المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

‌تجارة الذهب

في أهم صورها وأحكامها

إعداد

د. صالح بن زابن المرزوقي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد:

فالذهب معدن نفيس تتوق إليه النفوس، وقد تعلق به الإنسان منذ عرفه، وبالغ في تعلقه به حتى عبده قوم موسى عليه السلام، قال تعالى:{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) } [طه: 87- 88] .

وقد آثر الإنسان تملكه؛ فذكره الله في عداد الأمور التي زين للناس حب تملكها. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14] .

وقد جعله الله من وسائل الإنعام على أهل الجنة، قال تعالى:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] . وقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71] .

والكلام على أحكام الذهب متعددة الجوانب؛ فمنها ما هو متعلق بزكاته، ومنها ما هو متعلق بالتحلي به، أو استعماله، ومنها ما هو متعلق بدوره في الأنظمة النقدية، ومنها ما هو متعلق بالتجارة فيه، ومنها ما يتعلق بأحكام صرفه، وغير ذلك.

وحيث أن التجارة في الذهب يحف بها كثير من المحاذير الشرعية، ونظرا لتعدد وسائل الاستثمار فيه سواء في الأسواق العالمية أو المحلية، ولحاجة هؤلاء المستثمرين والمستعملين لبيان الحكم الشرعي في هذا النوع من التجارة؛ فقد استعنت بالله على بحث هذا الموضوع، وسميته (تجارة الذهب) . ونظرا لتلازم هذا الموضوع، بموضوعات فقهية أخرى فقد استدعى الأمر أن أتناولها بالبحث؛ مثل الصرف، وعلة الربا، والقبض الحكمي، والصرف بالوديعة المصرفية، وبيان الحل الشرعي لاجتماع الصرف والحوالة المصرفية، وغير ذلك.

وقد جعلته بعد المقدمة في أحد عشر مبحثا، وخاتمة.

ص: 68

المبحث الأول: في التعريف بتجارة الذهب والصرف.

المبحث الثاني: شروط الصرف.

المبحث الثالث: علة الربا في الذهب والفضة.

المبحث الرابع: أثر الجودة في شرط التماثل.

المبحث الخامس: شراء حلي الذهب أو الفضة بجنسه من غير الحلي.

المبحث السادس: شراء الحلي بالحلي أو شراء الحلي بثمن الحلي المبيع.

المبحث السابع: الجمع بين البيع والإجارة على عمل الحلي بجنسه.

المبحث الثامن: المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموم إليه جنس آخر.

المبحث التاسع: شراء الذهب للاستعمال. فيه عدة مطالب:

المطلب الأول: شراء الحلي للنساء.

المطلب الثاني: شراء حلي الذهب ليستعمله الرجال.

المطلب الثالث: شراء أواني الذهب.

المطلب الرابع: شراء المموه من الذهب.

المبحث العاشر: أهم أساليب تجارة الذهب في الأسواق العالمية.

المبحث الحادي عشر: صور الصرف. وفيه عدة مطالب:

المطلب الأول: القبض الحكمي.

المطلب الثاني: المصارفة بالوديعة.

المطلب الثالث: صور الصرف المصرفية.

وينتهي البحث بخاتمة تجمل أهم الأحكام التي وردت في ثناياه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وأزكى الصلاة، وأتم التسليم على نبينا وسيدنا محمد وآله وسلم.

ص: 69

المبحث الأول

في التعريف بتجارة الذهب والصرف

1-

التجارة:

التجارة في اللغة والاصطلاح: هي تقليب المال، أي بالبيع والشراء لغرض الربح (1) . وهي في الأصل: مصدر دال على المهنة، وفعله تجر يتجر تجرا وتجارة. الذهب معدن معروف، والجمع أذهاب مثل سبب وأسباب، ويجمع أيضا على ذهبان وذهوب، وهو مذكر، ويؤنث فيقال: هي الذهب الحمراء، وقد يؤنث بالهاء فيقال: ذهبة.

وقال الأزهري: الذهب مذكر ولا يجوز تأنيثه، إلا أن يجعل الذهب جمعا لذهبة (2) .

2-

الصرف:

الصرف في اللغة: يأتي بمعان؛ منها: رد الشيء عن وجهه، فيقال: صرفه يصرفه صرفا فانصرف إذا رده، وصرفت الرجل عني فانصرف. قال تعالى:{ثُمَّ انْصَرَفُوا} [التوبة: 127] . أي رجعوا عن المكان الذي استمعوا فيه، وقيل انصرفوا عن العمل بشيء مما سمعوا (3)، وقال صلى الله عليه وسلم في أمر المدينة:((من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل)) (4) . قال الأصمعي، والزمخشري: المراد بالصرف التوبة؛ لأنه صرف للنفس إلى البر عن الفجور؛ والعدل الفدية؛ من المعادلة، ومنه دعاء الاستخارة:(فاصرفه عني واصرفني عنه)(5) .

وقال ابن حجر: عند الجمهور: الصرف الفريضة، والعدل النافلة (6) .

ومنها الإنفاق؛ كقولك صرفت المال، أي أنفقته.

ومنها البيع؛ كما تقول: صرفت الذهب بالدراهم، أي بعته.

واسم الفاعل من هذا صيرفي، وصيرف، وصراف للمبالغة.

ومنها الفضل والزيادة. قال ابن فارس: الصرف فضل الدرهم في الجودة على الدرهم، والدينا على الدينار (7) وقال الخليل: الصرف: فضل الدرهم على الدرهم في القيمة (8) .

(1) تاج العروس، مادة: تجر.

(2)

المصباح المنير، لسان العرب. مادة: ذهب

(3)

المصباح، واللسان، مادة: صرف

(4)

صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 4/81

(5)

فتح الباري 4/86. الفائق في غريب الحديث؛ للزمخشري 2/294

(6)

فتح الباري 4/86. الفائق في غريب الحديث؛ للزمخشري 2/294

(7)

المصباح المنير، لسان العرب

(8)

تبيين الحقائق 4/135

ص: 70

تعريف الصرف اصطلاحا:

عرف الحنفية الصرف بأنه: بيع الأثمان بعضها ببعض (1) .وأرادوا بالأثمان الذهب والفضة سواء كانا مسكوكين: دنانير ودراهم؛ وهي المعروفة بالنقدين كما جاء في مجلة الأحكام العدلية، الصرف:(بيع النقد بالنقد)(2) ؛ أم كانا مصوغين كالأقراط والأساور، أو كانا تبرا (3) .

وعبر الشافعية والحنابلة عن الثمن بالنقد. فقالوا: الصرف: بيع النقد بنقد من جنسه أو غيره (4) ؛ الروض المربع 4/491.

وأرادوا بالنقد الذهب والفضة مسكوكين أو مصوغين أم تبرا (5) . وقد عرفه ابن قدامة بأنه: (بيع الأثمان بعضها ببعض)(6) .

وسمي هذا النوع من البيوع صرفا إما لاختصاصه برد البدل ونقله من يد إلى يد، ويحتمل أن تكون التسمية لمعنى الفضل إذ الصرف يذكر بمعنى الفضل، فالتاجر يطلب الفضل منه عادة لما يرغب في عين الذهب والفضة (7) .

وقيل سمي هذا البيع بالصرف لصريفهما عند المبادلة وهو تصويتهما في الميزان: وقيل: لانصرافهما إلى المتصارفين عن مقتضى البياعات من عدم جواز التفرق قبل القبض (8) .

وأما المالكية فلهم اصطلاح آخر في بيع الأثمان، ذلك أنهم يقسمونها إلى ثلاثة أقسام هي:

الصرف، والمراطلة، والمبادلة.

فالصرف عندهم: هو بيع النقد بنقد مغاير لنوعه؛ كبيع الذهب بالفضة.

والمراطلة: هي: بيع النقد بنقد مثله وزنا؛ كبيع الذهب بالذهب، أو بيع الفضة بالفضة، سواء كانا مسكوكين، أو مصوغين، أو تبرا.

والمبادلة هي: بيع النقد بنقد مثله عددا (9) .

(1) المبسوط 13/2؛ رد المحتار على الدر المختار 4/234؛ بدائع الصنائع 5/215؛ فتح القدير 7/،17؛ تبيين الحقائق 4/134

(2)

م121

(3)

المصادر السابقة

(4)

مغني المحتاج 2/25؛ كشاف القناع 2/266؛ شرح منتهى الأرادات 2/201

(5)

المصادر السابقة

(6)

المغني 6/112

(7)

تبيين الحقائق؛ بدائع الصنائع

(8)

الكشاف 2/266؛ المطلع ص239؛ الروض المربع 4/491

(9)

حاشية الدسوقي 3/2؛ مواهب الجليل 4/226؛ بلغة السالك لأقرب المسالك 2/3

ص: 71

حكم التجارة في الذهب:

التجارة عموما مشروعة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] .

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق)) (1)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وأجمع المسلمون على جواز التجارة في الجملة (2) .

والتجارة في الذهب جائزة إذا توافرت فيها شروط صحتها؛ لأنها نوع من أنواع البيوع، وقد قال تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . فالآية دالة على جواز التجارة، ومنها التجارة في الذهب، وبيع الأثمان بعضها ببعض، وهو الصرف.

والأدلة من السنة كثيرة، نقتصر منها على ما يأتي:

1-

عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (3) .

2-

قال أبو المنهال: (سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهما عن الصرف، فكل واحد منهما يقول هذا خير مني، فكلاهما يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا)(4) .

3-

عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما)) (5) .

4-

عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) (6) .

وفي لفظ: ((إلا يدا بيد)) ، وفي لفظ:((إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء)) .

(1) صحيح الترمذي مع شرح ابن العربي 5/214

(2)

المغني 6/7

(3)

صحيح مسلم بشرح النووي 4/98؛ ورواه الجماعة إلا البخاري

(4)

صحيح البخاري بشرحه 4/382، وانظر صحيح مسلم بشرحه 4/100

(5)

صحيح مسلم 4/100

(6)

صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 4/379 و380؛ صحيح مسلم بشرحه 4/96

ص: 72

5-

ما رواه عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا، قال: فسأله رجل فقال: يدا بيد فقال: هكذا سمعت)) (1) .

فهذه الأحاديث كلها صحيحة، وقد دلت على جواز التجارة في الذهب، والفضة، للاستفادة من تغيرات الأسعار، سواء كانا سبائك، أو تبرا، أو نقدا؛ حيث جاء بعضها بلفظ: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، بصيغة العموم، وبعضها بلفظ الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما. وفي هذا دليل على جواز الصرف، والتجارة فيه، لكن الحكم بالجواز في جميع الحالات مقيد بشروط (2) حيث يشترط التقابض بين البائع والمشتري في المجلس، والحلول، وأن لا يشترط الخيار لهما، أو لأحدهما، كما يشترط التماثل إذا اتحد الجنس مثل أن يكون ذهبا بذهب، أو فضة بفضة، أو أوراقا نقدية من عملة واحدة كريالات سعودية، أما إذا اختلف الجنس مثل أن يكون ذهبا بفضة، ومثل أن يكون المبيع ذهبا، والثمن أوراقا نقدية، أو شيكا يمثل أوراقا نقدية، أو يكون المبيع جنيهات مصرية بدولارات أمريكية فانه لا يشترط التماثل. ((فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .

فإذا التزمت الشروط السابقة، ولم تؤد التجارة فيها إلى الاحتكار، فإن التجارة فيها جائزة.

ولأن صرف النقود من عملة إلى عملة أمر ضروري لعموم الناس، فالحجاج والمعتمرون مضطرون إلى تحويل نقودهم إلى عملة المملكة العربية السعودية، ثم هم مضطرون إلى تحويل الفائض عندهم إلى عملات بلادهم عند عودتهم، وكذلك التجار مضطرون إلى تحويل نقودهم إلى عملة البلاد التي يستوردون منها بضائعهم، ومثلهم السياح ونحو ذلك. وهذا في كل الأزمان؛ فهو جائز نصا، والحكمة تقتضيه.

إذ الحكمة من إباحته هي الإرفاق بالإنسان؛ بإتاحة الفرصة له في استبدال نقد بنقد. وقد كثرت المبادلات التجارية بين الأفراد، وبين الأمم في العصر الحاضر، وتعددت ووسائلها.

وقد ذكر بعض العلماء أقوالا في التجارة في النقود ربما فهم البعض منها المنع أو الكراهة. سنذكر بعضا منها، ثم نجيب عليها إن شاء الله.

(1) صحيح مسلم بشرحه 4/101، انظر: صحيح البخاري بشرحه 4/379

(2)

سوف نعرض لتفصيل هذه الشروط في المبحث الآتي إن شاء الله

ص: 73

جاء في حاشية الرهوني والمدني: (وحكمه الأصلي الجواز وهو ظاهر الأقوال، والروايات، وكره مالك العمل به إلا لمتق، وقيل: يكره أن يستظل بظل صيرفي)(1) .

وقال ابن رشد: (وباب الصرف من أضيق أبواب الربا، فالتخلص من الربا على من كان عمله الصرف عسير، إلا لمن كان من أهل الورع والمعرفة بما يحل فيه ويحرم منه وقليل ما هم؛ ولذلك كان الحسن يقول: إذا استسقيت ماء فسقيت من بيت صراف فلا تشربه، وكان أصبغ يكره أن يستظل بظل صيرفي، قال ابن حبيب: (لأن الغالب عليهم الربا؛ وقيل لمالك رحمه الله أتكره أن يعمل الرجل بالصرف، قال: نعم إلا أن يكون يتق الله في ذلك)(2) .

فكلام الإمام مالك، وأصبغ وابن رشد لا يدل على عدم جواز عقد الصرف، أو المنع منه، وإنما يدل على أن كثيرا ممن يعملون في هذا المجال ينقصهم العلم بأحكامه أو لا يتورعون فيه، مما يؤدي إلى انزلاقهم في الحرام، لكن مثل هاتين الحالتين لا تعودان على حكم الصرف كنوع من البيوع بالحرمة، أو الكراهة، وإنما تلحق الحرمة والبطلان العقد إذا لم يستوف شروط الصرف، أو اختل شيء من أركانه. إلا أنه يجب ألا يمارس التجارة فيه إلا من عرف أحكامه واستوفى شروطه عند تطبيق عقوده. وحينئذ فإنه لا مانع ولا كراهة.

وقال أبو حامد الغزالي: (خلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما

إذ لا غرض في أعيانهم،

فإذن خلقهما الله لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل، ولحكمة أخرى وهو التوسل بهما إلى سائر الأشياء؛ لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة فمن ملكها فكأنه ملك كل شيء

وهو وسيلة إلى كل غرض وكالحروف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره

فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما، فإذن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه؛ لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم، ولا يحصل الغرض المقصود به، وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمرو خاصة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران، وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة للمقادير مقومة للمراتب) . ثم استشهد بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ، وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة كفر النعمة، وكان أسوأ حالا ممن كنز

وذلك إن الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات

ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود

، وقال من عامل معاملة الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة، فإذا اتجر في أعيانهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة؛ إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم

فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيدا عنده وينزل منزلة المكنوز،

فلا معنى لبيع النقد إلا اتخاذ النقد مقصودا للادخار وهو ظلم) (3) .

(1) 5/61، المطبعة الأميرية، مصر 1306

(2)

المقدمات 2/14

(3)

إحياء علوم الدين 4/142 و143 و144

ص: 74

(فإن قلت لم جاز بيع أحد النقدين بالآخر؛ ولم جاز بيع الدرهم بمثل؟ فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر في مقصود التوصل، إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم تتفرق في الحاجات قليلا قليلا، ففي المنع منه تشويش المقصود الخاص به؛ وهو تيسير التوصل به إلى غيره، وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث)(1) .

فالجواب أن الغزالي لا يمنع جواز بيع أحد النقدين بالآخر؛ لكنه يرى أن كنزهما كفر لنعمة الله التي جعلها فيهما؛ فإن كان مراده بالكنز عدم إخراج زكاتهما – مع بعده – فهذا حرام بلا ريب؛ قال ابن كثير: (وأما الكنز فقال مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر هو المال الذي لا تؤدى زكاته، وروى الثوري وغيره عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز، وقد روي هذا عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا، وقال عمر بن الخطاب نحوه: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض)(2) .

وإن كان يقصد ادخارهما ادخارا سلبيا غير منتج، فهذا إذا وقع من بعض الأفراد فإنه لا يؤثر، في الغرض منهما؛ وهو توسطهما بين السلع؛ لأنه لا يمكن أن يدخر كل الناس، أو معظمهم، ما بأيديهم من نقود في وقت واحد. مع ادخارهما – ولو دفع زكاتهما- خلاف الأولى؛ لأن الأموال المعطلة إذا استغلت في التجارة، أو الزراعة، أو الصناعة، كثر الإنتاج، أو تحسن، وكثر تداول البضائع، وساهم في التخفيف من البطالة. أما إذا كان الادخار يؤدي إلى الاحتكار فانه حينئذ يكون محرما. واحتكار النقود مثل احتكار الطعام.

وأما قوله: (فإذا اتجر في أعيانهما قد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم) . فغير مسلم؛ فما دام أن الله سبحانه وتعالى أجاز بيعهما وشراءهما على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق ذكره، فإن من لوازمه وجود من يتخذها مقصودا لتتوفر لمن أراداها. وهذه هي الحكمة الربانية، إذ لو لم يوجد الصيارفة الذين يشتغلون بالتجارة في النقود لشق على الناس، أو تعذر في بعض الأحيان حصول مقصودهم من العملات الأخرى. وقد ازدادت هذه الحكمة وضوحا في هذا العصر حيث أصبح الذهب والفضة سلعة، ولم يعد وسيطا للتبادل، وحلت محله الأوراق النقدية التي يتداولها الناس اليوم. وقولي هذا لا يعني تخلف علة الربا في الأثمان، وفي جنسها، بل هي باقية فيهما، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله.

(1) إحياء علوم الدين 4/142 و143 و144

(2)

تفسير القرآن العظيم 3/350

ص: 75

المبحث الثاني

شروط الصرف

حيث إن عقد الصرف، بيع الأثمان بعضها ببعض، ولا يقصد به إلا الزيادة والفضل دون الانتفاع بعين البدل في الغالب، والربا كذلك فيه زيادة وفضل، وضع الشارع لجواز الصرف شروطا تميزه عن الربا، وتمنع الناس من الوقوع فيه، والصرف من أقسام البيع العام فما كان ركنا للبيع فهو ركن للصرف، وما كان شرطا للبيع فهو شرط للصرف. إلا أنه يشترط للصرف شروط زائدة على شروط البيع الخاص.

وفي تجارة الذهب إما أن يكون الثمن نقودا، أو غير نقود. فإن كان الثمن غير نقود؛ كالعروض؛ مثلية أو قيمية. وليس ذهبا، ولا فضة؛ فإن عقد شراء الذهب يكون صحيحا، إذا توافرت فيه شروط البيع.

فإذا كان الثمن نقودا ذهبية، أو فضية، أو أوراقا نقدية، أو أوراقا تمثل نقودا؛ كالشيك، أو تبرا، أو سبائك، وكذلك إذا كان المبيع فضة، والثمن فضة، أو تبرا؛ فإنه يشترط حينئذ الشروط التالية:

1-

تقابض البدلين قبل الافتراق وإن اختلف الجنس:

يشترط في عقد الصرف قبض البدلين جميعا قبل مفارقة أحد المتصارفين للآخر بإجماع الفقهاء (1) ، سواء أكان بيع جنس بجنسه كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، أو بغير جنسه كبيع الذهب بالفضة، فإن افترق المتصارفان بأبدانهما قبل قبض العوضين، أو أحدهما بطل العقد منعًا من الوقوع في ربا النسيئة. لما روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (2) .

(1) المبسوط 14/10؛ بدائع الصنائع 5/215؛ فتح القدير 7/135؛ الهداية 7/135؛ الشرح الكبير 3/26، المقدمات 2/414، القوانين الفقهية ص250، بداية المجتهد 2/197؛ روضة الطالبين 3/379؛ المجموع 10/85، مغني المحتاج 2/24؛ المغني 6/112، كشاف القناع 3/266

(2)

صحيح مسلم بشرح النووي 4/98؛ ورواه الجماعة إلا البخاري

ص: 76

ولما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا)) (1) . ((بعضه على بعض ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد)) (2)، ولما رواه مالك بسنده عن مالك بن أوس ابن الحدثان النصري أنه التمس صرفا بمئة دينار. قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فترواضنا (3) حتى اصطرف مني وأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتيني خازني من الغابة (4) . وعمر بن الخطاب يسمع. فقال عمر: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء)) رواه البخاري ومسلم (5) .

ومعنى هاء وهاء: خذ وهات.

فقوله صلى الله عليه وسلم: ((يدا بيد)) ، وقوله ((إلا هاء وهاء)) يدلان على وجوب التقابض.

وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد (6) .

تفسير القبض في الأثمان:

اتفق الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أن التقابض في الصرف، إنما يكون بتناول النقود، أو السبائك أو نحوها باليد فيشترط القبض الحقيقي (7) . أو ما يقوم مقامه، في بيع الأثمان بعضها ببعض وما يأخذ من العملات. فيسلم البائع المبيع إلى المشتري ويسلم المشتري الثمن إلى البائع في مجلس العقد، قبل افتراقهما؛ وإن طالت مدة المجلس.

وقولي: أو ما يقوم مقامه؛ أعني به، مثل القيد الدفتري، أو قبض الشيك، لا التخلية.

وهناك رواية عن الإمام أحمد أن قبض كل شيء بالتخلية. قال ابن قدامة: (وقد روي أبو الخطاب عن أحمد إن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز؛ لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل، فكان قبضا له كالعقار)(8) .

(1) ولا تشفوا: بضم أوله وكسر الشين أي تفضلوا. والشف بالكسر الزيادة، ويطلق على النقص. الفتح 4/380

(2)

صحيح مسلم بشرحه 4/95 واللفظ له، وانظر صحيح البخاري بشرحه 4/380

(3)

فترواضنا: أي تجارينا الكلام في قدر العوض بالزيادة النقص كأن كل منهما كان يروض صاحبه

(4)

الغابة: الأجمة والغيضة، وهي ها هنا: موضع مخصوص بالمدينة، كان لهم فيه أملاك.

(5)

موطأ مالك بشرح الزرقاني 3/282؛ البخاري بشرحه 4/378؛ مسلم بشرحه 4/96، جامع الأصول 1/454

(6)

الإجماع ص79، المغني 6/112

(7)

فتح القدير 7/135؛ رد المحتار 4/234، الدر المختار للحصكفي 4/182 و183، تبيين الحقائق 4/135؛ حاشية الطحطاوي على الدر المختار 3/137؛ شرح اللباب للميداني 1/221، الفتاوى الهندية 3/217. القبض في العقود المالية في الفقه الحنفي؛ للدكتور محمد زكي عبد البر، نشر مجلة البحوث المعاصر؛ العدد الخامس ص74، الذخيرة 5/120؛ شرح تنقيح الفصول ص456؛ المجموع 10/91، مغني المحتاج 2/72، المغنى 6/187، شرح منتهى الإرادات 2/192، كشاف القناع 3/247؛ المحرر في الفقه 1/323؛ مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد م333

(8)

المغني 6/186؛ الإنصاف 4/470

ص: 77

قال بعض الباحثين المعاصرين: إن القبض عند الحنفية هو التخلية، في كل شيء، وجعل منه القبض في الصرف. واعتمدوا على نقول عامة من بعض كتب الحنفية.

والصحيح ما ذكرته. لأن ما ذكره ليس فيه نص على الصرف. وإليك بعض ما هو منصوص فيه عندهم. قال ابن الهمام: (ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق بإجماع الفقهاء. وفي فوائد القدوري: المراد بالقبض هنا القبض بالبراجم (1) ، لا بالتخلية يريد باليد) (2) .

وقال الحصكفي: (والمعتبر تعيين الربوي في غير الصرف ومصوغ ذهب وفضة بلا شرط تقابض حتى لو باع برا ببر بعينهما وتفرقا قبل القبض جاز)(3) .

يعني أن الصرف – ومنه مصوغ ذهب، فضة – لا يكفي فيه التعيين كما هو في باقي الربويات، وإنما لا بد من القبض باليد.

وقال أيضا: (والتقابض بالبراجم لا بالتخلية قبل الافتراق)(4) .

قال ابن عابدين: (والتقييد بالبراجم للاحتراز عن التخلية، واشتراط القبض بالفعل لا خصوص البراجم)(5) .

والذي أراه أن التخلية لا تكفي لتحقيق القبض في الصرف. وأنه لا بد من القبض بالأيدي في بيع الذهب وغيره مما يدخل في بيع الصرف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ((يدا بيد)) . وقوله: ((إلا هاء وهاء)) . لكن يمكن أن يقبل الذهب، أو يقبض ما يمثل الذهب، كالشيك، أو السند الذي يتضمن قيده في حسابه في المصرف، سواء كان بنفسه أو بوكيله. وبهذا يكون قد تم التقابض بالأيدي (6) .

مع أنه يصعب في بعض الأحوال قبض الذهب أو نحوه، في هذا العصر بالأيدي، أو حيازته في الجيب، ونحوه. وذلك إما لكثرته وإما لما قد يتعرض إليه حامله من خطر.

فإن قيل يصح القبض بالتخلية في الصرف لحديث ابن عمر – رضي الله عنهما –قلت يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وأخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وأخذ الدنانير وأخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (7) . قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.

(1) البراجم: جمع برجمة، وهي مفاصل الأصابع التي بين الأشاجع والرواجب، وهي رؤوس السلاميات من ظهر الكف، إذا قبض القابض كفه نشزت وارتفعت. انظر الصحاح؛ لسان العرب، المصباح، وانظر رد المحتار 4/234

(2)

فتح القدير 7/135

(3)

الدر المختار 4/182 و183

(4)

الدر المختار 4/182 و183

(5)

رد المحتار 4/234

(6)

سوف يأتي إيضاح لصور القبض الحكمي، والشيك، والقيد الدفتري، والوكالة في الصرف

(7)

سنن أبي داود، تحقيق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد: 3/650، مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر: 9/85، رقم الحديث 6239 وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. المستدرك 2/44

ص: 78

فالجواب إن هذا جائز لا لأنه مخلى بين البائع وبين الثمن الذي باع الإبل به وإنما لأنه باع ممن هو قابض له؛ (ولأن المطلوب في الصرف المناجزة، وصرف ما في الذمة أسرع مناجزة من صرف المعينات؛ لأن صرف ما في الذمة ينقضي بنفس الإيجاب والقبول والقبض من جهة واحدة، وصرف المعينات لا ينقضي إلا بقبضها معا، فهو معرض للعدول، وصرف ما في الذمة أولى بالجواز)(1) ، يؤيده أنه لا يجوز بيعها على شخص آخر، ولو كانت التخلية كافية في الصرف؛ لجاز بيع تلك الدراهم التي لم يقبلها على شخص آخر.

وجاء في المنتقى للباجي: (إن حلول ما في الذمة يقوم مقام حضور ما هي مشغولة به، والقبض يتنجز فيه بإبرائها منه)(2) .

((يدا بيد)) :

يطلقه جماهير الفقهاء على تقابض البدلين من العاقدين في مجلس العقد (3) . أي بالتعجيل والنقد (4) . جاء في المصباح المنير (بعته يدا بيد: أي حاضرا بحاضر. والتقدير: في حال كونه مادا يده بالعوض، وفي حال كونه مادا يدي بالمعوض، فكأنه قال: بعته في حال كون اليدين ممدودتين بالعوضين)(5) .

وقال الحنفية: إن معنى ((يدا بيد)) إنما هو التعيين دون التقابض وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ربا البيوع ((يدا بيد)) أي عينا بعين. ولكن نظرا لكون النقدين لا يتعينان بالتعيين ولا يتحقق التعيين فيهما قبل التقابض، اعتبر التعيين دون التقابل في غير الصرف من بيع الأموال الربوية ببعضها، وذلك لحصول المقصود وهو التمكن من التصرف بالتعيين فيها؛ بخلاف النقدين، فحيث أنهما لا يتعينان إلا بالقبض اشترط في الصرف التقابض (6) .

((هاء وهاء)) :

قال الخطابي: ((هاء وهاء)) معناه التقابض، وأصحاب الحديث يقولون (ها وها) مقصورين، والصواب مدهما ونصب الألف منهما. وقوله ((هاء)) إنما هو قول الرجل لصاحبه إذا ناوله الشيء (هاك) أي خذ. فأسقطوا الكاف منه وعوضوه المد بدلا من الكاف (7) .

وقال ابن حجر: ((إلا هاء وهاء)) بالمد فيهما وفتح الهمزة، وقيل بالكسر، وقيل بالسكون، وحكى القصر بغير همزة وخطأها الخطابي، ورد عليه النووي وقال: هي صحيحة لكن قليلة والمعنى خذ وهات (8) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء)) أي إن هذه البيعات لا تجوز إلا إذا قال كل واحد منهما لصاحبه: (هاء) أي خذ وهات، والمراد به القبض (9) .

(1) شرح الآبيّ على صحيح مسلم 4/264

(2)

4/363

(3)

فتح الباري 4/378؛ شرح السنة للبغوي 8/60؛ المجموع 10/92؛ المغني 6/112

(4)

المغرب للمطرزي ص510، مادة: اليد؛ الآبي على صحيح مسلم 4/271

(5)

مادة اليد

(6)

رد المحتار 4/182 و183؛ تبيين الحقائق للزيلعي 4/89

(7)

معالم السنن مع سنن أبي داود 3/643؛ وانظر: فتح القدير 7/18؛ المجموع 10/91

(8)

فتح الباري 4/378؛ نيل الأوطار 5/1913

(9)

تبيين الحقائق: 4/89

ص: 79

قبض البعض:

إذا حصل التقابض في بعض الثمن دون بعضه وافترقا بطل الصرف فيما لم يقبض باتفاق الفقهاء. واختلفوا فيما تم فيه التقابض على قولين:

الأول: صحة العقد فيما قبض وبطلانه فيما لم يقبض. وهذا رأي جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية، وهو مذهب عند الحنابلة، وقول عند المالكية (1) .

الثاني: بطلان العقد في الكل؛ وهو قول عند المالكية ووجه آخر عند الحنابلة (2) .

قال المالكية: (إن انعقد بينهما الصرف على أن يتأخر منه شيء فسخ، وإن عقد على المناجزة ثم أخر أحدهما عن صاحبه بشيء منه انتقض الصرف فيما وقعت فيه النظرة باتفاق. فإن كان النظرة في أقل من صرف دينار انتقض صرف دينار، وإن كان في أكثر من صرف دينار انتقض صرف دينارين وإن كان في أكثر من صرف دينارين انتقض صرف ثلاثة دنانير وهكذا أبدًا. وما وقع فيه التناجز على اختلاف، وإن وقع على المناجزة ثم تأخر منه شيء لغلط أو سرقة أو نسيان مضى الصرف فيما وقع فيه التناجز باتفاق، وفيما وقع فيه التأخير إن رضي هذا الذي هو له بتركه على اختلاف)(3) .

والراجح عندي مذهب الجمهور؛ وهو صحة الصرف فيما قبض وبطلانه فيما لم يقبض.

والافتراق المانع من صحة الصرف وافتراق العاقدين بأبدانهما عن مجلسهما، فيأخذ هذا في جهة، وهذا في جهة أخرى، أو يذهب أحدهما ويبقى الآخر، أما إذا كانا في مجلسهما لم يبرحا عنه لم يكونا مفترقين وإن طال مجلسهما، لانعدام الافتراق بالأبدان، وهكذا إذا قام عن مجلسهما فذهب معا في جهة واحدة إلى منزل أحدهما أو إلى الصراف فتقابضا عنده، لم يفارق أحدهما صاحبه. وهذا كله مذهب جمهور الفقهاء؛ الحنفية؛ الشافعية، والحنابلة (4) . قال النووي:(ومذهبنا صحة القبض في المجلس، وإن تأخر عن العقد يوما أو أياما أو أكثر ما لم يتفرقا)(5) وذكر الحنفية صورا أخرى يصح فيه الصرف؛ كما إذا نام العاقدان في المجلس، أو أغمي عليهما أو على أحدهما أو نحو ذلك (6) .

(1) تبيين الحقائق 4/138؛ شرح العناية على الهداية 7/143؛ بداية المجتهد 2/198؛ مواهب الجليل 4/306؛ نهاية المحتاج 3/426؛ حاشية القليوبي 2/167؛ المغني 6/113؛ الإنصاف 5/45

(2)

المدونة 3/393؛ مواهب الجليل؛ المقدمات 2/15؛ بداية المجتهد 2/198؛ الكشاف 3/266؛ الإنصاف

(3)

البيان والتحصيل 6/441؛ جواهر الإكليل 4/307؛ مواهب الجليل؛ المقدمات؛ بداية المجتهد

(4)

البدائع 5/215، فتح القدير 7/17؛ المجموع 10/91، مغنى المحتاج 2/24؛ كشاف القناع 3/266

(5)

شرح النووي على صحيح مسلم 4/97

(6)

البدائع

ص: 80

2-

الحلول:

يشترط في الصرف أن يكون البدلان حالَّيْنِ. فلا يجوز للعاقدين أو أحدهما اشتراط التأجيل، فإن اشترطاه لهما، أو لأحدهما، فسد الصرف، لأن قبض البدلين مستحق قبل الافتراق، والأجل يفوت القبض المستحق بالعقد شرعا، فيفسد العقد (1) .لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة وغيره ((يدا بيد)) وقوله في حديث أبي سعيد الخدري ((: ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) (2) . أي لا يباع منها حاضر في المجلس بغائب عن المجلس سواء كان مؤجلا أو حالا.

وقال الحنفية: إن اشترط الأجل ثم أبطل صاحب الأجل أجله قبل الافتراق، فنقد ما عليه ثم افترقا عن تقابض، ينقلب العقد جائزا عندهم، خلافا لزفر (3) .

3-

التماثل في البدلين:

إذا كان البدلان من جنس واحد؛ كأن بيع ذهب بفضة أو فضة بفضة، وجب فيه التماثل في الوزن، وإن اختلفا في الجودة، وهذا باتفاق الفقهاء (4) .

والشرط التساوي في العلم، لا في نفس الأمر فقط، فلو لم يعلما التساوي، وكانا في نفس الأمر متحققا لم يجز إلا إذا ظهر في المجلس. لما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) متفق عليه (5) .

((ولا تشفوا)) من أشف والشف بالكسر الزيادة، ومعناه لا تفضلوا بعضها على بعض. وهو تأكيد لقوله:((مثلا بمثل)) . وذلك للمنع من التفاضل.

أما إذا اختلف جنس المبيع عن جنس الثمن مثل إن كان ذهبا بفضة وفضة بذهب، أو أيا منهما بنقود ورقية، فانه لا يشترط حين إذا التماثل، فلا مانع من التفاضل، لأن ربا الفضل يقع في الجنس الواحد بعضه ببعض. وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (6) .

(1) البدائع 5/219؛ الشرح الصغير للدرديري 2/15؛ مغني المحتاج 2/24؛ المغني 2/112 و113؛ الكشاف 3/264

(2)

صحيح البخاري بشرحه 4/380

(3)

البدائع

(4)

رد المحتار 4/234؛ الشرح الصغير 2/15؛ القوانين الفقهية ص251؛ مغني المحتاج 2/24؛ كشاف القناع 3/252

(5)

صحيح البخاري بشرحه 4/379 و380؛ صحيح مسلم 4/96

(6)

صحيح مسلم بشرح النووي 4/98

ص: 81

4-

الخلو عن خيار الشرط:

اختلف الفقهاء في اشتراط الخيار في الصرف هل يفسد العقد؟ أو لا يفسده؟

فذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية في المذهب عندهم إلى أن الصرف لا يصح مع خيار الشرط؛ فإن شرط الخيار فيه لهما أو لأحدهما فسد الصرف؛ (لأن القبض في هذا العقد شرط بقائه على الصحة، وخيار العقد يمنع انعقاد العقد في حق الحكم، فيمنع صحة القبض. ولو أبطل صاحب الخيار خياره قبل الافتراق ثم افترقا عن تقابض ينقلب إلى الجواز (عند الحنفية) خلافا لزفر) (1) .

وقال الحنابلة: لا يبطل الصرف باشتراط الخيار فيه كسائر الشروط الفاسدة في البيع، فيصح العقد ويلزم بالتفرق، ويبطل الشرط ويلغو (2) .

والراجح عندي مذهب الجمهور؛ لما عللوا به.

والحكمة في اشتراط التقابض، والحلول؛ للمنع من الوقوع في ربا النسيئة؛ فحرم التفرق قبل قبض العاقدين؛ لأنه يفضي إلى أن يحصل لمن عجل له أخذ العوض فائدة لا تحصل لنظيره حيث إنه يستطيع الإفادة من الثمن الحاضر بتقليده في التجارة، والإفادة من تقلبات الأسعار بما يحقق له الربح، وقد لا يتحقق له شيئا من ذلك، ولكن أخذه للعوض دون العاقد الآخر مظنة لحصول ما تقدم، والمظنة في الشريعة تقام مقام المئنة (3) .

وقيل (إن الأجل فضل حكمي، ولهذا لا يجوز بيع أموال الربا وما ألحق بها في علته، بعضها ببعض مؤجلا سواء اتحد جنسها أو اختلف لأن الأجل زيادة حكمية في أحد البدلين كالزيادة الحقيقية)(4) .

والأجل ليس مالا، فلا يجعل بمجرده ثمنا؛ لأن الزمن ليس سلعة تباع وتشترى (5) .

والحكمة من اشتراط التماثل للمنع من الوقوع في ربا الفضل، فلو جاز الفضل في الجنس الواحد لوقع الناس في الربا، وبالتالي فإن هذا يؤدي إلى انقطاع المعروف بين الناس، والتراحم، والإحسان. فلا يقرض أحد الآخر إلا بفائدة ربوية، ولهذا جاء الشرع باشتراط التماثل في بيع الذهب بالذهب؛ حتى تطيب نفس المقرض بأن يقرض أخاه ولا ينتظر زيادة مادية، وإنما ينتظر الأجر من الله.

(1) البدائع 5/219؛ المبسوط 14/23؛ فتح القدير 7/138؛ الذخيرة 5/31؛ المقدمات 2/15؛ مواهب الجليل 4/308؛ مغني المحتاج 2/24؛ المهذب 2/272

(2)

كشاف القناع 3/266؛ شرح منتهى الإرادات 2/201

(3)

حكم قيمة الزمن؛ بحث للدكتور حمزة بن حسين الفعر، نشر بمجلة أم القرى؛ العدد السابع ص90. وانظر: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، طبع ونشر الكليات الأزهرية سنة 1388هـ 2/102 – 188 و139 - 141

(4)

مجلة مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، العدد 2، المجلس الأول، سنة 1404هـ ص123، بحث للدكتور أحمد فهمي أبو سنة؛ وانظر: الربا والمعاملات المصرفية: للدكتور عمر بن عبد العزيز المتروك ص40

(5)

التفسير الكبير للرازي 7/97. وانظر: الربا والمعاملات المصرفية ص50

ص: 82

المبحث الثالث

علة الربا في الذهب والفضة

ذهب قليل من العلماء إلى قصر الربا على الأصناف الستة التي ورد بها الحديث الشريف. وفي الذهب والفضة، والبر والشعير، والتمر والملح. وعدم جريانه في غيرها؛ بقاء على أصل الإباحة؛ لقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] .

وأصحاب هذا القول فريقان؛ فريق قال بهذا القول لأنه لا يرى القياس دليلا شرعيا؛ وهم الظاهرية وغيرهم من نفاة القياس.

والفريق الثاني: يقر بأن القياس دليل شرعي، ولكنه لا يعمل به في هذه المسألة، وحكي عن طاووس وقتادة، وهو قول عثمان البتي، وابن عقيل من الحنابلة، وأبي بكر البقلاني، وارتضاه من المتأخرين الصنعاني، والصديق حسن خان (1) . فعثمان البتي يرى عدم القياس في الربا؛ لأنه يشترط في القياس أن يقوم دليل في كل أصل أنه معلول ولم يظهر له هنا، والحديث ورد فيه ستة أصناف فإذا قسنا عليها غيرها صار ورودها لا معنى له، فيبطل العقد، ولا يجوز كما في قوله:(خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم)(2) . وأبو بكر البقلاني يرى أن القياس في الربا قياس شبه، وهو لا يرى الاحتجاج بقياس الشبه (3)، وأما ابن عقيل فقال: إن علل القائسين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس (4) .

واتفق القائلون بالقياس – عدا من ذكرنا – على أن ثبوت الربا في الأصناف المذكورة بعلة، وأنه يثبت في كل ما وجدت فيه علته؛ لأن القياس دليل شرعي، فيجب استخراج علة هذا الحكم، وإثباته في كل موضع وجدت علته فيه.

(1) فتح القدير 7/5؛ المبسوط 12/113، التمهيد 4/91، الفروق 3/263، المغني 6/54، إعلام الموقعين 2/131، سبل السلام 3/38؛ الروضة الندية ص251

(2)

فتح القدير؛ المبسوط

(3)

الفروق

(4)

إعلام الموقعين

ص: 83

وقد اختلف العلماء في علة الربا في الذهب والفضة وسأقتصر على أهم آرائهم في هذا الشأن.

أولا: قال بعض العلماء: إن علة ربا الفضل في الذهب والفضة هي الوزن مع اتفاق الجنس، وأما ربا النسيئة فعلته هي أحد وصفي علة ربا الفضل؛ الوزن، أو اتحاد الجنس وهو مذهب الحنفية (1) ، وأحمد في أشهر الروايات عنه والزهري، وحماد والثوري والنخعي، وإسحاق (2) .

وعلى هذا القول يحرم كل موزون بيع بجنسه إذا كان متفاضلا، فالذهب بالذهب متفاضلا ربا. ويشترط لصحته التساوي في الوزن والحلول، والتقابض. وعلى هذا يجري الربا في كل موزون كالحديد والنحاس والرصاص ونحوها من الموزونات.

ثانيا: إن علة الربا في الذهب والفضة هي الثمنية الغالبة، أو جوهر الثمنية غالبا؛ وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن مالك (3) .

ويعبر الشافعية عن ذلك بكونهما جنس الأثمان غالبا؛ وذكروا جنس الأثمان ليشمل التبر والمضروب، والحلي، والأواني الذهبية والفضية، وإن لم تكن ثمنا. وقالوا غالبا: احترازا من الفلوس إذا راجت رواج النقود (4) .ومنهم من يعبر عن العلة بكونهما قيم المتلفات، ومنهم من جمعهما (5) .وهذه علة قاصرة لا تتعدى إلى غيرهما. وقال النووي:(وفي تعدي الحكم إلى الفلوس إذا راجت وجه، والصحيح: أنه لا ربا فيها لانتفاء الثمنية الغالبة)(6) .

ثالثا: إن علة الربا في الذهب والفضة هي مطلق الثمنية. وهو قول للإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وقول في مذهب الإمام مالك في غير المشهور عنه، وقول يحيى بن سعيد، والليث بن سعد، وهو اختيار أبي الخطاب من الحنابلة، والشيخ موفق الدين بن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم (7) .

ذكر أكثر الباحثين المعاصرين أن للإمام أحمد ثلاث روايات في علة الربا في الذهب والفضة؛ وهي: الوزن والجنس، والثمنية، ومطلق الثمنية، والثمنية الغالبة أو جوهر الثمنية، على اختلاف التعبير بينهم.

(1) بدائع الصنائع 5/183؛ المبسوط 12/113؛ تبيين الحقائق 4/85

(2)

المغني 6/54 و62 و63؛ كشاف القناع 3/251، كتاب الذيل على طبقات الحنابلة 2/127 و128؛ المبدع 4/128؛ الإنصاف 5/11؛ مصنف عبد الرزاق 8/37

(3)

الأم 2/15؛ نهاية المحتاج 3/433؛ حاشية قليوبي وعميرة على المنهاج 2/170؛ المجموع 9/444 و447؛ روضة الطالبين 3/388؛ مغني المحتاج 2/25؛ حلية العلماء 4/147؛ الوجيز 1/136؛ المهذب 1/270؛ حاشية العدوي 5/56؛ التمهيد 1/270 و6/293 وما بعدها

(4)

المجموع9/447

(5)

روضة الطالبين: 3/388

(6)

روضة الطالبين: 3/388

(7)

المدونة 3/395 و396؛ 4/20 و22 و121؛ المغني 6/56؛ المبدع 4/129؛ الإنصاف 5/12؛ حاشية العدوي 5/56؛ الفروع 4/149؛ فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 29/470؛ إعلام الموقعين 2/132؛ حجة الله البالغة 2/286

ص: 84

وقد جاء هذا الفهم من ظاهر عبارات فقهاء الحنابلة كما في المغني، والمبدع، وفتاوى شيخ الإسلام.

والتحقيق أن للإمام رحمه الله روايتين في علة الربا في الذهب والفضة، هما: الوزن والجنس، والثمنية. وذكره فقهاء الحنابلة من الروايات الثلاث هو علة الربا بعموم، يشترط الذهب والفضة، والأصناف الأربعة في اثنتين، وتستقل الأصناف الأربعة بالرواية الثالثة (1) . يؤيد هذا أن ابن القيم عندما تكلم عن علة النقود ذكر هاتين الروايتين فقط (2) . يقول ابن قدامة:(روي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات، أشهرها أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس، وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس)(3) .

(والرواية الثانية، إن العلة في الأثمان الثمنية، وفيما عداها كونه مطعوم جنس)(4) .

(والرواية الثالثة؛ العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا)(5) .

فقصر علة الربا في الذهب والفضة على الروايتين الأولى، والثانية، أما الثالثة فمختصة بالأصناف الأربعة.

وقد فسر بعض فقهاء الحنابلة الثمنية بالثمنية الغالبة فتختص بالذهب والفضة؛ مضروبه، وتبره، وحليه، ونحوه، وهنا تكون علة قاصرة عليهما، منهم أبو الخطاب الكلوذاني (6) . ومنهم من فسرها بالثمنية المطلقة، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم (7) ، وأبي الخطاب، حيث قال في (الانتصار) عند الجواب عن الفلوس:(ثم يجب أن يقولوا إذا نفقت حتى لا يتعامل إلا بها إن فيها الربا، لكونها ثمنا غالبا)(8) وقال في التمهيد: (من فوائدها ربما حدث جنس آخر يجعل ثمنا، فتكون تلك علة)(9) .

(1) انظر: المغني 6/54 و55 و56؛ الكافي 2/54؛ المبدع 4/129

(2)

إعلام الموقعين 2/132؛ وانظر: الفرق بين البيع والربا للشيخ الدكتور صالح الفوزان ص97

(3)

المغني 6/54

(4)

المغني ص56

(5)

المغني ص56

(6)

الهداية 1/136؛ الفروع 4/148

(7)

الفتاوى 29/470؛ إعلام الموقعين 2/132

(8)

الإنصاف 5/12 و13؛ الفروع 4/149. والجدير بالذكر أن ما نقلناه عن أبي الخطاب في الهداية هو تفسير للثمنية عند الإمام أحمد. وما نقلناه عن الانتصار والتمهيد هو اختياره وفرق بين تفسيره، واختياره

(9)

الإنصاف 5/12 و13؛ والفروع 4/149. والجدير بالذكر أن ما نقلناه عن أبي الخطاب في الهداية هو تفسير للثمنية عند الإمام أحمد. وما نقلناه عن الانتصار والتمهيد هو اختياره وفرق بين تفسيره، واختياره

ص: 85

الأدلة:

أدلة القول الأول:

استدل أصحاب القول الأول بأدلة أهمها ما يأتي:

1-

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد واستزاد فهو ربا)) (1) .

2-

عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء)) (2) .

3-

عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري، فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أَكُلُّ تمر خيبر هكذا؟)) قال: لا، والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان)) (3) . وورد في بعض ألفاظ الحديث: وقال ((في الميزان مثل ذلك)) (4) .

وجه الدلالة من الحديثين الأولين: أنه حكم فيهما على كل موزون مع اتحاد نوعه بأنه مثل بمثل (5) . أما الحديث الثالث فقوله: ((وكذلك الميزان)) أي وكذلك الموزون، فدل على أن كل موزون لا يجوز التفاضل فيه (6) .

قال الكاساني بصدد تبيين وجه الدلالة: (وأراد به الموزون بطريق الكناية لمجاورة بينهما مطلقا من غير فصل بين مطعوم ومطعوم)(7) .

4-

جعل الشارع المماثلة شرطا لصحة البيع، وانتفاء الربا، في الأصناف الستة. لأن التفاضل في هذه الأصناف إنما منع؛ لأنه فضل مال خال عن العوض، ويمكن التحرز عنه بحصول التماثل الذي طلبه الشارع، وأداته التي تحققه هي الكيل والوزن (8) .

(1) صحيح مسلم بشرح النووي 4/99 كتاب المساقاة

(2)

صحيح مسلم بشرح النووي 4/99 كتاب المساقاة

(3)

صحيح مسلم بشرح النووي ص104 كتاب المساقاة

(4)

صحيح البخاري بشرحه 4/481

(5)

نيل الأوطار 5/199

(6)

البدائع 5/184

(7)

البدائع 5/184

(8)

المبسوط 12/116 و117؛ البدائع 5/184

ص: 86

أدلة الفريق الثاني:

1-

الذهب والفضة قد خصا بأحكام في مواضع ولم يشاركهما غيرهما في تلك المواضع كتحريم التحلي منهما على الرجال، واتخاذ الأواني ونحوها، فليس بعيدا أن يخصا بتحريم الربا لأجل هذا المعنى (1) .

2-

(إن النقدين جوهران نفيسان بهما تقدر الأموال، ويتوصل بهما إلى سائر الأشياء، فهما أثمان المبيعات غالبا، وقيم المتلفات في جميع أقطار الدنيا، فهما رائجان عند كل الأمم ولدى كل الدول قديما وحديثا وذلك لخصائص ومزايا اعتبرت في هذين المعدنين في الأوصاف والندرة كان بهما أثبت من سواهما، ليكون أساسا للتمويلات ومقياس لقيم سائر الأشياء واسطة بين الإنسان وحاجاته؛ ولهذا قال بعض الفقهاء: إنهم يعتبران أثمان بالخلقة ولا غير مسكوكين)(2) قال أبو حامد الغزالي: (ما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة، ولا لعمرو خاصة، إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران، وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي فيكون حاكمين بين الناس وعلامة معرفة للمقادير مقومة للمراتب)(3) .

أدلة من قال بالثمنية المطلقة:

يمكن أن يستدل لمن قال: إن العلة الثمنية المطلقة، بأن المقصود ليس هو الذهب والفضة، وإنما المقصود ما يحققانه من كونهما وسيطين للتبادل، وكل منهما معيار للقيمة ووحدة للحساب والعد. وهو ما يعبر عنه الفقهاء من كونهما أثمان المبيعات وقيم المتلفات. والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض يتحقق بها المقصود كيف كانت، والنقد من هذا القبيل فإذا تحققت وظائف الذهب والفضة في غيرهما كان مقتضى ذلك الإلحاق (4) .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب؛ فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال ولا يقصد الانتفاع بعينها فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوصل بها إلى تحصيل المطلوب فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها في الذمة مع إنها ثمن من طرفين، فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل فإذا صارت الفلوس أثمانا صار فيها المعنى فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل)(5) .

(1) الحاوي للمواردي 6- لوحة 54/جـ، 56

(2)

الربا والمعاملات المصرفية؛ للدكتور عمر بن عبد العزيز المترك ص105

(3)

إحياء علوم الدين 4/143

(4)

مجموع الفتاوى 29/ 471 و472

(5)

مجموع الفتاوى 29/ 471 و472

ص: 87

ويقول ابن القيم: (التعليل بالثمنية هو الصحيح بل الصواب فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد والرصاص فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا – إلى أن قال – والعلة إذا انتقلت من غير فرق مؤثر دل على بطلانه)(1) .

المناقشة والترجيح:

1-

إن الأحاديث التي ذكر فيها الكيل والوزن غاية ما فيها أنها دلت على أن الوزن يحقق المماثلة المطلوبة شرعا. لكنها لم تحصر تحقق المماثلة فيهما إذ إن المثلية أعم من الكيل والوزن (2) . قال النووي: (لا يلزم من كون الكيل معيارا أن يكون علة)(3) .

قال صديق حسن خان ناقلا عن الشوكاني: (إن ذكره للكيل والوزن في الأحاديث لبيان ما يتحصل به التساوي في الأجناس المنصوص عليها فكيف كان هذا الذكر سببا لإلحاق سائر الأجناس المتفقة في الكيل والوزن بهذه الأجناس الثابتة في الأحاديث، وأي تعدية حصلت بمثل ذكر ذلك، وأي مناط استفيد منها مع العلم أن الغرض بذكرها هو تحقيق التساوي كما قال: مثلا بمثل سواء بسواء)(4) .

وأما الحديث الثالث فأجيب عنه بأن قوله: (وكذلك الميزان) ليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام أبي سعيد الخدري وموقوف عليه، وهذا هو جواب البيهقي (5) . يؤيده رواية هذا الحديث عند مسلم أيضا، والبخاري بدون كلمة ((وكذلك الميزان)) (6) .

وأجاب القاضي أبو الطيب وغيره: (بأن ظاهر الحديث غير مراد فإن الميزان نفسه لا ربا فيه، وأضمرتم فيه الموزون، ودعوى العموم في المضمرات لا يصح)(7) ، لأنه تعميم بدون دليل عليه.

وأجيب أيضا: (أنه يحمل الموزون على الذهب والفضة جمعا بين الأدلة)(8) . (فيكون المقصود هو أن يتساوى النقدان في الوزن لحل مبادلتهما مع اتحاد الجنس، وليس كما يدعون كلمة ((وكذلك الميزان)) تدل بنفسها على حرمة كل مكيل وكل موزون بيع بجنسه مع التفاضل أو مع النسيئة) (9) .

(1) إعلام الموقعين 2/132؛ وانظر: البدائع 5/185

(2)

فتح القدير 7/7 و8

(3)

المجموع 9/402 المكتبة السلفية

(4)

الروضة الندية 2/110، 252

(5)

السنن الكبرى 5/286؛ وانظر: المجموع 10/445

(6)

انظر صحيح مسلم بشرح النووي 5/105 باب المساقاة حديث رقم 91

(7)

المجموع 9/445

(8)

المجموع

(9)

الربا والمعاملات المعاصرة ص100

ص: 88

2-

نقض العلة: التعليل بالوزن منقوض، لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النساء.

وهذا لا يتحقق في عقد السلم؛ لأنه يجوز إسلام الذهب والفضة في سائر الموزونات، مثل الحديد والنحاس، بإجماع الفقهاء؛ وحيث إنه لا يتم التقابض في عقد السلم إلا من طرف واحد، بينما العلة تقتضي أن يتم التقابض من الطرفين، فتخلف الحكم في عقد السلم مع وجود العلة؛ وهي بيع موزون بموزون، فتبين أن العلة منتقضة (1) .

3-

التعليل بالوزن ليس تعليلا بوصف مناسب؛ فلا يصح أن يكون مؤثرا في الحكم؛ أي مظنة لأن يكون الحكم شرع من أجله، بل هو مجرد طرد محض ليس فيه مناسبة (2) .

يقول ابن القيم: (فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما (أي الذهب والفضة) في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه، جاز التفاضل فيه دون النساء، والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها) (3) .

أما التعليل بغلبة الثمنية فهو تعليل بعلة قاصرة على النقدين، والعلة القاصرة لا يصح التعليل بها عند كثير من العلماء؛ منهم أبو حنيفة، والكرخي، وأبو عبد الله البصري، وأحد الوجهين عند الشافعية؛ لعدم الفائدة فيها؛ لأن حكم الأصل قد عرف من النص، وإنما فائدة العلة أن يلحق بالأصل غيره (4) ؛ وهي منقوضة طردا بالفلوس، والأوراق النقدية لأنها أثمان ولا ربا فيها على هذه العلة، وعكسا بالحلي والتبر، وأواني الذهب والفضة، فإنه يقع الربا فيها مع أنها ليست أثمانا (5) .

(1) المغني 6/56؛ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 29/471؛ إعلام الموقعين 2/132؛ المنتقى 4/258؛ الحاوي للماوردي 6/54، 56

(2)

إعلام الموقعين 2/132. الوصف الطردي: هو الذي ليس في إناطة الحكم به مصلحة كالطول والقصر. مسلم الثبوت 2/299؛ مذكرة أصول الفقه للشنقيطي 264. المناسب: (عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودا من شرع ذلك الحكم) الإحكام 3/248؛ وانظر البحر المحيط 5/207؛ شرح الكوكب المنير 4/152. انظر في أنواعه، وتعريف كل نوع، وحجته، كتب الأصول كالإحكام؛ والبحر المحيط؛ والمستصفى؛ وفواتح الرحموت؛ والمحصول؛ وشرح الكوكب المنير

(3)

إعلام الموقعين 2/132

(4)

أصول السرخسي 2/158؛ المجموع 9/445؛ البحر المحيط 5/135؛ شرح مختصر الروضة 3/317

(5)

الإنصاف 5/12؛ الفروع 4/147 وما بعدها

ص: 89

الترجيح:

بعد عرض آراء العلماء في علة الربا في الذهب والفضة، وذكر أدلتهم ومناقشتها، يترجح عندي رأي القائلين بأن العلة مطلق الثمينة. لأن أدلة القائلين بالوزن والجنس، والقائلين بغلبة الثمنية لم يسلم أي منها من اعتراضات قوية؛ ولأن الذهب والفضة وإن كانا يتمتعان بخصائص لا توجد في غيرهما، وأن المضروب منهما ثمن بالاتفاق، إلا أن هذا لا يمنع من وجود الثمنية في غيرهما؛ إذا تحقق فيه القيام بدور النقود؛ ومنها إن صار وسيطا للتبادل، ولقي قبولا عاما، وهذه الخصائص وجدت في غير الذهب والفضة، فدل على أن التعليل بجوهر الثمنية، أو الثمنية الغالبة، إذا قصد بها الذهب والفضة فقط لا يصلح أن يكون علة، لوجود الثمن في غيرهما، مثل الأوراق النقدية التي تكاد تكون النقد الوحيد في العالم في هذه العصور. ومن هنا يتبين أن التعليل بالثمنية، أو الثمنية المطلقة هو الذي يشمل كل نقد، وأنه التعليل الذي يتفق مع مقاصد الشارع.

وقد تنبه أبو الخطاب الكلوذاني، الفقيه الحنبلي المتوفى سنة (510هـ) ، إلى فائدة التعليل بالثمنية، وعدم قصره على الذهب أو الفضة فقال:(من فوائدها ربما حدث جنس آخر يجعل ثمنا، فتكون تلك علة)(1) .

وما أورد على من علل بالثمنية المطلقة بأن الأواني، والحلي من الذهب والفضة يجري فيها الربا وليست أثمانا، وأن هذا يؤدي إلى تخلف العلة عن الحكم.

فالجواب عليه: أن الربا في الذهب والفضة ثابت بالنص، وهو عام يشمل التبر والمضروب، والحلي، والأواني، وقد حكى النووي، وابن عبد البر الإجماع عليه. وأن الثمنية في الذهب والفضة يمتد إلى أصل المضروب، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا، وكان تقدير ثمنيتها بالوزن، والدليل على ذلك ما رواه الترمذي عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فساومنا سروايل وعندي وزان يزن بالأجر فقال النبي صلى الله عليه وسلم للوزان: ((زن وأرجح)) (2) . قال الترمذي حديث حسن صحيح.

ورواه أبو داود وابن ماجه والنسائي، والإمام أحمد، والدارمي.

(1) الإنصاف 5/12 و13؛ الفروع 4/149

(2)

صحيح الترمذي بشرح ابن العربي 6/40؛ وانظر: سنن أبي داود 3/631

ص: 90

فدل الحديث الشريف على أنه يصح التعامل بالأثمان من الذهب والفضة بالوزن. كما يتعامل بها إذا كانت مضروبة ومحددا وزنها عددا؛ والموزون يمكن أن يكون مضروبا، أو سبائك أو تبرا، فدل على أن الثمنية شاملة للذهب والفضة في جميع أحواله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا)(1) .

وبعد أن استقر التعامل بالنقود الورقية في جميع دول العالم، وأصبحت النقد الوحيد الذي يتعامل به الناس اليوم، أو كاد، وبعد أن ثبتت علة الثمنية لها؛ لاكتسابها خصائص النقد، وصدر بهذا إقرار المجامع الفقهية، وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهو ما استقر عليه رأي معظم الكتاب المعاصرين، وبعد أن اختفى التعامل بالذهب كنقد، إلا في نطاق محدود جدا، ومع أن بعض الدول – في العصر الحاضر – تمنع اتخاذ الذهب عملة. ومع أن السبائك الذهبية صارت سلعة تباع وتشترى. ومع كل هذا فإن علة الثمنية الثابتة للدينار قديما لا زالت باقية، وستظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإن التعامل بالنقود الورقية، أو ظهور عملات أخرى في الوقت الحاضر، أو في العصور القادمة لا يغير علة الثمنية، ولا يقلل منها، في الدينار أو الدرهم، ولا وفي السبائك أو الحلي أو التبر، أو أي نوع من أنواع الذهب أو الفضة؛ لأن السنة الشريفة أوجبت التماثل عند بيع أي منهما بجنسه، وأوجبت القبض عند بيع أي منهما بالآخر، فهما الأصل، وغيرهما مقيس عليهما.

***

(1) مجموع الفتاوى 19/248

ص: 91

المبحث الرابع

أثر الجودة في شروط التماثل

تختلف جودة الذهب من جهة تفاوته، وتفاوت عياره؛ ويراد بها مقدار نسبة الذهب الصافي مما يمكن أن يخلط به، مثل أن يكون عيار 24 أو 21 أو 18.

فهل يشترط في بيع بعضه ببعض التماثل؟ أم يجوز التفاضل؟

لا خلاف بين العلماء في أن جيد الذهب ورديئه سواء فيشترط التماثل ويحرم التفاضل، والمراد بالتماثل في الوزن، أو الكيل، أو العدد، أما اعتبار الجودة في الأموال الربوية عند المقابلة بالجنس فهي ساقطة؛ ومنها بيع الذهب بجنسه. سواء كان: تبرا، أو سبائك، أو مضروبا نقودا، صحيحا، أو مكسرا، مصنوعا أو غيره (1) . وإن خالف البعض في الحلي بغيرها (2) .

والدليل على وجوب التماثل، ما أوردناه من الأدلة في شروط الصرف، عند التعرض لشرطي التقابض والتماثل.

والأدلة على عدم اعتبار الجودة منها:

1-

عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة- رضي الله عنهما – ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب (3) فقال له: (أكل تمر خيبر هكذا)، قال: لا، والله يا رسول الله. إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم اتبع بالدراهم جنيبا)) (4) . وهذا لفظ البخاري.

2-

عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدي بمدي، والشعير بالشعير مدي بمدي، والتمر بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي؛ فمن زاد أو ازداد فقد أربى

)) (5) الحديث.

فدل حديث أبي سعيد على أن اعتبار الجودة في التمر ملغاة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء التمر متفاضلا لأجل جودة الجنيب. بل أبطل البيع وأشار إلى الوسيلة الصحيحة عندما يراد شراء الجديد؛ وهي أن يباع الرديء بالدراهم – أي بغير جنس المبيع – ثم يُشترى بالدراهم النوع الجيد الذي يرغبه. وهذا في جميع أموال الربا؛ ومنها الذهب.

(1) الأم 4/79؛ فتح القدير 7/134 و135؛ الشرح الكبير 3/40؛ الفروق 3/264، الفرق 191، اللباب في شرح الكتاب للميداني 2/46؛ المغني 6/60؛ الكشاف 3/261

(2)

سوف نعرض لهذه المسألة بشيء من التفصيل في المبحث الآتي إن شاء الله

(3)

الجنيب: قال مالك: هو الكبيس، وقال الطحاوي: هو الطيب. وقيل: الذي أخرج منه حشفه ورديئه. وقيل: هو الذي لا يخالط بغيره، بخلاف الجمع الذي هو المختلط. انظر: فتح الباري 4/400

(4)

صحيح البخاري بشرحه 4/399؛ صحيح مسلم بشرحه 4/105، جامع العلوم والحكم ص76

(5)

سنن أبي داود 3/646

ص: 92

ودل حديث عبادة: على وجوب التساوي عند اتخاذ الجنس ذهبا بذهب أو فضة بفضة، سواء كان تبرا وهو الذهب أو الفضة قبل أن يضرب، أو عينا؛ وهو الذهب أو الفضة بعد أن يضرب.

ولكي يمكن معرفة نسبة نقاوة الذهب مما يختلط به؛ فإنها تقاس نقاوته كيماويا على أساس (1000 من 1000)، ويكاد الذهب المتداول – غير الحلي والنقود الذهبية – أن يبلغ هذه الدرجة من النقاوة. إذ يشترط أن تكون نقاوة السبيكة القياسية للذهب المتداول دوليا (995: 1000) (1) .

وحيث إن الذهب معدن لدن ومرن؛ فإنه لا يمكن تحويله إلى نقود أو حلي، أو أي مصوغات أخرى إلا إذا كان معه معدن آخر، كالنحاس أو الرصاص، ليكسبه صلابة، فيسهل تحويله. وتقل عدد قيراطات الذهب كلما زادت كمية المضاف إليه، وبالتالي تقل جودته. فيكون الذهب كمادة كيماوية ذات نقاوة 1000: 1000 معادلا 24/24. وهذا أجود عيار في الذهب

و22 قيراطا = 916 جزءا من الألف

21 قيراطا = 875 جزءا من الألف

20 قيراطا = 833 جزءا من الألف

18 قيراطا = 750 جزءا من الألف

14 قيراطا = 583 جزءا من الألف

12 قيراطا = 500 جزء من الألف

وتقل هذه الجودة كلما هبط عيار الذهب (2) . ولكن ما هو حد الرداءة الذي يعتبر معه هذا المعدن – وهو مختلط بغيره اختلاط امتزاج- ذهبا؟

(1) الذهب ودوره في الأنظمة النقدية الدولية؛ إعداد: خورين آكوب جبرائيل ونهاد النقيب؛ إشراف ومراجعة حسن النجفي ص7

(2)

الذهب ودوره في الأنظمة النقدية الدولية؛ إعداد: خورين آكوب جبرائيل ونهاد النقيب؛ إشراف ومراجعة حسن النجفي ص7. وقد اختير رقم 24 لأنه يقبل القسمة على 2 و3 و4 و6 و8 و12 بدون باق

ص: 93

اختلف الفقهاء في حكم صرف النقود المغشوشة عند اتحاد الجنس كذهب بذهب.

فقال الحنفية إذا كان الغالب الذهب، أو تساوي الذهب وما خلط به، أي 12/24 فإنه يأخذ حكم الذهب؛ فيجب التماثل، ويحرم التفاضل. أما إذا كانت نسبة الغش هي الغالبة، فإنه حينئذ يجوز التفاضل. جاء في (بدائع الصنائع) :(الدراهم المضروبة أقسام ثلاثة: إما أن تكون الفضة فيها هي الغالبة، وإما أن يكون الغش فيها هو الغالب، وإما أن تكون الفضة والغش فيها على السواء فإن كانت الفضة فيها هي الغالبة بأن كان ثلثاها فضة وثلثها صفرا أو كانت ثلاثة أرباعها فضة وربعها صفر ونحو ذلك فحكمها حكم الفضة الخالصة لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا سواء، وكذا بيع بعضها ببعض لا يجوز إلا مثلا بمثل لأن اعتبار الغالب وإلحاق المغلوب بالعدم هو الأصل في أحكام الشرع؛ ولأن الدراهم الجياد لا تخلو عن قليل غش)(1) .

لكن متأخري الحنفية وهم مشايخ ما وراء النهر قالوا: الدراهم المضروبة التي غالبها الغش يجب أن تعامل معاملة الخالصة؛ في بابي الربا والصرف. فلا يجوز فيها التفاضل (2) .

وذهب المالكية على الراجح من مذهبهم إلى جواز بيع المغشوش بمثله مبادلة، ومراطلة، كما يجوز بيعه بالخالص من الغش مراطلة. جاء في شرح الخرشي:(وجاز بيع مغشوش بمثله وبخالص، وجعله في الشامل المذهب، ابن عرفة، وهو اختيار ابن محرز واستظهر ابن رشد منعه وإليه أشار بقوله والأظهر خلافه، وأنه لا يجوز بيع المغشوش بالخالص، والخلاف إنما هو في المغشوش الذي لا يجري بين الناس كغيره، وإلا فيجوز اتفاقا كما يظهر من كلام التوضيح، وظاهر كلام ابن رشد دخول الخلاف فيه أيضا، وإنما أعاد العامل في قوله وبخالص لأجل قوله والأظهر خلافه فإن خلاف ابن رشد إنما هو في الثانية)(3) .

وقال الشافعية: (لا يجوز بيع دراهم مغشوشة بمغشوشة، أو بخالصة؛ لاشتمالهما على جنسين ربويين من الجانبين، أو من جانب واحد. وهي مسألة مد عجوة)(4) . وقد تعرضنا لها في المبحث الخامس.

وقال الحنابلة: (إذا بيعت النقود المغشوشة بالمغشوشة من جنسها جاز البيع إذا تساوى ما فيهما من الذهب، أو الفضة والغش، أو كان المعدن الذي حدث به الغش غير مقصود فيها. كالجنيهات الذهبية إذا خلطت بالنحاس أو الصفر؛ لأنها لا تخلو عن قليل غش؛ ووجود مقدار من الغش فيها غير مقصود، فلا يكون من قاعدة مد عجوة. أما إذا تفاوت ما فيهما من الذهب ومن الغش، أو جهل مقدار كل فإنه لا يجوز بيع بعضها ببعض. للعلم بالتفاضل في الأولى، والجهل بالتماثل في الثاني)(5) .

(1) 25/196؛ فتح القدير 7/151

(2)

البدائع؛ فتح القدير 7/153

(3)

5/52، وانظر أيضا: شرح الزرقاني 5/57، ومواهب الجليل 4/335، ومنح الجليل 2/530

(4)

مغني المحتاج 2/28

(5)

كشاف القناع 3/261، 262

ص: 94

والراجح عندي مذهب الحنفية؛ وهو أن الحكم للغالب فإذا زادت نسبة الذهب على المخلوط به مثل إن كانت 13/24، أو تساوت نسبة الذهب مع غيره مثل إن كان عيار 12/24 فإنه يأخذ حكم الذهب في الحلي وغيرهما – عدا النقود – فيجب تطبيق شروط الصرف، ومنها وجوب التماثل، وحرمة التفاضل.

أما إذا كانت نسبة الذهب أقل من المخلوط معه، واختلاطه هو اختلاط امتزاج، يتعذر فصله إلا بفساد المصنوع فإنه حينئذ لا يأخذ حكم الذهب، وإنما يأخذ حكم السلع من حيث أحكام الربا والصرف. فلا يشترط التماثل ولا التقابض.

أما النقود المغشوشة التي غالبها الغش، إذا كانت سكة سائرة فإنه يطبق عليها أحكام الربا والصرف لأنها نقود؛ ثبتت فيها علة الثمنية فيجب التقابض والتماثل إذا بيع بعضها ببعض، ويجب التقابض دون التماثل إذا بيعت بنقود من غير جنسها.

ولأن ما ذكره الحنابلة من وجوب تساوي ما فيهما من ذهب، أمر يتعذر تحقيقه. لأنه – كما ذكرنا سابقا – لا بد من وجود نسبة من الغش في الذهب والفضة، وهذه النسبة تتفاوت من مصنوع إلى مصنوع آخر. ولأن الفقهاء قد اتفقوا على أن جيد الذهب ورديئه سواء في اشتراط التماثل، والرداءة في الغالب تكون بسبب ما يضاف إليه. لكن إذا طغى النحاس أو الرصاص، أو غيرهما على الذهب لم يعد ذهبا فلا يشترط حينئذ التماثل.

***

ص: 95

المبحث الخامس

شراء حلي الذهب أو الفضة بجنسه من غير الحلي

المطلب الأول

تعريف الحلي، والصياغة

أ - الحلي: (ما تزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة)(1)

قال:

كأنها من حسن وشاره والحلي حلي التبر والحجاره

والجمع حلي

قال الفارسي: وقد يجوز أن يكون الحلي جمعا، وتكون الواحدة حلية، كشرية وشري، وهدية وهدي.

والحلية كالحلي، والجمع من حلي وحلي (2) .

وقوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] . جاز أن يخبر عنهما بذلك لاختلاطهما، وإلا فالحلية إنما تستخرج من الملح دون العذب.

وحليت المرأة حليا، وهي حال وحالية: استفادت حليا، أو لبسته. وحلاها، ألبسها حليا أو اتخذه لها. وقوله تعالى:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] عداه إلى مفعولين؛ لأنه في معنى: يُلْبَسُونَ (3) .

ب - الصياغة: عمل الحلي من فضة وذهب ونحوهما (4) . أي تحويلهما إلى حلي جديد صالح للاستعمال. جاء في المصباح المنير: (صاغ الرجل يصوغه صوغا: جعله حليا، فهو صائغ، وصواغ، وهي الصياغة، وصاغ الكذب صوغا اختلقه، والصيغة أصلها الواو: مثل القيمة)(5)(والصيغة العمل والتقدير، وهذا صوغ هذا إذا كان على قدره، وصيغة القول كذا أي مثاله وصورته على التشبيه بالعمل والتقدير)(6) .

المطلب الثاني

آراء الفقهاء في حكم شراء حلي الذهب أو الفضة بجنسه من غير الحلي

لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط التماثل إذا بيع المصوغ بالمصوغ.

أما بيع الذهب المصوغ، كالحلي وغيره بغير المصوغ، كالتبر والمضروب من الدراهم والدنانير، على اعتبار إلغاء الصناعة في المضروب، أو بيع الصحاح بالمكسرة، فللفقهاء في وجوب التماثل، وجواز التفاضل في مقابلة الصنعة مذهبان.

المذهب الأول:

ويري القائلون به أنه لا عبرة للصناعة ولا لغيرها، فيجب التماثل في بيع الجنس بجنسه – ذهب بذهب، أو فضة بفضة – فيحرم بيع مصنوع من الموزونات لم تخرجه الصناعة عن الوزن بجنسه، إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن، سواء ما ماثله في الصناعة أم لا.

وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة (7) والظاهرية والزيدية والإمامية. وممن قال به من العلماء المعاصرين، سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، وصدر به قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (8) .

(1) المحكم لابن سيده 3/339 مادة: الحاء واللام والياء؛ وانظر: لسان العرب، مادة: حلا.

(2)

المصادر السابقة

(3)

المحكم

(4)

المعجم الوسيط 1/548؛ مادة: صاغ

(5)

مادة: صوغ؛ وانظر: المحكم

(6)

المصباح؛ وانظر: المحكم؛ اللسان

(7)

الأم 4/35، الهداية؛ وفتح القدير 7/134؛ ورد المحتار على الدر المختار 4/81؛ المبسوط 14/6؛ الشرح الصغير مع بلغة السالك 2/15؛ مواهب الجليل 4/317؛ التاج والأكليل بحاشية مواهب الجليل 4/317؛ بداية المجتهد 2/196؛ المنتقى 4/258؛ كتاب التلقين 2/368؛ المعونة 2/1022؛ المجموع 10/79، روضة الطالبين 3/378؛ فتح العزيز 8/160؛ المغني 6/60؛ الكشاف 3/252؛ شرح منتهى الإرادات 2/194؛ الإنصاف 5/14

(8)

المحلى 9/547؛ الروض النضير 3/228 و229، كتاب الخلاف للطوسي 2/19؛ شرائع الإسلام 1/110؛ فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم، جمع وترتيب محمد بن قاسم 7/174 و175؛ فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين 2/221 و222؛ الملخص الفقهي، للشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان 2/31؛ فتاوى إسلامية للمشايخ ابن باز، وابن عثيمين، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين 2/263؛ توضيح الأحكام من بلوغ المرام، للشيخ عبد الله البسام 4/21؛ مجلة الدعوة عدد 834 ص27، قرار هيئة كبار العلماء رقم 168 وتاريخ 4/3/1411هـ، فقرة (2)، ونصها:(يرى المجلس بالأكثرية وجوب التماثل في بيع المصوغ من الذهب إذا بيع بذهب غير مصوغ وكذا المصوغ من الفضة إذا بيع بفضة غير مصوغة من غير زيادة مع أحدهما)

ص: 96

المذهب الثاني:

ويقول أصحابه: إذا كانت الصناعة مباحة، كخاتم الفضة، وحلية النساء، وبيعت الحلية بجنسها من غير المصنوع؛ فإنها تباع بالقيمة، ولا يشترط التماثل؛ جعلا للزائد في مقابلة الصنعة.

وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقد جوزاه حالا ومؤجلا، ما لم يقصد كونهما ثمنا؛ أي لم يقصد الثمنية في الحلي، وإنما قصد كونه حليا يلبس. جاء في (الفتاوى الكبرى) :(ومن المسائل التي انفرد بها شيخ الإسلام عن الأئمة الأربعة القول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره كالخاتم ونحوه بالفضة متفاضلا وجعل الزيادة في الثمن في مقابلة الصنعة)(1) واشتهرت نسبته إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، جاء في (كشف القناع) :(وجوز الشيخ المصوغ بقيمته حالا وكذا نساء ما لم يقصد كونهما ثمنا، فإن قصد ذلك لم يجز للنساء)(2) وفي فتاواه نص على عدم الجواز؛ جاء في (مجموع الفتاوى) : (وإذا بيعت الفضة المصنوعة بفضة أكثر منها لأجل الصناعة لم يجز)(3) .

والمشهور عن شيخ الإسلام ما قدمناه. وما جاء في (مجموع الفتاوى) إما أنه قول ثان له، وإما أنه عرف من سؤال السائل أن أحدهما قصد أن يكون ثمنا؛ فلم يجزه بناء على القاعدة عنده.

وقد نسب إلى الإمام مالك (أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورِقه فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزنَ ورقه أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك فأرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه)(4) .

لكن الصحيح أن هذا ليس مذهبا للإمام مالك، ولم يقل به في مسألة الحلي. فليس فيه موافقة لرأي أصحاب القول الثاني.

(1) 3/96؛ الاختيارات الفقهية ص126؛ إعلام الموقعين 2/135 وما بعدها

(2)

3/253؛ وانظر: الفروع 4/149؛ الإنصاف 5/14

(3)

مجموع الفتاوى 29/464؛ مختصر الفتاوى ص324

(4)

بداية المجتهد 2/196

ص: 97

أما أنه ليس مذهبا، ولا قولا للإمام مالك؛ لأن قوله على خلاف؛ لأن أصحابه قد نفوه عنه؛ فقد قال رحمه الله:(ومن أتى إلى الصائغ بورقه ليعمل له خلخالا فوجد عنده خلخالا معمولا فراطله فيه بورقه وأعطاه أجرة عمل يده فلا خير فيه)(1) وقد أنكره فقهاء المالكية؛ قال القاضي عبد الوهاب في (شرح الرسالة) : (وحكى بعضهم عنا في هذا العصر أنه يجوز أن يستفضل بينهما قدر قيمة الصياغة، وهذا غلط علينا، وليس هذا بقول لنا، ولا لأحد على وجه، والدليل على منع ذلك عموم الظواهر التي قدمناها وليس فيها فرق بين المصوغ والمضروب، وصرح القاضي عبد الوهاب بأن زيادة قيمة الصنعة إنما لا تراعى إلا في الإتلاف دون المعاوضات)(2) .

قال السبكي: (فلا وجه لنصب الخلاف معهم وهم موافقون)(3) .

وقال ابن عبد البر: (رواها جماعة من أصحاب مالك عن مالك. وهي مسألة سوء منكرة، لا يقول بها أحد من فقهاء المسلمين، وقد روي عن مالك في غير مسألة ما يخالفه. قال مالك في الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجر الضرب ويأخذ منهم وزن ورقه مضروبة. قال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحوه فأرجو أن لا يكون به بأس. وقال سحنون: عن ابن القاسم: أراه خفيفا للمضطر ولذي الحاجة، قال ابن وهب: وذلك ربا ولا يحل شيء منه، وقال عيسى بن دينار: لا يصلح هذا ولا يعجبني)(4) .

وقال ابن رشد بعد أن أورد مسألة الضرب: (ولم يجز مالك ولا أحد من أصحابه شراء حلي الذهب والفضة بوزنه من الذهب والفضة وزيادة قدر الصياغة)(5) .

(1) مواهب الجليل 4/137

(2)

المجموع 10/79

(3)

المجموع 10/79

(4)

المجموع 10/80؛ وانظر: البيان والتحصيل 6/442 و443

(5)

البيان والتحصيل 6/444

ص: 98

وقال ابن رشد: (ونقل عن مالك رحمه الله أنه كان يعمل به في زمن بني أمية لأنها كانت سكة واحدة والتجار كثير والناس مجتازون، والأسواق متقاربة، فلو جلس كل واحد حتى يضرب ذهب صاحبه فاتت الأسواق، فلا أرى بذلك بأسا؛ فأما اليوم فإن الذهب يغش، وقد صار لكل مكان سكة تضرب، فلا أرى ذلك يصلح، وإلى هذا ذهب ابن المواز من رأيه أن ذلك لا يجوز اليوم لأن الضرورة ارتفعت، وقال سحنون: لا خير فيه، وإليه ذهب ابن حبيب، وحكى أنه سأل عن ذلك من لقي من المدنيين والمصريين فلم يرخصوا فيه علي حال)(1) .

وبعدما سبق فقد تحرر مذهب الإمام مالك رحمه الله؛ وهو في الحلي بيعه بمثله قولا واحدا. قال ابن حبيب: (وأما الصائغ فلا يجوز ذلك معه قولا واحد) . يؤيده ما نقلناه عن الإمام فيما سبق.

وشبهة من ظن أنه يقول به في الحلي أمران:

الأول: قياسهم بيع الحلي على الإتلاف؛ فإذا أتلف على إنسان ذهبا مصوغا فإنه يرد مثل الذهب، وقيمة الصنعة. قال القاضي عبد الوهاب:(إن زيادة قيمة الصنعة إنما لا تراعى إلا في الإتلاف دون المعاوضات) . (2) .

الثاني: مسألة ضرب السكة، ودفع الأجرة عليها، وفيها روايتان عن مالك، رواية الجواز مع الكراهة، وقيدها بالضرورة واحتج بضرورة الناس إلى الدراهم، وتعذر الصرف إلا في دار الضرب، مع حاجة الناس إلى الاستعجال، وانحفاز المسافر للمرور مع أصحابه وخوفه على نفسه في الانفراد، ويخاف إن غاب عنه ذهبوا أن لا يعطاه ويمطل به، والضرورة العامة تبيح المحظورات، وأما اليوم فقد صار الضرب بكل بلد واتسع الأمر فلا يجوز له (3) .

ومعلوم أن حالة الإتلاف غير حالة البيع، وأن مسألة ضرب السكة، والتي للضرورة لا يصح تجويز بيع الحلي بمثله وزيادة قيمة الصنعة عليها، لأن هذا للضرورة ولا ضرورة في بيع الحلي بمثله وزيادة أجرة الصنع.

(1) البيان والتحصيل 6/ 443

(2)

المجموع 10/79

(3)

المنتقى 4/259

ص: 99

المطلب الثالث:

أدلة الفريقين:

الفرع الأول – أدلة أصحاب المذهب الأول:

استدل الجمهور على وجوب التماثل في بيع الحلي، وعدم جواز أي زيادة لأجل الصنعة؛ بالكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.

أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .

وجه الدلالة: أن الله حرم الربا، والربا هو الزيادة. ودليل التحريم عام، لم يفرق بين المصنوع وغيره.

وأما السنة: فقد استدلوا بأحاديث كثيرة منها ما يفيد وجوب التماثل بعمومه، ومنها ما هو نص في الموضوع.

فأما ما يفيد التماثل بعمومه فكثيرة نكتفي منها بما يأتي:

1-

عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (1) .

2-

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) (2) .

3-

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله قال: ((أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا)) (3)((بعضه على بعض ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد)) (4) . وفي لفظ ((إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء)) .

وأما الأحاديث التي تعتبر نصا في الموضوع فنذكر منها ما يأتي:

4-

عن أبي قلابة قال: ((كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث قال: قالوا: أبو الأشعث أبو الأشعث، فجلس فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت قال: نعم غزونا غزاة وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة فكان فيما آنية من فضة فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس فتسارع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت، فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعه منه، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية – أو قال وإن رغم – ما أبالي إلا أصحبه في جنده ليلة سوداء)) .

قال حماد: هذا أو نحوه (5) .

(1) صحيح مسلم بشرح النووي 4/98؛ ورواه الجماعة إلا البخاري

(2)

صحيح مسلم 4/100

(3)

(ولا تشفوا بضم أوله وكسر الشين وتشديد الفاء أي تفضلوا، وهو رباعي من أشف، والشف بالكسر الزيادة وتطلق على النقص) فتح الباري 4/380. والشف يطلق على الزيادة وعلى النقصان، فهو من الأضداد. لسان العرب؛ مادة شفف

(4)

صحيح مسلم 4/95، وانظر: صحيح البخاري بشرحه 4/379 و380

(5)

رواه مسلم واللفظ له، صحيح مسلم بشرح النووي 4/97. رواه أبو داود، والترمذي، وليس فيه قصة معاوية، والنسائي والدارقطني والبيهقي. انظر جامع الأصول 1/462

ص: 100

5-

روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل ذلك إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه؛ لا أساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن (1) . قال أحمد شاكر: الحديث صحيح (2) .

قال ابن عبد البر: (ظاهر هذا الحديث الانقطاع؛ لأن عطاء لا أحفظ له سماعا من أبي الدرداء، وما أظنه سمع منه شيء؛ لأن أبا الدرداء توفي بالشام في خلافة عثمان لسنتين بقيتا من خلافته)(3) .

وقال: (هذه القصة لا يعرفها أهل العلم لأبي الدرداء إلا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، وأنكرها بعضهم؛ لأن شبيها بها عرضت لمعاوية مع عبادة، وهي صحيحة مشهورة محفوظة مع معاوية من وجوه وطرق شتى)(4) .

فابن عبد البر ذكر احتمال الانقطاع، واشتباه رواية أبي الدرداء برواية عبادة بن الصامت.

والجواب على هذا بالنسبة لدعوى الانقطاع:

أولا: لم يجزم ابن عبد البر بالحكم بالانقطاع. وبعد البحث تبين أن الحديث متصل؛ لأن أبا الدرداء توفي لسنتين من خلافة عثمان بن عفان، رضي الله عنه (5) ، وعثمان توفي سنة خمس وثلاثين، وسط أيام التشريق وهو الراجح (6) وقيل: سنة ستة وثلاثين (7) . فتكون وفاة أبي الدرداء هي سنة ثلاث وثلاثين أو أربع وثلاثين. وعطاء بن يسار توفي على الراجح من قول أهل العلم سنة ثلاث ومئة، وعمره أربع وثمانون سنة، وهو قول الواقدي، وعمرو بن علي، وجزم به ابن يونس في تاريخ مصر، وذكره ابن حبان في الثقات (8) . قال ابن حجر:(كان مولده سنة تسع عشرة، ومات سنة ثلاث ومائة)(9) .

(1) الموطأ 2/492؛ الرسالة فقرة (15) ص73؛ منتقى الأخبار 4/261؛ المسند مع الفتح الراني 15/73؛ شرح الزرقاني على الموطأ 3/165

(2)

من يعذرني قال في النهاية: (أي: من يقوم بعذري إن كافأته على سوء صنيعه فلا يلوموني) . نقلا عن أحمد شاكر؛ انظر الرسالة ص446

(3)

التمهيد 4/71

(4)

التمهيد 4/72 و75

(5)

تهذيب التهذيب 8/176؛ التمهيد 4/71

(6)

تهذيب التهذيب 7/141؛ الكامل لابن الأثير 3/90؛ اشهر مشاهير الإسلام لرفيق العظم ص758

(7)

الكامل

(8)

تهذيب الكمال 20/127؛ تهذيب التهذيب 7/218

(9)

تهذيب التهذيب

ص: 101

وبناء على ما ذكرناه من تاريخ وفاة أبي الدرداء، وتاريخ مولد عطاء؛ فإن سن عطاء عند وفاة أبي الدرداء أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة؛ وعلى هذا فإنه يكون معاصرا له، فلا يكون الحديث منقطعا.

يؤيده أن عطاء بن يسار لم يذكره خليل بن كيكلدي العلاء في المراسيل، ضمن كتابه جامع التحصيل في أحكام المراسيل، فلم يذكر أنه لم يسمع أو لم يدرك أبا الدرداء وكذلك ابن حجر، وقبله المزي في تهذيب الكمال، وفي تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف؛ حيث قال: عطاء بن يسار عن أبي الدرداء ولم يذكر أنه مرسل (1) ، كما أن البيهقي في السنن الكبرى روى هذه الرواية من طريق الشافعي (2) ، وكذلك في معرفة السنن والآثار (3) . وسكت عنه ولم يعلق كعادته في بيان المنقطع والمعلل من الأحاديث.

وقد ذكر ابن حجر أبا الدرداء ضمن من روى عنهم عطاء بن يسار (4) .

قال الزرقاني: (والإسناد صحيح وإن لم يرد من وجه آخر فهو من الأفراد الصحيحة)(5) .

ثانيا: يمكن أن يكون عطاء سمع من معاوية، ومعاوية ذكر الحادثة التي وقعت له مع أبي الدرداء؛ لأن معاوية توفي سنة ستين من الهجرة.

أما اشتباه رواية أبي الدرداء برواية عبادة فإن الجميع ممكن، لأنه عرض له ذلك مع عبادة، وأبي الدرداء (6) . وترجح عندي أن يكون هذا في وقعة واحدة أنكره عبادة على معاوية، كما أنكرها عليه أبو الدرداء، وكل منهما منفرد بفتواه وإجابته وإنكاره. ويمكن أن تكونا قضيتين في زمنين مختلفين؛ إحداهما وقعت لعبادة مع معاوية، والأخرى وقعت لأبي الدرداء مع معاوية أيضا. والله أعلم.

6-

روى مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا، وكل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربيتما فردا)) (7) وهو حديث مرسل (8) وقد روي هذا الحديث متصلا من طريق آخر. فقد أورده ابن عبد البر قال: ذكر يعقوب بن شيبة وسعد بن عبد الله بن الحكم، قالا: حدثنا قدامة بن محمد بن قدامة بن خشرم الأشجعي عن أبيه قال: حدثني مخرمة بن بكير عن أبيه قال: سمعت أبا كثير جلال مولى عبد الرحمن أو عبد العزيز بن مروان يقول: سمعت حنشا السبائي عن فضالة بن عبيد يقول: كنا يوم خيبر فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم سعد بن أبي وقاص، وسعد بن عبادة، فأرادوا أن يبيعوا الدينارين بالثلاثة، والثلاثة بالخمسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا، إلا مثلا بمثل)) (9) .

قال ابن عبد البر: (وهذا إسناد صحيح متصل حسن)(10) .

(1) 28/227؛ حديث رقم 10954

(2)

5/280

(3)

8/39، حديث رقم 11042

(4)

تهذيب التهذيب 7/218

(5)

شرح الزرقاني على الموطأ 3/166

(6)

التمهيد 4/83، شرح الزرقاني على الموطأ 3/166

(7)

الموطأ 2/492، وانظر: المنتقى 4/275؛ جامع الأصول

(8)

الموطأ

(9)

التمهيد 24/106

(10)

التمهيد 24/106

ص: 102

7-

روى مالك عن حميد بن قيس المكي عن مجاهد، أنه قال:(كنت مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل منذ ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله عن ذلك، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابة يريد أن يركبها ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا وعهدنا إليكم)(1) .

قال أحمد البنا: رواه مالك والشافعي في مسنده والبيهقي وسنده عندهم جيد (2) .

ورواه الإمام الشافعي في الرسالة عن ابن عمر أنه قال: (الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم)(3) .

قال أحمد شاكر: هذا حديث صحيح جدا (4) .

8-

عن فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة (5) فيها خرز (6) وذهب، وهي من المغانم، تباع فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب في القلادة الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الذهب بالذهب وزنا بوزن)) (7) .

9-

عن أبي رافع قال: قلت لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه يا أمير المؤمنين إني أصوغ الذهب فأبيعه بالذهب بوزنه، وآخذ لعمله أجرا. فقال:(لا تبع الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن والفضة بالفضة إلا وزنا بوزن ولا تأخذ فضلا)(8) وهذا الأثر عند عبد الرزاق في سنده مجهول. لكن البيهقي ساقه بسند فيه تعديل على الإبهام، لذلك المجهول فقال: وأخبرني أبو الحسين بن بشران العدل ببغداد.

10-

وروى أنس بن مالك قال: (أتى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بإناء خسرواني قد أحكمت صنعته فبعثني به لأبيعه، فأعطيت به وزنه وزيادة، فذكرت ذلك لعمر – رضي الله عنه – فقال: أما الزيادة فلا – وهذا الإناء من ذهب أو فضة)(9) .

وروى هذا الأثر ابن حزم من طريق سعيد بن منصور نا جرير بن عبد الحميد عن السماك بن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه: أن عمر أعطاه آنية خسروانية مجموعة بالذهب فقال عمر: اذهب فبعها واشترط رضانا، فباعها من يهودي بضعف وزنها، ثم أخبر عمر، فقال له عمر: اذهب فاردده، لا، إلا بزنته (10) .

(1) الموطأ 2/492؛ مسند الإمام أحمد مع الفتح الرباني 15/73؛ التمهيد 2/242؛ السنن الكبرى للبيهقي 5/292

(2)

بلوغ الأماني مع الفتح الرباني

(3)

الرسالة تحقيق أحمد شاكر، فقرة (760) . وانظر: شرح مشكل الآثار 15/383

(4)

الرسالة تحقيق أحمد شاكر، فقرة (760) . وانظر: شرح مشكل الآثار 15/ 383. استفضل: أي استبقى

(5)

القلادة بكسر القاف وفتح اللام والدال: هي ما يجعل في العنق من حلي وغيره

(6)

الخرز جمع خرزة، وهي حبات مثقوبة تصنع من أي نوع وتنظم في سلك يتزين بها

(7)

صحيح مسلم بشرحه 4/101. سيأتي في المبحث اللاحق مزيد بسط لحديث القلادة، بالنسبة لتخريجه، وأقوال العلماء فيه، والإجابة على ذلك إن شاء الله

(8)

مصنف عبد الرزاق 8/125؛ السنن الكبرى 5/292

(9)

كنز العمال 4/188

(10)

المحلى 9/252

ص: 103

ومن المعلوم أن ابن حزم لا يحتج إلا بالصحيح. قال في مقدمة كتابه: (وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لم نحتج إلا بخبر صحيح من رواية الثقات)(1) .

وجه الدلالة من الأدلة السابقة:

فقد جاء حديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي هريرة بصيغة النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، وكذلك حديث عبادة جاء عاما في كل ذهب وفضة؛ حيث يدخل فيهما جميع أصنافهما من مضروب ومنقوش وجيد ورديء وصحيح ومكسور وحلي وتبر خالص ومغشوش. وليس في هذا الحديث ولا في غيره من الأحاديث ما يفيد تخصيص بيع الحلي من عموم النهي. فتكون الزيادة التي يقال: إنها في مقابل الصنعة حراما، والعقد فاسدا؛ لأنه منهي عنه، والنهي يفيد البطلان.

وأما حديثا عبادة، وأبي الدرداء فوجه الدلالة فيهما إنكارهما على معاوية بيعه آنية من فضة بأكثر من وزنها كما جاء مصرحا به في حديث أبي الدرداء، والآنية قد تغيرت بالصناعة من التبر أو من الدراهم المضروبة إلى الشكل الذي أصبحت به آنية تصلح للاستعمال فقد بين الصحابيان الجليلان الحكم وهو عدم جواز بيعها بأكثر من وزنها، ولم يجيزا أي زيادة مقابل العمل.

فتضمن الحديثان الشريفان الإنكار في الحالة الأولى، ثم بيان الحكم وهو الحرمة، وكيفية تصحيحه وهو أن يباع مثلا بمثل، ثم دعما قولهما بالدليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا بيان للحكم بدليله، ولم يلتفتا إلى قيمة الصنعة في الآنية المذكورة؛ حيث قال عبادة:((إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) ، وقال أبو الدرداء: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا. فلما علم المسلمون الحكم امتثلوا وردوا ما أخذوا؛ تجنبا عن الوقوع في المحرم. وهذا دليل على أن هذا البيع باطل. وبعد أن حسا من معاوية رضي الله عنهم جميعا عدم تقبله لما ذكرا أعاد عبادة القصة وقال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كره معاوية، أو قال: وإن رغم. وقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، ثم جاء كتاب عمر إلى معاوية – رضي الله عنهما – مؤكدا عدم جواز التفاضل عند اتحاد الجنس سواء كان مصوغا أو غير مصوغ، وقد جاء ذلك بصيغة النهي (لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن) . وقول عبادة: لا أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء؛ وقول أبي الدرداء: لا أساكنك بأرض أنت فيها (يحتمل أن يكون القائل قد خاف على نفسه الفتنة لبقائه بأرض ينفذ فيها في العلم قول خلاف الحق عنده، وربما كان ذلك منه أنفة لمجاورة من رد عليه سنة علمها من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه، وقد تضيق صدور العلماء عند مثل هذا وهو عندهم عظيم: رد السنن بالرأي)(2) فدل على أن الزيادة في الذهب أو الفضة ربا لا فرق بين تبره ومضروبه ومصوغه وغير مصوغه.

(1) المحلى 9/252

(2)

التمهيد 4/86

ص: 104

(وكان معاوية يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر من الذهب والفضة بالمضروب، ولا في المصوغ بالمضروب، (وقيل: إنما كان ذلك منه في المصوغ خاصة والله أعلم) حتى وقعت له (الحادثة التي ذكرناها مع عبادة) ؛ وقد سأل عن ذلك أبا سعيد بعد حين، فأخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم التفاضل في الفضة بالفضة والذهب بالذهب: تبرهما وعينهما، وتبر كل واحد منهما بعينه) (1) .

وإنما كان سؤاله أبا سعيد استثباتا؛ لأنه كان يعتقد أن النهي إنما ورد في العين، ولم يكن – والله أعلم – علم بالنهي حتى أعلمه غيره. وخفاء مثل هذا على مثله غير نكير؛ لأنه من علم الخاصة، وذلك موجود لغير واحد من الصحابة. ويحتمل أن يكون مذهبه، كان كمذهب ابن عباس؛ فقد كان ابن عباس – وهو بحر العلوم – لا يرى بالدرهم بالدرهمين يدا بيد بأسا حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد (2) .

ووجه الدلالة من حديث القلادة أنها نوع من الحلي، تتحلى بها النساء، وقد أبطل الرسول صلى الله عليه وسلم بيعها عندما بيعت بذهب، لعدم العلم بتساوي ذهب القلادة بالذهب الذي هو ثمنها؛ حيث إن اقتران قلادة الذهب بالخرز يؤدي إلى عدم العلم بوزن ذهبها. فأمر بفصل الخرز أولا، ثم تساوي الثمن والمثمن، دون التفات إلى قيمة الصناعة في القلادة المذكورة، ولو كانت صناعة الحلي يجوز أن تقابل بالزيادة، لما أبطل الرسول صلى الله عليه وسلم البيع المذكور؛ ولما أوجب التساوي، بل لا بد أن يبينه. لكنه أكد عدم جواز الزيادة التي منعها في الواقعة المذكورة بقوله:((الذهب بالذهب وزنا بوزن)) . وقوله: الذهب، أي ذهب كان فهو شامل للحلي، لأنه جاء بيانا لحكم واقعة، هي بيع حلي بذهب. وهذه القضية نص في الموضوع لا تحتمل أي تأويل.

وحديث السعدين، عندما باعا الآنية بالزيادة قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: أربيتما فردا)) . وهذا يقتضي منع الزيادة في الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وفي الحلي وغيرها؛ لأن الضرب نوع من الصنعة.

وأمره صلى الله عليه وسلم برد البيع دليل على فساد العقد.

ووجه الدلالة من حديث عبد الله بن عمر مع الصائغ، نهيه رضي الله عنه الصائغ أن يأخذ فضلا على قدر عمل يده. ثم بين الحالة التي يكون البيع فيها صحيحا وهي الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما. فالفضل بينهما الذي سأل عنه الصائغ، ورغب في تجويزه؛ وذلك بتكرير المسألة؛ وتبيين تبريره، وهو أن يستفضل قدر عمل يده؛ بين له الحكم وهو النهي عنه. ثم بين له الحالة التي يكون بيع الحلي فيها صحيحا عند اتحاد الجنس، فقال: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم. ثم أكد الحكم بدليله؛ حيث قال:(هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم) . فدل على أن هذا القول ليس من ابن عمر وإنما استند في فتواه إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا له حكم المرفوع.

(1) التبر: الذهب قبل أن يضرب. العين: الذهب إذا كان مضروبا

(2)

التمهيد 4/73 و74

ص: 105

وقوله فيه: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم إشارة إلى جنس الأصل لا إلى المضروب دون غيره بدليل إرسال ابن عمر الحديث على سؤال الصائغ له عن الذهب المصوغ.

ومثله قول عمر رضي الله عنه لأبي رافع حين سأله عن الفضل مقابل الصياغة فقال: لا تبع الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن، وأكد ذلك بقوله: ولا تأخذ فضلا. فدل على أن الفضل مقابل الصياغة لا يجوز.

المعقول:

1-

الصفات لا تقابل بالزيادة؛ لذا فإن العوضين إذا تساويا في الوزن، لم يؤثر اختلافهما في القيمة، كالجيد والرديء، بل المعتبر التساوي في المعيار الشرعي من كيل أو وزن (1) .

2-

ولأن اسم الذهب أو الفضة يتناول جميع أفراده جيده ورديئه، وتبره ومصوغه، صحيحه، ومكسوره، نافقه وغير نافقه، وغير ذلك، ومدار الحكم على ما يصدق عليه الاسم ولو اختلفت أنواع المسمى، وبناء عليه فلا اعتبار بما في الحلية والآنية من زيادة الصنعة، ولا يجوز أن تزيد قيمتها بسببها (2) .

3-

ولأن صفة الوزن في النقدين منصوص عليها فلا يتغير بالصنعة ولا يخرج عن كونه موزونا (3) ؛ ولذا فإنه لا يجوز بيع الدراهم والدنانير بالسبائك متفاضلا.

الفرع الثاني – أدلة أصحاب المذهب الثاني:

استدل القائل بجواز الزيادة في مقابلة الصنعة بما يأتي:

1-

الحاجة: فيجوز مبادلة حلي الذهب بذهب بالتفاضل، على أن يكون الفضل في مقابل صناعة الحلي، وهذا وإن كان محرما سدا للذريعة، إلا أن ربا الفضل يباح منه ما تدعو إليه الحاجة؛ كالعرايا، فقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعة وشرائه (4) .

2-

دفع الحرج: (فإذا كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء

، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك، فالشريعة لا تأتي به، ولا تأتي بالمنع من ذلك، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها البتة، بل يبيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب، وإن قالوا: على راغب الحلية اللجوء إلى الاستصناع، قلنا هذا متعذر أو متعسر، وكثير منهم يلجأ إلى الحيل من ذلك، ونحن نرى أن الحيل باطلة في الشرع) (5) .

(1) المغني 6/61؛ كشاف القناع 3/252

(2)

المبسوط 14/11، الروض النضير 3/279

(3)

فتح القدير 5/135؛ كشاف القناع 3/252

(4)

إعلام الموقعين 2/135

(5)

إعلام الموقعين 2/135

ص: 106

3-

الحلي سلعة تباع كما تباع سائر السلع؛ لأنها خرجت بالصنعة عن جنس النقدين، وصارت من جنس الثياب وسائر السلع، فجاز بيعها بجنسها تفاضلا، ونساء، ولا يدخلها إما أن تقضي 0وإما أن تربى، إلا كما يدخل سائر السلع (1) .

4-

قياسها على قيمة الإتلاف: فالحلي إذا غصب وتلف عند الغاصب فإنه يضمنه بقيمته لا بوزنه؛ لأنه بالصناعة صار متقوما، فكما يجوز ضمانه بالقيمة يكون بيعه كذلك.

5-

لا يجري الربا فيهما قياسا على عدم وجوب زكاتهما عند من يرى ذلك. فالنقدان من الذهب والفضة تجب فيهما الزكاة بلا خلاف، فإذا صار حليا لم تجب فيهما الزكاة عند جمهور العلماء. وهذا يعني أن الصناعة غيرت حكمهما الشرعي في الزكاة؛ وكذلك في الربا هما مالان ربويان، فإذا صارا حليا خرجا عن ربويتهما؛ لأنهما خرجا عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها: إما أن تقضي وإما أن تربى، إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها، لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين وتضروا بذلك غاية الضرر (2) .

6-

لا يعرف عن واحد من الصحابة أنه نهي عن بيع الحلي إلا بغير جنسه، وإلا بوزنه، والمنقول عنهم إنما هو في الأثمان، لا في الحلي. والناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية، وكانوا يبيعونها، ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه (3) .

7-

قياسه على الإجارة: فالزيادة التي تقابل قيمة الصنعة تعتبر بمثابة الإجارة على العمل (لأن المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها، إذ لا فرق بينهما في ذلك؛ فالشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بع هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك. ولا يقول له: لا تعمل هذه الصياغة واتركها. ولا يقول له: تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل. ولم يقل لا تبعه إلا بغير جنسه، ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئا من الأشياء بجنسه)(4) .

8-

(إذا كان أرباب الحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسا، ويقولون: الخمسة في مقابلة الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة؟ وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلا ورحمة وجلالة بإباحة هذا وتحريم ذلك؟ وهل هذا إلا عكس للعقول والفطر والمصلحة)(5) .

(1) إعلام الموقعين 2/136

(2)

إعلام الموقعين 2/136

(3)

إعلام الموقعين 2/137

(4)

إعلام الموقعين ص139

(5)

إعلام الموقعين ص139

ص: 107

المطلب الرابع

مناقشة الأدلة

الفرع الأول – مناقشة أدلة الفريق الأول:

1-

نوقش الاستدلال بالآية الكريمة، وبالأحاديث الدالة على عدم جواز التفاضل، ومنها حديث أبي سعيد الخدري؛ (بأنه ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولا ينكر تخصيص العام، وتقييد المطلق بالقياس الجلي)(1) .

سنجيب هنا على القول بأن الأحاديث ليس فيها ما هو صريح في المنع.

وأما مسألة تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي فسوف نعرض لها عند مناقشة أدلة الفريق الثاني.

والقول بأنه لم يرد فيه شيء يمنعه بخصوصه غير مسلم. فحديث عبادة في آنية الفضة بعد أن بين الحكم قال: ((إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة

إلا سواء بسواء

)) الحديث. فطبق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الواقعة.

وجاء في حديث أبي الدرداء ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا)) وجاء في حديث عبد الله بن عمر مع الصائغ ((هذا عهد نبينا وعهدنا إليكم)) فهذا له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه كلها أحاديث صحيحة؛ كما بيناه فيما سبق.

وحديث القلادة واقعة عين في نوع من حلي النساء، أبطل الرسول صلى الله عليه وسلم بيعه لاجتماع الذهب بالخرز مما يؤدي إلى عدم العلم بالتساوي، فأوجب الفصل، ثم المساواة بين ذهب القلادة – وهو مصنوع – وبين الذهب الذي هو ثمنها. فقال:(الذهب بالذهب وزنا بوزن) فهذه قضية عين لا تحتمل التأويل.

وحديث السعدين الذي رواه الإمام مالك في الموطأ حيث أمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعا آنية من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا وكل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أربيتما فردا)) .

فهذه الأحاديث كلها نصوص صريحة في المنع من بيع الحلي والأواني بأكثر من وزنها.

(1) إعلام الموقعين ص139

ص: 108

2-

فإن قيل: إن النصوص الواردة بخصوص منع بيع الحلي بزيادة هي أقوال للصحابة وهي آراء لهم، وليس فيها نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا حديث يحيى بن سعيد، وهو مرسل.

3-

أجيب عليه بأن حديث النهي عن بيع القلادة إلا بالتساوي هو نص من الرسول صلى الله عليه وسلم. والأحاديث الأخرى التي أوردها الصحابة- رضوان الله عليهم- ليست آراء لهم، وإنما هي مرفوعة، أو في حكم المرفوع؛ لأن أبا قتادة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، ويقول ابن عمر:(هذا عهد نبينا إلينا، وعهدنا إليكم) . وأكد عبادة بن الصامت فتواه، بقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهو في حكم المرفوع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي؛ ولأنه – استشهد – في جوابه للصائغ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:((لا تبع الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن، والفضة بالفضة إلا وزنا بوزن)) .

والقول في حديث يحيى بن سعيد أنه مرسل، صحيح؛ لكنه جاء من طريق آخر بسند صحيح متصل، كما نقلناه عن ابن عبد البر. علما أن الحديث المرسل حجة عند الفقهاء، ولا يحد من العمل به إلا الإمام الشافعي.

4-

إن ما أنكره عبادة على معاوية لم يكون إلا لأنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، لا لأنه ربا؛ لأنه كان متعلقا بآنية من فضة، واتخاذ الأواني من الذهب والفضة حرام.

والجواب على هذا: نعم إنها آنية من فضة، لكن عبادة رضي الله عنه لم ينه عن البيع لأنها آنية؛ وإنما نهى عن البيع لعدم التماثل؛ لأنه واضح من سياق الحديث والخلاف مع معاوية، أن الأمر متعلق بأحكام ربا الفضل؛ يؤيده ما جاء في الحديث إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى.

وأما بيع الآنية فجاز لأنها من المغانم، ويمكن الاستفادة منها في غير الاستعمال كإناء؛ وذلك مثل تحويلها إلى دراهم، أو حلي، أو غير ذلك.

ص: 109

وأما استدلالهم بالمعقول فنوقش بما يأتي:

1-

(الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي، وتقابل بالأثمان، ويستحق عليها الأجرة، وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها، ولا هي من صنعته، فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة؛ إذ ذلك يفضي إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل، فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر

وهذا بخلاف الصياغة التي جوز لهم المعاوضة عليها معه) (1) .

والجواب على هذا: أين النص الذي جوز به الشارع من كتاب أو سنة معاوضة الحلي بجنسه مع زيادة تقابل الصنعة؟

بل إن النصوص صريحة بمنع مقابلة الصناعة بالزيادة.

والقول بأن التفاوت في صفات الجودة والرداء ظاهر، يقال: إن التفاوت بين المصوغ وغير المصوغ أظهر. وإنما منع من مقابلتها بالزيادة للتجانس فقط؛ وهذا متحقق في الزيادة الصناعية كما هو في الزيادة الطبيعية.

ولو جازت الزيادة مقابل الصنعة في الحلي، لجازت في بقية الربويات كالبر بدقيقه، لكنها لم تجز؛ لأنه يشترط التساوي، وهو متعذر. (2) .

(2)

وأما أن اسم الذهب يتناول جميع أفراده، فنوقش بأن الحلية المباحة صارت في الصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان.

والجواب: أن هذا القول لا يسنده أي نص، بل إن النصوص تعارضه، كما بيناه في الأدلة (3) .

(1) إعلام الموقعين 2/139

(2)

الكشاف 3/256

(3)

والقول: بأن الحلية بالصنعة صارت سلعة، سوف نناقشه – إن شاء الله – في مبحث مناقشة أدلة الفريق الثاني

ص: 110

الفرع الثاني – مناقشة أدلة الفريق الثاني:

1-

قولهم: لا ينكر تخصيص العام، وتقييد المطلق بالقياس الجلي، يجاب عليه بما يأتي:

أولا: إنما يستعمل القياس إذا عدم النص، إما إذا وجد النص فإنه لا يسوغ الاجتهاد؛ قال الإمام الشافعي رحمه الله:(لا يحل القياس والخبر موجود، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء)(1) .

والنصوص – كما قدمنا – متوافرة على النهي عن بيع الحلي بأكثر من وزنه.

ثانيا: قاعدة تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، مسلمة، وإن كان فيها خلاف عند علماء الفقه والأصول (2) . ومع التسليم بالقاعدة فهي غير منطبقة على الدعوى، لما يأتي:

أ - لأن القياس على العرايا لا يصح؛ حيث إن تجويزها ورد استثناء بنص خاص، وهو ما يعبر عنه بما جاء على خلاف القياس. فقد اشترط جمهور الفقهاء والأصوليين في حكم الأصل ألا يكون معدولا به عن سنن القياس (3) .

عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك. متفق عليه (4) . فقوله: ولم يرخص في غير ذلك دليل على قصر الرخصة على هذا النوع من البيوع. كما يدل – أيضا – على قصر الرخصة في العرايا نهيه صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة (5) .

وقوله: (أنه رخص) نص على أن العرايا رخصة. وقوله: (بعد ذلك) أي بعد النهي عن بيع التمر بالتمر. قوله: (بالرطب أو بالتمر)(أو) محتملة أن تكون للتخيير، وأن تكون للشك، وأخرجه النسائي والطبراني من طريق صالح بن كيسان، والبيهقي من طريق الأوزاعي، كلاهما عن الزهري بلفظ:(بالرطب وبالتمر) ولم يرخص في غير ذلك. هكذا ذكره بالواو، وهذا يؤيد كون (أو) بمعنى التخيير لا الشك، بخلاف ما جزم به النووي (6) .

(1) الرسالة ص599، فقرة (1817) ؛ وانظر: البحر المحيط 5/33؛ المغني 6/120؛ إعلام الموقعين 2/279

(2)

أصول السرخسي 1/141؛ كشف الأسرار 1/294؛ شرح تنقيح الفصول ص203، جمع الجوامع 2/ 30؛ المستصفى 2/ 122 و123؛ الإحكام للآمدي 2/313؛ المسودة ص119 و120، شرح الكوكب المنير 3/379؛ مختصر البعلي ص124

(3)

شرح العضد لمختصر المنتهى 2/211؛ حاشية سعد الدين التفتازاني مع شرح العضد

(4)

صحيح مسلم بشرحه 4/30؛ وانظر: صحيح البخاري بشرحه 4/384؛ منتقى الأخبار بشرحه 5/200

(5)

حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقترض بفوائد؛ بحث للدكتور صالح المروزقي؛ نشر مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ص99 و100

(6)

فتح الباري 4/385

ص: 111

ب - أن هذا ليس قياسا جليا؛ لأنه لا يتفق مع تعريف القياس الجلي. حيث عرف بأنه: (ما عرفت علته بنص، أو إجماع)(1) .

وعرفه بعض العلماء بأنه: (ما كانت العلة فيه منصوصة، أو غير منصوصة؛ غير أن الفارق بين الأصل والفرع مقطوع بنفي تأثيره)(2) .

وقد قسم الغزالي، وابن قدامة المقطوع بنفي تأثيره إلى مرتبتين:

إحداهما: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به؛ كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فإنه أفهم تحريم الضرب والشتم، وكنهيه صلى الله عليه وسلم عن الضحية بالعوراء والعرجاء فإنه أفهم المنع من العمياء ومقطوعة الرجلين. (3) .

المرتبة الثانية: ما يكون المسكوت عنه مثل المنطوق به، ولا يكون أولى منه ولا هو دونه، فيقال: إنه في معنى الأصل. (4) كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق. كما في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أعتق شركا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)) (5) . أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد.

وكثير من علماء الأصول، لا يرون تسميته بالقياس الجلي، بل يقولون: إنه من باب دلالة النص؛ لأن هذا معنى يستوي في فهمه الفقيه وغير الفقيه (6) .

والظاهر أن مراد ابن القيم – رحمه الله – بالقياس الجلي لا يخرج عن التعريفات السابقة؛ لأنه قسم القياس إلى صحيح وفاسد، وقل في معرض بيان أوجه خطأ نفاة القياس:(أحدها: رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التعميم باللفظ؛ مثل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] نهى عن كل رجس)(7) .

(1) البحر المحيط 5/36؛ شرح مختصر الروضة 3/223

(2)

الإحكام 4/3؛ وانظر: شرح العضد 2/247؛ الكوكب المنير 4/207؛ تيسير التحرير 4/76؛ المحصول 5/121؛ التقرير والتحبير 3/221؛ حاشية البناني على شرح المحلي 2/29؛ مختصر البعلي ص150

(3)

المستصفى 2/281؛ روضة الناظر 3/833، البرهان: 2/877

(4)

المصادر السابقة؛ وانظر: الرسالة، للإمام الشافعي فقرة (1334) ص479؛ المسودة ص374؛ إعلام الموقعين 1/299

(5)

صحيح البخاري بشرحه 5/151

(6)

البرهان 1/449، 2/878؛ أصول السرخسي 1/241؛ المستصفى 2/281 وما بعدها؛ روضة الناظر 3/833؛ الحرمين للطباعة، القاهرة، سنة 1413هـ - 1993م

(7)

إعلام الموقعين 1/377

ص: 112

الثاني: (تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دل عليه النص، ولم يفهموا دلالته عليه، وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه، وتنبيهه، وإشارته، وعرفه عند المخاطبين، فلم يفهموا من قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ضربا، ولا سبًّا، ولا إهانة غير لفظة أف، فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان)(1) .

وقال – بصدد إنكاره على من قال: إن القياس كله باطل-: (وأنكروا القياس الجلي الظاهر، حتى فرقوا بين المتماثلين)(2) .

وقال بصدد تناقض القياسيين: (وتركهم لما هو نظيره من كل وجه، أو أولى منه)(3) .

فتبين من التعاريف التي ذكرناه، والتقسيمات التي نقلناها عن علماء الأصول، ومنهم ابن القيم أن قياس بيع الحلي بجنسه متفاضلا في الجواز على العرايا بعلة الحاجة ليس قياسا جليا؛ لأنه لا يساويه، فضلا عن أن يكون أولى منه، ولأن العلة ليس منصوصا عليها، ولا مجمعا عليها، وأين هذا من قياس الضرب على التأفيف، أو الأمة على العبد في سراية الحرية؟ بل إن الرخصة هنا منصوص على قصرها – كما سبق في بيانه في الحديث الشريف – فحكم الأصل قاصر عليه، فلا يقاس عليه غيره.

ثالثا: وأما مسألة تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي:

أ - فإضافة إلى الأحاديث العامة أوردنا أحاديث خاصة صحيحة ناصة على المنع من الزيادة في بيع حلي الذهب والفضة بجنسه. ومن هنا فليس هناك مجال للقول بتخصيص العموم في هذا الموضوع.

ب - لم يثبت القياس الجلي- كما سبق بيانه – حتى يمكن التخصيص به.

2-

قال ابن القيم رحمه الله: (إن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به حلي الفضة، أو فضة يشترون بها حلي الذهب، وأن البائع لا يسمح ببيعه ببر أو شعير أو ثياب، والاستصناع متعذر أو متعسر)(4) . وهكذا سد كل الأبواب إلا بابا واحدا هو المطلوب إثبات جوازه. ولكنا لا نسلم وجود الحاجة؛ لأنه يمكن لمشتري الحلي من الذهب أن يشتريها بغير جنسها؛ كالفضة، أو الأوراق النقدية المتداولة اليوم، أو أي عملة يستقر عرف المجتمع في هذا العصر أو في العصور القادمة على أنه نقود، أو بعروض التجارة؛ كالعقار، والمنقول.

(1) إعلام الموقعين 1/377

(2)

إعلام الموقعين 1/373

(3)

إعلام الموقعين 1/368

(4)

إعلام الموقعين 2/136

ص: 113

ولو قيل بها في شراء الحلي، لقيل بها في شراء الطعام؛ كالبر، والتمر، ونحوهما؛ إذ الحاجة إلى الطعام أشد من الحاجة إلى الحلي؛ لأن الطعام ضروري لحياة الإنسان، بخلاف الحلي. ولأنه يحتاجه جميع الناس ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا. أما الحلي فلا يستعمله إلا النساء؛ لذا فإن القول بأن الحاجة إلى بيع المصوغ وشرائه أشد من الحاجة إلى شراء الرطب بالتمر غير مسلم؛ لما بيناه.

والقول بأن العاقل لا يبيع هذه من جنسها بوزنها، فإنه سفه، وإضاعة للصنعة.

يجاب عليه بأنكم توافقون على أنه لا يجوز بيع المضروب بالتبر إلا متماثلا، وحالًّا، مع أن الضرب نوع من الصنعة، وفيه زيادة عمل. فكيف صار إهدار الصنعة في الحلي سفهًا وفي المضروب رشدًا؟ ثم إن الشارع وضع قاعدة عامة في أموال الربا؛ وهي التساوي، والحلول، عند استواء الجنس، ولم يستثن شيئا منها، إلا العرايا بنص خاص، وتضمن النص قصر الرخصة عليها، فلا تجوز تعديته إلى غيرها، كما بيناه فيما سبق. فمن أين يأتي استثناء للحلي لم يذكره الشارع؟ بل ذكر منعه؛ كما في النصوص التي سبق ذكرها.

وأما القول بأن الشريعة لم تلزم الناس بأن يبيعوا ذلك بغير جنسه فغير مسلم؛ فقد ألزمت الناس أن يبيعوها بغير جنسها إذا أرادوا الفضل. يدل عليه الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال: أَكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال:((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) . وهذا لفظ البخاري (1) .

3-

القول بأن الحلي بالصنعة صارت سلعة كسائر السلع، لا من جنس الأثمان؛ فتجوز مبادلتها بجنسها تفاضلا، ونساء؛ ترده النصوص التي استبدل بها المانعون؛ ولأن الشارع منع الزيادة ولم يقم اعتبارا للجودة أو الصناعة؛ بدليل حديث ((إنا لنأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) . فألغى رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبار الجودة، وأوجب المساواة؛ بدليل أنه لو اختلف الجنس، كذهب بفضة أو فضة بذهب، لجازت الزيادة، مع أن كلا منهما ليس سلعة؛ فسبب المنع من الزيادة اتحاد الجنس، فإذا اتحد الجنس في أموال الربا يجب التساوي، ويحرم التفاضل، حتى لو كان أحدهما سلعة. ولأن طحن الحب زيادة صنعه، ومع ذلك فلا يجوز بيع الدقيق بالحب لتعذر التساوي، جاء في المحرر لمجد الدين ابن تيمية – جد شيخ الإسلام – (ولا يجوز بيع حب بدقيقه أو سويقه)(2) .

(1) صحيح البخاري بشرحه 4/399؛ صحيح مسلم بشرحه 4/105؛ جامع العلوم والحكم ص76

(2)

1/320

ص: 114

4-

قياس الصناعة على الإتلاف في وجوب الزيادة ممنوع؛ لأن إمكانية إعمال القياس هو فيما لا نص فيه مع اتحاد العلة في المقيس والمقيس عليه، أما وقد وردت نصوص صحيحة، صريحة في منع الزيادة مقابل الصنعة فلا مجال للقول بإعمال القياس هنا، مع أنه لا توجد علة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه ففي حالة ضمان المتلف صورة البيع منتفية تماما، لأن الإتلاف لا يتم برضا الطرفين المتلف، وصاحب الحلية المتلفة، كما هو في البيع، كما أنه تضمين الغاصب ليس من قبيل البيع، بل من قبيل تضمين المعتدي (1) . (لأنه لا يمتنع أن يجري التفاضل في قيمة المتلف ولا يجري في البيع، ألا ترى أنه لو أراد أن يبيع درهما صحيحا بأكثر من درهم مكسر لم يجز؟ ولو أتلف على رجل درهما صحيحا ولم يوجد له مثل فإنه يقوم بالمكسر، وإن بلغت قيمته أكثر من درهم، ولا يكون ربا، فدل على الفرق بين البيع والإتلاف. ولأن الإتلاف قد يضمن به ما لا يضمن بالبيع. ألا ترى أن من أتلف أم ولد لزمته قيمتها، ولو باعها لم تصح ولم تجب عليه قيمتها، فدل على الفرق بالضمانين وبطل اعتبار أحدهما بالآخر)(2)

5-

والقول بعدم جريان الربا في الحلي قياسا على عدم وجوب الزكاة فيها مردود؛ لأنه ليس هناك علاقة ولا موافقة بين الربا والزكاة، لا من حيث الأموال، ولا من حيث الأحكام، وبالتالي فإنه لا مانع من أن يكون الحلي ربويا؛ ولا يكون زكويا.

ثم إن عدم وجوب الزكاة فيها ليس لكونها بالصناعة خرجت عن جنس الأثمان، بل لأن من شروط الزكاة أن يكون ملك النصاب خاليا من الحوائج الأصلية، والحلية تعتبر من الحاجات الأصلية للنساء. وعدم وجوب الزكاة دلت عليه النصوص الشرعية، أما عدم اعتبار الربا في الحلي فقد عارضته النصوص.

قال أبو عبيد: (ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سن في الذهب والفضة سنتين: إحداهما في البيوع، والأخرى في الصدقة.

فسنته في البيوع قوله: ((الفضة بالفضة مثلا بمثل)) فكان لفظة (بالفضة) مستوعبا لكل ما كان من جنسها، مصوغا وغير مصوغ. فاستوت في المبايعة: ورقها وحليها ونقرها. وكذلك قوله: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل)) فاستوت فيه دنانيره، وحليه وتبره.

وأما سنته في الصدقة فقوله: ((إذا بلغت الرقة خمس أواقي ففيها ربع العشر)) فخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة الرقة من بين الفضة وأعرض عن ذكر سواها، فلم يقل: إذا بلغت الفضة كذا ولكنه اشترط الرقة من بينها) (3) .

(1) أحكام عقد الصرف ص458

(2)

المجموع 10/82

(3)

الأموال لأبي عبيد ص401

ص: 115

قال أبو عبيد: (ولا نعلم هذا الاسم في الكلام المعقول عند العرب يقع إلا على الورق المنقوشة ذات السكة السائرة في الناس. وكذلك الأواقي ليس معناها إلا الدراهم كل أوقية أربعون درهما)(1) .

وفي الصحاح: (الورق الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة)(2) .

وفي لسان العرب: (الرقة في الحديث يريد الفضة والدراهم المضروبة منها)(3) .

6-

والقول بأنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن تباع إلا بغير جنسها، أو بوزنها، مردود بالأحاديث التي استدل بها أصحاب المذهب الأول، فقد رووا النهي عن عمر، وابنه، وعبادة، وأبي الدرداء، ويحيى بن سعيد، ومجاهد وأنس بن مالك،، وأبي رافع.

والقول بأن الناس يبيعونها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنهم لا يبيعونها بوزنها قطعا فإنه سفه، يجاب بأنه يمكنهم بيعها بخلاف جنسها، أو بعروض التجارة.

5-

والقول بعدم جريان الربا في الحلي قياسا على الإجارة غير مسلم؛ لأن الإجارة وإن كانت بيعا للمنافع، إلا أن الأجرة من طرف، والعمل من طرف آخر، وهذا غير متحقق في حالة بيع الحلي؛ لأن المشتري لا يعقد عقد إجارة، ولأنه لا يلزم من جواز الأجرة – منفردا – على صياغة الذهب مستقلة عن الحلي المصوغ، جواز اعتبارها مضمومة مع القيمة (فقد ظهر بالاستقراء من الشرع أن للاجتماع تأثيرا في الأحكام لا يكون حالة الانفراد. ويستوي في ذلك الاجتماع بين مأمور ومنهي مع الاجتماع بين مأمورين، أو منهيين، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف، وكل واحد منهما لو انفرد جاز، ونهى الله عن الجمع بين الأختين في النكاح مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها. وفي الحديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وقال ((إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)) . ومنها: النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، ونهى عن جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة. ونهى عن الخليطين في الأشربة؛ لأن لاجتماعهما تأثيرا في تعجيل الإسكار) (4) .

فدلت هذه الأمثلة وغيرها كثير – بنصوص الشريعة – أن للاجتماع تأثيرا في الحكم ليس للانفراد حلا أو حرمة.

8-

الحيل التي ذكرها ابن القيم وحكم ببطلانها، نوافقه على أنها باطلة. لكنا لا نوافقه في تصحيح بيع الحلي بأكثر من وزنه مع اتحاد الجنس استنادا إلى تجويز من جوز تلك الحيل؛ لأن ما كان غير صحيح في نفسه لا يمكن تصحيح غيره عليه. قال تعالىلا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] .

(1) الأموال لأبي عبيد ص401؛ وانظر: الأموال لابن زنجويه 3/986، وانظر: الصحاح، مادة: ورق؛ الذخيرة 3/12

(2)

مادة ورق. وانظر: تحقيق أحمد شاكر على مسند الإمام أحمد 2/92، حديث رقم 710؛ المغني 4/221

(3)

مادة ورق. وانظر: تحقيق أحمد شاكر على مسند الإمام أحمد 2/92، حديث رقم 710؛ المغني 4/221

(4)

الموافقات 3/111، وانظر: مجلة البحوث الفقهية، عدد 21 ص117

ص: 116

الترجيح:

بعد عرض أدلة الفريقين ومناقشتها ترجح لي عدم جواز بيع حلي الذهب أو الفضة؛ عند اتحاد الجنس بأكثر من وزنه، وأنه لا يجوز بيع الشيء بالشيء من جنسه نسيئة؛ وذلك لضعف أدلة الفريق الثاني – المجيزين - وقوة أدلة الفريق الأول – المانعين؛ لأن أدلة الفريق الثاني لا تستند إلى نص من قرآن أو سنة، ولا إلى إجماع، ولا إلى قياس صحيح، وكل الأقيسة والتعليلات التي ذكروها تبين من خلال المناقشة ردها لعدم سلامتها.

وأما أدلة الفريق الأول: فمنها ما هو عام يشمل بعمومه كل ذهب وفضة، ويدخل في عمومها المصوغ وغيره، ولم يرد ما يخصص عمومها، ودعوى تخصيصها بالقياس الجلي، لم تثبت؛ لأنه لا يصح القياس مع النص؛ ولأنه لم يتحقق القياس الجلي لعدم وجود علة منصوص عليها أو مجمع عليها. ولم يصح القياس على العرايا؛ لأنها جاءت على خلاف القياس؛ ولأن من أدلة العرايا ما تضمن النص على أنه صلى الله عليه وسلم (لم يرخص في غيرها) متفق عليه، فدل على قصر الرخصة عليها، وعم تعديته إلى غيرها.

ومنها ما هو نص في الموضوع، ومعظمها أحاديث صحيحة، وما لم تبلغ درجة الصحة فهو صالح للاحتجاج بنفسه، وقد تقوى بغيره. فوجب الرجوع إلى الكتاب والسنة؛ قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] .

ص: 117

المبحث السادس

شراء الحلي أو شراء الحلي بثمن الحلي المبيع

شراء حلي الذهب بحلي من الذهب، أو حلي الفضة بحلي من الفضة، أو حلي أحدهما بثمن جنسه له أربع صور، نعرضها في المطالب التالية:

المطلب الأول

شراء الحلي الجديد بالقديم

وصورته: أن يقدم إنسان ذهبه، أو فضته إلى صاحب متجر الحلي، سواء كان ذهبه قديما وهو الغالب، أو جديدا، ويطلب منه أن يعطيه مقابله حليا جديدا، فيزن الحلي القديم فإذا كان وزنه سبعين جراما مثلا أعطاه مقابله ستين جراما.

هذه الصورة حرام؛ لا تجوز شرعا، لعدم التماثل، وقد قال بهذا جميع الفقهاء (1) . وصدر فيها قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة (2) وقرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (3) لحديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا)) (4)((بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) (5) . متفق عليه، وغيره من الأحاديث.

(1) انظر المراجع في المذهب الأول، والثاني، من المبحث الأول. ومن الجدير بالذكر أن كلام شيخ الإسلام وابن القيم مقتصر على بيع الحلي بجنسه، ولم يذكرا بيع الحلي بالحلي؛ لأن الزيادة التي أجازاها في مقابلة الصنعة، والحلي بالحلي في كل منهما صنعة، يؤيده قولهما ما لم يكن أحدهما ثمنا. وفي حالة شراء الجديد بالقديم يكون القديم ثمنا.

(2)

فقرة (أ) من أولا، من قرار رقم 88/1/د9

(3)

فقرة (1) من القرار رقم 168 وتاريخ 4/3/1411هـ

(4)

ولا تشفوا: بضم أوله وكسر الشين أي: تفضلوا. والشف بالكسر الزيادة، ويطلق على النقص. الفتح 4/380

(5)

صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 4/379 و380؛ صحيح مسلم بشرحه 4/96

ص: 118

المطلب الثاني

شراء الحلي بثمن الحلي المبيع

اعتاد أكثر الناس، وخاصة النساء، بيع الحلي القديم، وأخذ حلي جديد بدلا منه، فيسألون صاحب متجر الحلي عن سعر الجرام في حالة بيعه، وفي حالة شرائه، فيجيبهم أنه يبيع الجرام بخمسين ريالا، ويشتري بخمسة وأربعين ريالا. فيطلبون منه أن يزن الذهب الذي يرغبونه، فإذا عرفت قيمته أنها ثمانون ألف ريال مثلا، ووزن ذهبهم القديم فبلغت قيمته سبعين ألفا، أجرى المقاصة بين المبلغين، ودفع المشتري العشرة آلاف الباقية.

هذه المسألة وإن لم أجد لها تصويرا عند الفقهاء على هذا النحو. إلا أنه ينخرج لهم فيها قولان بناء على أقوالهم فيما يماثلها، وفي الاستبدال عن ثمن الصرف.

القول الأول: يتخرج الحكم فيها بالجواز على قول الإمام مالك، والأصح من مذهب الحنفية (1) .

جاء في المدونة: (قلت: أرأيت إن صرفت دينارا بعشرين درهما فأخذت منه عشرة دراهم وأخذت بعشرة منها سلعة، قال مالك: لا بأس بذلك. وكذلك لو صرفت دينارا بدرهم فلم أقبض الدراهم حتى أخذت بها سلعة من السلع قال مالك: لا بأس بذلك)(2) .

وقال السرخسي في كتاب الصرف: (والاستبدال بالثمن قبل القبض جائز بخلاف المبيع)(3) .

وقال صاحب الهداية: (ومن كان له على آخر عشرة دراهم فباعه الذي عليه العشرة دينارا بعشرة دراهم ودفع الدينار وتقاصا العشرة بالعشرة فهو جائز، ومعنى المسألة إذا باع بعشرة مطلقة)(4) . (وهذا إذا كان الدين سابقا، فإن كان لاحقا فكذلك في أصح الروايتين)(5) .

(وإن كان مقارنا فإما أن يتقابضا أولا، فإن لم يتقابضا لم تقع المقاصة ما لم يتفقا عليها جميعا)(6) .

(1) المدونة 3/411؛ المبسوط 14/2؛ الهداية؛ وفتح القدير 7/ 149، 150، 151؛ رد المحتار 4/29؛ تبيين الحقائق 4/140

(2)

3/411؛ وانظر الخرشي علي خليل 5/ 234؛ الزرقاني علي خليل 20/10؛ الاستذكار 20/ 10؛ مواهب الجليل 5/234

(3)

المبسوط 14/2

(4)

الهداية وفتح القدير 5/149- 151؛ وانظر: تبيين الحقائق 4/140؛ رد المحتار 4/239

(5)

الهداية وفتح القدير 5/149 – 151؛ وانظر: تبيين الحقائق 4/ 140؛ رد المحتار 4/239

(6)

فتح القدير 7/149

ص: 119

ووجه الجواز أن هذا عقد صرف، وفي الصرف يشترط قبض أحد العوضين احترازا عن الكالئ بالكالئ، ويشترط قبض الآخر للاحتراز عن ربا النسيئة، ولا ربا في دين يسقط وإنما هو في دين يقع الخطر في عاقبته؛ فجاز الاستبدال، ووقعت المقاصة استحسانا، والقياس ينفيه، وبه قال زفر رحمه الله، لأنه تصرف في بدل الصرف قبل قبضه، ووجه الاستحسان أنه بالتقابض انفسخ العقد الأول، وانعقد صرف آخر مضاف إلى الدين (1)

واستدل أصحاب هذا القول بحديث ابن عمر – رضي الله عنهما – (قلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، وآخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (2) .

قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافق الذهبي وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.

القول الثاني: عدم جواز ذلك وهو مذهب الشافعية والحنابلة (3) .

وممن اطلعنا على قول له بالمنع من الفقهاء المعاصرين الشيخ محمد بن صالح العثيمين (4) . واستدل أصحاب هذه القول بأدلة عقلية، هي ما يأتي:

1-

لو استبدل عن ثمن الصرف لم يحصل مدلول قوله صلى الله عليه وسلم: ((عينا بعين)) (5) . لا عند العقد، ولا في المجلس.

2-

إن الثمن في الصرف غير مستقر؛ لأنه يعرض له البطلان بالتفرق قبل قبضه بخلاف الثمن في غير الصرف (6) .

3-

لا يصح تصرفه قبل قبضه؛ لأنه لم يتم الملك فيه، أشبه التصرف في ملك غيره.

4-

إذا باع ربويا حالا واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة فإنه ذريعة إلى بيع الربوي نسيئة (7) .

(1) فتح القدير.

(2)

سنن أبي داود 3/650، مسند الإمام أحمد تحقيق أحمد شاكر 9/85، رقم الحديث 6239؛ المستدرك 2/44

(3)

المجموع 10/100؛ كشاف القناع 3/245؛ شرح منتهى الإرادات 2/190؛ مجلة الأحكام الشرعية م325. الروض المربع 4/382، 383

(4)

الفتاوى الذهبية للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص16

(5)

صحيح مسلم 4/97

(6)

المجموع 10/100

(7)

الكشاف؛ شرح المنتهى؛ الروض المربع.

ص: 120

المناقشة والترجيح:

يمكن مناقشة أدلة المانعين بما يأتي:

قولهم: لو استبدل عن ثمن الصرف لم يحصل مدلول قوله صلى الله عليه وسلم ((عينا بعين)) . يصدق إذا كان البدل لا يتم قبضه في المجلس، وهذا غير موجود في الصورة التي معنا، إذ إن القائل بجواز الاستبدال يشترط التقابض في المجلس (1) . لقوله صلى الله عليه وسلم:((ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . ومعنى (عينا بعين) . أي حاضرا بحاضر (2) . وهذا الشرط متحقق؛ لأنه يتم قبض المبيع في الصرف، ويستبدل البائع عن ثمنه سلعة أخرى، يقبضها في مجلس العقد.

وفي مسألتنا يشتري الذهب الجديد بثمن معلوم من النقود الورقية، ثم يجري المقاصة بين ثمنه، وثمن الذهب المبيع، ويتم التقابض في المجلس.

وقولهم: إن الثمن في الصرف يعرض له البطلان بالتفرق قبل القبض بخلاف الثمن في غيره، يجاب عليه بأن بدل ثمن الصرف إذا اتحد مع المثمن في علة الربا يأخذ حكم الصرف، فلا بد من قبض البدل في المجلس.

وقولهم: لا يصح تصرفه فيه قبل قبضه، نقول: نعم إذا كان مع غير من هو عليه، أما تصرفه ممن هو عليه فيصح، يؤيده حديث ابن عمر:((أبيع بالدنانير وأخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، وآخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه)) .

وقولهم: إنه ذريعة إلى بيع الربوي بالربوي نسيئة، غير مسلم؛ لأنه إذا شرط الحلول والتقابض انتفت أي ذريعة إلى بيع الربوي بالربوي نسيئة.

وبناء على رد أدلة المانعين بالمناقشة السابقة وقوة أدلة المجيزين، فإنه يترجح لي جواز التصرف في ثمن الصرف، ممن هو عليه، والمقاصة بثمنه، والاستبدال عنه، بشرط الحلول وتقابض المبيع وبدل ثمنه في مجلس العقد، قبل التفرق، إذا كان ثمنه ربويا.

(1) المبسوط 14/3

(2)

لسان العرب؛ المصباح المنير؛ مادة عين

ص: 121

وبناء عليه فإنه يترجح عندي جواز الصورة المذكورة، وهو شراء الحلي بثمن الحلي المبيع، لأن هذا ليس بيع ذهب بذهب – كما قد يظن البعض – وإنما هو بيع الذهب القديم بنقود ورقية، وشراء الذهب الجديد بنقود ورقية، وإذا زادت قيمة أحد الذهبين عن الآخر فإن الفرق يدفع من النقود الورقية. وقد صدرت قرارات المجامع الفقهية، وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بأن العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة (1) . وهنا اختلف الجنس، وقد قال صلى الله عليه وسلم:((إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (2) . وذلك كما لو أن النقود المستعملة اليوم الدراهم الفضية، وكانت هي الوسيط في الصورة المذكورة. ولأن هذه المعاملة خالية من ربا الفضل، والنسيئة، وليس فيها غرر، ويتم التقابض في المجلس.

ويدل على صحة ما رجحناه حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – حيث كان يبيع بالدنانير وهي من أموال الربا، ويعتاض عنها مالا ربويا وهو الدارهم، مع أنه لم يقبض الدنانير في يده. ومثله بيع الحلي القديم بالنقود الورقية، ثم الشراء بهذه النقود من المشتري حليا جديدا قبل قبضها وإجراء المقاصة بين الثمنين.

(1) قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم 9 د3/ 07- 86، وانظر: قرار هيئة كبار العلماء في توضيح الأحكام 4/19

(2)

سنن أبي داود 3/650، مسند الإمام أحمد 9/85، رقم الحديث 6239

ص: 122

المطلب الثالث

شراء الحلي بشرط الشراء بثمنه حليا من البائع

هذه المسألة من حيث تصويرها كالمسألة السابقة، إلا أن بيع الحلي يشترط لشراء الحلي المعروض للبيع، أن يشتري البائع منه حليا. وربما كان الشرط من صاحب الذهب القديم؛ فيقول: لا أشتري منك إلا بشرط أن تشتري ذهبي القديم. أو لا أبيعك إلا أن تبيعني. وهذه المسألة لم أجد لها تصويرا – أيضا – عند الفقهاء على هذا النحو.

لكن يتخرج الحكم فيها بالحرمة والبطلان على مذهب الشافعية والحنابلة، والحرمة والفساد على مذهب الحنفية بناء على تفسيرهم لبيعتين في بيعة. ولأنه لا يجوز الاستبدال عن ثمن الصرف قبل قبضه عند الشافعية والحنابلة. فكل من العقدين شرط للآخر؛ لأن تاجر الذهب اشترط لشراء الذهب القديم، أن يشتروا منه الذهب الجديد. ومعنى بيعتين في بيعة عند الحنفية والحنابلة وأحد تفسيرات الشافعي لها هي أن يشترط أحدهما على صاحبه عقدا آخر؛ كسلف، أو بيع، أو إجارة؛ كأن يقول: بعتك هذا البيت بمئة ألف على أن تبيعني هذه السيارة بثلاثين ألفا. (1) . لما روى أبو هريرة: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعين في بيعة)) (2) .

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم (3) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح (4) .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم، وإذا أحلت على مليء فاتبعه، ولا بيعتين في واحدة)) (5) .

قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح (6) . وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح (7) . ولأنه عند الحنفية والشافعية بيع وشرط، وهو منهي عنه لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع وشرط)) (8) .

ويتخرج القول فيه بالجواز على مذهب الإمام مالك رحمه الله.

(1) الهداية وفتح القدير 6/446؛ المبسوط 13/16؛ مغني المحتاج 2/31 و32؛ فتح العزيز 8/194؛ شرح المنهاج وحاشية القليوبي وعميرة 2/177؛ كشاف القناع 3/193؛ الإنصاف 4/349

(2)

صحيح الترمذي بشرح ابن العربي 5/239؛ منتقى الأخبار بشرحه 5/151 و152؛ مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر 8/168؛ حديث رقم 9582؛ موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان لنور الدين الهيثمي ص272؛ وانظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/151

(3)

صحيح الترمذي بشرحه؛ بلوغ المرام بشرحه توضيح الأحكام 3/457

(4)

المسند

(5)

المسند 7/209؛ رقم الحديث 5395

(6)

مجمع الزوائد 4/85

(7)

المسند

(8)

معالم السنن للخطابي مع مختصر سنن أبي داود للمنذري 5/154 و155

ص: 123

جاء في المدونة: (أرأيت إن صرفت عند رجل دراهم بدنانير على أن آخذ بثمنه منه سمنا أو زيتا، (قال) قال مالك: ذلك جائز نقدا أو إلى أجل) (1) .

واختاره الشيخان عبد الرحمن السعدي وعبد الله البسام من الحنابلة المعاصرين (2) . قال الشيخ السعدي: (وأما تفسيره بأن يقول: بعتك هذا البعير مثلا بمئة على أن تبيعني هذه الشاة بعشرة، فالمذهب (عند الحنابلة) إدخالها في هذا الحديث (بيعتين في بيعة) والقول الآخر في المذهب عدم إدخالها، وأنه لا يتناولها النهي، لا بلفظه ولا بمعناه ولا محظور في ذلك، وهو الذي نراه ونعتقده) (3) . والراجح عندي أن الصورة المذكورة جائزة؛ لأن هذا ليس بيع ذهب بذهب – كما بينا في المطلب السابق – وإنما هو بيع الذهب القديم بريالات ورقية، وشراء الذهب الجديد بريالات ورقية.

وأما أنها من بيعتين في بيعة فالراجح عندي أن بيعتين في بيعة هي بيع العينة. وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وأحد الأقوال للإمام مالك، وقال به الشيخ عبد الرحمن بن سعدي والشيخ عبد الله البسام (4) .

قال ابن القيم رحمه الله: (البيعتان في بيعة بأن يقول: خذ هذه السلعة بمئة مؤجلة ثم يشتريها منه بثمانين حالَّة فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا. وهذا هو المعنى المطابق للحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) (5) . صححه الحاكم. ووافقه الذهبي. ورواه ابن حبان.

وما رواه سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)) . فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله وهو أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا. فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا، ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى، وهذا هو بعينه الشرطان في بيع، فشرطان في بيع كصفقتين في صفقة (6) .

(1) 3/411. وانظر: المغني 6/333

(2)

الفتاوى السعدية ص298؛ الاختيارات الجليلة في المسائل الخلافية، للشيخ عبد الله البسام 3/44

(3)

الفتاوى السعدية

(4)

مجموع الفتاوى 29/432 و440 و441 و447؛ تهذيب سنن أبي داود لابن القيم 5/146 و149؛ إعلام الموقعين 3/193؛ الاستذكار 20/173 و175؛ الذخيرة 5/19؛ مواهب الجليل 4/390؛ الفتاوى السعدية ص298؛ توضيح الأحكام من بلوغ المرام للشيخ عبد الله البسام 3/458

(5)

المستدرك 2/45؛ موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص272

(6)

تهذيب سنن أبي داود 5/149

ص: 124

وقال رحمه الله: (وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عن بيعتين في بيعة، وعن سلف وبيع. رواه أحمد، ونهيه عن شرطين في بيعة، وعن سلف وبيع في حديث عبد الله بن عمرو. فجمع السلف والبيع مع الشرطين، ومع البيعتين في بيعة. وسر ذلك أن كلا الأمرين يؤول إلى الربا وهو ذريعة إليه. أما البيعتين في بيعة: فظاهر، فإنه إذا باعه السلعة إلى شهر ثم اشتراها منه بما شرطه له كان قد باع بما شرطه له بعشرة نسيئة.

ولهذا حرم الله ورسوله العينة.

وأما السلف والبيع: فلأنه إذا أقرضه مئة إلى سنة؛ ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة: فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى زيادة في القرض، الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك. فظهر سر قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع)) . وقول ابن عمر: ((نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع)) واقتران إحدى الجملتين بالأخرى لما كان سلما إلى الربا) (1) .

وأما قول البائع: أبيعك على أن تبيعني، أو تؤجرني، أو نحوهما من العقود؛ فالراجح عندي جوازه لحديث:((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع)) .

قال الإمام مالك رحمه الله: (وتفسير ذلك أن يقول الرجل للرجل: آخذ سلعتك بكذا وكذا على أن تسلفني كذا وكذا. فإن عقد بيعهما على هذا فهو غير جائز)(2) .

فالعبارة الأولى من الحديث جاء النهي فيها عن اشتراط السلف في البيع وهذا دليل على قصره على الصورة المذكورة. ولا دليل على تعديته إلى بقية العقود؛ كاشتراط أبيعك على أن تبيعني. وإنما امتنع البيع في أشتري منك بكذا على أن تسلفني من أجل اقتران شيء محرم لعينه به، لا أنه شيء محرم من قبل الشرط (3) ، وهذا غير موجود في العقود الأخرى.

يؤيده أن العين تكون ثمنا بالاتفاق؛ وفي هذه الحالة لا بد أن يدخلها الاشتراط خلال المماكسة، مثل أن يقول المشتري: أشتري بيتك بمليون ريال على أن تأخذ مني ثلاث قطع من الأرض لقاء هذا المبلغ. أو يقول: أشتري بيتك بالقطع الثلاث، دون أن يذكر مبلغا. وما دام هذا جائزا فاشتراط أبيعك على أن تبيعني، أو تؤجرني، أو تشاركني، ونحوه يكون جائزا.

(1) تهذيب سنن أبي داود 5/149

(2)

الاستذكار 20/126

(3)

بداية المجتهد 2/162

ص: 125

فإن قيل: هذا الشرط يؤدي إلى تعليق العقد الأول على الثاني، قلنا: إن التعليق الممنوع هو الذي يؤدي إلى غرر، مثل أن يقول البائع: أبيعك إذا جاء ابني من السفر، ولا يعلمان وقت مجيئه أو يعلق على أمر مستحيل تحققه. أما الشرط الذي نرى جوازه فإنه يتم عقده خلال مجلس العقد؛ كما يتم ذلك لو لم يشترط عقدا آخر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إنه يجوز تعليق العقود بالشروط، إذا كان في ذلك منفعة للناس ولم يكن متضمن ما نهى الله عنه ورسوله، فإن كل ما ينفع الناس، ولم يحرمه الله ورسوله: هو من الحلال الذي ليس لأحد تحريمه. وقد ذكرنا عن أحمد نفسه: جواز تعليق البيع بشرط، ولم أجد عنه ولا عن قدماء أصحابه نصا بخلاف ذلك. بل ذكر من ذكر من المتأخرين: أن هذا لا يجوز كما ذكر ذلك أصحاب الشافعي)(1) .

وأما الأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الأول؛ فهي دالة على تحريم بيعتين في بيعة وليس فيها ما يدل على أنها الصورة التي ذكروها.

وأما حديث ((نهى عن بيع وشرط)) فضعفه ابن القطان؛ وعلته ضعف أبي حنيفة في الحديث (2) وأنكره الإمام أحمد، حيث قال:(لا نعرفه مرويا في مسند)(3) وقال ابن قدامة: (فلا يعول عليه)(4) ؛ لأن الشرط الصحيح لا يؤثر في البيع وإن كثر، والفاسد يؤثر فيه وإن كان واحدا. وقد استغربه النووي (5) .

وحديث جابر وهو أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا واشترط حملانه إلى المدينة متفق عليه (6) يرد الحديث النهي عن بيع وشرط. ويدل على أن الشروط التي فيها منفعة للعاقد تكون صحيحة؛ ومنها أبيعك على أن تبيعني، أو تؤجرني، أو تشاركني، ونحوها.

المطلب الرابع

بيع الحلي وقبض ثمنه ثم الشراء به حليا

وصورته أن يشتري الإنسان من بائع الحلي خلخالا ويدفع ثمنه بالعملة الورقية المتداولة، أو أي عملة مخالفة لجنس الخلخال، ويقبض البائع الثمن ويقبض المشتري المبيع. ثم يبيعه ذهبه القديم ويتسلم قيمته ويتسلم المشتري الذهب.

وهذه الصورة جائزة شرعا بلا خلاف، وهي الأحوط. وإن كان الإمام أحمد رحمه الله يفضل أن يطلب حاجته من غير من باع عليه، فإن وجد وإلا رجع عليه واشترى منه.

(1) نظرية العقد 237

(2)

نصب الراية 4/18

(3)

كشاف القناع 3/191؛ المغني 6/223

(4)

المغني

(5)

المجموع 9/368؛ التلخيص الحبير 3/12

(6)

صحيح مسلم بشرحه 4/114 و115

ص: 126

المبحث السابع

الجمع بين البيع والإجارة على عمل الحلي بجنسه

يرغب بعض الناس في حلية معينة، أو نقوش يقترحها على صائغ الحلي، فيتفق معه على أن يعمل له خلخالا معينا، يحدد وزنه، وعياره وشكله، ومقدار أجرته. فإذا حدد وزنه بثلاثمئة جرام، فإنه عندما تتم صياغته يعطيه ثلاثمئة جرام، وأجرته خمسين جراما مثلا. وربما لا يحدد وزنه، ولكن يتفقان على وزنه بعد صنعه، فإذا علم مقداره بعد صنعه دفع مثله، وأجرته المتفق عليها.

وصورة ثانية وهي: أن يدفع طالب الحلي القيمة والأجرة من غير جنسه، فإذا كانت الحلية المطلوبة من الذهب، دفع مقابلها من النقود الفضية، أو الأوراق النقدية.

فأما المسألة الأولى – وهي أن يدفع القيمة والأجرة من جنسها على ما بيناه – فقد اختلف فيها العلماء على قولين:

القول الأول: لا يجوز ذلك. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية (1) .

وقد علل المانعون ذلك بأن مقدار الذهب مجهول؛ ولأنه عقد صرف لا بد فيه من التقابض، ولم يتم التقابض في المجلس. وزاد الحنفية والشافعية أنه شرط العمل في الشراء (2) .

قال الشافعي: (ولا خير في أن يأتي الرجل بالفص إلى الصائغ فيقول له: اعمله لي خاتما حتى أعطيك ذلك وأعطيك أجرتك، وقاله مالك)(3) .

وجاء في المبسوط: (إن استأجره ليموه له لجاما فإن اشترط ذهب التمويه على الذي يأخذ الأجر فلا خير فيه؛ لأن مقدار ما يحتاج إليه من الذهب للتمويه غير معلوم؛ ولأن العقد في ذلك صرف فلا بد من التقابض في المجلس ولم يوجد)(4) .

(1) الأم 3م35؛ المبسوط 14/48 76 و77. الفتاوى الهندية 3/228؛ الشرح الصغير 2/17 و18. الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3/30، المجموع 10/83

(2)

المصادر السابقة

(3)

الأم 3/35، وانظر المجموع.

(4)

14/248

ص: 127

القول الثاني: يجوز ذلك وهو قول الحنابلة (1) .

جاء في المغني: (فأما إن قال لصائغ: صغ لي خاتما وزنه درهم وأعطيك مثل وزنه، وأجرتك درهما. فليس ذلك بيع درهم بدرهمين. وقال أصحابنا: للصائغ أخذ الدرهمين؛ أحدهما في مقابل الخاتم والثاني أجرة له)(2) .

والراجح عندي مذهب الجمهور؛ وهو عدم جواز هذا العقد وبطلانه؛ لأنه في حالة عدم تحديد مقدار الحلي المطلوب يكون مجهولا، وفي جميع الأحوال لا يصح هذا العقد لعدم التقابض في المجلس في حالة ما إذا كان مقدار الذهب محددا وعدم التقابض والتماثل في حالة عدم تحديد مقدار الحلي؛ مثل أن يقول: صغ لي بناجز وأعطيك مثل وزنها وأجرتك خمسين جراما؛ لأنه صرف ومن شروطه التقابض والتماثل. فإن قيل: إنه من باب الاستصناع. فالجواب أن الاستصناع عند الحنابلة كما هو عند المالكية والشافعية قسم من أقسام السلم (3) ،

ومن شروط السلم تسليم الثمن في مجلس العقد. وإذا كان السلم في الذهب أو الفضة فيشترط أن يكون رأس المال من غير الأثمان (4) ؛ أي من غير الذهب، أو الفضة، أو الأوراق النقدية، أو ما يقوم مقامهما في الوقت الحاضر كالشيكات ونحوها، أو ما يستقر العرف مستقبلا على أنه نقود؛ وذلك لاتحاد العلة وهي الثمنية؛ فيحرم النساء. أما إذا كان رأس المال من غير الأثمان فإنه يجوز استصناع الحلي من تاجر الحلي، أو من المصنع (5) .

وأما قول الحنفية والشافعية بأنه شرط العمل في الشراء؛ بناء على مذهبهم عدم جواز بيع وشرط، بناء على ما روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع وشرط)) (6) فهذا الحديث ضعفه ابن القطان (7) وأنكره الإمام أحمد (8) واستغربه النووي (9) .

قال ابن قدامة: (فلا يعول عليه)(10) .

ولهذا فإن الشرط الصحيح لا يؤثر في البيع وإن كثر، والفاسد يؤثر وإن كان واحدا (11) .

(1) المغني 6/61. وانظر: الكشاف 3/253؛ شرح منتهى الإرادات 2/199

(2)

6/61، وانظر: الكشاف وشرح المنتهى

(3)

مواهب الجليل 4/539 و540؛ الشرح الصغير 3/287؛ المطبعة المصرية؛ سنة 1410هـ؛ 1989م، روضة الطالبين 4/3؛ شرح المنهاج، 2/245؛ الإنصاف 4/300؛ الفروع 4/24؛ المجموع 13/109

(4)

كشاف القناع 3/291؛ شرح المنتهى 2/215 و216؛ الروض المربع 5/10، مختصر المزني ص76

(5)

المصادر السابقة، وانظر: الشرح الكبير 3/18، الشرح الصغير وحاشية الصاوي 3/266 – م- العصرية

(6)

معالم السنن للخطابي، مع مختصر سنن أبي داود للمنذري 5/154 و155

(7)

نصب الراية 4/18

(8)

المغني 6/223؛ كشاف القناع 3/191

(9)

المجموع 9/368؛ التلخيص الحبير 3/12

(10)

المغني

(11)

المغني، تهذيب سنن أبي داود لابن القيم 5/146

ص: 128

ويرد على الحنفية والشافعية أيضا بأنه يجوز اشتراط شرط في البيع لا يخالف مقتضاه، أو فيه منفعة للعاقد معلومة. بدليل حديث جابر إنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا واشترط حملانه إلى المدينة (1) متفق عليه.

ومما يحسن التنبيه عليه، أن أحد الباحثين ذكر أن من أسباب منعه عند المالكية، اجتماع البيع والإجارة؛ لأن الصرف نوع من البيوع (2) .

لكن المالكية لا يمنعون اجتماع البيع والإجارة؛ بدليل قصرهم المنع على العقود الستة فقط، والتي يلخصونها في قول: جص مشنق (3) كما أن ابن جزي نص على جواز اجتماع البيع والإجارة (4) .

وأما قول الحنابلة في الصورة التي ذكرها ابن قدامة: إن ذلك ليس بيع درهم بدرهمين فمسلم. لأن أحدهما في مقابلة وزن الحلي، والثاني أجرة. لكن لم يتم شرط التقابض في المجلس، فلا يصح العقد.

والصورة الثانية هي أن يدفع طالب الحلية الثمن والأجرة من غير جنسه لا تجوز، ولايصح العقد عليها أيضا. لعدم التقابض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (5) .

والطريقة التي يكون بها تحقيق رغبة طالب الحلية وتوافق أحكام الشريعة الإسلامية هي:

أ - أن تتم صناعة الحلي خلال مدة انتظار طالبها، ويتم التقابض في المجلس، ويتم دفع ثمنها من النقود الورقية، أو نحوها مما هو مخالف لجنسها.

ب - أن يشتري الإنسان الذهب أو الفضة، تبرا أو سبائك، أو حليا، ويدفع ثمنها، بالتساوي إن اتحد جنسها أو بالتفاضل إن اختلف الجنس، ويقبض المشتري الذهب، أو الفضة ويقبض البائع الثمن. ثم يتفق معه على أجرة الصناعة التي يريدها ويسلمه المعدن المشترى - ذهبا أو فضة – وفي هذه الحالة يكون العقد جائزا، وصحيحا، سواء كانت الأجرة من جنس المعدن أو مختلفة عنه، وسواء دفعها مقدما أو عند تسليم الحلي، أو دفع بعضها مقدما، والبعض الآخر مؤخرا.

(1) صحيح مسلم بشرحه 4/114 و115

(2)

حكم عقد الصرف ص642

(3)

الشرح الصغير وبلغة السالك 2/17؛ الشرح الكبير 3/28؛ مواهب الجليل والتاج والإكليل 4/313

(4)

القوانين الفقهية ص258

(5)

صحيح مسلم بشرح النووي 4/98؛ ورواه الجماعة إلا البخاري

ص: 129

ج- أن يشتري الذهب أو الفضة بما لا يتفق معهما في علة الربا، أي بغير الأثمان، كعروض التجارة، ونحوها. وفي حالة عدم قبض الحلي يجب تسليم الثمن لئلا يكون من بيع الدين بالدين. أو يتم قبض الحلي ثم تسليمها للمصنع، وفي هذه الحالة يكون العقد صحيحا سواء قبض الثمن أم لم يقبض منه شيئا.

وقال الدكتور وهبة الزحيلي: (وأجاز المالكية الجمع بين البيع والإجارة، وبين البيعتين في البيعة ويكون هذا من باب الخيار، ومنع الجمهور ذلك واعتبر الحنفية البيع فاسدا، والشافعية والحنابلة اعتبروه باطلا)(1) .

فقوله: أجاز المالكية الجمع بين البيع والإجارة، صحيح.

وأما بيعتين في بيعة فلم يجزها المالكية ولا غيرهم من المذاهب الأخرى.

وهم وإن اتفقوا على منعها، فقد اختلفوا في تفسيرها (2) . وإذا لم يجيزوا بيعتين في بيعة، فكيف يجيزونها مجتمعة مع البيع والإجارة؟

وأما قوله: ومنع الجمهور ذلك، فالنسبة للبيعتين في بيعة صحيح كما بيناه فيما سبق. وأما بالنسبة لاجتماع البيع والإجارة فغير مسلم.

حيث أجازه الشافعية والحنابلة؛ جاء في متن المنهاج: (ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم كإجارة وبيع أو سلم صحا في الأظهر ويوزع المسمى على قيمتهما)(3) .

وفي فتح العزيز: (وأصح القولين أنه لو جمع بين عقدين مختلفين في صفقة واحدة كالإجارة والسلم، أو الإجارة والبيع أو النكاح والبيع

فالعقد صحيح) (4) .

وجاء في شرح منتهى الإرادات: (وكل من البيع والإجارة يصح إفراده بالعقد. فجاز الجمع بينهما كالعينين)(5) .

وأما الحنفية فالقياس عندهم أنهم يمنعون الجمع بين البيع والإجارة، إذا جاءت بناء على الاشتراط، لكنهم أجازوها استحسانا (6) جاء في الهداية:(ومن اشترى نعلا على أن يحذوها البائع قال: أو يشركها، فالبيع فاسد، قال رضي الله عنه: ما ذكره جواب القياس، ووجهه ما بينا، وفي الاستحسان يجوز للتعامل فيه فصار كصبغ الثوب)(7) .

(1) الفقه الإسلامي وأدلته 4/514

(2)

انظر: المطلب الثاني، من المبحث الثاني. وانظر: الغرر وأثره في العقود ص79 – 99

(3)

المنهاج مع مغني المحتاج 2/41

(4)

8/278

(5)

2/162؛ وانظر: كشاف القناع 3/191؛ الروض المربع 4/398

(6)

المبسوط 13/18؛ الهداية؛ فتح القدير 6/451؛ رد المحتار 4/123

(7)

6/451

ص: 130

وعلق عليها ابن الهمام فقال: (وفي الاستحسان يجوز البيع والشرط للتعامل كذلك، ومثله في ديارنا شراء القبقاب على هذا الوجه: أي على أن يسمر له سيرا، وصار كصبغ الثوب مقتضى القياس منعه لأنه إجارة عقدت على استهلاك عين مع المنفعة وهو عين الصبغ ولكن جوز للتعامل)(1) .

وقال الحصكفي: (أو جرى العرف به [أي شرط جرى العرف به] كبيع نعل

على أن يحذوه البيع أو يشركه أي يضع عليه الشرك وهو السير ومثله تسمير القبقاب استحسانا للتعامل بلا نكير، هذا إذا علقه بكلمة على، وإن بكلمة إن بطل البيع لا في بعت إن رضي فلان) (2) .

وقد علق ابن عابدين على قوله: (استحسانا للتعامل. فقال: أي يصح البيع ويلزم الشرط استحسانا للتعامل والقياس فساده لأن فيه نفعا لأحدهما وصار كصبغ الثوب مقتضى القياس منعه لأنه إجارة عقدت على استهلاك عين الصبغ مع المنفعة ولكن جوز للتعامل ومثله إجارة الضئر وللتعامل جوزنا الاستصناع مع أنه بيع المعدوم ومن أنواعه شراء الصوف المنسوج على أن يجعله البائع قلنسوة أو قلنسوة بشرط أن يجعل البائع لها بطانة من عنده)(3) .

وبعد هذه النقول عن علماء الحنفية تبين أنهم يجيزون اجتماع البيع والإجارة استحسانا، وأن العمل على هذا من غير نكير، لأنه استقر العرف على هذا.

(1) فتح القدير 6/452

(2)

الدر المختار 4/123

(3)

رد المحتار 4/123

ص: 131

المبحث الثامن

المبادلة بين مقدار من الذهب

ومقدار أقل منه مضموم إليه جنس آخر

يقع في بعض البضائع كالساعات، والخواتم، وبعض السيارات، وغيرها؛ حلية من الذهب. وكذلك بعض ما يلبسه النساء؛ كالياقوت، والزمرد، واللؤلؤ، قد يطعم بالذهب. وقد يكون الذهب مضموما إلى ذلك الغير دون صناعة. وقد يركب مع غيره، ويسهل نزعه منه، وإعادته إليه، دون إفساد للمبيع. وهذه المسألة يترجم لها الفقهاء ببيع الربوي بجنسه ومع أحدهما، أو معهما من غير جنسهما، ويترجم لها بمسألة مد عجوة (1) . لكن موضوع بحثنا مقتصر على الجزء الأول من المسألة، وهو بيع الربوي بجنسه ومع أحدهما من غير جنسه. وإن كانت الأقوال، والحكم، والأدلة، في الجميع واحدة.

ولأنه يشترط المماثلة في بيع الربوي بجنسه؛ وقع الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة؛ وذلك لعدم تحقق المساواة، أو الجهل به، والجهل بالمساواة في بيع الربوي بجنسه كالعلم بالتفاضل. وقبل عرض خلاف الفقهاء في هذه المسألة، أعرض لبعض الصور:

1-

إذا كانت الحلية محرمة كالملاعق والصحون والمطلية بالذهب، والخواتم التي فيها ذهب للرجال؛ فهذه يحرم شراؤها، ويبطل العقد عليها، لما روى حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تلبسوا الحرير ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)) متفق عليه (2) .

وعن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) . متفق عليه (3) . في رواية لمسلم ((الذي يأكل ويشرب)) .

فإذا حرم استعمال الآنية، أو نحوها، حرم بيعها؛ إذا كان الشراء لغرض الاستعمال.

(1) لأن من صورها: مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم

(2)

صحيح البخاري بشرحه 9/544 كتاب الأطعمة

(3)

صحيح مسلم 4/764 و765، وانظر: البخاري 10/96 رقم الحديث 5634. وقد اقتصرت روايته على آنية الفضة

ص: 132

2-

أما إذا كانت الحلية مباحة فإنه يصح بيع السلعة التي معها، أو مازجها ذهب بالعروض، وبالنقود الورقية، وبالشيكات، وبالنقود الفضية، دون اشتراط التماثل. وفي بيعها بالفضة والنقود الورقية نسيئة خلاف.

3-

لكن الفقهاء اختلفوا في بيعها بالذهب على قولين:

القول الأول: إذا كان مع الذهب شيء غيره؛ فإنه لا يحل بيع ذلك الشيء بذهب، لا بأكثر من وزنه، ولا بأقل، ولا بمثله حتى يفصل الذهب وحده، فيباع مثلا بمثل. وهو مذهب المالكية، والشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة؛ نص عليه الإمام أحمد في مواضع كثيرة، وعليه جماهير الأصحاب، وهو قول زفر من الحنفية، وقول ابن حزم (1) . ومن الصحابة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى محمد بن عبد الله الشعبي عن أبي قلابة عن أنس قال (أتانا كتاب عمر ونحن بأرض فارس: لا تبيعوا سيوفا فيها حلقة فضة بالدراهم) (2) . وصح عن ابن عمر: أنه كان لا يبيع سرجا ولا سيفا فيه فضة حتى ينزعه ثم يبيعه وزنا بوزن وروي فيه عن أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه – شيء محتمل (3) . قال السبكي (وكل هذه الآثار بأسانيد صحيحة)(4) . وروى عن سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، وشريح، وابن سيرين، وإسحاق، وأبي ثور (5) .

قال الإمام الشافعي: (فلا يجوز أن يشتري ذهبا فيه حشو، ولا معه شيء غيره بالذهب، كان الذي معه قليلا أو كثيرا؛ لأن أصل الذي نذهب إليه، أن الذهب بالذهب مجهول أو متفاضل، وهو حرام من كل واحد من الوجهين. وهكذا الفضة بالفضة)(6) .

ويستثني أصحاب هذا القول – ما عدا ابن حزم – من المنع ما إذا كان الذهب المضموم مع غيره مصنوعا صناعة يتعذر معها فصل كل منهما عن الأخر أو أن فصلهما يؤدي إلى تخريب الصنعة. فهنا يكون المبيع قيميا فيجوز بيعه بالذهب. قال الإمام الشافعي: (وهكذا كل صنف من هذه خلطه غيره مما يقدر على تمييزه منه لم يجز بعضه ببعض إلا خالصا)(7) .فقد قيد المنع بالقدرة على تمييزه. وقال الباجي عند ذكر الشروط التي يصح بها بيع المحلى بالذهب أو الفضة بجنسه، دون فصله:(أن يكون الحلي مرتبطا بالمحلى ارتباطا في إزالته مضرة فلا يقدر على إزالته من المبيع وتمييزه إلا بمضرة لاحقة)(8) ؛ كالفصوص المصوغ عليها، وحلية السيف المسمرة عليه وأما القلائد التي لا تفسد عند نظمها فظاهر المذهب أنه لا تأثير لها في الإباحة (9) .

(1) الأم 3/31؛ المجموع 10/233 وما بعدها؛ مغني المحتاج 2/28؛ الوجيز 1/137؛ مسائل الإمام أحمد 3/911؛ المغني 6/92؛ الإنصاف 5/33؛ المبدع 4/134 و144؛ المحلى 9/549؛ فتح القدير 7/144؛ الشرح الصغير وبلغة السالك 2/15؛ القوانين الفقهية ص252؛ بداية المجتهد 2/197

(2)

المجموع 10/251

(3)

المجموع 10/251

(4)

المجموع ص252

(5)

المجموع 10/ 233؛ المغني 6/92

(6)

الأم 3/31

(7)

الأم 3/20 كتاب الشعب، سنة 1388هـ- 1968م

(8)

المنتقى 4/269، وانظر: مواهب الجليل 4/ 331؛ وانظر أيضا: إعلام الموقعين 2/136؛ الإنصاف 5/36؛المغني 6/97

(9)

مواهب الجليل

ص: 133

أما ابن حزم فإنه يقول بالمنع مطلقا حتى يفصل الربوي عن ما معه (1) .

ويستثنون أيضا ما إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره بأن كان المقصود الأعظم غير الجنس الربوي فيجوز البيع، وهو قول الإمام مالك، وأحمد في المشهور عنه، والأصح من مذهب الشافعية، وهو مذهب الحكم بن عتيبة، والحسن، وإبراهيم، وهو قول سفيان (2) . قال المرداوي: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أنه ظاهر المذهب، ونصره صاحب الفائق (3) ، ووافقه ابن القيم (4) .

ومع أن الأصل عند المالكية المنع، إلا أنهم أجازوه للضرورة بشروط، هي:

1-

أن تكون الحلية مباحة.

2-

أن تكون الحلية مسمرة علي المحل، بحيث يكون في نزعها ضرر.

3 -

أن تكون الحلية قدر الثلث فأقل (5) .

قال الإمام مالك: (بأن يكون الثلث فما دون)(6) . جاء في المدونة: (قلت: أرأيت إن اشتريت سيفا محلى بفضة حليته أقل من ثلث السيف بفضة إلى أجل أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا يجوز بيعه بفضة ولا بذهب إلى أجل، قلت: أفبيعه بفضة أو بذهب نقدا في قول مالك، قال: نعم. قلت: فلماذا جوزه مالك بالنقد بالفضة ولم يلتفت إلى الفضة التي في السيف وهي عنده ملغاة وجعلها تبعا للسيف فلم لا يجوزنه بفضة إلى أجل؟

قال مالك: لأن هذا لم يجز إلا على وجه النقد) (7) .

(1) المحلى 9/550. قال أبو محمد: وإنما هذا كله إذا ظهر أثر الخلط في شيء مما ذكرنا – وأما ما لم يؤثر ولا ظهر له فيه عين ولا نظر أيضا: فحكمه حكم المحض، لأن الأسماء إنما هي موضوعة على حسب الصفات التي بها تنتقل الحدود

(2)

المدونة 3/410و414؛ المنتقى للباجي 4/268؛ القوانين الفقهية ص252؛ بداية المجتهد 2/197؛ المجموع 10/252؛ المغني 6/96

(3)

الإنصاف 5/34

(4)

إعلام الموقعين 2/136

(5)

المنتقى 4/268؛ مواهب الجليل 4/330، 331

(6)

المدونة 3/414؛ بداية المجتهد

(7)

المدونة

ص: 134

وقال ابن قدامة: (وإن باع ما فيه الربا بغير جنسه، ومعه من جنس ما بيع به إلا أنه غير مقصود، كدار مموه سقفها بالذهب جاز. لا أعلم فيه خلافا. وكذلك لو باع دارا بدار مموه سقف كل واحدة منها بذهب أو فضة؛ جاز؛ لأن ما فيه غير مقصود بالبيع؛ فوجوده كعدمه)(1) .

وقال النووي: (لو باع دارا بذهب فظهر فيها معدن ذهب، أو باع دارا فيها بئر ماء بدار فيها بئر ماء، وقلنا الماء ربوي، صح البيع في المسألتين على الأصح لأنه تابع.)(2) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: (فإذا كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا، وقد أدخل الغير حيلة، كمن يبيع ألفي درهم بألف درهم في منديل، أو قفيزي حنطة بقفيز في زنبيل فهذا لا ريب في تحريمه، كما هو مذهب مالك وأحمد والشافعى، وإن كان المقصود هو البيع الجائز وما فيه من مقابل ربوي بربوي داخل على وجه التبع كبيع الغنم بالغنم، وفي كل منهما لبن وصوف، أو بيع غنم ذات لبن بلبن، وبيع دار مموهة بذهب وبيع الحلية الفضية بذهب، وعليهما ذهب يسير موهت به، ونحو ذلك، فهذا الصواب فيه أنه جائز، كما هو المشهور من مذهب أحمد وغيره كما جاز دخول الثمرة قبل بدو صلاحها في البيع تبعا)(3) .

القول الثاني: يجوز ذلك؛ إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره، لا مثله، ولا دونه، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه وتكون الزيادة في مقابل المصاحب للربا؛ وهو مذهب الحنفية وحماد بن أبي سليمان، والشعبي، والنخعي، وراوية عن الإمام أحمد (4) .

(1) المغني 6/96. وقد قسم ابن قدامة غير المقصود إلى ثلاثة أقسام: أحدها: (أن يكون غير المقصود يسيرا، لا يؤثر في كيل ولا وزن؛ كالملح فيما يعمل فيه، وحبات الشعير في الحنطة، فلا يمنع؛ لأنه يسير لا يخل بالمماثلة

، لأن وجود ذلك كعدمه) . الثاني:(أن يكون كثيرا، إلا أنه لمصلحة المقصود، كالماء في خل التمر، والزبيب، ودبس التمر، فهذا يجوز بيع الشيء منه بمثله، وينزل خلطه منزل رطوبته؛ لكونه من مصلحته، فلا يمنع من بيعه بما يماثله كالرطب بالرطب، ولا يجوز بيعه بما ليس فيه خلط، كبيع خل العنب بخل الزبيب، لإفضائه إلى التفاضل) الثالث: (أن يكون غير المقصود كثيرا، وليس من مصلحته؛ كاللبن المشوب بالماء، والأثمان المغشوشة بغيرها، فلا يجوز بيع بعضها ببعض؛ لأن خلطه ليس من مصلحته وهو يخل بالتماثل المقصود فيه) المغني 6/97

(2)

روضة الطالبين 3/ 386، وانظر: مغني المحتاج 2/29

(3)

مجموع الفتاوى 29/465، مواهب الجليل 4/331؛ المنتقى4/268 وما بعدها

(4)

فتح القدير 7/142 و143؛ رد المحتار 4/239؛ المغني 6/92؛ الإنصاف5/33؛ المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين؛ للقاضي أبي يعلى 1/321 وما بعدها

ص: 135

وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من فتاواه (1) .وهذه الرواية عن الإمام أحمد ضعيفة والعمل على الرواية الأولى. فقد نقل الجماعة عن الإمام أحمد أنه لا يجوز. قال: (في رواية حنبل في الخاتم والمنطقة والسيف وما أشبهه: لا أرى أن يباع حتى يفصل ويخرج منه والقلادة على ذلك. ونقل عبد الله قال: قرأت على أبي عن الحكم أنه قال: ألف درهم وستون درهما بألف درهم وخمسة دنانير لا بأس به فقال أبي هذا حديث رديء لا يعجبنا، فظاهر هذا المنع.

ونقل الميموني: وقد سأله لا يشتري السيف والمنطقة حتى يفصلها قال: لا يشتريها حتى يفصلها إلا أن هذا أهون من ذلك. قال أبوبكر روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خمس عشرة نفسا كلهم اتفقوا على أنه لا يجوز البيع حتى يفصل إلا الميموني.

ونقل مهنا قولا آخر، والعمل على ما روى الجميع.

فالراوية التي أوردنها في القول الثاني هي التي نقلها مهنا وهي مخالفة لما نقله عنه الجماعة، بل ما نقله عنه خمسة عشر نفسا) (2) .

وقد اشترط الحنفية قبض الحلية وما يقابلها من الثمن إن أمكن فصلها، وإلا قبضت هي والسلعة التي حليت بها؛ لأن عدم القبض يؤدي إلى ربا النسيئة (3) . جاء في رد المحتار:(ولو تبايعا فضة بفضة أو ذهبا بذهب ومع أقلهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الفضة جاز البيع من غير كراهة)(4) . وقال ابن الهمام (الأصل أنه إذا بيع نقد مع غيره بنقد من جنسه لا بد أن يزيد الثمن على النقد المضموم إليه)(5) .مثل أن يكون المبيع سيفا محلى بذهب زنته حوالي عشرين جراما والثمن مئة جرام من الذهب، فهذا الذهب المفرد أكثر من الذي مع السيف، فيكون عشرون جراما في مقابل العشرين التي مع السيف، والثمانون في مقابلة السيف.

(1) مجموع الفتاوى 29/452 وص28

(2)

المسائل الفقهية 1/322. والمراد بالجماعة عند الحنابلة هم: (أبو طالب، وإبراهيم الحربي، وحرب الكرماني، وعبد الملك الميموني، وصالح وعبد الله ابني الإمام أحمد، وحنبل بن إسحاق بن حنبل ابن عم الإمام أحمد) .

(3)

فتح القدير والهداية 7/142و143

(4)

رد المحتار 4/239

(5)

فتح القدير 7/142

ص: 136

الأدلة

أولا: أدلة أصحاب القول الأول:

1-

استدل أصحاب القول الأول بحديث فضالة الوارد في صحيح مسلم بطرق متعددة، ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم.

فعن فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب وهي من المغانم تباع فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنا بوزنا)) (1) .

وفي راوية عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تباع حتى تفصل)) . رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه (2) .

فقذ تضمن الحديث الشريف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفصل الذهب الذي في القلادة عن الخرز، وبيعه لوحده؛ لأنه لا يجوز بيع الذهب مع غيره بذهب حتى يفصل من ذلك الغير، ويميز عنه ليعرف عنه مقدار الذهب المتصل بغيره؛ لاتحادهما في العلة وهي تحريم بيع الجنس بجنسه متفاضلا (3) ؛ ولأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، وفي هذه المسألة يجهل تساوي الذهب الذي في الساعة – مثلا – بالذهب الذي هو ثمن الساعة. ومثل هذا نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر بالكيل المسمى من التمر، ونهيه عن بيع الرطب خرصا، والحب في سنابله قبل اشتداده خرصا، كما في المزابنة، والمحاقلة.

(1) صحيح مسلم بشرحه 4/101، رقم الحديث 85

(2)

صحيح مسلم بشرحه 4/101، رقم الحديث 86؛ وانظر: سنن أبي داود 3/659؛ صحيح الترمذي بشرح ابن العربي 5/ 260

(3)

نيل الأوطار 5/197

ص: 137

2-

(لأنه قابل الجملة بالجملة، ومن قضيته الانقسام على الشيوع لا على التعيين، وهو أن يكون كل جزء على الشيوع مقابلا لكل جزء على الشيوع)(1) .

3-

(ولأن قضية اشتمال أحد طرفي العقد على مالين مختلفين أن يوزع ما في الطرف الآخر عليهما باعتبار القيمة والتوزيع فيما نحن فيه يؤدي المفاضل أو عدم تحقيق المماثلة)(2) ؛ (فالصفقة إذا جمعت شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن عليهما، كما لو اشترى شقصا وسيفا بألف قوم السيف والشقص وقسم الألف عليهما على قدر قيمتهما، وأخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن على قدر قيمته، وأمسك المشتري السيف بحصته من الثمن على قدر قيمته، وإذا قسم الثمن على قدر القيمة أدى إلى الربا؛ لأنه إذا باع دينارا صحيحا قيمته عشرون درهما، ودينارا قراضة قيمته عشرة دنانير، بدينارين، وقسم الثمن عليهما على قدر قيمهما صارت القراضة مبيعة بثلث الدينارين، والصحيح بالثلثين وذلك ربا)(3) .

4-

واستدل بعضهم على المنع بسد الذرائع المؤدية إلى الربا؛ فإن اتخاذ ذلك حيلة على الربا الصريح، كبيع مئة درهم في كيس بمئتين جعلا للمئة في مقابلة الكيس وقد لا يساوي درهما (4) .

واستدلوا علي تجويز البيع إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره، بما يأتي:

1-

إذا كان المقصود هو البيع الجائز، وما فيه من مقابلة ربوي بربوي داخل على وجه التبع، فهو جائز كما جاز دخول الثمرة قبل بدو صلاحها في البيع تبعا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)) (5) .

2-

لأن ما فيه الربا غير مقصود فوجوده كعدمه، ولذلك لا تشترط رؤيته في صحة البيع، ولا لزومه (6) .

3-

قالوا: إن الحاجة داعية إلى ذلك (7) .

(1) فتح القدير، والهداية 7/144؛ وانظر: المغني 6/94؛ أحكام عقد الصرف بين الشريعة والقانون رسالة دكتوراه من جامعة الأزهر للدكتور سالم أحمد محمد سلامة ص469.

(2)

مغني المحتاج 2/82؛ نهاية المحتاج3/442

(3)

المجموع 10/233؛ وانظر: المبدع 4/144؛ المغني 6/94

(4)

المبدع 4/145؛ مجموع الفتاوى 29/ 453

(5)

صحيح البخاري بشرحه 5/49

(6)

المغني 6/96

(7)

مجموع الفتاوى 29/466

ص: 138

أدلة المذهب الثاني:

استدل أصحاب القول الثاني بما يأتي:

1-

أن الأصل في الأموال الربوية المختلفة الجنس إذا اشتملت عليها الصفقة وكان في صرف الجنس إلى الجنس فساد المبادلة يصرف كل جنس منها إلى خلاف جنسه، وإذا كان الثمن أكثر كان ما يقابله مثلا بمثل، والفاضل ثمن الشيء المصاحب (1) .

2-

(أن المقابلة المطلقة تحتمل مقابلة الفرد بالفرد كما في مقابلة الجنس بالجنس، وأنه طريق متعين لتصحيحه، فيحمل عليه تصحيحا لتصرفه)(2) . (كما إذا باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره، فإنه ينصرف إلى نصيبه تصحيحا لتصرفه)(3) .

3-

قالوا: الأصل حمل العقود على الصحة: (فالعقد إذا أمكن حمله على الصحة. لم يحمل على الفساد؛ لأنه لو اشترى لحما من قصاب، جاز. مع احتمال كونه ميتة. ولكن وجب حمله على أنه مذكى تصحيحا للعقد. ولو اشترى من إنسان شيئا، جاز مع احتمال كونه غير ملكه، ولا إذن له في بيعه، تصحيحا للعقد. وقد أمكن التصحيح ههنا بجعل الجنس في مقابلة غير الجنس، أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل)(4) .

4-

(لأنه إذا احتمل العقد وجه صحة وبطلان حمل على الصحة)(5) .

(1) الهداية؛ فتح القدير 7/144

(2)

الهداية 7/144 و145، وانظر: فتح القدير

(3)

الهداية ص144 و145، وانظر: فتح القدير

(4)

المغني 6/93

(5)

سبل السلام 3/40

ص: 139

المناقشة

مناقشة أدلة المذهب الأول:

1-

بالنسبة لحديث القلادة نوقش من وجهين:

الوجه الأول من حيث حجيته: قال الطحاوي: (فقد اضطرب علينا حديث فضالة، فلم يوقف على ما أريد منه، فليس لأحد أن يحتج بمعنى من المعاني التي روي عليها إلا أن يحتج بمعنى من المعاني التي روي عليها إلا أن يحتج مخالفة عليه بالمعنى الآخر)(1) . (وله عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا، في بعضها قلادة فيها خرز وذهب، وفي بعضها ذهب وجوهر، وفي بعضها خرز ذهب، وفي بعضها خرز معلقة بذهب، وفي بعضها باثني عشرا دينارا، وفي أخرى بتسعة دنانير وفي أخرى سبعة دنانير)(2) .

الوجه الثاني: من حيث دلالته: قيل: (إنما نهى عنه لأنه في بيع الغنائم)(3) .

وقيل: (يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل الذهب؛ لأن صلاح المسلمين كان في ذلك، ففعل ما فيه صلاحهم؛ لا لأن بيع الذهب قبل أن ينزع مع غيره في صفقة واحدة غير جائز)(4) .

وقيل: إن الأمر بالفصل؛ لأن الذهب الذي مع القلادة أكثر من المنفصل؛ بدليل قوله: (ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، والثمن إما سبعة أو تسعة وأكثر ما روي أنه اثنا عشرا)(5) .فهو دونها على جميع الروايات، وليس في الحديث تعرض لما يكون الثمن أكثر من المبيع بحيث يعلم يقينا مساواة بعض الثمن لما قابله من جنسه، والزيادة في مقابلة المصاحب.

وأجيب على الوجه الأول بما يأتي:

بعد أن ساق البيهقي معظم هذه الروايات؛ قال: (سياق هذه الأحاديث مع عدالة رواتها تدل على أنها كانت بيوعا شهدها فضالة كلها والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها فأداها كلها، وحنش الصنعاني أداها متفرقة)(6) . قال ابن حجر: (والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذ فينبغي الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم، وتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة)(7) .

(1) المجموع 10/236؛ وانظر: تلخيص الحبير 3/9؛ نيل الأوطار 5/197

(2)

تلخيص الحبير 3/9

(3)

شرح صحيح مسلم 4/102

(4)

المجموع

(5)

نيل الأوطار؛ الروض النضير 3/233 للسياغي

(6)

السنن الكبري 5/293

(7)

تلخيص الحبير 3/9؛ وانظر: نيل الأوطار 5/197

ص: 140

وقال السبكي: (وليس هذا باضطراب قادح ولا ترد الأحاديث الصحيحة بمثل هذه الاحتمالات، وقوله صلى الله عليه وسلم ((لا يباع حتى يفصل)) صريح لا يحتمل التأويل، وكونه فضالة أفتى به في غير طريقة غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفي سماعه له، فقد يسمع الراوي شيئا ثم يتفق له مثل تلك الواقعة فيفتي بمثله) (1) .

وقال الشوكاني: (إنه لا اضطراب محل الحجة، والاضطراب في غيره لا يقدح فيه)(2) .

فهذه الروايات كلها متفقة على النهى عن البيع حتى يفصل ولا منافاة بينها فالجمع بينهما بذلك أولى من الحكم على بعضها بالغلط.

وأجيب على الوجه الثاني:

بأن القصة التي شهدها فضالة كانت متعددة فلا يصح التمسك بما وقع في بعضها وإهدار البعض الآخر. وبأن الحديث فيه دلالة على علة النهي، وهي عدم الفصل، حيث قال ((لا تباع حتى تفصل)) ، وظاهر ذلك عدم الفرق بين المساوي والأقل والأكثر، والغنيمة وغيرها.

إن القول بمقابلة الجملة بالجملة، والجزء الشائع بالشائع، لا يقتضي الربا والفساد، وإنما يقتضيه لو كان التفاضل لازما حقيقة، وذلك لا يكون إلا إذا قوبل معين بمعين، وتفاضلا، وحينئذ لا حاجة في التصحيح إلى التوزيع وصرف كل جنس إلى خلاف جنسه عينا، ونحن نقول: هو الأصل، وإنما قلنا: إذا كان تصحيح العقد يحصل باعتباره التوزيع وجب المصير إليه (3) .

ونوقش الدليل الثالث؛ وهو أن الصفقة إذا اشتملت على عوضين مختلفي القيمة. قالوا: هذه علة ضعيفة؛ فإن الانقسام إذا باع شقصا مشفوعا، وما ليس بمشفوع – كالعبد والسيف والثوب – إذا كان لا يحل، عاد الشريك إلى الآخذ بالشفعة، فأما انقسام الثمن بالقيمة لغير حاجة فلا دليل عليه.

(1) المجموع 10/236؛ نيل الأوطار

(2)

المجموع 10/236؛ ونيل الأوطار

(3)

فتح القدير 7/146

ص: 141

مناقشة أدلة المذهب الثاني:

1-

إن قولهم بصرف الجنس إلى غير جنسه، والزايد في مقابلة الفاضل عن المثل. فيه تغيير تصرف العاقد؛ لأنه قابل الجملة بالجملة، ومن قضيته الانقسام على الشيوع، لا على التعيين (1) ، وهو أن يكون لكل واحد من البدلين نصيب من جملة الآخر. (وبأن اختلاف العوضين من الجانبين، أو من أحدهما يوجب اعتبار القيمة وتوزيع الثمن بالقيمة يوم العقد، فإذا باع عبدا وثوبا ثم خرج أحدهما مستحقا فإنه يرجع بقيمة المستحق من الثمن لا بنصف الثمن)(2) .

وقد أجيب على هذا (بأن الذي تغير وصف التصرف لا أصله؛ لأنه يبقى موجبه الأصلي وهو ثبوت الملك في الكل بمقابلة الكل)(3) .

2-

وقولهم: (إنه طريق متعين للتصحيح، بأنه ليس كذلك، بل يحمل على ما يقتضيه من صحة وفساد، ولذلك لو باع بثمن وأطلق، وفي البلد نقود بطل، ولم يحمل على نقد أقرب البلاد إليه، أما إذا اشترى من إنسان شيئا، فإنه يصح؛ لأن الظاهر أنه ملكه؛ لأن اليد دليل الملك. وإذا باع لحما فالظاهر أنه مذكى؛ لأن المسلم في الظاهر لا يبيع الميتة)(4) .

الترجيح:

بعد عرض أدلة الفريقين، ومناقشتها، يترجح عندي، عدم جواز بيع السلعة التي معها ذهب مقصود في الشراء – والتي لا يتعذر فصلها – بالذهب حتى يفصل الذهب عن السلعة، ويباع مثلا بمثل، يدا بيد. وذلك لقوة دليل القائلين به؛ فحديث القلادة صحيح، وصريح في الموضوع، وإجابة المجيزين بأن الأمر بفصلها؛ لأن الذهب الذي مع القلادة أكثر من اثني عشرا دينارا، والثمن إما سبعة أو تسعة، وأكثر ما روي أنه اثنا عشر، فهو دونها في جميع الروايات؛ لا يقوى على دفع دلالة الحديث الذي ورد في بعض رواياته بصيغة النهي، والتي تفيد التحريم عند الأئمة الأربعة، وغيرهم من أهل التحقيق في الأصول (5) ، وتفيد البطلان عند جمهور العلماء (6) ،والفساد عند الحنفية (7) .ولأن الحديث فيه نص على علة النهي؛ وهي عدم الفصل؛ (لا تباع حتى تفصل) وظاهر ذلك عدم الفرق بين الأكثر، والأقل والمساوي، إلا إذا علمت المساواة يقينا.

ولأن قول المجيزين نوع اجتهاد، ولا يجوز الاجتهاد في مقابلة النص. أما إذا كان الذهب في السلعة تابعا لغيره، وغير مقصود بالشراء، أو لا يمكن فصله عنها، أو يمكن لكن يسبب إفسادها، فإني أرى جواز البيع، دون تحديد نسبة معينة. والقول بالجواز في حالة ما إذا كان الذهب لا يمكن فصله، أو أن فصله يسبب فساد السلعة المباعة هو قول جميع الفقهاء، عدا ابن حزم. والقول بجواز البيع إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره، وغير مقصود بالشراء، وهو قول جماهير العلماء، وهو الأصح من مذهب الشافعية، كما ذكره النووي (8) . وهو أصح القولين عند البغوي والرافعي وجزم به صاحب التتمة (9) .

(1) فتح القدير 7/144

(2)

المجموع 10/241؛ وانظر المغني 6/94

(3)

الهداية 7/145

(4)

المغني 6/94 و95

(5)

الرسالة ص217-243؛ كشف الأسرار 1/256؛ البرهان 1/283؛ الإحكام في أصول الأحكام 2/174؛ شرح الكوكب المنير 3/83

(6)

الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم 3/54، 2/82 وما بعدها؛ شرح تنقيح الفصول ص173؛ جمع الجوامع 1/393؛ نهاية السول 2/51؛ فواتح الرحموت (مع المستصفى) 1/396؛ حاشية سعد الدين التفتازاني 2/96؛ المسودة ص82، القواعد والفوائد الأصولية ص 192

(7)

تيسير التحرير 1/ 375 و376؛ أصول السرخسي 1/81، شرح عضد الملة والدين 2/8؛ كشف الأسرار 1/256

(8)

روضة الطالبين 3/ 386؛ وانظر مغني المحتاج 2/29

(9)

المجموع 10/267

ص: 142

يؤيد ما رجحته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن عمر: ((من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)) (1) .

فهذا الحديث دل على جواز دخول الثمرة في البيع؛ مع أن الأصل عدم جواز بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها؛ لكنها جازت هنا؛ لأنها جاءت تبعا للمبيع؛ ولأنها غير مقصودة، أو لأنها غير مقصودة، أو لأنها ليست المقصود الأعظم. وكذلك جوز بيع العبد مع ماله من مال فيبيعه سيده، ومعه ماله؛ ولو كان كله أو بعضه نقودا، بثمن نقدي، مع أن الأصل عدم جواز ذلك، إلا بشروط الصرف. لكنه جاز هذا البيع، لأن مال العبد جاء تبعا للمبيع، وغير مقصود بالشراء.

وقد أكد هذا عمل الصحابة والسلف من بعدهم. فقد روى المغيرة بن جبير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتاه رجل وهو يخطب فقال: يا أمير المؤمنين إن بأرضنا قوما يأكلون الربا، قال علي: وما ذاك؟ قال: يبيعون جامات (2) . مخلوطة بذهب وفضة بورق، فنكس علي رأسه وقال: لا، أي لا بأس به المغيرة بن جبير ذكره البخاري في تاريخه (3) .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لا بأس ببيع السيف المحلى بالدراهم)(4) . وعن إبراهيم النخعي قال: كان خباب قينا وكان ربما اشترى السيف المحلى بالورق (5) .

(1) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 5/49

(2)

قال ابن بري: الجاما جمع جامة، وجمعها جامات، وتصغيرها جويمة، قال: وهي مؤنثة. (الجوم) أهمله الجوهري. قال الليث: كأنها فارسية، وهم (الرعاء يكون أمرهم واحدا) وكذا كلامهم ومجلسهم، والجاء إناء من فضة) عربي صحيح، قال ابن سيده: وإنما قضينا بأن ألفها واو لأنها عين. انظر تاج العروس 8/234. وفي المغرب ص96: الجام: طبق أبيض من زجاج أو فضة. وقال السيد أدي شير في كتاب الألفاظ الفارسية المعربة، ص49: الجام وهو معروف فارسيته جام. لكن الصواب ما جاء في تاج العروس

(3)

المجموع 10/252؛ المحلى 9/552

(4)

المجموع 10/252؛ المحلى 9/552

(5)

المجموع 10/252؛ المحلى 9/552

ص: 143

المبحث التاسع

شراء الذهب للاستعمال

وفيه عدة مطالب.

المطلب الأول

شراء الحلي للنساء

يجوز شراء الذهب لتتحلى به النساء بالإجماع؛ كالخلخال، والسوار، والخاتم، والقلادة، وكل ما جرت العادة بلبسه، ولم يبلغ حد الإسراف أو التشبه بالرجال. (1) . لحديث ((أحل الذهب لإناث أمتي وحرم على ذكورها)) . أخرجه النسائي، وهو حديث حسن (2) .

المطلب الثاني

شراء حلي الذهب ليستعمله الرجال

يحرم استعمال الرجال حلي الذهب، كالخاتم والسوار، وسن لغير حاجة بغير خلاف (3) . لحديث ((أحل الذهب لإناث أمتي وحرم على ذكورها)) (4) . أخرجه النسائي، وهو حديث حسن.

وبالنسبة للبيع فقال قال الحنفية: (إذا ثبت كراهة لبسها.. ثبت كراهة بيعها وصوغها)(5) .

أما المالكية والحنابلة فإنه يتخرج القول بتحريم شراء الذهب لهذا الغرض؛ لقولهم بسد الذرائع، اشتراطهم مشروعية السبب الباعث على العقد. ويتخرج ذلك على مذهب الظاهرية لاشتراطهم مشروعية السبب (6) . وقد نص عليه الإمام مالك ففي الأواني (7) .

أما الشافعية فيصح البيع عندهم؛ لأنهم لا يشترطون مشروعية السبب (8) .

قال القاضي أبو الطيب: في بيع الأواني: (البيع صحيح لأن المقصود عين يصح بيعها)(9) .

(1) الشرح الصغير 1/62 و63؛ المجموع 6/36 وما بعدها؛ حواشي تحفة المحتاج 3/278؛ المغني 4/ 222؛ كشاف القناع 2/239

(2)

النسائي 8/161ط المكتبة التجارية، انظر التلخيص الحبير 1/53

(3)

الدر المختار 5/229؛ الشرح الصغير 1/62 و63؛ المجموع 6/36؛ المغني 4/222؛ الكشاف 2/239

(4)

سنن النسائي 8/ 161، ط المكتبة التجارية؛ تلخيص الحبير 1/53

(5)

رد المحتار 5/230

(6)

المدونة 4/424 و425 و426؛ المحلى 9/653 و654؛ المغني 6/317 وما بعدها

(7)

المدونة 3/416

(8)

الأم 3/74

(9)

المجموع 1/315

ص: 144

والراجح عندي مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية، وهو حرمة شراء الذهب ليلبسه الرجال، وبطلان عقد البيع في هذه الصورة سواء نص عليه في العقد، أم كان مقصودا ولم ينص عليه وحرمت التجارة في هذا النوع من الحلي. ومرادي بلبسه؛ هو ما يضعه الرجل على شيء من بدنه. على أن هناك خلاف بين المذاهب الفقهية في بعض الصور والتفريعات في بعض حالات الاستعمال.

والدليل على ما رجحته، قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أحل الذهب لإناث أمتي وحرم على ذكورها)) (1) .

ولحديث علي رضي الله عنه قال: ((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ وأنا راكع، وعن خاتم الذهب، وعن القسي والمعصفر)) (2) .

قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (3) .

فالشارع جعل حكم الأعمال تابعا لنية المتصرف فإن قصد أمرا حلالا وقعت صحيحة، وإن قصد أمرا محرما وقعت باطلة (4) .

فما حرم استعماله حرم بيعه، وحرمت التجارة فيه، إلا أن يقصد من الشراء تحويله إلى صناعة أخرى، أو أن يلبسه النساء، أو يؤجر عليهن، ونحو ذلك فحينئذ لا بأس بالشراء.

(1) سنن النسائي 8/ 161، ط المكتبة التجارية؛ تلخيص الحبير 1/53

(2)

مسند الإمام أحمد 2/610، رقم الحديث 611. العصفر: نبت معروف، وعفصرت الثوب صبغته بالعصفر، فهو معصفر. اسم مفعول. المصباح. القس: هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتي بها من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبا من تنيس، يقال لها القس، بفتح القاف. اللسان

(3)

صحيح البخاري بشرحه 1/9؛ جامع العلوم والحكم ص5

(4)

الموافقات 2/325 وما بعدها، طبعة بيروت، م دار المعرفة سنة 1395هـ / 1975م

ص: 145

ويستثنى من المنع حالتان:

الحالة الأولى: شراؤه للحاجة؛ فقد قال جمهور الفقهاء بجواز اتخاذ أنف أو سن من الذهب أو شد الأسنان بالذهب للحاجة إليه (1) ؛ لحديث عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب (2) .

أنفا من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفا من ذهب رواه أبو داود والترمذي، وحسنه (3) .

وقال أبو حنيفة: (لا يجوز اتخاذ السن أو شده بالذهب للرجال دون الفضة، لأن النص ورد في الأنف دون غيره، ولضرورة النتن بالفضة، وخالفهم محمد، وأما أبو يوسف فقيل مع محمد، وقيل مع الإمام)(4) .

ويتخرج على رأي أبي حنيفة عدم جواز البيع.

والراجح مذهب الجمهور، للاشتراك في العلة وهي الحاجة، أما شراء الذهب لتزيين الأسنان به للرجال دون حاجة فلا يجوز.

الحالة الثانية: تحلية آلات القتال بالذهب، مثل تحلية السيف. وقد اختلف الفقهاء في هذا. على قولين:

القول الأول: قال الحنفية والشافعية لا يجوز تحلية آلات القتال بالذهب لأن الأصل أن التحلي بالذهب حرام على الرجال إلا ما خصه الدليل ولم يثبت ما يدل على الجواز، ولأن فيه زيادة إسراف وخيلاء (5) .

ويتخرج على رأي الحنفية كراهة بيع الذهب لهذا الغرض (6) .

القول الثاني: قال المالكية والحنابلة يجوز تحلية السيف بالذهب سواء ما اتصل به كالقبيعة والمقبض، أو ما انفصل عنه كالغمد، وقصر الحنابلة الجواز على القبيعة. لأن عمر – رضي الله عنه – كان له سيف فيه سبائك من ذهب، وعثمان بن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب (7) .

ويتخرج على القول الثاني جواز بيع الذهب لهذا الغرض وهو الراجح عندي لحديث مزيدة قال ((دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة، قال طالب: فسألته عن الفضة، فقال: كانت قبيعة السيف فضة)) (8) .

قال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب.

(1) المجموع 6/35؛ الكشاف 2/238

(2)

الكلاب – بضم الكاف وتخفيف اللام والباء – موضع؛ قيل: إنه بين البصرة والكوفة على سبع ليال من اليمامة، وقعت فيه وقعتان مشهورتان بين بعض القبائل العربية، في الجاهلية؛ الأولى بين بكر وتغلب، والثانية، ويسمى يومها يوم الصعقة، بين تميم وأهل هجر الحارثيين وغيرهم. وفي الثانية حضر عرفجة، وأكثم بن صيفي، والزبرقان بن بدر.. انظر: معالم السنن للخطابي مع سنن أبي داود 4/434؛ شرح ابن العربي على صحيح الترمذي 7/269

(3)

سنن أبي داود، وصحيح الترمذي

(4)

رد المحتار 5/231

(5)

رد المحتار 5229؛ الشرح الصغير 1/61؛ حاشية الدسوقي 1/63؛ المجموع 6/36 وما بعدها. قبيعة السيف: ما يجعل على أطراف القبضة

(6)

رد المحتار 5/230

(7)

كشاف القناع 2/238؛ المبدع 2/372؛ المنتقى 4/268 وما بعدها

(8)

صحيح الترمذي بشرح ابن العربي 7/184؛ وانظر: التلخيص الحبير 1/52

ص: 146

المطلب الثالث

شراء أواني الذهب

وفيه فرعان:

الفرع الأول – شراء أواني الذهب للاستعمال:

يحرم استعمال أواني الذهب، كالملاعق، والصحون، والسكاكين، ونحوها، على الرجال والنساء، وعلى مذاهب الأئمة الأربعة. لقوله صلى الله عليه وسلم:((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)) رواه الجماعة (1) .

ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرب في آنية الفضة؛ حيث قال: ((من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة)) (2) .

وقال صلى الله عليه وسلم: ((الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) متفق عليه (3) . وغير الأكل والشرب من وجوب استعمال في معناهما لأن ذكرهما خرج مخرج الغالب.

وبناء على حرمة استعمالها فإنه يحرم شراء أواني الذهب عند الحنفية، والمالكية، ويتخرج القول بالحرمة على مذهب الحنابلة لقولهم بسد الذرائع، واشتراطهم مشروعية السبب. إذا كان الشراء لغرض الاستعمال؛ لأن ما حرم استعماله حرم شرائه (4) . جاء في المدونة:(كان مالك يكره هذه الأشياء التي تصاغ من الذهب والفضة مثل الأباريق، وكان مالك يكره مداهن الفضة والذهب ومجامر الذهب والفضة سمعت ذلك منه والأقداح واللجم والسكاكين المفضضة وإن كانت تبعا لا أرى أن تشترى)(5) .

أما الشافعية فيصح عندهم شراء أواني الذهب والفضة ما لم ينص في العقد على الاستعمال؛ وذلك بناء على عدم اشتراط مشروعية السبب عندهم (6) . وقد نص القاضي أبو الطيب من الشافعية على صحة بيع أواني الذهب والفضة (7) .

أما إذا كان الشراء لغير غرض الاستعمال فإنه يصح شراء أواني الذهب والفضة، لأنهما مقصودان بذاتهما؛ ولأن المانع من جواز البيع عند من قال به هو الاستعمال، فإذا انتفى استعمالهما؛ انتفى المانع؛ فجاز شرائهما. جاء في مواهب الجليل:(وأما بيعها فجائز لأن عينها تملك إجماعا)(8) .

(1) صحيح البخاري بشرحه 9/554. الصحاف جمع صحفة، كقصعة وقصاع، والصحفة دون القصعة؛ قال الكسائي: القصعة ما تسع ما يشبع عشرة والصحفة ما يشبع خمسة. انظر: المجموع 1/308

(2)

صحيح مسلم بشرحه 4/769

(3)

صحيح البخاري بشرحه 10/96؛ صحيح مسلم 4/763 و764. الجرجرة: هي صوت وقوع الماء بانحداره في الجوف

(4)

رد المحتار 5/230؛ المدونة 3/416؛ وانظر: المنتقى 4/268 و269؛ 1/128، مواهب الجليل 4/330

(5)

المدونة 3/416

(6)

الأم 3/74؛ المجموع 1/ 307 و311

(7)

المجموع 1/215

(8)

1/128

ص: 147

والدليل على ما ذكرناه ما يأتي:

1-

عن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار فجاء أبو الأشعث قال: قالوا أبو الأشعث أبو الأشعث فجلس، فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت قال: نعم غزونا غزاة وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة فكان فيما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس فتسارع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت، فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة

إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى.. الحديث (1) .

وجه الدلالة: هو بيع معاوية – رضي الله عنه – آنية من فضة، وعدم إنكار عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – لبيع الآنية المذكورة، وإنما أنكر عدم التماثل، وإنكاره لعدم التماثل، يفهم منه تجويزه لهذا البيع إذا تحقق التساوي؛ يؤيده استشهاده للحكم الذي قرره، وهو المنع عند التفاضل، أو عدم التقابض، والجواز عند التساوي والحلول، بقوله: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة

إلا سواء بسواء عينا بعين)) .

فدل هذا على جواز بيع أواني الذهب أو الفضة للاقتناء، أو لغيره من الأغراض، عدا غرض الأكل فيها، أو الشرب منها، أو لبسها. وهذه المستثنيات، فهمت من أحاديث المنع من الاستعمال في الأغراض المذكورة.

2-

روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن (2) . قال أحمد شاكر: الحديث صحيح (3) .

وجه الدلالة: أن أبا الدرداء لم ينكر على معاوية بيع السقاية التي هي من ذهب أو فضة، وهي كأس كبيرة يشرب بها، ويكال بها، وإنما أنكر عليه البيع مع عدم التساوي؛ يؤيده قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل. ومفهومه أنه إذا كان مثلا بمثل يصح البيع. فدل على جواز بيع أواني الذهب والفضة. وكذلك عمر بن الخطاب لما كتب إليه لم ينكر عليه بيع السقاية، وإنما أنكر عليه عدم التماثل، وأمره أن لا يبيعها إلا مثلا بمثل. فدل أيضا: على جواز بيع أواني الذهب والفضة إذا توفرت شروط التماثل، والحلول.

(1) صحيح مسلم بشرحه 4/97، سبق إيراده كاملا

(2)

الموطأ 2/492؛ منتقى الأخبار 4/261

(3)

الرسالة فقرة 15 ص73

ص: 148

الفرع الثاني- شراء أواني الذهب للاتخاذ أو الزينة:

اختلف الفقهاء في حكم اتخاذ آنية الذهب.

فمذهب الحنفية، وهو قول عند المالكية، والصحيح عند الشافعية، وراوية عند الحنابلة: يجوز اتخاذ آنية الذهب والفضة (1) .

ومذهب الحنابلة، وقول ثان للمالكية، والأصح عند الشافعية، حرمة اتخاذ آنية الذهب والفضة؛ لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال (2) ..

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يحرم اتخاذها في أشهر الروايتين، فلا يجوز صنعتها، ولا استصياغها، ولا اقتناؤها، ولا التجارة فيها؛ لأنه متخذ على هيئة محرمة الاستعمال، فكان كالطنبور وآلات اللهو، ولأن اتخاذها يدعو إلى استعمالها غالبا فحرم كاقتناء الخمر والخلوة بالأجنبية)(3) .

فعلى القول الأول، وهو مذهب الحنفية والمالكية والصحيح من مذهب الشافعية، ورواية عند الحنابلة يجوز شراء أواني الذهب والفضة، إذا كان الشراء للاقتناء؛ لأن ما جاز اتخاذه، جاز شراؤه. قال الحطاب:(وأما بيعها فجائز لأن عينها تملك إجماعا)(4) .

ويتخرج على مذهب الحنابلة حرمة بيع وشراء أواني الذهب والفضة؛ لأن ما حرم اتخاذه حرم بيعه.

والراجح عندي جواز شراء أواني الذهب والفضة سواء كانت خالصة، أو مموهة، إذا كان الشراء لغرض القنية، أو الزينة؛ كالتحف، ونحوها، لا لغرض الاستعمال. يؤيده بيع معاوية آنية من فضة، ولم ينكر عليه عبادة ولا أبو الدرداء، كما بينا وجه دلالته في المطلب السابق.

وقياسها على آلات اللهو والطنبور لا يصح في نظري، لأن هذه لا فائدة فيها، أما أواني الذهب والفضة، فإن لها قيمة مادية في ذاتها بصرف النظر عن كونهما آنية، ولأنه يمكن تحويلهما والاستفادة منهما في غير الاستعمال.

(1) رد المحتار 5/218، مواهب الجليل، والتاج والإكليل 1/128؛ الذخيرة 1/ 167، نهاية المحتاج 1/104؛ المجموع 1/308 و313؛ الإنصاف 1/80

(2)

مواهب الجليل؛ المجموع؛ نهاية المحتاج؛ كشف القناع 1/51؛ الذخيرة

(3)

العدة 1/115؛ وانظر: المغني 1/103

(4)

مواهب الجليل، والتاج والإكليل 1/128؛ الذخيرة

ص: 149

المطلب الرابع

شراء المموه بالذهب

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى – شراء الآنية المموهة بالذهب:

التمويه: هو طلاء الإناء، المصنوع من نحاس أو حديد أو نحوهما بماء الذهب أو الفضة ماء الذهب: هو سائل ناتج عن إذابة قطعة من الذهب بوضعها في سوائل كيماوية مثل: نتريك أسد مع كلودريك أسد، فينتج عن هذا ماء الذهب، ويسمى الماء الملكي، فيطلى به، أو يكتب به، وعندما يتعرض للشمس يجف.

من الطرق التي تتبع في طلاء الأشياء بالذهب، ما ذكره مالكولم بر، في كتابه الذهب.

فقال:

(والعجب العجاب أن يحول الذهب إلى رقائق رفيعة جدا بواسطة الطرق. فلو حاولت أن تطرق معدنا آخر، فإنه ينكسر، ولكن الذهب له من الليونة ما يكفي لأن يطرق حتى يصير رقائق في منتهى الدقة إلى درجة أن الرقيقة لا تكاد تكون متماسكة الأجزاء. توضع قطع صغيرة جدا من الذهب بحيث أن كل خمسة وسبعين قطعة منها تزن أوقية واحدة، بين ورقات سميكة من الورق المقوى، وتجعل حزمة أو لفافة. ثم تطرق هذه اللفافة لمدة عشرين دقيقة بمطرقة تزن سبعة عشر رطلا. فنجد بعد ذلك أن كل قطعة من ذلك الذهب تغطي مساحة قدرها ثلاث بوصات مربعة ونصف البوصة. ومع ذلك فإن صانعي الذهب لا يقنعون بهذا، بل يمضون في الطرق لمدة ساعتين أخريين. وهكذا تغدو رقيقة الذهب رفيعة جدا، حتى إنك إذا تنفست أمامها طارت، رغم أن كثافة الذهب عالية. ولو لمستها بيدك لاستحالت إلى ذرات رفيعة دقيقة. بعد ذلك يمكن أن تكسى بها الأشياء بفرجون كما لو كانت طلاء فتبدو الأشياء التي تطلى بها كما لو كانت مصنوعة من الذهب المصمت

كذلك تستعمل رقائق الذهب في طبع العناوين على أغلفة الكتب وفي كتابة اللافتات" ص15 و16.

(وهناك طريق أخرى لتغطية مختلف المصنوعات المعدنية بقشرة من الذهب حتى تبدو كأنها مصنوعة من الذهب الخالص، وهذه الطريقة لا تكلف ثمنا باهظا كما يكلف الذهب المصمت. وذلك بأن تضغط صفيحة رقيقة من الذهب فوق لوح من النحاس أو الفضة تحت ضغط شديد، فليتصق الذهب بلوح المعدن الآخر، فيبدو الأخير كأنه من خالص الذهب، وهو أرخص من الطلاء بالذهب، ويعيش طويلا دون أن يتآكل. فمتى ضغط الذهب جيدا في المعدن الآخر، أمكن قطع اللوح إلى أي شكل أريد، أو طرق إلى صفائح رقيقة، أو سحب إلى أسلاك رفيعة، أو حول إلى أنابيب، وفي كل هذه الأحوال تظل القشرة الذهبية منتظمة السمك في كل جزء من الأشياء الناتجة) ص 17. مثل أن تطلى الأباريق، أو فناجيل الشاي أو نحو ذلك، من الأواني المعدة للأكل فيها، أو الشرب منها.

ص: 150

اختلف الفقهاء في حكم استعمال الآنية المموهة على قولين:

القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية والشافعية في الأصح عندهم إلى جواز استعمال الآنية المموهة بذهب أو فضة سواء في الأكل أو الشرب أو غير ذلك. لكن قيده الحنفية والشافعية بما إذا لم يتجمع منه شيء إذا عرض على النار؛ لقلة المموه به فكأنه معدوم، وأما ما يمكن تخليصه، واجتماع شيء منه فعند أبي حنيفة ورواية عن محمد جواز استعماله، ولا يجوز عند أبي يوسف ورواية عن محمد. وعند الشافعية وجهان. والأصح لا يحرم. وعلله المالكية بأنه ليس إناء ذهب (1) .

وأما الحنابلة فلا يجيزون استعمال الآنية المموهة بالذهب أو الفضة.

(وقيل: إن كان لو حك لاجتمع منه شيء حرم وإلا فلا)(2) . واستدلوا بما روى ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شرب من إناء ذهب، أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) (3) .

قال الدارقطني: إسناده حسن.

وبالنسبة لبيع وشراء الأواني المموهة بالذهب أو الفضة فجائز عند المالكية والشافعية، ويتخرج جوازها عند الحنفية بناء على القول بجواز استعمالها (4) ويتخرج عدم جواز ذلك عند الحنابلة.

والراجح عندي عدم جواز بيع وشراء الأواني المموهة بالذهب أو الفضة إذا كان لغرض الاستعمال لحديث ابن عمر الدال على النهي عن استعمال الآنية التي فيها شيء من الذهب أو الفضة وهذا يتحقق في المموه. ولوجود علة المنع وهي السرف والخيلاء، فإذا حرم الاستعمال حرم البيع.

(1) البدائع 2/982، ط الأولى؛ المجموع 1/221 و322، مواهب الجليل 1/128 وما بعدها؛ نهاية المحتاج 1/104؛ الشرح الصغير 1/62

(2)

كشاف القناع 1/51

(3)

سنن الدارقطني، كتاب الطهارة، باب أواني الذهب والفضة 1/40؛ وانظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/29

(4)

مواهب الجليل؛ المجموع

ص: 151

المسألة الثانية – شراء التحف أو الثريات، أو مقابض الأبواب المموهة بالذهب:

بعض الأشياء التي تصنع من الحديد، أو النحاس، كمقابض الأبواب والأجزاء الثابتة من الثريات الكهربائية، ونحوها، تدهن نسبة قليلة جدا من الذهب، لتعطيها منظرا جميلا، ولتحميها من الصدأ، ونحوه. ونظرا لقلة الذهب فيها، فإنه لا يتحمل عوامل التعرية، فيدهنه الصاغة بدهان آخر يسمى – روديوم – يساعد على تثبيت الذهب.

ذهب الحنفية والمالكية والشافعية في الأصح إلى جواز استعمال الرجل ما موه بذهب أو فضة مما يجوز له استعماله من الحلي؛ كالخاتم إذا لم يخلص منه شيء بالعرض على النار؛ لأن الذهب والفضة على هذه الصفة مستهلك فصار كالعدم.

وقال الحنابلة: يجوز استعمال المموه – غير الآنية – إن تغير لونه، وبحيث لا يحصل منه شيء إذا عرض على النار.

أما بالنسبة لبيع الأمور المذكورة والتجارة فيها فيصح ذلك عند المالكية والشافعية؛ لأنهم أجازوا بيع أواني الذهب والفضة الخالصة، فيكون بيع المموه جائزا عندهم من باب أولى؛ لأنهم يجيزون استعمالها. ويتخرج جواز ذلك عند الحنفية، لتجويزهم استعمالها.

ويتخرج على مذهب الحنابلة جواز البيع بالقيود التي ذكروها، أما بدونه فلا يجوز عندهم.

الراجح عندي جواز بيعها والتجارة فيها؛ لأن غير الأواني أمرها أخف؛ ولأن نصوص المنع نص في أواني الأكل والشرب واللباس؛ ولأن هذه ليست ذهبا ولا فضة، ولو عرضت على النار لا يخلص منها شيء، ولأنه ربما تدعو لها الحاجة؛ لأن بعض المعادن كالحديد ونحوه يتعرض للصدأ، أو يتغير لونه؛ فيكون قبيح المنظر، فيحتاج إلى طلائه بماء الذهب، وهي قشرة رقيقة.

ص: 152

المبحث العاشر

أهم أساليب تجارة الذهب في الأسواق العالمية في هذا العصر

من مجالات الاستثمار التي تقوم بها المصارف العالمية التجارة في الذهب، إلى جانب التجارة في بقية المعادن النفيسة، والعملات الأخرى. كما أن هذا النوع من التجارة تمارسه المؤسسات، كما يمارسه الأفراد.

ويباع الذهب على شكل سبائك مكعبة، أو مسحوق ناعم، أو مسكوكات، ويترواح وزن السبيكة بين 6 – 7 كيلو جرامات، وأما مسحوق الذهب فيوضع ضمن صناديق من التوتيا الملحومة (1) .

وتطبق المصارف العالمية، والأسواق العالمية تجارة الذهب، وغيره من العملات إما بالأسعار الحاضرة أو الآجلة عمليات الصرف على أساس السعر الحاضر. وهذه حالتان: التبايع، والتواعد.

فإذا تم التعاقد بواسطة التلفون، وأكد بالبرقية، أو الفاكس، فإنه يتم إنهاء هذه خلال يومي عمل، بخلاف اليوم الذي تم التعاقد فيه.

فإذا كان التعاقد تم يوم الثلاثاء فإنه يكون التسليم والتسلم هو يوم الخميس، ويكون تاريخ هذا اليوم هو تاريخ الاستحقاق، ولا تحسب أيام العطلات الرسمية في حساب تواريخ الاستحقاق؛ فلو تعاقد مصرفان كل منهما في بلد آخر يوم الجمعة فإنه يكون تاريخ الاستحقاق هو يوم الثلاثاء؛ لأن يومي السبت والأحد هما يوما عطلة رسمية في أوروبا، وتحديد مهلة اليومين يعتبر من متطلبات إجراءات التسوية بين المتعاملين.

وقد أصبح قاعدة عامة في التعامل الدولي، كما قد يضاف إلى ذلك عامل الفرق الزمني بين الأسواق المختلفة في أنحاء العالم، فهناك فرق زمني يترواح بين 5 –6 ساعات بين أوروبا وأمريكا، ويزداد هذا الفارق كلما اتجهنا إلى غرب أمريكا، وكذلك بالنسبة للفارق الزمني بين أسواق الشرق الأقصى (طوكيو، هونج كونج، سنغفورة وأوربا)(2) .

والإجراءات التي يجب اتباعها في تنفيذ عملية بيع أو شراء الذهب، أو العملات بين المصارف التجارية في أنحاء العالم هي كما يلي:

(1) عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية، للدكتور أحمد محيى الدين حسن، ص348

(2)

النقد الأجنبي، لسيد عيسى، ص24- 25؛ تحول المصرف الربوي إلى مصرف إسلامي، لسعود محمد الربيعة 1/273 و274

ص: 153

1-

الاتفاق بين الطرفين عن طريق الهاتف على بيع أو شراء كمية من الذهب، ثم تبادل مراسلي كل من الطرفين، وعنوانهما، وأرقام حساباتهما لديهما.

2-

يقوم كل من الطرفين بتأييد الاتفاق الذي تم بينهما – بالهاتف – برسالة تلكس لتأكيد الأمر وإثباته.

3-

بعد ذلك يقوم كل من الطرفين بالاتصال بمراسله، ويطلب بائع الذهب تحويل الكمية المشتراة من حسابه إلى حساب الطرف الآخر إما في نفس المصرف، أو في مصرف آخر بحسب رغبة الطرف الآخر. ويطلب المشتري تحويل مبلغ معين من حسابه – وهو قيمة الذهب – إلى حساب الطرف الآخر إما في نفس المصرف أو في مصرف آخر بحسب رغبة الطرف الآخر.

4-

عند وصول كمية الذهب إلى حساب المشتري، ووصول قيمته إلى حساب البائع يصل إلى كل من الطرفين إشعار من مراسله بوصول المبلغ إلى حسابه.

5-

في حالة عدم وصول كمية الذهب إلى حساب المشتري أو القيمة إلى حساب البائع يتم الاتصال بالطرف الآخر لمعرفة سبب التأخير.

6-

في حالة التنازع بين الطرفين حول عملية البيع أو الشراء تتم المصالحة بينهما في نادي العمليات الخارجية (الديلنغ روم) بتقسيم الخسارة الواقعة بين الطرفين.

7-

في حالة عدم التصالح في نادي العمليات الخارجية يقوم كل من الطرفين بإحالة المشكلات للمصرف المركزي الذي في بلده لكي يقوم بحلها مع المصرف المركزي في بلد الطرف الآخر.

8-

في حالة عدم الاتفاق بين المصرفين المركزيين المذكوريين تحال المشكلة لمحكمة دولية للنظر في القضية والحكم فيها (1) .

(1) تحول المصرف الربوي إلى مصرف إسلامي ص 274

ص: 154

الحكم الشرعي للعمليات الحاضرة:

قال بعض الباحثين (1) . بجواز عمليات الصرف الحاضرة، دون أو يوضح المراد بالحاضرة. وتبعه آخرون ظنا منهم أن المراد بالعمليات الحاضرة تعني معناها الحقيقي.

والذي أراه أن عمليات بيع الذهب الحاضرة وبقية عمليات الصرف على الصورة التي ذكرناها، والتي تطبقها المصارف العالمية، وأسواق العملات العالمية غير جائزة شرعا، والعقود التي تمارس على هذه الصورة هي عقود باطلة؛ لا يعتد بها شرعا، ولا يترتب عليها أثر. لأنها مخالفة لأحاديث رسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة. فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد

)) (2) .

في حديث أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد)) (3) .

والشاهد من الحديثين قوله صلى الله عليه وسلم: ((يدا بيد)) . فاشترط التقابض من البائع والمشتري قبل أن يتفرقا من مجلس العقد.

وقال ابن المنذر: (وقد أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد)(4) .

وكان التطبيق العملي الذي وقع بين أوس بن الحدثان النصري وبين طلحة بن عبيد الله خير شاهد على فساد عمليات بيع الذهب وأنواع الصرف الأخرى إلا بالتقابض في المجلس؛ لأن للحادثة المذكورة وجه شبه بما يسمى بعمليات الصرف الحاضرة، ومع أن أوسا وطلحة كانا حاضرين، وفي بلد واحد، إلا أن نقود أحدهما مقبوضة، ونقود الآخر لم تقبض بعد، فقد منعهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أن يتفرقا قبل أن يقبض كل منهما نقوده، بل أكد هذا المنع بالقسم، فقال:((والله لا تفارقه حتى تأخذ منه)) وهل كان هذا اجتهادا من عمر؟ لا. وإنما كان قوله هذا تطبيقا عمليا للحكم الذي فهمه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء)) . ومعنى هاء وهاء: خذ وهات.

(1) تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، للدكتور سامي حمود ص313 وما بعدها

(2)

صحيح مسلم بشرح النووي 4/97؛ ورواه الجماعة إلا البخاري

(3)

سبق ذكر الحديث بتمامه. انظر: صحيح مسلم بشرحه 4/95؛ وصحيح البخاري بشرحه 4/380

(4)

الإجماع ص79؛ المغني 6/112

ص: 155

فاشتراط التقابض يدا بيد غير متوفر في عمليات بيع الذهب التي يطلق عليها العمليات الحاضرة، والتي بينا معناها، وخطواتها؛ لأنه لا يتم التقابض فيها إلا في اليوم الثالث من يوم العقد، وإن صادف عطلة فيكون في اليوم الرابع، أو الخامس. فهي غير جائزة شرعا.

أما رسالة التلكس التي يتبادلها المتعاقدان فهي تمثل الإيجاب والقبول فقط. ولا تمثل تقابضا للمبيع وثمنه.

كيف يمكن تصحيح هذه العملية؟

نظرا لأن التجارة في الذهب وغيره من العملات هي إحدى وسائل الاستثمار، والتي يمكن للمصارف الإسلامية، والمؤسسات الإسلامية، والأفراد، الأخذ بها؛ رغبة في زيادة أرباحها، وتنويعا في وسائل استثمارها؛ وحيث إن هذه العملية تتم بين عاقدين كل منهما في بلد بعيد عن العاقد الآخر.

مثل أن يكون المشتري بنك فيصل الإسلامي البحريني، والبائع بنك لندن.

فإني أقترح أن تتخذ المصارف الإسلامية وكيلا موحدا لها، في كل سوق من أسواق الصرف، والسلع العالمية التي يكثر نشاطها فيها، تسهيلا لمعاملاتها، وتقليلا لنفقاتها، واطمئنانا لسلامة مشترياتها من الغش. ودور الوكيل هو القيام بتنفيذ العقود وإبراهما، والقبض، والإقباض. بعد أن يتلقى الأوامر من المصرف الموكل، وبعد أن يقوم المصرف المذكور بالدراسة، والمساومة، ولا يبقى إلا إبرام العقود، حينئذ يوجه أوامره إلى وكيله لإتمام الصفقة المشتراة، أو المباعة.

فإذا كان مصرف فيصل البحريني سيتولى العقد والقبض والإقباض مع بنك لندن، فإنه حينئذ يجب تطبيق شروط الصرف التي سبق بيانها.

وقد ظهر لي جواز هذا العقد لما يأتي:

ص: 156

أولا: بالنسبة للقبض. سبق أن بينا أن القيد الدفتري في حساب المشتري في المصرف يعتبر قبضا، وقد صدر بهذا قرار كل من مجمع الفقه الإسلامي بمكة، وجدة. وأما أن المصرف الذي اشترى الذهب منه هو الذي يقبض المبيع من نفسه فجائز أيضا؛ لأن المشتري وكله؛ والوكالة في الصرف جائزة عند جمهور العلماء؛ الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والراجح عند المالكية (1) .

قال البهوتي: (فإن أذن له – أي في مصارفة نفسه – جاز. فيتولى طرفي عقد المصارفة) وقال: (ويصح قبض وكيل من نفسه لنفسه)(2) . وقال ابن جزي: (تجوز الوكالة على الصرف إن تولى الوكيل العقد والقبض وأمن التأخير)(3) فمصرف لندن وهو البائع يمكن أن يقبض ثمن الذهب شيكا؛ لأنه يقوم مقام النقود، كما سبق أن بيناه. أو بالفاكس، أو بالتلفون إذا كان للمشتري فيه حساب يمكن الحسم منه. ويمكن أن يقبض الذهب من نفسه للمشتري، ويقيده في حساب المشتري (بنك فيصل الإسلامي البحريني) .

وإذا كان المشتري مصرف لندن، ولديه رصيد من الذهب لمصرف فيصل البحريني، وباعه، أو باع جزءا منه على مصرف لندن، واقتطعه مصرف لندن من الحساب الذي لديه، وقبض ثمن الذهب قبل الافتراق من المجلس وإن تباعدا. صح العقد. ويمكن تخريجه على ما ذكره الفقهاء في المصارفة بالوديعة. وقد بينا جواز المصارفة بها عندهم (4) .

وقولي إن القيد الدفتري في حساب المشتري يعتبر قبضا مشروطا بوجود كمية الذهب المشتراة في المصرف البائع، لأنه يقع كثيرا أن تبيع المصارف كميات من الذهب، أو العملات الأخرى دون أن يكون عندها المقدار المشترى، وذلك لعلمها أن المشتري لا يطلب استلام ذهبه، أو عملته التي اشتراها؛ لأنه يعتمد على القيود الدفترية فقط، وعلى هذا فالمصارف تبيع شيئا غير مملوك لها، فضلا عن أن يكون موجودا لديها. وإذا كان ذلك كذلك فإن العقد باطل، وحرام شرعا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام:((لا تبع ما ليس عندك)) (5) . قال الترمذي: حديث حسن. وقال عنه في رواية أخرى: حسن صحيح. ولأن القيد الدفتري والحالة هذه لا يمثل قبضا، وإنما هو وسيلة خداع.

وتأكيدا لوكالة المشتري للبائع فإني أرى أن يكتب في ورقة إثبات البيع وتقييده في حساب المشتري العبارة التالية (وذلك بناء على توكيل المشتري للمصرف

بالقبض) .

وقبض الذهب بالصورة التي ذكرناها هو قبض حقيقي؛ لأنه تم باليد، بواسطة الوكيل. وقبض ثمنه بالشيك قبض حكمي، وفي معنى القبض باليد.

ثانيا: إبرام العقد بوسائل الاتصال الحديث كالتلفون، والبرق؛ والسلكي، واللاسلكي، وبالتلكس، وبالفاكسملي، وبالراديو، وبالتلفزيون، وبالقمر الصناعي، وبالانترفون، أو ما يقوم مقامه وبكل وسيلة تم استخدامها، أو تكتشف فيما بعد؛ وهي مساوية في الوضوح، والسرعة، لهذه الآلات، يكون صحيحا من حيث صحة الإيجاب والقبول، ولزومهما، أو فسخهما. ومن حيث اتحاد مجلس العقد. لأن الرضا هو الأساس في إبرام العقود، ولهذا جاز التعاقد بالرسالة والكتابة والإشارة، مع أن كلا من العاقدين بعيد عن الآخر لا يراه، ولا يسمع صوته، بل أن التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة، أقوى، وأوضح، وأسرع، من التعاقد بواسطة الرسول أو الخطاب، لأن كلا من العاقدين يخاطب الآخر، ويماكسه، ويستطيع أن يستوضح كثيرا من المواصفات والشروط التي يصعب تحقيقها بالرسالة، أو بالخطاب؛ فهي جائزة بدلالة مفهوم الموافقة الأولوي. أي صح ذلك من باب أولى.

ويفهم من نصوص الفقهاء رحمهم الله ما يؤيد صحة هذا القول، قال ابن الهمام عند شرحه لعبارة (البيع ينعقد بالإيجاب والقبول يعني إذا سمع كلام الآخر)(6) . وهذا متحقق في التلفون ونحوه.

(1) المبسوط 14/4؛ رد المحتار 4/234؛ البدائع 5/216؛ حاشية القليوبي 2/167؛ المقدمات 2/18؛ مغني المحتاج 2/22؛ كشاف القناع 3/266؛ مواهب الجليل 4/308؛ القوانين الفقهية ص251؛ الشرح الصغير مع بلغة السالك 2/15؛ البيان والتحصيل 6/455

(2)

كشاف القناع 3/267؛ وانظر: المصدر السابق ص246، الإنصاف 4/470، شرح منتهى الإردات 2/190 و191، مجلة الأحكام الشرعية م336

(3)

القوانين الفقهية ص250

(4)

انظر المطلب الثاني من المبحث التاسع

(5)

صحيح الترمذي بشرحه 5/242 و243

(6)

فتح القدير 6/248

ص: 157

ونقل ابن قدامة عن الإمام مالك رحمه الله قوله: (يقع البيع بما يعتقده الناس بيعا)(1) .

وقال ابن قدامة: (ولنا [يعني الحنابلة] أن الله أحل البيع ولم يبين كيفيته، فوجب الرجوع فيه إلى العرف، كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق)(2) .

وقال النووي: (لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف، وأما الخيار فقال إمام الحرمين: يحتمل أن يقال: لا خيار لهما؛ لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته قال: ويحتمل أن يقال: يثبت ما داما في موضعهما فإذا فارق أحدهما موضوعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر أو يدوم إلى أن يفارق مكانه؟ فيه احتمالان للإيمان، وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما دام في موضعهما فإذا فارق أحدهما ووصل إلى موضع لو كان صاحبه معه في الموضع عد تفرقا حصل التفرق وسقط الخيار، هذا كلامه والأصح في الجملة ثبوت الخيار وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه وينقطع بذلك خيارهما، وسواء في صورة المساءلة كانا متباعدين في صحراء أو ساحة أو كانا في بيتين من دار، أو في صحن وصفة؛ فصرح به المتولي)(3) .

فيظهر مما نقلناه عن الشافعية أن المتعاقدين لا يشترط فيهما قرب المكان، ولا رؤية بعضهما في صحة العقد.

وممن أجاز عقود البيع بوسائل الاتصال الحديثة من الفقهاء المعاصرين الشيخ أحمد إبراهيم بك؛ والشيخ محمد بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية سابقا، والشيخ مصطفى أحمد الزرقا والدكتور وهبة الزحيلي والدكتور محمد مصطفى شلبي، وغيرهم (4) .

قال الشيخ أحمد إبراهيم: (وأما العقد بالتلفون فالذي يظهر أنه كالعقد مشافهة، مهما طالت الشقة بينهما، ويعتبر العاقدان كأنهما في مجلس واحد، إذ المعنى المفهوم من اتحاد المجلس أن يسمع أحدهما كلام الآخر ويتبينه وهذا حاصل في الكلام بالتلفون)(5) .

لكني أرى وجوب تثبت كل من العاقدين من شخصية صاحبه، وصحة ما تنسبه إليه الأدلة من أقوال أو أفعال، كي لا يدخل اللبس والتزييف من أحد الطرفين، أو من طرف ثالث (6) .

(1) المغني 6/7

(2)

المغني ص8

(3)

المجموع 9/139؛ روضة الطالبين 3/438

(4)

الفقه الإسلامي وأدلته 4/108؛ مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السادس، 2/887؛ المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، للدكتور محمد مصطفى شلبي ص423

(5)

العقود والشروط والخيارات؛ مجلة القانون والاقتصاد، سنة 4، عدد 5، ص656

(6)

مجلة مجمع الفقه الإسلامي؛ العدد السادس، 2/789؛ الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور.

ص: 158

ويشترط أن تكون صيغة العقد موافقة لمتقضى الشرع حسب ما فصله الفقهاء؛ لئلا يراد منها السوم، ومعرفة السعر فقط، وما شابه ذلك من الحيل التي يتخذها التجار؛ مثل أن يرسل أو فاكسا، لا لغرض التعاقد، بل لمعرفة السعر مثلا، أو إظهار نفاق البضاعة، أو غير ذلك. فحينئذ لا تكون الصيغة بهذه الوسائل صالحة لتكوين العقد.

ثالثا: اتحاد المجلس، وعدم التفرق قبل إتمام عقد البيع، وإن طالت مدة المجلس، ويعتبر مجلس العقد متحدا، ولو لم ير أحد العاقدين الآخر؛ مثل أن يكون الموجب في بلد، والقابل في بلد آخر، كما في مجلس العقد في حالة إرسال رسول، وإرسال كتاب إلى من وجه إليه إيجاب الموجب. فإذا تم العقد بين الموجب والقابل بواسطة التلفون، أو الفاكس، أو البرقية التي تصل في الحال. وقبل الافتراق – وإن كان كل من العاقدين بعيدا عن الآخر – وأرسل المشتري شيكا إلى البائع، بواسطة الفاكس، أو أي وسيلة أخرى طبقت في هذا العصر، أو يتم تطبيقها مستقبلا، وتمثل النقود، أو تكون وسيلة تصرف النقود بها في الحال، وتكون مقبولة عرفا، وغير مخالفة شرعا. واستلم البنك البائع القيمة، وقيد كمية الذهب المشتراة في حساب المشتري لديه، أو سلمها لمندوب المشتري، فالذي أراه أن العقد صحيح؛ لأننا اعتبرنا البائع وكيلا في القبض عن المشتري؛ ولأن الإيجاب والقبول تم بوسائل الاتصال الحديثة؛ ولأن قبض المبيع والثمن تم خلال مدة المجلس؛ إذا لم يرجع الموجب عن إيجابه، وتم قبول القابل خلال مدة المكالمة التلفونية بينهما، أو بعدها، أو خلال استماعه لتوجيه الإيجاب بالراديو، أو التلفزيون، أو الأقمار الصناعية، أو العرض بواسطة شاشات الحسابات الآلية، أو نحو ذلك، إذا كان موجها إلى شخص معين، طبيعي، أو معنوي، والقبول بالفاكس في مجلس وصول الإيجاب إلى من وجه إليه الإيجاب. لأنه ليس المراد من اتحاد المجلس كون العاقدين في مكان واحد، وإنما المراد به اتحاد الزمن الذي يكون المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد (1)، ويكون القبول معتبرا ما دام لم يتخلل بينه وبين الإيجاب ما يعد إعراضا عن العقد من الطرفين. يقول السرخسي:(ولسنا نعني بالمجلس موضع جلوسهما، بل المعتبر وجود القبض قبل أن يتفرقا)(2) . وقال النووي: (ولو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف)(3) ويقول: (ومذهبنا صحة القبض في المجلس وإن تأخر يوما أو أياما وأكثر ما لم يتفرقا، وبه قال أبو حنيفة وآخرون)(4) .

(1) العقود والشروط والخيارات، الفقه الإسلامي وأدلته 4/108، المدخل الفقهي، للزرقا فقرة 171؛ أحكام المعاملات الشرعية، للشيخ علي الخفيف ص177 و178

(2)

المبسوط 14/3

(3)

المجموع 9/193

(4)

شرح النووي على صحيح مسلم 4/97

ص: 159

فإن قيل كيف يجوز شراء الذهب وكل من العاقدين في بلد آخر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه ابن عمر:((إني أبيع الإبل بالبقيع بالدراهم وأخذ مكانها الدنانير، وأبيع بالدنانير وآخذ مكانها الدراهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (1) .

قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.

وقد تضمن قرار مجمع الفقه الإسلامي الذي نص على جواز إبرام العقود بوسائل الاتصال الحديثة أن هذا لا يشمل الصرف لاشتراط التقابض.

قلنا: إن النهي عن الافتراق الذي تضمنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلة نص عليها الحديث؛ وهي قوله: ((وبينكما شيء)) . يعني لا يجوز أن تفترقا قبل أن يتم القبض من كل منكما؛ لأن القبض شرط لصحة عقد الصرف، وعدم التفرق شرط لتحقق القبض، فإذا تحقق القبض في مجلس العقد على ما أوضحناه، وهو اتحاد الزمن الذي يكون المتعاقدان مشغلين فيه بالتعاقد، دون أن يصدر من أي منهما إعراض عن العقد فقد زال المانع؛ فلم يتفرقا وبينهما شيء.

ومثله حديث عمر: ((والله لا تفارقه حتى تأخذ منه)) يعني أن المانع من المفارقة هو عدم القبض، أما إذا تم القبض بين المتعاقدين في زمان واحد، على أي حال كان، وفي أي مكان فإنه حينئذ يصح العقد، لأن علة النهي انتفت.

ومثله قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة؛ حيث علل المنع من عدم جواز عقد الصرف بوسائل الاتصال الحديثة لعدم القبض. ونحن نقول بهذا؛ لكن إذا أمكن تحقق القبض عقيب إتمام الإيجاب والقبول، وكان العاقدان في الفترة التي تعقبه مشتغلين بعملية القبض وإن طالت فترة المجلس، دون أن ينصرف أي منهما عن مكانه الذي هو فيه؛ فقد زال المانع؛ فصح العقد.

(1) سنن أبي داود 3/650؛ مسند الإمام أحمد 9/85. انظر فيما يأتي مزيد من التخريج له في مطلب القبض الحكمي

ص: 160

العمليات الآجلة:

يتم بيع وشراء الذهب، أو العملات بطريقة العمليات الآجلة، وذلك بتحرير عقود كتابية يتبادلها الطرفان، يتم فيها الاتفاق على أسعار هذه العملية عند التعاقد، بينما لا يتم التقابض للذهب أو العملات المتبادلة إلا في وقت لاحق في المستقبل، تكون الأسعار فيه قد تغيرت غالبا.

وهناك تواريخ تكاد تكون ثابتة للعمليات الآجلة، وهي لمدة شهر، وشهرين، وثلاثة شهور، وستة شهور، وسنة. والعمليات التي تقل عن ستة شهور هي الأكثر تداولا، وسوقها دائما نشطة، أما العقود التي تزيد عن ذلك أي لمدة سنة فهي أقل (1) .

الحكم الشرعي:

والحكم الشرعي لهذه العملية أنها حرام، والعقد المذكور فيها عقد باطل، لا يعتد به شرعا، ولا تترتب عليه آثاره، لفقدان شرط من شروط الصرف؛ وهو التقابض، فقد قال صلى الله عليه وسلم:((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .

(1) النقد الأجنبي ص26؛ تحول المصرف الربوي إلى مصرف إسلامي ص28

ص: 161

المبحث الحادي عشر

صور الصرف

وفيه عدة مطالب

المطلب الأول

القبض الحكمي

القبض الحكمي قال به الفقهاء في أحوال كثيرة، وأقاموه مقام القبض الحقيقي، ومن صوره التخلية بين المشتري والمبيع. بحيث يكون سالما له، ويتمكن من قبضه، وحكموا بالقبض، ولو لم يتم بالفعل في هذه الحالة. على تضييق، وتوسيع في اعتبار التخلية قبضا في بعض البيوع دون بعضها، أو في أكثرها.

أما في الصرف فقد نص الفقهاء على أنه لا تكفي التخلية، وأنه لا بد من القبض باليد، كما بيناه في شروط الصرف.

وعندي أن القبض الحكمي يمكن تقسيمه إلى قسمين، أحدهما التخلية، والثاني ما يستند إلى شيء مادي؛ كالشيك، أو السند المتضمن لقبض مبلغ معين، أو كمية معينة من الذهب، أو الإشعار بالقبض، أو القيد الدفتري في حساب المشتري، أو المقاصة من دين سابق.

فالتخلية لا أرى جواز اعتبارها قبضا في الصرف.

وأما القسم الثاني فإنه يجوز عندي اعتباره قبضا، لاستناده إلى شيء مادي. وهو ما أقصده، عندما أقول بجواز القبض الحكمي في المسائل المذكورة في هذا البحث أو غيره.

ص: 162

المطلب الثاني

المصارفة بالوديعة المصرفية

المصارفة بالوديعة المصرفية جائزة عند الفقهاء، وهو مذهب الحنابلة، ورواية عن الإمام مالك (1) .

جاء في كشاف القناع: (وإن كان له عنده دينار وديعة فصارف رب الدينار الوديع به وهو معلوم بقاؤه أو مظنون بقاؤه صح الصرف لانتفاء الغرر وإن شك في عدم وجود الدينار صح الصرف أن الأصل بقاؤه) .

ويتخرج القول بجوازها على مذهب الحنفية والشافعية والرواية الأخرى عند المالكية؛ لأن منعهم الصرف بالوديعة معلل بعدم دخولها في ضمان المودع، أو لعدم حضورها. فهذا غير متحقق في الوديعة المصرفية. قال الباجي:(ولأن حق المودع متعلق بعين ماله-[أي المال المودع] – ولم يتعلق بذمة الشخص المودع فلا يجوز أن يصارف به إلا عند حضوره)(2) .

يقول الإمام الشافعي: (وإذا كان للرجل عند الرجل دنانير وديعة فصارفه فيها ولم يقر الذي عنده الدنانير أنه استهلكها حتى يكون ضامنا. ولا أنها في يده حين صارفه فيها فلا خير في الصرف، لأنه غير مضمون ولا حاضر، وقد يمكن أن يكون هلك في ذلك الوقت فيبطل الصرف)(3) .

وقال السرخسي: (إذا استودع رجل رجلا.... فوضعها في بيته ثم التقيا في السوق فاشتراها منه بمئة دينار ونقد الدنانير لم يجز أن يفارقه قبل أن يقبض الوديعة من بيته؛ لأن الوديعة أمانة في بيته والقبض المستحق بالعقد قبض ضمان فقبض الأمانة لا ينوب عند لأنه دونه)(4) .

فالمحترزات التي ذكرها الفقهاء، وهي غياب الوديعة، أو عدم ضمانها من قبل المودع – المصرف – لا تتصف بها الودائع المصرفية في هذا العصر؛ لأنها مضمونة على المصرف، وهي إن سميت وديعة إلا أنها قد كيفت من كثير من الباحثين المعاصرين على أنها قرض؛ بدليل أن الوديعة لو تلفت لا يضمنها المصرف، والودائع المصرفية في هذا العصر يضمنها المصرف ولأن الوديعة لا يجوز تصرف المودع بها، ولا خلطها بماله، والواقع أن المصارف تتاجر بالودائع، وتخلطها بأموالها، لكل هذا فهي قرض، وقبض المصرف ضمان. وما دام ذلك كذلك فإنه يجوز المصارفة على المذاهب الأربعة.

يقول الصاوي: (لأنه لما دخل على الضمان المرتهن أو المودع صار كأنه حاضر في مجلس الصرف)(5) .

(1) المغني 6/118 و119؛ كشاف القناع 3/270

(2)

المنتقى 4/263

(3)

الأم 3/31

(4)

المبسوط 14/53

(5)

بلغة السالك 2/16

ص: 163

المطلب الثالث

صور الصرف المصرفية

1-

شراء النقود من المصرف، أو قبض شيك عنها.

أ - أن يشتري شخص نقدا من المصرف بنقد آخر، فيسلم المصرف نقوده، ويأخذ مقابلها العملة التي يريدها، فهذا جائز، مادام التقابض قد تم في مجلس العقد، حتى وإن طال المجلس. وهذه الصورة التي يتعامل بها الناس منذ القدم، ولا إشكال فيها. وهي قبض حقيقي.

ب - وإن أخذ – في الصورة السابقة – من المصرف شيكا يمكن صرفه من مصرف معين، أو يمكن صرفه من عموم المصارف، أو المحلات التجارية، كما في الشيكات السياحية؛ فيعتبر قبضه للشيك قبضا حكميا لمحتواه؛ وهو جائز؛ لأنه بمنزلة التقابض قي البدلين قبل التفرق.

وأرى أن قبض الشيك قبض لمحتواه إذا كان صادرا من مصرف، أو شركة مصرفية. أما إذا كان صادرا من غيرهما فلا أرى اعتباره قبضا في الصرف إلا إذا كان مصدقا؛ لأن كثيرا من الناس يصدر شيكات غير مصدقة، ولا يتحقق صرفها؛ إما لعدم وجود رصيد يغطيها، وإما لتمكن محررها من إيقافها.

2-

يدفع العميل للمصرف مبلغا من النقود (جنيهات مصرية) على أن يسجله في حسابه الخاص بالمارك الألماني فيقوم المصرف بعملية الصرف في الحال، متمثلة في قبضه للجنيهات المصرية، وبيان مقدار قيمتها من الماركات، ثم يدخل في حسابه الخاص ما يقابلها من الماركات، ويعطيه إيصالا بذلك. وهذه العملية مركبة من عقدين: صرف، وإيداع؛ وهذا جائز؛ لأن تحويل الجنيهات إلى الماركات صرف تم في مجلس العقد، وتسجيله في حسابه قبض، واستلام الإيصال مستند لهذا القبض؛ وقد تحقق القبض بشيء مادي محسوس، وهو التسجيل، واستلام المستند؛ ولأنه يرجع في القبض إلى العرف (1) ، وقد جرى في هذا العصر على أن القيد في الحساب المصرفي قبض، وهذا العرف لا يعارض النصوص الموجبة للتقابض؛ ولأن فائدة القبض تمام الملك، وإطلاق تصرف المشتري في المبيع، وهما متحققان بالقيد في الحساب، إذ لا يوجد مانع منه. وقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالمالإسلامي بأنه:(يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودعة فيه)(2) .

(1) مغني المحتاج 2/71؛ المغني 6/ 187

(2)

صدر هذا في الدورة الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة من 13 إلى 20 رجب عام 1409هـ/فبراير 1989م

ص: 164

وقد صدر بهذا أيضا قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة، وقد جاء فيه: أن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعا وعرفا (القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية) :

ت - (إذا أودع العميل مبلغا من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية)(1) .

وقد يوهم تعبير المالكية أنهم يمنعون الصرف إذا أودع أحدهما ما قبضه عند الآخر. جاء في مواهب الجليل: (إذا وقع التقابض في الصرف ثم أودع أحدهما ما قبضه عند الآخر لم يجز)(2) .

وقال اللخمي: (ولا يجوز اليوم لمن صرف دينارا بدراهم أن يودعها بعد المناجزة عند الصراف لأن القصد من تركها أن يبرأ من نقصها ونحاسها (3) .

لكن يندفع هذا الوهم بما عللوا به: قال ابن رشد: (إنما لم يجز ذلك أنه آل إلى الصرف المتأخر؛ فإنهما على القصد إلى ذلك ولو صح ذلك منهما لم يكن عليهما فيه حرج)(4) . قال: (وقد أجاز ذلك ابن وهب في سماع أبى جعفر إذا طبع عليه) . فبين أن المنع من هذا إذا كان يؤول إلى الصرف المتأخر حيث كان هو المقصود باطلا أما إذا كان الإيداع صحيحا، أي ليس مشروطا من قبل المصرف؛ فإنه حينئذ لا حرج؛ فيكون الصرف صحيحا؛ ومن المعلوم أن الإيداع في حساب العميل في المصارف في هذا العصر، إيداع صحيح؛ لأنه يتمكن العميل في أي لحظة من سحبه، أو سحب بعضه. وما علل به اللخمي غير متحقق في هذا العصر؛ لأن معظم التعامل اليوم بالنقود الورقية، ولا يمكن نقصها، ولا غشها من قبل المصارف المعترف بها، ولا يتحقق فيها أيضا؛ لأن التعليل الذي ذكره – مع عدم التسليم به في جميع الأحوال – يمكن أن يقال في حق النقود الذهبية والفضية القليلة المقدار عند من يرى أنها تتعين بالتعيين. أما النقود الورقية فإنها لا تتعين بالتعيين.

ولا يتحقق أيضا في الذهب والفضة في هذا العصر، لأنه أمكن ضبط حجمهما، ووزنهما، وتحديد عيار كل منهما.

3-

(إذا كان للعميل حساب لدى مصرف بعملة ما، فأمر المصرف بقيد مبلغ منه في حسابه بعملة أخرى بناء على عقد صرف ناجز تم بينه وبين المصرف، واستيفاء المبلغ الذي اشترى به من حسابه، فيعتبر القيد المصرفي المعجل بالعملة المشتراة قبضا حكميا من قبل العميل الآمر، ويعتبر الاقتطاع الناجز من قبل المصرف للبدل من حساب العميل قبضا حكميا له من المصرف، ويعد مجموع ذلك بمثابة التقابض بين البدلين في الصرف، وإن اتحدت يد القابض والمقبض حسا)(5) . جاء في كشاف القناع: (فإن أذن له – [أي في مصارفة نفسه] – جاز. فيتولى طرفي عقد المصارفة)(6) .

(1) قرار رقم (55/4/6) ، الدورة السادسة، المنعقدة في جدة سنة 1410هـ/1990م؛ 1/771

(2)

4/306

(3)

4/306

(4)

4/306

(5)

القبض الحقيقي والحكمي؛ للدكتور نزيه حماد ص36

(6)

3/267

ص: 165

وقد صدر بهذا قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، كما ذكرناه فيما سبق، وصدر بهذا أيضا قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة؛ حيث جاء فيه: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعا وعرفا. ج إذا اقتطع المصرف – بأمر العميل- مبلغا من حساب له إلى حساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر (1) .

إذا تصارف العميل مع المصرف الذي له فيه حساب، فأمر المصرف باقتطاع البدل الذي اشترى به من حسابه، وتسلم من المصرف شيكا بالنقد الذي (2) . اشترى به يمكن صرفه من بنك معين، أو غير معين، فإن هذا الصرف جائز، فاقتطاع المصرف لبدل الصرف من حساب العميل قبضا حقيقيا؛ قال ابن قدامة:(إذا كان له عند رجل دينار وديعة فصارفه به، وهو معلوم بقاؤه، أو مظنون صح الصرف)(3) .

وقد كيفه البعض (4) . على أنه من قبيل المصارفة بما في الذمة (5) . وهذا التكييف لا يصح في نظري؛ لأن هذا ليس دينا على المصرف، وإنما هي نقود العميل أودعها في المصرف، يستطيع أن يسحب منها أي وقت شاء، ويصارف المصرف بها، أو بجزء منها، فهي وديعة وليست دينا.

ويعتبر تسلم الشيك قبضا حكميا لمضمونه.

5-

أن يتقدم شخص بنقوده، أو شيكه الذي يمثل ريالات سعودية، مثلا، إلى مصرف في مكة المكرمة، يريد منه أن يحول هذه النقود إلى القاهرة، أو يريد أن يستلمها هناك جنيهات مصرية هو أو وكيله. فيقوم البنك في الحالة الثانية بإجراء صرف الريالات إلى جنيهات مصرية، ويسلم العميل شيكا يتضمن مبلغها من الجنيهات المصرية؛ قيمة لريالاته، يحوله إلى فرع له في القاهرة، أو مصرف وكيل له. ويمكن أن يرسل برقية، أو فاكسا، أو تلكسا، أو مكالمة تلفونية، إلى المصرف المذكور تتضمن تسليم المبلغ المذكور. ويحصل المصرف في هذه الحالة على أجرة، وعلى مصاريف البرقية أو التلكس أو نحوهما.

(1) فقرة ج من ثانيا، من القرار رقم 55/4/6

(2)

القبض الحقيقي والحكمي، للدكتور نزيه حماد ص37

(3)

المغني 6/188، وانظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة. الذي ذكرناه في الفقرة السابقة.

(4)

الدكتور علي محيي الدين القره داغي

(5)

مجلة الفقه الإسلامي بجدة، العدد السادس 1/589

ص: 166

وهذه المعاملة جائزة، والوصف الفقهي لها عندي، أنها إجارة على نقل النقود، أو صرف وإجارة؛ ففي حالة استلام ذات العملة فهي إجارة فقط، وفي حالة استلام عملة أخرى كالجنيهات المصرية مقابل الريالات السعودية فهي صرف، ثم إجارة؛ وكل من العقدين مستقل عن الآخر؛ لأن تحويل الريالات إلى جنيهات صرف، ثم نقلها أو التعهد بنقلها إلى القاهرة وأخذ عوض مقابل هذا النقل إجارة على نقل النقود؛ لأنه هو مقصود العاقدين، وليست العمولة التي يدفعها طالب التحويل إلا أجرة النقل. والمصرف له أن يتخذ الوسيلة التي ينفذ العقد بها، ومن هذه الوسائل الشيك، أو البرقية، أو الفاكس، أو التلفون، أو نحو ذلك. لكن في جميع الأحوال يجب أن يفرق بين الصرف، والإجارة؛ لأن الصرف يشترط فيه التقابض، وسبق أن ذكرنا أن قبض الشيك، أو قبض المستند الذي يقوم مقامه في حالة الإرسال بواسطة الفاكس، أو البرقية، أو نحوهما، يعد قبضا حكميا صحيحا.

وبعد الوصول إلى هذا التخريج عثرت على أقوال لبعض العلماء والباحثين قد قالوا بتخريج هذا العقد على الإجارة منهم الشيخ أحمد إبراهيم بك، والدكتور عبد الحميد إبراهيم، والدكتور ستر بن نواب الجعيد (1) .

فقد قال الشيخ أحمد إبراهيم بك: (أقول: إن حوالة البريد (بوليصة البوستة) المعروفة عندنا ليست من هذا القبيل بل هي إجارة على إرسال النقود من بلد إلى بلد بأجر معلوم) (2) .

يؤيد هذا القول ما ذكره صاحب المغني من أن العلماء إنما كرهوا اشتراط القضاء في بلد آخر في القرض لاحتمال أن للشيء المستقرض مؤونة وأجرة إلى ذلك البلد الذي شرط فيه الوفاء؛ ولذلك استثنوا ما لا مؤونة لحمله (3) .فإذا دفعت المؤونة التي كره العلماء التوفية في بلد غير بلد القرض فقد زال موجب الكراهة ويصير هذا العقد إجارة حتى لو ورد في صورة القرض لأن العبرة في العقود بمقاصدها لا بألفاظها كما هو راجح في الشريعة (4) .

(1) المعاملات الشرعية المالية ص206؛ الموسوعة الفقهية، الحوالة:212

(2)

أحكام الأوراق النقدية والتجارية في الفقه الإسلامي ص378

(3)

المغني 6/436

(4)

أحكام الأوراق النقدية والتجارية ص378

ص: 167

وقد كيف بعض الباحثين هذه العملية على أنه سفتجة (1) .:

1-

وهذا التكييف لا يصح في نظري؛ لأن السفتجة قرض. كما هو رأي جمهور الفقهاء (2) . فقد عرفها الدسوقي بأنها (الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله ببلد ليدفع للمقترض نظير ما أخذه منه ببلده وهي المسماة بالبالوصة)(3) .

2-

ولأن الجموع التي تقف في المصارف لإرسال النقود إلى ذويهم أو عملائهم، أو حساباتهم في مصارف أخري، في الحقيقة ليست مقرضة، ولا يتبادر إليها القرض بأي حال.

3-

وأن المقترض في السفتجة لا يتقاضى أجرا. أما المصارف اليوم فإنها تأخذ أجرا على هذه العملية.

فإن قيل: إنها حوالة. قلنا: لا يصح تكييفها على الحوالة:

1-

لأن الحوالة: نقل الدين من ذمة إلى ذمة. والصورة التي نحن بصددها الأصل فيها أنه ليس هناك دائن ولا مدين، وإن وجدت عند تحويل مستوردي البضائع إلى دائنيهم المصدرين، إلا أنها لا توجد في بقية الحالات. مثل أن يحول إلى حسابه، أو إلى أولاده.

2-

ولأن من أركان الحوالة: المحيل، والمحتال، والمحال عليه. وهذا غير متوفر في كل الحوالات المصرفية المعاصرة؛ لأنه قد يقوم المحيل بالحوالة إلى نفسه؛ مثل أن يحيل إلى حسابه في بنك القاهرة. فلم يوجد المحتال، ولا المحال عليه، في عقد الحوالة الفقهية. وإذا كان التحويل إلى دائنه المصدر مثلا، فإنه لا يوجد المحال عليه، ومن المعلوم أنه إذا لم يوجد أحد أركان العقد، فإن العقد لا ينعقد.

3-

لا يجوز أخذ الأجرة في عقد الحوالة. بينما الحوالات المصرفية يصح أخذ الأجر عليها؛ لأنها إجارة على تعهده بإيصال النقود إلى البلد الذي اتفق العميل مع المصرف عليه، سواء كان المصرف الذي حرر الشيك عليه فرعا له، أو وكيلا عنه.

وقال ابن حزم: (والإجارة جائزة على التجارة مدة مسماة في مال مسمى أو هكذا جملة كالخدمة والوكالة، وعلى نقل جواب المخاصم طالبا كان أو مطلوبا وعلى جلب البينة وحملهم إلى الحاكم وعلى تقاضي اليمين وعلى طلب الحقوق والمجيء بمن وجب إحضاره لأن هذه كلها أعمال محدودة داخلة تحت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاجرة)(4) .

(1) موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة؛ للدكتور عبد الله العبادي ص336-340، وبحث السفتجة؛ للدكتور رفيق المصري؛ منشور في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي – العدد الأول- لعام 1404هـ/1984م ص113 و123

(2)

حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3/225، وانظر: رد المحتار 4/295؛ المغني 6/436

(3)

حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3/225

(4)

المحلى 8/198

ص: 168

فإن قيل: إن اجتماع الصرف والإجارة في عقد واحد يشمله نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عقدين في عقد.

قلنا: إن المنهي عنه إذا كان أحد العقدين شرطا للآخر، مثل أن يقول: أبيعك بشرط أن تؤجرني؛ أو أقرضك على أن تشركني، أو لا أصرف لك أن تحول المبلغ لي. وهذا كله غير موجود في العقد؛ فإن دافع النقود يستطيع أن يصرف دون أن يلزمه المصرف بالتحويل له، والإجارة عليه، وبإمكانه أن ينقل نقوده إلى أي بلد بدون صرف. فليس أي من العقدين متوقفا على الآخر؛ بل كل منهما مستقل عن الآخر.

فإن قيل: كيف يتحمل المصرف الضمان عند هلاك المال، دون أن يثبت إهماله أو تفريطه؛ كما لو وقع عليه حريق؛ أو آفة لا دخل له فيها؟

أجيب عليه بأن الأجير المشترك عليه الضمان عند جماعة من العلماء (1) . (وهذا القول هو الموافق لمقاصد الشريعة في حفظ الأموال، وتضمينه هو سبب وجود الثقة في هذه المعاملات. وإذا ثبتت أنه لم يفرط أو كان التلف مما لا يمكن الاحتراز منه فلا وجه للقول بتضمينه وبهذا يتم الجمع بين المصلحتين؛ مصلحة أصحاب الأموال والأجراء. أما إذا قلنا بعدم تضمينه فإن المفسدة التي تلحق أصحاب الأموال أعظم من المفسدة التي تلحق الأجراء في حال القول بتضمينه، وإذا علم الأجير أنه ضامن بعثه ذلك على التحرز وعدم التفريط، وأخذ الحيطة لنفسه)(2) .

وقال الأستاذ مصطفى الزرقا: (إن الأجير وهو المحيل في السفتجة لن يقوم بما استؤجر عليه وهو إيصال المال الذي دفعه إليه المستأجر إلى البلد المطلوب بل سيحتفظ به ليقبض المستأجر بدلا عنه في البلد الآخر، والإجارة لا بد في انعقادها من أجرة ليتحقق معناها فبماذا استحق الأجرة إذا لم يقم الأجير بالعمل)(3)

ويجاب على هذا بأن العمل قد تحقق ذلك أنه هو المنفعة، وهو تهيئة النقود وتحقق وجودها في المكان الذي يريده المؤجر، وذلك يتحقق بنقلها حسيا، أو بتوفير مثلها هناك في فرعه أو لدى وكيله؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين، كما هو الراجح من قولي العلماء في النقود الذهبية والفضية. وكما هو الثابت في النقود الورقية في هذا العصر. بدليل أن المستأجر لو عدل عن نقل النقد وقد تسلمه المصرف؛ فإنه لا يلزم المصرف ردها بعينها، بل يعطيها مثلها.

(1) الإجارة الواردة على عمل الأشخاص؛ للدكتور شرف بن علي الشريف؛ ص253-258

(2)

أحكام الأوراق النقدية والتجارية ص376

(3)

الموسوعة الفقهية؛ الحوالة؛ ص212؛ ط تمهيدية، الأنموذج الثالث

ص: 169

فما دام الأمر كذلك فلا يترتب على نقل النقد بعينه كبير فائدة والمصرف – الأجير المشترك – يختلف عن بقية الأجراء المشتركين الذين يتقبلون من الناس أشياء تتعين بالتعيين، لأن هؤلاء الأجراء يلزمهم أن يردوا الشيء الذي أخذوه بعينه. أما المصرف فإن الأشياء التي يتسلمها وهي النقود لها هذه الميزة الخاصة – عدم التعيين – فلا يلزم ردها بعينها (1) .

وقال الأستاذ: مصطفى الزرقا: (إذا تصرف الأجير في المال الذي قبضه بحسب المقصود من العملية كان متصرفا في الأمانة فهو غاصب آثم، وإذا قيل: إنه تصرف بالإذن فلا يكون آثما. قلنا: إنه عندئذ ينقلب مقترضا ضامنا إلى حين الوفاء ولا يبقى أجيرا بعمل لقاء أجر)(2) .

ثم بأي حق موجب يلزم الذي في البلد الآخر أن يدفع لهذا المستأجر مال الأجير الذي تحت يده أو في ذمته؟ (3) .

ويمكن الإجابة على هذا الاعتراض: بأن تصرف الأجير المشترك – المصرف – في النقد مبني على ما سبق من أن النقد لا يتعين بالتعيين، وقد قبضها بقصد تقديمها أو تقديم مثلها في المكان الذي عينه طالب التحويل – المؤجر – وتصرف المصرف فيها لا يجعله مقترضا؛ لأنه لم يقبضها أمانة.

أما المصرف الذي في البلد الآخر – كالقاهرة – فإنه يقوم بتسليم المستأجر المبلغ الذي يحتويه الشيك؛ لأنه وكيل عن الأجير في دفع قيمة الشيكات عن موكله. وليس الانسحاب من الوكالة بمؤثر في العقد؛ ذلك أن حامل الشيك حينما يقدمه للفرع الذي في القاهرة يستطيع الوكيل أن يرفض قبول الشيك إذا لم يتلق رصيدا يغطيه، أو ليس عنده ثقة في ساحب الشيك تقوم مقام الرصيد.

يؤيده أن بنك القاهرة في مثلنا وكيل، وأن مصرف مكة المكرمة الذي حرر الشيك إذا أراد أن يمنع صرف ذلك الشيك فإنه يرسل إشعارا إلى ذلك الفرع بوقف صرف الشيك. أما حامل الشيك فلا يضر امتناعه، ولا يتصور أن يمتنع من التقديم؛ لأن امتناعه يضر به (4) .

(1) أحكام الأوراق النقدية والتجارية ص374.

(2)

الموسوعة الفقهية

(3)

الموسوعة الفقهية

(4)

أحكام الأوراق النقدية والتجارية ص377 و378

ص: 170

الخاتمة

وفيها أهم نتائج البحث

1-

التجارة في الذهب جائزة إذا توفرت فيها شروط صحتها.

2-

يشترط لها شروط البيع المعروفة؛ لأنها من أنواع البيوع.

3-

إضافة إلى وجوب توفر شروط البيع فإنه إذا كان المبيع ذهبا والثمن ذهبا، يشترط التماثل، والتقابض في مجلس العقد، والحلول، والخلو عن خيار الشرط.

4-

إذا اختلف الجنس، مع الاتحاد في علة الربا وهي الثمنية، مثل شراء الذهب بالفضة، أو الأوراق النقدية، أو الشيك؛ فإنه يشترط التقابض، ويجوز التفاضل.

5-

تحول النقود من الذهب والفضة إلى الأوراق النقدية لا يغير من علة الربا فيهما شيئا.

6-

ما ذكره بعض العلماء من كراهة العمل بالصرف؛ لأن كثيرا ممن يعملون فيه ينقصهم العلم بأحكامه، أو لا يتورعون فيه. لكن مثل هاتين الحالتين لا تعودان على حكم الصرف بالحرمة أو الكراهة، وإنما تلحق الحرمة والبطلان العقد إذا لم يستوف شروطه، أو اختل شيء من أركانه.

7-

ما ذكره الغزالي من أن الاتجار في أعيان النقود على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم غير مسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أجاز بيعهما وشراءهما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم – كما بيناه في الأدلة – من لوازمه من يتخذها مقصودا لتتوفر لمن أرادها.

8-

اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة على أن التقابض في الصرف إنما يكون باليد. فيشترط القبض الحقيقي، أو ما يقوم مقامه؛ مثل القيد الدفتري أو قبض الشيك، لا التخلية.

9-

لا خلاف بين العلماء في أن جيد الذهب ورديئه سواء؛ فيشترط التماثل، ويحرم التفاضل، والمراد بالتماثل في الوزن أو الكيل، أو العدد.

10-

حد الرداءة الذي يعتبر معه هذا المعدن – وهو مختلط بغيره اختلاط امتزاج – ذهبا إذا زادت نسبة الذهب على المخلوط مثل إن كان عيار 13/24 أو تساوي مثل عيار 12/14.

وهذا في جميع أنواع الذهب ومنها الحلي، عدا النقود الذهبية، وهذا مذهب الحنفية، وهو الراجح؛ لأن الحكم للغالب.

ص: 171

11-

إذا زادت نسبة الغش فأصبح عيار الذهب أقل من 12/14 ويتعذر فصله إلا بفساد المصنوع؛ فإنه حينئذ لا يأخذ حكم الذهب، وإنما يأخذ حكم السلع من حيث أحكام الربا والصرف.

12-

أما النقود المغشوشة التي غالبها الغش، إذا كانت سكة سائرة فإنه يطبق عليها أحكام الربا والصرف؛ لأنها نقود؛ تثبت فيها علة الثمنية فيجب التقابض والتماثل إذا بيع بعضها ببعض، ويجب التقابض دون التماثل إذا بيعت بنقود من غير جنسها.

13-

قال جمهور العلماء الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية والزيدية والإمامية: إذا بيع المصوغ كالحلي بغير المصوغ كالتبر والمضروب من الدراهم أو الدنانير فإنه لا عبرة للصناعة ولا لغيرها، فيجب التماثل في بيع الجنس بجنسه.

14-

وقال ابن القيم واشتهر عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه إذا كانت الصناعة مباحة – كحلية النساء – وبيعت الحلية بجنسها من غير المصنوع؛ فإنها تباع بالقيمة ولا يشترط التماثل؛ جعلا للزائد في مقابلة الصنعة.

15-

الراجح هو مذهب الجمهور لقوة أدلتهم؛ منها أحاديث عامة تشمل كل ذهب، ومنها ما هي خاصة بالحلي؛ وهي أحاديث صحيحة، وقليل منها لم يبلغ درجة الصحة لكنه صالح للاحتجاج عند جمهور العلماء، كما أنه تقوى بغيره. واحتجوا بالمعقول أيضا.

16-

أدلة الفريق الثاني ليس فيها نص من القرآن أو السنة، وإنما هي تعليلات، وأقيسة، مثل القياس على بيع العرايا للحاجة، ودفع الحرج، وأن الحلية بالصنعة صارت سلعة كسائر السلع، وقياسا على عدم وجوب زكاة الحلي عند من يرى ذلك، وقياسها على أجرة الصياغة، وقياسها على قيمة الإتلاف.

17-

نوقشت أدلة الفريقين، وتبين منها قوة أدلة المذهب الأول. وأجيب على أدلة الفريق الثاني بما يعتقد أنه كاف في ردها.

18-

إذا بيع المصوغ بالمصوغ فإنه يجب التماثل، ويحرم التفاضل عند جميع الفقهاء.

19-

بيع الحلي القديم بالنقود الورقية، أو غيرها من العملات عند اختلاف الجنس، والشراء بثمنه حليا جديدا، من مشتري الحلي الأول، وإجراء المقاصة بين الثمنين. لم أجد لهذه المسألة تصويرا عند الفقهاء على هذا النحو. لكن يتخرج القول فيها بالجواز على قول الإمام مالك، ومذهب الحنفية؛ وهو ما رجحه الباحث؛ لأن هذا ليس بيع ذهب بذهب، أو فضة بفضة. ويتخرج منعها على مذهب الشافعية والحنابلة، وقد نوقشت أدلتهم ورد عليها.

ص: 172

20-

إذا اشترى الصائغ الحلي القديم بالنقود الورقية مثلا، على أن يشتري منه البائع حليا جديدا. لم أجد لهذه المسألة تصويرا عند الفقهاء على هذا النحو – أيضا – لكن يتخرج القول فيها بالحرمة والبطلان على مذهب الشافعية والحنابلة، والحرمة والفساد على مذهب الحنفية بناء على تفسيرهم لبيعتين في بيعة، ولأنها عند الشافعية والحنفية اشتملت على بيع وشرط.

ويتخرج القول فيها بالجواز على مذهب الإمام مالك. وهو ما رجحه الباحث. بناء على أن الراجح في معنى بيعتين في بيعة هو بيع العينة، وهو تفسير ابن تيمية وابن القيم، وغيرهم.

21-

إذا باع الإنسان حليا وقبض ثمنه، ثم اشترى بالثمن حليا آخر فهو جائز بلا خلاف.

22-

إذا طلب راغب الحلية من الصائغ أن يعمل له حلية معينة سواء حدد وزنها أو لم يحدده، فإذا تم العمل أعطاه مثل وزنها، وزيادة من جنسها، أو من غير جنسها، حسب ما اتفق على مقدارها عند العقد فهذه الصورة لا تجوز عند الحنفية والمالكية والشافعية، وهو ما رجحه الباحث، لعدم التقابض في المجلس، ولعدم التماثل إذا كانت الأجرة من جنس الحلية.

23-

إذا حدد وزنها فهي جائزة عند الحنابلة.

24-

إذا كان ثمن الحلية المطلوب صناعتها، أو ثمنها وأجرتها – وإن قدرت مستقلة عن الثمن – مختلفا عن الحلية، كالنقود الورقية، ويتم تسليم الثمن أو بعضه عند تسليم الحلية فيحرم العقد، ويبطل؛ لعدم التقابض في مجلس العقد.

25-

الطرق التي توافق الشرع، وتحقق غرض طالبي صناعة الحلي سواء كانوا أفرادا أو ورشا، أو مصانع لحلي الذهب أو الفضة، هي كالتالي:

أ - أن تتم صناعة الحلي خلال مدة انتظار طالبها، ويتم التقابض في المجلس، ويتم دفع ثمنها من النقود الورقية، أو نحوها مما هو مخالف لجنسها.

ب - أن يشتري الإنسان الذهب أو الفضة، تبرا، أو سبائك، أو حليا، ويدفع ثمنها، بالتساوي إن اتحد جنسها، أو بالتفاضل إن اختلف الجنس، ويقبض المشتري الذهب، أو الفضة، ويقبض البائع الثمن. ثم يتفق معه على أجرة الصناعة التي يريدها ويسلمه المعدن المشترى – ذهبا أو فضة – وفي هذه الحالة يكون العقد جائزا، وصحيحا، سواء كانت الأجرة من جنس المعدن أو مختلفة عنه، وسواء دفعها مقدما، أو عند تسليم الحلي، أو دفع بعضها مقدما، والبعض الآخر مؤخرا.

ص: 173

26-

يقع في بعض البضائع كالساعات وبعض السيارات. وكالياقوت والزمرد، واللؤلؤ حلية من الذهب فإذا بيعت السلعة المذكورة بذهب، فلها أحوال:

أ - إذا كانت الحلية محرمة كالملاعق والصحون المطلية بالذهب فهذه يحرم شراؤها، ويبطل العقد عليها، سواء شريت بذهب أو بغيره من النقود.

ب - إذا كانت الحلية مباحة فإنه يصح بيع السلعة التي معها ذهب، بالعروض، وبالنقود الورقية، والشيكات، وبالنقود الفضية، دون اشتراط التماثل.

ج- أما بيعها بالذهب فقد اختلف فيه على قولين:

القول الأول: إذا كان مع الذهب شيء غيره؛ فإنه لا يحل بيع ذلك الشيء؛ لا بأكثر من وزنه ولا بأقل، ولا بمثله حتى يفصل الذهب وحده، فيباع مثلا بمثل. وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وابن حزم، وزفر من الحنفية.

ويستثني أصحاب هذا القول – ما عدا ابن حزم – من المنع ما إذا كان الذهب المضموم مع غيره مصنوعا صناعة يتعذر معها فصل كل منهما عن الآخر، أو أن فصلهما يؤدي إلى تخريب الصنعة. فهنا يكون المبيع قيميا فيجوز بيعه بالذهب.

ويسثنون أيضا ما إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره بأن كان المقصود الأعظم غير الجنس الربوي فيجوز البيع، وهو قول الإمام مالك، وأحمد في المشهور عنه، والأصح من مذهب الشافعية، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم. وقال مالك: بأن تكون الحلية قدر الثلث فأقل.

27-

بعد عرض أدلة الفريقين ومناقشتها ترجح عدم جواز بيع السلعة التي معها ذهب مقصود في الشراء – والتي لا يتعذر فصلها – بالذهب، حتى يفصل الذهب عن السلعة، ويباع مثلا بمثل، يدا بيد. أما إذا كان الذهب في السلعة تابعا لغيره، وغير مقصود بالشراء، أو لا يمكن فصله عنها، أو يمكن لكن يسبب إفسادها، فيترجح جواز البيع، دون تحديد نسبة معينة.

28-

يحرم شراء الذهب ليلبسه الرجال، وبطلان عقد البيع في هذه الصورة، سواء نص عليه في العقد، أم كان مقصودا ولم ينص عليه، وحرمة التجارة في هذا النوع من الحلي.

29-

يستثنى من المنع: إذا كان شراؤه للحاجة؛ كاتخاذ سن، أو أنف من ذهب. وتحلية آلات القتال بالذهب كالسيف، ونحوه.

30-

يحرم استعمال أواني الذهب على مذاهب الأئمة الأربعة.

31-

يحرم شراء أواني الذهب عند الحنفية والمالكية، ويتخرج القول بالحرمة على مذهب الحنابلة؛ لقولهم بسد الذرائع، واشتراطهم مشروعية السبب.

32-

جواز ذلك عند الشافعية ما لم ينص في العقد على الاستعمال.

ص: 174

33-

يجوز شراء أواني الذهب إذا كان الشراء للاتخاذ أو الزينة عند الحنفية، وأحد القولين عند المالكية، والصحيح عند الشافعية، وراوية عند الحنابلة. وهو ما رجحه الباحث.

34-

ويتخرج على مذهب الحنابلة حرمة بيع وشراء أواني الذهب والفضة، لأن ما حرم اتخاذه حرم بيعه.

35-

قال الحنفية والمالكية والشافعية في الأصح عندهم يجوز استعمال الآنية المموهة بذهب أو فضة سواء في الأكل، أو الشرب، أو غير ذلك. لكن قيده الحنفية والشافعية بما إذا لم يتجمع منه شيء إذا عرض على النار؛ لقلة المموه به.

والمذهب عند الحنابلة لا يجوز استعمال مموه. وقيل: إن كان لو حك لاجتمع منه شيء حرم وإلا فلا.

36-

يجوز شراء الأواني المموهة بالذهب أو الفضة عند الحنفية والمالكية والشافعية. ويتخرج عدم جواز ذلك عند الحنابلة.

وقد رجح الباحث عدم جواز بيع وشراء الأواني المموهة بالذهب أو الفضة إذ كان لغرض الاستعمال؛ لحديث ((من شرب من إناء ذهب، أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) .

37-

يصح عند الحنفية والمالكية والشافعية شراء التحف أو الثريات، أو مقابض الأبواب ونحوها المموهة بالذهب. وهو ما رجحه الباحث.

ويصح ذلك عند الحنابلة – في غير الآنية – إن تغير لونه، وبحيث لا يحصل منه شيء إذا عرض على النار.

38-

تطبق المصارف والأسواق العالمية تجارة الذهب بالأسعار الحاضرة أو الآجلة.

39-

العمليات الحاضرة: إذا حصل التعاقد بالتلفون يوم الثلاثاء وأكد بالبرقية، أو الفاكس فإنه يكون التسليم والتسلم هو يوم الخميس ويكون تاريخ هذا اليوم هو تاريخ الاستحقاق، ولا تحسب العطل الرسمية. ويقوم كل من الطرفيين بالاتصال بمراسله ويطلب بائع الذهب تحويل الكمية المشتراة من حسابه إلى حساب الطرف الآخر إما في نفس المصرف أو في مصرف آخر. ويطلب المشتري تحويل مبلغ معين من حسابه إلى حساب الطرف الآخر، إما في نفس المصرف أو في مصرف آخر.

40-

في حالة عدم وصول كمية الذهب إلى المشتري أو القيمة إلى حساب البائع يتم الاتصال بالمصرف الآخر لمعرفة سبب التأخير.

ص: 175

41-

عمليات بيع الذهب الحاضرة وبقية عمليات الصرف بالصورة التي ذكرناها، غير جائزة شرعا، والعقود التي تمارس على هذه الصورة هي عقود باطلة؛ لا يعتد بها شرعا.

42-

بين الباحث كيفية تصحيح هذه العملية.

43-

المصارفة بالوديعة المصرفية جائزة عند الحنابلة وراوية عن الإمام مالك. ويتخرج القول بجوازها على مذهب الحنفية والشافعية والرواية الأخرى عند المالكية؛ لأن منعهم الصرف بالوديعة معلل بعدم دخولها في ضمان المودع، أو لعدم حضورها. وهذا غير متحقق في الوديعة المصرفية.

44-

إذا تقدم شخص بريالات سعودية، أو شيكا إلى المصرف وطلب منه أن يحولها إلى القاهرة، ويستلمها هناك جنيهات مصرية هو أو وكيله. فهذه المعاملة جائزة والوصف الفقهي لها أنها إجارة على نقل النقود في حالة استلام ذات العملة، وفي حالة استلام عملة أخرى كالجنيهات المصرية فهي صرف، ثم إجارة. وكل من العقدين مستقل عن الآخر؛ لأن تحويل الريالات إلى جنيهات صرف، ثم نقلها أو التعهد بنقلها إلى القاهرة وأخذ عوض مقابل هذا النقل إجارة على نقل النقود.

45-

كيَّف بعض الباحثين العملية المذكورة بأنها سفتجة، وهذا التكييف لا يصح في نظري؛ لأن السفتجة قرض؛ كما هو رأي جمهور الفقهاء. والجموع التي تقف في المصارف لإرسال النقود إلى ذويهم أو عملائهم ليست مقرضة، ولا يتبادر إليها القرض بأي حال. بل لا يمكن القول: إن الإنسان مقرض من نفسه لنفسه في حالة تحويل مبلغ من حسابه إلى حسابه في بلد آخر.

46-

ولا يصح تكييفها على الحوالة؛ لأن الحوالة نقل الدين من ذمة إلى ذمة، والصورة التي نحن بصددها الأصل فيها أنه ليس هناك دائن ولا مدين. ولأن من أركان الحوالة المحيل والمحتال والمحال عليه، وهذا غير متوفر في كل الحوالات المصرفية المعاصرة؛ لأنه قد يقوم المحيل بالحوالة إلى نفسه، فلم يوجد المحتال ولا المحال عليه في عقد الحوالة الفقهية. ولأنه لا يجوز أخذ الأجرة في عقد الحوالة بينما الحوالات المصرفية يصح أخذ الأجرة عليها.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وأزكى الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

د. صالح بن زابن المرزوقي

ص: 176

أهم مراجع البحث

- الإجارة الواردة على عمل الإنسان؛ للدكتور شرف بن علي الشريف.

- الإجماع؛ لابن المنذر

- أحكام الأوراق النقدية والتجارية؛ للدكتور ستر الجعيد.

- أحكام عقد الصرف؛ رسالة دكتوراه، من جامعة الأزهر؛ إعداد سالم أحمد سلامة.

- الإحكام في أصول الأحكام؛ لابن حزم.

- الإحكام في أصول الأحكام؛ للآمدي.

- أحكام المعاملات المالية؛ للشيخ علي الخفيف.

- إحياء علوم الدين؛ لأبي حامد الغزالي.

- الاختيارات الفقهية؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية.

- أصول السرخسي؛ أبي بكر محمد بن أحمد بن سهل السرخسي.

- إعلام الموقعين؛ لابن القيم.

- إكمال إكمال المعلم؛ (شرح صحيح مسلم) للآبيّ.

- الأم؛ للإمام الشافعي.

- الأموال؛ لأبي عبيد القاسم بن سلام.

- الأموال؛ لابن زنجويه.

- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف؛ للمرداوي.

- البحر المحيط في أصول الفقه؛ للزركشي.

- بدائع الصنائع؛ للكاساني.

- بداية المجتهد؛ لابن رشد.

- البرهان في أصول الفقه؛ للجويني.

ص: 177

- بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب مالك؛ للصاوي.

- البيان والتحصيل؛ لابن رشد.

- تاج العروس؛ للزبيدي.

- التاج والإكليل؛ للمواق.

- تبيين الحقائق؛ للزيلعي.

- تحول المصرف الربوي إلى مصرف إسلامي؛ لسعود بن محمد الربيعة.

- تطوير الأعمال المصرفية؛ للدكتور سامي حمود.

- تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير.

- التلخيص الحبير؛ للحافظ ابن حجر العسقلاني.

- التلويح على التوضيح؛ للتفتازاني.

- التمهيد؛ لابن عبد البر.

- توضيح الأحكام من بلوغ المرام؛ للشيخ عبد الله البسام.

- تيسير التحرير؛ لابن الهمام.

- جامع الأصول؛ لابن الأثير.

- جمع الجموع؛ لابن السبكي.

- حاشية الدسوقي؛ للشيخ عرفة الدسوقي.

- حاشية الرهوني على شرح الزرقاني؛ لمتن خليل؛ لمحمد الرهوني.

- حاشية التفتازاني على شرح العضد؛ لسعد الدين التفتازاني.

- حاشية الطحطاوي على الدر المختار؛ للسيد أحمد الطحطاوي الحنفي.

- حاشية القليوبي؛ لشهاب الدين القليوبي.

- حاشية العدوي؛ للعدوي.

- الحاوي؛ للماوردي، مخطوط.

- حجة الله البالغة؛ لولي الله الدهلوي.

ص: 178

- حلية العلماء؛ للشاشي القفال.

- حواشي تحفة المحتاج؛ للشراوني، والعبادي.

- الدر المختار، للحصكفي.

- الذهب، تأليف مالكولم بر ترجمة أمين سلامة.

- الذهب ودوره في الأنظمة النقدية الدولية؛ إعداد: خورين آكوب جبرائيل، ونهاد النقيب؛ مراجعة حسن النجفي.

- الذخيرة؛ للقرافي.

- الربا والمعاملات المصرفية؛ للدكتور عمر المترك.

- رد المحتار على الدر المختار؛ لابن عابدين.

- الرسالة؛ للإمام محمد بن إدريس الشافعي.

- الروض المربع؛ للبهوتي.

- الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير؛ للسياغي.

- روضة الطالبين؛ للنووي.

- الروضة الندية؛ لصديق حسن خان.

- سبل السلام؛ للصنعاني.

- سنن أبي داود.

- سنن الدارقطني.

- السنن الكبرى؛ للبيهقي.

- سنن النسائي.

- شرائع الإعلام؛ لابن القاسم المحلي.

- شرح تنقيح الفصول؛ للقرافي.

- شرح السنة؛ للبغوي.

- الشرح الصغير؛ للدردير.

- شرح العضد لمختصر المنتهى.

- شرح القواعد الفقهية؛ للشيخ مصطفى الزرقا.

ص: 179

- الشرح الكبير؛ للدردير.

- شرح الكوكب المنير؛ لابن النجار.

- شرح مختصر الروضة؛ للطوفي.

- شرح منتهى الإيردات؛ لابن النجار.

- الصحاح؛ للجوهري.

- صحيح البخاري بشرحه فتح الباري؛ الصحيح للبخاري، والفتح، لابن حجر.

- صحيح مسلم بشرح النووي.

- صحيح الترمذي بشرح ابن العربي. والواقع أن الترمذي لم يلتزم فيه بشرط الصحيح، ففيه الحسن والضعيف.

- شرح العمدة في الفقه؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية.

- عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية؛ للدكتور أحمد محيي الدين.

- الفائق في غريب الحديث؛ للزمخشري.

- فتاوى إسلامية؛ لابن باز، وابن عثيمين، وابن جبرين.

- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.

- فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم.

- الفتاوى الهندية؛ لجماعة من العلماء.

- فتح القدير، للكمال ابن الهمام.

- الفرق بين البيع والربا، للشيخ صالح الفوزان.

- الفروع؛ لابن مفلح.

- الفروق؛ للقرافي.

- الفقه الإسلامي وأدلته؛ للدكتور وهبة الزحيلي.

- القبض الحقيقي والحكمي؛ للدكتور نزيه حماد.

- القبض في العقود المالية في الفقه الحنفي؛ للدكتور محمد زكي عبد البر. مجلة البحوث الفقهية المعاصرة.

- القواعد والأحكام؛ للعز بن عبد السلام

- القواعد والفوائد الأصولية؛ لابن اللحام.

- كتاب الخلاف؛ للطوسي.

ص: 180

- كتاب الذيل على طبقات الحنابلة؛ لابن رجب.

- كتاب مسائل الروايتين والوجهين؛ لأبي يعلى.

- لسان العرب؛ لابن منظور.

- اللباب في شرح الكتاب؛ للميداني.

- المبدع؛ لابن مفلح.

- المبسوط؛ للسرخسي.

- مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي؛ العدد الأول والثاني سنة 1404هـ.

- مجلة الأحكام الشرعية؛ للقاري.

- مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد الواحد والعشرين.

- مجلة جامعة أم القرى؛ العدد السابع.

- مجلة الدعوة

- مجلة مجمع الفقه الإسلامي.

- مجلة القانون والاقتصاد؛ العدد الخامس.

- المجموع؛ وتكملته؛ المجموع للنووي، والتكملة الأولى للسبكي.

- المحرر في الفقه؛ لابن تيمية.

- المحصول؛ للرازي.

- المحلى؛ لابن حزم.

- المدخل الفقهي العام، للزرقا.

- المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي؛ لشلبي.

ص: 181

- المدونة؛ للإمام مالك.

- المستدرك؛ للحاكم.

- المستصفى؛ للغزالي.

- مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر.

- مسند الإمام أحمد، مع الفتح الرباني؛ للساعاتي.

- المسودة، لآل تيمية.

- مصنف عبد الرزاق.

- المعاملات الشرعية المالية، لأحمد إبراهيم بك.

- معالم السنن؛ للخطابي.

- المغرب؛ للمطرزي.

- المقدمات؛ لابن رشد.

- الملخص الفقهي، للفوزان.

- منتقى الأخبار بشرحه، المنتقى لابن تيمية، والنيل، للشوكاني.

- المنتقى؛ للباجي.

- الموسوعة الفقهية، نشر وزارة الأوقاف الكويتية.

- الموافقات؛ للشاطبي.

- مواهب الجليل، للحطاب.

- الموطأ، للإمام مالك.

- المهذب، للشيرازي.

- نهاية المحتاج، للرملي.

- النقد الأجنبي؛ لسيد عيسى.

- الهداية؛ للبابرتي.

ص: 182

تجارة الذهب

الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة

إعداد الشيخ محمد علي التسخيري

والسيد جعفر الحسيني

الجمهورية الإسلامية الإيرانية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.

الموضوع الثالث – تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة:

1-

خصوصية الذهب والفضة واختلافهما عن السلع الأخرى:

لا شك في أن النقود المتعارفة في زمن الشريعة قد تبدلت من الدينار والدرهم الذهبي والفضي إلى النقود الاعتبارية البحتة والأوراق المتعارفة في زماننا هذا والتي لا قيمة ذاتية – تذكر – لها؛ إذ ليست هي سلعة من السلع.

ولكي يتضح لنا علة الثمنية للدينار قديما ومدى اعتبارها في النقدين – الذهب والفضة – بعد انتشار الأوراق النقدية، علينا أن ندرس في تاريخ النقود القديمة في العصور السالفة فنقول.

تاريخ نقود الأمم مختلف الأدوار:

كان التبادل في العصور القديمة على شكل المقايضة، أي مبادلة السلع بعضها ببعض، كما قد يتفق ذلك ولو نادرا في زماننا هذا وخاصة في المجتمعات القروية البسيطة.

وقيل: إنه كان يجعل بعض السلع كالغلات أو الأنعام أو الثياب مقياسا للتبادل وبمنزلة النقد فرارا من مشاكل المقايضة.

قال في المقتطف: كان الناس في العصور السالفة على أقسام:

فمنهم من لا شريعة لهم للتملك فكانوا يضربون في الأرض كيف شاؤوا يصيدون حيوانها ويجتنون ثمارها وهم قبائل كثيرة منتشرة في إفريقية وبعض الجزائر.

وقسم منهم قرروا شريعة التملك فاستقل كل منهم بمال يذب عنه ويسعى في توفيره ولكن لا نقود لهم، فإذا احتاج أحدهم شيئا مما عند الآخر أخذ عوضا عنه شيئا من مقتنياته وهذه المقايضة نوع من البيوع ولعلها أقدم أنواعه ولم تزل جارية في أطراف هذه البلاد وفي جهات كثيرة من آسيا وإفريقية.

ص: 183

وقسم ثالث اعتمدوا على أنواع من المقتنيات مقياسا لأثمان البضائع فقالوا: إن هذه البضاعة تساوي كذا خروفا أو كذا سيفا أو كذا وزنا من الذهب أو الفضة. وقد سبق ذلك ضرب النقود عند أكثر أمم الأرض ولم يزل على قلة في بعض الأطراف.

وقسم رابع اعتمدوا على قطع موزونة من المعادن ضربوها بسكة الدولة حتى لا يدخلها الزيف وجعلوا لها قيمة مطلقة يقومون بها أثمان البضائع وهم كل الشعوب المتمدنة.

ومن الجدير بالذكر أن الباحث عن أصل النقود عليه أن يعود إلى مهد المعارف والصنائع، بلاد الصين العظيمة التي سبقت كل العالم إلى رياض التمدن؛ فقد وجد في هذه البلاد نقود ضربت فيها قبل ميلاد المسيح بنحو ألفين ومئتين وخمسين سنة، ومن هذه النقود ما شكله كالقميص أو كالسكين كأنهم كانوا يبيعون ويشترون بالأقمصة والسكاكين.

ثم لما انتبهوا لإبدالها بقطع من المعدن جعلوا شكل القطع كشكل الأقمصة والسكاكين فصارت السلعة التي تساوي عشرين قميصا تساوي عشرين بوا (الفلس الذي بشكل القميص) والسلعة التي تساوي خمسين سكينا تساوي خمسين تاوا (الفلس الذي بشكل السكين) .

ثم إن هذه النقود لما كانت بطبيعتها عسرة الحمل تفطن الصينيون لسبكها مستديرة فقالوا: إن النقود التي تدور العالم يجب أن تكون مستديرة فضربوها كذلك وسبكوها سبكا فأصبحت هدفا للتزييف حتى أنك ترى في تاريخ نقود الصين المنع الأكيد عن زيف النقود والحث البليغ على إرجاعها إلى ميزانها.

وفي عام (119) قبل الميلاد فرغت خزانة الملك (اوتي) من النقود فأمر وزيره بنشر نقود من جلد الغزال الأبيض تضاهي أوراق البنك المتعارفة في يومنا هذا، ومن هنا نسب بعض الباحثين تأسيس البنك إلى الصينين – فلم تلبث أن أصابها ما يصيب أوراق بعض الدول في هذه الأيام أي انحطت أثمانها كثيرا حتى بيع قرص الأرز بما قيمته ثلاثة آلاف ليرا من هذه الأوراق.

ويتلو أهالي الصين في السبق إلى استعمال نقود الورق منذ أمد بعيد أهالي اليابان، فقد قيل إنه ورد في الجزء التاسع والخمسين من قاموسهم العام المسمى (سن تساي دَن) : إن نقود الورق استعملت في أيام دولة سنغ ودولة يون ولم تف بالغرض لأن الفيران كانت تقرضها والمطر يبللها والاستعمال يبريها.

أما المصريون فقد كانوا يتعاملون بقطع النحاس يزنونها وزنا ولم يتعاملوا بالذهب والفضة إلا قليلا وربما صاغوها حلقات كالخواتيم وتعاملوا بها كذلك، وأول من ضرب النقود في مصر المرزبان ارنيدس اقتداء بداريوس الهخامنشي ملك الفرس.

ص: 184

أما العبرانيون فقد قيل: إن أول من ضرب النقود العبرية (سمعان المكابي) بإذن انطيوخس السابع عام 144 قبل الميلاد.

أما الدارك الوارد اسمه في التوارة فمن النقود الفارسية، وسمي دركا نسبة إلى داريوس الهخامنشي، وعليه صورة الملك راكعا وبيده قوس وسهم (1) .

وقال الدكتور جيمس هنري في كتابه (العصور القديمة) : كان البيع والشراء تجريان مقايضة قبل أن تعرف النقود، وأول أمة عرفت النقود وتعاملت بها اللوذية (بليديا) في نحو سنة 700 قبل الميلاد، وكانت بابل التي سنت أقدم الشرائع تجهل النقد وكان أهلها يثمنون الأشياء بقطع الفضة بأوزان معلومة وكانت الأوقية أول وزن يستعملوه.

وجاء في ص87 من كتاب (النقود العربية) أما ماذي وفارس فقد تعلمتا ضرب النقود من لوذية، وكانت قيمة الذهب فيهما تزيد على قيمة الفضة ثلاثة عشر ضعفا، ولعل فارس تعلمت ضرب النقود من لوذية على إثر تغلبها عليها سنة 546 قبل الميلاد وكانت النقود في أول أمرها تضرب مربعة، ثم جعلوها مستديرة، وكان الايونيون يستعملون المعادن الكريمة وزنا كما فعل البابليون قبلهم، وكانت وحدة الوزن عندهم، المنا البابلي، وكل ستين منا (ليرة) يساوي (وزنة) وقيمة الوزنة من الفضة 5625 فرنك، وقد علم اللوذيون العالم النقود المقطوعة بحجم معين ووزن معين، وطبعها بطابع الملك أو الملكة كفالة لقيمتها؛ وهكذا شاع استعمال النقود المطبوعة في الجزر ويونان وأوربا.

(1) مجلة المقتطف، المجلد الرابع، الجزء الثاني

ص: 185

وقال جودت باشا في تاريخه عند ذكر المسكوكات: قد ثبت بمقتضى التحقيقات التي وقفنا عليها في هذا الباب ونظرا لما حققه أصحاب هذا الفن – ثبت أن اليونانيين هم الذين أحدثوا السكة قبل حوالي ألفين وستمائة سنة، وقبل ذلك كانوا يتبادلون الأموال بالسبائك المصنوعة من الذهب والفضة وما شابهها. وكانوا ينقشون على مسكوكاتهم تارة رسم أصنامهم وطورا رسم الأبنية مثل البروج والقلاع وبيوت الأنعام والجبال والنبات والأشجار وطورا كان الحكام المستقلون يرسمون صورهم على مسكوكاتهم والحكومات الجمهورية كانت ترسم دار حكومتها أو اسم البلدة التي ضرب فيها ومسكوكات الروم كانت على مثل هذا التراث (1) .

وجاء في دائرة المعارف للبستاني (2) نقلا عن مسيولترون أن الدراهم من أيام سولون إلى أيام بيركلس والإسكندر كان يساوي (92) سنتيما أي 92 جزءا من مائة جزء الفرنك، ومن الإسكندر إلى الميلاد 87 سنتيما، وقيل: كان في بادئ الأمر 65 سنتيما وصار (96) ثم هبط بعد زمان الإسكندر إلى (75) .

وذكر اليعقوبي في تاريخه (بأن ملوك بابل هم الذين قيدوا البنيان واتخذوا المدن وعملوا الحصون وشرفوا القصور و.. واستخرجوا المعادن وضربوا الدنانير

) (3) .

والقرآن يصرح بوجود الدراهم ورواجها في عهد يوسف عليه السلام حيث قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] .

وروى الشيخ الصدوق رحمه الله في كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام عن آبائه عن الحسين بن علي عليه السلام قال: كان علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام فقال: يا أمير المؤمنين إني أسألك عن أشياء، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: سل تفقها ولا تسأل تعنتا، فأحدق الناس بأبصارهم فقال: أخبرني عن أول ما خلق الله تعالى؟ فقال عليه السلام: خلق النور

وسأله عن أول ما وضع سكة الدنانير والدراهم فقال: نمرود بن كنعان بعد نوح عليه السلام (4) والظاهر أنه ملك بابل الذي كان معاصرا لإبراهيم الخليل عليه السلام.

(1) ص 274

(2)

دار المعارف للبستاني ج7 ص670

(3)

تاريخ اليعقوبي: 1/95

(4)

عيون أخبار الرضا: 1/246

ص: 186

نقود العرب في الجاهلية:

قال جورج زيدان: (كان العرب قبل الإسلام يتعاملون بنقود كسرى وقيصر وهي الدراهم والدنانير، وكانت الدنانير على الإجمال نقودا ذهبية والدراهم نقودا فضية بما يقابل الجنيه والريال عندنا، وكانوا يعبرون عن الذهب بالعين وعن الفضة بالورق، وكان عندهم أيضا نقود نحاسية منها الحبة والدانق، على أن مرجع هذه النقود إنما هو إلى الوزن لأن المراد بالدينار قطع من الذهب وزنها مثقال عليه نقش الملك أو السلطان الذي ضربه، والمراد بالدرهم وزن الدرهم من الفضة، ويسمونه أيضا الوافي)(1) .

وقال في تاريخ العرب قبل الإسلام: (أما أهل الحجاز فقد تعاملوا بالنقود الرومية والساسانية، وتعاملوا بالدراهم وتعاملوا بالدنانير، وتعاملوا بالدانق، ولعلهم كانوا يتعاملون بنقود أهل اليمن كذلك، وبنقود أهل الحبشة؛ فقد كان أهل مكة خاصة تجارا يتاجرون مع اليمن ويتاجرون مع العراق وبلاد الشام، وتجارتهم هذه تجعلهم يستعملون مختلف النقود خاصة أنهم كانوا في مكان فقير لا يساعد على ضرب النقد فيه، وأغلب اعتماد العرب في الجاهلية، وفي صدر الإسلام قبل ضرب النقود الإسلامية، بالحروف العربية على نقد الذهب المضروب عند الروم وهو الدينار أما النقود المضروبة من الفضة فكان جل اعتماد العرب فيها على نقود الساسانيين)(2) .

أول من أمر بضرب السكة في الإسلام:

قيل: إن أول من أمر بضرب السكة في الإسلام، هو عمر بن الخطاب لمصالح أهل البصرة، فضربها على النقش الكسروي سنة 18 من الهجرة ثم تابعه في ذلك عثمان بن عفان وكذا معاوية بن أبي سفيان في أيام دولته ذاهلين عن تحويل عن نقوشها الكسروية والقيصرية إلى الإسلامية.

قال جودت باشا في تاريخه: (في زمن الرسالة المحمدية صلى الله عليه وسلم لم يقع اعتناء بأمر السكة لكون الملة كانت في ابتداء أمرها ساذجة مع بداوة العرب، فاستمرت النقود المتداولة بين الناس على الحال التي كانت عليها، وفي الأكثر كانت تستعمل المقادير الميزانية.

وبالجملة فإن السكة التي كانت جارية في بلاد العرب هي الدراهم والدنانير التي كانت مسكوكة بسكة ملوك الفرس والمجوس والهند والروم، وفي زمن الخلفاء الأربع وأوائل الدولة الأموية كانت الهمم والأنظار متعلقة بأمر الغزاة والجهاد ولذلك لم يقع اهتمام بضرب السكة (3) .

(1) تاريخ التمدن الإسلامي: 1/97، طبعة مصر سنة 1902م

(2)

تاريخ العرب قبل الإسلام: 8/206 مطبعة المجمع العلمي العراقي 1378هـ

(3)

تاريخ جودت باشا ص276

ص: 187

أول من نقش على النقود بسكة إسلامية:

قال جودت باشا: (إن المسلّم عند أهل العلم أن الذي أحدث ابتداء ضرب السكة العربية هو الحجاج بأمر من عبد الملك حين كان واليا على العراق من قبله "75 و76" ولكن ظهر خلاف هذا عند الكشف الجديد في سنة 1276 وذلك إن رجلا إيرانيا اسمه جواد أتى دار السعادة بسكة فضية عربية ضربت في البصرة سنة 40 من الهجرة، والفقير رأيتها بين المسكوكات القديمة عند صبحي بك أفندي، مكتوب على أحد وجهها بالخط الكوفي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } [الإخلاص1: 4] . وفي دورتها محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وعلى الوجه الآخر"لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وفي دروتها "ضرب هذا الدرهم بالبصرة سنة 40) (1) .

وقال السيد محسن الأمين العاملي: تحت عنوان (أول من أمر بضرب السكة الإسلامية) : (ذكر الفاضل المتتبع الشيخ حيدر قلي خان بن نور محمد خان الكابلي في رسالته "غاية التعديل في الأوزان والمكاييل" وأخبرني به من لفظه بمنزله يوم السبت العشرين من المحرم سنة 1353. وكان يجيد اللغة الإنكليزية قال: رأيت في دائرة المعارف البريطانية ص904 عند الكلام على المسكوكات العربية ما تعريبه ملخصا (إن أول من ضرب السكة الإسلامية هو الخليفة علي بالبصرة سنة 40 من الهجرة الموافقة لسنة 660مسيحية ثم أكمل الأمر بعده عبد الملك الخليفة سنة 76 من الهجرة الموافقة لسنة 695 مسيحية)(2) .

إذن فأول من أحدث السكة الإسلامية وأبطل النقوش الكسراوية والقيصرية هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ولا غرو في أن يكون أول من تفطن لذلك فيمحو آثار الشرك وشعائر المجوسية والنصرانية عن المسكوكات الإسلامية فإنه أعلم الأمة بصلاحها وفسادها وأولى الناس بإقامة الأمت والعوج وسد الثلم وتعظيم شعائر الدين والإسلام ولكنه ضربها على الدراهم الفضية المحتاج إليها وجعل نقشها دائرا مدار الشهادتين – التوحيد ورسالة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وتاريخ ودار الضرب.

ثم ضرب بعد ذلك مصعب بن الزبير بأمر أخيه عبد الله بن الزبير دراهم أكثر نقوشها عربية بالخط الكوفي وعليها شعار الإسلام والتوحيد.

(1) تاريخ جودت باشا ص276

(2)

أعيان الشيعة 3/599 الطبعة الأولى

ص: 188

قال المقريزي: (فلما قام عبد الله بن الزبير بمكة ضرب دراهم مدورة

وضرب أخوه مصعب بن الزبير دراهم بالعراق وجعل كل عشرة منها سبعة مثاقيل وأعطاها الناس في العطاء حتى قدم الحجاج بن يوسف العراق من قبل عبد الملك بن مروان فقال: ما نبقي من سنة الفاسق أو المنافق شيئا، فغيرها) (1) .

وقال الدميري في حياة الحيوان الكبرى: وهو – أي عبد الملك بن مروان - أول من ضرب الدراهم والدنانير بسكة الإسلام وكان على الدنانير نقش بالرومية وعلى الدراهم نقش بالفارسية. قلت: ولهذا السبب. وهو إني رأيت في كتاب [المحاسن والمساوئ](2) للإمام إبراهيم بن محمد البيهقي ما نصه: قال الكسائي: دخلت على الرشيد ذات يوم وهو في إيوانه وبين يديه مالا كثير قد شق عنه البدر شقا وأمر بتفريقه على خدمة الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله، وكان كثيرا ما يحدثه فقال: هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة؟

قلت: يا سيدي هو عبد الملك بن مروان. قال: فما كان السبب في ذلك؟

قلت: لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة، فقال: سأخبرك؛ كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيا على دين ملك الروم وكانت تطرز بالرومية وكان طرازها أبا وابنا وروحا، فلم يزل كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك بن مروان فتنبه له وكان فطنا، فبينما هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم للعربية ففعل ذلك فأنكره وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام أن يكون طراز القراطيس وهي تحمل في الأواني والثياب وهما يعملان بمصر وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد على سعته وكثرة ماله، والبلد يخرج منه هذه القراطيس تدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت بسطر مثبت عليها، فأمر بالكتابة إلى عبد العزيز بن مروان وكان عامله بمصر بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأمر صناع القراطيس أن يطروزها بصورة التوحيد {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا} وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الآفاق جميعا بإبطال أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل.

(1) النقود العربية: ص33

(2)

المحاسن والمساوئ: ص498 – 502 ط لبسبيغ سنة 1902 م

ص: 189

فلما ثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحمل إلى بلاد الروم منها انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم، وترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه واستشاط غيظا فكتب إلى عبد الملك: إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت وإن كنت قد أصبت فقد أخطؤوا فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية، وكانت عظيمة القدر، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أنه لا جواب له ورد الهدية فانصرف بها إلى صاحبه فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها، ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت الهدية وإني أرغب إليك إلى مثل ما رغبت فيه من رد الطراز إلى ما كان عليه أولا، فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية، فكتب إليه ملك الروم كتابا يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تستعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لأمرن بنقش الدنانير والدراهم فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها شتم نبيك، فإذا قرأته ارفضّ جبينك عرقا، فأحب أن تقبل هديتي وترد الطراز إلى ما كان عليه ويكون فعل ذلك هدية تودني بها ونبقى على الحال الأول بيني وبينك، فلما قرأ عبد الملك الكتاب صعب عليه الأمر وغلظ وضاقت به الأرض وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من شتم هذا الكافر ما يبقى عبر الدهر ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب إذا كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأيا يعمل به، فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، فقال: ويحك من؟

ص: 190

فقال: عليك بالباقر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدقت ولكنه أرتج عَلَيَّ الرأي فيه، فكتب إلى عامله بالمدينة أن أشخص إلى محمد بن علي بن الحسين مكرما، ومتعه بمئة ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته وأرح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه وحبس الرسول قبله إلى موافاة محمد بن علي، فلما وافاه أخبره الخبر، فقال له محمد رحمه الله تعالى: لا يعظم هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما إن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخرى وجوب الحيلة فيه. قال: وما هي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصناع فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها صورة التوحيد وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني. وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عددا من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعا أحدا وعشرين مثقالا فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبع مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسراوية التي يقال لها اليوم البغلية، لأن رأس البغل ضربها لعمر رضي الله عنه بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليه صورة الملك، وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية نوش خور: أي كل هنيئا، وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالا، والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل، والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السمرية الخفاف والثقال ونقشها نقش فارس.

ففعل ذلك عبد الملك، وأمره محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية، ففعل عبد الملك ذلك ورد رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك ويقول: إن الله عز وجل مانعك مما قد أردت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وبكذا وبإبطال السكك والطروز الرومية، فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب، فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادرا عليه والمال وغيره برسوم الروم فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وامتنع من الذي قال، وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه إلى اليوم، ثم رمى يعني الرشيد إلى بعض الخدم (1) .

(1) حياة الحيوان للدميري: 1/ 92- 90

ص: 191

2-

علة الثمنية الثابتة للدينار قديما ومدى اعتبارها في النقدين، الذهب والفضة، بعد انتشار الأوراق النقدية:

السؤال الذي يطرح نفسه بادئ الأمر بالنسبة لنقود اليوم هو أن الأوراق الاعتبارية هل تلحق – في باب الصرف – بالنقدين، الذهب والفضة أولا؟ وذلك من ناحتين.

أ- بلحاظ حرمة التفاضل.

ب- بلحاظ اشتراط القبض.

أما بالنسبة إلى حرمة التفاضل: فقد تعارف القول بحرمة أخذ الزيادة حتى في هذه الأوراق المالية المتعارفة اليوم، فلو اقترض أحد ألف دينار ملتزما بإرجاع ألف ومئتين مثلا بعد سنة كان ذلك ربا.

ولكن يمكن أن يقال فيما إذا لم تكن الزيادة أكثر من زيادة التضخم في الأسعار بجواز أخذ الزيادة وذلك بيان أن هذه الأوراق التي تعتبر مثلية فلا تلحظ في مثليتها شكل الورق مثلا بل تلحظ في مثليتها قوتها الشرائية، فإذا كان الألف والمئتان بعد سنة يساوي الألف لما قبل سنة في القوة الشرائية أو كان أقل من ذلك فلا زيادة في المقام وليس هناك ربا (1) .

وقبل الخوض في صميم الموضوع لا بد من التأمل في أنه هل يصح قياس الأوراق المالية المتداولة اليوم بالشيكات والسندات بدعوى أنها تحكي عن أرصدتها لدى الدولة أو لدى مصدرها وليست لها مالية مستقلة، أو لا يصح ذلك؟

وتوضيح ذلك: أن النقود والأوراق المالية – كما ألمحنا إلى مجمل تاريخها – مرت بأدوار:

الدور الأول: دور نيابتها عن أرصدتها من ذهب أو فضة محتفظ بها في خزانة مصدر الأوراق، تكون هي في الحقيقة ملكا لأصحاب الأوراق وليست هذه الأوراق إلا حاكية عن تلك الأرصدة.

وفي هذا الفرض لا ينبغي الإشكال في حرمة أخذ الزيادة لأنه ربا وقد {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] .

الدور الثاني: ما بدأ بعد أن أحس المصدرون للأوراق بأنهم غير مضطرين إلى الاحتفاظ بعين الأرصدة بمقدار الأوراق المصدرة، لأن أصحاب الأوراق سوف لن يطالبهم جميعا في وقت واحد بتسليم الرصيد فتبدل الاحتفاظ بالأرصدة إلى التعهد بدفع الرصيد لمن جاء بالورق إلى مصدر الأوراق.

(1) راجع الحلقة السادسة من سلسلة: الإسلام يقود الحياة، للشهيد الصدر رحمه الله ص109

ص: 192

ويمكن تفسير هذه التعهد بنحوين:

الأول: أن الجهة المصدرة تعتبر نفسها مدينة لصاحب الورق بمقدار رصيده ومعناه أن الورق أصبح أيضا شيكا وسندا لكنه لا يحكي عن رصيد خارجي كما هو الحال في الدور السابق بل يحكي عن رصيد الذمة.

وحينئذ يمكن أن يقال بأنه لا مانع من أخذ الزيادة لأنه من قبيل بيع الدين بأقل منه.

الثاني: إن الجهة المصدرة لا تأخذ على ذمتها، وإنما تتعهد تعهدا مستقلا عن ترجمة الورق لرصيد بأن من أتى له بشيء من هذه الأوراق قدم له من الرصيد بقدره وهذا التعهد يمنح للورق اعتبارا وقيمة لدى الناس باعتبار ثقتهم بالجهة المتعهدة.

وهذه يعني أن الورق إذا لم يصبح شيكا وسندا بل أصبح أمرا ذا مالية، وتعهد الجهة المصدرة لدفع الرصيد وهو حيثية تعليلية لاعتبار المالية اجتماعيا لهذا الورق.

وقد رجح الشهيد الصدر رحمه الله هذا التفسير وأيد ذلك بأن استهلاك السند أو سقوطه عن الاعتبار لا يعني تلاشي الدين، في حين أن أي شخص تتلاشى لديه الورقة النقدية أو يسقط الحكومة اعتبارها ولا يسارع إلى استبدالها بالنقود الجديدة لا تعتبر الجهة المصدرة نفسها مسؤولة أمامه عن دفع قيمة الورقة المتلاشية أو التي سقط اعتبارها وتماهل في استبدالها، فكأن هناك تعهدا بدفع القيمة ذهبا لمن يملك الورقة لا أن الورقة تعطى لمن يملك قيمتها ذهبا في ذمة الجهة المصدرة ولهذا يميزها القانون عن سائر الأوراق التجارية من شيكات وكمبيالات حيث يمنحها صفة النقد والإلزام بالوفاء بها، دون الأوراق الأخرى التي لا تخرج عن كونها سندات (1) .

وعلى هذا الأساس تكون الزيادة محرمة لكونها من مصاديق الربا المحرم، وكذلك لو قلنا بأن الأوراق المالية الرائجة في العالم تعتبر هي الأموال ولا تعتبر حاكية عما في الذمم وذلك بدعوى التعدي العرفي من مورد النص وهو – الذهب والفضة – إلى كل ما أصبح نقدا رائجا لأن العرف يفهم أن حرمة الزيادة في الذهب والفضة لم يكن لخصوصية فيهما بل لكونهما نقدين رائجين.

والتحقيق أن يقال: إن إشكال التفاضل في الصرف يمكن أن ينشأ من أحد وجهين الأول منهما شامل للنقد والنسيئة والثاني منهما يختص بفرض النسيئة.

(1) البنك اللاربوي: ص151، طبعة دار التعارف، بيروت

ص: 193

أما الوجه الأول: فهو التعدي من باب الصرف الوارد في الذهب والفضة إلى الأوراق الاعتبارية، بدعوى أن العرف يلغي خصوصية الذهب والفضة ويفهم أن المقياس في حرمة التفاضل كونه نقدا رائجا فما يحرم التفاضل في تبديل الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة كذلك يحرم ذلك في هذه الأوراق، لأن إشكال التفاضل يختص بالجنس الواحد ووحدة الجنس أمر عرفي فلا يقصد به في المقام كونه ورقا أو كونه نحاسا مثلا أو أي شيء آخر، بل يقصد به: أن يطلق عليه كلمة واحدة فالريال مثلا كله جنس واحد، سواء صنع من الأوراق أو من غير الأوراق، فهل يجوز التفاضل في صرفه بالريال أم لا؟ ومع وحدة الجنس فمن الطبيعي عدم الجواز.

ولكن يمكن المناقشة فيه بعدم إمكان الجزم بأن المقياس في حرمة التفاضل هو كونه نقدا رائجا بل الحكم ثابت في ذات الذهب والفضة وإن لم يكن نقدا رائجا وكذلك في كل مكيل أو موزون.

ومما يشهد لكون الحكم تعبديا محضا ولم يكن بنكتة عقلانية اقتصادية ثابتة في الأوراق أيضا – حرمة التفاضل حتى مع فرض الاختلاف في الجودة والرداءة، وذلك لأن تلك النكتة العقلانية لو كانت هي المؤثرة في الحرمة – أعني ثبوت الربح بلا مقابل – فهي منتفية فيما إذا كانت الزيادة في القسم الرديء في مقابل القسم الجيد.

نعم إذا فرضنا أن تلك النكتة حكمة لتحريم التفاضل على الإطلاق، وإن كانت قد تتخلف في بعض الموارد، فيمكن الحكم بحرمة التفاضل في الأوراق، ويؤيد ذلك تعليل التحريم في بعض الروايات بتلك النكتة.

روى الشيخ الصدوق رحمه الله في كتاب "علل الشرائع" بسنده عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في حديث: "

وعلة التحريم الربا، لما نهى الله عز وجل عنه، ولما فيه من فساد الأموال، لأن الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهما وثمن الآخر باطلا فبيع الربا وشراؤه وكس على كل حال، على المشتري وعلى البائع، فحرم الله عز وجل على العباد الربا لعلة فساد الأموال كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من فساده حتى يؤنس منه رشد، فلهذه العلة حرم الله عز وجل الربا وبيع الدرهم بالدرهمين (1) .

(1) علل الشرائع: ص483

ص: 194

أما الوجه الثاني: فهو يختص بفرض النسيئة وما إذا كان ما فيه الزيادة مؤجلا.

ومن الواضح أن إطلاق الربا يشمل ذلك إذ لا يحتمل أن مجرد الفرق في التكيف يجعل قرضا أو بيعا يكون له دخل في صدق عنوان الربا وعدمه، لأن هذه المعاملة لا تختلف في روحها عن القرض بل حتى لو سلمنا عدم الإطلاق اللفظي فلا نشك في التعدي العرفي إذ مجرد تحويل صيغة القرض إلى صيغة البيع المؤجل لا يحل مشكلة الربا، وإلا لأمكن الحكم بعدم حرمة الربا مطلقا لإمكان إرجاع كل قرض إلى البيع المؤجل.

وأما إذا كانت المبادلة بين سنخين من الأوراق أي فيما بين عملتين نقدا كالريال والدولار فلا إشكال في الجواز مهما فرضت الزيادة في أحد الطرفين.

نعم لو كان أحدهما مؤجلا ففيه إشكال لما سنبينه من اشتراط القبض في بيع الصرف.

هذا كله بالنسبة إلى حرمة التفاضل.

وأما بالنسبة إلى اشتراط القبض: بفناء على شرط القبض في مبادلة الذهب بالفضة كما ورد التصريح به في عدة روايات (1) فهل نتعدى من ذلك إلى الأوراق الاعتبارية إذا كانت من سنخين أي إذا كانت المبادلة بين عملتين كالريال والدولار أو لا؟

فلو قلنا بأن شرط القبض حكم تعبدي بحت، لا نعرف ملاكه، ولا يستبعد العرف الفرق وخاصة أن الحكم لم يكن مخصوصا بالمسكوكين حتى يحمل على مطلق النقد الرائج، فيشكل الحكم بالتعدي واشتراط القبض حتى في الأوراق الاعتبارية.

وأما لو قلنا بأن للذهب والفضة حظا من النقدية والثمنية ولو لم يكونا مسكوكين وأن الحكم بوجوب القبض كان بهذا اللحاظ، وخاصة أن اختلاف الأسعار مما يسبب الغرر لو لم يحصل التقابض إذن فلا إشكال في الحكم بالتعدي واشتراط القبض في مبادلة الأوراق النقدية حسما لمادة النزاع.

(1) الوسائل: 12/485 – 461 الباب 2 من الصرف

ص: 195

3-

المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر:

لا شك في ثبوت الربا في مبادلة مقدار من الذهب بمقدار أقل منه بلا انضمام شيء إليه، وأما لو بيع مقدار من الذهب كالدينار الواحد بمقدار أقل منه كنصف دينار مضموما إليه جنس آخر فهل هو من الربا المحرم أم لا؟

ولا بد من تحرير محل النزاع فنقول: يمكن إيقاع هذه المبادلة الخاصة بأحد نحوين:

الأول: أن يكون هناك عقدان مستقلان:

العقد الأول: يتضمن بيع نصف دينار من الذهب بمثله.

والعقد الثاني: يتضمن بيع نصف دينار من الذهب بثوب مثلا، وهذا النحو من المبادلة من مصاديق البيع المحلل ولا تلحقه أحكام الربا جزما ولا بحث فيه.

الثاني: أن لا يكون هناك أكثر من عقد واحد كما لو باع دينار من الذهب بنصف دينار من الذهب وثوب فهل يحكم بالحرمة والفساد أم بالصحة والجواز؟ هناك قولان:

القول الأول: ما ذهب الفقهاء من القول بالحرمة والفساد لاشتراط عدم التفاضل في مبادلة المتجانسين:

منهم الإمام الشافعي في كتاب الأم قال: وإذا صرف الرجل من الرجل الدينار فوزن له عشرة ونصفا فلا بأس أن يعطيه مكان النصف نصف فضة إذا كان في بيعه غير الشرط الأول، وهكذا لو باعه ثوبا بنصف دينار فأعطاه دينارا وأعطاه صاحب الثوب نصف دينار ذهبا لم يكون به بأسا لأن هذا بيع حادث غير البيع الأول، ولو كان عقد عقد البيع على ثوب ونصف دينار بدينار كان فاسدا لأن الدينار مقسوم على نصف دينار والثوب (1) .

(1) كتاب الأم: 3/32

ص: 196

ومنهم ابن قدامة في المغني قال: والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين وهو أن يظهر عقدا مباحا يريد به محرما مخادعة وتوسلا إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك. قال أيوب السختياني: إنهم ليخادعون الله كأنما يخادعون صبيا، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل، فمن ذلك ما لو كان مع رجل عشرة دراهم ومع الآخر خمسة عشرة مكسرة فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه ثم تباريا توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلا (إلى أن قال) أو اشترى منه بعشرة إلا حبة من الصحيح مثلها من المكسرة ثم اشترى منه بالحبة الباقية ثوبا قيمته خمسة دنانير وهكذا – إلى أن قال – فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم وبهذا قال مالك (1) .

ومنهم الإمام مالك والليث، قال ابن رشد: وأما اختلافهم إذا نقصت المراطلة فأراد أحدهما أن يزيد شيئا آخر مما فيه الربا أو مما لا ربا فيه فقريب من هذا الاختلاف مثل أن يراطل أحدهما صاحبه ذهبا بذهب فينقص أحد الذهبين عن الآخر فيريد الذي نقص ذهبه أن يعطي عوض الناقص دراهم أو عَرَضًا فقال مالك والشافعي والليث: إن ذلك لا يجوز والمراطلة فاسدة. وعمدة مالك التهمة فيه أن يقصد بذلك بيع الذهب بالذهب متفاضلا (2) .

القول الثاني: ما ذهب إليه أكثر الفقهاء من القول بالجواز والصحة وهو المختار.

قال ابن رشد – بعد ذكر المسألة -: وأجاز ذلك كله أبو حنيفة والكوفيين، وعمدة الحنفية تقدير وجود المماثلة من الذهبين وبقاء الفضل في مقابل العرض (3) .

وقال ابن قدامة في المغني – بعد طرح المسألة-: وقال أبو حنيفة والشافعي: ذلك كله وأشباهه جائز إذا لم يكن مشروطا في العقد وقال بعض أصحاب الشافعي: يكره أن يدخلا في البيع على ذلك (4) .

(1) المغني والشرح الكبير: 4/179

(2)

بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 2/199

(3)

البداية والنهاية 2/200

(4)

المغني والشرح الكبير: 4/179

ص: 197

أما فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام فقد قالوا بالجواز منهم:

1-

شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله (1) قال في كتاب (الخلاف) ما لفظه: يجوز بيع مد من تمر ومد من شعير ودرهم بمدي شعير وهكذا إذا كان بدل الدرهم في هذه المسائل ثوب أو خشبة أو غير ذلك مما فيه الربا أو مما لا ربا فيه، وهكذا يجوز بيع درهم وثوب بدرهمين وبيع دينار وثوب بدينارين، وبيع دينار قاساني ودينار إبريزي بدينارين نيسابوريين، وجملته أنه يجوز بيع ما يجري فيه الربا بجنسه ومع أحدهما غيره مما فيه ربا أو لا ربا فيه، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي إن جميع ذلك لا يجوز. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم التي ذكرناها وقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وقال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] وهذه الأشياء كلها بيع وتجارة فيجب أن يكون مباحا لعموم الآيتين، والتخصيص يحتاج إلى دليل (2) .

2-

وقال العلامة الحلي رحمه الله في القواعد: ولو اشتمل أحد العوضين على جنسين ربويين صح بيعهما بأحدهما مع الزيادة كمد تمر ودرهم بمدين أو بدرهمين، أو بمدين ودرهمين (3) .

3-

وقال السيد محمد جواد الحسيني العاملي في كتاب (مفتاح الكرامة) عند شرحه لكلام العلامة الحلي رحمه الله ما لفظه:

(وقد نص على جواز ذلك في المبسوط والخلاف والغنية والسرائر والشرائع والنافع والتحرير والتذكرة والارشاد ونهاية الأحكام وكنز الفوائد والإيضاح والدروس واللمعة وحواشي الشهيد وكفاية الطالبين وجامع المقاصد وحاشية الإرشاد والميسية والروضة والمسالك ومجمع البرهان والكفاية والمفاتيح، وقد حكى الإجماع في الخلاف والغنية والتذكرة وجامع المقاصد وحاشية الإرشاد والمسالك وظاهر نهاية الأحكام والإيضاح وكنز الفوائد مضافا إلى الأصل والعمومات واختصاص أدلة التحريم – بحكم التبادر- والسياق – بغير مفروض المسألة، ومع ذلك الأخبار مستفيضة وفيها الصحيح وقد ذكر ذلك جماعة منهم فيما يتخلص به من الربا إذا بيع أحد المتجانسين بالآخر متفاضلا، قالوا: ويصرف كل إلى مخالفه وإن لم يقصد)(4) .

(1) محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله من كبار علماء الإمامية في القرن الرابع، له مؤلفات عديدة في التفسير والحديث والرجال والفقه والأصول وغيرها

(2)

كتاب الخلاف: 2/61

(3)

قواعد الأحكام، كتاب الربا:141 طبعة حجرية

(4)

مفاتح الكرامة في شرح قواعد العلامة: 4/521

ص: 198

ما هو المحقق للربا في مبادلة المثلين؟

بعد الفراغ عن بيان آراء الفقهاء لا بد من البحث فيما هو المحقق للربا في مبادلة الذهب بالذهب فنقول: قال ابن رشد: المسألة الأولى: أجمع العلماء على أن بيع الذهب بالذهب والفضة لا يجوز إلا مثلا بمثل يدا بيد – إلى أن قال – وأما الجمهور فصاروا إلى ما رواه مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض)) (1) .

وروى الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام قال: الفضة بالفضة مثلا بمثل والذهب بالذهب مثلا بمثل ليس فيه زيادة ولا نقصان الزائد والمستزيد في النار (2) .

وقال الوليد بن صبيح سمعت أبا عبد الله يقول: الذهب بالذهب والفضة بالفضة الفضل بينهما هو الربا المنكر (3) .

إلى غير ذلك من النصوص الصريحة في حرمة الزيادة في مبادلة الذهب بالذهب والفضة بالفضة وعدم جواز زيادة أحدهما على الآخر، بل لا بد من أن يكونا مثلا بمثل ووزنا بوزن. ومع زيادة أحدهما على الآخر فهو الربا المحرم المجمع على حرمته وفساده.

وأما إذا كانت المبادلة فيما بين مقدار من الذهب كالدينار ومقدار أقل منه كنصف دينار مع ضم جنس آخر – كثوب مثلا – إليه فليست من مصاديق مبادلة الجنسين المتماثلين إذ المفروض كون المثمن ذهبا وثوبا معه، فهو خارج عن معقد الإجماع والنصوص المبنية لموضوع الربا لعدم كون الثمن والمثمن كليهما ذهبا محضا معه فلم يتحقق التفاضل في الجنس الواحد، إذ المبادلة وقعت فيما بين مجموع الثمن وهو الدينار ومجموع المثمن وهو نصف دينار وثوب، ولا يلاحظ كل جزء من الثمن في مقابل كل جزء من المثمن – لا لغة ولا عرفا ولا شرعا – بل الملحوظ كل الثمن في قبال كل المثمن.

وبتعبير آخر: أنا حتى لو فرضنا كون الملحوظ للمتعاملين كل جزء من الثمن في قبال كل جزء من المثمن فمع ذلك ليست هذه المبادلة من مصاديق مبادلة الذهب بالذهب مع التفاضل، وذلك لأن النصف من الدينار في الثمن يلاحظ مع النصف من الدينار في المثمن، والنصف الآخر من الدينار يلاحظ في قبال الثوب، ومعه فلا يلزم الربا وتشمله أدلة حلية البيع والتجارة عن تراض.

(1) البداية والنهاية: 2/195

(2)

وسائل الشيعة: كتاب التجارة – الباب 9 من أبواب الصرف الحديث1

(3)

وسائل الشيعة: كتاب التجارة – الباب 9 من أبواب الصرف الحديث

ص: 199

قال الشيخ حسن النجفي في موسوعته الفقهية (جواهر الكلام) ما لفظه: (لا خلاف بيننا أيضا في أنه يجوز بيع درهم ودينار بدينارين وبدرهمين ويكون في الصحة بمنزلة أن يصرف كل واحد منهما إلى غير جنسه وإن لم يقصدا ذلك، وكذا لو جعل بدل الدينار أو الدرهم شيء من المتاع وكذا مد من تمر ودرهم بمدين أو أمداد ودرهمين أو دراهم، إذ هو وإن لم يكن في كل منهما جنس يخالف الآخر إلا أن الزيادة تكون في مقابل الجنس المخالف في أحدهما فهو في الصحة حينئذ كذي جنسين ولا خلاف بيننا في الجميع بل الإجماع بقسميه عليه بل المحكي منه مستفيض جدا إن لم يكن متواترا، مضافا إلى الأصل والعمومات واختصاص أدلة التحريم بحكم التبادر والسياق بغير مفروض المسألة)(1) .

مناقشة أدلة القائلين بالحرمة:

أما دليل الإمام الشافعي على الحرمة الذي تقدم نقله عنه (بأن الدينار مقسوم على نصف الدينار والثوب)(2) .

ففيه:

أن المبادلة فيما بين مجموع الثمن وهو الدينار ومجموع المثمن وهو الثوب ونصف دينار ولا يلاحظ كل جزء من الثمن في قبال كل جزء من المثمن ليقال (إن الدينار مقسوم على نصف الدينار والثوب) إذ لو قلنا بذلك فمعناه انحلال العقد الواحد إلى عقدين، فكأنه باع في عقد واحد نصف دينار بنصف دينار وفي عقد آخر مستقل باع ثوبا بنصف دينار ولا إشكال في صحة كلا العقدين، ولم يقل أحد بالبطلان وقد اعترف الشافعي نفسه أيضا بالصحة والجواز.

وأما ما ذكره ابن قدامة من احتساب هذه المبادلة من الحيل المحرمة.

ففيه:

ما تقدم من عدم صدق التفاضل في الجنس الواحد وخروج هذه المبادلة عن موضوع الربا وثبوت كونها بيعا حلالا وتجارة عن تراض.

وبهذا يجاب عن مقالة مالك والليث إذ لا تهمة في قصد بيع الذهب بالذهب متفاضلا إذا كان في قبال الذهب الزائد شيء من العروض. والمنهي عنه وجود الزيادة في أحد الطرفين من دون عوض.

(1) جواهر الكلام: 23/390

(2)

الأم: 3/32

ص: 200

ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام:

1-

روى الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام [جعفر بن محمد الصادق] قال: لا بأس بألف درهم ودرهم بألف درهم ودينارين إذا دخل فيها ديناران أو أقل أو أكثر فلا بأس به (1) .

2-

روى عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألته عليه السلام [جعفر بن محمد الصادق] عن رجل يأتي بالدراهم إلى الصيرفي فيقول له: آخذ منك المئة بمئة وعشرين أو بمئة وخمس حتى يراوضه على الذي يريد، فإذا فرغ جعل مكان الدراهم الزيادة دينارا أو ذهبا، ثم قال له: قد زاودتك البيع وإنما أبايعك على هذا لأن الأول لا يصلح، أو لم يقل ذلك وجعل ذهبا مكان الدراهم فقال: إذا كان آخر البيع على الحلال فلا بأس بذلك (2) .

3-

وفي رواية أخرى

فقلت له: أشتري ألف درهم ودينارا بألفي درهم؟ فقال: لا بأس بذلك (3) .

إلى غير ذلك من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام الصريحة في حلية هذه المبادلة وعدم كونها من مصاديق الربا المحرم.

4-

بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولا (أي فيه صنعة وصياغة) - رأي ابن القيم:

يمكن طرح المسألة بأحد نحوين:

الأول: أنه هل يجوز بيع الذهب المصنوع أو المصوغ كالخاتم مثلا بالذهب غير المصوغ مثلا بمثل أم لا؟

الثاني: هل يجوز بيع الذهب المصوغ بالذهب غير المصوغ بزيادة أم لا؟

أما القسم الأول فلا ريب في صحته شرعا لعدم وجود التفاضل حتى تأتي شبهة الربا في مبادلة المثلين.

وأما القسم الثاني: وهو بيع الذهب المصوغ بالذهب غير المصوغ بزيادة فقد ذهب ابن القيم إلى الجواز واستدل على ذلك: بأن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع (إلى أن قال) فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة؟ وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلا ورحمة وجلالا بإباحة هذا وتحريم ذلك؟ وهل هذا إلا عكس للمعقول والنظر والمصلحة؟ فإن قيل: الصفات لا تقابل بالزيادة ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الردية وبيع الثمر الجيد بأزيد منه من الردي، ولما أبطل الشارع ذلك علم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة.

(1) وسائل الشيعة: كتاب التجارة الباب6 من أبواب الصرف، الحديث 4

(2)

وسائل الشيعة: كتاب التجارة الباب 6 من أبواب الصرف، الحديث3

(3)

وسائل الشيعة: كتاب التجارة الباب 6 من أبواب الصرف، الحديث 1

ص: 201

قيل: الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي وتقابل بالأثمان ويستحق عليها الأجرة، وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعته فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة إذ إن ذلك يفضي إلى نقضه ما شرعه من المنع من التفاضل

(1) .

والمناقشة في كلامه واضحة بعد تصريحه بأن الصفة لا تقابل بالزيادة وأن تجويز ذلك يفضي إلى نقض ما شرعه الله من المنع في التفاضل. فبعد اعترافه هذا كيف يجوز تقابل صفة الصياغة والصناعة بالزيادة.

ومجرد كونه صفة مخلوقة لله تعالى وصفة أخرى مخلوقة للبشر لا يكون فارقا بالنسبة إلى تحقق الربا في مقابلة الصفات بالزيادة، ولازم ذلك تجويز مبادلة طن من الحنطة الجيدة بطنين من الحنطة الرديئة فيما إذا كانت صفة الجودة بصنع البشر من إصلاح البذر والسقي المناسب ورفع الآفات ونحو ذلك، ولم يقل به أحد.

وأما استدلاله بلزوم العسر والحرج، ففيه: أنه لو كانت المبادلة فيما بين الذهب المصوغ وغيره منحصرا بالذهب لكان يلزم منه الحرج ولم يتصد أي أحد لهذه الصناعة التي لا يجوز له أن يأخذ شيئا زيادة على ذهبه.

وأما مع عدم انحصار المبادلة بالذهب وجوازه بالفضة مضافا إليه جواز إعطاء الذهب للصائغ ودفع الأجرة بإزاء عمله من نفس الذهب أو شيء آخر من العروض، ومعه فلا يلزم الحرج ولم يترك الصواغ عمله، كما هو المشاهد من صدر الإسلام إلى يومنا هذا، وخاصة بعد تعارف المبادلة فيما بين السلع والنقود الشائعة، فالإشكال مرتفع من أصله.

ومما يؤكد المطلب ما أخرجه البيهقي في سننه عن مجاهد أنه قال: كنت أطوف مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله بن عمر عن ذلك فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله بن عمر ينهاه حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابته يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا وعهدنا إليكم (2) .

وقال النووي: قال الشيخ أبو حامد: قال الأوزاعي: كان أهل الشام يجوزون ذلك فنهاهم عمر بن عبد العزيز.

5-

المتاجرة في الأواني أو الحلي والساعات الذهبية المصنوعة للرجال، ويقع البحث في مقامين:

الأول: في حرمة استعمال أواني الذهب والفضة والساعات الذهبية المصنوعة للرجال، وحكم اقتنائها من دون استعمال.

الثاني: في جواز المتاجرة في الأواني والساعات الذهبية المصنوعة للرجال وعدمه.

(1) إعلام الموقعين 2/1-3

(2)

سنن البيهقي:5/477، ط: بيروت – دار الكتاب العلمية

ص: 202

أما المقام الأول:

فقال ابن قدامة في المغني: ويحرم اتخاذ آنية الذهب والفضة. وحكى عن الشافعي أن ذلك لا يحرم؛ لأن الخبر إنما ورد بتحريم الاستعمال فلا يحرم الاتخاذ، كما لو اتخذ الرجل ثياب الحرير، ولنا أن ما حرم استعماله مطلقا حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالطنبور، وأما ثياب الحرير فإنها لا تحرم مطلقا. فإنها تباح للنساء وتباح للتجارة فيها، ويحرم استعمال الآنية مطلقا في الشرب والأكل وغيرهما، لأن النص ورد بتحريم الشرب والأكل وغيرهما مما في معناهما، ويحرم ذلك على الرجال والنساء بعموم النص فيهما ووجود معنى التحريم في حقهما (1) .

وقال الشيخ محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله في (الخلاف) : أواني الذهب والفضة محرم اتخاذها واستعمالها غير أنه لا تجب فيها الزكاة، وقال الشافعي: حرام استعمالها قولا واحدا، وفي اتخاذها قولان: أحدهما محظور والآخر مباح، وعلى كل حال تجب فيه الزكاة- ودليلنا: ما قدمناه من أن المصاغ لا تجب فيه الزكاة، وإنما تجب في الدراهم والدنانير، وأما الدليل على حظر استعمالها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) أنه نهى عن استعمال آنية الذهب والفضة وقال: ((من شرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) (3) .

وقال المحقق في (شرائع الإسلام) : ولا يجوز الأكل والشرب في آنية من ذهب أو فضة ولا استعمالها في غير ذلك، ويكره المفضض، وقيل: يجب اجتناب موضع الفضة. وفي جواز اتخاذها لغير الاستعمال تردد والأظهر المنع (4) .

أدلة القائلين بحرمة اقتناء أواني الذهب والفضة:

أ - النصوص الشرعية:

1-

ما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم له قال: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)) (5) .

قال العلامة في (المنتهى) : دل بمفهومه على تحريم الاتخاذ مطلقا.

(1) المغني والشرح الكبير: 1/64

(2)

صحيح البخاري: 7/146. وصحيح مسلم: 3/1634

(3)

الخلاف: 2/90 كتاب الزكاة، المسألة:104

(4)

شرائع الإسلام: 1/47

(5)

صحيح البخاري: 6/207 كتاب الأطعمة باب الأكل

ص: 203

2-

ما رواه محمد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: (أنه نهى عن آنية الذهب والفضة)(1) .

بتقريب أن النهي تعلق بآنية الذهب والفضة ولم يذكر متعلق النهي، وقد ثبت في محله أن حذف المتعلق يفيد العموم. إذن فكل ما يرتبط بهذه الأواني من الأكل والشرب والاتخاذ وغير ذلك حرام للنهي عنه.

4-

ما رواه موسى بن بكير عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: ((آنية الذهب متاع الذين لا يوقنون)) (2) .

وحيث إن اقتناء الأواني داخل في المتاع فيكون حراما؛ لأنه متاع الذين لا يوقنون.

والجواب:

أما قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)) فظاهرة حرمة الاستعمال لا الاتخاذ، فإن الكفار يتمتعون بها في الدنيا والمسلمون المتقون يتمتعون بها في الآخرة ولا دلالة فيه على حرمة الاتخاذ.

وأما النهي الوارد في صحيح محمد بن مسلم المتعلق بنفس الآنية، فإنه منصرف إلى ما هو الظاهر مه عرفا – أعني الاستعمال – ألا ترى أن تحريم الأمهات أو الدم أو الميتة منصرف إلى ما هو متعارف، وما هو المحرم نكاح الأمهات وشرب الدم وأكل الميتة.

وأما دعوى اندراج الاتخاذ في لفظة "المتاع" في رواية موسى بن بكير فغير وجيه؛ وذلك لأن "المتاع" اسم لما يتمتع به، والتمتع بالشيء عبارة عن استعماله ولو في بعض الأحيان، ومجرد الاقتناء، ووضع الشيء على الرف لا يعد استعمالا لا عرفا ولا عقلا ولا شرعا.

(1) الوسائل:2/1083 كتاب الطهارة الباب 65 من أبواب النجاسات- الحديث 3و4

(2)

الوسائل 2/1083 كتاب الطهارة الباب 65 من أبواب النجاسات

ص: 204

ب- الأدلة العقلية:

1-

ما تقدم عن ابن قدامة من أن ما حرم استعماله مطلقا حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالطنبور (1) .

وفيه: أنه لا ملازمة فيما بين حرمة الاستعمال وحرمة الاتخاذ، لا عقلا ولا عرفا ولا شرعا. ولا مانع من التفصيل فيما بين حرمة الاستعمال وجواز الاتخاذ لأن المستفاد من الأدلة الناهية عن تلك الآلات النهي عن وجودها الذي كان منشأ للفساد ولذا يجب كسرها وإتلافها بخلاف أواني الذهب والفضة التي لا يترتب عليها شيء.

2-

ما في (المعتبر) : (اتخاذ الأواني من الذهب والفضة حرام. لنا أن ذلك تعطيل للمال فيكون سرفا لعدم الانتفاع) .

وأضاف ابن قدامة في (المغني) على ذلك بأنه موجب للخيلاء وكسر قلوب الفقراء

وفيه: أن الاتخاذ لا سرف فيه؛ إذ لربما يتحفظ به كيما يصرفه في حاجاته في المستقبل، وأما الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، ففيه أنه لو كان في الخفاء لا يوجب الخيلاء ولا كسر قلوب الفقراء. إذن فنفس الاتخاذ من دون استعمال لا سرف فيه ولا يوجب الخيلاء وكسر قلوب الفقراء.

3-

ما في (المبسوط) : (اتخاذ الأواني من الذهب والفضة لا يجوز وإن لم يستعمل؛ لأن ذلك تضييع، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال) .

وفيه: أن اتخاذ الأواني حفظ للمال وصيانة له عن الإتلاف، فكيف يكون تضييعا وخاصة إذا كان لغرض عقلاني كبيعه في وقت الحاجة ونحو ذلك؟

فتبين مما قدمناه أنه لا دليل على حرمة اتخاذ أواني الذهب والفضة، وإن كان يحرم استعمالها في الأكل والشرب.

(1) المغني: 1/64

ص: 205

المقام الثاني:

قد عرفت مما سبق اختلاف أنظار الفقهاء بالنسبة إلى جواز اتخاذ أواني الذهب والفضة لغير الاستعمال وترددهم في الحرمة، وعليه فلو قلنا بأن ما هو المحرم خصوص الأكل والشرب في هذه الأواني، وأما الاقتناء من دون الاستعمال فهو جائز، كما يجوز الاستفادة من الساعات الذهبية المصنوعة للرجل من دون لبسها، فهذا يعني أن لها منفعة محللة مقصودة للعقلاء، وما كان كذلك يجوز بيعه وشراؤه.

بل حتى لو قلنا بحرمة مطلق الاقتناء يمكن الحكم بصحة البيع، فيما لو قصدا المعاوضة فيما بين الثمن ومادة المثمن أي الذهب أو الفضة الموجودة في الإناء.

بيان ذلك: أن المتبايعين تارة يقصدان المعاوضة في مجموع الهيئة والمادة للإناء، أي الشكل والهيئة التركيبية المصنوعة بالإضافة إلى الذهب المصنوع به الإناء، وثانية يقصدان المعاوضة في المادة فقط والمقصود هو الذهب ومن ثم لم يتغير سعر الإناء سواء أكان صحيحا أم مكسورا لأن الملحوظ هو وزن الذهب لا غير ومن الواضح جواز البيع على هذا التقدير حتى ولو كان الاقتناء محرما إذ لا مانع من شراء آنية الذهب وكسره وصياغة حلي للنساء به.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد علي التسخيري

والسيد جعفر الحسيني

ص: 206

المناقشة

بسم الله الرحمن الرحيم

مناقشات موضوعات الدورة التاسعة

تجارة الذهب:

الرئيس:

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلى الله عليه وسلم وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين،

وبعد:

فنفتتح مستعينين بالله تعالى جلسة العمل الأولى من أعمال الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي. أود أن أبدي خالص الشكر والتقدير لأصحاب السماحة والمعالي والفضيلة أعضاء المجمع العاملين ومعالي الأمين حيث قرروا بالاتفاق ترشيح رئاستي ونوابي وهيئة المكتب كما كانت في جميع ممثليها في الدورة السابقة، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين الجميع على كل خير، وأن يوفقنا للعمل الصالح وللرأي الحق الصواب.

وفي هذه الجلسة الصباحية لدينا الموضوع الأول (تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة) ، العارض هو فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع والمقرر هو فضيلة الأستاذ الشيخ صالح المرزوقي.

ص: 207

الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على الرسول الأمين سيدنا ونبينا محمد رسول رب العالمين، الهادي إلى صراط المستقيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

وبعد،

فالذهب معدن نفيس استهوى الإنسان منذ القدم بحبه وإيثاره وافتخاره بتملكه والتزين به حتى أغراه بعبادته، قال تعالى {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه:87-88] ، فالذهب معدن يتميز عن المعادن الأخرى بميزات طبيعية تكمن في قدرته على مقاومة عوامل التعرية وسلامته من التعرض للصدأ، فبمشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ عرفجة بن هرثمة أنفا من ذهب حينما قطع أنفه في إحدى المعارك مع رسول صلى الله عليه وسلم، وبالرغم من حرمة التحلي به على الرجال فقد أذن في اتخاذ الأسنان منه للرجال، ولوفور ووقور محبته في النفس البشرية وإيثاره في حب التملك ذكره الله تعالى في عداد أمور زين للناس حب تملكها، قال تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران:14] . وقد جعله الله في الجنة من وسائل الإنعام والتنعيم، قال تعالى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج:23] . ولما وقر في النفس البشرية من إيثار لهذا النوع من المعادن دون غيره وكونهما بعد التملك مظنة البخل بهما وإمساكهما فقد حذر تعالى من كنزهما دون إنفاقهما في سبيل الله، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] .

ولما في الذهب من تأثير على النفس البشرية من حيث الافتخار والاعتزاز واعتبار ذلك من مقومات الوجاهة والقيادة والاعتبار، قال تعالى حكاية عن قوم فرعون في معرض إنكارهم رسالة موسى عليه السلام، وأن دعواه – الرسالة – تفتقر إلى ما يسندها من مقومات الاعتبار:{فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:53] وقال تعالى في معرض الفداء مشيرا إلى أغلى ما يملكه الإنسان وهو الذهب أنه لو ملك منه ملء الأرض لرضي ببذله فداء له لما حل به من سوء العذاب، فال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران:91] . ولما في الذهب والفضة من الإغراء للنفوس البشرية فقد جعلهما الإنسان أكثرا إيثارا من غيرهما من المعادن الأخرى في اتخاذ زينته منهما ولحكمة ربانية تقتضي كبح النفس البشرية عن التجبر والتكبر والطغيان فقد حرم الله تعالى على الرجال اتخاذهما زينة لهم إلا ما استثني، وذكر صلى الله عليه وسلم تعليل التحريم بأن فيهما كسرا لقلوب الفقراء ولما فيهما من الإغراء والتمتع بالتزين بهما؛ ولأن النساء في وضع يقتضي تمكينهن من أسباب تعلق الرجال بهن فقد أباح للنساء اتخاذهما حليا لزينتهن أمام أزواجهن وحرم ذلك على الرجال، كما حرم تعالى اتخاذ الأواني المنزلية والتحف الجمالية منهما لما في ذلك من كسر قلوب الفقراء يستوي في ذلك الرجال والنساء. وقد أشار تعالى إلى طبيعية النفس البشرية في تمتعها بالذهب فجعل من تمتع الصالحين من بني آدم في الجنة أن من أدواتهم المنزلية صحائف من ذهب، قال تعالى {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:71] .

ص: 208

النشأة التاريخية لاتخاذهما ثمنا:

لقد مر على الإنسان حين من الدهر وهو يعاني الإشكال في طريقة حصوله على حاجاته الأساسية من طعام وشراب وسكن فاضطر إلى الأخذ بمبدأ المقايضة، ثم إنه وجدها لا توفر له احتياجاته ووجد فيها من المشاكل ما جعله يبحث عن وسيلة أخرى لتيسير تبادله مع غيره طلبا لحاجته فنشأ مبدأ الأخذ بوسيط التبادل، فاتجهت الدول المختلفة إلى اتخاذ السلع وسيطا للتبادل كالفراء في البلاد الباردة والأصواف في البلاد الساحلية وأنياب الفيلة والخرز والرياش في البلاد المعتدلة، وبتطور الحياة الاقتصادية ظهر عجز هذه السلع عن القيام بوظيفتها كوسيلة تقويم فاتجه الفكر الاقتصادي إلى الاستعاضة عن ذلك بالمعادن وخصوصا الذهب والفضة لما فيهما من عناصر وخصائص جعلتهما أفضل وسيلة للتقويم فساد التعامل بهما ردحا من الزمن على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة إلا أن اختلاف أنواع هذين المعدنين أوجد في استعمالهما ثغرة كانت ميدانا للتلاعب والفوضى، فليس كل الناس يعرف المادة الأصلية للذهب والمعيار المقبول للتبادل، ثم إن تقدير ذلك بالوزن أوجد فرصة لسرقتها بالتلاعب في وزنها فتدخل الحكام في ذلك بسكهما نقودا على شكل قطع مختلفة المقدار والوزن، فأصبحت العمل المعدنية الذهبية معدودة بعد أن كانت موزونة، وصار كل جنس منهما متفقا مع بعض في النوع والمقدار.

علة الربا في الذهب:

اختلف العلماء – رحمهم الله في تعيين علة الربا في الذهب إلى مجموعة أقوال؛ فقد قيل: إن العلة في ذلك الوزن، وقيل بأن العلة فيه غلبة الثمنية، وقيل بأن العلة في ذلك مطلق الثمنية. وجرى في البحث المقدم وهو بين أيديكم – حفظكم الله – وهو بحث لا يتسع المجال لذكر تفاصيله في مثل هذه العجالة، جرى مني استعراض هذه الأقوال ومناقشتها واختيار القول بأن علة الربا في الذهب مطلق الثمنية وتوجيه الاختيار والرد على الأقوال الأخرى بما يبرر الاختيار ويؤيده. وفيما يلي الإجابة عن المسائل التي طرحها مجمع الفقه الإسلامي ورغب الإجابة عنها، ومنها:(حكم المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر) . الحكم في ذلك فيما يظهر لي – والله أعلم – الجواز لأن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني، أشبه الحكم بجواز بيع حلي الذهب بأكثر من وزنه ذهبا حيث إن الزيادة في الثمن وزنها هي قيمة الصنعة في الحلي، وقد مر في النقل عن ابن القيم – رحمه الله – في ذكر هذا الحكم وتعليله.

ص: 209

ومن المسائل التي رغب المجمع في الإجابة عنها: (بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولا أي فيه صنعة وصياغة) ، لا يخفى أن الذهب قد يباع بذهب وقد يباع بنقد آخر من فضة أو ورق نقدي أو فلوس، فإذا كان الذهب المبيع مشغولا كأن يكون حليا فإن بيع بذهب فلا بأس أن يكون الثمن أكثر وزنا من ذهب الحلي وتكون الزيادة في الوزن في مقابلة الصياغة والعمل، وقد مر الإشارة إلى رأي ابن القيم – رحمه الله – في ذلك وذكره تعليل القول بالجواز إلا أنه يشترط للمبادلة بينهما الحلول والتقابض في مجلس العقد، وأما إذا كان أحد العوضين ثمنا غير الذهب فلا بأس في البيع مطلقا بشرط التقابض في مجلس العقد لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه:((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .

ومن المسائل التي رغب المجمع الإجابة عنها أو بحثها: (المتاجرة في الأواني أو الحلي والساعات الذهبية المصنوعة للرجال) . لا يخفى أن الحكم الشرعي في تملك الأواني الذهبية والفضية التحريم، وما حرم تملكه حرم بيعه، أما الحلي فإن كانت معدة للرجال فهي حرام والنصوص في ذلك أشهر من أن تذكر وما حرم تملكه حرم بيعه.

وأما المتاجرة في الحلي المعدة للنساء فلا بأس فيها إلا أنه ينبغي مراعاة الحكم الشرعي في بيوعه من حيث الحلول والتقابض، وقد يتفرع من هذه المسألة هي:

هل يجوز لتاجر الحلي حينما يعرض عليه أحد الناس حليا قديما ويبدي له رغبته في شراء حلي جديدة، هل يجوز لهذا التاجر أن يشترط عليه في شرائه الحلي القديمة أن يشتري منه حليا جديدة؟ هذه المسألة بحثت في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وصدر القول بمنعها باعتبارها بيعتين في بيعة، إلا أن هذا القول لم يكن محل إجماع بينهم؛ ونظرا إلى أن هذا النوع من البيع لم يشتمل على غرر ولا على جهالة ولا على مخالفة في الصرف ولم يكن في معنى بيعتين في بيعة فلم يظهر لي وجه القول، بمنعه وقد قال بجواز مثل هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله – وقد جرى نقل رأيه في البحث المطول.

ص: 210

وأما الساعات الذهبية فإن كانت للنساء فلا بأس بتملكها واستعمالها من النساء والمتاجرة فيها بالبيع والشراء، وأما إن كانت للرجال فحكمها حكم حلي الرجال من حيث تحريم التملك والمتاجرة فيها بيعا أو شراء أو اقتناء، والله أعلم.

وأما ما كان مموها بالذهب أو الفضة مشغولا أو بأحدهما بحيث تكون كمية الذهب أو الفضة فيها قليلة جدا بالنسبة إلى ما شغلت به فهذه المسألة محل اجتهاد ونظر وفيها اختلف العلماء بين الإباحة والحظر، فمن نظر إلى الحكمة من التحريم وهي كسر قلوب الفقراء ورأي أن في التمويه بهما أو شغل الأداة بشيء منهما بما يعطي الأداة لون أحدهما، من نظر إلى هذا قال بالتحريم بصرف النظر عن كامل محتوى الأداة بأحدهما أو بجزء منهما، لما في ظاهرها من بهجة وزينة وإغراء ينكسر برؤيته قلب الفقير العاجز عن تملكها، ومن نظر إلى أن غالب محتوى الأداة من غيرهما وأن ما فيهما من أحدهما لو استخرج لما كان شيئا، ونظر إلى القاعدة الشرعية (يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا) قال بجواز ذلك. ولكل من الرأيين وجاهته واعتباره ويكون للاختيار منهما التوجه بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) ، والله أعلم.

ومن المسائل التي رغب المجمع في بحثها: (شراء الفرد الذهب بالشيك أو ببطاقة الائتمان، أيعد ذلك قبضا للثمن؟) .

اصطلح الفقهاء على تسمية بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة (مراطلة) ، وعلى تسمية بيع الذهب بالفضة أو بأي ثمن آخر أو العكس (صرفا) ، واشترطوا في المراطلة المماثلة في الوزن والحلول والتقابض في مجلس العقد. واشترطوا في الصرف المتمثل في بيع أحد المعدنين – الذهب والفضة بأحدهما أو بأي ثمن آخر من ورق أو فلوس – التقابض في مجلس العقد وأصل ذلك حديث عبادة بن الصامت المذكور في البحث ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة

إلخ الحديث)) . واتفق العلماء على أن القبض أمر مرده إلى الصرف والعادة، فأي طريقة يتم فيها الاستيلاء الكامل على العين محل العقد تعتبر قبضا. وقد بحث العلماء وضع الشيك وهل يعتبر قبضه قبضا لمشموله مبرئا؟ فأصدر مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قرارا باعتبار قبض الشيك المعتبر قبضا لمحتواه.

ص: 211

وقد وجد الخلاف بين فقهاء العصر في تفسير معنى الشيك المعتبر، فذهب بعضهم إلى أن الاعتبار في الشيك أن يكون مصدقا من البنك المسحوب عليه لأن تصديقه يعني حمايته من الساحب أن يعود فيه، كما يعني وجود رصيد كامل للساحب لتغطية سداد الشيك وهذا المعنى يعطي القناعة الكاملة بالقدرة على التصرف في مشمول الشيك في أي وقت يريده المستفيد منه، وهذا معنى القبض. وذهب آخرون إلى أن المراد بالشيك المعتبر هو أن يكون له رصيد في البنك المسحوب عليه لتغطيته، ولكن هذا المعنى لا يعطي القناعة بالقدرة على تصرف المستفيد منه بمشموله، فلئن كان للساحب رصيد لتغطيته فقد يرجع الساحب في الشيك قبل قبضه وهذا الاحتمال الوارد ينفي عن هذا الشيك الثقة في القدرة على التصرف فيه، وبالتالي فينتفي عن هذا الشيك معنى القبض وهو القدرة على قبض محتواه أو الأمر بقيده في حسابه. والذي يظهر لي – والله أعلم – أن الشيك المعتبر والذي هو في معنى القبض هو الشيك المصدق، وتأسيسا على هذا فإذا اشترى الفرد ذهبا أو فضة بثمن آخر وبموجب شيك بذلك الثمن فإن كان مصدقا فقبضه قبض لمحتواه والمصارفة بذلك صحيحة. وإن كان غير مصدق فقبضه ليس قبضا لمشموله وبالتالى فقبضه ليس في حكم القبض المبرئ للذمة، والمصارفة بموجبه غير صحيحة؛ لأن التقابض في مجلس العقد غير محقق. فمثل هذا الشيك آفاته كثيرة، منها احتمال سحبه على غير رصيد أو على رصيد لا يكفي لتغطيته أو لاحتمال رجوع صاحبه أو ساحبه في سحبه قبل تقديمه للبنك المسحوب عليه. فهذه العيوب تجعله غير أهل للاعتبار في القول بأن قبضه قبض لمحتواه. والله أعلم.

وأما شراء الذهب ببطاقة الائتمان فنظر إلى أن بطاقة الائتمان تعتبر مبرئة للذمة براءة كاملة بين المتصارفين وحق بائع الذهب بموجب بطاقة الائتمان ثابت كثبوت حقه في الشيك المصدق من حيث إن صاحب البطاقة حينما يوقع بموجبها على فاتورة الدفع لا يستطيع الرجوع في توقيعه ولا يستطيع مصدر البطاقة أن يتأخر عن سداد القيمة عند الطلب مهما كانت حال صاحب البطاقة، ونظرا لهذا فإن القول بصحة المصارفة ببطاقة الائتمان قول وجيه يؤيده أن معنى القبض متوفر فيها حيث يتفرق المتصارفان بموجبها وليس بينهما شيء، ومع هذا فالمسألة في حاجة إلى مزيد من النظر والتأمل في ضوء التصور لحقيقة البطاقة الائتمانية، والله المستعان.

ص: 212

ومن المسائل التي رغب المجمع في بحثها: (التعامل بشهادات الذهب) أو حسابات الذهب وهي شهادات تصدرها مؤسسات متخصصة تخول صاحبها قبض كمية من الذهب ولا يلزم أن تكون تلك الكمية معينة منفصلة عن غيرها وقد لا تكون موجودة فعلا لدى المؤسسة في كل الأوقات. وهذا التعامل يعني أن أحد الرجال مثلا يشتري كمية من الذهب يجري تسلمه شهادة بها يتسلم بموجبها هذه الكمية من الذهب من مخازن إحدى هذه المؤسسات أو من مخازن متخصصة لهذه المؤسسة. لهذه المؤسسة حق التحويل عليها بذلك وقد لا يكون الذهب موجودا في هذه المخازن وقت المصارفة. الذي يظهر لي – والله أعلم – أن هذا النوع من المصارفة لا يتحقق فيه معنى التقابض في مجلس العقد لأمرين:

أحدهما: أن المؤسسة المتخصصة في إصدار شهادات الذهب ليس لشهاداتها اعتبار موجب للثقة كالثقة في الشيك المصدق حيث إن مشتري الذهب لا يستطيع التصرف فيما اشتراه في مجلس العقد للاحتمال القوي في بعد هذه المخازن عن قدرته على حيازة ما اشتراه منها.

الأمر الثاني: إن وجود الذهب في المخازن المختصة مشكوك فيه فقد يكون موجودا وقد لا يوجد إلا بعد وقت لا يعلم تحديده فيطلب من المشتري الانتظار، والرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر من عناصر المصارفة وصحتها التفرق بين المتصارفين وليس بينهما شيء. وهذا العنصر مفقود في هذه المصارفة فضلا عن أن التقابض في مجلس العقد مفقود حسا ومعنى. وتأسيسا على هذا فلا يظهر لي – والله أعلم – جواز هذا النوع من المصارفة لفقده شرطها.

ومن المسائل التي رغب في بحثها: (حكم شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب وتعد أكثر أصولها منه؛ هل يمثل السهم حصة شائعة في الذهب؟ هل لذلك تأثير على حكم التعامل بأسهمها) .

ص: 213

لا يظهر لي مانع من شراء أسهم في شركة تعمل في استخراج الذهب ولو كانت غالب أصولها من ذلك الذهب لأن الشركة شخص اعتباري له ذمة محدودة ذات وعاء قابل للحقوق والواجبات والتملك والتبرع وغير ذلك من التصرفات المالية، فأسهم هذه الشركة حصص شائعة في عموم مقوماتها وعناصر وجودها، ومن هذه العناصر والمقومات قيمتها المعنوية المتمثلة في اعتبارها ومكانتها في سوق الشركات وأسواق الإنتاج، وقد تكون قيمة الجانب الاعتباري للشركة أكثر حجما من قيمة ما لديها من أصول متحركة. كما أن للشركة أصولا ثابتة للإدارة والتشغيل غير الذهب فسهم الشركة ليس محصورا في كمية الذهب الذي تقوم الشركة باستخراجه حتى يقال بمراعاة شروط الصرف، وإنما تمثل أسهمها كامل عناصر وجودها والسهم فيها حصة مشاعة في عموم مقومات الشركة واعتبارها. فمن يشتري سهما أو أكثر من أسهم هذه الشركة لا يعتبر نفسه قاصدا شراء كمية من الذهب المستخرج. فالذهب المستخرج مادة متحركة يخرج اليوم ويباع غدا ويخرج غيره بعد ذلك ويستمر نشاط الشركة في هذا السبيل على هذا الاتجاه. ولكنه – أعني مشتري السهم – يقصد الدخول في المساهمة في هذا النشاط وفي هذه الحركة الإنتاجية والصناعية والاشتراك في تملك الاختصاص في ذلك ومن القواعد الشرعية أنه يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا. ألا ترى أن تملك الشركات المساهمة سيولة من النقود ووجود ديون لها وانتفاء الوضوح الكامل لموجودات الشركة مما يعطي نوع جهالة. كل ذلك يغتفر ولا يؤثر في صحة تداول أسهم الشركات بيعا وشراء وتملكا وتمليكا، حيث يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا.

ومن المسائل التي رغب المجمع في بحثها (ذكر الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة) : من النشاطات المصرفية المعتادة والمتكررة لدى المؤسسات المالية والحوالات.

والحوالات قد تكون بعملة البلد المحال فيه كأن يطلب أحد الناس من أحد المصارف تحويل مبلغ من المال بعملة معينة كالريال السعودي أو الدولار الأمريكي – مثلا – فيدفع للمصرف هذا المال ويطلب منه تحويله إلى بلد معين فيقوم المصرف بذلك ويعطيه إشعارا بالتحويل المصرفي في حوالة محضة ليس لها تعلق بمسائل الصرف، وإنما هي من مسائل السفتجة. وقد عرفها بعضهم بقوله: السفتجة هي أن يعطي مالا لآخر مع اشتراط القضاء في بلد آخر على سبيل القرض لا على سبيل الأمانة وذلك لضمان الطريق أو لأي غرض آخر.

ص: 214

وقد اختلف العلماء في حكمها، فجمهورهم قالوا بجوازها مستدلين على ذلك بما روي عن عطاء: أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كان يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب بها إلى أخيه مصعب بن الزبير في العراق ويأخذونها منه فسئل ابن عباس عن ذلك فلم ير بأسا فقيل له: إن أخذوا أفضل من دراهمهم؟ قال: لا بأس إذا أخذوا بوزن دراهمهم.

وروي أيضا مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فهؤلاء ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازوا ذلك.

ورد المجيزون على المانعين قولهم بأن هذا من قبيل القرض الذي يجر نفعا وكل قرض جر نفعا فهو ربا فإن دافع النقود يستفيد من ذلك أمنه من خطر الطريق. رد المجيزون على ذلك بقولهم: المنفعة التي تجر الربا في القرض هي التي تخص المقرض كسكنى دار المقترض وركوب دوابه واستعماله وقبول هديته ولا مصلحة للمقترض في ذلك، بخلاف هذه المسألة، فإن المنفعة مشتركة بينهما وهما متعاونان فهي من جنس المعاونة والمشاركة.

وهذا المعنى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى وجرى نقل النص في البحث المقدم.

وقال آخرون بمنعها بحجة أن السفتجة قرض يستفيد منها المقترض أمن الطريق وكل قرض جر نفعا فهو ربا. وقد تقدم رد هذا الاحتجاج بما يكفي عن إعادته.

وذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السفتجة حرام)) وهو حديث ضعيف ذكره ابن الجوزي في الموضوعات فلا يصح الاحتجاج به، والقول بجواز ذلك هو ما تطمئن إليه النفس لما في ذلك من المصلحة العامة والتيسير على المسلمين في معاملاتهم وانتفاء الدليل المقنع على المنع لأن الأصل في المعاملات الإباحة.

ص: 215

وقد تكون الحوالة بنقد مغاير للنقد المراد تسلمه في البلد الآخر، فهذا نوع من التحويل يجتمع فيه الصرف والحوالة، ولا يخفى أن للصرف في حالة اختلاف العوضين جنسا شرطا هو التقابض في مجلس العقد، وقد تقرر لدى المجامع الفقهية والهيئات العلمية أن كل عملة ورقية جنس يجوز المصارفة بينها وبين غيرها من عملات الدول الأخرى مطلقا إذا كان يدا بيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:((فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .

وعليه فيجب قبل التحويل إجراء عملية الصرف بحيث يتسلم المحيل العملة التي يريد تحويلها بعد انتهاء عملية الصرف، سواء أكان تسلما حسيا أم تسلما في معنى الحس، كأن يعطيه شيكا مصدقا يملك بقبضه القدرة على التصرف فيه بتسلم محتواه أو بقيده في حسابه أو تحويله، فإذا تسلم الشيك المصدق أمكنه بعد ذلك تحويله، وصار الأمر إلى الإجراءات المتخذة في الحال الأولى، وهي تحويل نقد معين إلى بلد آخر.

هذا أيها الأخوة – حفظكم الله – ملخص البحث، أرجو أن يكون في عرضه أيفاء للمقام، والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ص: 216

الشيخ صالح المرزوقي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فقد تفضل فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع بعرض أحكام تجارة الذهب في مواضع كثيرة ومتعددة – جزاه الله خيرا وأجزل مثوبته – حيث إننا قد كتبنا بحثا في هذا الموضوع، واتفقنا معه في كثير من وجهات النظر، ونختلف معه – أيضا – في بعضها.

أود أن أشير إلى بعض المسائل التي تعرّض إليها بإيجاز:

فمثلا موضوع أثر الصياغة في شرط التماثل؛ بيع الحلي بجنسه بأكثر من وزنه مقابل الصنعة، والذي ذكره فضيلته ورجح جوازه، أقول: للعلماء في هذه الحالة مذهبان:

المذهب الأول:

ويرى القائلون به أنه لا عبرة للصناعة ولا لغيرها، فيجب التماثل في بيع الجنس بجنسه، وهذا مذهب جمهور العلماء: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، والزيدية، والإمامية، وممن قال به من العلماء المعاصرين سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، وصدر به قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.

المذهب الثاني:

ويقول أصحابه: إذا كانت الصناعة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء، وبيعت بجنسها من غير المصنوع، فانها تباع بالقيمة، ولا يشترط التماثل جعل الزائد مقابل الصنعة، وهو قول ابن القيم، واشتهرت نسبته إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، وإن كان جاء في فتاواه ما يدل على خلافه.

ص: 217

وأحبُّ هنا أن أوجزَ أدلة الجمهور القائلين بالمنع:

فقد استدل الجمهور على وجوب التماثل في بيع الحلى الذهبية بالذهب، وعدم جواز أي زيادة لأجل الصنعة في الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب فقول الله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، والربا هو الزيادة، ودليل التحريم عام لم يُفرِّق بين المصنوع وغيره. وأما السنة فقد استدلوا بأحاديث كثيرة، منها ما يفيد وجوب التماثل بعمومه، ومنها ما هو نص في الموضوع؛ فأما ما يفيد التماثل بعمومه فقد أوردنا في ثنايا البحث كثيرا منه، ونكتفي بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أبصرت عيناي، وسمعت أذناي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا تبيعوا الوَرِق بالورق، إلا مِثلا بمثل، ولا تُشِفُّوا بعضه على بعض، ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد)) . وأما الأحاديث التي تعتبر نصا في الموضوع، فنذكر منها: عن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث أبو الأشعث. فجلس، فقلت له: حَدِّث أخانا حديثَ عبادة بن الصامت. قال: نعم؛ غزونا غزاة وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث، قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه؟ فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة، ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية.

ص: 218

ثانيا: روى مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّعْدَينِ أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة، فباعا كل ثلاثة بأربعة – هذا الحديث الذي ذكرناه سابقا في صحيح مسلم – عينا، وكل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أربيتما فَرُدَّا)) وهو حديث مرسل، وقد روي هذا الحديث متصلا من طريق آخر، فقد رواه ابن عبد البر قال: ذكر يعقوب بن شيبة، وسعد بن عبد الله بن الحكم، قالا: حدثنا قدامة بن محمد بن قدامة بن خشرم الأشجعي، عن أبيه قال: قال: حدثني مخرمة بن بكير، قال: سمعت أبا كثير جلال

إلى أن قال: سمعت حنشا السبئي، عن فضالة بن عبيد يقول: كنا يوم خيبر، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم سعدَ بنَ أبي وقاصٍ وسعدَ بنَ عبادة، فأرادا أن يبيعا الدينارين بالثلاثة، والثلاثةَ بالخمسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا، إلا مثلا بمثل)) قال ابن عبد البر: وهذا إسناد صحيح متصل حسن. وروى مالك عن حميد بن قيس المكي، عن مجاهد أنه قال: كنت مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدرَ عمل يدي. فنهاه عبدُ الله عن ذلك، فجعل الصائغ يُردّدُ عليه المسألةَ وعبدُ الله ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابة يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضلَ بينهما، هذا عهدُ نبيِّنا إلينا وعهدُنا إليكم، قال أحمد البنا: رواه مالك، والشافعي في مسنده، والبيهقي وسنده عنده جيد. رواه الإمام الشافعي في الرسالة عن ابن عمر، أنه قال: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا، وعهدنا إليكم. قال أحمد شاكر: حديث صحيح جدا. ورى مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو وَرِقٍ بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، إلا مِثلا بمثل. فقال له معاويةُ: ما أرى بمثل هذا بأسا. فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أُساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمرَ بن الخطاب فذكر ذلك له، فكتب عمرُ بن الخطاب إلى معاوية: ألا تبعْ ذلك إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن. وهذا حديث صحيح.

وعن فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: أُتِيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبرَ بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم، تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحدَهُ، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الذهب بالذهب وزنا بوزن)) . ومعلوم أن القلادة حلي مصوغة. وروى أنس بن مالك قال: أُتِيَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه بإناء كَسْروَانيٍّ قد أُحكمت صنعته، فبعثني به لأبيعه فأعطيت به وزنا، فذكرت ذلك لعمر رضي الله عنه، فقال: أما الزيادة فلا. وهذا الإناء من ذهب أو فضة.

ص: 219

وقد تكلم فضيلة الشيخ في مسألة اجتماع الصرف والحوالة، وَكَيَّفَهَا على أنها سَُفْتَجَة، والذي نراه أنها إجارة وليست سفتجة. هذه المعاملة جائزة، والوصف الفقهي لها عندي إجارة على نقل النقود أو صرف وإجارة، ففي حالة استلام ذات العملة فهي إجارة فقط، وفي حالة استلام عملة أخرى بديلة للعملة المقدمة كالجنيهات المصرية مثلا مقابل الريالات السعودية فهي صرف ثم إجارة، كلٌّ من العقدين مستقل عن الآخر؛ لأن تحويل الريالات إلى جنيهات صرف، ثم نقلها أو التعهد بنقلها إلى القاهرة، أو إلى أي بلد آخر، وأخذ عوض مقابل هذا النقل، يعتبر إجارة على نقل النقود؛ لأنه هو مقصود العاقدينِ، وليست العمولة التي يدفعها طالب التحويل إلا أجرة النقل، والمصرف له أن يتخذ الوسيلة التي ينفذ العقد بها، من هذه الوسائل الشيك أو البرقية أو الفاكس أو التليفون أو نحو ذلك.

لكن في جميع الأحوال يجب أن يفرق بين الصرف والإجارة؛ لأن الصرف يشترط فيه التقابض، وسبق أن ذكرنا أن قبض الشيك أو قبض المستند الذي يقوم مقامه في حالة الإرسال بواسطة الفاكس أو البرقية أو نحوهما، يعد قبضا حُكميًّا صحيحا.

أما تكييفه على السَُفْتجة فهذا لا أرى صحته؛ لأن السفتجة قرض كما هو رأي جمهور الفقهاء، فقد عرَّفها الدسوقي بأنها الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله من بلد ليدفع للمقترض نظير ما أخذه منه ببلده، وهي المسماة بـ (البالوصة) . ولأن الجموع التي تقف في المصارف لإرسال النقود إلى ذويهم أو عملائهم أو حساباتهم في مصارف أخرى، في الحقيقة ليست مقرضة، ولا يتبادر إليها القبض بأيِّ حال، وأن المقترض في السفتجة لا يتقاضى أجرا، أما المصارف اليوم فإنها تأخذ أجرا على هذه العملية. فإنْ قيلَ: إنها حوالة، قلنا: لا يصح تكيِيفها على الحوالة؛ لأن الحوالةَ نقلُ الدَّيْنِ من ذمةٍ إلى ذمة، والصورةُ التي نحن بصددها الأصل فيها أنه ليس هناك دائن ولا مدين، وإن وجدت عند تحويل مستوردي البضائع إلى دائنيهم المصدرين، إلا أنها لا توجد في بقية الحالات، مثل أن يحول إلى حسابه أو إلى أولاده؛ ولأن من أركان الحوالة المحيل والمحتال والمحال عليه، وهذا غير متوفرٍ في كل الحوالات المعاصرة. ولا يجوزُ أخذُ الأجرةِ في عقدِ الحوالة، بينما الحوالات المصرفية يصح أخذ الأجرة عليها؛ لأنها إجارة، على تعهده بإيصال النقود إلى البلد الذي اتفق العميل مع المصرف عليه، سواء أكان المصرف الذي حرر الشيك عليه فرعا له أم وكيلا عنه. هذا ما يتعلق باجتماع الصرف والحوالة.

أما ما يتعلق ببيع أسهم الشركة التي تعمل في استخراج الذهب، فأَتَّفِقُ مع فضيلة الشيخ على جوازه؛ لأن المنظور إليه هو رأس مال الشركة.

وأكتفي بالقدر هذا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 220

الشيخ خليل الميس:

بسم الله الرحمن الرحيم

يفهم من كلام فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع؛ حرمةُ تَملُّكِ الأواني الذهبية أو الساعات الذهبية، هذا الأمر فيه عجب، هو يُحرِّمُ على ما نعلم استعمالها لا اقتناؤها، وهي ليست خمرا حتى تُعطى حكمَ الخمرِ؛ بدليل أنه يحل استعمالها للنساء، فما المانع إذا مُلِكتْ وأُديتْ زكاتُها، ولم تُستعمل، فكما تقدّم: من يملك ساعةً ذهبية ماذا يفعل بها إذن وهو لا يستعملها؟ ألا يبيعها؟ ألا يستفيد من ثمنها؟ فإذن – والله أعلم – هو المعروف أن حرمة استعمالها لا حرمة تملكها واقتنائها، فاقتناؤها واستعمالها شيء آخر، والله أعلم.

ص: 221

الشيخ تقي العثماني:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

الواقع أنني أشكر الباحثين، فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، وسيادة الأستاذ صالح المرزوقي حفظهما الله تعالى، فقد تمتعنا بقراءة بحثيهما، وهما مليئان علما، ولكن قد أثيرت في هذين البحثين عدةُ نقاط، أريد أن أعرض فيها بعض الملاحظات؛ قد تعرّض فضيلة الشيخ عبدُ الله بن سليمان بن منيع حفظه الله لعدة مسائل، وقد كان موفقا في إيجاد الحلول للمشاكل التي نواجهها في حياتنا اليوم، ومع تقديري لبحثه وعلمه وفضله، فإني أخالفه فيما ذهب إليه من أخذ رأي ابن القيم رحمه الله في أنه يجوز بيعُ الذهب المصوغ بأكثر من وزنه. لا شكَّ أن الإمام ابنَ القيم رحمه الله قد أجاز بيعَ الذهبِ المصوغ بأكثر من وزنه. ولكنني في علمي القاصر لا أجد لهذا القول عهدا في أقوال السلف من الصحابة والتابعين، وهو بظاهره مخالف لصريح النصوص التي تنصُّ على حرمة التفاضل في بيع الذهب بالذهب، ولا تقول: الدينار بالدينار فقط، بل تصرح ببيع الذهب بالذهب، وكلمة الذهب تطلق على كل من: تِبر أو سكَّة أو حلية أو أي شيء مصوغ من ذهب، ولقد وقع فيها أحاديثُ صريحةٌ، مثل حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، كما أشار إليه الدكتور صالح، وحتى أنكر أبو الدرداء رضي الله عنه على معاوية رضي الله عنه وقال: لا أساكنك بأرض أنت بها. وقد أيدَّه سيدُنا عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، وفيما ذكره الدكتور صالح غِنًى عن سرد هذه الأدلة بأجمعها. فالواقع أن مذهب الجمهور هو القوي في هذا الصدد من حيث الدليل عقلا ونقلا، أما الآن في حياتنا المعاصرة فإنه لا إشكال في العمل بقول الجمهور إطلاقا؛ لأن الحلي اليوم لا تشترى بالذهب، إنما تشترى بالأوراق النقدية، فإذا اشتريت الحلي بالأوراق النقدية فللبائع أن يعقد هذا العقد على أي مقدار من هذه الأوراق، فلذلك لا إشكال في ذلك إطلاقا.

ص: 222

ثم المسألة الثانية التي أريد أن ألاحظ فيها هي مسألة القبض، في التقابض في الصرف. وقد ذكر فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع حفظه الله، وقد كان موفقا في قوله حيث قال: إن الشيك إذا كان مصدَّقا من قِبَلِ المصرف، فإنه في حكم القبض الحقيقي، أما إذا لم يكن مصدقا من قبل البنك فحينئذ قد ذهب إلى أنه لا يعتبر قبضا؛ لأنه قد تَحُولُ دون تسلُّم مبلغِهِ عوائقُ كثيرة، وهذا ما أوافقه فيه، ولكنه في آخر البحث لمَّا جاء إلى مسألة الحوالة والصرف، فإنه قد يظهر من كلامه أنه يقبل في ذلك شيكا ولو غير مصدق، فإن كان ما فهمتُهُ هو الصواب فقد يبدو أنَّ هناك تعارضًا بين الأمرين.

والمسألة الثالثة، تتعلق بمسألة بطاقة الائتمان، هل يعتبر التوقيع على بطاقة الائتمان قبضا؟ وقد ذهب فضيلته إلى أن هذا يعتبر قبضا، وهذا فيه نظر؛ لأن بطاقة الائتمان في الواقع تكييفُهَا الفقهيُّ لا يمكن إلا عن طريق الحوالة، وقد درسنا هذا الموضوع ولم نبتَّ فيه بشيء، ولكن الظاهر أن هذا حوالة، والحوالة في الصرف غير جائزة، ولو كان هناك توقيع من قِبَلِ صاحب البطاقة، ثم ما ذكره من أنه لا يستطيع الموقع بعد التوقيع أن يرجع عن توقيعه، هذا أيضا مما يحتاج إلى تدقيق من قِبَلِ الخبراء في هذا الصدد، ولست متأكدا في هذا.

وأخيرا قد أثني على ما ذكره الدكتور صالح المرزوقي في مسألة الصياغة، أما ما ذكره في مسألة الحوالة والصرف بأنها ليست سَُفْتَجة وأنها إجارة، فقد يعتريه إشكال آخر؛ أنه لو جعلناها إجارة فإن يدَ العميلِ يدُ أمانة وليست يدَ ضمانٍ، مع أن العقود المعروفة اليوم تضمنها البنوك، فكيف نوفق بين الأمرين؟ هذا سؤالٌ أطرحه لسيادة الدكتور المرزوقي، وشكرا. والله سبحانه أعلم.

ص: 223

الدكتور عبد اللطيف الفرفور:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، بعدَ تقديم الشكر للباحثين والعارض، لا بد من ذكر بعض الملاحظات، بعضها شكليٌّ وبضعها موضوعيٌّ.

المسألة الأولى، هي قضية الحديث الشريف:((الذهبُ بالذهب والفضةُ بالفضة)) ، كما تفضَّلَ فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، والذي نعرفه أن الحديث بروايته الصحيحة:((الذهبَ بالذهبِ والفضةَ بالفضةِ)) أي بيعوا الذهبَ بالذهب، إلا إذا كانت هناك رواية أخرى نستفيدها من فضيلته، أما قضيةُ السفتجة فاختارَ جوازَ ذلك، ولا أدري ما هو مبرر هذا الجواز؟ هل هو أنه قصدها على أساس الإجارة، والإجارة تفضَّل أخي فضيلة الشيخ العثمانيُّ بأنَّ فيها نظرًا من قضية اليد، وإذا بقيت حوالة وصرفا فإن الأمر يتغير من الجواز إلى الكراهة، كما قرر ذلك بعض علماء المذاهب كالحنفية مثلا، والكراهة ربما كانت تحريمية، لذلك ينبغي أن نضع في قضية السفتجة قاعدةً جديدةً غير الإجارة، وأن نرى لها وجها آخر غير الحوالة والصرف، وهذا شأن هذا المجمع بعلمائه وفقهائه، ولا أضع في ذلك رأيا، بل أرفض قضيةَ الإجارة كرأي خاص، وأرى الكراهة ما دام الموضوع حوالة وصرفا، أما إذا رأيتم غير ذلك فنحن مع الرأي الراجح بدليله.

ثم قضية الصنعة التي يقابلها وزن الذهب، هذا أمر- كما تفضل فضيلة الشيخ العثماني – رفضه الجمهور ولم يأخذ به، غير العلامة ابن القيم، ومهما كان ابن القيم على جلالته وفضله وفقهه فإننا مع الجمهور في هذه المسألة، كما هو رأي أكثر إخواننا فيما أرى، والذي قامت عليه أدلة كثيرة قاطعة، لكننا هنا نقف أمام قضية (التَّوَرُّق) الذي ذكره فضيلته، نحن اليومَ لسنا بحاجة أبدا لبحث هذه المسألة؛ لأنه لو كان عندي مثلا ذهب مكسر – أضيف هذه الملحوظة إلى ما تفضل به أخي الشيخ تقي – وأردتُ أن أصرفه أو أُراطله بذهب صحيح (غير مكسر) مصنوع له حلية، فيجب أن يكون الوزن واحد، وأما الصنعة فيقابلها أوراق نقدية، فمثلا عشرون مثقالا من الذهب المكسر بعشرين مثقالا من الذهب المصوغ، وبالحلية والصنعة عشرون بعشرين بالوزن، وأما الصنعة فيقابلها عشرة آلاف ليرة سورية، ما هو المانع من ذلك؟ في هذه الحالة نكون قد ضبطنا قضية الوزن، الذهب بالذهب، والصنعة قد يقابلها شيء من المال، لكن من الوَرَق النقدي، هذا إذا رأيتم ذلك، والله تعالى أعلم، ولكم الشكر.

ص: 224

الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد:

لا شك في أن البحثينِ اللذينِ استمتعنا بتلخيصٍ عنهما، هما في الحقيقة يمثلانِ ما عليه الفقهاءُ المسلمون من أمانة ودقة وتعليل وتأصيل، ودوري في هذا التعليق أنني أؤيد فضيلة الشيخ عبدَ الله بن منيع في أمور ثلاثة، وأخالفه في أمور أربعة، بالرغم من أن ما تفضل به كله سليم ومدقق ومحقق من الناحية الفقهية، ولكن القضية قضية ترجيح أو اختيار لأحد هذين الرأيين دون الآخر.

أما الأمور التي أخالفه فيها فهي:

الأمر الأول:

تكلم الإخوة الكرام الشيخ العثماني والشيخ المرزوقي بأن الزيادة بسبب الصنعة في الحقيقة هذا يخالف رأي جماهير العلماء والأكثرية الساحقة، وأن رأي ابن القيم هو في الحقيقة يسير عليه بعض الناس في الوقت الحاضر من الناحية العقلية، وهذا هو ملحظ معاويةَ بنِ أبي سفيان رضي الله عنه، فإذن أنا لا أرجح هذا الرأي – رأيَ ابنِ القيم – وإنما أرجحُ رأيَ الجمهورِ؛ للأحاديث الواضحة في هذا الجانب؛ وسدا للذرائع حتى لا تتخذ الصنعة سبيلا للتفاضل في مالين ربويين الحديث واضح فيهما، والحديث:((الذهبُ بالذهبِ، والفضةُ بالفضةِ، والبرُّ بالبرِّ، والشعيرُ بالشعيرِ، والتمرُ بالتمرِ، يدا بيد، سواء بسواء)) فالرفع هو المشهور. قضية النصب – يعني – ليس ممنوعا، وإنما الرفع صار، يعني بيع الذهبَ بالذهبِ كذا فيه مبتدأ وخبر محذوف.

ص: 225

الموضوع الثاني:

الذي أخالف فيه قضية الاشتراط في بيع الحلي القديم بشراء حلي جديدة. الحقيقة هذا ما أخالف فيه فضيلة الشيخ عبد الله؛ لأنه يتنافى مع بيع وشرط، وصحيح الحديث لا يُذكر فيه:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعٍ وشرطٍ)) هذه عبارة فقهية، وإنما العبارة الصحيحة للحديث:((لا يحلُّ سلفٌ وبيعٌ، ولا شرطان في بيعٍ)) ، فهنا أيضا لا أوافق على هذا الموضوع.

الموضوع الثالث:

هو قضية تحريم المموه بالذهب والفضة، أيضا أخالفه في القول باختيار المنع؛ لأن أغلب الفقهاء أجازوا ذلك، والقضية واضحة، والناس جميعا يعرفون أن هذه الساعة المموهة وهذا المعدن المموه هو طلاء يحل ذلك ما لم يحصل منه شيء بالعَرْض على النار، فالعبرة وجود جسامة وضخامة المعدن الثمين، وليس المعوّل على المظهر والشكل، فإذن قضية التحريم لا أجد في ذلك مسوغا، وإن كنت أؤيد أيضا فضيلة الشيخ خليل في القول بأن اقتناء الساعة الذهبية ليس هناك مانع في ذلك، وإنما هنا التحريم منصب على الاستعمال، وليست هذه بمثابة الأواني، تحريم الاقتناء للأواني؛ لأن ذلك لا مسوغ له، وكثيرا ما نجد أناسا يملكون مثل هذه الساعات ولا يستخدمونها، فلا أجد مبررا للقول بالتحريم.

الموضوع الرابع:

الذي أخالف فيه قضية الشيك، وقضية اشتراط كونه مصدقا، واشتراط وجود الرصيد، الحقيقة سحب الشيكات كما تقرره القوانين – سحب شيك بدون رصيد – يعدُّ جريمة تعاقب عليه القوانين المعمول بها في كل الدول، فلذلك المفروض تحقق الثقة في ساحب الشيك، وأما قضية اشتراط التصديق، هذا يعرقل عملية المعاملات، ولذلك أعتقد أن الشيك يعد قبضا حكما، ولا يشترط له هذان القيدان اللذان شرطهما فضيلة الشيخ عبد الله، بالرغم من أنه يحرص على أن يكون ذلك قبضا فعليا؛ لأن الشرطين اللذين ذكرهما يجعلان القبض فعليا، ونحن نكتفي لتسيير المعاملات وتسهيلها بالقبض الحكمي، وأن قبض الشيك يعد قبضا لمحتواه.

هذه هي الأمور الأربعة التي أخالف فيها.

ص: 226

أما الأمور الأربعة التي أؤيده فيها: أؤيد قوله بأن شراء الذهب بشهادات متخصصة لا يعد قبضا، هذا القول وجيه ومعتمد، وله حظ من التحقيق والنظر، وهو كلام سديد، فهذا ما أوافقه عليه.

قضية هل يمثل السهم حصة شائعة في الذهب أيضا أؤيد ما قاله هو والدكتور المرزوقي، أنا موافق على هذا.

أما قضية اجتماع الصرف والحوالة، أيضا أؤيد ما قاله فضيلة الشيخ ابن منيع، وأن هذا سفتجة، والعلماء والفقهاء قرروا ذلك.

قضية الإجازة غير واردة أصلا؛ لأن هناك خللا، وذلك لأن العلماء اتجهوا للسفتجة؛ لأنه يسهل لهم ضمان هذا الشيء في تسييره ونقله من بلد إلى بلد آخر، وهذا هو الهدف. فقضية الإجارة، يد الأجير الأمين يد أمانة وليست يد ضمان، إلا إذا كان أجيرا مشتركا، فممكن تسويغ ذلك على أساس أن البنوك أجير مشترك، فيمكن أن يكون الضمان هنا قائما، لكن فقهاءنا قرروا أن هذا من قبيل السفتجة، وأجازه الجمهور، الحنفية قالوا: لا يجوز. الحقيقة ما دام أكثرية العلماء أجازوا ذلك فأنا أؤيد فضيلة الشيخ ابن منيع في هذا الاتجاه. أيضا أؤيده في القضية الأخيرة التي اكتفى بها للقول بأن اجتماع الصرف والحوالة بنقد آخر هذا هو التكييف الذي سار عليه الاقتصاديون الإسلاميون في قضايا البنوك الإسلامية.

في الحقيقة لا بد من القول بمثل هذا، وهذه ضرورة؛ يعني أبناؤنا الذين نرسلهم إلى الخارج، وأيضا عدم توافر، أو بسبب عدم السماح بنقل النقود من بلد إلى آخر عند أكثر الدول، الحقيقة لا سبيل إلى هذا إلا بمثل هذه الأعمال المصرفية، التي يجري الاتفاق فيها مع البنك بأن ندفع العملة المحلية ونأخذها بعملة أخرى، وإلا فإننا قد ضيقنا على الناس وأوقعناهم في الحرج الشديد، فلذلك القول بحلِّ هذه العمليات المصرفية، وإن أخذ المصرف أجرا عليها، هو متحتم لرفع الحرج عن الناس والتيسير عليهم، والسلام عليكم.

الرئيس: متحتم عزيمة أم رخصة؟

الدكتور وهبة الزحيلي:

رخصة.

ص: 227

الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بالنظرة السريعة على البحث الأول والثاني، وجدت أن في بحث فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع حكم مبادلة بين مقدار الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر يقول في هذا: الحكم في ذلك فيما يظهر لي الجواز. الحقيقة أن فضيلة الشيخ عبد الله، وفق في رأيه هذا، ولكنه لم يذكر له أصلا ومعتمدا لذلك، وأعتقد أن المذهب الحنفي يذهب إلى هذا، فحبذا لو كان لهذا الحكم الذي توصل إليه اجتهادا أن يؤيده بما ذهب إليه بعض المذاهب، وذلك صحيح وجائز في المذهب الحنفي؛ لأن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني أشبه الحكم بجواز بيع حلي الذهب بأكثر من وزنه ذهبا، إلخ. هذه النقطة الأولى.

النقطة الثانية: حرمة تملك أواني الذهب والفضة، لا أظن أن هذا هو رأي الجمهور، أو الرأي المعتمد في المذاهب الأربعة، فَفَرْقٌ بين التملك وفرق بين الاستعمال.

الأمر الثالث: وهو في موضوع التفرقة بين الشيك المصدق والشيك غير المصدق، بالنسبة لإبطال الاعتبار واعتماد الشيك غير المصدق ذَكَرَ عدةَ احتمالات، وإذا كان الاحتمال في الدليل يبطل به الاستدلال، فما بالك بالنسبة للأمثلة. فهذه كلها احتمالات لا أظن أنها تمثل جوهرا في عدم الأخذ بالشيك غير المصدق، وما يقال في الشيك المصدق يقال في غير المصدق. المصدق يخول صاحبه استلام المبلغ مباشرة، ولكن قبل استلامه لا يمكن لصاحبه أن يغير رأيه أو يبطل صرفه. الاحتمالات هذه لا أظن أنها تكون جوهرا في التفرقة بين المصدق وغير المصدق.

بالنسبة لبحث الأخ الزميل صالح المرزوقي، ذكر في بحثه أن الحلية إذا كانت محرمة، كالملاعق والصحون المطلية بالذهب، فهذه يحرم شراؤها ويبطل العقد عليها، سواء شريت بذهب أو بغيره من النقود، أعتقد (أو بغيره من النقود) ليست واردة تماما، إلا إذا كان يقول بحرمة التملّك.

أيضا فيما بعد في فقرة أخرى ذلك أنه إذا كان مع الذهب شيء غيره، فإنه لا يحل بيع ذلك الشيء لا بأكثر من وزنه ولا بأقل بمثله، حتى يفصل الذهب وحده، إلخ. وهو مذهب المالكية. وبعد ذلك جاءت تفصيلات لهذه الأشياء.

في صفحة أخرى من البحث في الفقرة الثالثة والعشرين يقول: يحرم شراء أواني الذهب عند الحنفية والمالكية (بالإطلاق) ، ويتخرج القول بالحرمة على مذهب الحنابلة لقولهم بسد الذرائع.

ثم في الفقرة الخامسة والعشرين جاء التفصيل: عند المالكية وغيرهم أنه إذا كان شراؤه للاستعمال أو كان شراؤه للتملك، ففي الأول ذكر كلاما ملخصا مطلقا، ثم جاء بعد ذلك التفصيل، وأظن أن هذا كان من المفروض فيه الدقة في ذلك، وشكرا.

ص: 228

الشيخ عبد الستار أبو غدة:

بسم الله الرحمن الرحيم

بعض النقاط تمت تغطيتها من الإخوة الزملاء، وخصوصا قضية مبادلة مقدار من الذهب بمقدار أقل منه مضموما إليه، فقد اكتفى فضيلة الشيخ عبد الله بالاستظهار فيها، وتشبيهها بمذهب ابن القيم، مع أن فيها مذهبا أصيلا هو مذهب الحنفية، وللعلم فقد تعرض الشيخ صالح المرزوقي لها في بحثه، ونسبها إلى مذهب الحنفية.

المسألة الثانية: التي أريد أن أعلق عليها هي مسألة الساعات الذهبية التي تكون للنساء. لا بد أن يشترط أن تكون هذه الساعة هي في نفسها حلية، بأن يكون لها زناد، أو تكون لها سلسلة، وألا تكون ساعة مجردة فقط لمعرفة الزمن، يعني حتى يكون فيها معنى التحلي، ولا يكون فيها معنى الاستعمال الممنوع على الرجال والنساء في آن واحد.

المسألة الثالثة: بالنسبة للشيك المصدق، هذا الشرط هو غرض توثيقي وليس – فيما أرى – غرضا شرعيا؛ لأن مجرد إعطاء الشيك ممن لم يُعرف عنه التساهلُ أو الكذب في إصدار الشيكات، هذا يعتبر وسيلة للأداء، وكون الشيك المصدق لا يمكن الرجوع فيه، هذا صحيح بالنسبة للعملاء، ولكن بالنسبة للبنوك لها أولوية في تحصيل مستحقاتها من أرصدة العملاء مقدمة على أي سندات أو شيكات تقدم، فلو نشأ التزام لهذا البنك الذي صدر منه هذا التصديق على هذا العميل يقدم في التزامه على هذا الشيك المصدق، إذن هذا التصديق هو قرينة للتوثيق، ونشبه هذا بالعملات، فقد يتقاضى الإنسان عملات ويتبين أنها مزورة، فماذا نصنع في ذلك؟ وقديما كان يتقاضى الإنسان ذهبا ثم يتبين أنه مغشوش أو زيوف، فإذن يكفي أن يتسلم شيكا، وألا يكون هذا المصدر للشيك معروفا بتلاعبه واحتياله.

المسألة الرابعة: بالنسبة لشراء الذهب ببطاقة الائتمان، الحقيقة أن بطاقة الائتمان كما سبق في قرارات المجمع فيها تكييفات كثيرة.

الرئيس:

اتركونا من هذا؛ لأن بطاقة الائتمان لم يبتَّ فيها المجمع، فطالما لم يبت في الأصل فالفرع لن يُبتَّ فيه.

الشيخ عبد الستار:

أحببت أن أوضح أن بعض التكييفات أنها توكيل مع الكفالة، فإذا جاءت الصلاحية من الجهة التي أصدرت البطاقة صار لها قوة كبيرة.

ص: 229

المسألة الخامسة: مسألة شهادات الذهب، هذا الموضوع في الحقيقة نحن بحاجة إلى مزيد من التصوارت عن هذا الموضوع الجديد، ولا سيما بيننا عدد من المسؤولين الفنيين في المصارف الإسلامية، مثل الأستاذ نبيل نصيف، والأستاذ عبد اللطيف الجناحي، والدكتور سامي حمود، وغيرهم، فنريد مزيدا من هذه البيانات، ولا أريد أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع. شهادات الذهب ليست كما قال فضيلة الشيخ عبد الله بأن إصدارها ليس له اعتبار موجب للثقة؛ لأن هذه الشهادات تصدر من بنوك موثوقة، وعليها رقابة للبنوك المركزية، ولدى الاستفسار من الفنيين في هذا تبيّن أنه لا يمكن أن تزيد مقادير هذه الشهادات عن المقادير الموجودة فعليا في مخزن البنك، ولكن المشكلة أنه ليس هناك تعيين، فهذه السبائك أو الكتل الذهبية موجودة، ولا يعرف أن هذه لفلان أو أن هذه لفلان، وهنا أثير نقطة، وهو أنه لدينا في الفقه الإسلامي صيغة خيار التعيين، وخيار التعيين ليس كخيار الشرط يمنع التقابض ويمنع يدا بيد؛ لأن خيار التعيين البيع فيه قد انعقد، وإنما بقيت فرصة للمشتري أن يختار بين ثلاثة أشياء متكافئة في الثمن، فما المانع من أن نطبق خيار التعيين هنا ونقول: إن هذه الشهادات إذا كانت قيمتها مطابقة للموجود ولدى البنك، وكانت هناك رقابة، فإن التعامل فيها يعتبر تعاملا بمثابة القبض بالفعل (الحسي) ؟

المسالة السادسة: التي أريد أن أشير إليها وهي قضية الحوالة بالسفتجة، الحوالة في الحقيقة هناك واقعة كثيرة في البلاد التي عليها قيود في تحويل العملات، وهي أن بعض الناس يريدون أن يوصلوا عملات مختلفة عن عملة البلد إلى الخارج، فيأتون إلى تجار وليسوا بنوكا، وحتى لو أصدروا شيكات فهذه الشيكات لا يمكن تصديقها؛ لأن تصديقها سيكون من البنك في الخارج وهذا لا يمكن، إذن هذه واقعة ومحتاجة إلى البتِّ، ولذلك يمكن أن يكتفى هنا بالتمكين، بأن يكون هذا الشخص الذي سيجري عملية المصارفة بعملة أخرى قادرا على الوفاء، ويخيّر هذا الذي يعطيه المال، ويقول: تريده من عملة البلد أو من عملة أخرى في البلد الفلاني. فإذا كان قادرا فكأن الصرف قد جرى اقتضاء، ثم جرى توكيل لهذا التاجر ليوصل هذه العملية إلى البلد المقصود إيصاله إليها.

المسألة السابعة: بعض الناس ذهب إلى تحريم التعامل بالصرف من غير محترفي الصرافة، واستندوا إلى بعض المقولات لأبي حامد الغزالي وغيره، ولا نجد لهذا المستند قولا، ولكن يراد إمحاض هذا الأمر، يقولون: إن الصرف لا يجوز أن يتعامل به إلا الصراف، مع أن كثيرا من الناس يتعاملون، من أفراد الناس وآحادهم.

هذا ما أردت التنبيه إليه، والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 230

الشيخ الصديق الضرير:

بسم الله الرحمن الرحيم

في الواقع أنه كثير من النقاط التي أريد أن أتكلم فيها قد تُكُلِّم فيها من قبلي، ولذلك سأمر عليها سريعا، إلا إذا اقتضى الأمر لوقفة.

ففيما يتعلق بموضوع الذهب المصوغ هذا، أظن أن الكلام فيه قد استوفي، ورأيي أنا مع رأي الجمهور، وهو ما بسطه الشيخ صالح المرزوقي.

أما فيما يتعلق بموضوع – في بحث الشيخ عبد الله بن منيع – حكم مبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر. الشيخ عبد الله ذهب إلى الجواز ولم يفصل فيه، ورأيي أن هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل، وأوضحها بالمثال الأتي: مثلا أربعة جرامات ذهب أريد أن أبادلها بثلاثة جرامات ذهب + فضة، هذا يصدق عليه المثال، هنا لا يصح أن نقول: إنه جائز من غير تقييد، هذا ذهبٌ قُوبلَ بذهبٍ وفضةٍ، فيجب أن يطبقَ فيه حكم مبادلة الذهب بالذهب، والذهب بالفضة، لا بد من أن يكون يدا بيد، ثلاثة الجرامات ذهب هي يدا بيد، وليست بمثل، وفيما يتعلق بالفضة مع الذهب – الجرام الزائد – هذا لا بد أن يكون يدا بيد، فلا بد من هذا القيد. كذلك مثال آخر، أربعة الجرامات ذهب هذه أريد أن أبادلها بثلاثة جرامات ذهب + قمح، هنا يجب أن تكون ثلاثة الجرامات ذهب مقبوضة، لا بد أن أطبق فيها مبادلة الذهب بالذهب؛ لأنها ثلاثة جرامات تقابل ثلاثة جرامات منه، فلا بد أن تكون يدا بيد ومثلا بمثل، ويبقى بعد ذلك الجرام الزايد من الذهب مقابل القمح، وهذا لا بأس فيه.

مسألة أخرى: وهي موضوع الشيك، الشيخ عبد الله ذهب إلى أنه لا بد من أن يكون الشيك معتمدا، وأرى أنه في هذا قلب القاعدة، وهي أن الأصل في المسلمين الصلاح، فهو اعتبر كل شخص يقدم شيكا غير معتمد ليس له رصيد أو سوف يسحب رصيده، دخل على الغش في هذا، وهذا هو النادر. الأصل أن صاحب الشيك عنده رصيد وليس العكس، وهذا نظير ما لو أن شخصا باع ذهبا بذهب، وأعطاه ذهبا مغشوشا. فالشخص الذي يقدم شيكا وليس عنده رصيد مثل الشخص الذي يصارف ذهبا بذهب أو فضة بفضة مغشوشة. ثم إن هذا يضيق، كما قال الدكتور وهبة: يضيق المعاملات الأصلية، وهو أنه الذي مشت عليه الفتاوى التي صدرت أن قبض الشيك يعتبر قبضا حكميا كيفما كان الشيك، سواء كان معتمدا أو غير معتمد.

ص: 231

موضوع السفتجة، فعلا التخريج مُشكِل عدا حالتين؛ لأنه لو اعتبرناها قرضا هي في الواقع ليست بقرض، الشخص الذي يدفع للبنك كذا درهم ليحولها إلى بلد آخر لا يقرضه، وإنما كما قال الدكتور عبد الستار: هو يوكله في أن يوصلها إلى الجهة الفلانية. فيأتي عليها الإشكال أنها غير مضمونة، فلا بد أن نخرّج هذه العملية تخريجا آخر، وليس على السفتجة مطلقا، ولا على الإجارة مطلقا، فهي في الواقع فيها معنى الضمان، البنك يضمن أنه يوصل هذا المبلغ، ولا يستطيع أن يقول: إن المبلغ قد ضاع، حتى ولو ضاع بآفة سماوية، حيث إن صاحبه غير مسؤول عنه بعد تسليمه للبنك، فلا بد أن يصل إلى المكان المطلوب، فهنا الضمان موجود لا شك في ذلك، ومع ذلك البنك يأخذ أجرا، فلا نستطيع أن نقول: إنه قرض مطلق، أو إجارة مطلقة ، هو شكل جديد من العقود لا أرى به بأسا.

موضوع الشركة التي تتعامل بالذهب. صيغة السؤال: حكم شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب، وتعدُّ أكثر أصولها منه. هذا هو السؤال، وفيه أن أكثر أصول الشركة من الذهب، عملها كله من الذهب وأصولها من الذهب. ففي رأيي أن الاشتراك في هذه الشركة هو اشتراك في الذهب. السهم جزء من موجودات الشركة، وإذا كانت موجودات الشركة أكثرها ذهبا - حتى ولو لم نقل: كلها – فالعبرة بالأكثر، على عكس ما قرره الشيخ عبد الله في آخر بحثه، حيث يقول: يجوز تبعا مالا يجوز استقلالا. هذا نقبله لو كان الذهب هو التابع، لكن الظاهر الآن أن الموجودات هي التابعة؛ لأن الأصل في عمل هذه الشركة هو الذهب. فرأيي أن الاشتراك في هذه الشركة والأسهم التي فيها أنها تعامل معاملة الذهب؛ لأن هذا هو ما يملكه صاحب السهم، وشكرا.

ص: 232

الشيخ علي السالوس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، شكرا للأخوينِ الجليلين الباحثين، والإخوة الكرام الذين تحدثوا قبلي. بالنسبة لزيادة الذهب المصنوع، أعتقد أننا لسنا في حاجة إلى تكرار هذا الكلام، وأن الأدلة التي ساقها الدكتور صالح كافية وافية شافية – إن شاء الله – ولعل هذا هو الاتجاه العام.

مسألة الشيك والقبض، المجمع الموقر له فتوى سابقة خاصة بالشيك متى يعتبر قبضا، عندما بحثنا القبض وصوره المعاصرة، فليُرْجَع إلى القرار الذي أصدره المجمع من قبل.

المموه بالذهب والفضة، هو أن نفرق بين أمرين، ومسألة أنه يمكن أن ينزل ذهبا في طبقة، أو هو لون فقط بحيث لو صهر لا نجد ذهبا ولا فضة، فالذي يباح هو ذلك اللون فقط، أما إذا كان فيه طبقة من الذهب، فهو إذن لا يباح.

نقطة أخرى أريد أن أتحدث عنها وأوضح رأيي فيها، هي مسألة الصرف والحوالة، بحسب فهمي للموضوع أننا هنا أمام عقدين، صرف ثم حوالة، أو حوالة ثم صرف، وأركان الحوالة موجودة، فلو فرضنا – كما قال الدكتور صالح – أن الإنسان لو أحال لنفسه، فعناصر الحوالة غير موجودة؛ لأن هنا عناصر الحوالة موجودة، فلو فرضنا أن شخصا ذهب إلى المصرف وقال له: حول هذه الدراهم إلى دولارات في حسابي رقم كذا في مصرف كذا، المصرف هنا بمجرد أن يأخذ هذا المال، إما أن يصرفه أولا، قبل أن يقوم بالحوالة، أو أن يحال المبلغ كما هو بنفس العملة، فإذا صرفه أولا إذن أصبح عندنا عقد صرف، والصرف هذا يضاف لحساب الشخص الذي جاء بالدراهم، إذن أصبح المصرف هنا مدينا للشخص طالب الحوالة، والمصرف الآخر في البلد الآخر الذي أحيل عليه هو مدين للمصرف هنا. إذن المصرف في الإمارات هنا دائن ومدين، عناصر الحوالة، المصرف هنا دائن للمصرف في الخارج، ومدين لطالب الصرف والحوالة، المصرف في الخارج مدين – المحال عليه – الشخص الذي كان دائنا للمصرف هنا أصبح دائنا للمصرف في البلد الآخر، وهو هنا المحال. فإذن عندنا عناصر حوالة (محيل ومحال عليه) موجودة في دائن ومدين هو المصرف هنا، وفي دائن فقط كان دائنا للمصرف هنا أصبح دائنا للمصرف هناك، ومدين فقط وهو المصرف هناك، فعناصر الحوالة موجودة – حسب تصوري – الحالة الأخرى، أن تتم الحوالة أولا وعناصر الحوالة موجودة أيضا كما بينته سابقا، ثم بعد أن يحال المبلغ، الدولة هنا قد لا تسمح إلا بالعملية هناك، وعندئذ يتم الصرف هناك، فيكون عندنا عقد حوالة ثم عقد صرف، إذن التخريج كما أرى أننا أمام عقد صرف ثم عقد حوالة، أو عقد حوالة ثم عقد صرف.

هذا ما بدا لي – والله أعلم – وشكرا.

ص: 233

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، شكرا للعارضين والذين تفضلوا بإثراء هذه العروض، وإذا كان كثير ما أريد أن أبينه فقد سبقني إليه غيري، فلا أريد أن أعيد ولا أن أطيل عليكم، ولكني سأقتصر على النواحي التي أرى أنه لا بد من إتمام وتكميل لما جاء على لسان إخواني العارضين، أو على لسان إخواني المناقشين.

القضية الأولى التي أريد أن أتحدث فيها هي أن بيع أواني الذهب والفضة لا أرى وجها لمن يرى المنع؛ ذلك لأنه قد ذكر المفسرون في قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا} [المائدة: 107] ، إنما نزلت في صحابي اشترى جاما من ذهب، وكان عُظم تجارته، وأنه توفي في الطريق، وأنه لم يجد من يشهد عليه، وأن كثيرا من أموال الغنائم كانت أواني من ذهب أو فضة، وكانت تباع وتشترى، وأن هذه الأواني هي صالحة لاختزانا المال فلا يوجد، ولم أجد نصا واحدا يثبت التحريم، وغاية ما هو موجود هو حرمة استعمال الذهب للرجال، ثم التفرقة بين الساعة، بين أن تكون تتخذ للزينة، وبين أن تكون للتجارة، وهو تفريق أقرب منه للتصور لا إلى الواقع، فالساعات الذهبية بالنسبة للنساء هي جزء من حليهن حسب عرف العصر، وحسب الساعات كما تقدم وكما تصنع، فالساعة بالنسبة للمرأة سواء كانت معلقة أو تأخذها في يدها أو تلبسها في رجلها أو تلبسها على صدرها، فهي نوع من أنواع الزينة التي لها أن تتزين بها، لا أرى في ذلك ما يوجب التفرقة.

الأمر الثاني هو أنه تحدث عن دور المصرف، وأنه هل يعتبر أجيرا؟ وأنه إذا اعتبر أجيرا فكيف يضمن؟ الأجير ليس له الحق في أن يحول ما أخذه

في هذا الدور، وإنما هي نأخذها في ضمانها، ثم إنها تحول أمثالها إلى المكان المقصود، هذه الأمثال إما أن تكون من نوع العملة، وإما أن تكون من غير نوع العملة التي انقرضت فهي صرف، وبناء على ذلك فالمصرف هو وكيل، وهو كيل بأجر، ولا أرى أنه يمنع أو أنه هناك وجها للمنع في هذه الوكالات التي تقوم بها المصارف تحقيقا لتيسير التعامل بين الناس.

وقع الحديث عن المموه، والمموه من الذهب فيه خلاف واضح، وقولان لم يرجح خليل أحدهما، إذ عبارة خليل تقول: وفي المموه قولان..، وعندما يقول: في المموه قولان، أي أنه لم يظهر لأصحاب الترجيح الذين جاؤوا في عهد الترجيح أن أحد المذهبين هو أولى بالأخذ من المذهب الآخر.

تحدثنا عن شهادات الذهب، أنا أتوقف أولا: هذه الكلمة: كلمة شهادات الذهب، نحن لا نبحث في القضايا النظرية، ولكن نبحث في القضايا الواقعية كما تقع في دنيا الواقع، فشركات الذهب تشمل نوعين: تشمل شركات استخراج الذهب من معدنه، وتشمل الأنشطة التجارية في الذهب والفضة في المادة ذاتها، فإذا كنا نتحدث عن شركات الذهب التي تستخرج الذهب من معادنه، والتي تحوله وتقوم ببيعه، فهذه الشركات لا أعتقد أنه فيها شركة إسلامية تلتزم في تعاملها بحكم الإسلام، ولكنها شركات تقوم على أسس يدخل فيها كل ما يجوز في التعامل على النظام الغربي، وإذا كان هذا هو وضعها فليست القضية هي الاشتراك وأخذ أسهم في هذه الشركات؛ لأنها تتعامل في الذهب والفضة، ولكنها تجري مجرى جميع الشركات، هذا أولا. ثانيا: إذا كانت هذه الشركات إنما هي تشتري الذهب وتبيعه، أو هي تشتري الذهب ثم تأخذ الذهب كما يخرج من معدنه لتخلصه من الشوائب ثم تبيعه، فهي شركة كل أصولها أو معظمها من ذهب، وهنا يتأتى مع ما تفضل به إخواني الذين تقدموا شكر الله لهم، إن إخواني الذين تقدموني أغنوني عن بقية القضايا التي كنت أريد أن أتحدث فيها، فشكرا لهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 234

الشيخ سيد طنطاوي:

بسم الله الرحمن الرحيم،

في بحث الأخ الفاضل سماحة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع يقول: ومنها أرى من المسائل التي طرحها مجمع الفقه الإسلامي، ورغب في الإجابة عنها، مسألة شراء الإنسان الذهب بالشيك، أيعدُّ ذلك قبضا للثمن؟ وقد سبقني إلى الحديث عنها بعض الأخوة الفضلاء، أنا أرى شخصيا أنه يكتفى بقول فضيلته، واتفق مع العلماء على أن القبض أمر مردُّه إلى العُرْف والعادة، فأيّ طريقة يتم فيها الاستيلاء الكامل على العين محل العقد تعتبر قبضا، أنا أرى أن يُكتفى بذلك، ولا داعي لمسألة التصديق أو عدم التصديق؛ لأن هذه أمور شكلية، والمسألة مسألة ثقة بين المتعاملين، فإذا تمت الثقة فلا فرق بين أن يكون مصدقا عليه أو غير مصدق، وإذا لم تتم الثقة فالتصديق لن يغني شيئا، وشكرا.

ص: 235

الدكتور عبد السلام العبادي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله،

حقيقة عندما أثير هذا الموضوع كان القصد من إثارته هو دراسة الواقع الذي يتم في مجتمعاتنا، وملاحظة تكييف هذا الواقع بما ينسجم مع أحكام الشريعة، بروح تهدف إلى وضع الحلول والمعالجات لمشكلات هذا الواقع، إذا كان هناك آراء فقهية يمكن أن تبتني عليها هذه المعالجات. ومن هنا تبرز حقيقة أهمية رأي ابن القيم رحمه الله في هذا المجال؛ لأنه ينقل العملية من إطار عقد الصرف إلى عقد البيع، فيعتبر الأمر أنه إذا كانت هنالك صنعة في الذهب أو الفضة أن الأمر من قبيل بيع السلع، وبالتالي لا نخرج فقط من قضية المماثلة، إنما نخرج أيضا من قضية التقابض في المجلس، ومن هنا أحبُّ أن ألفت نظر أستاذنا الجليل الشيخ عبد الله إلى اختلافٍ واضحٍ في عبارتين حول هذا الموضوع؛ فقد أطلق العبارة الأولى ولم يشترط حتى موضوع التقابض في المجلس، بينما عاد في العبارة الأخرى واشترط موضوع التقابض، فالعبارة الأولى تقول:(وأما إذا كان أحد العوضين ثمنا غير الذهب، فلا بأس في البيع مطلقا) . وجاء تعقيبا على اشتراط للمبادلة بينهما الحلول والتقابض، مما يعني أنه لا يشترط التقابض في مجلس العقد في هذه الحالة، بينما عاد في العبارة الأخرى وأشار إلى ضرورة التقابض في مجلس العقد مستدلا بالحديث إلا إذا كان ((يدا بيد)) .

على أية حال أنا لا أريد أن أطيل في هذه النقطة؛ لأن الإخوة علقوا عليها تعليقا كافيا، لكن حقيقة يجب أن نقف طويلا عند رأي ابن القيم واستدلالاته، فإذا كان في تبني هذا الرأي وجاهة شرعية كبيرة فإن في ذلك تسهيلا كبيرا على الناس في هذا المجال. هذه قضية.

ص: 236

القضية الأخرى كتعقيب فني فقط، فيما يتعلق بالشيك المصدق، هو التزام بالدفع من البنك، وحقيقة يوجد فرق كبير بين الشيك المصدق وغير المصدق، وإن كنت أرى شخصيا في هذا المجال أنه لا مبرر لاشتراط تصديق الشيك؛ لأن احتمال استحقاق الثمن أو ظهوره زائفا أو غير ذلك لا يفسد المعاملة بهذا الاحتمال، فلنجعل الأمر مستقرا على أن هذا الإصدار للشيك يعتبر قبضا في الصرف، لكن إذا تبين بعد ذلك أنه بدون رصيد، أو تبين أن الأمر فيه إشكال معين، فإن المعاملة تفسد بهذا الاعتبار، وليس بإطلاق.

فيما يتعلق بموضوع تحويل العملات عن طريق البنوك، أريد أن أشير إلى قضية في هذا المجال تتعلق بموضوع الضمان، حقيقة نحن في موضوع ودائع البنوك بصفة عامة، ونحن نسميها ودائع، نحن نشترط على البنك الضمان ونكيف تكييفا غير معلن للناس، يعني نسمي هذه المعاملات: ودائع، ونكيف تكييفا في الراجح من أقوال علمائنا، على أن الأمر من قبيل القرض للبنك على أساس نجيز للبنك استخدام الودائع هذه في استثماراته وغير ذلك. وحتى نوجب الضمان، فموضوع التكييف الفقهي لهذه المعاملات فيه مرونة كبيرة، ويجب أن يلحظ جملة الأحكام وليس حكما واحدا. ومن هنا الذهاب إلى أنه عقد جديد، أو الذهاب إلى نوع من التكييف الذي يأخذ جملة من العقود لا عقدا واحدا، لا بد منه أمام هذا التعامل الواسع، والذي استقرت عليه حياة الناس في هذه الأيام.

فيما يتعلق بموضوع استعمال أواني الذهب والفضة، الإخوة الكرام – جزاهم الله خيرا – عالجوا هذا الموضوع معالجة واضحة، لكن أظن أننا لا بد أن نلتزم بالنصوص، والنصوص تنهى عن الاستعمال، وهنالك في أقوال كثير من فقهائنا غنية لحل إشكالات نعاني منها في واقعنا التطبيقي.

على أي حال أكتفي بهذا، وأرجو أن يأخذ هذا الأمر استحقاقه من البحث لأهميته في الواقع التطبيقي، وشكرا.

ص: 237

الشيخ محمد علي عبد الله:

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم فقهنا في الدين.

أشكر السادة مقدمي المحاضرتينِ القيمتين، وخاصة أنهم أثاروا مشكلة السفتجة، ومشكلة شهادات الذهب، وهي تستحق أن يبتَّ فيها المجمع؛ لأنها قضايا جديدة وحيوية، ومن قضايا الساعة، ولكنني أردت أن أتدخل فيما يخص الموضوعين السابقين، وخاصة كسب الأواني وغير الأواني، الثروة الآن بالنسبة للمسلمين لا تعتبر فقط الأوراق المالية وغيرها، ولكن نحتاج إلى مادة لا تتحول مع تغير الوقت، إذا كان الشخص يكسب مالا أو ذهبا فقد يستعملها كمال احتياطي للمستقبل، ولذا فإني أرى أن كسب هذه الأواني حلال؛ لأن القصد من التحريم هو استعمالها والتزين بها.

أما فيما يخص شهادات الذهب أوافق أغلبية الإخوان الذين قالوا: إنه عبارة عن الائتمان؛ لأن الشهادة تصدر إذا كان الذهب موجودا، وتعرف الشركة أن لديها رصيدا من الذهب، وهذه الشهادة تعتبر كالشيك؛ لأن الشيك المصدق عليه يعتبر مضمونا من البنك، وإذا كانت الشركات قد خالفت العقد

وبالنسبة لتصديق البنك على الشيك، فإنه يعتبر كضمان من مصدر الشيك، وبعض الإخوان قالوا: إننا لا نحتاج إلى تصديق؛ لأن القضية تعتبر قضية أمانة، هي فعلا قضية أمانة؛ لأن كل شيك يخرج من يد صاحبه يعتبر قابلا للصرف، وإلا فإنه سيعرض نفسه لعقوبات جنائية. فيما يخص أسهم شركات الذهب، في الحقيقة موافق مع الجميع على أن اقتناء هذه الأسهم

،

فيما يخص قضية السفتجة أُفضّل أن يبت في هذه القضية؛ لأنها قضية حساسة؛ لأنه في الوقت الحالي الدول الغنية والأوروبية قد قسمت العالم إلى عدة أقسام اقتصادية، بحيث إن بعض الدول الفقيرة لا تستطيع تحويل أموالها بدون ضمان.

ص: 238

الدكتور سعود الثبيتي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

وبعد:

أريد أن أتكلم في عدة نقاط، لكن سُبِقْتُ إلى الكلام فيها، وأصبح كلامي الآن تثنيةً على ما سبقت الكلمات إليه من العلماء الأفاضل.

الأمر الأول:

بيع أحد النقدين (الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة، ومع أحدهما من غير جنسه) ، ذهب سماحة الشيخ الوالد الشيخ ابن منيع إلى إجازة هذا النوع من البيع، وفي الحقيقة هذا فيه نص صحيح وصريح، وهو حديث القلادة المعروف؛ حينما باع رجل قلادة وفيها خرز بتسعة دنانير، فجاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:((لا، حتى تميز بينهما)) فهذا باطل بنص الحديث الصحيح، ولا مجال للاجتهاد فيه بعد إبطاله من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المُشرِّع الأول.

الأمر الثاني:

الذي أريد الكلام فيه هو بيع الذهب التبر بالمصوغ، بزيادة أحدهما على الآخر، لا شك أن رأيي شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم اللذين اتضحا تمام الوضوح، كانا علاجا في وقت زمني معين، وهو أن الأثمان كانت هي الذهب والفضة. ومن المعلوم ضرورة أن أحدا لن يبيع ذهبا مصوغا بذهب تبر مع التساوي بينهما في الوزن، فأوجد شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم هذا الحل مؤقتا – فيما يظهر لي – لذلك الزمان، أما اليوم ففي الحقيقة لا نحتاج إلى ذلك؛ لأن الأثمان التي تستبدل بها الأشياء أصبحت غير ذهب وفضة، ورأي الجمهور في هذا الأمر هو الواضح والراجح.

ص: 239

الأمر الثالث:

التفريق بين أنواع الشيكات المصدقة وغير المصدقة. كما تعلمون أن المجمع الفقهي في دورته السادسة قد اتخذ قرارا في هذا، وهو اعتبار قبض الشيك قبضا لمحتواه، حيث إن قبض الشيك قبض حكمي وليس بحقيقي، وأما الاحتمالات الواردة في أن هذا الشيك قد يكون غير مغطي أو قد يوقفه صاحبه بعد كتابته وقبل قبضه، فهذه احتمالات لا تنقض القاعدة العامة في الشيك، واعتباره قبضا حكميا، كما جرى بذلك العرف، وهي حالات نادرة، وقد تطرأ حتى في قبض النقود، بأن تظهر مزيفة أو غير ذلك.

الأمر الرابع:

حرمة الاستعمال، ذكر بعض المشايخ أن حرمة استعمال الأواني – أواني الذهب والفضة – لا تكون مبررا لتحريم اتخاذها، وفي الحقيقة الاتخاذ إنما حرم لأجل أنه ذريعة للاستعمال، ووسيلة من وسائل استعماله، والشيء إذا حرم اتخاذه ثم اتخذ، قد يكون ذلك وسيلة لاستعماله، ثم في أخذ اتخاذ الأواني من الذهب والفضة تعطيل لمال، والمال ينبغي أن يُستثمر ويدخل في مشاريع التنمية والاستثمار، واتخاذه في أوان أو زينة، مع ما فيه من كسر لقلوب الفقراء، وكونه وسيلة لاستعماله تعطيل للمال، وتعطيل المال نوع من الأمور التي لا ينبغي لعلماء الإسلام أن يجيزوها، أو يعينوا على اتخاذ مثل هذه الأشياء.

الأمر الخامس:

تحويل البنك واعتباره أجيرا. وردت تخوفات من بعض المشايخ أن هذا الأجير قد لا يكون ضامنا. نحن عندنا فرق بين الأجراء؛ الأجير المنفرد والأجير المشترك، الأجير المنفرد أو الخاص هذا لا يضمن، لكن البنوك بوضعها الحالي أجراء مشتركون (أجير مشترك) ، والأجير المشترك ضامن لكل ما يتلفه ولو بغير إرادته، فهذا تحويل المال من مكان إلى مكان، واعتبار البنك أجيرا، واعتبار الأجير ضامنا لا حرج فيه، ولا يعتبر هذا من باب عدم تضمين البنك في هذا؛ لأن الأجير مشترك، والأجير المشترك ضامن عند علماء الإسلام. وشكرا.

ص: 240

الدكتور محمد علي القري بن عيد:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فقد كفاني من تحدث قبلي عن الحديث عن كثير من المسائل التي كنت أريد أن أعلق عليها، كما أن الشيخ الرئيس أعفانا من الحديث عن مسألة بطاقات الائتمان وشراء الذهب بها؛ لأن هذا موضوع لم يبت فيه بعدُ من قِبَل المجمع، ولذلك فإني سأكتفي بالتعليق على مسألتين وردتا في بحث الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، حفظه الله ووفقه لكل خير.

الأولى: تتعلق بأسهم شركات الذهب، أي تلك الشركات التي يكون نشاطها الأساسي هو استخراج الذهب وبيعه، وجواز شراء هذه الأسهم والتعامل بها. والمسألة التي أريد أن أنبه إليها، هي أن أسهم هذه الشركات عند أرباب الاستثمار والخبراء، إنما هي تعدُّ من أنواع الاستثمار في المعادن الثمينة، وإن أسهمها تتغير أسعارها تبعا لتغير أسعار الذهب، ارتفاعا وانخفاضا. ولذلك فإن الرأي الذي ذكره الشيخ الضرير فيما يتعلق بأن الذهب في هذه الشركات ليس هو التابع وإنما هو المستقل، ولذلك فحكم التعامل بهذه الأسهم يجب أن يتبع هذا المستقل، أما التابع فهو ما بقي من أصول الشركة التي ليس لها قيمة كبيرة، والله أعلم.

المسألة الثانية: هي قضية أن قبض الشيك هو قبض لمحتواه، فأرى أن هذا لا يكون على إطلاقه؛ لأن الشيك إذا ضاع أو تلف في يد هذا الذي يحمله، فإن أمواله التي استحق لها لا تضيع، وإنما تبقى في البنك، يستطيع أن يحصل على هذه الأموال بطريقة أخرى، ولذلك فهذا يدل على انفصال هذا المال عن الشيك، ومن ثَمَّ فإن قبض الشيك ليس بالضرورة هو قبض لمحتواه. أما التفريق بين الشيك العادي والشيك المصدق الذي قال به فضيلة الشيخ ابن منيع فهو وجيه في نظري؛ لأن بينهما فرقا، وليس في طلب الشيك المصدق اتهام لأمانة الطرف الآخر؛ لأن الناس اعتادوا على كثير من الإجراءات التي الغرض منها التوثيق وطمأنة هذا البائع إلى قبضه لماله، ومنها الضمان والرهن، وما إلى ذلك، فلم يقل أحد إن فيها اتهاما للطرف الآخر يتعلق بالثقة فيه أو بأمانته، والثابت أن بينهما فرقا، وأن هذا الفرق له تعليق بالحكم، ولا شك أنه أكثر ما يكون فيما يتعلق بالصرف.

أردت التنبيه على هذه المسائل، وشكرا لكم.

ص: 241

الدكتور صالح المرزوقي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، تكلم أصحاب الفضيلة في مسائل، وعقبوا على كثير منها، وأود أن أجيب بإيجاز على موضوعات قليلة.

بالنسبة لمسألة تكييف الحوالة المصرفية على أنها إجارة، وما لاحظه البعض من أنها يختلي فيها مسألة الضمان، فنقول: إن بعض العلماء قالوا بأن الأجير المشترك يضمن، ولا مانع من تضمينه؛ لأن هذا يتماشى مع مقاصد الشريعة الإسلامية. وقد كيفها من قبل الشيخ أحمد إبراهيم بيك، فقال:(إن الحوالة البريدية المعروفة عندنا ليست من هذا القبيل، بل هي إجارة على إرسال النقود من بلد إلى بلد بأجر معلوم) ، فالأجير المشترك عليه الضمان عند جماعة من العلماء، وهذا هو القول الموافق لمقاصد الشريعة في حفظ الأموال، وتضمينه هو سبب وجود الثقة في هذه المعاملات، إذا ثبت أنه لم يفرط، وإذا ثبت أنه لم يفرط أو كان التلف مما لا يمكن الاحتراز منه، فلا وجه للقول بتضمينه، وبهذا يتم الجمع بين المصلحتين: مصلحة أصحاب الأموال، والأجراء، أما إذا قلنا بعدم تضمينه، فإن المفسدة التي تلحق أصحاب الأموال أعظم من المفسدة التي تلحق الأجراء في حالة القول بتضمينه. وإذا علم الأجير أنه ضامن، بعثه ذلك على التحرز وعدم التفريط، وأخذ الحيطة لنفسه، وأما مسألة تكييفها على السفتجة، فكما تعلمون جمهور العلماء يرى أن السفتجة قرض، وعرفوها بأنها قرض، والذين يحضرون إلى المصارف يحولون نقودهم لا يفكرون في القرض، ولا يتبادر إليهم أن هذا قرض.

وأما مسألة الشيك ومسألة تصديقه وما يتعلق بذلك، فأرى أن يفرق بين النوعين من الشيكات. إذا كان الشيك صادرا من مؤسسة مصرفية – أقول هذا بناء على الواقع والتجارب – فإنه يكتفى به بدون تصديق، أما إذا كان صادرا من أشخاص، فأرى أنه لا بد أن يكون مصدقا؛ لأنه غالبا عندما تصدر الشيكات من المصارف أننا لا نرى فيها خللا، أما من الأفراد فيقع بعض الشيء.

أما مسألة المبادلة بين مقدار الذهب ومقدار أقل منه مضموم إليه جنس آخر، فهذه ليس التحريم والمنع فيها على الإطلاق، وإنما إذا كانت الحلية مباحة، كأن تكون حلية للنساء، فإنه لا مانع في البيع، لكن إذا اتحد الجنس فإنه لا بد من التساوي وأخذ قول الجمهور. فقد قال الجمهور: أما بيعها بالذهب فعلى قولين:

ص: 242

القول الأول: إذا كان مع الذهب شيء غيره، فإنه لا يحل بيع ذلك الشيء بالذهب، لا بأكثر من وزنه ولا بأقل ولا بمثله، حتى يفصل الذهب وحده، فيباع مثلا بمثل، وهو مذهب المالكية والشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة، نص عليه الإمام أحمد في مواضع كثيرة، وعليه جماهير الأصحاب، وهو قول زُفَر من الحنفية، وقول ابن حزم، ومن الصحابة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى محمد بن عبد الله الشعبي، عن أبي قلابة، عن أنس قال: أتانا كتاب عمر ونحن بأرض فارس: لا تبيعوا سيوفا فيها حلقة فضة بالدرهم. وصح عن ابن عمر أنه كان لا يبيع سرجا ولا سيفا فيه فضة حتى ينزعه، ثم يبيعه وزنا بوزن.

ويستثني أصحاب هذا القول – ما عدا ابن حزم من المنع – ما إذا كان الذهب المضموم مع غيره مصنوعا صناعة يتعذر معها فصل كل منهما عن الآخر، أو أن فصلهما يؤدي إلى تخريب الصنعة، فهنا يكون المبيع قيميا، فيجوز بيعه بالذهب. قال الإمام الشافعي:(وهكذا كل صنف من هذه خلطه غيره مما يقدر على تمييزه منه، لم يجز بيع بعضه ببعض إلا خالصا) . ويستثنون أيضا ما إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره.

يعني كما ذكر أصحاب الفضيلة في الساعة التي فيها شيء من الذهب، يستثنون أيضا ما إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره، بأن كان المقصود الأعظم غير جنس ربوي، فيجوز البيع، وهو قول الإمام مالك وأحمد في المشهور عنه ـ والأصح من مذهب الشافعية، وهو مذهب الحكم بن عتيبة والحسن وإبراهيم، وقول سفيان.

أما دليل هذا الأمر فهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم – حديث القلادة – وهو وارد في صحيح مسلم وغيره، فعن فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في خيبرَ بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الذهب بالذهب وزنا بوزن)) ، وفي رواية قال:((لا تباع حتى تفصل)) رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه. فقد تضمن الحديث الشريف الأمر بفصل الذهب في القلادة عن الخرز وبيعه وحده؛ لأنه لا يجوز بيع الذهب مع غيره بذهب، حتى يفصل من ذلك الغير ويميز؛ ليعرف مقدار الذهب المتصل بغيره، لماذا؟ لاتحادهما في العلة وهي تحريم بيع الجنس بجنسه متفاضلا، ولأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، وفي هذه المسألة يجهل تساوي الذهب الذي في الساعة بالذهب الذي هو ثمن الساعة، ومثله نَهْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر بالكيل المسمى من التمر، ونهيه عن بعض الرطب خرصا والحَبّ في سنبله قبل اشتداده خرصا، كما في المزابنة والمحاقلة.

ص: 243

وأما مسألة بيع الحلي والمموّه وما إلى ذلك، فهذا تكلم فيه بعض العلماء الأفاضل، والجواب على هذا أنه إذا كان الشراء لغرض الاستعمال لغير النساء، استعمالَ الرجال، أو شراء الأواني للاستعمال أو للاقتناء بالاتخاذ، فإنَّ هذا لا يجوز؛ لأن هذا يجر إلى الاستعمال، أما إذا كان شراؤه بغرض القنية، فالأمور بمقاصدها، فهذا جائز، وأما المموّه فإنه إذا كان في مواد الأكل أو الشرب أو اللباس – موادَ الاستعمال – فأيضا تتحقق فيه العلة، علةَ الربا في هذه الأمور، هي السرف والخيلاء، وهذا متحقق، أما إذا كان المموّه في غير الأكل والشرب، المموّه في الأكل مثل الملاعق إذا مُوِّهت بالذهب، هل نقول: إنه يجوز شراؤها؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَن شربَ في إناء ذهب أو فضة، أو في شيء منهما، فإنما يجرجر في نار جهنم)) في رواية أخرى بهذا وسندها حسن. والسلام عليكم.

ص: 244

الشيخ الشيباني:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

فإني أشكر الباحثينِ على بحثيهما القيمين، وملاحظاتي لوحظت من قبلي، لكن من لاحظوها كان بينهم اختلاف، وأنا أريد أن أعطي رأيي في الموضوع، وسوف لا أطيل، إن شاء الله:

أولا: فيما يخص بيع الذهب بالذهب بزيادة، إذا كان أحدهما أجود صنعة، فإني أرى أنه لا يجوز؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في البحثين.

ثانيا: الأواني النقدية، كما أنها لا يجوز استعمالها، فإن اقتناءها لا يجوز عندي؛ لأنها إذا لم تستعمل تكون عديمة الجدوى، مع أن الإمام مالكا كان رحمه الله صرح بمنع اقتنائها، قال خليل: وحَرُم استعمال ذَكَر محلى، إلى قوله: وإناء نقد واقتناؤه، إلا امرأة.

ثالثا: الإناء المموّه فيه خلاف في المذهب المالكي، فهو إما متساوٍ وإما أن يكون الأرجح الجواز، ولكنني أرى أن الساعة تختلف عن الإناء، ولا أرى جواز لبسهما للذكر، أما المرأة فيجوز ذلك لها.

رابعا: فيما يخص الحوالة في الجنس الواحد، فإني أرى أنها كالسفتجة، قد رجح صاحب المغني الحنبلي جوازها؛ استنادا إلى الآثار الواردة في البحث، ومع أن مذهب مالك هو منع السفتجة، فإنها تجوز عنده إذا خيف على نفس المسافر، أو خيف على ماله المنقود للضرورة، وإذا كانت الحوالة بين جنسين مختلفين، كتحويل الدرهم بالريال السعودي أو الأوقية الموريتانية، فإنني أرى أن هذا بمنزلة الصرف المؤخر، إلا أن الضرورة التي روعيت في السفتجة، أرى أن تراعى في هذه المسألة؛ لأن حمل المال من بلد إلى بلد فيه خطر على المال، خصوصا عندما كثر الفساد، وأرى أن من استلم وصلا من بنك إلى بنك آخر يعتبر في نظري قبضا، والله أعلم وأحكم.

ص: 245

الشيخ عبد الله بن بيّه:

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين،

هناك مسألة ذهب الإخوان إلى أن مذهب مالك لا يجيز بيعَ الذهب بذهب مع أجرة لصنعة، في الحقيقة أن ما ذهب إليه خليل هو أن ذلك يجوز إذا كان مسافرا، وجاء إلى دار الضرب، ودفع إليها الأجرة، وشُرّاحه قالوا: لا مفهوم للمسافر، وهذا من باب الاستحسان الذي هو تخصيص للعامي بالعرف، كما هي إحدى صيغ الاستحسان الثلاث عند مالك.

الملاحظة الثانية، وأطلقها الشيخ عبد الله حفظه الله تعالى، ولم أسمع من لاحظ عليها، وهي أنه لا يجوز التجارة في الساعات إذا كانت للرجال، والذي أعرفه أن هذا من المستثنى، بمعنى أنه لا يجوز الاقتناء، ولكن التجارة بالبيع والشراء تجوز فيه؛ لأنها وسيلة لا تؤدي حتما للمتوسل إليه، والذريعة فيها تفصيلات؛ إذا كانت تؤدي حتما لا تجوز، وإذا كانت لا تؤدي حتما تجوز، وخصوصا عند الشافعية، لا يقولون بسد الذرائع، والأحناف جزئيا لا يقولون به، وهو موضوع سنصل إليه بعد.

أما مسألة بيع ذهب بذهب أقل مع سلعة، هذه المسألة يجب أن نتصورها في اشتراء سلعة، أن تأتي بدينار من ذهب لتشتري به سلعة، فالذي يبيعك السلعة يبيعك إياها بنصف دينار، ويرد إليك دينارا، وهذا هو المعروف عند الشافعية (بمد عجوة ونصف درهم) . هذا، والشافعية يقولون بحرمته، بناء على حديث القلادة المذكور، أو بناء على الأحاديث التي لا يجوز فيها الجمع بين الصرف والبيع، ولكن المالكية يجيزونه في المحقرات، وهو استحسانٌ مرة أخرى استثناءً من النص، للعرف أو للحاجة، والأحناف يجيزونه. يجب إذن الانتباه إلى مسألة الإجازة.

أما المموّه فللمالكية فيه قولان في المغشى وفي المموّه والمطبب وذي الحلقة وإناء الجوهر، قولان كما قال خليل ولم يرجح أحدهما، ولكن الصحيح هو أن الذي عليه قلادة من ذهب ليست كبيرة يجوز، وأن الذي باطنه ذهب وظاهره غير ذهب لا يجوز، وقالوا: هنا مسألة الباطن والظاهر، هذا هو الصحيح في المذهب، في قولين، خليل أطلق القولين ولم يرجح أحدهما على الآخر، ولكن الصحيح كما رجحه الشراح: الدسوقي وغيره، هو هذا التفصيل الذي ذكرته لكم.

مسألة الاشتراك في الشركة، العبرة بالأكثر، ثم أترك الأقوال الأخرى وشكرا. والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 246

الدكتور نزيه كمال حماد:

بسم الله الرحمن الرحيم،

سأتعرض فقط لنقطة بيع الذهب بالشيك، لأني أرى كلام الإخوان جزاهم الله خيرا، لا يزال يحتاج إلى شيء من التحرير أو التوفية.

القضية في أساسها أن جواز بيع الذهب بالشيك، واعتبار الشيك بمنزلة القبض الحقيقي مبناه على أن قبض الشيك هذا يترتب عليه قبض محقق لقيمته. فضيلة الشيخ ابن منيع عندما اقتصر على قضية الشيك المصدق، وجهة نظره مبنية على ذلك أنه فقط الشيك المصدق هو الشيك الذي يتحقق مستلمه من استلام مبلغه. أقول: الشيك الآن له أربع صور:

الصورة الأولى: الشيك المصرفي (الصادرة عن مصرف) مسحوب على نفس المصرف، أو مسحوب على بنك مراسل بالعملة نفسها أو بغيرها، هذا محقق الدفع، وهو أوثق أنواع الشيكات، ولذلك هو أولاها بأن يعتبر قبضه في حكم القبض الحقيقي.

الصورة الثانية: الشيك العادي المصدق – الذي تفضل بالكلام عنه الشيخ ابن منيع – أيضا يعتبر قبضا موثقا ومؤكدا؛ لذلك قبضه يعتبر بمنزلة قبض المبلغ الحقيقي، ويصح بيع الذهب به.

الصورة الثالثة: دفع الشيك الشخصي، أو الصادر من مؤسسة أو شركة أو نحوها، وليس له رصيد أصلا، هذا ينبغي أن لا يعتبر قبضا حقيقيا لمبلغه؛ لعدم وجود – موضوعيا – التغطية، لعدم وجود الرصيد. قال بعض الإخوان: إن هذا لا يمكن أن يصدر؛ لأنه يعتبر جريمة يُعاقَب عليها مُصدِرُه، والأصل الأمانة والذمة، وعدم صدور مثل ذلك، أقول: قائل هذا القول يعرف بناء على قوانين بعض الدول، ولكن بعض الدول الكبرى والعظمى تذهب مصارفها وبنوكها وقوانينها إلى أن كتابة شيك من غير رصيد لا يعتبر جريمة، ولا يعتبر مخالفة، ولا يعتبر أي شيء بتاتا، وعلى سبيل المثال دولة كندا، إذا كتبت أنت شيكا من غير رصيد لشخص يذهب للبنك، فلا يستطيع تحصيله، لا يعتبر فيها أي نوع من المخالفة، فقط يترتب عليه غرامة قدرها سبعة عشرا دولارا؛ نتيجة تكاليف ردّه، وليس أكثر من ذلك. من أجل هذا أقول: إن هذا النوع من الشيكات لو كتب، وخاصة في البلدان التي لا تعتبر ذلك جريمة ولا مخالفة، لا يعتبر قرضا حكميا، وبناء على ذلك شراء الذهب به غير سائغ.

الصورة الرابعة: أن يشتري بشيك شخصي له رصيد حقيقي، أي أنه مغطى، سواء كان هذا الشيك من شخص أو شركة أو مؤسسة أو غير ذلك – شخصًا طبيعيًا أو اعتباريًا – هذا اللون من الشيكات ينبغي أن يقبل، ولو لم يكن مصدقا؛ لأن له تغطية حقيقية، ورصيد فِعْليّ يُمكّن قابضه من تسلمه حالا دون تأجيل، فَلِمَ التعلق والقضية شكلية؟ ونقول: مصدق وغير مصدق، خاصة إذا عرفنا أن قضية الشيكات المصدقة في العالم في غاية الندرة بالنسبة للشيكات المصرفية وللشيكات الشخصية؟

وأشكركم على إتاحة الفرصة لي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 247

الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،

جلّ ما كتبت من نقاط، كفاني إخواني الحديثَ أو الخوض فيه، بقيت مسألة الشيك.

الشيك الذي ينظمه قانون، وعندما نريد أن نتحدثَ عن الشيك لا بد أن نرجع إلى القانون الذي يعالج الموضوع، جميع القوانين ارتجالية في العالم بأسره. يدور تعريف الشيك بالمعنى التالي: على أن الشيك أداة وفاء حالة. يعني بحكم البنكنوت. فإذا اختلفنا في جواز حكم القبض بالبنكنوت مزيفا أو غير مزيف، ممكن أن نختلف في الشيكات.

فالذهاب في احتمالات عدم الصرف هذا أمر قد يخرجنا من الموضوعية. موضوع مصدق أو غير مصدق، حتى لو صدق الشيك قد تذهب إلى البنك وقد أفلس فلم تقبض. يعني لو أردنا أن نضع الاحتمالات، الاحتمالات كثيرة، ولكن نأخذ الأصل، ما دام الأصل على أن الشيك أداة وفاء حالة، إذن يجب أن يصدر الحكم على هذا الموضوع، ومجمع الفقه له رأي جيد في دورته السادسة حول هذا الموضوع. بقي مسألة شهادات الذهب، هنا شهادات الذهب يجري التعامل فيها في غير دار الإسلام، وقد ترون التريث في الحكم بالجواز إلى أن تضعوا المعايير؛ لأنه صحيح هناك كثير من الشركات ملتزمة لا تصدر شهادات ذهب إلا ومقابلها هناك فعلا سبائك موجودة، ولكن حصل في الثمانينات أن أفلست شركات تتعامل بالفضة، أصدرت شهادات فضة دون أن يكون لديها فعلا في مستودعاتها كميات كافية من الفضة، فلا بد عندما نصدر مثل هذا الموضوع - والذي تختلف فيه القوانين - أن يكون لنا نحن معايير نضعها حتى نقول مثل هذه الشهادات تُقْبلُ، وشكرا لكم.

ص: 248

الشيخ عبد الله بن منيع:

بسم الله الرحمن الرحيم

،

سمعت من الإخوان الكثير من الاحتجاج

ما ذكره العلماء من الاضطراب في متنها وفي إسنادها، فأرجو التكرم بالرجوع إلى ذلك. ما يتعلق بما فضيلة أخي الكريم الدكتور صالح، من أن هيئة كبار العلماء في المملكة أصدرت قرارا في منع بيع الحلي بأكثر منه وزنا، في الواقع أنا عضو في هيئة كبار العلماء منذ إنشائها وحتى الآن، ولم يصدر قرار بذلك، وهذا من باب التصحيح. ما يتعلق بالحديث الذي تكرم به الشيخ عبد اللطيف (الذهبَ بالذهب) هذا على كل حال نحن نحفظه (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ) وكذلك معروف أنَّ الذهبَ بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، بيعوه أو بيعوها يدا بيد، فالذهبُ هنا مبتدأ، وإذا كان ورد بالنصب، فهذا له تخريج، وهو: بيعوا الذهبَ بالذهبِ، لكن القول بانتقاد الضم لعله يتكرم بالتحقيق في ذلك.

مجموعة من الأخوة حفظهم الله، تحدثوا عن اقتناء الذهب المحرم، وفرّقوا بين الاستعمال والاقتناء، أرجو ممن قال بذلك أن يحقق هذا الموضوع، فإذا كان الاستعمال ممنوعا فما فائدة الاقتناء؟ على كل حال الموضوع يحتاج إلى مزيد من التحقيق والنظر، والعبرة بالمقاصد والغايات الموصلة إليها.

كذلك - حفظكم الله - بعض الأخوة أعرضوا عن بيع أسهم شركة تتعامل بالذهب، وأُحبّ أن أذكر أن الشركات لها – في الواقع – قيم اعتبارية، وقد يكون للقيمة الاعتبارية قيمة أكثر من القيمة المادية، لهذا لو نظرنا إلى البيانات التي تصدر في الصحف عن الشركات وعن أقيامها وعن أسهمها، لوجدنا القيمة الدفترية، ووجدنا القيمة السوقية، ووجدنا القيمة السوقية قد تزيد على القيمة الدفترية بالضعف أو أكثر، فينبغي ألا يكون في اعتبارنا عدم النظر إلى هذه المسألة.

ص: 249

المسألة الأخرى الساعات الذهبية. التفرقة بين الساعات الذهبية والساعات الرجالية الذهبية. في الواقع لم نقل بأن الساعات الذهبية الخاصة للنساء محرم استعمالها أو اقتناؤها من جنس الحلي، ولا شك في ذلك، لكننا نقول: الساعات الذهبية المخصصة للرجال هذه هي التي نلحقها بالأدوات المنزلية من ذهب وفضة، ونقول بتحريمها وبتحريم اقتنائها، وإذا كان هناك من يفرق بين الاقتناء والاستعمال، فالله يجزيه خيرا، فهي فائدة نفرح بها ونغبطه على إتحافنا بها.

كذلك – حفظكم الله – ما يتعلق بالشيك المصدق وغير المصدق. في الواقع مُحِبّكم أحد قضاة محكمة التمييز في المملكة العربية السعودية، ولدينا من القضايا المالية التجارية الشيء الكثير في تخلف الشيكات غير المصدقة، وهي إما أن يكون قد سحبها ثم ذهب وأعطى البنك تعليمات على عدم اعتبارها، أو أن يكون ليس لها رصيد

إلخ.

فلها عيوب كثيرة، ولها قضايا متعددة، أما الشيكات المصدقة فقطعا لا يمكن أن يتصور أن يردَّ شيء، وأما القول بأنه قد يفلس البنك فكذلك نقول: قد تضيع نقودك وهي في جيبك. فعلى كل حال فكون أننا نحن نأتي باحتمال بعيد جدا، ونعتبره سببا من أسباب المنع، فهذا ليس صحيحا، ويمكن أن نقول: إن الشيكات التي تصدرها البنوك، فالبنوك في الغالب لها انضباط، وممكن كذلك أن نلحقها بالشيكات المصدقة، أما الشيكات التي يصدرها الأفراد أو تصدرها الشركات فهي محل نظر، وينبغي أن يكون فيه مزيد من النظر في اعتبارها، هل هي شيك ممكن أن يعتبر في قوة القبض أم لا؟ وشكر الله لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 250

د. داود علي الجفال:

بسم الله الرحمن الرحيم

،

أشكر الإخوة الباحثين والمناقشين على هذه المعلومات القيمة، ولكن أقول: قبل ثلاث سنوات وقع في يدي كتاب لأحد العلماء الألمان الذين شرح الله صدرهم للإسلام، فبعد أن كتب عن المعجزات تكلم عن الاقتصاد، وقال: إن تحريم الذهب على الرجال وعدم اكتنازه عند المسلمين دليل على عالمية هذا الدين الذي حرم هذا الذهب الأصفر بشكل خاص؛ لأن هذا المعدن الثمين هو أساس الاقتصاد العالمي من ذلك الوقت حتى الآن. فأنا أؤيد رأي الشيخ عبد الله بعدم اقتناء هذا المعدن، ووضعه في البنوك المركزية؛ ليكون غطاء للعملات المحلية في العالم الإسلامي، وشكرا.

ص: 251

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في هذا الموضوع ثمان مسائل، أو ثمان قضايا فقهية، ويدخل في تضاعيفها أربع، فيصبح مجموعها اثنتى عشرة مسألة فقهية تتعلق بتجارة الذهب، وهذه القضايا حسب المداولات التي وردت منها، أولا: أن نأخذ العنوان الذي ورد به بحث الشيخ عبد الله بن منيع وهو: بيع الفرد للذهب بالشيك المصدق أو ببطاقة الائتمان، فهو هنا مقيد بالفرد.

الأمر الثاني: أن موضوع بيع الذهب ببطاقة الائتمان، هذا أمر يحسن تنحيته؛ لأن الأصل لم يبت فيه المجمع في دورتيه السابعة والثامنة. هناك حصل خلاف في بعض المسائل لا في الحكم، ولكن في التكييف الفقهي، وهي في قضية الصرف والحوالة، الاتجاه العام على الجواز، وإنما حصل الخلاف في قضية التكييف الفقهي لها.

وكذلك في مسألة المبادلة بين ذهب وذهب مع جنس آخر. وأما مسألة بيع الذهب المشغول بذهب، فأحب أن أذكركم بعقد الاستصناع الذي سبق أن درس في هذا المجمع، وأصدر المجمع قراره في دورة مضت، فيحسن باللجنة التي ستشكل أن تنظر في هذا القرار، مع ما حصل من مداولات وبحث في هذا الموضوع، ثم إن المتاجرة بالأواني ونحوها، هذا أمر يكاد يتفق عليه المجمع على وجه الإجمال، سوى المموّه، والمموه تعرفون ماله جرم وما ليس له جرم، وأن في المذهب المالكي قولين فيه، ذكرهما خليل وقد توقف فيهما، وأخبركم أن هيئة كبار العلماء درست هذا الموضوع على ثلاث دورات متواليات، وتوقفت في هذا الموضوع، وتركته لكل مفت بذمته؛ لأنه فيه شائكة، وفيه نوع اشتباه كبير، لاسيما مع قضايا العصر وواقعاته المتكاثرة. مسألة بيع الذهب بالشيك المصدق، هذا صدر فيه قرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، فنرجو من اللجنة التي ستشكل أن تأخذ بالاعتبار الاطلاع على هذا القرار، ثم بعد ذلك سوف يكون الرأي الأخير لكم في الجلسة الختامية. هل تمثل السهم حصة شائعة في الذهب؟ الاتجاه العام إلى جواز هذه القضية، وتبقى قضية التعامل بشهادات الذهب، والاتجاه العام هو إلى عدم جوازها.

ص: 252

قد ترون مناسبا أن تؤلف اللجنة من أصحاب الفضيلة: العارض الشيخ عبد الله بن منيع، والمقرر الشيخ صالح المرزوقي، والشيخ تقي العثماني، والشيخ الصديق الضرير، والشيخ نزيه حماد، والأستاذ الجناحي. مناسب.

وبهذا ترفع الجلسة، وأود أن أذكّر أصحاب الفضيلة العارضين الذين سيعرضون الموضوعات بدءا من بيع السلم وتطبيقاته المعاصرة في الجلسة المسائية، إلى آخر الموضوعات – إن شاء الله – أن يعطي العارض خلاصة لجميع الأبحاث التي قدمت في هذا الموضوع، حتى نستغني عن أن يأخذ أحد الباحثين الكلمة، فيقرأ علينا من بحثه مرة أخرى، فتضيع المناقشات في خضم قراءة الأبحاث، وكما اتفقنا على ذلك في دورات مضت. وشكر الله لكم، والكلمة الآن لمعالي الأمين العام.

ص: 253

الأمين العام:

بسم الله الرحمن الرحيم،

حضرات أصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة:

أريد أن ألتمس منكم أن تقرؤوا المشروعين اللذين وقع توزيعهما عليكم: مشروع الموسوعة الفقهية الاقتصادية، ومشروع معلمة القواعد الفقهية، وأرجو من حضراتكم أن تتقدموا متفضلين علينا بما ترونه من اقتراحات أو إضافات، ومن لم يحصل على هذه النسخ لأنه لم يكن موجودا، فإننا سنوزعها من جديد بعد ظهر اليوم.

وشكرا لحضراتكم.

ص: 254

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم،

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 88/1/د9

بشأن (تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة)

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1- 6 إبريل 1995م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (تجارة الذهب الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة) .

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،

قرر أولا بشأن تجارة الذهب ما يلي:

أ - يجوز شراء الذهب والفضة بالشيكات المصدقة، على أن يتم التقابض بالمجلس.

ب - تأكيد ما ذهب إليه عامة الفقهاء من عدم جواز مبادلة الذهب المصوغ بذهب مصوغ أكثر مقدارا منه؛ لأنه لا عبرة في مبادلة الذهب بالذهب بالجودة أو الصياغة، لذا يرى المجمع عدم الحاجة للنظر في هذه المسألة؛ مراعاة لكون هذه المسألة لم يبق لها مجال في التطبيق العملي؛ لعدم التعامل بالعملات الذهبية بعد حلول العملات الورقية محلها، وهي إذا قوبلت بالذهب تعتبر جنسا آخر.

ص: 255

ج- تجوز المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار آخر أقل منه مضموم إليه جنس آخر، وذلك على اعتبار أن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني.

د- بما أن المسائل التالية تحتاج إلى مزيد من التصورات والبحوث الفنية والشرعية عنها، فقد أرجئ اتخاذ قرارات فيها، بعد إثبات البيانات التي يقع بها التمييز بينها وهي:

شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب أو الفضة.

تملك أو تمليك الذهب من خلال تسليم وتسلم شهادات تمثل مقادير معينة منه موجودة في خزائن مصدر الشهادات، بحيث يتمكن بها من الحصول على الذهب أو التصرف فيه متى شاء.

قرر ثانيا بشأن الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة ما يلي:

أ - الحوالات التي تقدم مبالغها بعملة ما، ويرغب طالبها تحويلها بنفس العملة جائزة شرعا، سواء أكان بدون مقابل أم بمقابل في حدود الأجر الفعلي، فإذا كانت بدون مقابل فهي من قبيل الحوالة المطلقة عند من لم يشترط مديونية المحال إليه، وهم الحنفية، وهي عند غيرهم سفتجة، وهي إعطاء شخص مالا لآخر لتوفيته للمعطي أو لوكيله في بلد آخر. وإذا كانت بمقابل فهي وكالة بأجر، وإذا كان القائمون بتنفيذ الحوالات يعملون لعموم الناس فإنهم ضامنون للمبالغ؛ جريا على تضمين الأجير المشترك.

ب - إذا كان المطلوب في الحوالة دفعها بعملة مغايرة للمبالغ المقدمة من طالبها، فإن العملية تتكون من صرف وحوالة بالمعنى المشار إليه في الفقرة (أ) ، وتجري عملية الصرف قبل التحويل، وذلك بتسليم العميل المبلغ للبنك، وتقييد البنك له في دفاتره بعد الاتفاق على سعر الصرف المثبت في المستند المسلم للعميل، ثم تجري الحوالة بالمعنى المشار إليه.

ص: 256