن تتحول إلى قيمة عند تغير قيمتها، أو انهيارها؟ وأن الذين يقولون بعدم الاعتناء بتغيرها قالوا: إنها مثلية مثل نقود الذهب والفضة.

ولذلك عالجت في بحثي الذي قدمته للمؤتمر الخامس لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي عام 1988م هذا الموضوع من خلال قاعدة المثلي والقيمي، وأثبت بالأدلة المعتبرة أن نقودنا الورقية ليست مثل النقود الذهبية أو الفضة في كل شيء وأن الذهب نفسه قد تدخل فيه صنعة أو تغيير فيتحول إلى قيمي.

ثانيتهما: أن هؤلاء الذين قالوا بأن نقودنا الورقية يجب الرد فيها بالمثل اعتمدوا على آراء جمهور الفقهاء السابقين في أن تغير قيمة النقود ليس له أثر في الحقوق والالتزامات.

ومع أن في هذه المسألة خلاف أبي يوسف، ولكني أرى أنه لا ينبغي تنزيل آراء فقهائنا القدامى على نقودنا الورقية.

إذن: فالخلاف هنا الآن في فقه التنزيل، ولو نظرنا جميعاً نظرة واقعية لتبين لنا أننا لو قسنا النقود الورقية على النقود الذهبية والفضية في الرد بالمثل مهما تغيرت قيمتها لحكمنا بظلم بين على الدائن، ومن المعروف أن هذه الشريعة خالية عن الظلم، وقائمة على العدل، وأن أي مسألة خرجت من العدل إلى الظلم، فليست من هذه الشريعة، "وحيث ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله، وأمره".

لذلك فالذي نراه راجحاً هو أن الأصل في النقود الورقية أيضاً أنها مثلية، ولا نخرجها عن المثلية إلا إذا زالت عنها هذه المثلية من انهيار قيمتها، أو وقع غبن فاحش فيها، وهذا إنما يظهر في الحقوق الآجلة، لا الحقوق العاجلة.

نظرية الظروف الطارئة تدعم هذا التوجه:

هذه النظرية التي تنبثق من قواعد العدالة والمصالح العامة وقاعدة وحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) تتفق تماماً مع العلاج الذي ذكرناه والذي ذهب إليه بعض المالكية، ورجحوه.

وقد أقر المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة المنعقدة في 1402هـ قواعد ومسائل في غاية من الأهمية انبثقت من نظرية الظروف الطارئة، نذكرها لأهميتها في الملحق.

ص: 987

وهذا الربط بين هذه النظرية، وبين تغير قيمة النقود والحكم بقيمتها يوم التعاقد نجده في بعض الأحكام التي صدرت في مصر إثر سقوط الفرنك والمارك في العقد الثاني من هذا القرن، حيث صدر حكم محكمة الاستئناف المختلطة الصادر في 4/3/1925م وحكمها الآخر في 5/9/1925م، وحكمها الثالث في 18/3/1926م حيث حكمت في جميعها بأن يكون السداد طبقاً لسعر المارك يوم التعاقد. (1)

وقد ربط بعض الباحثين بين هذه النظرية وبين تغير قيمة النقود، وأصلها، فقال:"على أن تطبيق نظرية الظروف الطارئة في مسائل النقد في الفقه الإسلامي يظهر واضحاً فيما قرره ابن عابدين في العقود المعقودة بالقروش، إذا هبطت قيم العملات التي كان يحصل بها الوفاء هبوطاً متفاوتاً، فقد رأى أن الضرر الناشئ من هذا الهبوط لا يجوز أن يتحمله أحد العاقدين وحده، وإنما يجب أن يتحمله الاثنان معاً، وذلك بالوفاء من الأوسط من تلك العملات، وقد بنى رأيه على نية المتعاقدين وعلى حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) وهو من قواعد نظرية الضرورة التي قامت على مبدأ العدالة، وهذا الرأي يطابق ما أخذ به القانون المصري والسوري من رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول".

وخلاصة ما ننهي به هذا الفصل أن نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي بتطبيقاتها التي عرضنا لها، تتسع لنظرية الظروف الطارئة، بل يمكننا القول بأن هذه الأخيرة تعد من جملة تطبيقات نظرية الضرورة، ما دامت النظريتان قائمتين على أساس واحد وهو مبدأ العدالة (2)

(1) انظر: مجلة المحاكم المختلطة عام 1925م، 1926م؛ ويراجع د. عبد السلام الترمانيني: نظرية الظروف الطارئة، دراسة تاريخية ومقارنة بالشريعة الإسلامية، ط. دار الفكر 1971م صـ86، 87.

(2)

د. عبد السلام الترمانيني: المرجع السابق، صـ 87

ص: 988

فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره قبل أن تبدل الظروف وطروء التغييرات الكبيرة المشار إليها مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقة أو ساحقة، تمسكاً بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات، أو له مخرج وعلاج من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة يعيد كفتي الميزان إلى التعادل، ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟

وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع من فقه المذاهب واستعراض قواعد الشريعة ذات العلاقة مما يستأنس به ويمكن أن يوصى بالحكم القياسي والاجتهاد الواجب فقهاً في الشأن كما رجع إلى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي:

1-

إن الإجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة كالحرب والطوفان ونحو ذلك، بل الحنفية يسوغون فسخ الإجارة أيضا بالأعذار الخاصة بالمستأجر مما يدل على أن جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم أيضاً بطريق الأولوية فيمكن القول أنه محل اتفاق وذكر ابن رشد في بداية المجتهد (ص 192 من طبعة الخانجي الأولى بالمطبعة الجمالية بمصر) تحت عنوان:(أحكام الطوارئ) أنه: (عند مالك أن أرض المطر –أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط- إذا كريت فمنع القحط من زراعتها، أو إذا زرعها المكتري فلم ينبت الزرع لمكان القحط –أي بسببه- أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة فلم يتمكن المكتري من زرعها) انتهى كلام ابن رشد.

2-

وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الإجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير ج6/ص30) إنه: (إذا حدث خوف عام يمنع من سكنى ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصر البلد فامتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع أو نحو ذلك، فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ؛ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة، فأما إذا كان الخوف خاصًّا بالمستأجر، من أن يخاف وحده لقرب أعدائه

لم يملك الفسخ؛ لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية فأشبه مرضه) .

ص: 989

ومما لا شك فيه أن العقد الذي يعقد وفقاً لنظامه الشرعي يكون ملزماً لعاقديه قضاء عملاً بقوله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .

ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي الملزم للمخاطبين به كافة وقد وجد المجمع في مقاييس التكاليف الشرعية، ومعايير حكمة التشريع أن المشقة لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته، كمشقة القيام في الصلاة، ومشقة الجوع والعطش في الصيام، لا تسقط التكليف، ولا توجب فيه التخفيف، ولكنها إذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكليف بحسبه، أسقطته أو خففته، كمشقة المريض في قيامه في الصلاة ومشقته في الصيام وكمشقة الأعمى والأعرج في الجهاد، فإن المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي توجب تدبيراً استثنائيًّا يدفع الحد المرهق منها، وقد نص على ذلك وأسهب في بيانه، وأتى عليه بكثير من الأمثلة في أحكام الشريعة الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة) .

فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة لا تأثير لها في العقود؛ لأنها من طبيعة التجارة وتقلباتها لا تنفك عنها، ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيرا بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيراً استثنائيًّا.

ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) :

(إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض وكل أمر أخرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها فليس من شرع الله في شيء وحيثما ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره)(إعلام الموقعين) وقصر العاقدين إنما تكشف عنه وتحدده ظروف العقد، وهذا القصر لا يمكن تجاهله والأخذ بحرفية العقد مهما كانت النتائج فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.

ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفاً في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية، يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:

1-

في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلاً غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييراً كبيراً بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحالة عند التنازع وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانباً معقولاً من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعاً رأي أهل الخبرة الثقات.

ص: 990

2-

ويحق للقاضي أيضاً أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيراً بهذا الإهمال.

هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقاً للعدل الواجب بين طرفي العقد، ومنعاً للضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لا يد له فيه، وأن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعي الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها، والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

[توقيع][اعتذر لمرضه]

نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي

محمد علي الحركان عبد الله بن حميد

الأعضاء

[توقيع][توقيع][توقيع]

عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد محمود الصواف صالح بن عثيمين

[توقيع][تخلف عن الحضور][توقيع]

محمد بن عبد الله بن السبيل مبروك العوادي محمد الشاذلي النيفر

[توقيع][توقيع][توقيع]

مصطفى أحمد الزرقاء عبد القدوس الهاشمي محمد رشيدي

[تخلف عن الحضور][توقيع][تخلف عن الحضور]

أبو الحسن علي الحسني الندوي أبو بكر محمود جومي حسنين محمد مخلوف

[توقيع][تخلف عن الحضور][توقيع]

محمد رشيد قباني محمود شيت خطاب محمد سالم عدود

مقرر المجمع الفقهي الإسلامي

محمد عبد الرحيم الخالي

[مقرر المجمع الفقهي الإسلامي]

محمد عبد الرحيم الخالد

ص: 991

تمهيد

لا شك في أن قضية النقود الورقية، وما يصاحبها من تذبذب في أسعارها لا تزال تشغل بال المهتمين بالقضايا الاقتصادية، حيث إن لها أثراً كبيراً على الالتزامات والحقوق.

ولذلك ارتأيت أن أبحث هذا الموضوع (1) على ضوء قواعد الفقه الإسلامي، ولا سيما قاعدتا المثلي والقيمي، وأن أقدم خلاصة هذا الموضوع على شكل بحث إلى مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة التي انعقدت بالكويت في يناير 1988، ونوقش البحث، ضمن مجموعة من البحوث المقدمة من السادة العلماء، ثم اتخذ قراراً بالأغلبية ضمنه فيه أن "العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملية ما، هي بالمثل، وليس بالقيمة" ولم يرتض بهذا القرار جماعة من الحاضرين حتى قدموا مذكرة إلى الدورة السادسة المنعقدة بجدة وكان المجمع نفسه قد اتخذ قراراً في دورته الثالثة بعمان في أكتوبر 1986 ضمنه فيه: أن العملات الورقية نقود اعتبارية، فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا، والزكاة، والسلم وسائر أحكامهما.

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية الموضوع، وحيويته، ولذلك لم يقتنع به مجموعة من أعضاء المؤتمر، فقدموا مذكرة للمجمع في دورته السادسة التي انعقدت بجدة في الفترة من 13-21 مارس 1990 وقام المجمع فعلاً بتشكيل لجنة، فقررت إحالة هذا الموضوع إلى ندوة موسعة، يشترك فيها مجموعة من الفقهاء والاقتصاديين؛ ليصلوا إلى التوصيات المطلوبة بصدده.

وقد اكتنف العملات الورقية منذ ظهورها في أوربا اضطراب شديد وتذبذب في معظم الأوقات، ونالت قسطاً كبيراً من التقلبات: صعوداً ونزولاً، قوة وضعفاً وتضخماً وتدهوراً في قيمتها، بل انهياراً وانخفاضاً حادًّا قد يصل في بعض الأحيان إلى أن تفقد قوتها الشرائية ومعياريتها للسلع، بحيث تصبح السلع لها معياراً، كما حصل في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، والثانية، وقد أصبحت أصابع الاتهام تمتد نحو العملات الورقية بأنها السبب الأهم في التضخم، الذي تعاني منه معظم الدول، ويؤكد ذلك أن مثل هذا التضخم والتذبذب لم يشهد مثلهما العالم حينما كانت النقود الذهبية والفضية سائدة فيه.

(1) وقد أثرت هذا البحث في ندوة بكلية الشريعة بجامعة قطر عام 1987، وتبعها ندوة أخرى، ودارت حولهما مناقشات جادة، وقد أبدى هذه الفكرة معظم الحاضرين منهم فضيلة شيخنا الجليل الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور جمال الدين عطية، وغيرهما، كما نشر هذا البحث في مجلة المسلم المعاصر في عددها 51 وما بعدها

ص: 992

وعلى الرغم من كل هذه الآثار الخطيرة التي ترتبت على العملات الورقية، فإنها لم تفقد بعد قيمتها الاقتصادية وأهميتها في عالم الاقتصاد، فلا تزال شريانه العام الذي يتأثر به جميع فروع التعامل المحلي والعالمي، وتتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية عن الاستقرار المالي، أو زعزعته وعدم استقراره.

والذي عقدنا العزم على بحثه هنا ليس إثارة الشك في نقدية هذه العملات الورقية؛ لأن العرف على ذلك قائم، ولا في إيجاب الزكاة فيها؛ لأنها مال (1) ولا في الربا، حيث إن الربا فيها ثابت، وإنما لبحث ما يترتب على تذبذب أسعار النقود من آثار في الحقوق والالتزامات.

فهل هي مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام أم أنها تختلف عنهما في بعض الأحكام؟ –أي تؤدي بعض وظائف النقود دون بعض- وبعبارة أخرى هل هي مثلية حتى يكون الرد فيها بالمثل دون النظر إلى قيمتها أم أنها قيمية يلاحظ فيها القيمة، ولكن مع وضع معايير لها حتى لا تضطرب الأحوال؟

لا شك في أن النتيجة على كلا الافتراضين لا تخلو من مخاطر، وذلك لأن القول بمثليتها مطلقاً تترتب عليه مشاكل تعتبر –في نظرنا- مظالم يجب الابتعاد عنها، وكذلك القول بقيميتها يؤدي إلى خلخلة النظام النقدي وتذبذبه بشكل خطير، وينتج عنه عدم وجود النقد في عالمنا المعاصر، ولكن هل بالإمكان الوصول إلى حل وسط يحفظ للنقد الورقي نقديته، ويلاحظ فيه قيمته على ضوء معايير مرنة لها ضوابطها وشروطها- كما سيأتي؟

حتى تكون الصورة أكثر وضوحاً نضرب هنا مثالين لهذا التذبذب الخطير في أسعار العملات الورقية.

المثال الأول:

أقرض شخص عام 1970م مبلغاً قدره مائة ألف ليرة لبنانية لآخر يريد الآن (أي في أكتوبر 1987) ردها. فما الواجب عليه؟ هل نقول بالمثلية ونقف عند الشك ويكون جوابنا بوجوب رد المبلغ المذكور بالليرة اللبنانية نفسها، أم نقول: نلاحظ القيمة والقوة الشرائية لهذا النقد في وقت القبض، حيث كان المبلغ السابق في وقته يشترى به منزل محترم، أو مطابع، أو عشرات الأطنان من الغذاء، أو عدة آلاف من الذهب، وكان يساوي حوالي خمسين ألف دولار أمريكي، حيث كانت الليرة الواجدة تساوي نصف دولار أمريكي تقريباً، أما الآن فالدولار الواحد يساوي حوالي (400 ليرة)(2) فعلى ضوء ذلك فمائة ألف ليرة تساوي الآن (250) دولاراً فقط، فعلى ضوء ذلك فالدائن لم يسترد في مقابل مبلغه الكبير إلا هذا المبلغ الضئيل، الذي لا يساوي أكثر من أن يطعم به عدد محدود من الناس، ولا يشترى به إلا حوالي ستة عشر جراماً من الذهب الخالص، بل إن الصحف نشرت أن بعض اللبنانيين زينوا بيوتهم بهذه العملات الورقية؛ لأنها أرخص حتى من الورق العادي نفسه.

(1) يراجع: فقه الزكاة لفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي (1/271-281) .

(2)

كان ذلك في أكتوبر 1987، ربما بعد أن بلغت قيمته (500) ليرة لبنانية ويكون مبلغ مائة ألف ليرة الآن يساوي (200) دولار فقط بل وصلت أخيراً إلى 1000 ليرة فحينئذ يساوي مائة دولار فقط بدل 50 ألف دولار سابقاً.

ص: 993

المثال الثاني:

ما حدث للمارك الألماني بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث انهارت قيمته وأصبحت عشرات الآلاف منه لا يشترى بها إلا رغيف واحد، فلو أخذ شخص من آخر آنذاك ديناً قدره عشرة آلاف مارك، ليشترى بها رغيفاً أو نصف رغيف، ثم مضت السنون، وارتفع المارك الألماني –كما في وقتنا الحاضر- وطالب الدائن بالاسترداد فكم يرد؟ هل يرد المبلغ السابق رعاية للمثل أم تلاحظ فيه قيمته الشرائية في وقته؟ فالمبلغ السابق اشترى به المدين في وقته نصف رغيف، أما الآن فهو يساوي حوالي (5895) دولاراً أي يشتري به عدة أطنان من المواد الغذائية.

ولا يقال: إن هذين المثالين من الأمور النادرة التي تعكس قاعدة عامة، وذلك لأن أغلب العملات قد أصابها تذبذب كبيرة مثل الليرة التركية، والجنيه المصري، والدينار العراقي، والليرة السورية، والروبية، وغيرها من العملات العربية والإسلامية والأجنبية، وإن كانت بنسب متفاوتة، كما أن نسبة الهبوط، أو الارتفاع لم تصل إلى ما بلغته الليرة اللبنانية، والمارك الألماني.

ثم إن الآثار التي نجمت عنها لا تقف عند رد القروض، بل تشمل جميع الحقوق والالتزامات المؤجلة، مثل الإيجارات، والرواتب، والمهور، وبدل الطلاق (الخلع) وغير ذلك.

وبالنسبة لكثير من الدول الغربية –مصدر نشأة النقود الورقية- تفادوا كثيراً من مشاكلها على مستوى الإجارات، والرواتب، حيث إنها تلاحظ نسبة التضخم، وتراعى القوة الشرائية للعملة، ووضعت بعضها سلة للسلع يقيسون بها القوة الشرائية للنقود، كما أن النظام الغربي الرأسمالي قائم على الفوائد الربوية التي تغطي – في نظره غالباً- تذبذب النقود واضطراب أسعارها، في حين أن نظامنا الإسلامي لا يسمح بذلك قطعاً.

وفي الواقع قد بلغت هذه المشكلة ذروتها وترتبت عليها نتائج خطيرة، أدت إلى إعادة النظر في كثير من المسائل المتعلقة بنظام النقد العالمي، لذلك أولاها الاقتصاديون العالميون عناية بالغة، وأدركوا سلبيات نظام الورق النقدي، وما ترتب عليه من صعوبات جمة، ومشاكل خطيرة وقعت في حبائلها الدول والأفراد، فقد عقدت، لأجل وضع الحلول لها، مؤتمرات دولية على مستوى المتخصصين، ورؤساء الدول، والتي كان آخرها مؤتمر صندوق النقد الدولي في شهر سبتمبر 1987 الذي كان المندوب الأمريكي قد اقترح فيه ربط الدولار بالذهب، بأن يوافق المؤتمر على أن يكتب عليه أن الدولار يساوي كذا من الذهب، وحينئذ يرتبط الدولار بالذهب، ويستقر سعره ولكن دون أن تضع أمريكا في مقابله غطاءً حقيقيًّا من الذهب، ولذلك تصدى له المندوب البلجيكي وسفه رأيه، واعتبر ذلك غنماً دون أن يكون عليه غرم، ومعنى ذلك لو قدمت أمريكا غطاءً فعليًّا من الذهب، لرضي به المؤتمرون، كما أنه بجانب ذلك هناك اقتصاديون غربيون يعدون بكل ما لديهم من قوة، إلى إعادة الغطاء الذهبي، لكن صوته خافت نتيجة التعتيم الإعلامي.

ص: 994

ومن الجدير بالتنبيه عليه أن هذه المشاكل جاءت إثر تقرير نظام ورقي ليس لنا –نحن المسلمين- دور في إنشائه، ولا في تطويره وما ترتب عليه من تضخم، حيث ولد هذا النظم الورقي في أحضان الغرب والنظام الرأسمالي، وكانت ولادته بحيلة قانونية –كما نشرحها- ومن هنا فلا بد ألا ننظر إليه نظرة تقديس، بحيث لا يمكن أن يمسها تغيير أو تبديل، أو نعتبره الذي لا يمكن تغييره، أو الاجتهاد فيه، فقد رأينا الاقتراح الأمريكي القائم على ربط الدولار بالذهب مرة أخرى، بعد أن ألغى هذا الربط نتيجة الضغوط الاقتصادية، ولو كان لأمريكا غطاء فعلي من الذهب، لقبله المؤتمرون.

ومن جانب آخر إن الدول الغربية الكبرى تستطيع من خلال ربط نقود كثير من الدول بنقودها أن تتحكم حسب ما يحقق مصالحهم، فأمريكا تستطيع من خلال نقدها، الذي ارتبطت به كثير من نقود العالم والمعاملات الدولية، أن تضرب مصالح كثير من الدول من خلال تخفيض سعر الدولار، كما حصل بالنسبة لليابان، حيث قامت بعدة إجراءات أدت إلى خفض سعر الدولار، وبالتالي ارتفع سعر الين الياباني، وترتب على ذلك ارتفاع أسعار المنتجات اليابانية وخفض أسعار المنتجات الأمريكية، أو ثباتها، وبالتالي إقبال الناس عليها، كما نراه الآن، حيث أقبل الناس على شراء السيارات الأمريكية بدلاً من السيارات اليابانية، وأيضاً يمكن للغرب التحكم في عدم الفاعلية في كثير من المساعدات التي تقدم إلى الدول الفقيرة، حيث إن التضخم يقلل من فاعليتها، فلو كانت نقود الدول مرتبطة بالذهب والفضة فهل كان بإمكان أية دولة أن تتحكم بهذه الصورة في مصير الشعوب والأفراد؟ وهل كانت الحروب تؤثر في دخول الأفراد وأموالهم التي جمعوها بعرق الجبين ثم تصبح بين عشية وضحاها شيئاً لا قيمة له؟

وسنتكلم في هذا البحث عن تعريف النقود، والسياسة النقدية في الإسلام بإيجاز، ثم عن نبذة تاريخية عنها، وكيفية ظهور العملات الورقية، والأساس الذي اعتمدت عليه، وعلاقتها بالذهب والفضة، ثم تناول فيه أحكام الذهب والفضة، وأحكام الفلوس، إذا كانت رائجة، أو كاسدة، أو ملغية، ثم نثير موضوع القيميات والمثليات في الفقه الإسلامي، والمعايير التي وضعها الفقهاء لهما، ثم مدى تطبيقها على النقود الورقية، ثم نصل إلى خلاصة البحث والرأي الذي يرجحه الدليل وتأثيره الفقهي، والمعيار الذي نعتمد عليه عند التقويم، ومتى نلجأ إليه؟ وزمن التقويم ومكانه، وما يدور في هذا الفلك بإذن الله تعالى.

ص: 995

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

قبل أن نخوض في غمار البحث، أرى من الضروري أن نذكر بعض مبادئ تكون ممهدات له وهي:

المبدأ الأول:

أن ما ورد فيه النص الثابت من الكتاب والسنة، الخالي من المعارض المعتبر، لا يجوز الاجتهاد بخلافه تحت أي غطاء "فلا اجتهاد مع النص" لأنه الأصل وما عداه الفرع، فلا ينبغي أن يعارض الأصل بالفرع، ولكن ذلك لا يمنع من الاجتهاد في النص من حيث الدلالات والمعاني والعلل المعتبرات.

ولما كانت النقود الورقية حديثة العهد، لم تكن موجودة في عصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر الصحابة والتابعين والفقهاء، وإنما ظهرت في عصرنا الحاضر، لذلك فباب الاجتهاد فيها مفتوح على ضوء القواعد العامة في فقهنا الإسلامي العظيم، ومن هنا فوجود الآراء السائدة فيها سواء كانت على شكل رأي فردي، أو رأي بعض مجامع فقهية، لا يمنع من طرح هذه القضية مرة أخرى لا سيما إذا صاحبتها ظروف وملابسات جدية لم تكن موجودة، أو لم تظهر بشكلها الحالي من قبل، للوصول إلى تأصيل الرأي المختار من خلال الأطر العامة والقواعد الكلية للشريعة الغراء، مع ملاحظة ما جد فيها من أمور لم تكن موجودة من قبل.

المبدأ الثاني:

إن الاجتهادات المبنية على المصلحة تدور معها وجوداً وعدماً، وقد عقد ابن القيم لها فصلاً في كتابه القيم: إعلام الموقعين، وسرد لذلك أمثلة كثيرة.

المبدأ الثالث:

رعاية المقاصد والمبادئ الأساسية والقواعد الكلية التي انبثقت من الشريعة الغراء مقدمة على رعاية الجزئيات والفروع، ولا سيما إذا كانت اجتهادية، فمن هذه المبادئ: مبدأ العدل وعدم الظلم، الذي جاء لأجله الإسلام قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأصل في العقود جميعها هو العدل، فإنه بعثت به الرسل وأنزلت الكتب.. والشارع نهى عن الربا، لما فيه من الظلم، وعن الميسر، لما فيه من الظلم"(1) والإسلام هو العدل المطلق في كل الاعتبارات والأحوال {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، ولذلك أمر بتحقيق العدالة حتى مع المرابين:{لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فكيف لا يطبق هذا المبدأ على الدائنين؟

(1) مجموع الفتاوى (20/510) .

ص: 996

ومن هذه المبادئ والقواعد العامة قاعدة ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) التي هي حديث نبوي شريف تلقته الأمة بالقبول، وأصبح من الكليات التي عليها مدار الفقه الإسلامي.

المبدأ الرابع:

مراعاة حقيقة الشيء دون الشكل والاسم فقط، ومن هنا لا بد من رعاية الجانب التاريخي، والمراحل التي مرت بها النقود الورقية، والظروف التي أحاطت بكيفية ظهورها، حيث كانت في البداية بمثابة ورقة توثيق وسند بالذهب المودع عند الصراف، أو البنك ثم تبنتها الدولة بغطاء كامل، ثم بغطاء ناقص، ثم ألغت هذا الغطاء –كما سيتضح فيما بعد- ومن هنا، فما قاله العلماء حولها لا بد من رعاية هذا الجانب التأريخي، فلا نحمل قولهم في فترة زمنية محددة بخصوص النقد الورقي على إطلاقه وعمومه، بل لا بد من ملاحظة هذا البعد التاريخي والظروف التي لابسته.

فعلى ضوء هذه المبادئ العامة، والمقاصد العامة للشريعة، والنصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نسير في إلقاء المزيد من الضوء على هذه المسألة المهمة التي تمس حياتنا المعاصرة، باحثين عن كل مسألة فقهية، تتعلق بها في بطون الكتب الفقهية، مهما كانت متناثرة كي تكون تأصيلاً لها وبمثابة جذور تعتمد عليها.

السياسة النقدية في الإسلام:

عني العلماء المسلمون بالسياسة النقدية وأولوها عناية كبيرة، وناطوها بالإمام ضمن وظائفه السلطانية قال الإمام أحمد:"لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان؛ لأن الناس إن رخص لهم ركبوا العظائم، فقد منع من الضرب بغير إذن السلطان، لما فيه من الافتيات عليه"(2) ولما فيه من المخاطر العظيمة، كما أوجبوا على الدولة الإسلامية أن توفر للنقود جوًّا من الاستقرار والثبات، وتبعد عنها كل الوسائل المؤدية إلى اضطرابها وتذبذبها، ولذلك حرم الغش فيها، وشدد في ذلك أكثر من غيره، باعتبار أن النقود معايير للأشياء، فأضرار الغش فيها أكثر خطورة، وأشد ضرراً وإضراراً، يقول ابن خلدون:"ولفظ السكة كان اسماً للطابع، وهي الحديدة المتخذة لذلك، ثم نقل إلى أثرها، وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم، ثم نقل إلى القيام على ذلك، والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة، فصار علماً عليها في عرف الدول، وهي وظيفة ضرورية للملك، إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات، ويتقون في سلامتها من الغش بختم السلطان"(3)

(1) رواه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية ص (464) ؛ وأحمد في مسنده (5/327) ؛ والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه المطبوع مع المستدرك (2/57) .

(2)

الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى، ط. مصطفى الحلبي ص (181) ؛ وراجع المجموع للنووي.

(3)

المقدمة، ط/ عبد السلام بن شقرون بمصر ص (229)

ص: 997

وقد نهى القرآن الكريم عن الغش، في الكيل والميزان وبخس النقود فقال تعالى:{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 85]، وقال تعالى على لسان شعيب أيضاً:{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] . وقد ذكر المفسرون أن المراد بالبخس هو قطع الدراهم والدنانير والإنقاص منها والغش فيها. يقول القاضي أبو بكر: "قال ابن وهب: قال مالك كانوا –أي قوم شعيب- يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين، وكسر الدنانير والدراهم ذنب عظيم؛ لأنها الواسطة في تقدير قيم الأشياء، والسبيل إلى معرفة كمية الأموال، وتنزيلها في المعاوضات حتى عبر عنها بعض العلماء بأنها القاضي بين الأموال عند اختلاف المقادير أو جهلها، وإن من حبسها ولم يصرفها، فكأنه حبس القاضي وحجبه عن الناس، والدراهم والدنانير إذا كانت صحاحاً قام معناها، وظهرت فائدتها، فإذا كسرت صارت سلعة، وبطلت الفائدة فيها، فأضر ذلك بالناس، فلأجله حرم. وقد قال ابن المسيب: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض، وكذلك قال زيد بن أسلم في هذه الآية، وفسرها به، ومثلها عن يحيى بن سعيد من رواية مالك عنهم كلهم".

وقد قيل في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] .

قال زيد بن أسلم: "كانوا يكسرون الدراهم والدنانير"(1) وقد شدد العلماء في عقوبة الغش في النقود، فقد روى عن عمر بن عبد العزيز أنه جعله من الفساد في الأرض (2) ولذلك نرى مجيء النهي عن الإفساد في الأرض بعد قوله تعالى:{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85] في الآيتين السابقتين، بل إن بعض العلماء ذهبوا إلى عدم قبول شهادته، قال ابن العربي:"قال أصبغ: قال عبد الرحمن بن القاسم: من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر.." ثم قال القاضي: "إذا كان هذا معصية وفساداً يرد الشهادة، فإنه يعاقب من فعل ذلك"، واختلف في عقوبته على ثلاثة أقوال:

الأول:

قال مالك: يعاقبه السلطان على ذلك هكذا مطلقاً، (أي يناط الأمر في عقوبته باجتهاد الإمام، حسب الظروف والملابسات التي تحيط بكل قضية) .

(1) أحكام القرآن لابن العربي ط. دار المعرفة (ذ/1063) .

(2)

المصدر السابق نفسه

ص: 998

الثاني:

قال ابن المسيب – ونحوه عن سفيان: إنه مر برجل قد جلد، فقال ابن المسيب: ما هذا؟ فقالوا: رجل كان يقطع الدراهم، قال ابن المسيب: هذا من الفساد في الأرض، ولم ينكر جلده.

الثالث:

قال أبو عبد الرحمن التجبيى: كنت عند عمر بن عبد العزيز قاعداً، وهو إذ ذاك أمير المدينة، فأتى برجل يقطع الدراهم، وقد شهد عليه، فضربه وحلقه، فأمر فطيف به.. ثم قال له: إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا إني لم أكن قد تقدمت في ذلك قبل اليوم فقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع. قال ابن العربي معلقاً على هذا: "وأما قطع يده، فإنما أخذ ذلك عمر –والله أعلم- من فصل السرقة، وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص القدر، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء.. وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدراهم والدنانير" ثم قال: "وأرى القطع في قرضها دون كسرها، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم"(1)

وقد اعتبره أحمد أيضاً في رواية من الفساد في الأرض، حيث سئل عن كسر الدراهم؟ فقال:"هو عندي من الفساد في الأرض"(2) وذكر القاضي أبو يعلي، أن مروان بن الحكم قطع يد رجل قطع درهماً من دراهم فارس، وروى ابن منصور أنه قال لأحمد:"إن ابن الزبير قدم مكة فوجد بها رجلاً يقرض الدراهم فقطع يده"(3)

كل ذلك يدل على مدى الأهمية والمخاطر التي تنجم عن التلاعب بالنقود التي يترتب عليه الظلم، وهضم الحقوق، واضطراب الأحوال والأسواق.

قال الشيخ رشيد رضا: "والبخس أعم من نقص المكيل والموزون، فإنه يشمل غيرهما من المبيعات كالمواشي والمعدودات، ويشمل البخس في المساومة، والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق، وكذا بخس الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل"(4)

وإذا تدبرنا في الآيات الخاصة بمنع البخس نرى أنها تضمنت في المكانين النهي عن الإفساد، والتأكيد على أن التوحيد وعدم البخس هو الخير ففي سورة الأعراف:{قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) } [الأعراف: 85-86] .

(1) أحكام القرآن (3/1065-1066) .

(2)

الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلي (ص182-183) .

(3)

الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى (ص 182-183)

(4)

تفسير المنار. ذ/ الهيئة المصرية العامة للكتاب (8/468)

ص: 999

وفي سورة هود: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود: 85- 86] حيث يدلان بوضوح على مدى العلاقة الوثيقة بين الإفساد والبخس وعدم الوفاء بالكيل والميزان بالقسط، ثم التأكيد فيهما على أن التوحيد والالتزام بالعدالة والميزان بالقسط، ثم التأكيد فيهما على أن التوحيد والالتزام بالعدالة وعدم بخس الأشياء والنقود، يعود بالنفع والخير على المجتمع وعلى الإنسانية جميعاً، وما نراه الآن من مشاكل التضخم والديون يؤكد ذلك، ويبرهن على إصلاح المجتمع وسعادته، لا يتمان إلا من خلال العدالة والحفاظ على الاستقرار والتوازن المطلوب، هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى القرآن الكريم أمر بعبادة الله وحده، ثم دعاهم إلى العدالة وعدم الغش، مما يدل على أن القدرة على الإصلاح لا تتأتى إلا إذا كانت قد سبقها الإعداد الروحي الإيماني، يقول الأستاذ رشيد رضا:"فالتحقيق الذي ثبت بالدلائل العقلية والنقلية والتجارب الدقيقة أن ملكات الفضائل لا تطبع في الأنفس إلا بالتربية الدينية"(1)

ويقول ابن رشد: "الدنانير التي قطعها من الفساد في الأرض هي الدنانير الدائمة التي تجوز عدداً بغير وزن، فإذا قطعت، فردت ناقصة، غش بها الناس، فكان ذلك من الفساد في الأرض"، وقد جاء في تفسير قوله تعالى:{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87] : "أنهم أرادوا بذلك قطع الدنانير والدراهم؛ لأنه كان قد نهاهم عن ذلك.."(2)

وقد حرم الإسلام الغش في كل شيء، ومنه النقود، فقال صلى الله عليه وسلم:((من غشنا فليس منا)) (3) كما دلت السنة المشرفة على حرمة كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم، إلا إذا كان فيها أمر يقتضي ذلك، فقد روى أحمد والحاكم وأبو داود وابن ماجه بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم، إلا من بأس (4) قال الشوكاني:"وفي معنى كسر الدراهم.. كسر الفلوس التي عليهم سكة الإمام، ولا سيما إذا كان التعامل هذا جارياً بين المسلمين كثيراً. والحكمة في النهي: ما في الكسر من الضرر، بإضاعة المال لما يحصل من النقصان في الدراهم ونحوها إذا كسرت، وأبطلت المعاملة بها، ولا يخفى أن الشارع لم يأذن في الكسر إلا إذا كان بها بأس، ومجرد الإبدال، لنفع البعض ربما أفضى إلى الضرر بالكثير من الناس" وقال أبو العباس ابن سريح: "إنهم كانوا يقرضون أطراف الدراهم والدنانير بالمقراض، ويخرجونهما عن السعر الذي يأخذونهما به، ويجمعون من تلك القراضة شيئاً كثيراً بالسبك، كما هو معهود في المملكة الشامية وغيرها، وهذه الفعلة هي التي نهى الله عنها قوم شعيب بقوله: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 85] فقالوا: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا} [هود: 87] يعني الدراهم والدنانير {مَا نَشَاءُ} [هود: 87] من القرض –أي القطع- ولم ينتهوا عن ذلك، فأخذتهم الصيحة ". (5)

(1) تفسير المنار (8/473)

(2)

البيان والتحصيل ط. دار إحياء التراث الإسلامي (6/474)

(3)

رواه مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه 1/99؛ وأحمد في مسنده (2/50، 242، 417) ؛ وابن ماجه (2/749) ؛ والترمذي – مع التحفة (4/544) ح وأبو داود –مع العون – (32119) ؛ والدرامي (2/164) .

(4)

انظر: سنن أبي داود مع عون المعبود 9/318؛ ومسند الإمام أحمد 2/419؛ وسنن ابن ماجه 2/761؛ و"سكة" بكسر السين هي الدراهم والدنانير المضروبة على السكة الحديد المنقوشة. انظر: نيل الأوطار 6/384.

(5)

نيل الأوطار 6/384؛ وعون المعبود 9/318، 319.

ص: 1000

وقد تكلم الفقهاء عن واجبات الإمام نحو إصدار النقود حيث حصروه عليه، ولم يسمحوا لغيره من المؤسسات الخاصة بإصدارها، وترتب على ذلك أن يكون حجم النقود بالقدر المطلوب، بحيث لا يؤدي إلى تضخم، أو انكماش، بالإضافة إلى أن الطلب على النقود في إطار الإسلام ليس في اكتنازها واختزانها، ولا لاستخدامها في إحداث التلاعب في أسعار السلع، وإما هو ينصرف إلى دافع المعاملات، الأمر الذي يحدث قدراً كبيراً من التوازن بين الكمية المعروضة، والكمية المطلوبة من النقود، ويدل على ذلك تحريم الاكتناز، بل إن فرض الزكاة على النقود، يجعل صاحبها لا يفكر في الاختزان المجرد وإلا فتأكلها الصدقة والنفقة، وذلك؛ لأن مهمة النقود أن تتحرك، وتتداول لا أن تكتنز وتحبس، فتؤدي إلى كساد الأعمال وانتشار البطالة، وركود الأسواق، وانكماش الحركة الاقتصادية، (1) ولذلك اقترح بعض علماء الاقتصاد الغربيين أن يحدد للنقود تاريخ للإصدار والانتهاء بحيث تفقد قيمتها بعد مضي مدتها، فحينئذ لا تكون قابلة للاكتناز والادخار. (2)

ولم يكتف الفقهاء بمجرد إناطة إصدار النقود إلى الإمام بل قالوا: "ينبغي ألا يغفل النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة ومخالطة بالنحاس بأن يشتد فيها، ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر به أناله من شدة العقوبة، وأمر أن يطاف به الأسواق، لينكله ويشرد به من خلفه، لعلهم يتقون عظيم ما نزل من العقوبة، ويحبسه بعد على قدر ما يرى، ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم، فإن هذا أفضل ما يحط رعيته فيه ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم". (3)

وقد حذر شيخ الإسلام ابن تيمية من المخاطر الناجمة عن شيوع العملات الزائفة ومسئولية الإمام نحوها فقال: "ولهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم، ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلاً.." ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب قيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطى أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس، وأكل أمول الناس بالباطل، فإنه إذا حرم المعاملة بها، حتى صارت عرضاً، وضرب لهم فلوساً أخرى، أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها، فيظلمهم فيها، وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.

وأيضاً فإذا اختلفت مقادير الفلوس، صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغاراً فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها، فتفسد أموال الناس. (4)

(1) د. شوقي دنيا: تقلبات القوة الشرائية للنقود، بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر العدد 41، ص (55) .

(2)

أ. د. يوسف القرضاوي: فقه الزكاة (1/242)

(3)

المعيار المعرب (6/407)

(4)

مجموع الفتاوى (29/469) .

ص: 1001

وقد ذكر فقهاؤنا الأجلاء أن فساد النقود دليل على فساد السياسة، قال القاضي أبو يعلى:"وقد كان الفرس عند فساد أمورهم، فسدت نقودهم"، ولذلك لم يجوز الحنابلة –في الرواية الراجحة- إنفاق المغشوشة، فقال أحمد في رواية محمد بن إبراهيم، وقد سأله عن المزيفة فقال:"لا يحل" قيل له: إنه يراها ويدري أي شيء هي؟ قال: "الغش حرام وإن بين" هذا إذا كان الغش بيناً أما إذا كان الغش لا يظهر، فلا يجوز رواية واحدة. (1)

ويقول السيوطي: يكره للإمام إبطال المعاملة الجارية بين الناس.

وقال الشافعي والأصحاب: يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة، للحديث الصحيح:((من غشنا فليس منا)) ؛ ولأن فيه إفساداً للنقود وإضراراً بذوي الحقوق وغلاء الأسعار، وغير ذلك من المفاسد، ومن ملك دراهم مغشوشة، كره له إمساكها، بل يسبكها ويصفيها. (2)

وقد اتخذ الفقهاء عدة وسائل عملية، لمنع تداول العملات المغشوشة إضافة إلى تحريمها، وفرض العقوبات على من يقوم بصنعها وتداولها، والترهيب بالعذاب الأخروي عليها.. من هذه الوسائل أن العملات المضروبة الصحيحة السالمة الكاملة، هي التي يقع عليها العقود والحقوق عند ذكرها مطلقة، ومنها امتناع العاملين على الخراج والصدقات والجبايات من أخذ المغشوشة، يقول الماوردي، وأبو يعلى:"وإذا خلص العين والورق من غش كان هو المعتبر في النقود المستحقة، والمطبوع منها بالسكة السلطانية الموثوق بسلامة طبعها، المأمون من تبديلها وتلبيسها، هي المستحقة، ولذلك كان هو الثابت في الذمم فيما يطلق من أثمان المبيعات وقيم المتلفات، فأما مكسور الدراهم والدنانير فلا يلزم آخذه في الخراج، لالتباسه، وجواز اختلاطه، ولذلك نقصت قيمتها عن المضروب الصحيح". (3)

(1) الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى ص (179-180) ؛ ويراجع المغني (4/57) ؛ وراجع: الأحكام السلطانية للماوردي ص (176) ، والروضة (2/258) .

(2)

قطع المجادلة عند تغيير المعاملة –مخطوطة- وراجع المجموع (6/10) .

(3)

الأحكام السلطانية للماوردي ص (176) ؛ والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص (181) .

ص: 1002

ومن مظاهر هذه العناية توحيد المكاييل والموازين:

جاء الإسلام ولم يكن للعرب نقود خاصة بهم، وإنما كانت ترد إليهم الدراهم من الإمبراطورية الفارسية، والدنانير من الإمبراطورية الرومية، قال ابن عبد البر:"كانت الدنانير في الجاهلية، وأول الإسلام بالشام وعند عرب الحجاز كلها ورمية تضرب ببلاد الروم عليها صورة الملك، واسم الذي ضربت في أيامه مكتوب بالرومية، ووزن كل دينار منها مثقال كمثقالنا هذا، وكانت الدراهم بالعراق.. كسروية عليها صورة كسرى واسمه فيها مكتوب بالفارسية ووزن كل درهم منها مثقال.."(1) ويقول الرافعي: "وقد ذكر الشيخ أبو حامد وغيره أن المثقال لم يختلف في جاهلية ولا إسلام، وأما الدراهم فإنها كانت مختلفة الأوزان، والذي استقر الأمر عليه، في الإسلام، أن وزن الدرهم الواحد ستة دوانيق، كل عشرة منها بسبعة مثاقيل من ذهب.."(2) وقال الحافظ ابن حجر: "غالب ما كانوا يتعاملون به من أنواع الدراهم في عصره صلى الله عليه وسلم هو أربعة، فأخذوا واحداً من هذه وقسموها إلى نصفين، وجعلوا كل واحد درهما". (3)

ولكن الصحيح هو أن الدراهم أيضاً كانت معلومة الوزن والمقدار في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك؛ لأنها تعلقت بها أحكام شرعية من زكاة ونحوها، ولا يمكن أن تتعلق الأحكام إلا بشيء معلوم، يقول الإمام النووي:"الصحيح الذي يتعين اعتماده واعتقاده أن الدراهم المطلقة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معلومة الوزن معروفة المقدار، وهي السابقة إلى الأفهام عند الإطلاق وبها تتعلق الزكاة وغيرها من الحقوق، والمقادير الشرعية، ولا يمنع من هذا كونه كأن هناك دراهم أخرى أقل أو أكثر من هذا القدر، وإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم الدراهم محمول على المفهوم عند الإطلاق وهو كل درهم ستة دوانق، وكل عشرة سبعة مثاقيل، وأجمع أهل العصر الأول، فمن بعدهم إلى يومنا على هذا، ولا يجوز أن يجمعوا على خلاف ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين"(4) ثم نقل عن القاضي عياض قوله: "لا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوجب الزكاة في أعداد منها، وتقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.. وقول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان، وأنه جمعها برأي العلماء.. قول باطل.."(5) وبهذا قال ابن خلدون في مقدمته، (6) وأيًّا ما كان فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وحد لأمته الموازين والمكاييل فقال:((الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة)) (7) وذلك، " لأن أهل مكة كانوا أهل تجارة، فكانوا يتعاملون بالأوزان من المثاقيل والدراهم والأواقي ونحوها، فيكونون فيها أدق وأضبط، أما أهل المدينة فكانوا فيها أدق، وأضبط فأمر بالرجوع في كل معيار إلى من هم أعلم به، وأضبط له، وأحرص على الدقة فيه"(8)

(1) التمهيد لابن عبد البر

(2)

فتح العزيز بهامش المجموع 6/5

(3)

تلخيص الحبير بهامش المجموع 6/5.

(4)

المجموع للنووي 6/141-14/61 فنجد فيه تحقيقاً طيباً.

(5)

المصادر السابقة.

(6)

المقدمة ص (231) .

(7)

رواه الترمذي في سننه –مع التحفة- (4/408) وقال: والصحيح وقفه على ابن عباس. ورواه مرفوعاً الحاكم وصححه.

(8)

فقه الزكاة لفضيلة الشيخ القرضاوي 1/254.

ص: 1003

وقد ذكر ابن خلدون أن الدرهم والدينار كانا معلومي المقدار، ولكن مقدارهما غير مشخص في الخارج، وإنما كان متعارفاً بينهم بالحكم الشرعي على المقدار في مقدارهما وزنتهما، حتى استفحل الإسلام وعظمت الدولة، ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشرع، ليستريحوا من كلفة التقدير، وكان ذلك في عهد عبد الملك، حيث شخص مقدارهما وعينهما في الخارج، كما هو في الذهن، ثم أبدى ابن خلدون أسفه على ما وقع من الدول الإسلامية من عدم اتباعها سياسة موحدة بهذا الاتجاه، فقال:"فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم، واختلفت في كل الأقطار والآفاق، ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهناً كما كان في الصدر الأول، وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم بمعرفة النسبة التي بينها وبين مقاديرها الشرعية (1) فقد أشار ابن خلدون إلى هذه الحقيقة الناصعة في عالم الاقتصاد وهي توحيد الأمة في مكاييلها وموازينها وربطها في ذلك أيضاً بدينها، وهذا ما التفتت إليها الدول المتحضرة، وغزتنا بها، فلو قام المسلمون على مكاييل أهل المدينة وموازين أهل مكة كما أمرهم وأرشدهم إليهما رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، لما وقع كل هذه الاختلافات فيهما، وما كنا نسمع الرطل البغدادي، والرطل المصري، والرطل الشامي وغيرها، بل كانت الموازين والمكاييل ثابتة مستقرة، لما أخذت كل هذه الجهود التي بذلها الفقهاء في هذه الاختلافات فيهما التابعة للبلدان والأزمان، ولكانت مكايلنا وموازيننا هي السائدة في العالم. قال السندي: ".. وكانت الصيعان مختلفة في البلاد.. والدراهم مختلفة في الأوزان في البلاد وكانت دراهم أهل مكة هي الدراهم المعتبرة في باب الزكاة، فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بهذا الكلام" (2)

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من خطورة الاختلاف في الموازين والمكاييل، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابهما:((إنكم قد وليتم أمرين هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم)) (3) كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من مغبة التضخية بهذه المكاييل والموازين، حيث جعلها من علامات الساعة فقال:"منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها، ودينارها، ومنعت مصر إردبها وديناراها"(4) فقد تحقق ذلك الآن حيث تركت هذه النقود، والمكاييل والموازين في العالم الإسلامي، وسادت المكاييل والموازين الغربية، وفقدت الأمة هذه الذاتية، إذن فلا بد من العودة إليها ومن هذا المنطلق نفسه دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة بأن يبارك الله تعالى في مكيالهم وصاعهم ومدهم، كما ذكر دعاء إبراهيم لأهل مكة (5)

(1) المقدمة ص (231)

(2)

حاشية السندي على سنن النسائي ط. دار البشائر الإسلامية (5/54-55) .

(3)

رواه الترمذي في سننه –مع التحفة- (4/408) . وقال: الصحيح وقفه على ابن عباس، ورواه مرفوعاً الحاكم وصححه

(4)

صحيح مسلم، كتاب الفتن (4/2220) ، ومسند أحمد (2/262) .

(5)

رواه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع (4/345-346) ؛ ومسلم في صحيحه (1/994) .

ص: 1004

وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية خطورة البخس في النقود والمكاييل والموازين، فقال:"أما بخس المكيال والميزان فهو من الأعمال التي أهلك الله بها قوم شعيب. وقص علينا قصتهم في غير موضع من القرآن، لنعتبر بذلك، والإصرار على ذلك من أعظم الكبائر، وصحبه مستوجب تغليظ العقوبة، وينبغي أن يؤخذ منه ما بخس من أموال المسلمين على طول الزمان، ويصرف في مصالح المسلمين إذا لم يمكن إعادته إلى أصحابه"(1)

هذا وكانت النسبة بين الدراهم والدينار هي 7: 10 أي كل عشرة دراهم تساوي من حيث الوزن سبعة مثاقيل، في حين أن كل دينار مثقال –كما ذكرنا- والمثقال يساوي (4.25 جرام) والدرهم يساوي (2.975 جرام)(2) أما من حيث القيمة، فكانت النسبة العشر تقريباً، حيث كان الدينار يساوي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم.. فقد روى أبو داود بسنده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:"كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني مائة دينار، وثمانية آلاف درهم"(3)

ولكن هذه النسبة لم تظل مستمرة، حيث ارتفعت النسبة فصارت 1/12 أي كل دينار يساوي اثني عشر درهما، حيث روى أبو داود بسنده السابق:"فكان ذلك كذلك، حتى استخلف عمر فقام خطيباً فقال: ألا أن الإبل قد غلت. قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفاً"(4) بل إن هناك بعض الروايات تدل على أن الدية قد بلغت قيمتها في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً اثنى عشر ألف درهم. (5)

كل ذلك يعني أن الإسلام قد أقر نظام المعدنين، وربط بينهما ربطاً محكماً مما ساعد على ثبات الأثمان، وعدم وقوع الناس في الظلم وهضم الحقوق، كما شدد تشديداً منقطع النظير بخصوص الغش في العملات وكسر سكة المسلمين، وبخسها، لما يترتب عليها من مظالم بشعة، واضطرابات، وهذا ما تنبه إليه بعض علماء الاقتصاد الغربيين أخيراً من خلال قانون (جريشام) القائم على منع وجود العملة الرديئة في الدولة؛ لأنها تطرد العملة الجيدة، وبالتالي تصبح أموال الناس بدون مقابل يذكر (6) حتى شبه البعض هذه المسألة بأنه: كما أن شرار الناس يطردون خيارهم، فكذلك تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة. (7)

ومن هذا العرض الموجز يتبين لنا أن السياسة النقدية في الإسلام تقوم على توفير جو الاستقرار للنقود، والنظر إليها، باعتبارها المعايير للأشياء والحاكم على السلع، ومن هنا شدد في تحريم الغش في النقود، وحرم قطعها وكسرها وكل ما يؤدي إلى ظلم الناس وبخس أشيائهم والإضرار بحقوقهم والتزاماتهم، وقد رأينا أن ابن القيم قد ذكر بوضوح أن على الدولة أن تحافظ على الأسعار المستقرة للنقود وألا تجعلها كالسلع، ومن هنا لا يتصور إذا طبقت هذه السياسة أن يحدث تضخم، وذلك أن التضخم –كما يصوره الاقتصاد الحديث- هو بمثابة قطع جزء من النقد، فلو حصل تضخم بنسبة 50? فإن ذلك يعني أن الدولة اقتطعت من هذا النقد 50?.

(1) مجموع الفتاوى (29/474)

(2)

فقه الزكاة (1/260) .

(3)

سنن أبي داود -مع العون- كتاب الديات (12/284) .

(4)

سنن أبي داود -مع العون- كتاب الديات (12/284) .

(5)

سنن أبي داود –مع العون- (12/290) ؛ والنسائي، كتاب القسامة (8/44) ؛ والترمذي –مع التحفة- كتاب الديات (4/ 646)

(6)

يراجع: د. محمد صالح، أصول الاقتصاد ط. نهضة مصر سنة 1993 ص (315) .

(7)

يراجع: د. محمد صالح، أصول الاقتصاد ط. نهضة مصر سنة 1933.

ص: 1005

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الفقهاء كما رأينا ذكروا أن إصدار النقود من وظائف الدولة، ولا يجوز لغيرها من الأفراد إصدارها إلا بتخويل منها، كما أن السياسة الإسلامية تقتضي جمع المسلمين على موازين ومكاييل ونقود متحدة، لما في ذلك من أهمية ذاتية واقتصادية وسياسية، وعلاوة على ذلك تحريم الإسلام للفوائد على النقود، حيث إن لها تأثيراً كبيراً في قيمة النقود وتذبذبها.

التعريف بالنقد:

النقد لغة:

خلاف النسيئة، فيقال: نقد الدراهم ينقدها نقداً، وانتقدها، وتنقدها، ونقده إياها نقداً: أي أعطاها نقداً معجلاً، فانتقدها أي قبضها، والنقد تمييز الدراهم، فيقال: نقدت الدراهم وانتقدتها إذا أخرجت منه الزيف، ويطلق النقد على الدراهم والدنانير أيضاً، (1) ولذلك نرى الفقهاء يذكرون في كتاب الزكاة: باب زكاة النقدين كما نراهم يطلقون "النقدين" عليهما. (2)

وفي اصطلاح الفقهاء:

حصر الفقهاء القدامى مفهوم النقدين، أو النقود، أو النقد في الذهب والفضة، لما لهما من مميزات، حتى قال بعضهم: إنهما قد خلقهما الله تعالى، لأداء هذا الدور (3) ثم اختلفوا في أن غيرهما إذا راج بين الناس، ونال رضاهم وثقتهم، فهل يلحق بهما في الأحكام أو لا؟ فذهب جماعة منهم المالكية إلى أن العبرة في ذلك بالرواج عند الناس والقبول، حتى قال الإمام مالك:"لو أن الناس قد أجازوا بينهم الجلود، حتى يكون لها سكة وعين، لكراهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة"(4) قال الخرشي: "حكم الفلوس حكم النقد، هي ليست من جزئيات النقد"(5) وذهب آخرون منهم الشافعي إلى عدم الاعتداد بذلك، ولذلك ظلت الفلوس غير ملحقة بالنقود عنده. (6)

(1) وقد جاء بمعنى التعيب، فيقال: إن نقدت الناس نقدوك.. أي إن عبتهم واغتبتهم قابلوك بمثله، ويقال: نقد الطائر الفخ –أي نقره، ونقد الرجل الشيء بنظره أي اختلس النظر نحوه. يراجع: لسان العرب؛ والقاموس المحيط؛ والمصباح المنير: مادة "النقد".

(2)

انظر: البدائع والصنائع والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/455) ؛ والروضة للنووي (2/165) ؛ والمجموع (6/2) ؛ وفتح العزيز (6/2) ؛ والمغنى لابن قدامة (3/3) .

(3)

إحياء علوم الدين (4/89) ؛ وفي الهداية للمرغناني (7/22)"لأنها للثمنية خلقة".

(4)

المدونة (3/396) .

(5)

شرح الخرشي على مختصر خليل (5/30) ؛ والفروق للقرافي (2/358)

(6)

الأم (3/98) وسيأتي لذلك تفصيل.

ص: 1006

وقد ذكر فقهاؤنا عدة وظائف للنقود منها، "أثمان المبيعات، وقيم المتلفات والديات"(1) وشرح الإمام الغزالي بعضها شرحاً رائعاً حيث قال: "ومن نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير، وبهما قوم الدنيا، وهما حجران، لا منفعة في أعيانهما – (أي من حيث ذاتهما، حيث لا ينفعان للأكل والشرب واللباس، وإنما هما للزينة والجمال) - ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه ولملبسه وسائر حاجاته، وقد يعجز عما يحتاج إليه، ويملك ما يستغنى عنه، كمن يملك الزعفران مثلاً وهو محتاج إلى جمل يركبه، (أو بالعكس) فلا بد بينهما من معاوضة، ولا بد في مقدار العوض من تقدير، إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين بالزعفران والجمل حتى يقال: يعطى منه مثله في الوزن، أو الصورة، وكذا من يشتري داراً بثياب، أو دقيقاً بحمار، فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلا يدرى أن الجمل كم يساويه بالزعفران، فتتعذر المعاملات جدًّا، فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل، فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل، وترتبت الرتب، علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأحوال، حتى تقدر الأموال بهما، فيقال: هذا الجمل يسوى مائة دينار، وهذا القدر من الزعفران يساوي مائة فهما من حيث إنهما مساويان بشيء واحد، إذن متساويان، وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض، ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحاً، ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر، فإذن خلقهما الله تعالى، لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل، ولحكمة أخرى، هي التوسل بهما إلى سائر الأشياء؛ لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكها فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوباً فإنه لم يملك إلا الثوب، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب؛ لأن غرضه في دابة مثلاً، فاحتيج إلى شيء هو في صورته، كأنه ليس بشيء وهو معناه كأنه كل الأشياء، والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات، إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها، كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون، فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض.. فهذه الحكمة الثانية. وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمر خاصة، إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما، فإنهما حجران وإنما خلقا، لتتداولهما الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس، وعلامة معرفة للمقادير مقومة للمراتب. (2)

(1) بداية المجتهد. مصطفى الحلبي (2/130) ؛ وإعلام الموقعين (2/156)

(2)

إحياء علوم الدين، ط/ عيسى الحلبي (4/88-89) .

ص: 1007

والذي يظهر لي رجحانه هو أن كل ما ناله ثقة الناس في التعامل به وأصبح ثمناً ومعياراً للأموال فهو نقد يجري فيه الربا وتجب فيه الزكاة ولكن ذلك لا يمنع من رعاية القيمة في حالات خاصة –كما سيتضح إن شاء الله- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية، لا الوزن كما قاله جمهور العلماء. والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معياراً للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها، فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشتراط الحلول والتقابض فيها، هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطالب، فإن ذلك إنما يحصل بقبضها، لا بثبوتها في الذمة مع أنها ثمن من طرفين فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى مؤجل، فإذا صارت الفلوس أثماناً، صار فيها المعنى، فلا يباع ثمن بثمن إلى مؤجل" ثم ذكر بأن العاقل لا يبيع الشيء بمثله إلى أجل، ولكن قد يقرض الشيء، ليأخذ مثله بعد حين أملاً في الأجر والثواب العظيم عند الله تعالى، ولذلك فالقرض هو تبرع من جنس العارية، فهو تبرع من صاحبه، ينتفع آخر منه تلك المدة، والدراهم لا تقصد عينها، ثم أكد على أن المقرض يستحق مثل قرضه في صفته من الثمنية والقوة، فقال:"والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته، كما يستحق مثله في الغصب والإتلاف، ومن هنا لا بد من مراعاة الوزن، حتى لا يرد درهماً خفيفاً بدل درهم ثقيل في الوزن"(1)

وقد أوضح ذلك ابن القيم، فقال:"فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع، ولا ينخفض. إذ لو كان الثمن يرتفع، وينخفض – كالسلع - لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثم يعتبرون به المبيعات، حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر، كما رأيت، من فساد معاملاتهم، والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر، وحصل الظلم، ولو جعلت ثمناً واحداً لا يزداد ولا ينقص، بل تقوم به الأشياء، ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس"(2)

فقد أوضح هؤلاء الفقهاء بكل دقة ووضوح وظيفة النقود في هذا الوقت المبكر، قبل أن تظهر الأفكار الاقتصادية الحديثة، وقاموا بالتأصيل النظري لقضية العقود، حيث بينوا بأن النقود وسيط للتبادل بين السلع، حيث قال الغزالي:"فهذه الأشياء لا تناسب فيها، فافتقرت إلى متوسط بينهما يحكم فيها العدل، فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته، حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب، علم بعد ذلك المساوى من غير المساوى، فخلق الله الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال، حتى تقدر الأموال بهما، فيقال: هذا الجمل يساوي مائة من الدينار". كما دل هذا النص أيضاً على أن النقود مقياس للقيم، وأوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال:"فإن المقصود من الأثمان أن تكون معياراً للأموال، يتوسل بهما إلى معرفة مقادير الأموال" وقال ابن القيم في توضيح هذه الوظيفة: "والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال"(3)

(1) مجموع الفتاوى (29/417-474)

(2)

إعلام الموقعين (2/156)

(3)

إعلام الموقعين (2/156)

ص: 1008

ثم إن الإمام الغزالي أوضح لنا وظيفة أخرى للنقود هي: أنها مخزون للثروة، حينما قال:"لأنهما عزيزان في أنفسهما، فيمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء، لا كمن ملك ثوباً، فإنهم يملك إلا الثوب".

وكل من هؤلاء الفقهاء، وغيرهم أشاروا إلى معيارية النقود، وبذلك اتضح لنا أن كل ما قاله علماء الاقتصاد الحديث لم يخرج عما قاله هؤلاء الفقهاء المسلمون قبل عدة قرون.

ومن الجدير بالتنبيه عليه أن النقود الذهبية والفضة تقوم بكل هذه الأدوار، وهذه الوظائف الأربع، وأما نقودها الورقية اليوم، فهل هي تقوم بجميعها؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا البحث.

وأما علماء الاقتصاد الحديث فقد ذكروا عدة تعريفات للنقد، نختار منها تعريفه باعتبار وظائفه، وهو: النقد: ما يستخدم وسيطاً للتبادل، ومقياساً للقيم، ومخزوناً للثروة، ومعياراً للمدفوعات الآجلة من الديون (1) ولنشرح بإيجاز شديد هذه الوظائف.

فالمراد بكونه وسيطاً للتبادل: أن عملية التبادل بين السلع تتم من خلال النقود بسهولة، وذلك، لأن نظام مقايضة سلعة بغيرها يستلزم تطابقاً مزدوجاً في الحاجات، وهذا قد يتعسر، بل يتعذر –كما شرح ذلك الإمام الغزالي من قبل.

ومعنى كونه مقياساً للقيم: كل سلعة يمكن أن يعبر عنها بالثمن في شكل عدد من الوحدات النقدية المستخدمة، ولا يخفى أن ذلك يسهل كثيراً من مشكلة قياس القيم التبادلية للسلع في السوق، فمثلاً المجتمع القطري يعرف من خلال النقد سعر منزله، وسيارته وهكذا.. فالنقود هي المعيار المشترك بين مختلف السلع التي يمكن قياس قيمتها بعدد من الوحدات النقدية، فهي بمثابة الكيل والوزن للمكيلات والموزونات.

والمراد بكونه مخزوناً للقيم والثروة: أن الإنسان يخزن ثروته، أو جزءاً منها لفترة زمنية قد تكون بعيدة المدى، لمواجهة الطوارئ المحتملة في المستقبل ويتم ذلك من خلال اختزان النقود التي لا يطرأ عليها تغيير، أو تلف في الغالب، ولذلك كانت المجتمعات السابقة تدخر ثرواتها من خلال الذهب والفضة. (2) ومعنى كونه معياراً للمدفوعات الآجلة: أن العادة جارية في أن الناس يتعاقدون في الحقوق والالتزامات الطويلة الآجال عن طريق النقود، وليس عن طريق السلع.

ومن الجدير بالتنبيه عليه هو أن هذه الوظائف الأربع مجتمعة ليست بمثابة الأركان التي لو تخلف واحد منها في نقد ما لفقد نقديته، بل إنها كل وظائفه، (3) ولذلك تكون متكاملة في المجتمع الذي يسوده الاستقرار الاقتصادي، وتكون ناقصة عند الاضطراب والتضخم، بل قد يفقد قيمته بالكامل في بعض الأحيان " فإذا ما عجزت النقود المتعارف عليها عن القيام بإحدى هذه الوظائف، فإنه تفقد خاصيتها، ويلجأ الأفراد إلى وسيلة أخرى، أو وسيط آخر يقوم بهذه الوظائف، ففي حالة الانهيار المفاجئ لقيمة النقود، فإنها تفقد ميزتها، أو وظيفتها كوسيلة للمعاملات الآجلة، ومن ثم تفقد كذلك وظيفتها كوسيلة الاحتفاظ بالثروة، أو لاختزان القيمة"(4) أما الذهب والفضة فلم يحدث أن فقدا قيمتهما نظراً لما يتمتعان به من خصائص لا توجد في النقود الورقية.

(1) يراجع: د. أحمد عبده: الموجز في النقود والبنوك، ط. دار الكتاب الجامعي سنة 1978 ص (19) ؛ ود. محمد يحيى عويس: مبادئ علم الاقتصاد، ط. دار النصر للطباعة سنة 1969 ص (218) ؛ ود. إسماعيل هاشم: مذكرات النقود ص (33) ؛ ود. علي السالوس: استبدال النقود والعملات، ط. مكتبة الفلاح ص (17-21)

(2)

المصادر السابقة، يراجع: د. محمد يحيى عويس: المصدر السابق ص (286) .

(3)

ويرى بعض الاقتصاديين أن الوظيفتين الأوليين للنقود (وهما وسيط للتبادل ومقياس للقيم) وظائف أصلية، أما الأخيرتان فيمن الوظائف المشتقة منهما، انظر د. أحمد عبده: المصدر السابق ص (19) .

(4)

د. محمد يحيى: المصدر السابق ص (287)

ص: 1009

أنواع النقود:

ومن هنا نرى أنواعاً كثيرة من النقود في عصرنا لا تؤدي إلا وظيفة واحدة، كما أن منها ما يؤدي الوظائف الأربع، حسب نوعية الاقتصاد وقوته، أو ضعفه، ولذلك ذكروا أنواعاً كثيرة سميت بالنقود؛ لأنها حازت على ثقة الناس وجرى بها العرف منها:

1-

النقود السلعية مثل الجلود والأرز، بل السكاير، كما في ألمانيا عام (1945) . (1)

2-

النقود المعدنية، مثل الذهب والفضة.

3-

النقود المساعدة، مثل الفلوس، والنقود المصنوعة من معادن أخرى.

4-

النقود الورقية المستخدمة التي تصدرها البنوك المركزية.

5-

النقود المصرفية، فالمجتمعات المتقدمة اقتصاديًّا، تستخدم النقود المصرفية أو الودائع المصرفية في معاملاتها والتزاماتها. (2)

بل إن التطور في إصدار النقود المختلفة يلاحق التطور الاقتصادي وحاجته إلى السرعة والتسهيلات، ولذلك نرى نقوداً تصدر في صورة البلاستيك تسمى نقوداً بلاستيكية تصلح أن تكون وسيطاً للتبادل، لكنها ليست مخزوناً للثروة وغير ذلك.

ومن هنا فنحن أمام أمرين لا ثالث لهما وهما: إما أن نضيق مفهوم النقد، ليصبح خاصًا بالنقود التي تقوم بجميع هذه الوظائف، فحينئذ لا يسمى كثير مما يطلق عليه الآن اسم النقود نقداً، وإما أن نوسع في مفهومه ولا نشترط قيامه بأداء هذه الوظائف الأربع مجتمعة، وإنما نكتفي فيها ببعضها ولا سيما قيامه بدور الوسيط فحينئذ لا بد أن ترتب النتائج على ضوء هذه الوظائف، فما دام الاقتصاد الحديث ومؤسساته يطلق على كل هذه الأنواع اسم النقود، فحينئذ لا يشترط أن يتحد جميعها في أداء هذه الوظائف فلا شك في أن النقود الورقية تختلف عن النقود المصرفية وهكذا.

نبذة تاريخية عن النقود:

لم يكن الإنسان في مجتمعه البدائي بحاجة كبيرة إلى التداول، إذ كان يكتفى ذاتيًّا بما يتوافر له من خيرات الأرض، ثم لما تكونت المجتمعات الزراعية، وتعدد وسائل الكسب، توافر الفائض من الحاصلات وتبلورت الحاجة الماسة إلى التبادل الذي أخذ شكل المقايضة العينية، غير أنه بمرور الزمن بدت مشاكلها المعقدة إذ أنها تقتضي توافر التوافق المزدوج من الطرفين على السلعتين، بالإضافة إلى افتقارها إلى وجود معيار للقيمة، ومن هنا هدى الله تعالى الإنسان إلى استخدام النقود التي اتخذت في أول أمرها شكل "النقود السلعية"، حيث قام كل مجتمع باتخاذ سلعة معينة تلائم بيئته من صوف، وماشية، وجلود، ونحوها.

أ- ظهور النقود الذهبية والفضة:

ثم استخدمت الفضة والذهب كنقود، وكان البابليون هم أول من استخدموا الذهب والفضة لهذا الغرض حوالي (2000) قبل الميلاد، وضرب الليديون –في القرن الثامن قبل الميلاد في آسيا الصغرى - سبائك صغيرة بيضاوية الشكل، وبدأت النقود الذهبية والفضة تنتشر، وتهيمن على غيرهما إلى أن استقر التعامل بهما تماماً في القرن الثالث الميلادي، وكان ظهور النقود قد ساعد على تسهيل عمليات التبادل للسلع والخدمات، والتقليل في الوقت والجهد اللازمين لعملية التجارة، كما ساعد على سهولة التقويم والدفع بالآجل، واختزان المدخرات للأفراد والدولة. (3)

(1) د. أحمد عبده محمود: الموجز في النقود والبنوك، ط. دار الكتاب الجامعي سنة 1978م ص (5-9) ؛ ود. محمد يحيى عويس: مبادئ علم الاقتصاد، ط. دار النصر للطباعة سنة 1969م ص (283-287) ح ود. محمد صالح: أصول الاقتصاد، ط. النهضة 1933 م ص (295)

(2)

المراجع السابقة.

(3)

د. أحمد عبده: المرجع السابق ص (5-9) ود. محمد يحيى عويس: مبادئ علم الاقتصاد ط. دار النصر سنة 1969 ص (283-278) ؛ ود. محمد صالح: أصول الاقتصاد ص 295.

ص: 1010

ثم جاء الإسلام وكان النقد السائد في بلاد الروم هو الدينار الذهبي، والسائد في بلاد الفرس هو الدرهم الفضي، يقول العلامة المقريزي:"وكانت نقود العرب التي تدور بينها: الذهب والفضة لا غير، ترد إليها من الممالك، دنانير الذهب قيصرية من قبل الروم، ودراهم فضة على نوعين: سوداء وافية –أي كل درهم مثقال- وطبرية عتق- أي كل درهم نصف مثقال تقريباً- وكان وزن الدراهم والدنانير في الجاهلية مثل وزنها في الإسلام مرتين.." ولم يكن شيء من ذلك يتعامل به أهل مكة في الجاهلية، وكانوا يتبايعون بأوزان، اصطلحوا عليها فيما بينهم، وهو الرطل الذي هو اثنتا عشرة أوقية، والأوقية هي أربعون درهما.. ولما بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أقر أهل مكة على ذلك كله وقال:((الوزن وزن أهل مكة)) . (1)

ثم رتب صلى الله عليه وسلم على ذلك أحكام الزكاة وغيرها، ولما جاء أبو بكر الصديق –رضي الله عنه عمل في ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يغير منه شيئاً، ولما جاء عمر وفتح الله على يديه مصر والشام والعراق، لم يعترض لشيء من النقود، بل أقرها على حالها، ولكن في سنة 18 هـ ضرب الدراهم على نقش الكسروية، غير أنه زاد في بعضها:"الحمد لله" وفي بعضها "محمد رسول الله" وفي بعضها: "لا إله إلا الله وحده"، وفي آخر مدة عمر وزن كل عشرة دراهم ستة مثاقيل، ثم لما وبيع عثمان –رضي الله عنه ضرب في خلافته دراهم نقشها:"الله أكبر" وفي عهد معاوية، ضرب تلك الدراهم السود الناقصة من ستة دوانق، وضرب منها زيادة؛ وجعل وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وضرب معاوية أيضاً دنانير عليها تمثال متقلد سيفاً، ثم لما قام عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما بمكة ضرب دراهم مدورة، وهو أول من ضرب الدراهم المستديرة، ونقش على أحد وجهي الدرهم:"محمد رسول الله" وعلى الآخر: "أمر الله بالوفاء والعدل"، ولما استقر الأمر لعبد الملك وضع السكة الإسلامية، وأمر الناس أن يضربوا عليها نقودهم، فكان وزن عشرة دراهم سبعة مثاقيل، والدينار اثنين وعشرين قيراطاً إلا حبة بالشام –أي مثقال- وهكذا وكان العالم الإسلامي لديه الاكتفاء الذاتي من الذهب والفضة، ويكمل بعضه بعضاً، فكان المشرق يهيئ الفضة، والمغرب يأتي بالذهب وفيه أكبر معادن التبر في ذلك العهد. (2)

(1) وتتمة الحديث ".. والمكيال مكيال أهل المدينة" رواه أبو داود، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني وصححاه. انظر: سنن أبي داود –مع العون- كتاب البيوع (9/188) ؛ والنسائي، كتاب البيوع، ط. دار البشائر الإسلامية ببيروت (7/284) ح وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ج 2/1 الحديث رقم 164.

(2)

يراجع في تفصيل ذلك كتاب النقود للمقريزي طبعة أستانة؛ ويراجع: النقود والمكاييل والموازين لحافظ عبد الرؤوف المناوي، ط. دار الحرية للطباعة ببغداد، تحقيق: د. رجاء السامرائي، ففيه تفصيل، وتاريخ موسع للنقود، والأحكام السلطانية لأبي يعلي، بتعليق الشيخ حامد الفقي ص (174-179) ؛ والمقدمة لابن خلدون، ط. عبد السلام بن شقرون ص (229- 230)

ص: 1011

ب- الفلوس:

وهكذا ظلت النقود الذهبية والفضة هي العملة السائدة في العالم، ولكنها لم تكن هي العملة الوحيدة بل كانت بجنبها نقود مساعدة تسمى بالفلوس.

يقول المقريزي، والمناوي:"ولم تزل ملوك مصر أو الشام والعراقيين: العرب والعجم –وفارس والروم في أول الدهر وآخره يجعلون بإزائها نحاساً يضربون منه القليل والكثير صغاراً تسمى فلوساً، وكان للناس بعد الإسلام وقبله أشياء أخرى يتعاملون بها كالبيض والودع وغير ذلك"(1)

والفلوس وإن كان لا تعني بالضرورة أن تكون مصنوعة من النحاس لكنه جرى العرف قديماً وحديثاً أن تصنعه منه، وكان لها دورها الكبير في الاضطراب والاستقرار الاقتصاديين، يقول المقريزي، والمناوي:"فلما تسلطن الملك الظاهر برقوق، وأقام الأمير محمود بن علي استاداراً –أي المسئول عن منزل الملك- أكثر من ضرب الفلوس، وأبطل ضرب الدراهم فتناقصت حتى صارت عرضاً ينادى عليه في الأسواق بحراج حراج، وغلبت الفلوس إلى أن قدم الملك المؤيد شيخ من دمشق " حيث جلب معه دراهم نوروزية فتعامل الناس بها وحسن موقعها لبعد العهد بالدراهم (2) وظل الأمر بين الفلوس وبين الذهب والفضة هكذا بين المد والجذب، فقد نودي في سنة (724هـ) على الفلوس أن يتعامل بها بالرطل، كل رطل بدرهمين، ورسم بضرب فلوس زنة الفلس منها درهم، وفي سنة (756هـ) رسم السلطان الملك الناصر حسن بضرب فلوس جدد على قدر الدينار ووزنه، وجعل كل أربعة وعشرين فلساً بدرهم، وكان قبله الفلوس العتق كل رطل ونصف بدرهم. (3)

(1) رسالة المقريزي ص (59) ؛ ورسالة المناوي ص (100)

(2)

المصادر السابقة

(3)

النقود والمكاييل والموازين للمناوي ص (107)

ص: 1012

وقد قاس فقهاؤنا الكرام النقود بقوتها الشرائية، فاعتبروا قوة الدرهم والدينار بما يشترى به، وقوه الفلوس بما يقابلها من الذهب أو الفضة، بل جعلوا قيمة الدرهم بما يقابله من الذهب، فقد ذكروا أنه في عصر الحاكم بأمر الله تزايد أمر الدراهم في شهر ربيع الأول سنة (397هـ) فبلغت أربعة وثلاثين درهماً بدينار، ونزل السعر واضطربت أمور الناس فرفعت تلك الدراهم، وأنزل في القصر عشرون صندوقاً فيها دراهم جدد، ومنع الناس من التعامل بالدراهم الأولى فأخطروا، وبلغت أربعة دراهم تساوى درهماً جديداً، وتقرر أمر الدراهم الجدد على ثمانية عشر درهماً بدينار (1) وذكر الذهبي أنه في سنة (622هـ) أمر الخليفة بمصر المستنصر بضرب الدراهم الفضة وسعرت كل عشرة بدينار (2) وذكر الحافظ ابن حجر في أنباء الغمر في سنة (776هـ) أنه قد بيع الأردب القمح بمائة وخمسة وعشرين درهماً نقرة وقيمتها إذ ذاك ستة مثاقيل ذهباً وربع، وبيع إذ ذاك دجاجة واحدة بأربعة دراهم، (3) وقد علق السيوطي على هذه الحوادث السابقة بأن هذا صريح في أن الدراهم كان سعر كل درهم منها ثلثي رطل من الفلوس، وأن سعره بالنسبة للدينار العشر في سنة 632هـ وأما في سنة 776هـ، فكان سعره نصف عشر دينار، "أي أن كل عشرين درهماً مثقال"(4)

وقد بلغ الأمر بالفلوس في القاهرة إلى أن جعلت معياراً يقوم به السلع. وذكر المقريزي والمناوي، نقلاً عن الذهبي، أن الأمير محمود الاستادار أكثر ضرب الفلوس بالقاهرة والإسكندرية، فبطلت الدراهم من مصر وصارت معاملة أهلها بالفلوس، وبها يقوم السلع والمبيعات، "قد أدركنا في كل ليلة، من بعد العصر، تجلس الباعة من باب المدرسة الكاملية في باب الناصرية، فيباع لحم الدجاج والأزر كل رطل بدرهم، والعصافير المقلوة، كل عصفور بفلس من كل أربعة وعشرين بدرهم، وذلك في دولة الناصر محمد بن قلاوون"(5) وفي سنة (794هـ) ضربت بالإسكندرية فلوس ناقصة الوزن عن العادة، طمعاً في الربح فآل الأمر إلى أن كانت أعظم الأشرار في فساد الأسعار وفي نقص الأموال وفي سنة (806هـ) نودي على الفلوس بأن يتعامل بها بالميزان، وسعر كل رطل بستة دراهم، وكانت فسدت إلى الغاية بحيث صار وزن الفلس ربع درهم وبعد أن كان مثقالاً، وفي عام (814هـ) أمر الناصر بأن تكون الفلوس كل رطل باثني عشر درهماً، فغضبت التجار، وأغلقوا حوانيتهم، إظهاراً لغضبتهم، فغضب السلطان لذلك وكاد يضع فيهم السيف، لولا شفاعة الأمراء، ولكنهم ضربوا جماعة منهم، "وشنق رجل بسبب الفلوس، ثم انحل أمر الفلوس بعد الفتنة"(6) وفي سنة (826هـ) عقد مجلس بسبب الفلوس، فاستقر أمرها، ونودي على الفلوس أن الخالصة كل رطلين سبعة دراهم والمخلوطة كل رطل بخمسة دراهم، وحصل بين الباعة، بسبب ذلك، منازعات، ثم في آخر رمضان من السنة السابقة، نودي على الفلوس المنقاة بتسعة، ويمنع المعاملة من الفلوس أصلاً، فسكن الحال ومشى، ونتيجة لذلك رخص فيها سعر القمح، حتى انحط إلى ستين درهماً الأردب، بحيث يتحصل بالدينار المختوم أربعة أرادب. (7)

(1) رسالة المقريزي ص (59) ؛ ورسالة المناوي ص (100) .

(2)

نقلاً عن المناوي في رسالته ص (107)

(3)

أنباء الغمر في أبناء العمر (1/92)

(4)

نقله عنه الحافظ المناوي في رسالته ص (108-109)

(5)

أنباء الغمر في أبناء العمر (1/92) ونقله عنه الحافظ المناوي في رسالته ص (108-109)

(6)

أنباء الغمر للحافظ ابن حجر (2/487) والنقود والمكاييل للمناوي ص (114) .

(7)

أنباء الغمر (3/301) ؛ والنقود والمكاييل ص (117) .

ص: 1013

وهذه الأمور كلها دليل على مدى تأثير الفلوس في عدم الاستقرار، وأنه كلما كان الاعتماد على الذهب والفضة، كان استقرار السوق أكثر، ويذكر الحافظ ابن حجر، والمقريزي كثيرا من هذه المشاكل الاقتصادية التي نجمت عن الفلوس فذكر ابن حجر أنه في سنة (832هـ)"نودي على الفلوس أن يباع الرطل النقي منها بثمانية عشر درهماً، ورسم للشهود ألا يكتبوا وثيقة في معاملة، أو غيرها إلا بأحد النقدين (الذهب والفضة) بسبب شدة اختلاف أحوال الناس، واختلاف أحوال الفلوس التي صارت هي النقد عندهم في عرفهم"(1)

ويقول المقريزي: "الفلوس لم يجعلها الله تعالى قط نقداً في قديم الدهر وحديثه إلى أن راجت في أيام أقبح الملوك سيرة، وأرذلهم صريرة، الناصر –البرقوقي- وقد علم كل من رزق فهماً وعلماً أنه حدث في رواجها خراب الأقاليم، وذهاب نعمة أهل مصر، والفضة هي النقد الشرعي لم تزل في العالم" ثم ذكر "أن النقود التي كانت أثماناً وقيماً إنما هي الذهب والفضة فقط، ولا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم، ولا طائفة من الطوائف أنهم اتخذوا أبداً في قديم الزمان ولا حديثه غيرهما إلا أنه لما كانت في المبيعات محقرات تقل أن تباع بدرهم، أو بجزء منه احتيج قديماً وحديثاً إلى شيء سوى النقدين يكون إزاء تلك المحقرات ولم يسم أبداً ذلك الشيء الذي جعل للمحقرات نقداً ولا أقيم قط بمنزله أحد النقدين، واختلفت مذاهب البشر، وآراؤهم فيما يجعلونه إزاء تلك المحقرات"(2)

ج- العملة الورقية في أوربا:

ظهرت العملة الورقية (البنكنوت) في أوربا في أواخر القرن السابع عشر الميلادي، ولكنه دون أن تهيمن على النقود المعدنية حيث ظلت تقوم بدورها في معظم دول العالم مع إعطاء حاملي البنكنوت الحق في تحويله إلى عملات ذهبية، غير أنه بقيام الحرب العالمية الأولى فرض السعر الإلزامي للنقود الورقية وأصبحت العملة السائدة، وبالتالي اختفت النقود المعدنية (3)

(1) أنباء الغمر (3/419) .

(2)

رسالة النقود للمقريزي ط. الأستان ص (8) وطبعة الأب الكرملي ص 67) ؛ والنقود والمكاييل ص (125-126) وقد ذكر الكرملي في تعليقه على ما قاله المقريزي، ص (65) :"يظهر من كلام المقريزي أنه لم يكن تام الاطلاع على تاريخ النقود؛ لأننا نعلم أن الأقدمين من الرومان واليونان، كانوا يستعملون نقود النحاس وربما سبقت نقود الفضة والذهب".

(3)

د. أحمد عبده المصدر السابق ص (27)

ص: 1014

هذا ومن الجدير بالتنبيه عليه أن أهل الصين قد استعملوا النقد الورقي منذ حقب بعيدة، فقد ذكر ابن بطوطة في رحلته العظيمة أن "أهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم، وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعًا، وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغذ، كل قطعة منها بقدر الكف مطبوعة بطابع السلطان، وتسمى الخمس والعشرون قطعة منها بالشت، وهي بمعنى الدينار عندنا، وإذا تمزقت تلك الكواغذ في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا فأخذ عوضها جدداً، ودفع تلك، ولا يعطى على ذلك أجرة ولا سواها؛ لأن الذين يتولون عملها لهم الأرزاق الجارية من قبل السلطان، وإذا مضى الإنسان إلى السوق بدرهم فضة، أو بدينار يريد شراء شيء لم يؤخذ منه، ولا يلتفت إليه حتى يصرفه بالشت، ويشترى به ما أراد"(1)

وكانت أكثر الدول الأوربية تستعمل النقود الذهبية، وبعضها النقود الفضية كهولندا، وروسيا، وبعضها الأخرى تتعامل بالنقدين على قدم المساواة مثل أمريكا وفرنسا، والبلجيك وسويسرا، وكان الغش أو البخس في العملة في كثير من الأحيان يؤدي إلى أزمات خطيرة منذ العصر الروماني، وكان يلجأ إليه ملوك أوربا في كثير من الأحايين. (2)

وقد يحصل في بعض الأحيان التنافس بين أنصار الذهب، وأنصار الفضة ولا سيما في أمريكا غير أن النتيجة كانت في الآخر لصالح الأول، حيث صدر قانون وحدة النقود على أساس الدولار الذهب مع استيفاء قوة الإبراء غير المحدودة لدولار الفضة إثر الانتخاب الذي جرى لأجله في عام (1900) ولم يبق أيضاً بعد ذلك من الدول التي تسير على نظام المعدن الفضي إلا الصين والهند الصينية، وبعض أنحاء آسيا، وذلك بسبب هبوط قيمة الفضة المستمر أمام الذهب إثر اكتشاف مناجم كبيرة للفضة في أمريكا ونضوب مناجم الذهب في استراليا (3)

وقد أدت الحرب العالمية الأولى ونفقاتها الباهظة إلى اختفاء النقود الذهبية، بل والفضية فقررت فرنسا وبلجيكا وسويسرا، وإيطاليا منذ سنة (1914) التعامل الجبري بالبنكنوت، وعمدت بنوك الإصدار فيها إلى الإكثار من رصيدها المعدني وبذلك استنزفت أكبر كمية من الذهب، واختفت –تقريباً- العملات الذهبية من التداول، غير أن أنصار المعادن النفيسة قد بذلوا عدة محاولات في سبيل إعادتها، اتخذت أشكالاً منها: نظام السبائك الذي أخذت به بريطانيا منذ مايو عام 1925 إلى 1931، ويقتضى هذا النظام أن توقف السلطات النقدية حرية سك العملات، على أن تظل حرية تصدير واستيراد الذهب قائمة، وألا يحول البنكنوت إلى ذهب، إلا في صورة سبائك وبحد أدنى، ومنها نظام الصرف بالذهب الذي يقضى أن ترتبط العملة المحلية بالذهب بشكل غير مباشر عن طريق عملة أجنبية تسير على نظام الذهب مثل مصر التي ارتبطت في (1925-1931) بالجنيه الاسترليني، (4) ولا تزال المحاولات في سبيل هذه الإعادة موجودة إلى وقتنا الحاضر، ولكن أصواتهم خافتة، لمعارضتها لمصالح الدول الكبرى.

(1) رحلة ابن بطوطة، ط. المطبعة الخيرية الأولى ص (196) وذكر المقريزي في رسالتها أن هذه النقود كانت تصنع من لحاء شجر التوت.

(2)

د. محمد صالح: المصدر السابق ص (330-335) ؛ ود. أحمد عبده: المصدر السابق ص (29) ح ود. محمد عبد العزيز، وتادرس، النقود والبنوك في التجارة الخارجية طبع سنة 1968م ص (2) ؛ ود. عبد النعيم مبارك: النقود والصيرفة، ط. الدار الجامعية سنة 1985م ص (7) .

(3)

د. أحمد عبده: المصدر السابق ص (38-39) .

(4)

د. محمد عبد العزيز، ود. مصطفى رشدي شيحة: النقود والبنوك، ط. الدار الجامعية ص (65)

ص: 1015

بداية فكرة البنكنوت:

انطلقت هذه الفكرة أساساً من أحضان الصيارفة، ثم تبنتها الحكومات، حيث وجدت فيها بغيتها، ويعود السبب في ذلك إلى أن أوربا في القرن السابع عشر قد سادتها اضطرابات كبيرة وعدم استقرار شديد، دفع بالأغنياء أن يودعوا نقودهم وسبائكهم الذهبية عند التجار الصيارفة يختلف في أوقات الأزمان (1) لما رأينا بخصوص أمريكا في عام 1971، ومنها قاعدة السبائك الذهبية، وقاعدة المعدنين (الناقص والكامل) وقاعدة الفضة.

أهمية الارتباط والغطاء الحقيقي للنقود:

أدى إلغاء ارتباط النقود الورقية بالذهب إلغاء كاملاً، حتى من حيث الاسم –والذي كان آخره في عام 1971 بالنسبة للدولار- إلى تفسخ النظام الاقتصادي الرأسمالي، وعدم الاستقرار المتزايد، والتضخم، والهبوط الحاد في أسعار العملات، فقد هبطت قيمة الدولار هبوطاً كبيراً حيث بلغ 87? من قيمته في مارس 1973، في مقابل أكثر العملات العالمية السائدة.

بل إن بعض الاقتصاديين أرجعوا أحد أسباب هذه الأزمة النقدية والاقتصادية العالمية عام (1929) إلى عدم وجود غطاء حقيقي للنقود الورقية التي أسرفت الدول في إصدارها، حيث كان النظام النقدي آنذاك قد أسس على افتراض غير حقيقي على أساس أن الدولار، أو الاسترليني يعادل الذهب في حجمه ووظائفه، فلما انكشفت الحقيقة من عدم التعادل بينهما وتبينت الفجوة، وقعت الأزمة. (2)

وتدل التجارب المريرة السابقة أن الرجوع إلى النقود المعدنية كان بمثابة صمام الأمان لإعادة الثقة إلى النقود، فقد أصاب فرنسا فشل ذريع إثر إصدارها النقود الورقية بكميات هائلة من خلال تجربة (جون لو) الفاشلة، بالإضافة إلى التضخم الذي لازم الثورة الفرنسية وما بعدها، حيث ارتبط هذا التضخم بالسندات الورقية التي أصدرتها السلطات العامة بضمان أملاك الكنيسة والنبلاء، ثم بضمان الأموال المحلية، فمنحها القانون قوة الإبراء، غير أنها انخفضت قيمتها كثيراً وفشلت، وفقد الناس الثقة بها، بل أحجموا عن التعامل بها، إزاء ذلك كان لا بد من الإصلاح النقدي، فصدر لهذا الغرض قانون 20/3/1803 والذي استمر حتى عام 1914، حيث ألغيت النقود الورقية واعتمدت على النقود المعدنية: الفضة والذهب.

(1) د. مصطفى رشدي: المرجع السابق ص (39) .

(2)

د. إبراهيم أحمد إبراهيم: المرجع (42-43) .

ص: 1016

وفي إنجلترا انخفضت قيمة النقود الورقية بما لا يقل عن 30?، واجتمعت لجنة أسهم فيها (ريكاردو) ، لبحث أسباب هذا التضخم واقتراح الحلول المناسبة له، فأوصت برفع السعر الإجباري، وإعادة تنظيم النقد على أساس معدني وبالفعل صدر قانون 22/6/1816 قضى بالرجوع إلى قاعدة الذهب أو قاعدة المعدن الفرد، وأصبحت النقود الذهبية وحدها تتمتع بقوة الإبراء القانونية، ثم صدر قانون آخر عام 1844 بإعادة تنظيم بنك إنجلترا، وبذلك أصبح الاقتصاد الإنجليزي –وهو أكبر قوة اقتصادية في العالم آنذاك- قائماً على قاعدة الذهب، حيث اعتبرت وحدات النقد الذهبية نقوداً قانونية ونهائية، فوحدة النقد أصبحت تساوي وزناً معيناً من الذهب، ومن هنا روعيت العلاقة والتكافؤ بين قيمة الذهب كسلعة، وقيمته الاسمية كنقد، تلك الازدواجية، يعتبرها أنصار قاعدة الذهب من مميزاتها الأساسية التي تحقق التوازن المطلوب، وهي لا تعني اقتصار التداول على النقود الذهبية، بل اعتماد النقود الورقية على هذا الأساس. (1)

فكان الإصلاح النقدي الفرنسي (السابق الإشارة إليه) قائماً على أن مؤسسة الإصدار بالخيار بين ضمان إصدار النقود الورقية بغطاء، أو احتياطي معدني (ذهب، أو فضة) ومن هنا فقاعدة ارتباط النقود الورقية بغطاء أو احتياطي معدني (ذهب، أو فضة) ومن هنا فقاعدة ارتباط النقود الورقية بالمعدن النفيس، يعطى لها كفاءة في المحافظة على القوة الشرائية لها، وهي الوظيفة الأساسية للنقود، كما أنها تؤدي إلى نمو اقتصادي، حيث لا يمكن تحقيق النمو، والازدهار، إلا أن يكون هناك استقرار نسبي في الأسعار ودون توافر نقود قوية تكون مصدر ثقة للأفراد.

وقد دافع أنصار قاعدة الذهب، وارتباط النقود به عن هذه النظرية، بأن الذهب يتمتع بصفة العمومية والقبول التام عند جميع الناس، وأنه قد أسهم في تحقيق التوازن بين الاستقرار النقدي، ونمو النشاط الاقتصادي وازدهاره، وأنه قد حال دون التضخم والانهيار، ولم يحدث التضخم في ظله إلا إذا استغلت الدولة ثقة الناس بها، وأصدرت من النقود الورقية أكثر مما لديها من الغطاء الذهبي، كما أنه قد أدى إلى تثبيت أسعار الصرف بين عملات الدول التي تبيع نظامها النقدي قاعدة الذهب، وبالتالي ساهم ثبات سعر الصرف في نمو التجارة العالمية والاستثمار الدولي خلال القرن التاسع عشر، والحقيقة أن قاعدة الذهب في مضمونها النظري والعملي، أفادت كثيراً الاقتصاد الإنجليزي، وحققت له الفاعلية في إدارة النقود في الداخل والسيطرة والسيادة في النظام النقدي الدولي، وتغلبت على جميع قواعد النقد الأخرى، (2) ولم يتخل عنها الإنجليز، إلا تحت ضغوط اقتصادية أدت إلى عدم قدرتهم على الغطاء، بسبب الحرب العالمية الأولى.

(1) المراجع السابقة

(2)

المراجع السابقة

ص: 1017

استغلال الاستعمار الدول النامية في سياسته النقدية:

وقد استغل الإنجليز لصالح اقتصادهم، كل الموارد الموجودة في الهند، ولم يكتف بذلك، بل ربط نقودها بنقودهم، حيث كان النقد الهندي مرتبطاً بالجنيه الاسترليني، وهو مرتبط بقاعدة الذهب، وهذا يعني توافر الغطاء الذهبي المطلوب للعملة الهندية في البنوك البريطانية، وهذا النظام يسمى بنظام الحوالات المصرفية الذهبية، وطبق لأول مرة عام 1863 في الهند (حيث كانت مستعمرة للإنجليز) ، ثم نادى به الخبراء الإنجليز في مؤتمر جنوة عام 1922، وأخذت به الدول الفقيرة في أوربا الوسطى، والشرقية، والمستعمرات في آسيا وإفريقيا، حيث ربطت عملاتها بأوراق أجنبية مضمونة بالذهب، مثل الجنيه، والدولار، وكانت الدول المستعمرة تودع رصيدها من الذهب، أو عملات أجنبية أخرى، في البنك المركزي لدى الدول المتبوعة، ثم تحصل في مقابلها على عملة هذه الدولة المضمونة بالذهب، ثم تكون قيمة عملتها على أساس سعر الصرف الثابت بين عملتها وعملة الدولة المتبوعة، وهي سياسة ماكرة، في ظاهرها تبريرها، بأن إنتاج الذهب لم يعد يكفي لمواجهة جميع العملات، وفي حقيقتها السعي لاستبدال الذهب بالدولار، أو الجنيه الورقيين، والوصول من خلالها إلى استنزاف أكبر قدر ممكن من ثروة الدول الفقيرة والمستعمرة، فقد كانت مواردها تودع في خزائن الدولة المتبوعة، وتتلقى في مقابلها العملة الورقية على أساس أنها مضمونة بالذهب، ولكنه كان افتراضاً غير حقيقي، "وبهذا فإن قاعدة الحوالات الذهبية قامت بدور تجميع وتعبئة الفائض في الاقتصاد التابع، وتسهيل انتقاله إلى البلد المتبوع"(1) إضافة إلى أن الدولة المتبوعة (لإنجلترا) كانت تأخذ المواد الأولية والسلع من الدول الفقيرة والمستعمرة كديون، تسدد بالذهب، ولكنها كانت تسدد بعملات ورقية خضعت لعدة تخفيضات، كانت الخاسرة الوحيدة فيها هي الدولة التابعة.

ولا غرو في أننا إذا قلنا: إن كثيراً من الدول النامية لا تزال تخدم مصالح الدولة الكبرى في سياستها المالية أيضاً من خلال ربط نقودها بنقود هؤلاء.

(1) د. مصطفى رشدي: المرجع السابق (42-43)

ص: 1018

يذكر مدير معهد الاقتصاديات الدولية في واشنطون (فريد بريستون)"أن الدولار مقيم بأعلى 25?، زيادة عن قوته الحقيقية"(1) وذلك بسبب بيع النفط وكثير من المنتوجات به، إضافة إلى الأضرار الناجمة عن هذه التبعة مثل أن يكون اقتصاد الدولة التابعة قويًّا مع أن اقتصاد أمريكا قد يكون مهزوزاً، فتكون النتيجة أن سعر الصرف ثابت على أساس الدولار، فتتضرر الدولة بخصوص العملات الأخرى، ولذلك حينما اهتز الدولار في الأعوام الأخيرة، تضررت الدول التي ربطت نقودها به كثيراً دون وجود الأسباب التي أدت إلى تخفيض سعر الدولار في تلك الدول.

أحكام خاصة بالدنانير والدراهم، لا توجد الفلوس:

يراد بالدينار في عرف الفقهاء الدينار الذهبي، الذي يكون وزنه مثقالاً، وبالدرهم عندهم: الدرهم الفضي الذي كل عشرة منه، يساوي سبعة مثاقيل، يقول ابن خلدون:"اعلم أن الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتابعين أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب، والأوقية منه أربعين درهماً، وهو على هذا سبعة أعشار الدينار، ووزن المثقال من الذهب الخالص اثنتان وسبعون حبة من الشعير، فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسا حبة، وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع، فإن الدرهم الجاهلي كان بينهم على أنواع" ثم رجح القول –تبعاً للمحققين - بأن وزنه لم يكن مجهولاً، فقال: "وأنكره المحققون من المتأخرين، لما يلزم عليه أن يكون الدينار والدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة ومن بعدهم، مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها.

والحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر، لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق، وكذا مقدارهما وزنتهما حتى استفحل الإسلام، وعظمت الدولة، ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار الوزن، كما هو عند الشرع، ليستريحوا من كلفة التقدير، وقورن ذلك أمام عبد الملك، فشخص مقدارهما وعينهما في الخارج، كما هو في الذهن، ونقش عليهما السكة باسمه وتاريخه، إثر الشهادتين الإيمانيتين، وطرح النقود الجاهلية رأساً.. فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، ومن بعد ذلك وقع اختيار أهله السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم" (2)

ولما أصبحت هذه الأوزان –مثل المثقال ونحوه- غريبة علينا نتيجة الغزو الثقافي والاصطلاحي لا بد من ذكر الأوزان المعهودة لنا حسب موازيننا المعروفة، وقد حقق الأستاذ الدكتور القرضاوي تحقيقاً رائعاً، وصل من خلاله إلى أن الدينار الذهبي –أي المثقال- يساوي 4.25 من الجرامات، وأن الدرهم الفضي يساوي 2.975 من الجرامات. (3)

(1) المشار إليه في د. إبراهيم أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص (59)

(2)

المقدمة ط/ عبد السلام بن شقرون: المصدر السابق ص (231)

(3)

فقه الزكاة، ط/ مؤسسة الرسالة (1/252-260) وقد اعتمد على كتاب الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك وغيره من مصادر معتمدة قديمة وحديثة، فليراجع.

ص: 1019

والفلس هو عملة غير الذهب والفضة، تضرب من النحاس أو من غيره، تكون مساعدة للعملة السائدة، فكان الفلس في بعض الأحيان يساوي سدس الدرهم، وقد يزيد، أو ينقص كما ذكرنا.

وبعد ذلك، نذكر بعض أحكام الخاصة بالدنانير والدراهم، لا توجد في الفلوس، حتى يتبين لنا مدى نظرة الفقهاء إلى هذه المسألة.

أولاً: أجمع الفقهاء على أن الدنانير والدراهم هما النقدان الأصليان اللذان يعتبر أن أثماناً للقيم والمتلفات ومعياراً لهما، وترتبت على ذلك أحكام كثيرة في الصرف والربا ونحوهما، لا يتسع المقام لذكرها. (1)

وأما الفلوس فقد جرى الخلاف فيها: فهل تلحق بهما في النقدية إذا أصبحت يتعامل بها الناس ونالت ثقتهم أم لا؟

فذهب المالكية إلى إعطائها حكم النقود في الربا في القول الراجح عندهم، (2) في حين ذهب جماعة آخرون منهم الشافعية إلى منع ذلك، وهذه المسألة في الواقع مرتبطة بأن العلة في الربا في الذهب والفضة هل هي قاصرة أم متعدية؟ ولذلك نذكر أقوالهم. قال المرغيناني:" فالعلة عندما الكيل مع الجنس، والوزن مع الجنس"(3) ويقول صاحب الدر المختار: "وعلته القدر المعهود بكيل أو وزن مع الجنس فإن وجدا حرم الفضل والنساء، وإن عدما حلًّا، وإن وجد أحدهما، حل الفضل وحرم النساء، وحل بيع تفاحة بتفاحتين وفلس بفلسين، أو أكثر بأعيانهما" ولكن جواز بيع فلس بفلسين، عند أبي حنيفة وأبي يوسف خاص بحالة تعيينهما، حيث إن للعاقدين إبطال ثمنية الفلوس، وحينئذ تصير كالعروض التي يجوز فيها التفاضل، أما في حالة عدم التعيين وجعلها أثماناً، فلا يجوز التفاضل. (4)

وقال العدوي: "واختلف في علة الربا في النقود فقيل: غلبة الثمنية، وقيل: مطلق الثمنية، وعلى الأول، تخرج الفلوس الجدد، فلا يدخلها الربا، ويدخلها على الثاني"(5) غير أن ابن رشد أسند إلى حذاق المالكية القول بأن العلة هي الصنف الواحد، مع كون الذهب والفضة رؤوساً للأثمان وقيماً للمتلفات، ثم قال:"وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة؛ لأنها ليست موجودة عندهم في غير الذهب والفضة"(6)

(1) فتح القدير (7/4) ؛ وبداية المجتهد (1/130) ؛ والمجموع للنووي (8/395) ؛ والمغني لابن قدامة (4/5-7) وغيرهما

(2)

قال القرافي في الفروع (3/259) : "وفيها ثلاثة أقوال: التحريم، والإباحة، والكراهة".

(3)

فتح القدير، ط/ مصطفى الحلبي (7/4)

(4)

الدر المختار مع حاشية ابن عابدين ط. بيروت (4/178-179)

(5)

حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة أبي زيد (2/130)

(6)

بداية المجتهد (1/130)

ص: 1020

وذهب الشافعية إلى أن العلة في الذهب والفضة هي الثمنية غالباً –أي جنس الأثمان غالباً- وهذه العلة قاصرة عندهم. وعند الزيدية، (1) لا تتعدى إلى غيرهما، وفائدتها هي معرفة أن الحكم مقصور عليها، حتى لا نطمع في القياس. (2)

يقول الإمام الشافعي: "الذهب والفضة بائنات من كل شيء لا يقاس عليهما غيرهما، لمباينتهما ما قيس عليهما"(3) ويقول النووي: "إذا راجت الفلوس رواج النقود، لم يحرم الربا فيها هذا هو الصحيح المنصوص عليه، وبه قطع المصنف والجمهور (4) ومعنى ذلك أن الفلوس تكون سلعة مثل الحيوان، حيث يجوز بيع حيوان بحيوانين؛ لأنه من القيميات التي تلاحظ فيها القيمة والجودة والرداءة".

وذهب الحنابلة، في المشهور، إلى أن العلة فيهما هي: كونهما موزون جنس. فعلى ضوء ذلك، تدخل الفلوس في الأموال الربوية، قال ابن قدامة:"واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، فروى عن أحمد في ذلك ثلاث روايات أشهرهن: أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس، والرواية الثانية: أن العلة في الأثمان الثمنية، فيختص بالذهب والفضة"(5)

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأظهر أن العلة في الدراهم والدنانير هو الثمنية، لا الوزن كما قاله جمهور العلماء، ولا يحرم التفاضل في سائر الموزونات كالرصاص والحديد. والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معياراً للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، لا بقصد الانتفاع بعينها".

ثم قال في مكان آخر: "لكن من قال: هي أثمان. فهل يجري فيها الربا من هذه الجهة؟ على وجهين في مذهب أحمد وغيره"(6)

والمالكية، وإن كانوا قد وسعوا في مفهوم الثمنية، وأعطوا حكم النقود للفلوس ونحوها، ولكنهم مع ذلك أبقوا بعض الأحكام خاصة بالذهب والفضة، فمثلاً قالوا بوجوب الزكاة في الدرهم والدينار لذاتهما، إذا بلغا النصاب، ولكنهم مع ذلك قالوا بعدم وجوب الزكاة في الفلوس إلا إذا كانت للتجارة.

(1) البحر الزخار (4/333)

(2)

المجموع (9/395)

(3)

الأم (3/99)

(4)

المجموع (9/393-395)

(5)

المغني (4/5-7) ؛ والكافي (2/53)

(6)

مجموع الفتاوى (29/471)

ص: 1021

يقول الشيخ عليش: " إن الفلوس النحاس المختومة بختم السلطان المتعامل بها، لا زكاة في عينها، لخروجها عن ذلك قال في المدونة: ومن حال الحول على فلوس عنده، قيمتها مئتا درهم، فلا زكاة عليه فيها إلا أن يكون مديراً، فيقومها كالعروض"(1)

وذهب الظاهرية إلى عدم الاعتراف بالقياس، وبالتالي بالعلة، ومن هنا حصروا الأموال الربوية على الأنواع الستة التي ورد بها النص من السنة المشرفة، وهذا مروي عن طاووس ومسروق، والشعبي وقتادة وعثمان البتي. (2) ولا شك أن مبنى قولهم هذا غير مقبول، لا يتفق مع القواعد العامة للشريعة التي جاءت بشمولية وعموم، وراعت الحكم والمصالح، ولذلك قام الجمهور بالرد عليهم في هذا المسلك حتى اعتبر بعضهم خلافهم في هذا الأساس شاذًّا لا يعتد به، ولا يخدش في الإجماع. (3)

وقد عرضت هذه الأقوال لا لأقول: إنه لا يوجد ربا في النقود الورقية، وإنما لأبين الفرق بين الذهب والفضة وبين غيرهما، لنصل إلى الحل الوسط كما سيتضح إن شاء الله.

ثانياً: اتفق الفقهاء أيضاً على أن الذهب والفضة من المثليات، وبالتالي يردان بالمثل في حالة القرض، سواء رخص سعرهما أم غلا، أم كسدا وألغيا.

أما الفلوس ففيها خلاف، فذهب المالكية إلى أنها مثل الذهب والفضة، جاء في الشرح الكبير:"وإن بطلت فلوس، أو دنانير، أو دراهم، فالمثل، أو عدمت بالكلية، فالقيمة، وتعتبر وقت اجتماع الاستحقاق والعدم، أي العبرة بالمتأخرة منهما على قول، والمعتمد: يوم الحكم". (4)

واختلف الحنفية في الأدلة في القرض، فذهب الإمام أبو حنيفة إلى مثل ما ذهب إليه مالك، حيث أوجب رد المثل في حالات الكساد والانقطاع وتغير العملة، وذهب أبو يوسف إلى وجوب القيمة في الفلوس في الحالات الثلاث السابقة، في حين ذهب محمد إلى وجوب المثل، عند تغير القيمة، ووجوب القيمة، في حالتي الكساد والانقطاع (5) قال ابن عابدين: "ثم اعلم أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها، فإنها حيث كانت لا غش فيها لم يظهر للاختلاف معنى، بل كان الواجب رد المثل بلا نزاع أصلاً. (6)

(1) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك ط. مصطفى الحلبي (1/164-165)

(2)

المحلى لابن حزم (9/504)

(3)

قال ابن الصلاح في فتاواه ص (67) : ذهب جمهور العلماء إلى أن نفاة القياس لا يبلغون منزلة الاجتهاد. وقال الإمام أبو المعالي الجويني: ما ذهب إليه ذوو التحقيق: أنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة فإنهم أولاً باقون على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواتراً.. وأيضاً فإن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد" ثم قال ابن الصالح: "والذي أختاره أنه يعتبر خلافهم في الفقه لكن لا يعتد بخلافهم في نفي القياس الجلي مثل قولهم بنفي الربا فيما سوى الأشياء الستة".

(4)

الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (3/45) ؛ شرح الخرشي (5/55)

(5)

رسالة النقود لابن عابدين ص (62-63) ح وحاشية ابن عابدين (4/26)

(6)

رسالة النقود لابن عابدين ص (62-63) ؛ وحاشية ابن عابدين (4/26)

ص: 1022

وقال الشافعية إن الرد في قرض الفلوس يكون بالمثل فقط في جميع الأحوال، ليس ذلك بناءً على أنها نقود، وإنما على أساس أنها من المثليات؛ لأنها من الموزونات (1) أما في حالة كون الفلوس أو المغشوشة ثمناً في البيع ونحوه فألغيت أو كسدت، فإن العقد يبطل عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع، وقال محمد: عليه قيمتها آخر ما تعامل الناس بها. (2)

وقال الحنابلة: "إن المستقرض يرد المثل في المثليات، سواء رخص سعره أو غلا، أو كان بحاله.. وإن كان القرض فلوساً، أو مكسرة، فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها، كان للمقرض قيمتها ولم يلزمه قبولها.. نص عليه أحمد، في الدراهم المكسرة وقال: يقومها كم تساوي يوم أخذها؟ ثم يعطيه. وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيراً"(3)

وثالثاً: الدراهم والدنانير ثمن مطلقاً بالإجماع، في حين أن هناك خلافاً كبيراً في ثمنية الفلوس، فالمالكية –كما سبق- وسعوا مفهوم الثمنية، ليشمل كل شيء يعتبره العرف ثمناً، حتى وإن كان من الجلود (4) على عكس الشافعية والزيدية، وأحمد –في رواية- الذين حصروه في الدراهم والدنانير، (5) وأما الحنفية فقالوا: إن الدراهم والدنانير أثمان على كل حال، وأما الفلوس إنما تكون ثمناً إذا دخلت عليها حرف الباء، ولم تعين فتكون ثمناً، وإلا فلا. (6) وذكر ابن عابدين أنه "يستفاد من البحر: أن الفلوس قسم رابع، حيث قال: وثمن بالاصطلاح، وهو سلعة في الأصل، كالفلوس، فإن كانت رائجة، فهي ثمن، وإلا فسلعة". (7)

رابعاً: أن جمهور الفقهاء لم يشترطوا في الفلوس الرائجة عند صرفها بالذهب والفضة الحلول والتقابض، مع أن ذلك شرط أساسي عند صرف الذهب بالفضة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما بيع الفضة بالفلوس النافقة: هل يشترط فيها الحلول والتقابض، كصرف الدراهم بالدنانير؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد.

(1) الأم (3/28)

(2)

رسالة النقود ص (62-63) ؛ وحاشية ابن عابدين (4/24-26)

(3)

المغني لابن قدامة (4/360)

(4)

المدونة (7/104)

(5)

الأم (3/99) ؛ والمجموع (9/393) والبحر الزخار (4/333) ؛ والمغني لابن قدامة (4/6) .

(6)

المبسوط (14/3) . ورسالته في النقود ص 62 وما بعدها

(7)

حاشية ابن عابدين (4/24-26)

ص: 1023

إحداهما: لا بد من الحلول والتقابض، فإن هذا من جنس الصرف، فإن الفلوس النافقة تشبه الأثمان، فيكون بيعها بجنس الأثمان صرفاً.

والثانية: لا يشترط الحلول والتقابض، فإن ذلك معتبر في جنس الذهب والفضة، سواء كان ثمناً أو صرفاً، أو مكسوراً، بخلاف الفلوس؛ لأنها في الأصل من باب "العروض"، والثمنية عارضة لها، ثم نقل القول بالجواز عن مالك والشافعي أيضاً، وذكر هذه الرواية وحدها في الاختيارات. (1) وقد ذكر شيخ الإسلام أحكاماً كثيرة أخرى تتعلق بالفلوس منها أنها هل هي ثمن أم لا؟ وعلى القول بأنها أثمان فهل يجري فيها الربا؟ على وجهين لهم. وكذلك فيها وجهان في وجوب الزكاة، فيها وفي إخراجها عن الزكاة غير ذلك، والوجهان في مذهب أحمد وغيره (2) ومنها أنه سئل عمن اشترى الفلوس: أربعة عشر قرطاساً بدرهم ويصرفها ثلاثة عشر بدرهمٍ هل يجوز؟

فأجاب إذا كان يصرفها للناس بالسعر العام، جاز ذلك، وإن اشتراها رخيصة. وأما من باع سلعة بدراهم، فإنه لا يجب عليه أن يقضي عن شيء منها فلوساً إلا باختياره، وكذلك من اشتراها بدراهم، فعليه أن يوفيها دراهم، فإن تراضيا على التعويض عن الثمن، أو بعضه بفلوس بالسعر الواقع جاز.

وسئل عن الفلوس، وبيع بعضها ببعض متفاضلاً، وصرفها بالدراهم من غير تقابض في الحال ودفع الدرهم وأخذ بعضه فلوساً، وببعضه قطعة من فضة؟ فأجاب بعد تفصيل كبير بأن هذا كله جائز عند جماعة من الفقهاء. (3)

خامساً: أن فريقاً من الفقهاء –منهم الحنفية (4) وأحمد في رواية (5) ذهبوا إلى أن الدراهم والدنانير لا تتعين بالتعيين ولذلك يجوز إبدالها بعد إتمام العقد عليها، ولا يبطل العقد بخروجها مغصوبة، ثم ذهب جمهورهم إلى أن الفلوس تتعين بالتعيين مع اعترافهم بأنها ثمن. (6) في حين ذهب آخرون منهم المالكية والشافعية وأحمد في رواية إلى أن الدراهم والدنانير أيضاً تتعين بالتعيين. (7)

(1) مجموع الفتاوى (29/459-460) . وراجع: الاختيارات الفقهية ص (128)

(2)

مجموع الفتاوى (29/460)

(3)

المصدر السابق (29/ 456-458)

(4)

فتح القدير (7/13)

(5)

المغني لابن قدامة (4/50-51) ؛ ومجموع الفتاوى (29/242)

(6)

المصادر السابقة، والمبسوط (14/3) ؛ والقوانين الفقهية ص (214) ؛ والروضة للنووي (2/511)

(7)

المصادر السابقة

ص: 1024

وأخيراً فقد لخص السيوطي الأحكام الخاصة بالذهب والفضة في عدة أحكام منها: أنه لا يكره المشمس –أي الماء الماكث تحت الشمس- في أوانيهما لصفاء جوهرهما. ومنها أنه يحرم استعمال أوانيهما للحديث، والعلة فيه: الخيلاء، أو تضييق النقود؟ قولان: أصحهما الأول: ومنها أنه يحرم الحلي منهما على الرجال ما يستثنى، ومنها اختصاصهما بين المعادن بوجوب الزكاة فيهما –أي نص الشارع عليهما وعلى مقدارهما- ومنها: أن الربا يجري فيهما، دون الفلوس، ولو راجت في الأصح عند الشافعية، ومنها أن المضروب منهما مختص بكونهما قيم الأشياء، فلا تقويم بغيرهما، ولا يبيع القاضي والوكيل والولي مال الغير إلا بهما، ولا يفرض مهر المثل إلا منهما" (1)

هل نقودنا الورقية مثلية عند انهيارها؟

أولاً: رأينا، فيما سبق أن المراد بالمثلي والقيمي يختلف من باب فقهي إلى آخر، فقد رأينا أن معنى المثلي في باب الحج يختلف عن معناه في باب الغصب أو القرض، وهكذا مما يدفعنا التفكير فيه إلى القول بأن الدافع وراء هذا التقسيم هو الوصول إلى معيار مرن، وإلى أقرب شيء يحقق العدالة والتوازن بين الشيء المطلوب، والشيء الذي ينبغي أن يرد بدله، فهذا من باب ميزان الشيء بشبهه ونظيره (فقس الأمور بأشباهها) ولذلك، صرحوا بأن "أقرب الشيء إلى الشيء الذي أتلف، هو مثله إذا كان من المثليات أو قيمته إذا لم يكن له مثل" يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عند كلامه عن عوض المثل: "وهو أمر لا بد منه في العدل الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة، فهو ركن من أركان الشريعة.. ومداره على القياس والاعتبار للشيء بمثله، وهو نفس العدل.. وهو معنى القسط الذي أرسل الله له الرسل"(2)

بل إن ابن القيم جعل الوقوف عند التشابه الظاهري، دون الغوص في الحقائق والعلل والمقاصد من الشبه الذي "لم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين.. الذين لم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليل، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع.. والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي، هو قياس فاسد"(3)

ويؤكد ذلك أن الفقهاء –على الرغم من وضع هذه القاعدة- قاموا باستثناءات كثيرة، تكاد تكون قاعدة، تنصب على أن كل ما لا يحقق هذه العدالة لا تطبق عليه هذه القاعدة. قال السيوطي:"اعلم أن الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل، والمتقوم بالقيمة، وخرج عن ذلك صور في باب الغصب".

إحداها: المثلي، الذي خرج مثله عن أن يكون له قيمة كمن غصب، أو أتلف ماء في مفازة، ثم اجتمعا على شط نهر، أو في بلد، أن أتلف عليه الجمد في الصيف واجتمعا في الشتاء، فليس للمتلف بدل المثل، بل عليه قيمة المثل في تلك المفازة أو في الصيف.

(1) الأشباه والنظائر ص (398)

(2)

مجموع الفتاوى (29/520-521)

(3)

إعلام الموقعين 1/148

ص: 1025

ثانيتها: الحلي، أصح الأوجه: أنه يضمن مع صنعته بنقد البلد، وإن كان من جنسه، ولا يلزم من ذلك الربا؛ لأنه يجري في العقود لا من الغرامات.

ثالثتها: الماشية إذا أتلفها المالك كلها، بعد الحول، وقبل إخراج الزكاة، فإن الفقراء شركاؤه، ويلزمه حيوان آخر، لا قيمته –مع أن الحيوان من القيميات - جزم به الرافعي وغيره، بخلاف ما لو أتلفها أجنبي.

رابعتها: طم الأرض، كما جزم به الرافعي.

خامستها: إذا هدم الحائط، لزمه إعادته لا قيمته، كما هو مقتضى كلام الرافعي وأجاب به النووي في فتاواه، ونقله عن النص.

سادستها: اللحم، فإنه يضمن بالقيمة، كما صححه الرافعي وغيره في باب الأضحية مع أنه مثلي.

سابعتها: الفاكهة، فإنها مثلية على ما اقتضاه تصحيحهم في الغصب.

والأصح: أنها تضمن بالقيمة، ثم ذكر السيوطي صوراً أخرى في أبواب أخرى، ففي باب البيع، إذا تحالفا وفسخ العقد، وقد تلف المبيع، أطلق الشيخان وجوب القيمة فيه فشمل المثلي وغيره، وهو وجه صححه المارودي، وادعى الروياني الاتفاق عليه.. وفي باب القرض، استثنى المارودي من القاعدة العامة نحو الجوهر، والحنطة المختلطة بالشعير، إن جوزنا قرضهما، فإنهما يضمنان بالقيمة، وصوبه السبكي، وفي باب العارية: أطلق الشيخان وجوب القيمة فيها، فشمل المتقوم والمثلي، وصرح بذلك الشيخ في المهذب، والمارودي، وكذلك المستعار للرهن، يضمن في وجه حكاه الرافعي عن أكثر الأصحاب، بالقيمة، وفي وجه وصححه جماعة، وصوبه النووي في الروضة بما بيع به وهو ما كان أكثر من القيمة، فيستثنى ذلك من ضمان العارية بالقيمة، وفي باب المصراة، يكون البدل عن لبنها التمر –كما ورد في الحديث الصحيح (1) لا مثله، ولا قيمته (2) كل هذه الاستثناءات وغيرها، لتدل دلالة واضحة على أن محاولات الفقهاء في تحديد المثلي والقيمي ووضع معايير لهما، كل ذلك للوصول إلى تحقيق العدالة، والتوازن بين الحقين، وإذا كان المطلوب في وضع هذه المعايير هو تحقيق العدالة، فلا أعتقد أن من العدالة اعتبار الليرة اللبنانية اليوم –حيث يساوي دولار واحد 274 ليرة في شهر 9/ 87 – مثلاً (3) – لليرة اللبنانية عام 1970 – حيث كانت تساوي اثنتان منها دولاراً – ويدل على ذلك أقوالهم في كثير من الفروع الفقهية التي لها علاقة بالضمان والقيمة، فقد كان رائدهم في ثمن المثل، وأجرة المثل، ومهر المثل، وقيم الأشياء هو تحقيق العدالة بكل الوسائل المتاحة، ولذلك لاحظوا فيها الزمان والمكان والظروف والملابسات المحيطة بالشيء، فعلى سبيل المثال ذكروا ثمن المثل في شراء الماء في التيمم، وشراء الزاد ونحوه في الحج، وفي بيع مال المحجور، وغير ذلك، فقالوا: إنه يختلف باختلاف المواضع، قال السيوطي:"والتحقيق: أنه راجع إلى اختلاف في وقت اعتباره، أو مكانه"(4) ففي باب التيمم ذكرت ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه أجرة نقل الماء إلى الموضع الذي هذا المشترى فيه، ويختلف ذلك ببعد المسافة وقربها.

(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 384- 388

(2)

المصدر السابق ص 368

(3)

في شهر 12/ 1987 م يساوي دولار واحد خمسمائة ليرة لبنانية

(4)

الأشباه والنظائر للسيوطي ص 367 -368

ص: 1026

الثاني: أنه قيمة مثله في ذلك الموضع في غالب الأوقات، فإن الشربة الواحدة في وقت عزت الماء يرغب فيها بدنانير، فلو كلفناه شراءه بقيمة في حال، لحقته المشقة والحرج.

الثالث: أنه قيمة مثله في ذلك الموضع في تلك الحالة، فإن ثمن المثل يعتبر حالة التقويم، وهذا هو الصحيح عند جمهور الأصحاب، وبه قطع الدارمي وجماعة من العراقيين، ونقله الإمام عن الأكثرين. والتحقيق: أنه يوجب ذلك على المسافر، ولكن يعتبر الزمان والمكان من غير انتهاء الأمر إلى سد الرمق (1) .

وفي باب الحج: جزم الأصحاب، بأن ثمن المثل للزاد والماء هو القدر اللائق به في ذلك المكان والزمان، وكذلك قالوا في الطعام والشراب، حال المخمصة، وفي باب البيع إذا تخالف المتبايعان، وفسخ، وكان المبيع تالفاً، يرجع إلى قيمته وفي وقت اعتبارها قالوا أقوالاً أصحها يوم التلف، والثاني: يوم القبض؛ لأنه وقت دخول المبيع في ضمانه، وما يعرض بعد ذلك من زيادة، أو نقصان فهو في ملكه. وثالثها: أكثر القيم من القبض إلى التلف؛ لأن يده يد ضمان (2) .

وأما اعتبار القيمة في المغصوب المتقوم، فهو أقصى قيمة من الغصب إلى التلف بنقد البلد الذي تلف فيه (3) .

وقد ذكر الفقهاء كثيراً من الأمثلة للمثليات، راعوا فيها القيمة أيضاً منها:

1-

فمثلاً الماء مثلي، ولكنه يستثنى من ضمانه بالمثل، إذا غصبه شخص في المفازة، فإنه يضمن بقيمته (4) .

2-

إذا أعوز المثل، رجعنا إلى القيمة.

3-

إذا كسر آنية قيمتها عشرون، ووزنها عشرة، قال الغزالي في هذه المسألة:"ففيه وجهان أحدهما: أن الوزن يقابل بمثله، والصفة بقيمتها من غير جنس الآنية، وفيه وجه: ألا يبالي بالمقابلة بجنسه، فيكون البعض في مقابلة الصفة، كما لو أفرد الصفة بالإتلاف، وقد رجح الرافعي هذا الوجه الأخير، ومعنى ذلك يجوز أن يأخذ عشرين مثقالاً في مقابلة ما وزنه عشرة، ما دام فيه صنعه "(5) .

(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 369

(2)

المرجع السابق ص 371

(3)

فتح العزيز 7/ 15؛ ومطالب أولى النهى ط. المكتب الإسلامي (4/ 54)

(4)

الأشباه للسيوطي ص (371)

(5)

الوسيط مخطوطة طلعت ج 2 ورقة 124

ص: 1027

هذا بالنسبة في ضمان المتلفات، وهذا محل اتفاق، أما في البيع فلم يجوزوه، إلا ما نقل عن مالك، وما روي عن معاوية أنه يجوز بيع مضروب بقيمته من جنسه، كحلي وزنه مائة يشتريه بمائة وعشرة، وتكون الزيادة في الصنعة، وهي الصياغة، وقال الأوزاعي كان أهل الشام يجوزون ذلك فنهاهم عمر (1) وكذلك اعتبر ابن تيمية وابن القيم المصوغ كالحلي يراعى فيه القيمة.

4-

يقول الشوكاني: " فإذا تلفت كان المالك مخيراً بين أخذ مثلها، أو قيمتها يوم الغصب، على وجه يرضى به من غير فرق بين مثلي وقيمي، ولكن إرجاع المثلي من أعلى أنواع الجنس، وقيمة القيمي على هذا الاصطلاح، أقرب إلى دفع التشاجر، وأقطع لمادة النزاع "(2) .

ولم يغفل الفقهاء حتى في الذهب والفضة الوزن، حتى في حالة كونهما نقدين، فقد روى حرب، قال: قلت لأحمد: دفعت ديناراً كوفيًّا ودرهماً وأخذت ديناراً شاميًّا وزنهما سواء لكن الكوفي أوضع؟ قال: لا يجوز، إلا أن ينقص الدينار، فيعطيه بحسابه فضة (3) فيما يجري فيه الربا، اعتبرت المماثلة فيه في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً (4) ، وقد أخذوا ذلك من الحديث الصحيح الذي رواه مسلم بسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الذهب بالذهب وزناً بوزن)) (5) .

كما أنهم لم يغفلوا عن القيمة، حتى في بعض صور بيع الدراهم بالدينار، حيث اعتبر بعضهم النقص في القيمة عيباً يمنع الرد، يقول الفقيه الحنبلي الخرقي:"وإذا اشترى ذهباً بورق عيناً بعين، فوجد أحدهما فيما اشتراه عيباً، فله الخيار بين أن يرد، أو يقبل إذا كان بصرف يومه.." وعلق ابن قدامة على قوله " إذا كان بصرف يومه" قائلاً: "يعني: الرد جائز ما لم ينقص قيمة ما أخذه من النقد عن قيمته يوم اصطرفا، فإن نقصت قيمته كأن أخذ عشرة –أي من الدراهم- بدينار، فصارت أحد عشر بدينار، فظاهر كلام أحمد والخرقي: أنه لا يملك الرد؛ لأن المبيع تعيب في يده، لنقص قيمته" ثم إن ابن قدامة سلم بأن نقص القيمة عيب وإن كان لا يمنع ذلك من الرد، لوجود العيب القديم في نظره، ولكنه يجب عليه في حالة الرد أرش العيب الحادث عنده، وأخذ الثمن (6) .

وقد أخذوا ذلك، من حديث ابن عمر، حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(رويدك أسألك: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطى هذه من هذه؟) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها مالم تفترقا وبينكما شيء)) (7) .

(1) تكملة المجموع للسكي (10/ 83) ؛ بداية المجتهد (2/ 196)

(2)

السيل الجرار ط/ دار الكتب العلمية (3/ 361)

(3)

المغني 4/ 40

(4)

الكافي (2/ 54)

(5)

صحيح مسلم (3/ 1209) ؛ ومسند أحمد (2/262)

(6)

المغنى (2/47، 49)

(7)

رواه أحمد في مسنده (2/ 82، 154) وغيره وسيأتي الكلام عليه

ص: 1028

وذكر ابن نجيم الحنفي أمثلة كثيرة روعيت فيها القيمة في هذا الباب منها: إذا وجب الرجوع بنقصان العيب عند تعذر رده، كيف يرجع به؟ قال قاضيخان: وطريق معرفة النقصان، أن يقوم صحيحاً لا عيب فيه، ويقوم به العيب".

ومنها: المغصوب المثلى إذا انقطع، قال أبو حنفية رحمه الله تعتبر قيمته يوم الخصومة، وقال أبو يوسف رحمه الله : يوم الغصب، وقال محمد رحمه الله يوم الانقطاع.

ومنها المتلف بلا غصب، تعتبر قيمته يوم التلف، ولا خلاف فيه، ومنها المقبوض بعقد فاسد، تعتبر قيمته يوم القبض.

ومنها الرهن إذا هلك بالأقل من قيمته ومن الدين، فالمعتبر قيمته يوم الهلاك، ومنها قيمة اللقطة إذا تصدق بها، أو انتفع بها بعد التعريف، ولم يجد مالكها، فالمعتبر فيها يوم التصدق (1) .

ويقول ابن القيم: "إن جميع المتلفات تضمن بالجنس بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة، حتى الحيوان فإنه إذا اقترضه رد مثله كما اقترض النبي صلى الله عليه وسلم بكراً ورد خيراً منه.. وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقصة داود وسليمان عليهما السلام من هذا الباب، فإن الماشية كانت قد أتلفت حرث القوم، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث كأن ضمنهم بالقيمة، وأما سليمان، فحكم بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث، حتى يعود كما كان، فضمنهم إياه بالمثل، وأعطاهم الماشية، يأخذون منفعتها عوضاً عن المنفعة التي فاتت من غلة الحرث إلى أن يعود، وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز، فيمن أتلف له شجر فقال الزهري: يغرسه حتى يعود كما كان، وقال ربيعة وأبو الزناد: عليه القيمة، ثم قال بأن القاعدة في المثلي هي المساواة في الجنس، والصفة، والمالية، والمقصود والانتفاع، ولذلك فما كان أقرب إلى المماثلة، فهو أولى بالصواب (2) ومن هنا لنا الحق أن نتسائل: هل النقود الورقية هذه السنة تشبه النقود الصادرة قبل عشرين سنة؟ ! ويقول ابن حجر عند تعليقه على القول برد المثل في القيمي، عند من يقول به: "ومن لازم اعتبار المثل الصوري: اعتبار ما فيه من المعاني التي تزيد بها القيمة " (3)

(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 362 -364

(2)

إعلام الموقعين (2/ 45)

(3)

تحفة المحتاج (5/ 44)

ص: 1029

ثانياً: أن جمهور الفقهاء عرفوا المثلي في أبواب القرض والغصب والإتلاف، بما هو مكيل أو موزون، وجعلوا الكيل، أو الميزان معياراً له، فعلى ضوء ذلك، لا يدخل فيه النقود الورقية، فتكون من القيميات التي يلاحظ فيها عند الحقوق والالتزامات قيمتها.

وأما على ضوء تعريف إمام الحرمين، والغزالي، الذي جعل تساوي الأجزاء من حيث القيمة والمنفعة معياراً للمثلي، فلا تدخل فيه النقود الورقية، فالليرة اللبنانية الآن هل تساوي الليرة اللبنانية قبل خمس عشرة سنة؟ وكذلك الأمر بالنسبة لتعريف الكاساني الذي أضاف إلى المكيل والموزون: المعدود الذي لا اختلاف بين آحاده؛ وذلك لأن النقود الورقية يوجد بينها اختلاف بيِّن بين آحاده؛ وذلك لأن النظر إلى النقد الورقي ليس باعتبار شكله ورسمه، وإنما اعتبار قيمته الشرائية، فالنقود الورقية ليس فيها نفع ذاتي، فلا تؤكل ولا تشرب، ولا تلبس، وإنما باعتبار ما يشترى بها.

وقد رأينا المحققين رجحوا تعريف المثلي بما هو مكيل أو موزون، وشاهدنا دفاع الإمام الجليل الرافعي وغيره عنه، ويقول ابن قدامة:"وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي، وهو الكيل والوزن"(1) .

ويقول صاحب المطالب: "ويجب على المقترض رد قيمة غير المكيل والموزون يوم القبض"(2) ويقول العلامة البابرتي: "إن المكيلات والموزونات كلها من ذوات الأمثال، دون القيم"(3) .

فعلى ضوء هذا التعريف للمثلي لا تدخل النقود الورقية فيه، فتكون من القيميات التي تلاحظ فيها القيمة كقاعدة عامة.

ومن هذا العرض، يمكن القول بأن للفقهاء في باب القروض والغصب معيارين: معياراً ذاتيًّا، وهو رعاية الكيل، أو الوزن، ومعياراً موضوعيًّا مرناً، وهو تساوي الأجزاء مع رعاية القيمة والمنفعة، وهذا ما اختاره إمام الحرمين والغزالي وغيرهما، وهو الذي يظهر رجحانه، إذ أن الوقوف عند الناحية الشكلية، دون رعاية الجوهر والغاية والمقاصد، لا يتفق مع هذه الشريعة التي نزلت لتحقيق العدالة في كل الأمور، ولذلك جعل الماوردي وغيره تساوي القيم بين شيئين معياراً لتحقيق المثلية فيهما فقال:" فإن التماثل بالقدر، غير أن القيمة يعرف بها تماثل القدر وتفاضله" وقد ذكر ابن الهمام أن المماثلة الحقيقية المطلوبة لا تتحقق إلا باعتبار الصورة والمعنى، والمعيار يسوي الذات، أي الصورة، والجنسية تسوي المعنى (4) .

(1) المغنى ج 4 ص 7

(2)

مطالب أولي النهى (3/ 43)

(3)

شرح الهداية 7/ 10

(4)

شرح الهداية: (7/ 7)

ص: 1030

ثالثاً: إن قضية المثلي والقيمي واعتبار ما هو مثلي، أو قيمي ليست من الأمور المنصوص عليها في الشرع، بحيث لا يمكن تجاوزها، وإنما كان الغرض منها هو محاولة التقريب والتبسيط والتقعيد الفقهي، والرائد فيها هو تحقيق العدالة، ولذلك قالوا في تعليلهم لوجوب رد المثلي في المثلي: إن المثل هو أقرب الأشياء إليه، وقالوا في رد القيمي في القيمي: أنه نظراً لتفاوت أفراده يمنع رد المثل فيه، ولذلك تجب قيمته، ومن هنا إذا رد المقرض في القيميات شيئاً أحسن مما أخذه يجوز، استناداً إلى ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث استسلف من رجل جملاً بكراً فأمر أن يعطيه رباعيًّا وقال:((فإن خياركم أحسنكم قضاء)) (1) .

وقد أكد الإمام الشوكاني ذلك، وبين بأن قاعدة المثلي والقيمي قاعدة مرنة جدًّا، وأنها ليست منصوصة، فقال:"قوله: وفي تالف المثلي مثله إلخ" أقول: "إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه، أنه مثلي، وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي، هو مجرد اصطلاح لهم، ثم وقوع القطع والبت منهم بأن المثلي يضمن بمثله، والقيمي بقيمته، هو أيضاً مجرد رأي عملوا عليه، وإلا فقد ثبت عن الشارع أنه يضمن المثلي بقيمته"(2) .

ولو استقرينا فروع الشريعة وكلياتها ومبادئها ووسائلها، لوجدناها قائمة على العدل قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وقال:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

"والأصل في العقود جميعها هو العدل، فإنه بعثت به الرسل، وأنزلت الكتب.. والشارع نهى عن الربا، لما فيه من الظلم، وعن الميسر لما فيه من الظلم"(3) .

(1) رواه البخاري في صحيحه –مع فتح الباري (5/ 56- 59) ؛ ومسلم (3/1244) ؛ والترمذي في سننه مع التحفة (4/524) ؛ والنسائي في سننه (7/ 256) ؛ وأبو داود في سننه مع العون (9/ 196) ؛ ومالك في الموطأ ص 442.

(2)

السيل الجرار بتحقيق إبراهيم زايد ط. دار الكتب العلمية ببيروت (3/ 360)

(3)

مجموع الفتاوى 20/ 510

ص: 1031

هل النقود الورقية مثل الدراهم والدنانير في كل الأحكام؟

هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه علينا، والجواب عنه بالسلب، أو بالإيجاب، أو التفصيل، يكون هو الأساس في أي حل يراد. فقد ذهب أكثر العلماء الذين عاصروا مولد النقود الورقية إلى أنها ليست مثل النقود الذهبية والفضية على الإطلاق، بل ذهب بعضهم إلى نفي نقديتها وماليتها، ورتبوا عليها عدم وجوب الزكاة فيها، وعدم جريان الربا فيها، فقد جاء في فتح العلي المالك:".. ما قولكم في الكاغد، الذي فيه ختم السلطان، ويتعامل به كالدراهم والدنانير.. هل يزكى زكاة العين أو العرض أو لا زكاة فيه؟ "

فأجبت بما نصه: ".. لا زكاة فيه، لانحصارها في النعم وأصناف مخصوصة من الحبوب والثمار، والذهب والفضة، ومنهما قيمة عرض المدير وثمن عرض المحتكر، والمذكور ليس داخلاً في شيء منها، ويقرب لك ذلك أن الفلوس النحاس المختومة بختم السلطان المتعامل بها لا زكاة في عينها لخروجها عن ذلك"(1) يقول الأستاذ الدكتور القرضاوي: "لم تعرف النقود الورقية إلا في العصر الحاضر، فلا نطمع أن يكون لعلماء السلف فيها حكم، وكل ما هنالك أن كثيراً من علماء العصر يحاولون أن يجعلوا فتواهم تخريجاً على أقوال السابقين، فمنهم من نظر إلى هذه النقود نظرة فيها كثير من الحرفية والظاهرية، فلم يرد هذه نقوداً؛ لأن النقود الشرعية إنما هي الذهب والفضة، وإذن لا زكاة فيها.. وبهذا أفتى الشيخ عليش وبعض الشافعية.."(2) .

وقد أسند كتاب الفقه على المذاهب الأربعة إلى الحنابلة عدم وجوب الزكاة في الورق النقدي، إلا إذا صرف ذهباً، أو فضة، ووجدت فيه شروط الزكاة السابقة (3) وهذا الإسناد غير مقبول؛ لأن النقد الورقي لم يكن موجوداً في زمن أحمد ولا أصحابه، وحتى لازم المذهب ليس بمذهب، فكيف تسنى له أن يسند إليهم هذا القول؟ !

وكذلك أفتى كثير من علماء الهند في القرن السابق، بعدم وجوب الزكاة فيها، وعدم أداء الزكاة بها، وعدم جواز شراء الذهب والفضة بها (4) .

وبعكس هذا الاتجاه، ذهب علماء معاصرون كثيرون إلى وجوب الزكاة فيها، منهم العلامة أحمد الساعاتي صاحب ترتيب مسند أحمد وشرحه، حيث قال:"فالذي أراه حقاً، وأدين الله عليه، أن حكم الورق المالي كحكم النقديين في الزكاة سواء بسواء؛ لأنه يتعامل به كالنقدين تماماً"(5) وأفتى بمثله العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي، حيث قال:"فتحصل أن الأوراق المالية يصح أن تزكى باعتبارات أربعة"(6) .

(1) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك (1/ 164- 165)

(2)

فقه الزكاة ط. مؤسسة الرسالة (1/ 271)

(3)

الفقه على المذاهب الأربعة ط. دار إحياء التراث الإسلامي بقطر (1/ 515)

(4)

إمداد الفتاوى للشيخ أشرف علي التهانوي (3/ 2 –3) نقلاً عن الأستاذ محمد تقي العثماني في بحثه: أحكام أوراق النقود ص 8

(5)

الفتح الرباني مع شرحه للشيخ الساعاتي حيث ذكر هذه المسألة في كتاب الزكاة باب زكاة الذهب والفضة (8/ 251)

(6)

التبيان في زكاة الأثمان ص 33؛ وما بعدها، وفقه الزكاة (1/ 275)

ص: 1032

وكذلك أفتى بمثله بعض علماء الهند مثل: مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي صاحب عطر الهداية، وذكر المفتى سعيد أحمد اللكنوي في كتابه أن الإمام عبد الحي اللكنوي كان يوافق تلميذه الشيخ فتح محمد في هذه المسألة (1) .

والراجح أن هذا الخلاف لفظي، وليس خلافاً معنويًّا، ولا خلافاً قائماً على الحجة والبرهان، وإنما هو خلاف عصر وأوان، فالأوائل بنوا أقوالهم في عدم وجوب الزكاة فيها على أساس أنها كانت سندات لديون، والآخرون نظروا إليها باعتبارها أصبحت أثماناً بالعرف وكلا الرأيين صحيح فالأوراق النقدية كانت في بدايتها سندات، فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية:"أن البنكنوت كان ظهوره قبل الشيكات المصرفية، ويمكن اعتباره كسند عند الدائن لدين له على البنك، وأن حقوق هذه الأوراق تنتقل إلى آخر عند تسلمها، فحينئذ يكون حاملها دائناً للبنك بطريقة تلقائية.."(2) .

وأما الآن بل ومنذ فترة ليست وجيزة، لم يعد لها هذا التكييف، بل هي تطورت وأصبحت عملة قانونية، ومنعت الحكومات البنوك الشخصية من إصدارها، وحينئذ تختلف حقيقتها عن السندات المالية الأخرى في أمور كثيرة (3) .

وكذلك في مسألة الربا، حيث لا ينبغي تكييف مسألة النقود الورقية الآن على أنها ما دامت لا تتحقق فيها علة الربا عند بعض العلماء، يجوز فيها الربا قياساً على قول من أجاز الربا في الفلوس، وذلك لأن هؤلاء لما قالوا في الفلوس، قالوا فيها باعتبار كونها سلعة، ولا سيما أنها لم تكن النقد السائد، بل كانت المساعدة، أما لو شاهدوا غلبتها وأصبحت العملة الوحيدة، فلا أعتقد أن أحداً منهم يقول بهذا القول، ولذلك نرى مشايخ ما وراء النهر، حرموا التفاضل في العدالي والغطارفة –نوعان من النقود الفضية التي كانت نسبة النحاس فيهما أكثر من الفضة- مع أن علماء المذهب الحنفي القدامى أجازوا التفاضل وزناً وعدداً في الدراهم والدنانير المغشوشة، قال المرغيناني:"وإن كان الغالب عليهما الغش فليسا في حكم الدراهم والدنانير، وإن بيعت بجنسها متفاضلاً جازا.." ثم قال: "ومشايخنا رحمهم الله لم يفتوا بجواز ذلك في العدالي والغطارفة؛ لأنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيه ينفتح باب الربا. ثم إن كانت تروج بالوزن فالتبايع والاستقراض فيها بالوزن وإن كانت تروج بالعد فبالعد.."(4) .

ولكن مع رواج النقود المغشوشة وقبولها وكونها من أعز الأموال، لم يعط الحنفية كل أحكام الدراهم والدنانير الخالصة.

(1) يراجع بحث الأستاذ محمد تقي العثماني ص (11)

(2)

دائرة المعارف البريطانية ط (1950)(3/ 44)

(3)

يراجع: بحث محمد تقي العثماني ص (11)

(4)

الهداية مع فتح التقدير وشرح العناية (7/ 152-153) ؛ وحاشية ابن عابدين

ص: 1033

يقول المرغيناني: "ثم هي ما دامت تروج تكون أثماناً، لا تتعين بالتعيين، وإذا كانت لا تروج، فهي سلعة تتعين بالتعيين، وإذا كانت يتقبلها البعض دون البعض، فهي كالزيوف لا يتعلق العقد بعينها، بل بجنسها زيوفاً، إن كان البائع يعلم بحالها، لتحقق الرضا منه، وبجنسها من الجياد، إن كان لا يعلم، لعدم الرضا منه"(1)، ثم قال موضحاً المزيد من الفرق بينها وبين الجياد:"وإذا اشترى بها سلعة، فكسدت، وترك الناس المعاملة بها، بطل البيع عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع، وقال محمد: قيمتها آخر ما تعامل الناس بها، لهما أن العقد صح، إلا أنه تعذر التسليم بالكساد، وأنه لا يوجب الفساد.. وإذا بقي العقد، وجبت القيمة، لكن عند أبي يوسف وقت البيع؛ لأنه مضمون به، وعند محمد يوم الانقطاع، لأنه أوان الانتقال إلى القيمة.. ولأبي حنيفة أن الثمن يهلك بالكساد؛ لأن الثمنية بالاصطلاح، وما بقي، فيبقى بيعاً بلا ثمن فيبطل، وإذا بطل البيع، يجب رد المبيع، إن كان قائماً، وقيمته، إن كان هالكاً، كما في البيع الفاسد" ونقل ابن الهمام عن أصحاب الذخيرة: أن الفتوى على قول أبي يوسف (2) .

وبعد هذا العرض، يمكننا أن نأتي إلى ذكر الفروق الجوهرية بين النقود الورقية والنقود المعدنية والذاتية بإيجاز.

الفرق الأول:

أن الذهب والفضة نقدان ذاتيان ضامنان للقيمة في حد ذاتهما، في حين أن العملة الورقية نقد حسب العرف والاصطلاح، اكتسبت قوتها في بدايتها من غطائها الذهبي أو الفضي، والآن تكسبها من قوة الدولة وضمانها لها.

ولذلك فليس بوسع أي أحد –فرداً أو دولة- أن يلغي قيمة النقود المعدنية، حتى لو ألغيت نقديتها رسميًّا ستظل قيمتها باقية كسلعة، أما النقود الورقية، فتستطيع كل دولة أن تلغيها، أو تنقص من قيمتها، وإذا ألغيت فلا يبقى لها أية قيمة.

ولا شك في أن قيمة النقود الورقية في قوتها الشرائية، وقدرتها على أن يشترى بها الحاجات الأساسية وغيرها؛ وذلك لأن النقود الورقية ليست مما يؤكل ولا يلبس، ولا يتحلى بها على عكس السلع، والنقود الذهبية والفضية.

(1) الهداية مع فتح التقدير (7/ 153)

(2)

الهداية، مع شرحيه: فتح القدير، وشرح العناية (7/ 154- 155)

ص: 1034

الفرق الثاني:

أن النقود الذاتية لا ينسى مع نقديتهما وزنهما، باعتبار أن زيادة الوزن تدل بلا شك على زيادة القيمة، وقد أشار إلى ذلك الحديث الصحيح ((وزناً بوزن)) (1) ويترتب على ذلك أمران:

الأمر الأول:

عدم جواز الزيادة بين تبر الذهب ونقده، بل وبين الدنانير بعضها ببعض إذا كان في أحدها زيادة على الآخر، يقول الشافعي:".. أرأيت الذهب والفضة مصروبين دنانير، أو دراهم.. لا يحل الفضل في واحد منهما على صاحبه لا ذهب بدنانير، ولا فضة بدراهم إلا مثلاً بمثل، وزناً بوزن، وما ضرب منهما، وما لم يضرب سواء لا يختلف". "الربا في مضروبه وغير مضروبه سواء". فقد نظر الشافعي إلى النقود من حيث أصلها، فما دام موزوناً فيراعى فيه الوزن، وهكذا، ولذلك فما كان غير موزون أو مكيل ويصبح ثمناً بالعرف يلاحظ فيه أصله، يقول الشافعي:"وإنما أنظر في التبر إلى أصله، وأصل النحاس لا ربا فيه".

وما دام يلاحظ في النقود الذهبية والفضية أصلها من حيث الوزن، ولذلك يوجد الربا في مضروبه وغير مضروبه، ومن هنا "فكيف يجوز أن يجعل مضروب الفلوس مخالفاً غير مضروبها؟ "(2) وإلى اعتبار الوزنية في الذهب والفضة تبرها ونقدهما، ذهب الحنفية (3) والمالكية (4) والحنابلة (5) وغيرهم.

قال ابن رشد:

"وأجمع الجمهور على أن مسكوكه وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلاً، لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك إلا معاوية، فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصوغ، لمكان زيادة الصياغة، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه، فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه، أو دراهمه؟ فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك، فأرجو ألا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه، وأنكر ابن وهب من أصحابه"

(6)

قال ابن قدامة: "فإذا باع ديناراً بدينار كذلك وافترقا، فوجد أحدهما ما قبضه ناقصاً، بطل الصرف؛ لأنهما تبايعا ذهباً بذهب متفاضلاً"(7) قال ابن عابدين: "فإذا استقرض مائة دينار من نوع، فلا بد أن يوفى بدلها مائة من نوعها الموافق لها في الوزن، أو يوفى بدلها وزناً لا عدداً"(8) .

(1) جزء من الحديث الصحيح المتفق عليه

(2)

الأم (3/ 98)

(3)

فتح القدير (7/ 15) ؛ وحاشية ابن عابدين (5/ 177)

(4)

بداية المجتهد (2/ 196)

(5)

المغني لابن قدامة (4/ 10)

(6)

بداية المجتهد (2/ 196)

(7)

المغني (4/ 50)

(8)

ابن عابدين (5/ 177)

ص: 1035

الأمر الثاني:

جواز بيع دينار ذهبي زائد بدينار ناقص، وزيادة بقدر النقصان، وبالعكس فقد روى الحافظ ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندهما، عن الحكم أن في الدينار الشامي بالدينار الكوفي وفضل الشامي فضة قال: لا بأس به، ورويا مثله عن مجاهد، وروى عبد الرازق بسنده عن مجاهد: في الرجل يبيع الفضة بالفضة بينهما فضل؟ قال: "يأخذ بفضله ذهباً، وروى مثله ابن أبي شيبة، عن طاووس والنخعي "(1) .

بل إن جماعة من الفقهاء منهم أبو حنيفة ومحمد ذهبوا إلى اعتبار الوزن في الدراهم والدنانير مطلقاً؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على وزنتيهما حيث قال: ((وزناً بوزن)) والنص أقوى من العرف، فهو لا يعارض النص، وذكر ابن عابدين أن الدراهم والدنانير في عصره كانت مختلفة حيث قال:"فإن النوع الواحد من أنواع الذهب والفضة المضروبين قد يختلف في الوزن كالجهادي والعدلي والغازي من ضرب سلطان زماننا، فإذا استقرض مائة دينار من نوع فلا بد أن يوفى بدلها مائة من نوعها الموافق لها في الوزن أو يوفى بدلها وزناً لا عدداً، أما بدون ذلك، فهو رباً؛ لأنه مجازفة"(2) .

ولا شك في أن النقود الورقية لا يلاحظ فيها الوزن قاطبة حتى تكون مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، ومن هنا قال الشافعي:"الذهب والفضة بائنان من كل شيء لا يقاس عليهما غيرهما"(3) .

الفرق الثالث:

أن النقود الذاتية كالدراهم والدنانير، حتى لو ألغيت نقديتها، بقيت مثليتها، على عكس النقود الاصطلاحية كالفلوس عند من يقول بها، حيث لو كسدت تصبح سلعة متقومة عند الكثيرين، أما الدراهم والدنانير، حتى لو كسدتا وألغيت نقديتهما، بقيتا مثليتين.

بل إن الفلوس والدراهم والدنانير المغشوشة أحسن حالاً من النقد الورقي إذ إنها باعتبار أصولها وإمكانية الانتفاع من موادها، كسلعة تحمل قيمة، أما النقود الورقية، فلا تحمل أية قيمة، إذ إنها لم تعد صالحة للانتفاع بها، حتى للكتابة عليها بعد ما كتبت عليها من كتابات خاصة بالدولة التي أصدرتها، ولذلك يقول الاقتصاديون: إن هذه الأوراق جعلتها الدولة أثماناً عرفية، وألزمت الناس بقبولها في اقتضاء ديونهم، ولكن الأثمان المسكوكة سابقاً حتى "النقود الرمزية منها، كانت في أنفسها أموالاً لها قيمة يعتد بها، ولم يكن تقويمها موقوفاً على إعلان الحكومة، ولا بجعلها أثماناً رمزية، فإنها كانت تصنع تارة من الذهب والفضة، ومرة من الصفر، وأخرى من النحاس، أو الحديد مما هي أموال في أنفسها، ولذا لو أبطلت الحكومة ثمنيتها، بقي تقومها من حيث موادها، وأما هذه الأوراق، فليست أموالاً في أنفسها، وإنما جاء فيها التقويم من قبل الحكومة، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بطل تقومها (4) إذن فما المانع إذا قامت الحكومة بخفض قيمتها، أن نلاحظ هذه القيمة بقدرها في الحقوق والالتزامات الآجلة؟ "

(1) مصنف ابن أبي شيبة الحديث رقم (2293، 2297، 2298) ؛ ومصنف عبد الرازق الحديث رقم (14559، 14560)

(2)

حاشية ابن عابدين (5/ 177)

(3)

الأم (3/ 98، 99)

(4)

الأستاذ محمد تقي العثماني: بحثه السابق ومصادره المشار إليها

ص: 1036

يقول الأستاذ جيوفري: "إن الورق النقدي الآن ليس إلا قطعة من الكاغذ، ليس لها قيمة ذاتية، ولو قدمت إلى البنك البريطاني لافتكاكها، فإن البنك لا يستطيع الوفاء بوعده إلا بإعطاء عملة رمزية أخرى، أو ورق نقدي آخر"(1) وحاصل ذلك: أن هذا الوعد المكتوب لا يعبر إلا عن ضمان الحكومة لحامله، بأنه مستعد للوفاء بوعده، ولكن ليس بذهب ولا فضة، بل بورق آخر يساويه في القيمة.

وقد أشار ابن عابدين إلى أن العملة الذاتية الخالصة تكتسب قوتها من ذاتيتها، ولذلك لا يتحكم فيها الناس –كقاعدة عامة- على عكس النقود الاصطلاحية حيث يقول:

"فإنه –أي الغلاء والرخص- إنما يظهر إذا كانت –أي الدراهم والدنانير- غالبة الغش تقوم بغيرها"(2) .

وأشار الشافعي إلى فرق لطيف بين الذهب والفضة من جانب، وبين غيرهما، حتى ولو صار نقداً مثل الفلوس، حيث ذكر أن الذهب سواء كان مضروباً كالدينار، أم تبراً لا يجوز بيعه بالذهب مطلقاً إلا مثلاً بمثل، وكذلك الفضة، "وما ضرب منهما وما لم يضرب سواء لا يختلف.. فلا يحل الفضل في مضروبه على غير مضروبه.. فكيف يجوز أن يجعل مضروب الفلوس مخالفاً غير مضروبها؟ "(3) فالنقود الورقية يجوز أن يشترى بها كميات أكثر من وزنها من الأوراق التي صنعت منها.

الفرق الرابع:

أن علماءنا المعاصرين متفقون على أن نقودنا الورقية تقوم بالذهب، أو الفضة، أو غيرهما لمعرفة نصاب الزكاة فيها، ولذلك فنقد كل بلد يقوم فإذا بلغ ما لدى الإنسان مقداراً يصل إلى قيمة عشرين مثقالاً من الذهب، أو مائتي درهم من الفضة تجب الزكاة إذا حال عليه الحول، بل أكثر من ذلك رجح فضيلة الأستاذ القرضاوي ربط نصاب النقود الورقية بالسلع الأساسية التي نص على نصابها فقال:"وبناء على هذا البحث، نستطيع أن نضع معياراً ثابتاً للنصاب النقدي، يلجأ إليه عند تغير القوة الشرائية للنقود تغيراً فاحشاً يجحف بأرباب المال أو بالفقراء، وهذا المعيار هو ما يوازي متوسط نصف قيمة خمس من الإبل، أو أربعين من الغنم في أوسط البلاد وأعدلها"(4) .

(1) الأستاذ محمد تقي العثماني: بحثه السابق ومصادره المشار إليها

(2)

رسالة النقود ص (2/ 62)

(3)

الأم: 3/ 98

(4)

فقه الزكاة (1/ 269)

ص: 1037

الفرق الخامس:

أن المعاصرين جميعاً متفقون على أن نقودنا الورقية مختلفة باختلاف الدول التي تصدرها، ولذلك لا يجرى الربا بين ريال قطري وبين ريال سعودي، مع أن كلًّا منهما ريال، وبينهما شبه شكلي، فيجوز بيع ريال سعودي بريال وزيادة كما هو المعهود، ولو رد الدين به بدل الريال القطري تحسب هذه الزيادة فما السبب في ذلك؟

لا جواب على ذلك إلا اعتبار القيمة للريالين، ولذلك فهي ليست ثابتة، فقد يزداد سعر أحدهما دون الآخر وبالعكس، فلا اعتبار للاسم ولا للشكل ولا للوزن والعدد، وإنما للقيمة، في حين لو كانت العملة ذهبية، لما اختلفت باختلاف دولة الإصدار.

الفرق السادس:

أن أكثر العملات –إن لم يكن جميعها- قد كتب عليها عبارة: "ورقة نقدية مضمونة القيمة بموجب القانون " حتى إذا لم يكتب عليها هذه العبارة، فهذا هو واقعها، فقيمتها في وقتها الشرائية، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ننكر هذا الواقع لأجل شكل ما أنزل الله به من سلطان؟ ولا أحد يدعي أن الذهب، أو الفضة حينما يضرب يحتاج إلى هذه العبارة، أو هذا الضمان.

الفرق السابع:

إن النقود الورقية في واقعها الذي ظهرت فيه كانت عبارة عن صكوك، تعبر عن الرصيد الذي كانت تمثله، ثم وضع لها غطاء ذهبي، فكانت قيمتها باعتبار هذا الغطاء، ثم لما ألغي هذا الغطاء، أصبحت موارد الدولة وقوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وقوة ضمانها من قبلها هي الغطاء، ولذلك تتقلب هبوطاً وارتفاعاً حسب التقلبات التي تقع على الدولة المصدرة لها والضامنة لها، فهذا يعني بكل بساطة رعاية قيمتها وقدرتها الشرائية، ولذلك تتغير قيمة الليرة اللبنانية الآن وهي متقلبة ومتغيرة، وأن النقود نفسها تتأثر بها، فلا بد إذن القول بأن الليرة اللبنانية اليوم التي يمثلها غطاء ضعيف مهزوز، غير الليرة التي كان يمثلها غطاء قوي من حيث الواقع والغاية والهدف والنتيجة، فهي مرتبطة بأصل، وهذا الأصل قد تغير جوهره، فما يبنى على الأصل لا بد أن يتغير به.

وهذا بلا شك على عكس النقود الذهبية والفضية، حيث تكتسب قوتها من ذاتها، ولا تحتاج إلى هذه الاعتبارات.

ص: 1038

الفرق الثامن:

أن الفقهاء حينما أجمعوا على أن الذهب والفضة، والحنطة والشعير –مثلاً- يجب فيها المثل مطلقاً في حين اختلفوا في النقود المغشوشة والفلوس، حيث لاحظ بعضهم القيمة عند الغلاء والرخص، صرحوا بأن السبب في ذلك أن الذهب والحنطة ونحوهما مما يستفاد بذاتها مع قطع النظر عن قيمتها فعشرة كيلوات من الحنطة سواء رخص سعرها أو غلا، هو غذاء يحقق الغرض المقصود، وينتفع به صاحبها من حيث الطعم والغذاء دون أن يؤثر فيها القيمة ولكن الفلوس والنقود المغشوشة تكمن قيمتها في رواجهما وقبول الناس لهما فإذا لم يتحقق فيهما هذه الشروط، فقد فقدتا مثليتهما، وبالتالي يلاحظ فيهما القيمة والقوة الشرائية.

الفرق التاسع:

لنا أن نتساءل: ما هو المعيار الذي تحدد به قيمة النقود في العالم؟ فمثلاً يكون الريال القطري الآن يساوي كذا، وسابقاً كان يساوي كذا، وكذلك بقية العملات، ثم العلاقة بين عملة أخرى، فالدولار يساوي مثلاً 3.65 ريال قطري 330 قرشاً مصريًّا مثلاً.

فكان المعيار عند نشأة النقود الورقية هو الغطاء الذهبي، إذن كانت مقومة به ومعتبرة به، وتابعة له من حيث الرخص والغلاء، أما بعد أن ألغي هذا الربط فبأي شيء يرتبط؟ لا شك أنها مرتبطة بعدة اعتبارات مختلفة للدولة التي تصدرها.

وأيًّا ما كان، فقد روعي من حيث أساسها القيمة، ولا تزال في دول الغرب يلاحظ فيها قوتها الشرائية، حيث يعرف من خلالها نسبة التضخم، ويكون المعيار في ذلك هو السلع الأساسية باعتبار وقتين مختلفين، وقت إصدار النقد، والوقت الذي حصل فيه الغلاء.

بل أكثر من ذلك لا تزال قيمة النقود الورقية يراعى فيها قيمتها في مقابل الذهب على مستوى الصندوق المالي العالمي.. يقول الأستاذ محمد تقي العثماني: "وفي سنة 1974م اختار (الصندوق المالي العالمي) فكرة (حقوق السحب الخاصة) كبديل لاحتياطي الذهب، وحاصل ذلك أن أعضاء هذا الصندوق يستحقون سحب كمية معينة من عملات شتى الدول، لأداء ديونهم إلى الدول الأجنبية الأخرى، واعتبر 888676 جراماً من الذهب كعيار لتعيين هذه الكمية، وأن حقهم لسحب هذه الكمية اعتبر بديلاً لاحتياطي الذهب"(1) .

وأما النقود الذهبية، أو الفضية فلم يقل أحد بأنها بحاجة إلى التقويم.

(1) في بحثه المقدم إلى المجمع الفقهي الإسلامي بمكة في 7/ 2/ 1406 هـ ص 6.

ص: 1039

الفرق العاشر:

أن مشكلة التضخم التي يعاني منها العالم ولدت في أحضان النقود الورقية، بعد ما حلت محل النقود الذاتية بحيلة قانونية –كما ذكرنا- ولا سيما بعد ما أصبحت بلا غطاء حقيقي، ولذلك أصبحت أموال الناس مهددة بهذه التقلبات الكبيرة التي نشاهدها ونعايشها، فكم من غني جمع من النقود الورقية بكده، وعرق جبينه، ثم ظهر التضخم فأكل أمواله النقدية، وأصبحت كل هذه العملات التي يملكها لا تساوي شيئاً يذكر، فكم من تجار مهرة في لبنان جمعوا أموالهم بالليرة اللبنانية وبلغت الملايين، ولكن بعد ما حصل لليرة اللبنانية ما حصل أصبحت مئات الآلاف لا تساوي شيئاً يذكر.

فلو كانت نقودنا ذهبية، أو فضية فهل كان ينجم كل هذه الأضرار؟

إن الحضارة الإسلامية لم تشهد تضخماً إلا حينما شاعت الفلوس والنقود المغشوشة، ولم تشهد النقود الذهبية والفضة الخالصة أي تضخم يذكر.

يقول الأستاذ محمد الحريري: "إن هذا الداء –أي داء التضخم - كان ظاهرة اقتصادية، رافقت الانتقال من النقود السلعية إلى النقود الائتمانية.. فالذهب والفضة تمتعا –كنقود- بثبات نسبي في قيمتها.. وذلك، لأن النقود السلعية –ومنها الذهب والفضة- كانت تتساوى قيمتها الاسمية مع قيمتها التبادلية، بينما نقل كثيراً قيمة النقد الاصطلاحي، عن قيمته الاسمية، وباستعراض تاريخي للأزمات الاقتصادية في العالم، نجدها مصاحبة لتداول النقد الورقي"(1) .

ويذكر المقريزي وغيره أسباب المشاكل النقدية التي وقعت في بعض العصور الإٍسلامية، وأنها تكمن في إصدار الفلوس، يقول المقريزي:"الفلوس لم يجعلها الله تعالى قط نقداً في قديم الدهر وحديثه، إلى أن راجت في أيام أقبح الملوك سيرة وأرذلهم صريرة –الملك الناصر- وقد علم كل من رزق فهماً وعلماً أنه حدث في رواجها خراب الأقاليم، وذهاب نعمة أهل مصر، والفضة هي النقد الشرعي –أي بجانب الذهب- لم تزل في العالم، وأما الفلوس فإنه.. ومنذ كان الملك إلى أن حدثت الحوادث والمحن بمصر سنة ست وثمانمائة في جهات الأرض كلها عند كل أمة من الأمم كالروم والفرس وبني إسرائيل، واليونان والقبط، والنبط والتبابعة، ومن أقيال اليمن والعرب العاربة، والعرب المستعربة، ثم في الدول الإسلامية من حين ظهورها على اختلاف دولها التي قامت بدعوتها كبني أمية بالشام والأندلس، وبني العباس بالعراق، والعلويين بطبرستان وبلاد المغرب، وديار مصر والشام، والحجاز واليمن، ودولة بني بويه، ودولة الترك بني سلجوق، ودولة الأكراد بمصر والشام، ودولة المغول ببلاد المشرق، ودولة الأتراك بمصر والشام.. إن النقود التي كانت أثماناً وقيماً، إنما هي الذهب والفضة فقط، ولا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم، ولا طائفة من الطوائف أنهم اتخذوا أبداً في قديم الزمان ولا حديثه نقداً غيرهما، إلا أنه لما كانت في المبيعات محقرات تقل أن تباع بدرهم أو بجزء منه، أصبح قديماً وحديثاً إلى شيء سوى النقدين يكون إزاء تلك المحقرات، ولم يسم أبداً ذلك الشيء الذي جعل للمحقرات نقداً البتة.. ولا أقيم قط بمنزلة أحد النقدين، ولم تزل ملوك مصر والشام والعراقيون، وفارس والروم في أول الدهر وآخره، يجعلون بإزائها نحاساً يضربون منه القليل والكثير صغاراً تسمى فلوساً، وكان للناس بعد الإسلام وقبله أشياء أخرى يتعاملون بها كالبيض، والودع (2) وغير ذلك (3) ، ويقول الشافعي في الأم بعد أن ذكر أن الفلوس لا يمكن أن تكون أثماناً ونقوداً: "وقد بلغني أن أهل سويقة في بعض البلدان أجازوا بينهم خزفاً مكان الفلوس" (4) .

(1) مقالته في مجلة النور الاقتصادية العدد 42 والعدد 43

(2)

الودع: خرز أبيض تخرج من البحر، تتفاوت في الصغر والكبر، القاموس. ومختار الصحاح

(3)

النقود للمقريزي، ط. الكرملي ص (65- 66) ؛ والنقود والمكاييل للمناوي ط. العراق ص (123-127)

(4)

الأم (3/ 98)

ص: 1040

وما قاله المقريزي وغيره في حق الفلوس تحقق منه أكثر في عالم النقود الورقية من مشاكل التضخم، وسرقة أموال الناس من خلالها، والتقلبات الخطيرة التي لم يعد الإنسان يطمئن إلى هذه النقود ولم تصبح مخزناً للثروة، ولا قيماً يقاس بها الأموال، بل أصبحت السلع هي المعيار لها، فهي بدعة أحدثها الغرب، للتحكم في ثروات العالم رخصاً وغلاء، وحسب مصالحهم، ولذلك إذا أرادوا أن يضربوا اقتصاد أية دولة خفضوا نقودهم التي ارتبط بها مصير جميع نقود دول العالم، ومن جانب آخر فإن أهمية الذهب والفضة تكمن في كونهما معدنين نفيسين نادرين ليس من السهل الحصول عليهما إلا عند وجودهما وتحصيلهما، أما النقود الورقية فتستطيع الدولة أن تصدر ما تشاء منها بالمليارات، ومع ذلك لا تصبح بها غنية، يقول (بواجلبرت) :"من المحقق أن النقود ليست ثروة في ذاتها، وأن كميتها لا تؤثر في رخاء الأمة"(1) وقبله قال ابن سينا في رده على المشتغلين بالكيمياء: " وذلك أن حكمة الله في الحجرين وندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس، ومتمولاتهم، فلو حصل عليهما بالصفة، لبطلت حكمة الله في ذلك، وكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء"(2) كما هو الحاصل الآن حيث لا يحصل أحد منا من اقتناء كثير من نقودنا الورقية على ما يحقق رغبته ويشتري بها ما يريده بسبب كثرتها وتضخمها. وقد هاجم ابن خلدون هؤلاء الكيميائيين الذين يغشون الذهب والفضة ويلبسون الحديد أو غيره ثوب أحدهما، لما يترتب على ذلك من مظالم للناس؛ ولأن الغش، أو الصفة لا يزيد من الثروة للإنسان، بل هو عجز وكسل، والغنى إنما يحصل بالأعمال الإنسانية والصناعات، وزيادة الآلات والمكاسب (3) .

ويقول د. محمد صالح: "إن قيمة المعادن النفيسة أقل تعرضاً للتغيرات من بقية السلع؛ وذلك لأن كمية المستخرج سنويًّا منها طفيفة بالنسبة للمقادير العظيمة الموجودة منها، ولهذا السبب يصغر شأن التقلبات التي يحدثها هذا المحصول السنوي في قيمة هذه المعادن"(4) ويقول: " لكن إجماع الناس انعقد منذ القدم على تفضيل الذهب والفضة، ومنذ نصف قرن فضلوا الذهب، وأصبحت الفضة في المقام الثاني، وصار الذهب هو العملة الدولية، ثم ذكر أسباب تفضيلهما على غيرهما بالتفصيل (5) بالإضافة إلى العلاقة الوثيقة بين سعر الذهب والفضة والنقود المصنوعة منها حيث تنخفض، أو ترتفع حسب قيمة أصلها، في حين لا توجد أية علاقة بين سعر النقد الورقي، والورق المصنوع منه، وقد أشار العلامة جعفر الدمشقي إلى المزايا الخاصة التي جعلت الذهب والفضة مرشحين للنقدية وتفضيل الذهب على الفضة" فقال: " وقع إجماع الناس كافة على تفضيل الذهب والفضة لسرعة المواتاة في السبك، والطرق والجمع، والتفرقة، والتشكيل بأي شكل أريد مع حسن الرونق وعدم الروائح والطعوم الرديئة، وبقائهما على الدفن وقبولهما العلامات التي تصونهما وثبات السمات التي تحفظهما من الغش والتدليس، فطبعوهما وثمنوا بهما الأشياء كلها، ورأوا أن الذهب أجل قدراً في حسن الرونق وتلزز الأجزاء والبقاء على طول الدفن وتكرار السبك في النار، فجعلوا كل جزء منه بعدة من أجزاء الفضة، وجعلوها ثمناً لسائر الأشياء "(6) .

(1) نقله عنه د. محمد صالح: أصول علم الاقتصاد. ط. النهضة بمصر سنة 1352 هـ ص 318.

(2)

نقله عنه ابن خلدون في المقدمة ص (483)

(3)

انظر: المقدمة ص (479 – 485)

(4)

د. محمد صالح: المرجع السابق ص (310)

(5)

د. محمد صالح: أصول الاقتصاد ط. سنة 1933 م ص (301 – 310)

(6)

انظر الإشارة للإمام جعفر بن علي الدمشقي ط. القاهرة 1315، ص (6)

ص: 1041

الترجيح.. والتكييف الفقهي

رأينا –فيما سبق- كيفية ظهور النقود الورقية، وكيف أن الخلاق قد ثار بين العلماء عند بداية ظهورها، حيث لم يعترف بها بعضهم، بل لم يجعلوها نقداً ولا مالاً فلم يوجبوا فيها زكاة ولا غيرها من الأحكام التي تترتب على النقود الذاتية من الذهب والفضة.

وهذا القول إذا كان في وقته سائغاً ومقبولاً، للاعتبارات السابقة التي صاحبت نشأتها حيث كانت لا تخلو من كونها سندات في بداية ظهورها، كما أن النقد الذهبي، أو الفضي كان سائداً.. فإن هذا الرأي لم يعد مقبولاً في عصرنا الحاضر بعد أن صارت النقود الورقية هي السائدة لا غير، وأصبحت هي أساس المعاملات، وأثمان الأشياء، ورؤوس الأموال، وبها يتم البيع والشراء وسائر المعاملات، ومنها تصرف الأجور والرواتب والمكافآت، إنها تدفع مهراً فتستباح بها الفروج شرعاً دون أي اعتراض، وتدفع ثمناً في النفائس وغيرها، وأجراً للجهد البشري ودية في القتل، وغير ذلك من الأحكام (1) .

وإذا كان القول السابق لم يعد له مبرر لقبوله، لما فيه من تفريط فإن القول بأن النقود الورقية مثل النقود الذهبية أو الفضية في كل الأحكام قول لا يجد لنفسه مستنداً مقبولاً من نصوص الشريعة الغراء، ولا يدعمه الواقع المعاصر الذي نعايشه، ولا يخفى الغلو والإفراط الذي يصاحبه.

ومن هنا فالعدل دائماً كامن في الوسطية، التي هي سمة ديننا وشرعنا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وهي القول بنقدية هذه الأوراق المالية، وبالتالي وجوب الزكاة فيها باعتبار قيمتها الموازية لنصاب الذهب، أو الفضة –كما سبق- وكونها صالحة للثمنية والحقوق والالتزامات، ولكنها مع ذلك لا تؤدي جميع الوظائف التي تؤديها الذاتية، وبعبارة أخرى إنها نقود، ولكنها لا تؤدي جميع وظائف النقود الذاتية، وإنما تؤدي بعضها، ولذلك يلاحظ فيها المالية والقيمة، كما يلاحظ فيها عدم جواز الربا فيها، وعدم التأجيل إذا بيع بعضها ببعض.

فكما أننا لا نعتبر الريال القطري جنساً شاملاً للريال السعودي أو بالعكس، بل ننظر عند الصرف إلى قيمة كل واحد منهما، فكذلك الأمر عندما تحدث فجوة كبيرة جدًّا بين ما وقع عليه العقد، وما يجب أداؤه بعد فترة زمنية، وذلك لأن غطاء النقود الورقية الآن ليس ثابتاً –كما سبق- وإنما هو تابع لدولتها التي تصدر منها، فإذا كان هذا الغطاء متجدداً متغيراً فلا بد أن تكون النقود التابعة له متغيرة يلاحظ فيها هذه التغيرات، على عكس النقود الذاتية التي تستمد قوتها الشرائية من ذاتها وكونها تصلح للسلعة، حيث إنها معدن نفيس حتى لو بطل التعامل بها نقداً، لبقيت قيمتها المالية وصلاحيتها لكثير من الاستعمالات –كما سبق-.

ثم الاعتراف بأن نقودنا اليوم لا تؤدي جميع الوظائف التي كان النقدان المعدنيان –الذهب والفضة- يؤديانها لا يتعارض مع القواعد العامة في الاقتصاد الحديث، بل يعترف بذلك بوضوح، ولذلك فمفهوم النقد مرن جدًّا يشمل أنواعاً كثيراً، بعضها لا يؤدي إلا وظيفة واحدة، يقول الدكتور محمد يحيى:"وهذه الوظائف الأربع للنقود تعتبر متكاملة في المجتمع الذي يسوده نظام اقتصادي مستقر.. فإذا ما عجزت النقود المتعارف عليها عن القيام بإحدى هذه الوظائف، فإنها تفقد خاصيتها.. ففي حالة الانهيار المفاجئ لقيمة النقود، فإنها تفقد ميزتها، أو وظيفتها كوسيلة للمعاملات الآجلة، ومن ثم تفقد كذلك وظيفتها كوسيلة الاحتفاظ بالثروة أو لاختزان القيمة"(2) .

(1) فضيلة الأستاذ القرضاوي. فقه الزكاة (1/ 273- 276)

(2)

د. محمد يحيى عويس: مبادئ في علم الاقتصاد ص (286- 287)

ص: 1042

ويقول الدكتور أحمد عبده: "كذلك يعتبر الكثيرون أن الوظيفتين الأوليين للنقود (وهما وسيط للتبادل ومقياس للقيم) وظائف أصلية، أما الوظيفتان الأخيرتان (أي مخزن للقيم ومعيار للمدفوعات الآجلة) ، فتعدان وظائف مشتقة"(1) .

ثم إن مفهوم النقود اليوم واسع جدًّا حيث يشمل النقود السلعية، والمعدنية، والمساعدة، والورقية، والمصرفية، وظهرت الآن في أوربا نقود أخرى مثل نقود البلاستيك، فكلها نقود مع أن أكثرها لا تؤدي جميع الوظائف التي كانت تؤديها النقود المعدنية (2) .

يقول الأستاذ حمدي عبد العظيم: "إن النقود المعدنية (الذهب والفضة) لا تستخدم فقط كوسيلة للتبادل، وإنما تستخدم كذلك كمخزن للقيمة، وكمعيار للمدفوعات الآجلة، وذلك خلافاً لما هو عليه الحال في الاقتصاديات غير الإسلامية التي أدت فيها النتائج السيئة المترتبة على عدم وجود غطاء للعملة، وما يتبعه من حدوث أزمات مختلفة إلى مجرد الاقتصار على وظيفة واحدة للنقود، وهي كونها وسيلة للتبادل"(3) .

وفي نظري أن نظام النقود اليوم –ولا سيما النقود الورقية- نظام خاص لا يمكن إجراء جميع الأحكام الخاصة بالنقود المعدنية: الذهب والفضة، حتى ولا الفلوس- كما ذكرنا- فهو نظام خاص جديد لا بد من أن نتعامل معه على ضوء نشأته، وتطوره وغطائه، وما جرى عليه، ومن هنا فما المانع من أن نقره كوسيط للتبادل التجاري، ولكنه مع ذلك نلاحظ فيه قيمته، ولا سيما عند تذبذبه وانهياره، ونربطه إما بالذهب، أوبسلة السلع –كما نذكر فيما بعد- وبذلك أخذنا بإيجابياته، وطرحنا سلبياته، وهذا الحل الأمثل في نظري إلى أن يعود نظام النقدين: الذهب والفضة، أو يصلح نظام النقد الدولي.

فقد فقدَ النقد الورقي الحالي كثيراً من وظائفه الأساسية، فلم يعد –مثل السابق- مقياساً للقيم، حتى في الغرب الذي نشأ فيه، ولا مخزوناً للثروة، حيث إن الكثيرين يخزنون ثرواتهم بغيره، أو بالعقارات ونحوها، ولذلك حينما تظهر بادرة حرب، أو مشكلة سياسية خطيرة يقدم الناس –ولا سيما في الغرب- على شراء الذهب، فترتفع أسعاره (4) .

فقيمة نقودنا الحالية تكمن قدرتها الشرائية –كما ذكرنا- ولذلك يقول الإمام السرخسي قبل عدة قرون: "إنما المقصود المالية، وهي باعتبار الرواج في الأسواق"(5) .

وقد أكد ذلك بعض الاقتصاديين المعاصرين يقول أحدهم: "النقود حق مالي تتحد قيمتها بالقيمة الاقتصادية لموضوع هذا الحق، وتزيد قيمتها حسب قوتها الشرائية التي تتبع الإنتاج القومي، وهكذا فإن قيمة النقود هي قيمة مشتقة من قوة الاقتصاد وحجم الإنتاج، ولذلك فالنقود هي حقوق على اقتصاد الدولة التي تصدرها، وهي حقوق ومديونية من نوع خاص تتميز بقابليتها للتداول (السيولة) ثم انتهى الباحث إلى أن النقود ليست مثلية، وأن من يسترد نقوده بعد فترة فإنه لا يسترد نفس الشيء وإنما يتعلق حقه باقتصاد وإنتاج جديد"(6) .

(1) . أحمد عبده: الموجز في النقود والبنوك ص (21)

(2)

المصادر السابقة

(3)

د. حمدي عبد العظيم: السياسات المالية والنقدية الميزان ص (342)

(4)

المصادر السابقة

(5)

المبسوط (14/ 16

(6)

د. حازم البيلاوي في بحثيه حول النقود. ونحن لسنا معه في حكمه العام على النقود بأنها ليست مثلية

ص: 1043

والخلاصة:

أن الرأي الذي يطمئن إليه القلب هو رعاية القيمة في نقودنا الورقية في جميع الحقوق الآجلة المتعلقة بالذمة من قرض، أو مهر، أو بيع، أو إجارة أو غيرها، ما دام قد حصل انهيار، وغبن فاحش يبين قيمة النقد الذي تم عليه الاتفاق وقدرته الشرائية في الوقتين –أي وقت العقد، ووقت الوفاء- وسواء كان المتضرر دائناً أو مديناً، والذي نريده هو تحقيق المبدأ الذي أصله القرآن الكريم، وعبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:((قيمة عدل لا وكس وشطط)) (1) .

النقود الورقية مثلية كقاعدة عامة ولكن:

ومن هنا فالنقود الورقية مثلية –كقاعدة عامة- فيكون الرد فيها بالمثل دون رعاية فروق طفيفة قد تحدث ولكنها عند الفرق الشاسع بين حالتي القبض والرد أو عند انهيار تفقد مثليتها، وقد ذكرنا لذلك أمثلة تحول فيها المثلي إلى القيمي مثل الماء الذي أتلفه شخص، أو استقرضه في الصحراء عند عزته وندرته، فلا يكفيه الرد بالمثل، وإنما لا بد من قيمته ملاحظاً فيها الوقت والمكان –كما سبق- فكذلك المثلي الذي دخلت فيه الصنعة فجعلته من القيميات، كالحلي ونحوه.

ومن هنا، فالنقود الورقية يلاحظ فيها يوم قبضها ما دام وجد انهيار، أو فرق كبير –أو كما يسميه الفقهاء غبن فاحش - بين الحالتين، فكما يلاحظ بين ريال قطري وريال سعودي قيمتهما عند الصرف، فكذلك لا بد من الفرق بين ليرة لبنانية كان غطاؤها قويًّا، وليرة في وقت ضعفها وضعف غطائها، فما دام المقابل قد تغير، فما يبنى عليه ينبغي أن يلاحظ فيه هذا التغير، وهذا هو في الواقع منطق ظهور النقد الورقي حيث كان بمثابة السند والإثبات في بداية ظهوره، ثم أصبح يغطيه غطاء من الذهب، ثم لما ألغي هذا الغطاء أصبح ينظر إليه باعتبار قوته الشرائية، بل لا يزال ينظر الصندوق المالي العالمي إلى قيمته في مقابل الذهب، وأن هناك محاولات جادة من قبل إقتصاديين لإعادة ربطه مرة أخرى بالذهب، للخروج من هذا المأزق، كما أن مندوب أمريكا –كما ذكرنا- قد طالب في مؤتمر صندوق النقد الدولي بضرورة ربط الدولار الأمريكي بالذهب، بأن يعترف المؤتمرون بأن الدولار يساوي كذا من الذهب، فرفضوا ذلك بناء على أن أمريكا تريد الحصول على هذا المغنم، دون أن يقدم الغطاء الحقيقي.

ومن جانب آخر فعلماؤنا الكرام لاحظوا الوزن في الدينار الذهبي المضروب لدولة واحدة، حيث أجازوا بيع دينار وزنه أكبر بدينار آخر وزنه أقل مع أخذ الزيادة، وما ذلك إلا لملاحظة القيمة الناتجة من القدر.

(1) رواه مسلم في صحيحه (2/ 1140)

ص: 1044

ومن هنا، فالعملات الورقية إذا بيع بعضها ببعض نقداً فإذا كانا من جنس واحد مثل الريال القطري، فلا تجوز الزيادة؛ لأنها تكون بلا مقابل، وإذا كانا من جنسين مختلفين مثل الريال القطري والريال السعودي –مثلاً- فتجوز الزيادة بالاتفاق، وما ذلك إلا لملاحظة قيمة كل واحد منهما، أما إذا كان على الإنسان دين بعملة ورقية، سواء كان هذا الدين بسبب القرض، أو البيع، أو الإجارة، أو المهر، أو الضمان أو أي سبب آخر، فحينئذ ننظر إلى قيمة هذا النقد باعتبار الزمنين –هما زمن نشأة الدين وزمن الرد- مع ملاحظة مكان الدين، فإذا وجد فرق شاسع، فلا بد من رعايته وإلا فلا داعي ضماناً للاستقرار، ورعاية للعدالة، وتوازناً بينهما، وهذا الحكم لا يقتصر على القرض، بل يشمل جميع الحقوق والالتزامات الآجلة، يقول العاصمي:"وكثير من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي الدين في إلحاق سائر الديون بالقرض، وأما رخص السعر، فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة، وهو الأقوى"(1) .

فعلى ضوء هذا، فالتساوي والتماثل، والتفاضل، والتعامل والزكاة باعتبار قيمة النقود، إذن فما سعر الريال –مثلاً- في وقت واحد ومكان واحد لا تتصور فيه الزيادة، فلا تحتاج إلى رعاية القيمة، وكذلك في وقتين لم تتغير فيهما قيمته بشكل يؤدي إلى الغبن الفاحش فعلاً، لا تصوراً ولا تخميناً.

وحتى تكون أبعاد هذا الرأي الذي نختاره واضحة المعالم، فلا بد من أن نذكر التأصيل الفقهي له، والمعيار الذي نعتمد عليه عند التقويم، ومتى نلجأ إليه؟ وزمن التقويم ومكانه، وما يدور في هذا الفلك من حلول ممكنة.

التأصيل الفقهي للمسألة:

لا شك في أن مسألة النقود الورقية لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين، بل ولا في عصر الفقهاء المجتهدين، وإنما ظهرت –كما سبق- في حدود القرنين الأخيرين، ومن هنا فلا أمل ولا طمع لنا في أن نحصل على نص خاص يعالج هذه المسألة بخصوصها، ولكن لما كان الإسلام ديناً خالداً تضمن من المبادئ الكلية والقواعد العامة ما يمكن استنباط حكم كل قضية مهما كانت جديدة على ضوئها، إذن فالقضية قضية المبادئ والمقاصد العامة للشريعة، وليست قضية حادثة واقعة نص عليها، ومن هنا نذكر بعض المبادئ العامة التي تندرج تحتها هذه المسألة، ثم نعرج إلى بعض جزئيات ذكرها الفقهاء يمكن الإفادة منها، لتوضيح أبعاد الحل المقترح بإذن الله تعالى.

(1) الدرر السنية (4/ 110)

ص: 1045

أولاً: المبادئ العامة القاضية بشكل قاطع على تحقيق العدالة، والمصلحة الحقيقية للإنسان، ورفع الظلم والمفسدة عنه، فيقول الله تعالى بخصوص الربا:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] .

وقد ذكر المفسرون أن بني غيرة كان لهم ربا على بني المغيرة، فطلبوا منهم، فقال بنو المغيرة: لا نعطي شيئاً، فإن الربا قد وضع، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، حيث أمرتهم، وغيرهم أن يرجعوا رؤوس الأموال إلى أصحابها بدون نقص ولا شطط (1) . فإذا كان هذا هو عدل الإسلام مع المرابين، فكيف يقبل أن يتضرر المقرض وبغبن هذا الغبن الفاحش؟ وإذا كان الإسلام قد دعا إلى الإحسان بالدائن، وقال صلى الله عليه وسلم:((خير الناس أحسنهم قضاءً)) (2) فكيف يقبل أن يقع عليه ضرر وظلم؟

إن الإسلام هو دين العدالة ودين العرفان بالجميل. والإحسان، وهو قد دعا إلى رد الإحسان بالإحسان، بل الرد بالأحسن:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] .

وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الصالحة والأسوة التي يحتذى بها في رد القرض بالأحسن حيث استقرض جملاً ورد جملاً أحسن منه سنًّا وقال: ((خياركم أحسنكم قضاءً)) (3) فكيف يقبل أن يدفع شخص دم قلبه وادخار عمره وخلاصة جهده وكده في زمن من الأزمان، ثم ترجع إليه نقوده بعد هذه الفترة التي احتسب فيها أجره إلى الله تعالى، وقد فقدت قيمتها الشرائية، وعادت إليه وهي لا يشترى بها شيء يذكر، بعد أن كانت تشترى بها أغلى الأشياء، فقد حدث أن أحد الفلاحين جاء إليه شخص يطلب منه مبلغاً من المال، فلم يجده عنده، فباع – من دماثة خلقه- بقرته بخمسين جنيهاً، وسلمها إليه، ومضت الأيام، حتى أصبح المدين موسراً، فرجع بخمسين جنيهاً إلى دائنه، فوقف الفلاح ينظر إلى هذا المبلغ الزهيد الآن، ماذا يفعل به؟ فنطق من فطرته قائلاً: يا أخي لا أريد هذا المبلغ، وإنما أريد أن تشتري لي بقرة مثل بقرتي، فتخاصما ولجآ إلى عالم المنطقة فأفتى بوجوب رد المثل! فهل خمسون جنيهاً الآن مثل خمسين جنيهاً قبل عشرين سنة؟ أين المثلية؟ وعلى أي معيار؟

(1) انظر المحرر الوجيز لابن عطية (2/488) ؛ والنكت والعيون للماوردي (1/ 292)

(2)

حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه –مع فتح الباري- (5/65) ؛ ومسلم في صحيحه (3/ 1224)

(3)

حديث صحيح سبق تخريجه

ص: 1046

ذكرنا في السابق عند كلامنا عن المثلية والقيمية أن هذه القاعدة العظيمة ما وضعها الفقهاء إلا لتحقيق العدالة، والوصول إلى التعادل والمساواة بين الحقوق المطلوبة والمدفوعة، فهل يحقق العدالة القول بمثلية النقود الورقية في الحقوق والالتزامات الآجلة؟

نرى القرآن الكريم والسنة المشرفة يركزان بشكل منقطع النظير على الميزان المستقيم والعدالة، فقال تعالى: {الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) } [الرحمن: 1-9] فكأن الحكمة من نزول القرآن هي إقامة الوزن بالقسط وعدم الهوادة والتساهل في الميزان، ولذلك نرى قد كرر الوزن والميزان في هذه الآيات القليلة أربع مرات، بل قد تكررت ألفاظ العدل، والقسط والميزان ومشتقاتها في القرآن الكريم ستًّا وسبعين مرة، بل أشار القرآن الكريم إلى أن قيام الكون كله يكون بالعدل، فقال تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] .

قال الماوردي: "معناه أن قيام ما خلق وقضى بالعدل، أي ثباته".

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الربا حرم لما فيه من أخذ الفضل وذلك ظلم يضر المعطي فحرم لما فيه من الضرر"(1) وقال أيضاً: "والأصل في العقود جميعها هو العدل فإنه بعثت به الرسل، وأنزلت الكتل"(2) .

ومن المبادئ العامة في هذا الميدان قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (3) الذي أصبح قاعدة فقهية نالت القبول عند جميع الفقهاء، بل جعله الشاطبي من القطعيات التي تزاحمت عليها أدلة الشرع من الكتاب والسنة (4)، مثل قوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] .

وقوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، وقوله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] .

(1) مجموع الفتاوى (29)

(2)

مجموع الفتاوى (20/ 510)

(3)

الحديث الصحيح الإسناد سبق تخريجه

(4)

الموافقات (3/ 9-10)

ص: 1047

إلى غير ذلك من الآيات التي منعت الضرر إطلاقاً حتى بين الوالد وولده، وأما السنة، فقد أكدت هذا الجانب بما لا يمكن ذكره في هذا المجال، منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أحد الصحابة أن يقلع شجرة شخص؛ لأنها كانت تضره، وعلل ذلك بالضرر حيث روى أبو داود بسنده أن سمرة بن جندب كانت له شجرة نخل في حائط –أي بستان- رجل من الأنصار معه أهله، فكان سمرة يدخل إلى نخله، فيتأذى به الأنصاري ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، قال:((فهبه له ولك كذا وكذا)) ، فأبى فقال:((أنت مضار)) فقال صلى الله عليه وسلم للأنصاري: ((اذهب فاقلع نخله)) (1) وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: ((من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه)) (2) .

ومن هذا المنطلق، فلا يمكن أن تكون الجزئيات مخالفة للقواعد العامة الشرعية، ولا التطبيقات مناقضة للأصول العامة المقررة، يقرر القرافي أن الكليات المقررة في الشريعة هي أصولها، وأن الجزئيات مستمدة من هذه الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات، فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص –مثلاً- في جزئي معرضاً عن كليه فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضاً عن كليه، فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضاً عن جزئيه (3) .

فعلى ضوء ذلك، فالقول بمثلية النقود الورقية واعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، أو حتى في أكثرها ما دام يترتب عليه هذه المظالم لأصحاب الحقوق، وهضم حقوقهم لا يتفق مع هذه المبادئ العامة القاضية برعاية العدل وعدم الظلم، ودفع الضرر والضرار، ولا سيما أن النقود الورقية لم يرد فيها نص خاص في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذن فينبغي أن نطبق عليها القواعد العامة والمبادئ التي تحقق العدالة.

ثانياً: بعض مسائل فقهية سابقة يمكن أن تكون لنا أرضية صالحة للقياس عليها، مثل القضايا التي ذكرها فقهاؤنا السابقون بخصوص الفلوس، والدراهم والدنانير المغشوشة، حيث كانت تقدر قيمتها حسب نسبة التعادل بينها وبين الذهب أو الفضة، أو على أساس رواجها في السوق، وأن القيمة ملاحظة فيها عند إلغائها، أو رخصها، أو غلائها عند بعض الفقهاء، كما نجد أصولاً صالحة في هذه المسألة بخصوص ما ذكرناه في القيمي والمثلي على ضوء ما يأتي:

1-

الرد في القيمي يكون بالقيمة عند جمهور من قال بقرض القيمي من الفقهاء –كما سبق- وعلى ضوء المعايير التي ذكرناها وجدنا أن إدخال النقود الورقية في المثلي، ليس من السهل قبوله ولا سيما إذا انهارت قيمتها –كما سبق-.

فإذا لم تدخل النقود الورقية في المثلي عند انهيارها، أو تذبذب كبير لها، فهي من القيميات، فيكون الرد فيها في الحقوق والالتزامات الآجلة بالقيمة، وحينئذ لا يكون هناك أي إشكال في رعاية القيمة، وقد ذهب وجه للشافعية وغيرهم إلى اعتبار النقود المغشوشة والفلوس من القيميات (4) .

(1) رواه أبو داود في سننه –مع العون- كتاب الأقضية (10/64)

(2)

رواه أبو داود في سننه –مع العون- كتاب الأقضية (10/64)

(3)

الموافقات (3/ 8)

(4)

قطع المجادلة ورقة (2)

ص: 1048

2-

رعاية القيمة عند رخص الفلوس والدراهم المغشوشة:

لا خلاف بين الفقهاء عند إعواز المثلي يرجع إلى قيمته، غير أنهم اختلفوا في الفلوس والنقود المغشوشة هل يجب الرد فيها بالمثل أو بالقيمة عند غلائها، أو رخصها، أو كسادها، أو انقطاعها؟ (1) .

هذا ما ثار فيه الفقهاء:

أ- اتجاه يعتد بالمثلية:

فذهب جماعة منهم المالكية –في المشهور- والشافعية والحنابلة أبو حنيفة إلى رعاية المثلية في هذه الصورة، على التفصيل الآتي: يقول خليل: "وإن بطلت فلوس، فالمثل.. وإن عدمت، فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم" وعلق عليه الخرشي بقوله: "يعني أن الشخص إذا ترتب له على آخر فلوس، أو نقد من قرض، أو غيره، ثم قطع التعامل بها، أو تغيرت من حالة إلى أخرى فإن كانت باقية، فالواجب على من ترتبت عليه المثل في ذمته قبل قطع التعامل بها، أو التغير على المشهور، وإن عدمت، فالواجب عليه قيمتها مما تجدد وظهر.."(2) فعلى ضوء ذلك أن هذه المسألة ليست خاصة بالفلوس، وإنما هي تضم جميع النقود في جميع العقود الآجلة، وقد جاء في المعيار المعرب: تحت عنوان: "ما الحكم فيمن أقرض غيره مالاً من سكة ألغي التعامل بها؟ سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟

أجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام، ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن مهور بدخول ابن عباد سكة أخرى، أفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة، وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب" (3) .

وقد نص الشافعي على أن: "من سلف فلوساً، أو دراهم، أو باع بها ثم أبطلها السلطان، فليس له إلا مثل فلوسه، أو دراهمه التي أسلف، أو باع بها"(4) .

(1) المراد بكساد النقود هو ترك المعاملة بها في جميع البلاد. وإن كانت تروج في بعض البلاد تكون في حكم العينة إذ تروج في سوق التعاقد. وجد الانقطاع أن لا يوجد في السوق إن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت. انظر رسالة النقود لابن عابدين (2/ 60)

(2)

شرح الخرشي على خليل (5/ 55) ؛ وبلغة السالك (2/ 286)

(3)

المعيار المعرب (6/ 461- 462)

(4)

الأم (3/ 28)

ص: 1049

ويقول النووي: "ويرد المثل في المثلي" ثم يعلق عليه شارحه ابن حجر بقوله: "ولو نقداً أبطله السلطان؛ لأنه أقرب إلى حقه" ثم يزيد المحشي في التعليق: "فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زمننا في الديار المصري من إقراض الفلوس الجدد، ثم إبطالها، وإخراج غيرها وإن لم تكن نقداً"(1) ونص الحنابلة أيضاً على أن القرض إذا كان فلوساً، أو مكسرة فحرمها السلطان، وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها، ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده، أو استهلكها؛ لأنها تعيبت في ملكه، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة، أما الغلاء والرخص، فلا يؤثران في المثل، والمسألة تعم جميع العقود الواردة على الذمة (2) .

وذهب أبو حنيفة أيضاً إلى وجوب المثل في جميع الحالات، بالنسبة للقرض، أما البيع فيبطل إذا كسد الثمن قبل القبض، أو انقطع، وعند الصاحبين لا يبطل البيع، بل يلاحظ القيمة، أما في القرض، فيرى محمد وجوب المثل عند تغير القيمة، ووجوب القيمة في حالتي الكساد والانقطاع، وأما أبو يوسف، فيرى اعتبار القيمة في الحالات الثلاث (3) .

ب- اتجاه يعتبر القيمة:

وذهب جماعة –منهم أبو يوسف، ومحمد في بعض الأحوال، وبعض فقهاء المالكية ووجه للشافعية، وبعض الحنابلة- إلى اعتبار القيمة على التفصيل الآتي:

يقول ابن عابدين: "قال في الولوالجية.. رجل اشترى ثوباً بدراهم نقد البلدة، فلم ينقدها حتى تغيرت، فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلاً فسد البيع؛ لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد، لأنه لم يهلك، وليس له إلا ذلك، وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها.." ثم قال: "يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل، وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس، قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف، وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة.. انتهى". قال التمرتاشي: اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها، أو بالفلوس وكان كل منهما نافقاً حتى جاز البيع، لقيام الاصطلاح على الثمنية، ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن ولم يسلمها المشتري للبائع، ثم كسدت، بطل البيع، والانقطاع على أيدي الناس كالكساد، وحكم الدراهم كذلك فإذا اشترى بالدراهم، ثم كسدت، أو انقطعت، بطل البيع، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائماً ومثله إن كان هالكاً وإن كان مثليًّا، وإلا فقيمته، وإن لم يكن مقبوضاً، فلا حكم لهذا البيع أصلاً، وهذا عند الإمام الأعظم، وقالا: لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد، لاحتمال الزوال بالرواج، كما لو اشترى شيئاً بالرطبة، ثم انقطع، وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه، وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها، وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف، وفي المحيط والتتمة والحقائق بقول محمد يفتى، رفقاً بالناس، ولأبي حنيفة أن الثمنية بالاصطلاح فيبطل، لزوال الموجب فيبقى البيع بلا ثمن، والعقد إنما يتناول عينها بصفة الثمنية، وقد انعدمت بخلاف انقطاع الرطب، فإنه يعود غالباً في العام القابل، بخلاف النحاس، فإنه بالكساد رجع إلى أصله، وكان الغالب عدم العود (4)

(1) المنهاج مع تحفة المحتاج. مع حاشية الشيرواني (5/ 44)

(2)

المغني: (4/ 360) وفي مطالب أولي النهى (3/ 340- 341) أن هذا الحكم ليس خاصًّا بالقرض. بل يشمل أجرة الصداق. وعوض الخلع ونحوهما إذا كانت بفلوس، أو نقود مغشوشة آجلة. ثم حرمها السلطان، فيكون الوفاء بالقيمة

(3)

رسالة النقود لابن عابدين (2/ 59- 62) ؛ وفتح القدير (7/ 154)

(4)

رسالة النقود (2/ 59)

ص: 1050

أما إذا لم يكن كساد بل كانت تروج في بعض البلاد دون بعض، وكان التعاقد في البلد الذي ذهب رواج النقد المعقود عليه فيه، فحينئذ لا يبطل العقد بل يتخير البائع –أو نحوه- إن شاء أخذ قيمته، وإن شاء أخذ مثل النقد الذي وقع عليه العقد، وأما إذا انقطع النقد بحيث لم يبق في السوق، فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع. أما إذا غلت الدراهم، أو الفلوس أو رخصت قبل القبض لا يبطل العقد، ولكن له ما وقع عليه العقد عند أبي حنيفة، وله قيمتها عند أبي يوسف من الدراهم يوم البيع والقبض.. قال العلامة الغزي: وعليه الفتوى. وهكذا في الذخيرة والخلاصة فيجب أن يعول عليه افتاءً وقضاءً، ثم قال:"وقد تتبعت كثيراً من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة، فلم أر من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة، بل جعلوا الفتوى على قول أبي يوسف في كثير من المعتبرات، فليكن المعول عليه"(1) ثم علق عليه ابن عابدين بأن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها" (2) غير أنه ذكر أن بعض الأحناف عمموا الحكم في المغشوشة وغيرها (3) ثم ذكر ابن عابدين مسألة مما وقعت في عصره، رجح القول فيها بناءً على العدالة، لا على الشكل والتقليد، فقال: "ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد، لو كان معيناً، كما لو اشترى بمائة ريال إفرنجي، أو مائة ذهب عتيق، أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يتعين المتبايعان نوعاً والخيار فيه للدافع كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعاً، أو قرضاً بناءً على ما قدمناه، وأما الثاني، فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصاً وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصاً على حساب ما هو أكثر رخصاً، فقد ينقص نوع من النقود قرشاً ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين، وإذا دفع ما نقص قرشاً للبائع، يحسب عليه قرشاً آخر نظراً إلى نقص النوع الآخر، وهذا مما لا شك في جوازه". ثم قال:" وكنت قد تكلمت مع شيخي.. فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر، وأنه يفتى بالصلح، حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف بصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد" ثم علل: كيف أن القضية تدور مع علتها فقال: " فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإن امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته، أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه أظهر أنه يمتنع عن قصد إضراره، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار الأنفع له فالصلح حينئذ أحوط، خصوصاً والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها.. فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت، ويدفع من أوسطها نقصاً، لا الأقل، ولا الأكثر، كي لا يتناهى الضرر على البائع، أو على المشتري"(4) .

(1) رسالة النقود ص (2/ 59)

(2)

رسالة النقود (2/ 60- 61) ؛ والهداية وفتح القدير (7/ 155)

(3)

النقود (2/ 62) ؛ وفتح القدير (7/ 154- 158)

(4)

النقود (2/ 66) ؛ ويراجع فتح القدير (7/ 154- 158)

ص: 1051

وهذا ما نحن نؤكد عليه هنا، وهو أنه ما دامت النقود الورقية غير منصوص عليها إذن فلا بد من رعاية ما يحقق العدالة ويرفع الحيف والضرر والضرار دون النظر إلى الشكل.

ويقول ابن عابدين في حاشيته أيضاً مبيناً أهمية القيمة والمالية: "وحاصله أنه إذا اشترى بدرهم فله دفع درهم كامل، أو دفع درهم مكسر قطعتين أو ثلاثة، حيث يتساوى الكل في المالية والرواج.." ثم قال في حكم القروش: "ومنه يعلم حكم ما تعورف في زماننا من الشراء بالقروش.. بقي هنا شيء وهو أنا قدمنا أنه على قول أبي يوسف المفتى به: لا فرق بين الكساد والانقطاع، والرخص والغلاء في أنه تجب قيمتها يوم وقع البيع، أو القرض إذا كانت فلوساً أو غالبة الغش.. أما إذا اشترى بالقروش.. ثم رخص بعض أنواع العملة أو كلها واختلفت في الرخص كما وقع مراراً في زماننا ففيه اشتباه" ثم وصل إلى وجوب دفع الضرر عن الطرفين، ورعاية ما يحقق العدالة دون التقيد بمثلية العملة (1) .

وفي المذهب المالكي نجد القاضي ابن عتاب، وابن دحون، وغيرهما، يقولون بالقيمة في بعض المسائل، حيث جاء في المعيار المعرب:"سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟ أجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة، أيام نظري فيها في الأحكام – ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن مهور بدخول ابن عباد سكة أخرى وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، قال: "وأرسل إلي ابن عتاب، فنهضت إليه فذكر المسألة، وقال لي: والصواب فيها فتواي فاحكم بها.. وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض، ويقول: إنما أعطاها على العوض، فله العوض" (2) وقيد الرهوني رد المثل بالمثل بما إذا لم يكن تغيراً لسعر كبير، فقال: "وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف، حيث إن الدائن قد دفع شيئاً منتفعاً به، لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به" (3) .

وقد اعتنى المالكية في باب الزكاة عناية كبيرة بالقيمة، حيث ذهبوا إلى أن عشرين ديناراً من الذهب تجب فيها الزكاة، حتى ولو كان فيها نقص من حيث الوزن مادامت مثل الكاملة في الرواج وعلل ذلك الدسوقي بقوله:" لا يخفى أن القيمة تابعة للجودة والرداءة، فالالتفات لأحدهما التفات إلى الآخر"(4) خلافاً للشافعية وغيرهم في اعتبارهم الوزن (5) .

(1) حاشية ابن عابدين (4/ 26)

(2)

المعيار المعرب (6/ 461- 462)

(3)

نقلاً عن د. شوقي أحمد دنيا: بحثه المقدم في مجلة المسلم المعاصر العدد 41 ص (61)

(4)

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 455)

(5)

انظر: الروضة (2/ 257) ؛ والمجموع (6/ 1904)

ص: 1052

ثم إن القاعدة العامة لدى الشافعية هي أن المثلي إذا عدم، أو عز، فلم يحصل إلا بزيادة، لا يجب تحصيله، كما صححه النووي، بل يرجع إلى قيمته (1) وقد فصل السيوطي في رسالته عن الفلوس وتغيراتها (2) هذه المسألة، كما ذكر وجهاً للشافعية يقضي بأن الفلوس، والدراهم والدنانير المغشوشة من المتقومات، فعلى هذا يكون الرد فيها بالقيمة.

والحنابلة –كما ذكرنا- يقولون بوجوب القيمة في حالة إلغاء السلطان الفلوس، أو الدراهم المكسرة (3) ، ولكن هل تجب القيمة عند الغلاء أو الرخص؟ المنصوص عن أحمد وأصحابه هو عدم اعتبارها، وقد بين ابن قدامة السبب في هذه التفرقة بين الحالتين فقال معللاً وجوب القيمة في حالة الكساد دون حالة تغير القيمة:"إن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها، أو تلف أجزائها، وأما رخص السعر، فلا يمنع ردها سواء كان كثيراً.. أو قليلاً؛ لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت، أو غلت"(4) .

ولو دققنا النظر في هذا التعليل، لوجدناه قائماً على أمرين:

الأمر الأول:

الاعتماد على أن الكساد عيب، ولكن الرخص الفاحش ليس بعيب، مع أن ابن قدامة نفسه حينما عرف بالعيوب قال: هي النقائض الموجبة لنقص المالية، ثم ذكر عدة تطبيقات في إثبات الخيار فيها قائلاً:"ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته"(5) وقال أيضاً في عدم الخيار في مسألة: "ولنا أنه لا ينقص عينها، ولا قيمتها.."(6) .

فعلى ضوء ذلك كان الأجدى رعاية القيمة أيضاً في النقود الاصطلاحية؛ لأن القيمة عنصر أساسي في العيوب كما رأينا.

الأمر الثاني:

الاعتماد على القياس على الحنطة إذا رخصت، ويمكننا أن نقول: إن قياس النقود المغشوشة والفلوس على الحنطة قياس مع الفارق؛ لأن الحنطة ذات قيمة ذاتية لا تختلف باختلاف قيمتها، في حين أن النقود الاصطلاحية قيمتها في رواجها وقيمتها، حتى لو سلمنا هذا القياس في النقود التي ذكروها، فالتسليم بقياس نقودنا الورقية على ما ذكروه لا يمكن قبوله بسهولة.

(1) انظر: الروضة (2/ 257) ؛ والمجموع (6/ 1904)

(2)

قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ورقة (1)

(3)

المغني (4/ 360)

(4)

المغني (4/ 360)

(5)

المغني (4/ 360)

(6)

المغني لابن قدامة (4/ 168)

ص: 1053

ولذلك جعل شيخ الإسلام ابن تيمية –كما نقل عنه صاحب الدرر السنية (1) - اختلاف الأسعار مانعاً من التماثل، وقاس مسألة تغير القيمة على كسادها، بناء على أن كون الكساد عيباً يكمن في كونه نقصاً في القيمة؛ لأنه ليس عيباً في ذات النقد من حيث النقص في عينه، حيث إن القدر لم يتغير، وإنما هو باعتبار أن الكساد يترتب عليه نقصان في القيمة لا غير، ثم عقب صاحب الدرر على ذلك بقوله:"إن كثيراً من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي –أي ابن تيمية- في إلحاق سائر الديون بالقرض، وأما رخص السعر، فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضاً وهو الأقوى"(2) .

وهذا الرأي الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية جدير بالقبول وحري بالترجيح، وهو يسعفنا في الموضوع الذي نحن بصدد بحثه، وهو رعاية القيمة.

فعلى ضوء هذا الرأي، والآراء التي سبقته لأبي يوسف وبعض علماء المالكية نكون قد وجدنا أرضية ثابتة ومنطلقاً للرأي الذي نرجحه وهو اعتبار القيمة في نقودنا الورقية بالضوابط السابقة.

الأمر الثالث:

رجوع الفقهاء في كثير من الأمور المثلية إلى القيمة حينما لا يحقق المثل العدالة، كما في حالة اقتراض الماء عند ندرته، وفي حالة الحلي المصوغ من الذهب ولكن داخلته الصنعة، وغير ذلك مما ذكرناه عند كلامنا على المثلي والقيمي.

الأمر الرابع:

وحتى نختم هذا بختام المسك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أهمية القيمة، حيث قال:((من أعتق عبداً بين اثنين فإن كان موسراً قوم عليه، ثم يعتق)) وفي رواية صحيحة أخرى: ((من أعتق شركاً له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)) وفي رواية لمسلم ((في ماله قيمة عدل، ولا وكس ولا شطط)) (3) .

يقول العلامة ابن القيم: "ومعلوم أن المماثلة مطلوبة بحسب الإمكان" ثم نقل عن جمهور العلماء قولهم: "الدليل على اعتبار القيمة في إتلاف الحيوان دون المثل: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن معتق الشخص إذا كان موسراً بقيمته، ولم يضمنه نصيب شريكه بمثله، فدل على أن الأصل هو القيمة في غير المكيل والموزون"(4) .

(1) يراجع: الدرر السنية في الأجوبة النجدية ط/ دار الإفتاء بالرياض (5/ 110)

(2)

يراجع: الدرر السنية في الأجوبة النجدية ط/ دار الإفتاء بالرياض (5/ 110)

(3)

صحيح البخاري –مع الفتح- كتاب العتق (5/ 150- 151) ومسلم (2/ 1140) ؛ وسنن أبي داود –مع العون- (10/ 472) ؛ والترمذي- مع تحفة الأحوذي – (4/ 281) ؛ والنسائي (7/ 281) ؛ وابن ماجه (2/ 844)

(4)

شرح سنن أبي داود. لابن القيم –مع عون المعبود- (12/ 272- 274)

ص: 1054

على أي معيار نعتمد في التقويم؟

سبق أن ذكرنا أننا لا نلجأ إلى القيمة، إلا عند انهيارها، أو وجود الغبن الفاحش جدًّا، وفي حالة رجوعنا إلى القيمة، لا بد من أن نضع موازين دقيقة ومعايير معقولة للتقويم، حتى يتبن لنا الفرق ين قيمتي العملة الورقية في الوقتين: وقت القبض ووقت إرادة الرد، ولنا لمعرفة ذلك معيارات:

المعيار الأول:

الاعتماد على السلع الأساسية مثل الحنطة والشعير واللحم والأرز، بحيث نقوم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد: كم كان يشترى به من هذه السلع الأساسية؟ ثم نأتي عند الرد أو الوفاء، والالتزام إلى القدر الذي يشترى به الآن من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق. وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبرة في كثير من الدول الغربية يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم، ولا سيما في الرواتب والأجور.

ويشهد على هذا الاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل دية الإنسان –وهو أغلى ما في الوجود- الإبل مع وجود النقدين –الدراهم والدنانير- في عصره.

ويقال: إن السبب في ذلك هو أن الإبل كانت السلعة الغالبة لدى العرب.

وذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قومها عليهم بالذهب أو الفضة، كما ذلك العلماء في الإبل قد عزت عندهم، ومع ذلك لم يجعل الذهب، أو الفضة أصلاً في الدية، ومن هنا زاد القدر حسب قيمة الإبل. فقد روى أبو داود وغيره بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:"كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني مائة دينار، وثمانية آلاف درهم.." فكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيباً فقال: "ألا إن الإبل قد غلت" قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً. (1)

قال الخطابي: " وإنما قومها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القرى، لكون الإبل قد عزت عندهم فبلغت القيمة في زمانه من الذهب ثماني مائة، ومن الورق ثمانية آلاف درهم فجرى الأمر كذلك إلى أن كان عمر، وعزت الإبل في زمانه، فبلع بقيمتها من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثني عشر ألفاً"(2)

والواقع أن هناك روايات أخرى تدل على أن قيمة الإبل حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مستقرة استقراراً تامًّا، وإنما كانت تابعة لغلاء الإبل ورخصها، فقد روى أبو داود، والنسائي والترمذي بسندهم "أن رجلاً من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً"(3)

كما روى الدارمي أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض على أهل الذهب ألف دينار (4)

(1) سنن أبي داود –مع العون- كتاب الديات (12/284) ؛ ورواه مالك بلاغا في الموطأ (2/530) .

(2)

عون المعبود (12/285)

(3)

سنن أبي داود –مع العون- كتاب الديات (12/290) ح والترمذي –مع التحفة- كتاب الديات (4/646) ؛ قال الشوكاني في النيل (8/271) : وكثرة طرقه تشهد بصحته.

(4)

سنن الدارمي كتاب الديات (2/113) ؛ وراجع نيل الأوطار (8/271)

ص: 1055

وروى النسائي: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها، وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان، فبلع قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار. أو عدلها من الورق"(1) وروى البخاري بسنده في قصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم ناقة جابر قال ابن جريج عن عطاء وغيره، عن جابر:"أخذته بأربعة دنانير". وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة دراهم. (2)

كل ما ذكرناه يدل بوضوح على أهمية اعتبار السلع الأساسية وجعلها معياراً يرجع إليها عند التقويم، ومن هذا المنطلق يمكن أن نضع سلة لهذه السلع ونقيس من خلالها قيمة النقود –كما ذكرنا- ولذلك نرى الأستاذ القرضاوي يثير تساؤلاً حول ما إذا هبطت قيمة الذهب أيضاً: فهل من سبيل إلى وضع معيار ثابت للغنى الشرعي؟ فيقول: "وهنا قد نجد من يتجه إلى تقدير نصاب النقود بالأنصبة الأخرى الثابتة بالنص" ثم ذكر عدة خيارات داخل السلع الأساسية، مثل الإبل، والغنم، والزروع والثمار، ثم رجح كون الإبل والغنم المعيار الثابت، حيث إن لهما قيمة ذاتية لا ينازع فيها أحد.

المعيار الثاني:

الاعتماد على الذهب باعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذا الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقد كم كان يشترى به من الذهب؟ فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد أو ارتفاعه الحاد يلاحظ في الرد –وفي جميع الحقوق والالتزامات - قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلاً لو كان المبلغ المتفق عليه كان عشرة آلاف ريال ويشترى به عشرون جراماً من الذهب، فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشترى به هذا القدر من الذهب. وذلك؛ لأن الذهب في الغالب قيمته أكثر ثباتاً واستقراراً. وأنه لم يصبه التذبذب والاضطراب مثل ما أصاب غيره حتى الفضة (3) ولذلك رجح مجمع البحوث الإسلامية الاقتصار –في التقويم بخصوص النصاب في عروض التجارة والنقود الورقية- على معيار الذهب فقط، لتميزه بدرجة ملحوظة من الثبات (4) ويشهد لاعتبار الذهب دون الفضة في التقويم أن الذهب لم يقوم بغيره في حين أن الفضة قد قومت به في مسألة نصاب السرقة، يقول السيوطي:

"الذهب والفضة قيم الأشياء إلا في باب السرقة، فإن الذهب أصل، والفضة عروض بالنسبة إليه" نص عليه الشافعي في الأم، وقال:"لا أعرف موضعاً تنزل فيه الدراهم منزلة العروض إلا في السرقة"(5)

ثم إذا حصل توافق وتراض بين الطرفين على القيمة فبها ونعمت، وإلا فيرجع الأمر إلى القضاء، أو إلى التحكيم، وتنطبق على هذه المسألة حينئذ جميع القواعد العامة في الدعوى والبينات والقضاء.

(1) سنن النسائي. كتاب القسامة (8/43)

(2)

صحيح البخاري مع فتح الباري كتاب الشروط (5/314)

(3)

فقه الزكاة (1/265- 269) .

(4)

مقررات مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني سنة 1965، القرار (2)(204) ، ويراجع فقه الزكاة (1/264) وذكر أن الاعتبار بالذهب في الزكاة هو ما اختاره الشيوخ الأجلاء أبو زهرة، وخلاف، وحسن رحمهم الله.

(5)

الأشباه والنظائر ص (398)

ص: 1056

الجمع بين المعيارين:

ويمكن لقاضي الموضوع، أو المحكم أن يجمع بين المعيارين بأن يأخذ في اعتباره متوسط قيمة النقد بالنسبة للذهب والسلع الأساسية يوم إنشاء العقد.

متى نلجأ إلى التقويم؟

لا شك أننا لا نلجأ إلى التقويم في كل الأحوال، ولا عند وجود التراضي بين الأطراف، وإنما نلجأ إليه عند وجود الغبن الفاحش الذي يلحق بأحد العاقدين سواء كان في عقد القرض. أم البيع بالأجل. أم المهر. أو غير ذلك من العقود التي تتعلق بالذمة ويكون محلها نقداً آجلًا ثم تتغير قيمته من خلال الفترتين –فترة الإنشاء وفترة الرد والوفاء- تغييراً فاحشاً، وبعبارة أخرى نلجأ إلى القيمة عند الانهيار النقد كما حدث لليرة اللبنانية والدينار العراقي والدينار الكويتي فترة الاحتلال، حيث لم تبق لهما قيمة تذكر فأصبحت –كما قال البهوتي- أشياء لا ينتفع بها الانتفاع المطلوب، وكذلك عند وجود الارتفاع الحاد كما حدث للمارك الألماني بعد الحرب العالمية الثانية. ويستأنس لذلك بما ذهب إليه جماعة من الفقهاء من اعتبار الغبن الفاحش حتى في البيوع التي مبناها على المساومة، (1) كما ذكر بعض العلماء مثل الرهوني أن التغيير الكثير لا بد من ملاحظته حتى في المثليات، فيجعلها من القيميات، وكذلك قال الرافعي وغيره في مسائل كثيرة –كما سبق-.

معيار التغير الفاحش أو الانهيار:

قبل أن نذكر هذا المعيار، نرى فقهاءنا الكرام قد وضعوا عدة معايير لمقدار الغبن الفاحش الذي يعطي الخيار في الفسخ عندما يقع في البيع ونحوه.

يقول القاضي ابن العربي، والقرطبي وغيرهما: "استدل علماؤنا بقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] على أنه لا يجوز الغبن في معاملة الدنيا؛ لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة.. وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث، واختاره البغداديون.. وأن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع، إذ هو من باب الخداع المحرم شرعاً في كل ملة، لكن اليسير لا يمكن الاحتراز عنه لأحد، فمضى في البيوع. (2)

ثم إن العلماء قد ثار الخلاف بينهم في تحديد الغبن الفاحش فبعضهم حدده بما زاد على قيمة الشيء بالثلث، وبعضهم بنصف العشر، وبعضهم بالسدس، وذهب جمهورهم إلى معيار مرن قائم على ما يعد عرف التجار غبناً، وهذا الأخير هو الذي رجحناه. (3) ونرجحه هنا أيضاً في باب تقويم النقود الورقية، فما يعده التجار في عرفهم غبناً فاحشاً فهو غبن فاحش هنا أيضاً، وإذا اختلفوا فالقاضي يحكم بما يرتاح إليه حسب الأدلة والظروف والملابسات التي تحيط بالقضية بعينها.

(1) يراجع في تفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار البشائر الإسلامية، بيروت (1/735) .

(2)

أحكام القرآن لابن العربي (4/1816)

(3)

مبدأ الرضا في العقود المعتمدة (1/735)

ص: 1057

وفي بعض القوانين الحديثة نرى أن مجرد التذبذب الخفيف في أسعار العملات الورقية لا يؤثر إلا إذا تجاوز 5?، ومن هنا وضعوا معياراً لأدنى ما يعتبر فيه التضخم مؤثراً في الإيجارات ونحوها. (1)

وأما الانهيار فهو ألا تبقى قيمة تذكر للنقد لأي سبب كان.

زمن التقويم ومكانه:

إذا كنا قد رجحنا اعتبار القيمة في النقود الورقية حينما يكون هناك فرق شاسع بين القوة الشرائية لها عند إنشاء العقد وثبوتها في ذمة المدين، وبين إرادة ردها، فأي وقت نعتبر؟ هل نعتبر قيمة النقد يوم إنشاء العقد؟ وهل نعتبر مكان العقد؟ أم مكان الرد؟

والذي نرجحه هو رعاية القيمة يوم إنشاء العقد وقبض المعقود عليه، ومكانه، أي تقوم النقود الورقية يومئذ كم كانت تساوي من الذهب، أو كم يشترى بها من السلع الأساسية، ثم على أساسها يرجع الدين، أو يوفى بما يلتزم به من مهر، أو ثمن البيع الآجل أو غير ذلك، فلو دفع رجل قبل عشر سنوات (أي في 1977) لآخر مائة جنيه، أو باع له أرضاً بها، أو كان مهر زوجته مثل هذا المبلغ، فالآن يقوم بالمبلغ المذكور على أساس عام (1977) كم يشترى به من الذهب؟ أو من السلع الأساسية على ضوء أحد المعيارين السابقين؟ أو متوسط ما يشترى به من الذهب والسلع الأساسية؟ فلو كان هذا المبلغ المذكور في وقته كان يشترى به بقرة مثلاً، فيجب عليه أن يرد مبلغاً يشترى به بقرة، أو كان يشترى به عشرون جراماً من الذهب عيار (21) فيجب عليه أن يرد ما يشترى به هذا القدر –وهكذا- إلا إذا تراضيا بالمعروف.

والذي يشهد لذلك هو أن جمهوراً من ذهب إلى اعتبار القيمة في الفلوس، والنقود المغشوشة، بل حتى النقود الخالصة عند كسادها، أو انقطاعها، ذهبوا إلى أن المعتبر هو يوم إنشاء العقد والقبض، ومكانه قال المرغيناني "وإذا اشترى بها -أي بالدراهم المغشوشة- سلعة وترك الناس التعامل بها قال أبو يوسف عليه قيمتها يوم البيع وقال محمد قيمتها آخر ما تعامل الناس بها" ثم علل أبو يوسف ذلك بأن الضمان إنما تم بالبيع، وهو سببه فلا بد إذن من اعتباره، (2) وقد رجح الكثيرون من الأحناف رأي أبي يوسف. قال المرغيناني:"وقول أبي يوسف أيسر" فعلق عليه ابن الهمام، والبابرتي فقالا:" لأن القيمة يوم القبض معلومة ظاهرة لا يختلف فيها بخلاف ضبط الانقطاع، فإنه عسر، فكان قول أبي يوسف أيسر في ذلك"(3) قال ابن عابدين: "وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض، أو رخصت، قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع، ويوم وقع القبض، وعليه الفتوى، وهكذا في الذخيرة والخلاصة، فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء"(4)

(1) من قانون لوكسمبورج

(2)

الهداية مع فتح القدير (7/154)

(3)

فتح القدير، مع شرح الغاية على الهداية (7/154-159)

(4)

رسالة النقود (2/60-61)

ص: 1058

وكذلك الأمر عند القائلين بالقيمة من المالكية مثل ابن عتاب وابن دحون، حيث أفتيا برعاية القيمة –في مسألة إلغاء السكة- يوم القرض. (1)

بل إن كثيراً من العلماء ذهبوا إلى اعتبار القيمة يقوم العقد، ونشأة سبب الضمان في مسائل كثيرة، فقد ذكر لنا ابن نجيم منها: المقبوض على يوم الشراء. فالاعتبار لقيمته يوم القبض، أو التلف، ومنها المغصوب القيمي إذا هلك، فالمعتبر قيمته يوم غصبه اتفاقاً، وكذلك المغصوب المثلي إذا انقطع عند أبي يوسف، ومنها المقبوض بعقد فاسد تعتبر قيمته يوما القبض؛ لأنه به دخل في ضمانه، ومنها العبد المجني عليه، تعتبر قيمته يوم الجناية، ومنها: ما لو أخذ من الأرز والعدس، ونحوهما وكان قد دفع إليه ديناراً مثلاً، لينفق عليه، ثم اختصما بعد ذلك في قيمة المأخوذ.. قال في اليتيمة: تعتبر قيمته يوم الأخذ. (2)

وذكر السيوطي أمثلة كثيرة جدًّا، روعيت فيها القيمة يوم القبض، منها مسألة ماء التيمم، في موضع عز فيه الماء حيث تراعى قيمته في ذلك الموضع في تلك الحالة على الصحيح عند جمهور الأصحاب، وكذلك الطعام والشراب حالة المخمصة، ومنها مسألة المبيع إذا تخالفا، وفسخ وكان تالفاً يرجع إلى قيمته يوم التلف على رأي لأنه مورد الفسخ، ويوم القبض على رأي آخر؛ لأنه وقت دخول المبيع في ضمانه، وما يعرف بعد ذلك من زيادة أو نقصان فهو ملكه، ومنها المستعار إذا تلف تعتبر قيمته يوم القبض على وجه، وكذلك المقبوض على جهة السوء، إذا تلف. (3)

قال النووي، في مسألة رد القيمي في القرض بالقيمة:"يرد القيمة يوم القبض، إن قلنا يملك به"(4)

وقال السيوطي: "وإذا قلنا: إنه يرد في المتقوم القيمة، فالمعتبر قيمة يوم القبض إن قلنا يملك به، وكذا إن قلنا: يملك بالتصرف في وجه"(5)

وقد نص الإمام أحمد في الدراهم المكسورة بعد كسادها على أنه يقومها: كم تساوي يوم أخذها (6) قال صاحب المطالب: "ويجب على المقترض رد قيمة غير المكيل والموزون يوم القبض"(7) وقال ابن قدامة: " تجب القيمة حين القرض "؛ لأنها حينئذ ثبتت في ذمته (8) وقد نص إمام الحرمين والغزالي، وغيرهما من فقهاء المذهب الشافعي على أن العبرة في حالة تغير النقد، هو النقد الذي كان سائداً يوم العقد، ولا ينظر لنقد يوم الحلول. وكذلك الثمن المؤجل إذا حل (9) وقال مالك:

"لا بأس أن يضع الرجل عند الرجل درهماً، ثم يأخذ منه بربع، أو ثلث، أو بكسر معلوم: سلعة معلومة، فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم، وقال الرجل: آخذ منك بسعر كل يوم، فهذا لا يحل؛ لأنه غرر يقل مرة، ويكثر مرة. ولم يفترقا على بيع معلوم"(10) وهذا الكلام يدل على اعتبار سعر معلوم عند بداية التصرف.

(1) المعيار المعرب (6/461-462)

(2)

الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 362-364)

(3)

الأشباه والنظائر للسيوطي ص (368-377)

(4)

الروضة (4/37) .

(5)

الأشباه والنظائر ص (371)

(6)

المغني لابن قدامة (4/360)

(7)

مطالب أولي النهى (3/243)

(8)

المغني (4/353)

(9)

النهاية لإمام الحرمين –مخطوطة (7/288) نقلاً عن الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب في كتابه القيم: فقه إمام الحرمين ص (420) ؛ وراجع الوسيط للغزالي مخطوطة طلعت (جـ 2/148)

(10)

الموطأ ص (403)

ص: 1059

وبعد هذا العرض والتأصيل، يظهر لنا رجحان ما ذهبنا إليه، وهو اعتبار القيمة يوم العقد والقبض، وهو أدنى إلى تحقيق العدالة وأقرب إلى القسط، وأيسر؛ وذلك لأن المقرض، أو البائع قد خرج المال من عهدته في ذلك الوقت، ودخل في ذمة المدين والمشتري، وحينئذ يكون له الحق في أن يشتري به شيئاً آخر، ولذلك قال أحد الفلاحين المصريين بفطرته:"دفعت لك ثمن جاموسة، فرجِّع إلي ما أشتري به مثلها ويكفي أنك استفدت به كل هذا الوقت" قال ذلك عندما جاء إليه شخص من أقربائه وطلب منه ديناً، فباع الفلاح جاموسته بمبلغ ودفع إليه بالكامل، ثم بعد عشر سنوات جاء الرجل، ورد عليه المبلغ الذي ما كان يشتري به الآن ربع جاموسة. فأنطقته فطرته السليمة هذا القول. (1)

حل آخر:

بالإضافة إلى هذا الحل الذي ذكرناه، فإنه يمكن للمتعاقد، الذي تثبت له نقود في ذمة الآخر آجلاً أن يشترط أن يكون الرد بما يساويه من أية بضاعة، مثل أن يدفع أحمد مثلاً عشرة آلاف جنيه قرضاً لخالد، أو أن يبيع له أرضاً بها، ثم يقدروها بما يساويها من سلع أساسية، ليعرفوا القيمة الشرائية للدين حتى يرجعوا إليها عند التنازع، فيأخذ الدائن حقه بدون وكس ولا شطط، أو أن يتفقا على تثبيت قيمة الدين عند التعاقد، وذلك بأن يتفقا على أن يكون المعول عليه عند الأداء هو القوة الشرائية الحالية للنقد الذي تم به العقد سواء كان قرضاً، أو غيره، فإذا كانت قيمة النقد هي 880 وحدة شرائية، فعند السداد يدفع المدين نفس هذه القيمة بغض النظر عما إذا كان مبلغ الدين عند السداد له هذه القيمة، أو أقل أو أكثر. (2)

وهذا الشرط ليس فيه –حسب نظري- أي مخالفة للشريعة الغراء، وذلك ليس شرطاً جر منفعة للدائن، بل هو يحقق العدالة للطرفين، وليس ممنوعاً في حد ذاته، بل كل ما يقتضيه هو رد المثلي بالقيمة –إذا قلنا: إن نقودنا الورقية مثلية، وإذا قلنا: إنها قيمية، فيكون هذا الشرط من الشروط الموافقة لمقتضى العقد.

وهذا الشرط مهما دققنا النظر فيه لن يتجاوز اشتراط ما يضمن رد حقه بدون شطط ولا وكس، فهو مثل من يشترط رد قرضه في بلد آخر ضماناً له من مخاطر الطريق، وهو ما يسمى بالسفتجة، وهو جائز عند جمهور الفقهاء، يقول شيخ الإسلام:"والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهم المقترض، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم، ويحتاجون إليه، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم"(3) والشرط الذي معنا ليس فيه غرر، لا يؤدي إلى جهالة، ولا ربا، ولا منازعة، بل يؤدي إلى أداء الحقوق كاملة إلى أصحابها، في وقت أصبحت التقلبات الكبيرة سمة عصرنا، فحينئذ يكون كل واحد يعرف ما له وما عليه، بالإضافة إلى أن الأصل في الشروط هو الإباحة عند الجمهور الفقهاء. (4)

(1) حكى لنا هذه القصة أستاذنا الدكتور القرضاوي (حفظه الله) .

(2)

د. شوقي دنيا: بحثه السابق ص (70) وما بعدها.

(3)

مجموع الفتاوى (29/455-456)

(4)

يراجع: مبدأ الرضا في العقود، ومصادره (2/1186)

ص: 1060

باب التراضي مفتوح:

كل ما قلناه إذا كان هناك عناد من أحد الطرفين، أما عند سداد الدين، أو الوفاء بالثمن، أو المهر، أو نحو ذلك تراضيا بالمعروف على الزيادة أو النقصان، فإن أحداً من الفقهاء لم يمنع ذلك، بل هذا ما دعا إليه الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في ذلك، فقد روى البخاري، ومسلم، وغيرهما بسندهم: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيراً، فقال:((أعطوه)) فقالوا: لا نجد إلا سنًّا أفضل من سنه، فقال ((أعطوه، فإن خياركم أحسنكم قضاءً)) (1)

فعلى هذا إذا حل الأجل وجاء المدين ورأى أن المبلغ الذي يرده الآن لا يساوي شيئاً بالنسبة لقيمة المبلغ الذي أخذه، وقدرته الشرائية، فطيب خاطر الدائن ونفسه بالزيادة في المقدار، أو بسلعة أخرى ففقد فعل الحسن وطبق السنة، بل إنني أعتقد أنه لا تبرأ ذمته في حالات التغير الفاحش لقيمة العملة محل العقد إلا بإرضاء صاحب الحق؛ لأن مبنى الأموال وانتقالها في الإسلام على التراضي، وطيب النفس بنص القرآن الكريم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . (2)

فكيف تطيب نفسه عندما يقع الظلم عليه، ويرجع إليه ماله وقد اقتطع منه أجزاء، وأفرغ من كثير من محتواه؟ صحيح أن مبنى القرض على التطوع والتبرع، ولكنه تطوع وتبرع بالوقت الذي أمهله دون مقابل محتسباً أجره عند الله تعالى، أما أن ينقص ماليته فلا، ولذلك نرى الفقهاء يجيزون رد العين المستقرضة إلى المقرض، ما دامت لم تتعيب بعيب ينقص من ماليته، أما إذا تعيبت فلا يصح ردها. (3) فكذلك الأمر هنا:

وقد ذكر الإمام ابن السبكي جواز أخذ القيمة في المثلي، إذا رضي الطرفان، فقال:"لو تراضيا على أخذ قيمة المثلي مع وجوده، وجهان أصحهما: عند الوالد رحمه الله الجواز" ثم ذكر أنه يعلل الجواز بأنه اعتياض عما يثبت في الذمة من المثلي. (4)

فلا شك في أن مسألة التراضي تحل كثيراً من مشاكل مجتمع قائم على العدل والإحسان والإيثار، مثل المجتمع الإسلامي الذي يقوم على معيار دقيق، وهو "أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتكره لأخيك ما تكره لأخيك ما تكره لنفسك"(5) فهل يرضى الإنسان أن يعود إليه دينه، أو يعطى لها مهرها، وقد أصبح لا قيمة له بعد أن كان ذا قيمة جيدة. فهل يرضى أحد أن يعود إليه ليراته اللبنانية، أو السورية، أو التركية الآن مع أنها حينما خرجت من يديه كانت لها قيمة وقدرة شرائية ممتازة؟ هذا السؤال موجه إلى كل مؤمن، وذلك لأن الإسلام لا يعتني بالجانب الظاهري القانوني فقط، بل يعتني أيضاً بالجانب السلوكي، ولذلك فالعذاب فيه ليس دنيويًّا فقط بل هو في الدنيا والآخرة، والأحكام لا تقتصر على الصحة والبطلان الظاهرين، بل هناك الحل والحرمة، والذي يراقب الله تعالى يخاف من عذاب الله في الآخرة أكثر من العذاب الدنيوي.

(1) صحيح البخاري –مع الفتح- (5/56-59) ؛ ومسلم (3/1224)

(2)

وراجع مبدأ الرضا في العقود، وراجع للأستاذ الدكتور شوقي دنيا بحثه السابق ص (68) .

(3)

انظر الروضة (4/35) ؛ والمغني لابن قدامة (4/360)

(4)

القواعد والأشباه والنظائر لابن السبكي مخطوط الإسكندرية ورقة (80)

(5)

فقد روى البخاري بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه "، ورواه غيره بألفاظ وطرق كثيرة، يراجع صحيح البخاري مع الفتح - كتاب الإيمان (1/57) وأحمد (2: 31، 3: 473، 4/70) ؛ وسنن ابن ماجه (2: 1410)

ص: 1061

اعتراضات ودفعها:

الاعتراض الأول:

إن هذا القول يؤدي إلى زيادة في بعض الأموال، وهي ربا، وهو حرام بنص القرآن، مثل أن يقرض شخص قبل عشر سنوات عشرة آلاف ليرة، فلو قدرنا القيمة يكون يساوي مائة ألف ليرة، وهذا عين الربا؟

الجواب عن ذلك، أن ذلك ليس زيادة ولا ربا لما يأتي:

أولاً: أن الربا هو الزيادة دون مقابل، والزيادات الموجودة هنا ليست في الواقع إلا زيادة من حيث الشكل والعدد وهذا ليس له أثر، فالزيادة التي وقعت عند التقويم وهي ليست زيادة وإنما المبلغ المذكور أخيراً هو قيمة المبلغ السابق، وبالتالي فالمبلغان متساويان من حيث الواقع والحقيقة والقيمة.

ثانيًا: أن الربا هو الزيادة المشروطة، وهنا لم يشترط الدائن مثلاً أية زيادة، وإنما اشترط قيمة ماله الذي دفعه، ولذلك قد تنقص في حالة ما إذا ارتفع سعر النقد الذي أقرضه –مثلاً- وأصبحت قوته الشرائية أكثر من وقت العقد والقبض.

ثالثاً: أنه يمكن أن نشترط أن يكون الرد بغير العملة التي تم بها العقد في حالة الزيادة وهذا هو الراجح، فمثلاً لو كان محل العقد ليرة لبنانية، فليكن الرد عند الزيادة، أو النقص بالريال، أو بالدولار، أو الجنيه وهكذا، فاستيفاء الدراهم بدلاً من الدنانير، وبالعكس أمر معترف به عند جمهور الفقهاء –منهم الحنفية والمالكية والشافعية، والحنابلة- واستدلوا على جوازه بأدلة، منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال:"كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت حفصة، فقلت يا رسول الله: رويدك أسألك: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (1) قال الخطابي: "ذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه، ومنع من ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك إلا بسعر يومه، ولم يعتبر غيره السعر، ولم يبالوا ذلك بأغلى، أو أرخص من سعر اليوم.."(2) قال الحافظ السندي: "والتقيد بسعر اليوم على طريق الاستحباب "(3) وقد روى النسائي عن بعض التابعين أنهم لا يرون بأساً في قبض الدراهم مكان الدنانير، وبالعكس، في جميع العقود الآجلة بما فيها القرض. (4)

(1) رواه أحمد في مسنده (2/82، 154) ؛ وأبو داود في سننه –مع العون- كتاب البيع (9/203) ؛ وابن ماجه في سننه بدون "سعر يومها" كتاب التجارات (2/760) ؛ والدارمي في سننه (2/174) ح والنسائي في سننه، كتاب البيوع (7/282) وقد ضعف هذا الحديث؛ لأن سماك بن حرب قد انفرد به، وقد قال فيه سفيان: إنه ضعيف، وقال أحمد: هو مضطرب الحديث، قال الحافظ في التقريب (1/332) :"صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره، فكان ربما يلقن" –وراجع ميزان الاعتدال (2/232)

(2)

عون المعبود (9/204)

(3)

حاشية السندي على النسائي (7/282)

(4)

سنن النسائي (7/282- 283)

ص: 1062

قال ابن قدامة معلقاً على حديث ابن عمر "ولأن هذا جرى مجرى القضاء، فقيد بالمثل كما لو قضاه من الجنس، والتماثيل ههنا من حيث القيمة لتعذر التماثل من حيث الصورة"(1)

ثم إن هذه المسألة ليست بدعاً في الأمر، ولا هي من المسائل التي لا نجد فيها نصًّا لفقهائنا السابقين في أشباهها، بل نجد لها مثيلات كثيرة في فقهنا الإسلامي نذكر بعضها هنا:

يقول الإمام الرافعي: "وإذا أتلف حلياً وزنه عشرة، وقيمته عشرون، فقد نقل أصحابنا وجهين فيما يلزمه:

أحدهما: أنه يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بقيمتها من غير جنسها سواء كان ذلك نقد البلد، أو لم يكن؛ لأنه لو ضمنا الكل بالجنس لقابلنا عشرة بعشرين وذلك ربا.

وأصحهما عندهم: أنه يضمن الجميع بنقد البلد، وإن كان من جنسه" (2)

ونجد أمثلة كثيرة في كل المذاهب الفقهية في باب ضمان المتلفات –كما سبق- ونجد كذلك في باب العقود عند مالك، حيث أجاز أن يعطى الإنسان مثقالاً وزيادة في مقابل دينار مضروب، وكذلك أجاز بدل الدينار الناقص بالوزن، أو بالدينارين، وروى مثل ذلك عن معاوية رضي الله عنه يقول ابن رشد:"وأجمع الجمهور على أن مسكوكه وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلاً، لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك إلا ومعاوية، فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر، والمصوغ لمكان زيادة الصياغة، وإلا ما روى عن مالك أنه سأل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب، ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه، أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك، فأرجو ألا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه"(3)

والمقصود بهذا النص أن الزيادة ما دام لها مقابل، لا تعتبر ربا، لأن الربا هو:"الفضل المستحق لأحد العاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شرط فيه"(4)

الاعتراض الثاني:

إن القول برعاية القيمة يؤدي إلى تحطيم النقود كنقد، وبالتالي تترتب عليه مشاكل لا عد لها ولا حصر؟

الجواب عن ذلك: أننا لا نسلم أن ذلك لا يؤدي إلى تحطيم النقود، وإنما يؤدي إلى أن يكون دورها محصوراً بحيث لا تؤدي جميع وظائفها الأربع المعروفة وهذا لا يضر، حيث اعترف كثير من الاقتصاديين بأن نقودنا لا تؤدي هذه الوظائف جميعها، أو لا تؤديها على شكل مقبول، كما أنهم الآن وسعوا مفهوم النقد، ليشمل أنواعاً كثيرة لا يؤدي بعضها إلا وظيفة واحدة –كما سبق- مع أن ذلك لا يتعارض مع نقديتها، وسبق أن الفقهاء الذين قالوا بأن الفلوس ثمن، ومع ذلك لم يثبتوا لها جميع الأحكام الخاصة بالذهب، أو الفضة.

(1) المغني (4/55)

(2)

فتح العزيز (11/279-280) ؛ والروضة (5/23)

(3)

بداية المجتهد (2/196)

(4)

فتح القدير (7/8)

ص: 1063

ومن جانب آخر أن ذلك إنما يحصل إذا لم توضع معايير دقيقة، ولكنا ما دمنا نعترف بالنقود الورقية بأنها نقود –وإن كانت لا تؤدي جميع الوظائف- وتربط إما بمعيار الذهب، أو معيار السلعة، فإنه في الحقيقة لا تحدث أية مشكلة تذكر، بل هي تحقق العدالة، بالإضافة إلى أننا لا نلجأ إلى عملية التقويم دائماً، فلا نلجأ إليه في جميع العقود التي يتم فيها قبض الثمن مباشرة، وكذلك لا نلجأ إلى التقويم في العقود التي كون الثمن مؤجلاً إلا في حالة الغبن الفاحش أو انهيار قيمة النقد، كما سبق.

الاعتراض الثالث:

لماذا لا نعتد بالرخص والغلاء في الذهب والفضة، والحنطة والشعير ونحوهما في الوقت الذي نعتد بهما في النقود الورقية؟

الجواب عن ذلك: أن هذه القضية تتعلق بالمثلي والقيمي، حيث لا ينظر في المثلي إلى القيمة، وأما القيمي، فيلاحظ فيه القيمة –كما سبق- ونحن قلنا: إن النقود الورقية لا يمكن اعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، ولا إلغاء نقديتها، وإنما الحل الوسط هو ما ذكرناه.

ومن هنا فهي وإن كانت مثلية –كقاعدة عامة- لكنها عند وجود الفرق الشاسع يلاحظ فيها القيمة، كالماء الذي أخذه الإنسان في الصحراء، فلا يرجع له الماء، وإنما عليه قيمته في ذلك المكان.

وهذا الحل ليس خاصًّا برد القرض، بل هو عام في جميع الحقوق التي تؤدى بالعملات الورقية، فنرى ضرورة ملاحظة القيمة في الإجارات والرواتب والأجور ونحوها، وهذا ما تلاحظه الدول المتقدمة عندما يكون التضخم كبيراً، فليس من العدالة أنك لو استأجرت بيتاً بألف ليرة لبنانية أو نحوها – عام سبعين أن تدفع نفس المبلغ اليوم، فألف في 1970 كان يساوي 500 دولار تقريباً وألف اليوم يساوي دولارين فقط، وكذلك الرواتب والأجور. والله أعلم.

وفي الختام هذا ما اطمأنت إليه نفسي، وأدى إليه اجتهادي المتواضع فإن كنت قد أصبت فمن الله، وإلا فعذري أنني بذلت كل ما في وسعي ولم أرد به إلا وجه الله تعالى.

ومع ذلك فما أقوله عرض لوجهة نظري، أرجو أن تنال من الباحثين الكرام النقد والتحليل، للوصول إلى حل جذري أمام هذه المشكلة.

وكلمة أخيرة أكررها هي أنه ليس هناك من محيص للخروج من هذه الأزمات الجادة إلا بالرجوع إلى النقدين الذاتيين، أو على الأقل ربط نقود الورقية بالغطاء الذهبي، وهذا ما يدعو إليه كثير من الاقتصاديين، بل بعض المؤتمرات –كما سبق- فلا شك في أن ربط النقد الورقي بالذهب إنما هو إعادة إلى أصله الذي تأصل عليه، فإلى أن نعود إلى هذا النظام فلا بد من أن نلاحظ القيمة في نقودنا عندما تقتضيه الضرورة والحاجة، حتى تتحقق العدالة "دون وكس ولا شطط".

والله الموفق وهو من وراء القصد، والهادي إلى سواء السبيل.

الدكتور علي محيي الدين القره داغي

ص: 1064

أهم مراجع البحث

كتب تفسير القرآن الكريم:

* أحكام القرآن للإمام الشافعي: ط. دار الكتب العلمية: بيروت 1395 هـ-1975م.

* أحكام القرآن لأبي بكر أحمد بن الرازي الجصاص: ط. دار الفكر بيروت.

* أحكام القرآن لأبي محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي تحقيق علي محمد البجاوي: ط. دار المعرفة بيروت.

* تفسير ابن عطية المسمى: المحرر الوجيز: ط. مؤسسة دار العلوم بقطر.

* تفسير الشوكاني –المسمى فتح القدير: ط. عالم الكتب بيروت.

* التفسير الكبير للرازي –المسمى: مفاتيح الغيب: ط. دار إحياء التراث العربي –بيروت.

* تفسير الماوردي –المسمى: النكت والعيون: ط. أوقاف الكويت.

* تفسير المنار للإمام محمد عبده –جمع الشيخ رشيد رضا: ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1972 م.

* جامع البيان في تفسير القرآن لأبي جعفر محمد بن جعفر الطبري: ط. المطبعة الكبرى ببولاق – القاهرة 1328هـ.

* الجامع لأحكام القرآن –لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي: ط. دار الكتب المصرية سنة 1387هـ.

كتب الحديث وشروحه:

* تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي للحافظ أبي يعلى محمد بن عبد الرحمن: طبعة ثانية 1385 هـ –مطبعة الفجالة- القاهرة.

* تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني –تصحيح السيد: عبد الله هاشم اليماني المدني –شركة الطباعة الفنية- القاهرة، ومطبوع مع المجموع للنووي في المطبعة العربية– مصر.

س* سنن ابن ماجه: للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني – ت. 273هـ طبعة عيسى البابي الحلبي –بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، وطبعة العلمية سنة 1313هـ.

* سنن أبي داود: للحافظ الحجة سليمان بن الأشعث السلجستاني ت: 275هـ طبعة المكتبة السلفية- المدينة المنورة مع شرحه عون المعبود وطبعة مصطفى محمد سنة 1354 هـ.

* سنن الترمذي: للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى السلمي ت: 279 هـ ط: بولاق سنة 1292 هـ، وطبعة الفجالة القاهرة- مع شرحه: تحفة الأحوذي.

* سنن الدارقطني: للحافظ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني ت 385 هـ تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني –ط. شركة الطباعة الفنية- القاهرة سنة 1386 هـ.

* سنن الدارمي: للحافظ أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ت 255 هـ تحقيق عبد الله هاشم اليماني – ط: دار المحاسن للطباعة – القاهرة سنة 1386هـ.

* السنن الكبرى: للحافظ الفقيه أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت: 458 هـ ط. دار المعارف – حيدر آباد بالهند.

* سنن النسائي: للحافظ أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي ت: 303 هـ ومعه زهر الربى على المجتبى للحافظ السيوطي مع تعليقات مقتبسة من حاشية السندي. ط: شركة مصطفى البابي الحلبي –مصر سنة 1383 هـ، وكذلك طبعة دار البشائر الإسلامية – بيروت – لبنان.

* شرح الزرقاني على الموطأ – ط: الفكر –بيروت – لبنان.

* صحيح البخاري: للحافظ الحجة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ت: 256 هـ ط –المطبعة السلفية –القاهرة. مع فتح الباري.

* صحيح مسلم: للإمام الحافظ أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت: 261 هـ. ط: دار الإحياء. عيسى البابي الحلبي –تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

* عون المعبود – شرح أبي داود: للعالم أبي طيب محمد بن شمس الحق العظيم آبادي –ط: المكتبة السلفية – المدينة المنورة سنة 1388 هـ.

* فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. ت: 852 هـ إشراف الشيخ عبد العزيز بن باز وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. ط: المطبعة السلفية – القاهرة.

ص: 1065

* المستدرك: للحافظ محمد بن عبد الله النيسابوري المشهور بالحاكم ت: 405 هـ ط: حيدر آباد سنة 1340 هـ.

* مسند الإمام أحمد بن حنبل. ط: المكتب، الإسلامي – بيروت.

* مسند الشافعي. ط: دار الشعب. بهامش الجزء السادس من الأم.

* مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني. ت: 211 هـ مطابع دار القلم – بيروت – لبنان طبعة أولى سنة 1390 هـ.

* الموطأ للإمام مالك ت: 179 هـ. ط: الشعب، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.

* موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: للعلامة نور الدين علي بن أبي بكر ط. دار الكتب العلمية – بيروت.

* نصب الراية بتخريج أحاديث الهداية: للعلامة جمال الدين عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي ت: 762 هـ. مع حاشية النفيسة: بغية الألمعي في تخريج الزيلعي. نشر المكتبة الإسلامية.

* نيل الأوطار: للعلامة محمد بن علي الشوكاني ت: 1250 هـ. ط: الكليات الأزهرية – القاهرة 1398 هـ.

كتب الفقه والأصول والقواعد واللغة:

* الإجماع: للعلامة ابن المنذر – تحقيق د. عبد القادر شن أر. ط. أنقرة – تركيا. وط. قطر.

* الأحكام السلطانية للعلامة أبي الحسن الماوردي ط. التوفيقية – القاهرة.

* الأحكام السلطانية للعلامة القاضي أبي يعلي. ط. مصطفى الحلبي – عام 1966 – القاهرة.

* إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي. ط. عيسى الحلبي – القاهرة.

* اختلاف المذاهب: للوزير ابن هبيرة، مخطوط الإسكندرية. بمكتبة البلدية.

* إدرار الشروق على أنواء الفروق لسراج الدين قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط. ط – دار المعرفة، بيروت.

* الأشباه والنظائر للعلامة جلال الدين السيوطي. ط. عيسى الحلبي – القاهرة.

* الأشباه والنظائر للعلامة زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم الحنفي، ط. مؤسسة الحلبي – القاهرة.

* الأشباه والنظائر للعلامة ابن السبكي، مخطوطة البلدية بالإسكندرية.

* إعلام الموقعين للعلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية. ط. شركة الطباعة الفنية بالقاهرة عام 1388 هـ.

* إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للإمام أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي. تحقيق أحمد أبو طاهر الخطابي، ط. المغرب.

* البحر الرائق للعلامة ابن نجيم. ط. دار المعرفة – بيروت.

* البحر الزخار للعلامة أحمد بن يحيى بن المرتضى. ط. مؤسسة الرسالة عام 1366 هـ.

* البحر المحيط للعلامة بدر الدين الزركشي، مخطوطة دار الكتب المصرية رقم 101 أصول تيمور.

* بدائع الصنائع للإمام الكاساني. ط. مطبعة الإمام – القاهرة.

* بداية المجتهد – للعلامة ابن رشد الحفيد. ط. مصطفى الحلبي عام 1395 – القاهرة.

* البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين. تحقيق أ. د عبد العظيم الديب. ط. دولة قطر – طبعة أولى.

* بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب مالك. للعلامة أحمد الصاوي – ط. عيسى الحلبي – القاهرة.

* البيان والتحصيل للعلامة ابن رشد. ط. دار الغرب الإسلامي – مع دار إحياء التراث بقطر.

* تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق. للعلامة فخر الدين الزيلعي. ط. الخشاب بالقاهرة عام 1313 هـ.

* التحرير لابن الهمام مع شرحه: التقرير والتحبير. ط. الأميرية سنة 1936 هـ.

* التعريفات. للعلامة أبي الحسن علي الجرجاني. المعروف بالسيد الشريف. ط. الدار التونسية.

* التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإمام الأسنوي. ط. مكة 1353 هـ.

* حاشية الدسوقي على الشرح الكبير. ط. الاستقامة بالقاهرة.

* حاشيتا عميرة، والقليوبي على شرح المحلى على المنهاج، ط. عيسى الحلبي. القاهرة.

* الخراج. للإمام أبي يوسف. تحقيق د. محمد إبراهيم البنا ط. دار الاعتصام.

* خزانة الفقه، وعيون المسائل للفقيه أبي الليث السمرقندي تحقيق د. صلاح الدين الناهي. ط. شركة الطبع والنشر الأهلية ببغداد.

* رحمة الأمة في اختلاف الأئمة. للعلامة أبي عبد الله الدمشقي ط. مصطفى الحلبي سنة 1386 هـ – القاهرة.

* رد المحتار على الدر المختار للعلامة ابن عابدين. ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت 1407 هـ.

* الرسالة للإمام الشافعي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر. ط. مصطفى الحلبي 1358 هـ.

* روضة الطالبين للإمام النووي. ط. المكتبة الإسلامية للطباعة.

ص: 1066

* شرح الخرشي على مختصر خليل. للعلامة أبي عبد الله محمد الخرشي. طبعة ثانية بالمطبعة الأميرية – بولاق – مصر.

* شرح العناية على الهداية، للعلامة محمد بن محمود البابرتي ط. الأميرية.

* الطرق الحكمية في السياسة الشرعية. للعلامة ابن القيم ط. المدني.

* الغاية القصوى. للإمام البيضاوي. تحقيق على محيي الدين القره داغي. ط. دار الإصلاح.

* فتح العزيز شرح الوجيز. للإمام عبد الكريم بن محمد الرافعي ط. شركة العلماء بمصر.

* فتح القدير. للعلامة ابن الهمام الحنفي ط. أولى بالمطبعة الأميرية عام 1316 هـ.

* الفروق. للإمام القرافي. ط. دار المعرفة ببيروت.

* القاموس المحيط. للعلامة الفيروز آبادي. ط. مؤسسة الرسالة بيروت.

* القواعد. للعلامة ابن رجب. ط. الكليات الأزهرية.

* قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية. للعلامة محمد بن أحمد بن الغرناطي المالكي. ط. دار العلم للملايين، بيروت 1974.

* كشف الأسرار. للعالمة البزدوي.

* لسان العرب لابن منظور. ط. دار المعارف.

* مباحث العلة، تأليف الدكتور عبد الحكيم السعدي. ط. دار البشائر الإسلامية. بيروت.

* المبسوط. للعلامة شمس الدين السرخسي. ط. السعادة بمصر سنة 1324.

* المجموع. للإمام النووي. ط. شركة العلماء بمصر.

* مجموع الفتاوى. للعلامة ابن تيمية. ط. دار الإفتاء بالسعودية.

* المحلى لابن حزم. ط. المنيرية 1352.

* المدونة الكبرى للإمام مالك. رواية سحنون بن سعيد التنوخي في 240 هـ عن عبد الرحمن بن قاسم العنقي ت 191 هـ، طبعة مطبعة السعادة بمصر عام 1323 هـ.

* المعجم الوسيط. ط. قطر.

* المعيار المعرب.

* مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج. للعلامة محمد الشربيني الخطيب. ط. مصطفى الحلبي عام 1377 هـ.

* المغني. للعلامة ابن قدامة المقدسي الحنبلي ط. الرياض.

* المقدمات والممهدات. للعلامة ابن رشد. ط. دار الغرب الإسلامي.

* المنثور في القواعد. للعلامة بدر الدين الزركشي. ط. أوقاف الكويت.

* مواهب الجليل. للعلامة أبي عبد الله الخطاب. ط. قطر.

* موجبات الأحكام. لابن قطلو بغا الحنفي. ط. دار الإرشاد بغداد عام 1983 م.

* الوجيز للإمام الغزالي. تحقيق د. علي محيي الدين القره داغي. ط. دار الاعتصام، ومخطوطة دار الكتب رقم 312 فقه شافعي، ومخطوطة طلعت أيضاً.

أهم الكتب الفقهية المعاصرة وكتب الاقتصاد:

* أحكام النقود للأستاذ محمد تقي الدين العثماني، بحث مقدم إلى مجمع الفقه بمكة عام 1406 هـ.

* استبدال النقود والعملات للدكتور علي السالوس. ط. مكتبة الفلاح بالكويت.

* أصول الاقتصاد، دكتور محمد صالح. ط. نهضة مصر 1933.

* تقلبات القوة الشرائية للنقود للأستاذ شوقي دنيا، بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر، العدد 41.

* جناية القتل العمد للأستاذ نظام الدين عبد الحميد. ط. بغداد 1975.

* الدين والعين في الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور محمد زكي عبد البر. بحث منشور بمجلة القانون والاقتصاد، العدد الخاص بالعيد المئوي لحقوق القاهرة.

* عقد التحكيم للدكتور قحطان الدوري. ط. وزارة الأوقاف العراقية.

* فقه الزكاة للأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي.

* مبادئ علم الاقتصاد للدكتور محمد عويس. ط. دار النصر – القاهرة.

* الملكية ونظرية العقد. للشيخ الجليل محمد أبو زهرة رحمه الله ط. دار الفكر العربي بالقاهرة.

* الملكية في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد السلام العبادي. ط. الأقصى بعمان.

* الموجز في النقود والبنوك للأستاذ أحمد عبده. ط. دار الكتاب الجامعي 1978.

* النقود للعلامة المقريزي. طبعة. أستانة.

* النقود والمكاييل والموازين. للحافظ عبد الرؤوف المناوي. ط. دار الحرية للطباعة ببغداد. تحقيق رجاء السامرائي.

* تلك هي أهم المصادر والمراجع، وتركنا الكثير حيث أشرنا إليها بالكامل في الهوامش.

ص: 1067