المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

‌السلم

وتطبيقاته المعاصرة

إعداد الشيخ حسن الجواهري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين

السلم وتطبيقاته المعاصرة

السلم بفتح السين واللام وهو مرادف للفظ السلف، هو نوع من البيع، فاستعمال صيغة البيع فيه استعمال للفظ فيما وضع له، غاية الأمر أن هذا الفرد في البيع له أحكامه الخاصة الزائدة على أحكام البيع: وقد عطف في مختصر النهاية القرض عليه، ولعل اشتراكهما لفظا فيه لاشتراكهما في أن كلا منهما إثبات مال في الذمة بمبذول في الحال. (1) .

والإيجاب فيه:

1-

إذا كان بلفظ السلم أو السلف هو أن يقول المشتري: أسلمت إليك أو أسلفتك كذا في كذا إلى أجل، فيقول المسلم إليه (البائع) : قبلت وشبهه، وهذا من مختصات بيع السلم لعدم تعقل معناهما من غير المشتري.

2-

أما إذا وقع بغير لفظ أسلمتك أو أسلفتك فيصح الإيجاب من البائع فيقول: بعتك كذا بكذا وصفته كذا إلى أجل كذا، فيقول المشتري: قبلت، ودفع الثمن في المجلس انعقد سلما لا بيعا مجردا عن كونه سلما. إذ اتضح عدم اعتبار قصد السلمية في صيرورته سلما بعد إن كان مورده متشخصا في نفسه.

فما عن بعض الشافعية من أن ذلك بيع لا سلم فلا يجب القبض في المجلس وغيره من أحكامه نظرا إلى كونه الإيجاب بلفظ البيع واضح الفساد، إذ مع كون الأولى النظر إلى المعاني، لا تنافي هنا بين اللفظ والمعنى ضرورة كون السلم نوعا من البيع، فليس في لفظ البيع ما يقتضي كونه غير سلم حتى يحتاج إلى ترجيح النظر إلى اللفظ على المعنى (2) .

3-

وكذا يقع السلم (من البائع) بلفظ: استلفت واستلمت، وتسلفت وتسلمت فيقول المشتري (المسلم) : قبلت ونحوه، فيكون الموجب هو البائع والقابل هو المشتري.

4-

كما يصح السلم بلفظ الشراء، فيقول: اشتريت منك ثوبا أو طعاما صفته كذا بهذه الدراهم إلى أجل كذا، فقال البائع: بعته منك، فهناك ينعقد هذا البيع سلما ويكون صحيحا بناء على جواز تقديم القبول على الإيجاب، كما هو الصحيح، أما لو قال البائع: قبلت، فقد يقال بصحته أيضا بناء على اختصاص السلم بجواز كون الإيجاب من المشتري والقبول من البائع.

(1) جواهر الكلام (للمحقق صاحب الجواهر النجفي) 24/267-269

(2)

جواهر الكلام (للمحقق صاحب الجواهر النجفي) 24/267-269

ص: 344

تعريف بيع السلم:

عرف عند البعض بأنه: (ابتياع مال مضمون إلى أجل معلوم بمال حاضر أو في حكمه)(1) .وهذا التعريف ينسجم مع من يقول بأن البيع هو اسم للنقل والانتقال المراد من الابتياع هنا.

والمراد من المضمون هنا هو الكلي في الذمة بقرينة إلى أجل معلوم، وبهذا يحترز عن البيع المضمون قبل القبض. وأخرج بقوله بمال حاضر أو ما في حكمه بيع النسيئة لعدم اعتبار ذلك فيها، فالمراد بالمال الحاضر هو المال الموجود المشخص في مجلس العقد، والمراد بما في حكمه:

1-

المال المقبوض قبل التفرق وإن لم يكن موجودا في مجلس العقد وهو الكلي في الذمة المدفوع قبل التفرق.

2-

أو كان موجودا بدون تشخيص ثم يشخص قبل التفرق ويقبض.

3-

أو كان الثمن دينا في ذمة البائع بناء على جواز جعله ثمنا للسلم.

وهذه وأمثالها لم تعتبر في النسيئة. وأما الأجل في السلم فهو المشهور وسيأتي تحقيق الحال فيه.

مشروعيته:

أما مشروعيته فقد دل عليها أمور:

1-

شمول العمومات القرآنية مثل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] . إذ لا إشكال في كونه بيعا عرفا فتشمله الأدلة.

2-

إجماع المسلمين على جواز هذا البيع.

3-

الروايات المتواترة التي دلت على صحته وهي كاشفة عن السنة النبوية، فمن الروايات:

أ - صحيح جميل بن دراج عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول والعرض)(2) .

ب - صحيح زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (لا بأس بالسلم من الحيوان إذا وصفت أسنانها)(3) .

ج- صحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك إلى أجل مسمى قال عليه السلام: لا بأس (إلى أن قال) : والأكسية مثل الحنطة والشعير والزعفران والغنم. (4) ، وغيرها من الروايات.

(1) شرائع الإسلام/ج2

(2)

وسائل الشيعة/ ج13 باب (1) من السلف/ ح1 و3 و4

(3)

وسائل الشيعة/ج13 باب (1) من السلف/ ح1 و3 و4

(4)

وسائل الشيعة/ ج13/ باب (1) / ح1 و3 و4

ص: 345

هل مشروعية السلم أصلية أو استثناء؟

ذهب البعض إلى أن مشروعية السلم ليست أصلية، بل إن تعامل الناس والحاجة جعل الفقه الإسلامي يميز بيع السلم، فقد ذكر السنهوري ما خلاصته: هنا نجد الفقه الإسلامي – على الوجه الذي استقر عليه في عصور التقليد – يضيق بحاجات التعامل. فقد كان الأصل الذي قام عليه عدم جواز بيع المعدوم هو فكرة الغرر. (1) ولكن سرعان ما اختفى هذا الأثر، وأصبح انعدام الشيء في ذاته هو سبب البطلان ولو لم يكن هناك غرر أو كان هناك غرر يسير.

لذلك نجد إجماع من المذاهب على أن الشيء إذ لم يكن موجودا أصلا وقت التعاقد كان العقد باطلا، حتى لو كان وجوده محققا في المستقبل.

لقد سلم الفقهاء كما رأينا، أن الشيء إذا كان موجودا في أصله دون أن يوجد كاملا – كالزرع أو الثمر الذي لم يبد صلاحه وكالزرع الذي يوجد بعضه بعد بعض – فهذا الوجود الأصلي وإن لم يكن وجودا كاملا يكفي لجواز التعاقد. أما انعدام الشيء أصلا، فقد خلطوا بينه وبين الغرر، واعتبروا أن التعامل في شيء منعدم وقت التعاقد ينطوي في ذاته على غرر يفسد العقد، ولم يميزوا بين مصير الشيء المعدوم في المستقبل، هل هو محقق الوجود فتزول الخشية من الغرر وكان ينبغي أن يصح العقد، أو هو محتمل الوجود، وعند ذلك يدخل عنصر الغرر بقدر متفاوت فيعالج القدر الذي يقتضيه.

على أن تعامل الناس والحاجة أوجدا ثغرتين في هذا المبدأ الذي جمد عليه الفقهاء، فأجاز الفقه الإسلامي بيع المعدوم في السلم والاستصناع فنبسط المبدأ ثم نستعرض الاستثناءين. ثم استند السنهوري في رأيه هذا على أقوال بعض الفقهاء كقول صاحب البدائع في عدم جواز بيع المعدوم، ونقل عن (فتح القدير) / جزء 5/ 102/:"لا خلاف في عدم جواز بيع الثمار قبل أن تظهر" وعن (الفتاوى الهندية) /3/106/: "بيع الثمار قبل الظهور لا يصلح اتفاقا". وعن (بداية المجتهد) /2/124/: (أما القسم الأول وهو بيع الثمار قبل أن تخلق فجميع العلماء مطبقون على منع ذلك، لأنه من باب النهي عن بيع ما لم يخلق أو من باب بيع السنين والمعاومة وهي بيع الشجر أعواما، إلا ما روي عن عمر بن الخطاب وابن الزبير أنهما كانا يجيزان بيع الثمار سنين) . (2) .

(1) الغرر هو عبارة عن التردد في حصول الشيء وعدمه كالطير في الهواء والسمكة في الماء وهو يختلف عن المجهول الذي معناه ما علم حصوله مع جهل صفته.

(2)

مصادر الحق في الفقه الإسلامي 3/31 – 32

ص: 346

أقول: يرد على ما ذكره السنهوري عدة أمور:

1-

إن ما ننسبه إلى الفقه الإسلامي يجب أن يكون مستخرجا من الأدلة الشرعية التي هي مصدر الفتاوى عند علماء الإسلام، فنسبة مشروعية السلم إلى الاستثناء (من عدم جواز بيع المعدوم) دعت إليه الضرورة كما صرح بذلك، استنادا إلى أقوال بعض الفقهاء غير صحيح.

2-

إن قاعدة (عدم جواز بيع المعدوم) ليس لها أصل في الشريعة (القرآن والسنة) ، نعم ورد النهي عن بيع الغرر، وهو كما يوجد في بيع بعض الأعيان المعدومة كبيع ما تحمل هذه الأمة أو هذه الشجرة يوجد في بيع بعض الأعيان الموجودة كما في بيع الحنطة جزافا وكبيع الآبق منفردا.

3-

لقد أجاز الشارع بيع المعدوم في بعض الموارد (كما سيأتي ذكر الروايات الدالة على ذلك) فكيف مع هذا ننسب إلى الفقه الإسلامي أن الأصل فيه عدم جواز بيع المعدوم؟!

4-

أجاز الشارع بيع السلم بروايات كثيرة وجعل له شروطا رفعه عن دائرة الغرر والجهالة وبيع المعدوم الغرري، فاشترط في المبيع أن يكون معلوم الجنس والنوع والصفة، وأن يكون معلوم القدر بالكيل أو الوزن أو العدّ أو الذرع وأن يكون مما يمكن أن يضبط قدره وصفته بالوصف الذي لا يفضي إلى التنازع. كما اشترط في الثمن شروطا معينة كأن يكون مقبوضا في المجلس، كما اشترط في الأجل أن لا ترقى إليه الجهالة، وغير هذه الشروط المذكورة في الروايات التي صدرت في عصر التشريع الإسلامي الأول، ومع هذا كيف يقال: إنه أجيز للضرورة على خلاف الأصل؟!

روايات جواز بيع المعدوم (الخاص) :

لقد وردت روايات كثيرة تصحح بيع المعدم، وهي تكشف عن رؤية إسلامية لصحة بيع المعدوم إذا توافرت فيه شروط خاصة تخرج عن الجهالة والغرر (الخطر) المؤدي إلى المنازعة، وإليك بعضها:

1-

صحيحة يعقوب بن شعيب قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن شراء النخل فقال: كان أبي يكره شراء النخل قبل أن يطلع ثمرة السنة، ولكن السنتين والثلاث كان يقول: إن لم يحمل في هذه السنة حمل في السنة الأخرى. قال يعقوب: وسألته عن الرجل يبتاع النخل والفاكهة قبل أن يطلع سنتين أو ثلاث سنين أو أربعا؟ قال عليه السلام: لا بأس، إنما يكره شراء سنة واحدة قبل أن يطلع مخافة الآفة حتى يستبين)(1) .

2-

صحيحة الحلبي قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن شراء النخل والكرم والثمار ثلاث سنين أو أربع سنين فقال عليه السلام: لا بأس، تقول: إن لم يخرج في هذه السنة أخرج في قابل، وإن اشتريته في سنة واحدة فلا تشتريه حتى يبلغ، وإن اشتريته ثلاث سنين قبل أن يبلغ فلا بأس. وسئل عن الرجل يشتري الثمرة المسماة في أرض. فتهلك ثمرة تلك الأرض كلها، فقال عليه السلام: قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يذكرون ذلك، فلما رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة ولم يحرمه ولكن فعل ذلك من أجل خصومتهم)(2) .

فمن هذين النصين يتبين أن بيع ثمر النخل والفواكه سنين متعددة لا بأس به، وهذا هو بيع المعدوم حالا المحقق الوجود مآلا، ولا يوجد فيه غرر، أما بيع ثمرة النخل سنة واحدة فقد كان الأصل هو الجواز كما تقول الرواية، لكن لما انتهى في بعض الموارد إلى الخصومة (وهي موارد ما إذا هلكت الثمرة قبل القبض وعدم إرجاع الثمن إلى المشتري حسب القاعدة المستفادة من الرواية القائلة:(كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه) نهاهم عنه ولم يحرمه فيكون النهي استثناء.

(1) وسائل الشيعة/ج13 /باب (1) من بيع الثمار / ح8

(2)

وسائل الشيعة/ ج13/باب (1) من بيع الثمار ح2

ص: 347

3-

صحيحة يعقوب بن شعيب قال: (قال الإمام الصادق عليه السلام إذا كان الحائط فيه ثمار مختلفة فأدرك بعضها فلا بأس ببيعها جميعا)(1) .

4-

موثقة سماعة قال: (سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها؟ فقال: لا، إلا أن يشتري معها شيئا من غير رطبة أو بقلا، فيقول: أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر بكذا وكذا، فإن لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشتري في الرطبة والبقل) . (2) .

ويتبين من هذين النصين أن بيع المعدوم لا بأس به إذ لم يكن فيه غرر (خطر) كما لو اشترى المعدوم مع الموجود وكان المشتري على علم بالحاصل، وهذا نظير بيع الآبق إذا لم يقدر على تسليمه البائع وكذا لا يتمكن أن يتسلمه المشتري؛ فإنه إذا باعه وحده فهو غير صحيح، للخطر، وأما إذا باعه مع الضميمة، فحينئذ يصح البيع، فإن حصل عليه وتسلمه المشتري فهو، وإن لم يتسلمه كان ماله في مقابل الضميمة الموجودة. وعلى هذا فيكون الميزان فيه بيع الموجود والمعدوم واحدا وهو عدم جوازهما إذا كان فيهما غرر (خطر) وجوازهما إذا زال الغرر (الخطر) . فلا أصل هناك في جواز بيع الموجود وعدم جواز بيع المعدوم.

5-

عن ثعلبة بن زيد قال: (سألت الإمام الباقر عليه السلام عن الرطبة تباع قطعتين أو ثلاث قطعات، فقال عليه السلام: (لا بأس

) (3) :

6-

عن معاوية بن ميسرة في حديث قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرطبة يبيعها هذه الجزة وكذا وكذا جزة بعدها؟ قال عليه السلام: لا بأس به ثم قال: قد كان أبي يبيع الحناء كذا وكذا خرطة)(4) . وهاتين الروايتان ظاهرتان في جواز بيع الخرطات التي توجد فيما بعد، فهي من بيع المعدوم حالا المحقق الوجود مآلا ولا غرر فيه.

(1) باب (2) من بيع الثمار/ ح1

(2)

باب (3) من بيع الثمار/ ح1

(3)

باب (4) من بيع الثمار ح1 و3

(4)

باب (4) من بيع الثمار ح1 و3

ص: 348

7-

إن أدلة عقد الإجارة كلها دليل على جواز بيع المعدوم حالا المحقق الوجود مآلا (فالإجارة هي بيع المنافع المستقبلة والمنافع ليست موجودة حالا لكنها ستوجد مستقبلا) وقد أجاز الشارع عقد الإجارة بنصوص واضحة كثيرة مع شروط تخرجها عن الغرر. (1) . ونكتفي بهذا القدر من النصوص الشرعية التي تدل على أن بيع المعدوم إذا لم يكن فيه غرر (خطر) فهو صحيح وهذا هو الأصل والقاعدة كما في بيع الموجود إذا لم يكن فيه خطر. وأما بيع المعدوم والموجود معا إذا كان فيه خطر وغرر فهو باطل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعلى هذا فالأصل والقاعدة هو عدم جواز بيع الغرر، فإذا جوزت الشريعة أو الفقهاء بيع غرر خاص يكون استثناء للأصل، أما هنا فبيع المعدوم لا يوجد أصل في عدم جوازه، بل ما تقدم من النصوص تصرح بأن الأصل فيه الجواز إذا كان بعيدا عن الغرر. وعلى هذا فسوف يكون بيع السلم على الأصل لما فيه من الشروط والقيود التي تخرجه عن كونه بيعا غرريا " فالمسلم فيه معين محقق الوجود مآلا، ومقدار معين بالكيل أو الوزن أو العدّ أو الذرع الذي يرفع الاختلاف والجهالة، والثمن معلوم يدفع مقدما، ووقت التسليم محدد أيضا بحيث لا يحتمل الزيادة والنقيصة، وأن يكون المسلم فيه موجودا حين الأجل غالبا" وعلى هذا فكيف صار جوازه استثناء وقد صرحت الشريعة بكل ذلك؟!

ثم إننا إذا تعقلنا عرفا بيع الكلي في المعين الذي هو عبارة عن بيع الكلي الموجود في الخارج الذي له أفراد خاصة يمتاز كل فرد عن الآخر بخصوصيته، لكن المعاملة حينما وردت على فرد لم تلحظ فيه هذه الخصوصية، فكان بيعا كليا في المعين ويكون تشخيص هذه الخصوصية للبائع كما قد يكون تشخيصها بيد المشتري كما إذا قال: بعت كتابا من هذه الكتب أيا شئت منها.

وتعقلنا بيع الحصة المشاعة (2) كمئة متر من ألف أو حصة من البيت مشاعة، فتحصل الشركة ولابد من التراضي في التقسيم أو القرعة.

نتعقل بيع الكلي المضمون في الذمة الموصوف بأوصاف معينة تخرجه عن كونه غرريا. وإذا تعقل هذا عرفا شمله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} فتكون مشروعيته أصلية وليست على خلاف القاعدة.

(1) راجع وسائل الشيعة/ ج13/ب1 – 35 من الإجارة توجد روايات متعددة تدل على صحة عقد الإجارة، فلا يصلح أن يقال: إن الإجارة أجازها الفقهاء استحسانا، راجع مصادر الحق في الفقه الإسلامي 3/34

(2)

الفرق بين بيع الكلي في المعين وبيع الحصة المشاعة هو ما ذكرته الروايات بأن الميت إذا ترك ماله بوصية وقد تلف منه شيء قبل القسمة فإنه يتلف على الميت والورثة بالنسبة. أما إذا كان الميت مدينا وقد تلف شيء من التركة ولم يبق إلا بقدر الدين فيتخصص الباقي للغرماء، وما الفرق بين تضرر الوصية عدم تضرر الدين إلا بسبب أن الدين كلي في المعين بينما الوصية على سبيل الإشاعة

ص: 349

شروط صحة السلم:

ذكروا أن شروط السلم ستة:

1-

ذكر الجنس (الحقيقة النوعية كالحنطة والشعير) .

2-

ذكر الوصف الرافع للجهالة: والمائز بين أفراد ذلك النوع. والضابط فيه: هو ما يختلف لأجله الثمن اختلافا لا يتسامح بمثله، فذكره لازم، والمرجع في ذلك على العرف لأنه ربما يكون أعرف من الفقيه في هذه الأمور. ولا يجب الاستقصاء في الوصف، بل يجوز الاقتصار على الوصف الذي يزيل اختلاف أثمان الأفراد الداخلة في العين. وحينما نقول بعدم وجوب الاستقصاء في الوصف، فليس معنى ذلك عدم جوازه، بل هو أمر جائز إلا في صورة ما إذا أدى إلى عزة الوجود "الممتنعة" فيبطل العقد، لأننا سنشترط كون وجود الجنس الموصوف غالبيا، ولعل دليل هذا هو أن عقد السلم هو من بيع ما ليس بموجود فإذا كان عزيز الوجود كان مؤديا إلى التنازع والفسخ، وهو مناف للمطلوب، كما أن بعضهم ذكر تعذر التسليم هنا هو المانع من صحة البيع.

3-

قبض رأس المال قبل التفرق، فإن حقيقة السلم (السلف) تعتمد على تسليم الثمن، وعلى هذا فلا يصح أن يكون الثمن كليا لم تشتغل ذمة البائع به (كالدين الذي لم يأت أجله) أما إذا كان قد حل أجله وتراضيا على كونه هو الثمن صح عقد السلم. ويصح أن يكون الثمن حوالة للبائع فقبضه من المحال عليه في المجلس وذلك لحصول قبض الثمن في مجلس العقد قبل التفرق.

ص: 350

ولكن إذا ترضيا على كون الثمن دينا على المشتري فالمشهور البطلان لكونه بيع دين بدين مثله (1) فيشمله ما روي عن رسول صلى الله عليه وسلم ((لا يباع الدين بالدين)) ولصحيح منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (سألته عن الرجل يكون له على الرجل طعام أو بقر أو غنم أو غير ذلك فأتى الطالب المطلوب يبتاع منه شيئا فقال عليه السلام: لا يبعه نسيئا وأما نقدا فليبعه بما شاء)(2) . فإن شراء الطالب من المطلوب شيئا بما له في ذمته يجعل النسيء في الرواية بمعنى السلم.

4-

تقدير المسلم فيه بالكيل أو الوزن أو الذرع أو العد (إذا كان يرتفع الغرر به) لترتفع به الجهالة. وكذا رأس المال.

5-

تعيين الأجل بما لا يحتمل الزيادة والنقيصة، أما إذا كان المثمن حالا فهو بيع لا سلم إذا وقع بلفظ البيع.

6-

أن يكون وجود المسلم فيه غالبا بحسب العادة وقت الحلول ولو كان معدوما وقت العقد، ليمكن التسليم.

ولعل هذا الشرط قد ذكر للرد على من أوجب أن يكون الجنس المبيع موجودا حال العقد إلى حال المحال كالأوزاعي والثوري وأبي حنيفة (3) .

أقول: إن ما ذكر مقدما بأن لا يكون عزيز الوجود إذا كان راجعا إلى القدرة على التسليم فهو يكفي عن هذا الشرط؛ لأنه لا يطمئن بالقدرة على التسليم إلا في معتاد الوجود، وبهذا الشرط يكون السلم قد ورد على موجود بالنوع.

(1) هذا إذا لم نقل: إن صدق الدين بالدين مخصوص بسبق الدينية، أما في السلم فيصدق الدين بالدين بعد تمام العقد.

(2)

وسائل الشيعة/ج12/ باب6 من أحكام العقود/ ح8 وهذه الرواية تكون دليلا لنا كما هي هكذا في بعض الكتب، أما بناء على ما نقله صاحب الوسائل عن نسخ التهذيب المعتبرة "أتى المطلوب الطالب" فهو في عكس المسألة

(3)

راجع جواهر الكلام 24/306

ص: 351

حكمة السلم:

إن الحكمة في بيع السلم واضحة حيث إنه يحق كثيرا من منافع المتعاقدين، فمن لم يكن لديه السيولة النقدية وعنده القدرة على إنتاج السلع والمحصولات بكميات كبيرة الشيء الكثير بعد أجل معين ويريد ضمان تصريفها فيتمكن أن يحصل على السيولة النقدية ويسلم البضاعة أو المحصول في وقته إلى المشتري، وهذا بنفسه يشجع على الإنتاج المستقبلي في الزراعة والصناعة والعمل ويسد باب عدم تصريف البضاعة وكسادها.

ثم إن المشتري يستفيد من استثمار فائض أمواله بشرائه للسلعة السلمية بسعر أرخص بكثير من قيمتها الحقيقية في وقتها وبهذا سوف يحقق أرباحا له جيدة حيث إنه إذا استلم البضاعة فإن كان بحاجة إلى المال فسوف يبيعها بربح، وإن لم يكن بحاجة إلى المال فسوف يبيعها بيعا آجلا بثمن أكبر من ثمنها الحالي، وبهذا يكون قد استثمر المال مرتين.

بيان أنواع المعاملات التي يجوز فيها السلم:

إن المعاملات التي يجوز فيها السلم كثيرة وحاصلها:

1-

بيع السلم وهو الشائع من أنواع المعاملات السلمية الذي يكون الثمن فيه هو النقد سواء كان ذهبا أو فضة أو نقودا ورقية ويكون المثمن فيه سلعة من السلع.

2-

إسلاف الأعراض في الأعراض إذا اختلفت، كما إذا أسلفه رصاصا بحنطة، وقد دل عليه إطلاق خبر وهب عن علي قال عليه السلام:(لا بأس بالسلف ما يوزن فيما يكال وما يكال فيما يوزن)(1) المنجبر بالشهرة العظيمة، ولهذا لا يصار إلى ما ذهب ابن أبي عقيل إلى عدم جواز السلم إلا بالعين والورق ولا يجوز بالمتاع، والنهي الوارد في هذا النوع يحمل على الكراهة خصوصا مع التعبير بلفظ (لا ينبغي للرجل إسلاف السمن بالزيت ولا الزيت بالسمن)(2) .

3-

إسلاف الأعراض في الأعراض إذا اتفقت ولم تكن مقدرة بالكيل أو الوزن كإسلاف الثياب في الثياب.

4-

إسلاف الأثمان في الأعراض كإسلاف النقد الذهبي أو الفضي بالحنطة. فيشتري منه نقدا إلى أجل بحنطة حالة، وهذا قد يقال له بيع النسيئة إذا كان البائع قد اشترى حنطة بنقد مؤجل إلى ستة أشهر مثلا. وفي خبر غياث عن جعفر عن أبيه عليه السلام قال:(لا بأس بالسلف في الفلوس)(3) .

5-

أما إسلاف الأثمان في الأثمان فينقسم إلى أقسام:

الأول: إسلاف الذهب بالفضة أو العكس هذا لا يجوز لأنه عبارة عن بيع الأثمان في الأثمان وقد اشترط فيه التقابض في المجلس فما لم يحصل التقابض يكون باطلا.

ولو قيل: إن التقابض قد يحصل بكون الأجل قصيرا، فمع هذا لا يجوز بيع الأثمان في الأثمان سلما وذلك للأدلة الدالة على عدم جواز الأجل في النقدين إذا بيع أحدهما بالآخر وأنه لا بد من الحلول في بيعهما والتقابض في المجلس (4) .

الثاني: إسلاف الأوراق النقدية في الأوراق النقدية من جنس واحد، فأيضا لا يجوز، لا لأجل أن التقابض شرط في النقدين:(الذهب والفضة) ولكن لا يجوز؛ لأن العرف يرى قرضية هذه المعاملة، فإذا كان ما يستحقه بعد ستة أشهر أكثر مما أعطاه الآن فهو ربا.

الثالث: إسلاف الأوراق النقدية في الأوراق النقدية من جنسين مختلفين، فهذا يجوز على قول المشهور الذي يرى عدم وجوب التقابض في الأوراق النقدية، وهناك رأي بعدم جواز ذلك لاشتراط التقابض فيها.

6-

يجوز أن يكون ما في الذمة ثمنا في السلم إذا كان حالا كما تقدم.

(1) وسائل الشيعة / ج13 باب 7 من السلف/ ح1

(2)

وسائل الشيعة/ج13/ باب 7 من السلف/ح3

(3)

وسائل الشيعة/ ج 13 باب 1 من السلف ح12

(4)

وسائل الشيعة/ ج12/ باب 2 من أبواب الصرف (الروايات)

ص: 352

7-

كما يمكن تجزئة تسليم السلم على أوقات معلومة، فقد وردت صحيحة أبي ولاد الحناط فقال:(سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل تكون له الغنم يحلبها لها ألبان كثيرة في كل يوم، ما تقول في شراء الخمسمئة رطل بكذا وكذا درهما، يأخذ في كل يوم منه أرطالا حتى يستوفي ما يشتري؟ قال عليه السلام: لا بأس بهذا ونحوه)(1) .

بيان أنواع السلع التي يجري فيها السلم:

هناك قاعدة في بيان أنواع السلع التي يجري فيها السلم وهي كل سلعة تنضبط في الوصف على وجه ترتفع الجهالة ولا يؤدي إلى عزة الوجود فيصح فيه السلم قطعا، فالميزان في صحة السلم رفع الغرر والجهالة، فيصح في جميع السلع والمعادن والحيوان والطعام والخضر والفواكه بشرط الانضباط في الوصف كما تقدم.

وقد وردت بعض الروايات التي تمنع السلم أو ترشد إليه عدم تحققه في الخارج لعدم الانضباط في ذلك الزمان كاللحم نيئه ومشويه والخبز، ففي خبر جابر (سألت الإمام الباقر عليه السلام عن السلف في اللحم فقال: لا تقربنه؛ فإنه يعطيك مرة السمين ومرة الثاوي ومرة المهزولة واشتر معاينة يدا بيد) (2) إلا أن أدوات الضبط في هذه الأيام متوفرة أكثر مما مضى من الزمان، فما دامت القاعدة هي انضباط السلعة بما يرفع الجهالة ولا يؤدي إلى الغرر وعزة الوجود فيصح السلم فيه إذا وجدت أدوات انضباطه في هذه الأيام وإن منع فيه سابقا لعدم انضباطه.

وعلى هذا المقياس فلا يجوز السلم في الجواهر واللآلئ لتعذر ضبطها بحيث ترتفع الجهالة ولا يؤدي إلى عزة الوجود، وذلك لتفاوت الأثمان مع اختلاف أوصافها بالحجم والوزن واللون، نعم هناك من الأحجار الصغيرة التي لا يتفاوت الثمن باعتبارها تفاوتا بينا، إذ هي تباع بالوزن مثلا، فيجوز فيها السلم.

هذا وقد أطلقت الروايات جواز السلم فيما ينضبط وعدم الأداء إلى عزة الوجود فقالت: لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول والعرض، ولا بأس بالحيوان إذا وصفت أسنانها (3) وكأنها اتكلت على العرف الذي يكون عارفا بأوصاف الانضباط أكثر من الفقيه أحيانا.

(1) وسائل الشيعة/ جزء 13/ باب 4 من السلم/ح 1

(2)

وسائل الشيعة/ ج12/باب 2 من السلم/ح1

(3)

وسائل الشيعة/ج12/باب 1 من السلم/ ح1- 3

ص: 353

وعلى هذا فيجوز السلم:

1-

في الخضر والفواكه وكل ما أنبتته الأرض.

2-

وفي الحيوان كله والعبيد.

3-

وفي الألبان والسموم والشحوم والأطياب.

4-

وفي الألبسة والأشربة والأدوية.

5-

ويجوز في جنسين مختلفين صفقة واحدة وغير ذلك، مع ضبطه بما تقدم.

مفهوم صفة التعيين في السلع التي يمتنع معها السلم:

لقد تقدم ذكر السلع التي يجوز فيها السلم بشرط انضباطها بما يؤدي إلى رفع الغرر وعزة الوجود. وعلى هذا فإذا كانت الصفة التي ذكرت في السلعة لتعيينها قد استقصيت فأدت إلى عزة الوجود، فيمتنع فيها السلم، وقد علل بأنه يؤدي إلى التنازع والفسخ فهو مناف للمطلوب من السلف.

وقد نقول: إن التعيين إذا أدى إلى عزة الوجود ارتفع شرط أن تكون السلعة موجودة غالبا بحسب العادة وقت الحلول، فيبطل السلم.

ومن الأمثلة على التعيين في السلع التي يمتنع معها السلم ما إذا اشترط الأجود، فإن هذا العنوان غير منضبط، إذ ما من جيد إلا ويمكن وجود أجود منه.

وكذا اشتراط الأردأ: فإن الاكتفاء (في المرتبة الثانية من الرديء، ودفع الأردأ إن وجد فقد تحققت الأفضلية، وإلا فدفع الجيد عن الرديء جائز وقبوله على المشتري لازم فيصح شرط الأردأ) لا يفيد وذلك لأن ضبط المسلم فيه (المبيع المؤجل) يعتبر على وجه يمكن الرجوع إليه عن الحاجة سواء امتنع وجوده أم لا، ومن جملة موارد الحاجة ما لو امتنع المسلم إليه من دفعه، فإن الحاكم الشرعي يتدخل في أخذه قهرا، وهو غير ممكن؛ وذلك لأن الجيد غير متعين عليه فلا يجوز لغير مالكه دفعه، وأما الرديء فما من رديء إلا ويوجد أردأ منه، فيتضح عدم الصحة في هذا العنوان.

نعم: إذا اشترط الجيد والرديء فهو أمر جائز لإمكان تحصيلهما بسهولة، فإن الواجب أقل ما يطلق عليه اسم الجيد، فإن زاد عنه زاد خيرا، وكذا الرديء، وكلما قلل الوصف فقد أحسن.

ص: 354

والخلاصة:

فكل شيء لا يمكن ضبطه بالوصف بمعنى أنه يبقى بعد بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره جهالة فاحشة مفضية إلى التنازع لا يصح فيه السلم، ولعل دليل ذلك هو أن السلم بيع، فيكون المسلم فيه مبيعا، والمبيع يحتاج إلى أن يتعين بالتعيين، فإذا كان التعيين لا يعينه كما تقدم فلا يصح فيه السلم.

الصنف الواحد والأصناف المتعددة:

هل تعد السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية (الماركات) المتعددة صنفا واحدا أم أصنافا متعددة؟

إن السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية (الماركات) المتعددة كمناديل تنظيف اليد والحليب والحبوب والأدهان والفواكه وأشباهها قد تكون على أنحاء:

النحو الأول: إذا كان تختلف من ناحية الثمن اختلافا لا يتسامح بمثله، ومعنى ذلك وجود اختلاف في خصوصيات الأفراد كالجودة والرداءة وأمثالهما، ففي هذه الصورة تعد السلعة أصنافا متعددة، كالحنطة العربية والكردية والاسترالية، فإن اختلاف الثمن مع كون العنوان واحدا يكون بملاك اختلاف خصوصيات الأفراد، وهذا يجعل الحنطة أصنافا، فإن لم يذكر في السلم صنفا واحدا معينا كانت الجهالة موجودة. وعندما يقول الفقهاء: إن المشتري أو البائع للسلم "لا يطلب في الوصف الغاية، بل يقتصر على ما يتناوله الاسم" فالمراد الاقتصار على ما يتناوله العنوان الذي يزيل اختلاف أثمان الأفراد الداخلة في العين.

النحو الثاني: إذا كانت لا تختلف من ناحية الثمن لعدم اختلاف الخصوصيات في الأفراد، ففي هذه الصورة تعد العلامات التجارية المتعددة صنفا واحدا عرفا كالذرة التي تكون من صنف واحد، ولكن مقدمات عرضها المتساوية وعرضها للأسواق تقوم به شركات متعددة ولكل واحدة منها ماركة خاصة، ففي هذه الصورة لا يوجد بين أفراد السلعة اختلاف في الخصوصيات وينبغي أن لا يكون هناك اختلاف في الثمن عرفا إلا نادرا، وبهذا فسوف تكون السلعة هذه صنفا واحدا وإن تعددت الماركات.

ص: 355

النحو الثالث: إذا كانت السلعة الواحدة ذات الماركات المتعددة لا تختلف من ناحية خصوصيات الأفراد ولكن تختلف من ناحية الثمن بسبب بعض الأمور الجانبية، مثل أن تكون هذه الشركة في مكان بعيد يوجب نقل السلعة إلى هذا أجورا إضافية، فتكون السلعة أعلى سعرا من الشركة المحلية التي تعرض السلعة نفسها في نفس البلد بدون أجر يضاف إلى تصنيعها أو عرضها، ففي هذه الصورة تكون السلعة صنفا واحدا وإن كانت ماركاتها متعددة وأثمانها مختلقة، لأن المدار في اختلاف الأثمان الذي يوجب ذكر الأوصاف هو الذي يوجب اختلاف الأوصاف بين الأفراد، أما اختلاف الأثمان هنا فهو ناتج عن أمور جانبية لا عن اختلاف الأوصاف والخصوصيات، فعلى هذا تكون الماركات المتعددة صنفا واحدا.

وكمثال على ذلك: إن الحنطة المزروعة في مكان واحد وزمان واحد تشترى من قبل شركات متعددة، فبعضها في نفس بلد الزراعة. وبعضها في بلد آخر يبعد عن بلد الزراعة بالآلاف الكيلومترات، ثم تجري عليها عمليات واحدة قبل عرضها للأسواق ثم تعرض بعد ذلك، وهنا سوف يكون ثمن الشركة المحلية للكيلو الواحد من الطحين أرخص من ثمن الشركة البعيدة إذا وصل نتاجها المطحون إلى بلد الشركة المحلية، فهنا لا يوجد اختلاف في الخصوصيات ووجد الاختلاف في الثمن، فتكون الماركات المتعددة من هذا القبيل صنفا واحدا.

النحو الرابع: إذا كانت السلعة الواحدة ذات الماركات المتعددة لا تختلف من ناحية خصوصيات الأفراد ولكنها تختلف من ناحية الثمن بسبب اختلاف عمليات ما قبل العرض في الأسواق كأن تكون السلعة الصادرة من الشركة المعينة تحمل قابلية بقائها صالحة للاستعمال أكثر من السلعة الصادرة من شركة أخرى بسبب خلط المواد المبعدة للتعفن والمبقية للسلعة على طراوتها مدة أطول من قبل الشركة الأولى دون الثانية، فهنا سوف يكون اختلاف بين السلع الصادرة من شركات مختلفة إلا أن الاختلاف ليس في نفس السلعة، إذ المفروض أن السلعة واحدة ومن مزرعة واحدة ولكن الاختلاف هو في التصنيع الذي يجعل بعض الأفراد يرغب أكثر لهذه الشركة التي صناعتها أجود من الأخرى، وعلى هذا فسوف يكون اختلاف الماركات كاختلاف الأصناف للسلعة الواحدة.

ص: 356

النحو الخامس: ما لو فرضنا (النحو الثاني والثالث) الذي يجعل الماركات المتعددة صنفا واحدا، ولكن المشتري اشترط في صفقة السلم الماركة المعينة، ولتكن الأغلى ثمنا أو الأرخص ثمنا، ولكن بهدف إرباح هذه الشركة التي له معها رابطة خاصة، فهل تعد الماركات المتعددة أصنافا متعددة فيجب على البائع أن يلتزم فيدفع ما شرط عليه، أو يجوز له أن يدفع السلعة من الماركات الأخرى؟

الجواب: إن الماركات المختلفة وإن كانت تعد صنفا واحدا، ولكن حكم هذه الصورة هو حكم السلعة ذات الأصناف المتعددة، وقد جاء هذا الحكم من قبل الشرط، فإن القاعدة القائلة:(المسلمون عند شروطهم) توجب العمل بالشرط إذا كان لهذا الشرط فائدة تعود للشارط وإن لم يكن الشرط موجبا لاختلاف الأفراد.

وبهذا التفصيل الذي تقدم اتضح أيضا أثر اختلاف العلامات التجارية في تعدد أصناف السلع المسلم فيها، فإن الماركة المعينة إذا كانت توجد في السلعة (ذات العنوان المشترك مع آلاف السلع) خصوصيات معينة تجعلها متميزة عن بقية السلع بدون هذه الميزة، فإن ذكر هذه الميزات في عقد السلم يكون لازما لرفع الجهالة والغرر، فإن فرضنا أن شركات صنع الورق أو المناديل تختلف في صناعة الورق إلى صقيل وخشن وكذا المناديل، فإن عقدنا السلم الذي يوجد في الخارج لا بد فيه من ذكر الصفة التي تميز أفراد ذلك النوع وإلا لأدى إلى الغرر المنهي عنه.

اشتراط قبض العلماء بضاعة السلم قبل بيعها والحكمة في ذلك:

عقد علماء الإسلام في هذا الموضوع بحثين:

ص: 357

البحث الأول: هل يجوز بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل؟

وقد ذكر بعض علماء الإسلام عدم الجواز، وكان دليله المدعى الإجماع المحكي إن لم يكن محصلا، فقد ذكر صاحب الجواهر الدليل فقال:(للإجماع المحكي في التنقيح وظاهر الغنية وجامع المقاصد وغيرها، وعن كشف الرموز إن لم يكن محصلا)(1) . وقد صرح بأن المنع من بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل: ليس لأجل عدم ملكية البضاعة للمشتري؛ لأن العقد هو السبب في الملك، والأجل يكون لأجل المطالبة. كما أن المنع ليس لأجل عدم القدرة على التسليم إذ إن القدرة على التسليم في البيع الآجل تكون عند الأجل (2) .

وقد ذكر في كتاب (الجواهر) فتوى نسبها إلى كتاب (الوسيلة) - لابن حمزة ظاهرا – تخالف هذا الإجماع وهي: (وإذا أراد أن يبيع المسلف ما أسلف فيه من المستسلف عند حلول الأجل أو قبله بجنس ما ابتاعه بأكثر مع الثمن الذي ابتاعه لم يجز، ومن باع بجنس غير ذلك جاز) فقد جوز بيع السلم على البائع بجنس آخر غير المسلم فيه، وذكر صاحب الجواهر أيضا مخالفة بعض متأخري المتأخرين استنادا إلى عمومات حل البيع ونحوها، لكنه تهجم عليهم بعد ذلك.

وقد ذكر عن الإمام مالك في المدونة الكبرى (4/88) الحديث عن السلم في غير الطعام فقال: (وما أسلفت فيه من العروض إلى أجل من الآجال فأردت أن تبيعه من صاحبه فلا بأس أن تبيعه منه بمثل الثمن الذي دفعته إليه أو أدنى منه قبل محل الأجل

وإن أردت أن تبيعه من غير صاحبه، فلا بأس أن تبيعه منه بما شئت بمثل الثمن أو أكثر أو أقل، أو ذهب أو ورق أو عرض من العروض أو طعام إلا أن يكون من صنفه فلا خير فيه، ولا بأس أن تبيعه – وإن لم يحل الأجل – بما يجوز

) (3) . وهذا النص جوز بيع بضاعة السلم غير الطعام على غير البائع قبل حلول الأجل بما لا يكون ربا محرم.

ولكن الشيخ صاحب (الجواهر) الذي ذكر فتوى (الوسيلة) ادعى تقدم الإجماع عليها وتأخره عنها، فبناء على حجية هذا الإجماع التعبدي الذي يكون بحساب الاحتمال كاشفا عن رأي المعصوم عليه السلام فسوف تكون النتيجة – كما هي الحق – عدم جواز بيع بضاعة السلم قبل حلول أجلها، وأظن ظنا قويا بأن المراد من منع بيع البضاعة السلمية قبل القبض الصادر من مجمع الفقه الإسلامي الموقر في دورته السابعة هو بيعها قبل حلول أجلها حيث إن المنع من بيع البضاعة السلمية قبل القبض مخصوص بالمكيل أو الموزون أو بالطعام كما سيأتي ذلك.

(1) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام (للمحقق صاحب الجواهر) 24/320

(2)

جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام (للمحقق صاحب الجواهر) 24/320

(3)

نقلنا هذا النص من بحث الدكتور علي السالوس المقدم إلى الدورة الثامنة لمجمع الفقه الإسلامي تحت عنوان: تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية/ص6

ص: 358

البحث الثاني: هل يجوز بيع بضاعة السلم بعد حلوله وقبل قبضه؟

وهذه المسألة خلافية عند علماء الإسلام نستعرضها بشيء من التفصيل والتقسيم، فنقسم البحث إلى قسمين:

القسم الأول: هل يجوز بيع بضاعة السلم بعد حلوله وقبل قبضه على غير البائع؟

القسم الثاني: هل يجوز بيع بضاعة السلم بعد حلوله وقبل قبضه على نفس البائع؟

أما القسم الأول: أقول: هناك مسألة أعم من هذه المسألة من جهة وأخص من جهة وهي مسألة: (جواز بيع المبيع قبل قبضه (سلما أو غير سلم) وعدمها) ومسألتنا الخاصة في السلم التي هي بيع البضاعة السلمية قبل قبضها، وهي من مصاديق المسألة العامة، لذا سوف نبحث عن المسألة العامة فيتضح الأمر في مسألتنا الخاصة؛ فنقول:

في هذه المسألة العامة ثلاثة اتجاهات فقهية:

الأول: يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقا (أكان المعقود عليه طعاما أم غيره وسواء كان مكيلا أو موزونا، عقارا أو منقولا) وذهب إلى هذا الاتجاه الإمام الشافعي (1) وأكثر أصحابه والإمام أحمد في رواية (2) وجمع غفير من العلماء.

الثاني: يرى جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقا، وذهب إليه بعض كعطاء أبي رباح وعثمان البتي. (3) وذهب إليه بعض الإمامية على كراهة (4) .

الثالث: تفاصيل أهمها التفصيل بين بيع المكيل والموزون قبل قبضه فهو لا يجوز إلا تولية وبين غيره فيجوز وذهب إليه مشهور فقهاء الإمامية قديما وحديثا (5) .

ولا بأس بالتنبيه إلى أن النهي الوارد هنا دال على الفساد (أي الإرشاد إلى عدم إمضاء المعاملة) فيكون معنى إذا اشتريت متاعا فيه كيل أو وزن فلا تبعه إلا بعد كيله أو وزنه هو اشتراط القبض في صحة البيع الثاني.

والذي يهمنا هنا هو ما ينساق إليه الدليل من هذه الاتجاهات الثلاثة فنقول:

(1) الأم 3/60

(2)

المغني لابن قدامة 4/121-123

(3)

المحلى لابن حزم 8/597؛ والمغني 4/220

(4)

المختصر النافع ص148

(5)

هناك تفصيل بين بيع الطعام قبل قبضه فلا يجوز وبين بيع غير الطعام قبل قبضه فهو جائز، ذهب إليه الإمام مالك كما في المشهور عنه والإمام أحمد في رواية عنه. المدونة 4/90؛ والمغني 4/120

ص: 359

البيع قبل القبض عند المذاهب الإسلامية:

كأن المسألة غير منصوصة عند غير الإمامية، فقد قال حيث ذكر: " أن أصل الخلاف يعود إلى مسألة الضمان، هل هو من ضمان البائع أم من ضمان المشتري، وهل ذلك الضمان يمنع المشتري من التصرف فيه؟ فمالك وأحمد في المشهور عنه ومن معهما قالوا: إن تمكن المشتري من قبضه فهو من ضمانه، وأن المشتري يستطيع أن يتصرف في المبيع قبل التمكن من قبضه؛ لأن ضمان البائع له لا يمنع تصرف المشتري الذي انتقلت إليه ملكية المبيع والمسلم فيه بمجرد العقد. قال ابن تيمية:(فظاهر مذهب أحمد أن جواز التصرف فيه ليس ملازما للضمان ولا مبنيا عليه، بل قد يجوز التصرف فيه حيث يكون من ضمان البائع كما ذكره في الثمرة وصنائع الإجارة وبالعكس كما في الصبرة المعينة) . بينما ربط أبو حنيفة والشافعي جواز التصرف بالضمان، فإذا لم ينتقل الضمان إلى المشتري لا يجوز له التصرف فيه حتى لا يتوالى الضمانان) (1) .

(1) راجع مجموع الفتاوى 29/5-6-509 عن تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية المشتركة د. علي القرة داغي

ص: 360

وبما أننا لا نجد أي محذور في وجود ضمانات متعددة إذا كانت السلعة عند البائع وباعها المشتري إلى مشتر ثان، وباعها المشتري الثاني إلى ثالث وهكذا، فإذا تلفت السلعة عند البائع قبل أن يسلمها فيكون المشتري الثاني ضامنا للمشتري الثالث ويكون المشتري الأول ضامنا للمشتري الثاني ويكون البائع ضامنا للمشتري الأول، فيستقر الضمان على البائع الذي تلفت السلعة عنده قبل أن يسلمها إلى المشتري الأول ولم نجد أي شاهد من أصول الشرع لمنع أن تتوالى الضمانات، ولم نشاهد حكما علق الشارع فساده على توالي الضمانات" بل قد ورد النص عند المذاهب في تجويز التصرف في المبيع قبل أن يتسلمه المشتري، فهو مع أنه مضمون على البائع يتمكن المشتري من بيعه بجنس آخر، وهو رواية ابن عمر:(كنت أبيع الإبل بالنقيع، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله رويدك، أسالك إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير. آخذ هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) (1) ،كما قد ورد عند كل المذاهب جواز التصرف في الثمرة المشتراة على النخل مع أن ضمانها إذا تلفت يكون على البائع، فما نحن فيه أيضا كذلك حتى يتصرف المشتري قبل القبض مع أن الضمان على غيره، فإذا حصل تلف حصل توالي الضمانين.

إذن تكون النتيجة العلمية بناء على الخلاف السابق هو جواز بيع السلعة المشتراة قبل قبضها لعدم ما يمنع من ذلك شرعا، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم على ما نسب إليه من ربح ما لم يضمن لا يمنع من النتيجة السابقة حيث يقال بجواز بيع ما لم يقبض بسعر اليوم، والبيع بسعر اليوم قبل القبض يكون خاليا عن الربح، فلم يربح فيما لم يضمنه.

نعم ورد النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، ولكن ذكر ابن القيم أن هذا النهي (إنما هو في الطعام المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فلا يجوز بيعه قبل قبضه)(2) .

(1) مسند أحمد / 2/82،154

(2)

عن تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية/ د. علي القره داغي

ص: 361

البيع قبل القبض عند الإمامية:

لقد وردت النصوص عند الإمامية عن أهل البيت عليهم السلام تمنع من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه، وتجيز ما سوى ذلك وإليك بعض الروايات:

1-

صحيحة منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (إذا اشتريت متاعا فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه إلا أن توليه

) (1) .

2-

صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (في الرجل يبتاع الطعام ثم يبيعه قبل أن يكال؟ قال عليه السلام: لا يصلح له ذلك)(2) .

3-

صحيحة الحلبي الأخرى قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن قوم اشتروا بزًّا فاشتركوا فيه جميعا ولم يقسموه أيصلح لأحد منهم بيع بزه قبل أن يقبضه؟ قال عليه السلام: لا بأس به، وقال: إن هذا ليس بمنزلة الطعام، إن الطعام يكال)(3) .

4-

صحيحة معاوية بن وهب قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه؟ قال عليه السلام: ما لم يكن كيلا أو وزن فلا تبعه حتى تكيله أو تزنه إلا أن توليه الذي قام عليه)(4) .

5-

صحيحة منصور بن حازم قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل اشترى بيعا ليس فيه كيل ولا وزن أله أن يبيعه مرابحة قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه؟ فقال: لا بأس بذلك ما لم يكن كيلا ولا وزنا (كما لو بيع بالمشاهدة) فإن هو قبضه فهو أبرأ لنفسه) (5) . (أي أن غير المكيل والموزون إذا قبضه ثم باعه فهو أبرأ لنفسه) .

(1) وسائل الشيعة /ج12/باب 16 من أحكام العقود ح1، و5 و10 و11

(2)

وسائل الشيعة/ج12/باب16 من أحكام العقود ح1، 5 و10 و11

(3)

وسائل الشيعة/ج12/ باب 16 من أحكام العقود ح1، و5 و10 و11

(4)

وسائل الشيعة /ج12/ باب 16 من أحكام العقود ح1، و5 و10 و11

(5)

وسائل الشيعة/ ج12/باب 16 من أحكام العقود ح18

ص: 362

6-

صحيحة علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر قال: (سألته عن رجل اشترى بيعا كيلا أو وزنا هل يصلح بيع مرابحة؟ قال عليه السلام: لا بأس، فإن سمي كيلا أو وزنا فلا يصلح بيعه حتى تكيله أو تزنه)(1) .

وظاهر هذه الروايات عدم صحة بيع المكيل والموزون قبل قبض إلا تولية، ولا فرق في هذا البيع بين كونه شخصيا أو كليا في الذمة أو في المعين.

7-

موثقة سماعة قال: (سألته عن الرجل يبيع الطعام أو الثمرة وقد كان اشتراها ولم يقبضها؟ قال عليه السلام: لا حتى يقبضها إلا أن يكون معه قوم يشاركهم فيخرجه بعضهم عن نصيبه من شركته بربح أو يوليه بعضهم فلا بأس)(2) . وهذه الرواية بالخصوص جوزت بيع الثمرة أو الطعام على غير بائعها تولية كما جوزت بيع نصف الحصة التي لم يقبضها من البائع فيشترك معه غيره.

أقول: إن هذه الروايات التي منعت من بيع المكيل أو الموزون على غير بائعه قبل القبض إلا تولية أو شركة هل هي قاعدة مستفادة من الأدلة العامة أو استثناء؟

الجواب: أن هذا استثناء على خلاف القاعدة، حيث إن المشتري للمكيل أو الموزون إذ ملك بواسطة العقد، يتمكن بيعه قبل القبض حسب القواعد العامة القائلة بتسلط الناس على أموالهم، ولكن الروايات المتقدمة منعت عن البيع في خصوص المكيل أو الموزون، فنتعبد بها ونقتصر على موردها، وموردها هو (البيع بغير التولية وغير التشريك على طرف ثالث إذا كان المبيع مكيلا أو موزونا) .

(1) وسائل الشيعة/ ج12/ باب 16 من أحكام العقود ح18 و22 و15

(2)

وسائل الشيعة/ج12/ باب 16 من أحكام العقود ح18 و22 و15

ص: 363

هل هناك حكمة من اشتراط القبض قبل البيع؟:

وللجواب عن هذا السؤال نستعرض ما يمكن أن يقال في كونه حكمة لنرى مدى صحة ذلك أو عدمه فنقول:

1-

قد ندعي أن الحكمة المتوخاة في نظر الشارع هي عدم جواز الربح بدون تحمل الخسارة، وما دامت السلعة المشتراة إذا لم يقبضها المشتري، فخسارتها على بائعها لقاعدة (إذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه) فلا يجوز للمشتري أن يربح بدون تحمل للخسارة إذا حصلت في سلعته. وكأن هذا هو الميزان العدل في المنظار الاقتصادي والشرعي القائل:(من كان له الغنم فعليه الغرم) فينبغي أن يكون من يربح إذا باع هو الذي يخسر إذا تلفت السلعة، أما هنا فإن السلعة ما دامت عند البائع وقبل قبض المشتري فخسارتها شرعا على البائع، فلا يجوز لمالكها أن يربح فيها.

ويشهد لهذه الحكمة جواز بيعها على شخص ثالث تولية.

ولكن رغم معقولية هذا القانون، لم يدل عليه أي دليل شرعي، بل نراه غير مرعي فيما إذا كان المشتري غير مكيل أو موزون كما لو كان المشترى ثوبا أو دارا، فإن المشتري يحق له أن يبيعه ويربح فيه قبل قبضه مع أن المشتري لا يخسر إذا تلف.

وكذا قد تخلف هذا القانون في موارد أخر كالثمار بعد بدو الصلاح، فإن المشتري له حق أن يبيعها وهي على الشجر، ولكن إذا أصابتها جائحة رجع على البائع، وكذا منافع الإجارة، فإن المستأجر له الحق في أن يؤجر ما استأجره ويتصرف فيه ويربح بقسم كبير منه إذا عمل فيه عملا، ولكن إذا حدث تلف في المستأجر، فيرجع على المؤجر بمقدار ما تلف.

فتبين من هذه الأحكام ومن غيرها كما سيأتي (وهو جواز بيع المكيل والموزون على بائعه بربح مع أن تلفه يكون على البائع) إن هذه الحكمة ليست هي صحيحة بالنسبة لمنع بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه.

2-

هل يمكن أن تكون الحكمة هي القدرة على التسليم؟

والجواب بالعدم إذ القدرة على التسليم قد تكون موجودة حتى مع عدم قبض المشتري كما أنها قد لا تكون موجودة حتى مع قبضه كما لو غصبت بعد القبض.

3-

هل يمكن أن تكون الحكمة هي الوقوف ضد المعاملات الوهمية التي لا قصد إليها كما هو الواقع في أسواق البورصة العالمية التي يكون القصد فيها غالبا هو انتظار تقلبات الأسعار للحصول على ربح وهو ما يسمى بالمضاربة الاقتصادية؟

ص: 364

والجواب: إن كلامنا هو في صورة القصد إلى البيع الحقيقي لإخراج كل البيوع التي لا قصد فيها إلى تسلم المثمن كما هو الجاري في البورصات العالمية التي لا يكون التسليم والتسلم فيها إلا بمقدار 1 % كما اتضح هذا عند المناقشات التي جرت في مجمع الفقه الإسلامي في دورات سابقة. بالإضافة إلى انتقاص هذا ببيع غير المكيل أو الموزون قبل قبضه كما جوزت ذلك الروايات السابقة.

4-

وقد يقال: إن الحكمة في النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه هو التيقن من حصول القصد الحقيقي للبيع فإن قبض السلعة ووضعها في المخازن يجعل المشتري في حالة من الجدية بحيث لا يشك أحد في وجود قصده الحقيقي للشراء، بينما عدم القبض لم يجعل قصده واضحا للآخرين وإن دفع الثمن حيث يتهم بأن قصده الحقيقي هو الربا، فيدفع الثمن ليشتري بأقل من القيمة مؤجلا ويبيعها قبل قبضها بعد الأجل فيكون قد دفع مائة واستلم مئة وعشرين وقد منع منه الشارع لكونه فائدة مستترة تحت البيع.

ويؤيد هذه الحكمة جواز بيع السلعة على شخص ثالث تولية (بدون ربح) .

ولكن يرد على هذه الحكمة:

1-

أنها ليست مطردة في بيع البضاعة قبل قبضها إذا لم تكن السلعة مكيلة أو موزونة بل جوزت الروايات بيعها قبل قبضها مرابحة كما سبق، وما قيل من وجود نهي عن بيع كل ما لم يقبض فهو لم يثبت (1) .

2-

إن كلامنا في القصد الحقيقي للبيع والشراء الذي قد تلازمه الخسارة أو عدم الربح، بخلاف الربا الذي هو ربح مضمون دائما من دون الدخول في المعاملات، فإذا دخل الإنسان في المعاملة التي قد تربح أو تخسر، من دون اشتراط إرجاع ماله إليه مع الزيادة فهي معاملة بعيدة عن الربا حتى وإن حصل الربح قبل القبض بواسطة البيع الحقيقي.

(1) أقول: لم يثبت وجود رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (لا تبيعن شيئا حتى تقبضه) وإنما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهي عن بيع الطعام قبل قبضه) وقال: ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام. وقد روى هذه الرواية البخاري/ كتاب البيوع/ باب بيع الطعام قبل أن يقبض 4/394 ومسلم 3/1159. وواضح أن هذه الرواية ليست كلها قد صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم، بل أن الصادر هو الفقرة الأولى وهي النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، أما الفقرة الثانية فهي من اجتهاد ابن عباس. وعلى هذا فإن صدر الرواية يقيد بالروايات الناهية عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه أو يفسر بها. أما ما لا كيل له ولا وزن فقد أجازت الروايات بيعه قبل قبض مرابحة. راجع الروايات المفصلة بين عدم جواز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه وجواز بيع ما عداهما

ص: 365

والخلاصة:

أننا لم نجد حكمة معقولة لشرط قبض المكيل أو الموزون قبل البيع، فلا بد من التعبد بالحكم مقتصرين على مورده رغم وجود روايات ترخص في بيع المكيل والموزون قبل قبضه، إلا أنها ضعيفة السند أو مطلقة للبيع تولية وغيره، فتقيدها الروايات المانعة للبيع قبل الكيل أو الوزن إلا تولية أو على سبيل الشركة ببيع نصف ما اشتراه قبل القبض مثلا.

تنبيهات: وعلى هذا سننبه على أمور:

1-

أن المبيع إذا كان غير مكيل أو غير موزون (كالمعدود والمذروع، والمشاهد) يجوز بيعه قبل قبضه (سلما أو استصناعا أو غيرهما) طبقا للقاعدة القائلة: "الناس مسلطون على أموالهم" مع ورود الرخصة في بيع هذا في نفس الروايات المانعة من بيع المكيل والموزون قبل القبض ففي ذيل صحيحتي منصور بن حازم المتقدمتين: "فإن لم يكن فيه كيل ولا وزن فبعه".

وكذا في رواية أبي حمزة عن الإمام الباقر عليه السلام قال:"سألته عن رجل اشترى متاعا ليس فيه كيل ولا وزن أيبيعه قبل أن يقبضه؟ قال عليه السلام: لا بأس"(1) . وغيرها.

2-

الثمن إذا كان مكيلا أو موزونا والمبيع عروضا فيتمكن البائع من بيع الثمن المكيل والموزون قبل قبضه طبقا للقاعدة وعدم المانع، فإن الدليل اللفظي الدال على منع بيع المكيل والموزون قبل كيله أو وزنه مختص بالمثمن فتعديته إلى الثمن تحتاج إلى دليل لفظي عام أو مطلق، أو اطمئنان بأن الملاك واحد فيهما، وبما أنه لا يوجد إطلاق ولا عموم ولا يوجد اطمئنان بالملاك فيهما حيث إن الحكم تعبدي على خلاف القاعدة، فنقتصر على موارد المنع، ونتمسك بدليل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لصحة بيع الثمن إذا كان مكيلا أو موزونا قبل قبضه.

(1) وسائل الشيعة/ ج12/باب 16 من أحكام العقود/ ح8

ص: 366

نعم: من علل عدم جواز بيع المبيع إذا كان مكيلا أو موزونا قبل القبض بضعف ملكية المشتري إذ يحتمل أن يتلف الطعام وتنحل المعاملة، فإن هذا الوجه الاستحساني موجود في الثمن الموزون أو المكيل قبل القبض.

ولكن هذا الوجه ضعيف، إذ لا يكون الملك ضعيفا قبل القبض؛ ولأن هذا الوجه يقول بعدم جواز البيع حتى تولية ولغير المكيل والموزون، ولا أحسب أن يقول بنتيجته أحد.

3-

إن الحكم بعدم جواز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه مختص بالبيع، وعلى هذا فللمشتري أن يصالح عليه قبل قبضه، وله أن يؤجره قبل قبضه إذا كانت له منفعة يستفاد منها مع بقاء العين، لصحة الصلح والإجارة قبل القبض، ومع الشك في صحة الصلح والإجارة عليه، فنتمسك بإطلاق صحة الإجارة والصلح جائز بين المسلمين.

4-

إذا اشترى مكيلا أو موزونا ومات المشتري قبل قبضه، فهل يجوز للوارث البيع قبل القبض؟ وكذا إذا اشترى ذهبا موزونا من الصائغ ثم جعله مهرا لزوجته فهل يجوز للزوجة بيع هذا الذهب قبل القبض؟

وكذا إذا ملكت المكيل والموزون بواسطة الصلح، فهل يجوز بيعه قبل قبضه؟

الجواب: إن الروايات المانعة تخاطب المشتري، فبناء عليها يجوز بيع الوارث والزوجة والمصالح، لعدم صدق عنوان المشتري عليهم، ولكن توجد صحيحة معاوية بن وهب تمنع من بيع المبيع المكيل أو الموزون قبل قبضه بدون مخاطبة المشتري، وبهذا نفهم أن مخاطبة المشتري ليس لها خصوصية، بل المنع لكل من انتقل إليه المبيع المكيل والموزون، وإليك الصحيحة: قال: سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه؟ فقال: ما لم يكن كيل أو وزن فلا تبعه حتى تكيله أو تزنه إلا أن توليه الذي قام عليه (1) .

(1) وسائل الشيعة/ ج12/ باب 16 من أحكام العقود/ح11

ص: 367

فكرة السلم الموازي:

وهي فكرة يراد بها شيئان:

1-

التخلص من (عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه) .

2-

التخلص من (عدم جواز بيع البضاعة السلمية قبل حلول الأجل) .

وهذا البحث الذي نريد أن نطرقه يفيدنا في التخلص من عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه، الذي دلت عليه الروايات المتقدمة وتعبدنا في الأخذ بها، كما يفيدنا في التخلص من عدم جواز بيع البضاعة السلمية قبل حلول أجلها الذي دل عليه الإجماع المتقدم، ولذا سوف نتكلم في الموضوع الأول ولكن البحث يسري بأكمله في الموضوع الثاني أيضا. فنقول:

بما أن النهي عن بيع المكيل والموزون قبل قبضه تعبد محض كما تقدم، فإذا أردنا أن نصل إلى نتيجة بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ولكن لا عن طريق البيع المنهي عنه، فهل هو جائز؟

الجواب: أن العلة في منع المكيل والموزون قبل قبضه لم تعرف لدينا، ولهذا يكون النهي تعبديا، فلا نتعدى إلى غير ما دل الدليل اللفظي عليه، وعلى هذا فإذا وجد طريق لا يشمله النهي وأدى إلى نفس نتيجة بيع المكيل والموزون قبل قبضه بدون البيع، فلا بأس به ويكون جائزا.

أما ما هي الوسيلة التي تخلصنا من عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه؟

الجواب: هنا وسيلتان:

الوسيلة الأولى: (الوكالة في القبض) أو فكرة السلم الموازي.

بمعنى أن المشتري للمكيل أو الموزون (إذا لم يقبضه من البائع، أو لم يحل الأجل) يتمكن أن يبيع في الذمة مكيلا أو موزونا من نفس النوع، ثم بعد تمامية بيعه يوكل المشتري (في أخذ المبيع من البائع الذي اشترى منه، ولم يقبضه أو لم يحل الأجل) بوكالة غير قابلة للعزل وقد يعكس الأمر بأن يبيع كليا في الذمة مكيلا أو موزونا، وهو يخشى من ارتفاع قيمته فيما بعد أو يريد السفر حين حلول الأجل أو قبله، فيتمكن أن يشتري مقداره سلما إلى حين الأجل وقبل قبضه أو قبل الأجل يتمكن أن يوكل المشتري في أخذه من البائع، وهذه الوكالة منجزة يكون متعلقها حلول الأجل كما في الوكالة المنجزة في الطلاق في حالة معينة أو يوم معين.

ص: 368

وهذه الطريقة لا تشملها الروايات المانعة، لأنها تمنع من العقد الثاني إذا جرى على ما جرى عليه العقد الأول (لا تبعه حتى تكيله أو تزنه) . وإذا نظرنا إلى استثناء بيع التولية نقطع بأن الممنوع هو البيع الثاني إذا جرى على ما وقع عليه البيع الأول حيث إن التولية هي (أن يبيع ما اشتراه أوّلا برأس ماله". أما هنا فلم يبع ما جرى عليه العقد الأول، بل وكل دائنه في أخذ المبيع من مدينه فهو استيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته منه.

لكن هذه الطريقة التي قلناها هنا، لا نقولها في مورد نفهم الملاك من المنع، كما إذا حلف إنسان أو نذر عدم بيع بيته وكان السبب في ذلك هو أن لا يبقى بدون مأوى هو وعائلته رغم الظروف التي يمر بها، ففي هذه) الصورة إذا باع بيتا كليا في الذمة ثم قال للمشتري: أعطيك بيتي وفاء لما في ذمتي، فإن العرف يرى أنه ممنوع من هذا العمل بواسطة حلفه أو نذره، وذلك لعلمنا بالملاك الذي دعاه للحلف أو النذر بعدم بيع داره، وهو أعم من البيع بحيث يشمل إعطاء داره وفاء لبيع بيت كلي.

ومثال أوضح لذلك: هو النهي عن بيع أمهات الأولاد في الشريعة الإسلامية، كما ورد عن علي عليه السلام، فالنهي وضعي يدل على البطلان، والملاك والغاية منه هو تحرر الأمة (أم الولد) من نصيب ولدها إذا مات سيدها، وحينئذ يرى العرف أن بيع أمة على الغير بنحو الكلي في الذمة ثم يعطي أمته وفاء عما في ذمته مشمول للنهي وذلك لأن العلة التي أوجبت الحكم عامة تشمل هذه الصورة. وهذا يختلف عما نحن فيه حيث إن العلة المانعة من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه غير معلومة لنا، فلا يكون المنع شاملا لهذه الصورة.

ص: 369

ولا إشكال في هذه الوسيلة الأولى إلا أن يكون القابض والمقبض متحدا، وهو ليس فيه أي محذور، إذ يكون قابضا بالوكالة عن المشتري الأول ومقبضا لنفسه بالأصالة. بالإضافة إلى وجود صحيحة شعيب بن يعقوب كما يرويها الصدوق (ولكن صاحب الوسائل توهم فرواها عن الحلبي) قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل

وسألته عن الرجل يكون له على الآخر أحمال من رطب أو تمر فيبعث إليه بدنانير فيقول: اشتر بهذه واستوف منه الذي لك؟ قال عليه السلام: لا بأس إذا ائتمنه) (1) . فهنا المديون الذي أعطى الدراهم إلى الدائن واشترى الدائن بها رطبا للمديون، فإذا استوفى الدائن دينه بعد الشراء فقد برئت ذمة المديون قبل قبضه، ولكن قد يقال: إن الوكالة في الشراء الموجود في الرواية هي وكالة في القبض عرفا، فحينئذ تكون الرواية دالة على استيفاء الدين بعد القبض للمكيل والموزون، لا قبل القبض. إلا أن الرواية شاملة باطلاقها لما إذا اشترى رطبا سلما ووكله في أخذه عند حلول الأجل.

ثم لا يتوهم أن هذه الطريقة فيها منع بواسطة صدر رواية شعيب المتقدمة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث جاء فيها: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل أسلفه دراهم في طعام، فلما حل طعامي عليه بعث إلى بدراهم وقال: اشتر لنفسك طعاما واستوف حقك؟ قال عليه السلام: أرى أن تولي ذلك غيرك وتقوم معه حتى تقبض الذي لك ولا تتولى أنت شراءه" وكذا موثقة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل أسلف دراهم في طعام، فحل الذي له، فأرسل إليه بدراهم فقال: اشتر طعاما واستوف حقك هل ترى به بأسا؟ قال عليه السلام: يكون معه غيره يوفيه ذلك)(2) .

وسبب عدم التوهم: هو أن النهي في هاتين الروايتين عن الشراء الذي هو مورد تهمة وسوء ظن، فإن الدائن هنا هو المشتري وقد يتهم في صورة شرائه لنفسه، فيعلم أن النهي كراهتي حيث يجوز أن يكون الدائن هو المشتري لمدينه بلا إشكال.

(1) وسائل الشيعة/ج13/باب 12 من السلف/ح1

(2)

وسائل الشيعة/ ج13/باب 12 من السلف/ح2

ص: 370

الوسيلة الثانية (الحوالة) :

كما إذا كان المشتري للسلم قد احتاج إلى المال فيبيع سلما إلى ما بعد ذلك الأجل، ثم يحول المشتري على البائع الذي باعه قبل الأجل أو قبل القبض. وكذا إذا باع سلما مكيلا أو موزونا وأراد أن يتخلص من هذا الدين لأي سبب كان، فيتمكن أن يشتري البائع سلما مماثلا ثم يحول المشتري الذي كان مدينا له على البائع الذي اشترى منه سلما. وبما أن الحوالة ليست بيعا ولا معاوضة، بل هي تعيين الدين الذي في ذمة المديون بحال في ذمة فرد آخر، وهو عقد مستقل، فلا يشملها النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه أو قبل حلول الأجل.

ويمكن الاستدلال بجواز هذه الحوالة بموثقة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل عليه كر من طعام، فاشترى كرا من رجل آخر فقال للرجل: انطلق فاستوف كرك قال عليه السلام: لا بأس به)(1) فالرواية شاملة لما إذا كان الكر في ذمة الإنسان بالشراء أو القرض، وشاملة لما إذا كان في ذمة المحيل معوض أو عوض، وشاملة لكون المبيع كليا في الذمة أو شخصيا، فتكون دليلا لما نحن فيه.

وهنا لا إشكال على هذه الوسيلة أصلا إذا كان المال المحال عليه أو به حالا ومستقرا (2) ، أي بعد الأجل وقبل القبض. أما الحوالة إذا كانت بمال غير حال أو على مال غير حال كما في الحوالة بدين السلم أو على مال السلم قبل حلول الأجل فسنتكلم عنها الآن.

(1) وسائل الشيعة/ باب 10 من السلف/ ح2

(2)

الإحالة بمال السلم كما لو أحال البائع المشتري سلما على من له عليه قرض أو أتلف مال البائع وأما الإحالة على مال السلم كما إذا أحال المشتري شخصا آخر على البائع ليأخذ مقدار السلم. كما يمكن الإحالة بمال السلم على مال السلم

ص: 371

الإشكال على الحوالة بدين السلم أو على دين السلم:

وقد استشكل البعض في هذه الحوالة بإشكالين:

الإشكال الأول: هو أن الحوالة بيع من البيوع كما عن الإمام مالك (1) وعلى هذا فلا تجوز الحوالة ببضاعة السلم قبل حلول الأجل؛ لأنها عبارة عن بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل وهو مورد المنع.

الإشكال الثاني: ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) (2) .

ولكن بما أن الجمهور والإمامية يعتقدون بأن الحوالة ليست بيعا وإنما هي عقد مستقل كما هو الصحيح فقد ارتفع الإشكال الأول.

وأما الرواية النبوية فقد يناقش في متنها فضلا عن سندها إذ لعل المراد هو النهي عن بيعه قبل الأجل لا النهي عن الحوالة على مال السلم بحيث يتمكن من أخذه في وقته وبعد الأجل. وأما من ناحية السند، فالحديث روي بثلاثة طرق في باب السلف يحول وفي باب من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره، وفي كل الإسناد عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف (3) .

الإشكال الثالث: وقد ذكر الإمام مالك إشكالا آخر في المقام، وخلاصته (اشتراط أن تكون الحوالة بدين حال)(4) أما الدين في بيع السلم إذا كان مؤجلا فهو ليس بحال فلا تجوز الحوالة.

وقد أجاب الشوكاني عن هذا الإشكال فقال: (واستقرار الدين على المحال عليه

فلا أدري لهذا الاشترط وجها لأن من عليه الدين إذا أحال على رجل يمتثل حوالته ويسلم ما أحال به كان ذلك هو المطلوب؛ لأن به يحصل المطلوب بدين المحال، ولو لم يكن في ذمة المحال عليه شيء من الدين) (5) .

(1) المدونة/ 4/34- 35

(2)

المغني 5/55

(3)

انظر ترجمة عطية في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال

(4)

المغني 5/55، وبدائع الصنائع 6/16

(5)

السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار 4/242

ص: 372

بالإضافة إلى أن الحوالة هي "تحويل ما في ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه) (1) ، فإذا كان زيد وهو الذي احتاج إلى النقد بعد شرائه البضاعة السلمية قد باع سلما إلى شخص آخر، فهو قد انشغلت ذمته بمقدار معين موصوف إلى المشتري الجديد، وبما أنه يطلب البائع الذي باعه بتلك الكمية، فيتمكن أن يحول ما في ذمته إلى ذمة البائع، فإن قبل المشتري الجديد (المستحق) وقبل المستحق عليه وهو البائع، فلا يوجد أي مانع من صحة هذه الحوالة وتنفذ عند الأجل والاستحقاق، وأي مانع في أن أقول للذي يستحق عليه المال بعد مدة: ادفع ما يستحق عليك في وقته إلى فلان الذي يطلبني قدره؟!

نعم: إن صحة الحوالة بعد عملية السلم الموازي أو صحة الوكالة كذلك منوطة بأن لا يفسخ أحد عقدي السلم المنفصلين، فإذا فسخ العقد الأول فتبطل الحوالة لأن العقد هنا هو أن يتسلم المحال له بضاعة السلم التي كنت قد اشتريتها سابقا، فإذا بطل عقد السلم الأولى فلا يستحق المشتري إلا ثمنه، فلا توجد بضاعة سلم يستحقها المشتري. كما أنه لو بطل عقد السلم الثاني فتبطل الحوالة أيضا حيث إن العقد هو أن يتسلم المشتري الثاني ما استحقه بعقد السلم الثاني من البائع الذي يستحق عليه المشتري الأول البضاعة السلمية، وبعد أن بطل عقد السلم الثاني، فإن المشتري الثاني لا يستحق إلا ثمنه فلا يستحق بضاعة على بائعه، وعلى هذا فيبقى حق المحال كما هو دون ضياع، لأن الحوالة التي هي عبارة عن براءة ذمة المحيل وانتقال المال إلى المحال له إنما يكون في صورة صحة الحوالة وعدم بطلانها أما إذا بطلت فيبقى حق المحال بحاله على ذمة المحيل. على أنه يمكن للشخص الثالث وهو المحال اشتراط عدم براءة ذمة المحيل إلا في صورة تسلمه للبضاعة؛ فإنه شرط صحيح لا يخالف كتابا ولا سنة حيث إن براءة ذمة المحيل على القول بها هي في صورة عدم وجود شرط على خلافها في صورة معينة.

(1) اللمعة الدمشقية ج4/142

ص: 373

القسم الثاني: بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على البائع.

وأما بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على البائع فقد جوزته الروايات ما لم يستلزم الربا وتفصيله يذكر في أمور:

الأمر الأول: إذا باع المشتري ما اشتراه قبل القبض (سواء كان كليا أو شخصيا) بجنس آخر على البائع فهو جائز بلا كلام وذلك لأن الروايات المانعة من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه وإن كانت مطلقة لكل بيع، إلا أن الروايات التي جوزت البيع على البائع قد أحلت هذه الصورة بشرط أن يأخذ بقدر دينه دراهم أو عروضا، فمن الروايات:

1-

صحيحة العيص بن القاسم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (سألته عن رجل أسلف رجلا دراهم بحنطة حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دوابًّا ومتاعا ورقيقا، يحل له أن يأخذ من عروض تلك بطعامه؟ قال عليه السلام: نعم، يسمي كذا وكذا بكذا وكذا صاعا)(1) .

2-

رواية الحسن بن فضال قال: (كتبت إلى الإمام أبي الحسن عليه السلام: الرجل يسلفني في الطعام فيجئ الوقت وليس عندي طعام، أعطيه بقيمته دراهم؟ قال: نعم)(2) .

3-

ما وري مرسلا عن الإمام الصادق عليه السلام في الرجل يسلم الدراهم في الطعام إلى أجل فيحل الطعام فيقول: (ليس عندي طعام ولكن انظر ما قيمته فخذ مني ثمنه، فقال عليه السلام: لا بأس)(3) .

(1) وسائل الشيعة /ج13/ باب 11 من السلف/ ح6

(2)

وسائل الشيعة / ج13/ باب 11 من السلف/ ح8

(3)

وسائل الشيعة /ج13/ باب 22 من السلف/ح 5

ص: 374

وبظني أن الشرط الذي ذكر لصحة هذه العملية وهو: (أن يأخذ بقدر دينه دراهم أو عروضا لا أكثر) هو لأجل أن لا يستغل المشتري البائع ويضغط عليه بأن يردده بين أن يدفع المتاع الذي لم يوجد وبين أن يدفع أكثر من قيمته، بل تريد الرواية أن تقول: إن البائع له حق في أن يعطي بدل المتاع الذي في ذمته ولا يوجد في الخارج لا أنه يجبر على ذلك بحيث يستغل من قبل الطرف الآخر، وعلى هذا فإن أعطى البائع من متاعه أكثر من قيمة ما عليه من الدراهم أو العروض باختياره فهو معاوضة صحيحة، يشملها (تجارة عن تراض".

الأمر الثاني: إذا باع المشتري ما اشتراه قبل القبض بجنس ما اشتراه على البائع، وهنا روايتين ضعيفتين (1) تجوزان ذلك بشرط أن يكون بقدر الثمن الأولي لا أكثر. ولكن الروايات المتقدمة في الأمر الأول أجازت البيع بجنس الثمن الأولي مطلقا (أي سواء كان بقدر الثمن الأولي أو بزيادة عنه أو نقيصة) ولذلك فقد اختلفت أقوال العلماء. ولكن بما أن الروايتين ضعيفتين فنصير إلى روايات الجواز، بالإضافة إلى أن الأصل الأولي القائل بأن المشتري عندما ملك بيع السلم، فهو حر في بيعه بعد بجنس الثمن الأولي أو بزيادة أو بنقيصة؛ لأنه يبيع المبيع ولا يبيع الثمن حتى يشترط أن يكون بقدر دراهمه لا أكثر، وحينئذ يشمله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] .

الأمر الثالث: إذا باع المشتري المسلم فيه بنفس جنس المسلم فيه فلا يجوز بزيادة أو نقيصة لأنه ربا حيث اشترطت الروايات في بيع المتجانسين إذا كان من المكيل أو الموزون التساوي.

آراء بقية المذاهب في بيع المكيل والموزون قبل قبضه

وقد ذهب العلامة ابن القيم إلى جواز بيع الطعام قبل قبضه على بائعه بدليل آخر، فقال: (وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه فهذا إنما هو في المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فإنه لا يجوز قبل قبضه، أما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة، فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضا أو غيره أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفي دينه لأن بدله يقوم مقامه، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال.

والبيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهذا لم يملكه شيئا، بل سقط الدين من ذمته، ولهذا لو وفاه في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها فإنه بيع.

ففي الأعيان: إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين من غير جنسها يسمى بيعا.

وفي الدين: إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعا، فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة. ولو حلف ليقضينه حقه غدا، فأعطاه عنه عرضا برًّا في أصح الوجهين) (2) .

وقد ارتأى هذا الرأي الإمام مالك أيضا فقد جاء في المدونة: (قلت: فإن كنت أسلفت في شعير فلما حل الأجل أخذت سمراء أو عمولة؟ قال: لا بأس بذلك وهو قول مالك

ثم ذكر أن هذا إنما يجوز بعد محل الأجل أن يبيعه من صاحبه الذي عليه السلف ولا يجوز أن يبيعه من غير صاحبه الذي عليه السلم

حتى يقبضه من الذي عليه السلف

) (3) .

(1) إحداهما خبر علي بن جعفر قال: (سألته عن رجل له على آخر تمر أو شعير أو حنطة أيأخذ بقيمته دراهم؟ قال: إذا قومه دراهم فسد؛ لأن الأصل الذي يشتري به دراهم فلا يصلح دراهم بدراهم

) باب 11 من السلف ح12

(2)

عن القره داغي/ تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية المشتركة/ ص66

(3)

المدونة 4/34 – 35

ص: 375

وكذا ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد، فقد جاء في مجموع الفتاوى: (سئل رضي الله عنه عن رجل أسلف خمسين درهما في رطل من حرير إلى أجل معلوم، ثم جاء الأجل فتعذر الحرير، فهل يجوز أن يأخذ قيمة الحرير؟ أو يأخذ عوضه أو شيء كان؟ فأجاب: هذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد: أحدهما لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره كقول الشافعي.

والقول الثاني: يجوز ذلك كما يجوز في غير دين السلم وفي المبيع من الأعيان

) (1) .

وقد استدل على ما نحن فيه بالحديث الذي يرويه ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنت أبيع الإبل بالنقيع – بالنون سوق بالمدينة وبالباء مقبرتها – فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله رويدك، أسألك إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير آخذ هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) (2) .

وهذا الحديث وإن كان في جواز الاعتياض عن الثمن بغيره مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينقل إلى ضمان البائع، إلا أنه استدل به على جواز بيع المثمن الذي هو بيد البائع بغيره مع أنه مضمون على البائع لم ينقل إلى ضمان المشتري (3) .

ثم إن ابن عباس الذي لم يجوز بيع المبيع قبل قبضه مطلقا، أجاز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح حتى إنه لم يفرق بين الطعام وغيره ولا بين المكيل والموزون وغيرهما، وقد وجه بقولهم:(لأن البيع هنا من البائع الذي هو عليه وهو الذي يقبضه من نفسه لنفسه، بل ليس هنا قبض، لكن يسقط عنه ما في ذمته فلا فائدة في أخذه منه ثم إعادته إليه)(4) .

(1) مجموع الفتاوى 19/503 – 518

(2)

رواه أحمد في مسنده – 2/82 – 154

(3)

راجع مجموع الفتاوى 29/ 510

(4)

مجموع الفتاوى 29/ 514

ص: 376

خلاصة القسم الثاني: هو جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه على بائعه وبهذا يكون التفصيل المتقدم متجها وهو:

1-

بيع المكيل والموزون قبل قبضه على شخص ثالث فهو لا يجوز (وهذا نتيجة البحث الأول) .

2-

بيع المكيل والموزون قبل قبضه على البائع فهو جائز (وهذا نتيجة البحث الثاني) .

ولكن الشيخ صاحب الجواهر - قُدِّسَ سِرُّهُ - ذكر في الرياض أنه لا قائل (من الطائفة الإمامية) بالفرق بين البيع على شخص ثالث أو على البائع (1) . وحينئذ إن تم هذا فيكون بيع المكيل والموزون قبل قبضه (على بائعه أو على شخص ثالث) قد نهي عنه حسب روايات البحث الأول وقد جوز حسب روايات البحث الثاني، وحينئذ فتطبق القاعدة القائلة بأن الروايات المجوزة هي صريحة في الجواز، أما الروايات الناهية فهي ظاهرة في البطلان أو الحرمة فنحملها على الكراهة أو الإرشاد إلى أن البيع قبل القبض قد تحدث منه خلافات يكون الأولى تجنبها.

ويؤيد هذه النتيجة:

1-

عدم وجود علة أو حكمة لمنع بيع المكيل والموزون قبل قبضه وجواز بيع غيرهما قبل القبض.

2-

والوسيلتان اللتان ذكرتهما الروايات للوصول إلى نفس نتيجة بيع المكيل والموزون قبل قبضه، إذ لا معنى للمنع من بيع المكيل والموزون قبل قبضه وتجويزه بطريقة ملتوية عن طريق الحوالة أو الوكالة، فإن الفهم العرفي يرى التنافي في هذه الطريقة.

3-

تعبير بعض الروايات بأن البيع للمكيل أو الموزون قبل قبضه بلفظ (لا يعجبني)(2) .

ولكن الحق: أن الأدلة دلت على التفصيل بين بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على بائعه فأجازته وعلى غير بائعه فلم تجزه إلا تولية أو أن يشاركه معه غيره، وأما ما ذكر من عدم الفرق بين علماء الإمامية فهو لم يثبت، فيكون التفصيل متجها.

(1) راجع جواهر الكلام / ج24/321

(2)

وسائل الشيعة/ ج12: باب 16 من أحكام العقود/ ح16

ص: 377

النتيجة من البحث السابق:

1-

إذا اشترى مكيلا أو موزونا سلما وحل الأجل، فلا يتمكن أن يبيعه على شخص ثالث قبل القبض، أما بيعه على البائع بجنس آخر غير ثمن السلم أو بجنس ثمن السلم بزيادة عليه أو نقيصة فهو أمر جائز.

2-

إذا أراد بيع المال المسلم فيه بجنسه فلا يجوز أن يبيعه بزيادة أو نقيصة لأنه ربا.

3-

بيع المسلم فيه إذا لم يكن مكيلا أو موزونا قبل قبضه فهو أمر جائز، للعمومات الدالة على صحة البيع مثل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} والراويات الخاصة المصرحة بذلك وقد تقدمت.

4-

بيع المسلم فيه قبل حلول الأجل فهو غير جائز.

ملاحظة: إن ما يجري في البورصات العالمية من شراء الرصاص أو الذهب أو المتاع أو غيرها التي يكون القصد فيها ليس هو البيع والشراء الحقيقي، بل الانتفاع من تقلبات الأسعار للحصول على ربح، لا يمكن أن نطبق عليها حصيلة البحث السابق، لعدم وجود قصد حقيقي للحصول على السلع عند البائع والمشتري، بل إن المقصود هو المقامرة والاستفادة من تقلبات الأسعار ويكون لفظ المتاع والشراء غطاء لذلك.

ماذا يقوم مقام القبض؟

هل التحقق من قدرة البائع في بيع السلم على توفير السلع عند المطالبة يغني عن القبض؟

هل التأمين على السلع المسلم فيها أو وجودها في مخازن عمومية منظمة يغني عن القبض؟

ص: 378

نقول: إذا انتهينا إلى هذه النتيجة وهي (اشتراط قبض المكيل أو الموزون قبل بيعه على غير بائعه، وعدم جواز بيع بضاعة السلم قبل حلول أجلها) . فيأتي هذان التساؤلان المتقدمان وللجواب عن ذلك نقول:

1-

إن القبض مفهوم يختلف عن مفهوم التأكد من قدرة البائع في السلم على توفير السلع، إذ القبض مفهوم محسوس يتحقق في الخارج حسب نوع البضاعة التي يراد قبضها، أما المفهوم الثاني فهو مفهوم يقع في صقع النفس، قد لا يكون له تحقق في الوجود الخارجي، وإنما هو افتراض الوجود الخارجي عند المطالبة فبين المفهومين تباين وتضاد كالتباين بين الحقيقة والافتراض، وقد جعل الشارع القبض موضوعا لبعض الأحكام الشرعية (كتلف المبيع قبل قبض فهو من مال بائعه) بمعنى أنه يوجب انفساخ البيع بحيث يكون التلف على البائع ويرجع الثمن على المشتري، و (ككون القبض في الصرف في المجلس مصححا للمعاملة الصرفية) بمعنى التقابض قبل التفرق في مجلس العقد، وهذه الأحكام قد وردت في موضوع القبض بما هو مفهوم حقيقي خارجي، فلا يقوم مقامه التحقق من القدرة على التقابض فما نحن فيه أيضا كذلك.

2-

وكذا مفهوم التأمين على بضاعة السلم فهو مباين لمفهوم القبض، إذ التأمين على البضاعة السلمية يجعل المشتري مطمئنا بوصولها إلى يده أو وصول المبلغ الذي تدفعه شركة التأمين على فرض عدم وصوله إلى يده فهو شيء مفروض يؤول إلى التحقق، وهو شيء آخر غير القبض الذي يجعل المشتري متسلطا على بضاعته السلمية ويطبق عليها قانون:(الناس مسلطون على أموالهم) بحيث يتمكن من أن يبيع أو يهب أو يأكل العين التي قبضها أو يتلفها، فالقبض يحول ما في الذمة الذي هو دين إلى عين خارجي حيث إن الدين الذي في الذمة لا يتعين إلا بتعيين البائع أو قبض المشتري فيكون ما في الذمة تحول إلى عين خارجية يمكن تلفها وأكلها، وهذا بخلاف التأمين على البضاعة السلمية فهو وإن كان يمكن للمؤمن له على هبته أو بيعه، إلا أنه لا يتمكن من أكله وإتلافه فهو ليس مسلطا عليه كما في السلعة المقبوضة، ولهذا الفارق لا يرى العرف قيام التأمين على البضاعة السلمية مقام القبض.

ص: 379

وبعبارة أخرى قد يكون التأكد من قدرة البائع في السلم على توفير السلع والتأمين على السلعة المسلم فيها، هو بمثابة الضامن للبائع على دفع البضاعة السلمية، ومن الواضح أن الضمان يختلف عن القبض.

2-

كما لا يقوم مقام القبض وجود السلعة في المخازن العمومية المنظمة إذ يكون هذا الوجود غير مفيد لمشتري السلع السلمية، وإنما المفيد له قبضها بحيث يتحول ماله في ذمة الغير إلى عين خارجية يتسلط عليها، وكم فرق بين أن يتسلط الإنسان على ذمة الغير فيكون دائنا لها وهو شيء اعتباري فرضي وبين أن يتسلط على عين خارجية قد قبضها فهو تسلط حقيقي، فوجود السلعة في المخازن لا يجعله متسلطا عليها حقيقة، بل يبقى يطلب الذمة التي هي وعاء اعتباري اخترعه العقلاء للأموال الكلية التي لا وجود لها في الخارج.

هل هناك تصرفات في المكيل والموزون (السلمي أو غيره) صحيحة قبل القبض؟

أقول: قد انتهينا سابقا إلى عدم جواز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه حتى في بيع السلم، فهل هناك معاملات أخرى تجوز التصرفات في السلم بغير البيع مرابحة؟ وكذا يأتي هذا البحث في التصرفات الصحيحة للبضاعة السلمية قبل حلول الأجل، فنقول:

هناك عدة معاملات للتصرف في المكيل والموزون قبل القبض، وللبضاعة السلمية قبل حلول الأجل وهي:

1-

التولية.

2-

الشركة فيه بربح.

3-

الإقالة فيه.

فقد تقدمت الروايات الدالة على صحة الشركة والتولية في بيع ما لم يقبض فمما تقدم:

1-

صحيحة منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (إذا اشتريت متاعا فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه إلا أن توليه

) (1) .

2-

موثقة سماعة، قال:(سألته عن الرجل يبيع الطعام أو الثمرة، وقد كان اشتراه ولم يقبضها؟ قال: لا حتى يقبضها إلا أن يكون معه قوم يشاركهم فيخرجه بعضهم عن نصيبهم من شركته بربح أو يوليه بعضهم فلا بأس)(2) .

(1) وسائل الشيعة ج12/ باب 16 من أحكام العقود/ ح1

(2)

وسائل الشيعة ج12/ باب 16 من أحكام العقود/ 15

ص: 380

فهاتان الروايتان جوزتا بيع الثمرة والمتاع على غير بائعه تولية، كما جوزت موثقة سماعة بيع نصف الحصة التي لم يقبضها من البائع فيشترك معه غيره.

وأما الإقالة: فقد دل الدليل العام على جوازها في كل بيع قبل القبض أو بعده سلما أو غيره للحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أيما عبد أقال مسلما في بيع أقاله الله عثرته يوم القيامة"(1) وقد أرسلها الفقيه عن الإمام الصادق عليه السلام لكن قال: "أيما مسلم أقال مسلما بيع ندامة أقاله الله عز وجل يوم القيامة"(2) . وفي استحبابها ورد عن سماعة بن مهران عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أربعة ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: من أقال نادما أو أغاث لهفان أو أعتق نسمة أو زوج عزوبا"(3) .

والإقالة في الحقيقة: هي فسخ في حق المتعاقدين برضاهما وليست بيعا لعدم قصد معنى البيع ولا غيره من المعوضات الموجبة ملكا جديدا، بل هي تفيد رد الملك بفسخ العقد الذي اقتضى خلافه. ولهذا لا تجوز الإقالة بزيادة عن الثمن، لعدم ما يصلح مملكا للزيادة المفروضة، كما لا تجوز الإقالة بنقصان لعدم ما يصلح مملكا لما بقي من الثمن بعد فسخ العقد فيما قابله تماما. وقد صرح صحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام بذلك قال:(سألته عن رجل اشترى ثوبا ولم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه ثم رده على صاحبه، فأبى أن يقبله إلا بوضيعة، قال عليه السلام: لا يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه رد على صاحبه الأول ما زاد)(4) . بناء على أن مبنى ذلك فساد الإقالة وبقاء الثوب على ملك المشتري.

(1) وسائل الشيعة ج12/ باب 3 من أبواب آداب التجار/ ح2

(2)

وسائل الشيعة ج12/ باب 3 من أبواب آداب التجار/ ح4

(3)

وسائل الشيعة ج12/ باب 3 من أبواب التجار / ح5

(4)

وسائل الشيعة ج12/ باب 17 من أحكام العقود ح1

ص: 381

وقد ذهب إلى هذه النتيجة التي انتهينا إليها الإمام مالك، فقد جوز البيع تولية والمشاركة فيه بربح في ما لم يقبض، فقد جاء في المدونة: (قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة من رجل بنقد فلم أقبضها حتى أشركت فيها رجلا أو وليتها رجلا أيجوز ذلك؟

قال: لا بأس بذلك عند مالك.

قلت: وإن كان طعاما اشتريته كيلا، ونقدت الثمن فوليته رجلا أو أشركته فيه قبل أن أكتاله من الذي اشتريته؟

قال مالك: لا بأس بذلك وذلك الحلال إذا انتقد مثل ما نقد.

قلت: لِمَ جوزه مالك وقد جاء في الحديث الذي يذكره مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى؟

قال: قد جاء هذا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى إلا ما كان من شرك أو إقالة أو تولية.

قال سحنون: وأخبرني ابن القاسم عن سليمان بن بلال عن ربيعة عن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شرك أو إقالة أو تولية)) .. قال مالك: اجتمع أهل العلم على أنه لا بأس بالشرك والإقالة والتولية في الطعام قبل أن يستوفى إذا انتقد الثمن ممن يشرطه أو يقيله أو يوليه) (1) .

(1) المدونة/ 4/ 80 – 81

ص: 382

4-

الصلح:

أقول: لقد تقدم دليل المنع من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه، أو المنع من بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل، فهل الصلح الذي يذكر على أساس أنه عقد مستقل يختلف عن البيع والإجارة، (وإن كانت نتيجته البيع أو الإجارة) هل يشمله المنع المتقدم؟

الجواب: بالعدم وذلك، للتباين بين البيع والمصالحة التي تتحمل من المسامحة أكثر مما يتحمل البيع. هذا بالإضافة إلى عدم وجود نص من الكتاب أو السنة يمنع من التصرف في البضاعة السلمية (حتى وإن كانت مكيلة أو موزونة) على أساس المصالحة قبل القبض، فلا مناص من القول بصحة الصلح على المكيل والموزون قبل قبضه، ومن القول بصحة المصالحة على البضاعة السلمية قبل حلول أجلها ولكن بشرط أن ينقد الثمن حالا أما إذا كان نسيئة فيكون من باب بيع الدين بالدين على تفسير مشهور.

5-

الحوالة:

وهو ما يسمى بفكرة السلم الموازي الذي تكلمنا عليه سابقا فلا نعيد، بل نؤكد على أن عقد الحوالة عقد مستقل له شروطه الخاصة ومواصفاته فلا يمكن أن يكون داخلا في عقد البيع، ولذلك لا يشترط في عقد الحوالة التقابض حتى ولو كان الدينان من النقود، ولا يدخل في بيع الدين بالدين الذي يمنعه الفقهاء.

ونفس هذا الكلام قلناه في الوكالة في السلم الموازي فلا نعيد.

6-

الحطيطة:

وإذا نهت الروايات المتقدمة عن بيع المكيل أو الموزون ما لم يقبض، أو قام الإجماع على عدم جواز بيع ما لم يحل أجله، فهل تجوز الحطيطة عن رأس المال وإنهاء هذه المعاملة؟ أي بمعنى بيعها بأنقص من ثمنها.

الجواب:

إذا كانت علة النهي في بيع المكيل أو الموزون قبل القبض هي أن لا يربح بدون ضمان، فلا بد من تجويز الحطيطة؛ لأنها ليست ربحا بدون ضمان، ولكن لم يتضح لنا أن المانع هو ذلك لانتقاضه بالسلعة السلمية إذا لم تكن مكيلة أو موزونة بالإضافة إلى أن بعض الروايات لم تجوز إلا البيع تولية أو الشركة بربح، وبما أن الحطيطة ليست تولية ولا شركة فلا تجوز ولا يجوز بيعها قبل الأجل بالأولوية.

ص: 383

هذا كله في بيع المكيل والموزون قبل قبضه على غير بائعه، أما إذا المشتري يريد بيع سلعته على نفس البائع بحطيطة لأن سعر الحنطة الذي اشتراه قد تنزل فأصبح بعد الأجل قبل القبض أقل مما اشتراه إلى الأجل فهو جائز بل كلام لما سيأتي من جواز معاوضة السلعة المكيلة أو الموزونة قبل قبضها بسعر يومها إذا وافق البائع على المعاوضة. وفي الحقيقة إن هذه ليست حطيطة عن الثمن، بل هي معاوضة بسعر اليوم قبل القبض، على من تكون السلع المكيلة أوالموزونة في ذمته، بل هي معاوضة بعد القبض؛ لأن ما في الذمة يكون مقبوضا للمدين وإن لم يكن مقبوضا للدائن أو لفرد آخر. وقد ذكر الإمام مالك جواز ذلك أيضا فقال: (وما سلفت فيه من العروض إلى أجل من الآجال، فأردت أن تبيعه من صاحبه فلا بأس أن تبيعه منه بمثل الثمن الذي دفعته إليه أو أدنى منه قبل محل الأجل

) (1) . أقول: إن هذا يختلف عن الإقالة بحطيطة؛ لأنه بيع بينما الحطيطة قبل الأجل على البائع إقالة والإقالة بوضيعة ممنوعة كما تقدم ذلك (2) .

7-

الإجارة:

إذا كانت الروايات قد نهت عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه، فهل يجوز لنا أن نؤجره إذا كان قابلا للإجارة بأن كان يستفاد من عينه مع بقاء العين بدون تلف؟ وإذا كان الإجماع قد منع من بيع السلع السلمية قبل حلول أجلها، فهل نتمكن أن نؤجرها قبل ذلك على أن تكون مدة الإجارة بعد الحلول والقبض؟

(1) المدونة الكبرى/ 4/88

(2)

لا بأس بالتنبيه إلى أن هذا البحث يختلف عن أخذ السلم أقل ما شرط في المعاملة السلمية، فإن هذا أمر جائز منصوص يراجع ج13 من وسائل الشيعة/ باب 11 من السلم/ ح1

ص: 384

والجواب: أن القاعدة تقتضي ذلك، فيصح عقد الإجارة على المكيل أو الموزون قبل قبض المشتري له وقبل حلول الأجل، ولكن لا يجب على المستأجر لهذه العين تسليم الأجرة إلا بعد تسليم العين المؤجرة إلا مع الشرط فإذا اشترط المستأجر تسليم الأجرة قبل تسلم العين المؤجرة فيمكن أن تدخل الإجارة للعين السلمية قبل حلول أجلها أو قبل القبض مورد الاستثمار.

وبما يقال: بعدم فائدة هذا البحث لعدم وجود ما يكون سلع سلمية مكيلة أو موزونة وتكون قابلة للإجارة.

ولكن يقال: إننا نتكلم كلاما عاما، سواء كان له مصداق في الخارج أو لا، على أنه يمكن أن نوجد مصداقا له في الخارج الآن، كما إذا افترضنا أن الألبسة ومجموعة ما يفرش على الأرض كالسجاد، وما يكون ملحفا يلتحف به الإنسان، مما يباع بالكيل أو الوزن، وحينئذ يمكن افتراض أجرتها مع بقاء عينها قبل القبض بشرط أن تسلم الأجرة مقدما. على أن الزمان قد يوجد سلعا تباع بالكيل أو الوزن مما تقبل الإجارة، وقد قيل سابقا ليس من دأب المحصل المناقشة في المثال.

ص: 385

عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم:

إن المشتري لما كان مالكا في ذمة البائع سلعة معينة موصوفة، فإذا حل الأجل ولم تكن هذه السلعة موجودة لآفة سماوية ونحوها فمقتضى القاعدة هو تخير المشتري بين أمور:

1-

فسخ المعاملة واستعادة الثمن الأولي لتخلف الوفاء بالشرط.

2-

ينتظر وجود السلعة لحين توفرها في السوق

3-

يعاوض البائع عليها بجنس آخر غير الثمن الأولي إذا رضي البائع بذلك.

4-

يأخذ قيمة المتاع حين الاستحاق إذا رضي البائع بذلك.

5-

يعاوض البائع بجنس الثمن الأولي بزيادة. (1) عنه أو نقيصة إذا رضي البائع بذلك.

وواضح أن الأمور الثلاثة الأخيرة لا تتعين على البائع كما أشرنا إلى ذلك، وذلك لعدم وجود خطاب بدفع العين المتعذرة إلى المشتري، وحينئذ لا تتعين قيمتها عند تعذرها، بل أن تعذر العين يسقط أصل خطاب الدفع.

وهذا الذي تقدم بالإضافة إلى أنه على طبق القاعدة في تعذر مال السلم، قد وردت فيه روايات خاصة منها:

1-

صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (لا بأس بالسلم في الحيوان إذا سميت الذي تسلم فيه فوصفته، فإن وفيته وإلا فأنت أحق بدراهمك)(2) .

2-

موثقة عبد الله بن بكير قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل أسلف في شيء يسلف الناس فيه من الثمار فذهب زمانها ولم يستوف سلفه، قال عليه السلام: فليأخذ رأس ماله أو لينظره" (3) .

3-

صحيحة العيص بن القاسم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "سألته عن رجل أسلف رجلا دراهم بحنطة حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دوابا ومتاعا ورقيقا، أيحل له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه؟ قال عليه السلام: نعم يسمي كذا وكذا بكذا وكذا صاعا) (4) .

(1) في هذه الصورة يوجد خلاف، فقد خالف الشيخ الطوسي رحمة الله استنادا إلى خبر على بن جعفر (المتقدم الضعيف) عن الإمام موسى بن جعفر قال: (سألته عن رجل له على آخر تمر، أو شعير أو حنطة أيأخذ بقيمته دراهم؟ قال: إذا قومه دراهم فسد؛ لأن الأصل الذي يشتري به دراهم، فلا يصلح دراهم بدراهم

) وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلم/ح13

(2)

وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلف/ ح17 و14

(3)

وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلف/ ح17 و14

(4)

وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلف/ ح6

ص: 386

4-

أبان بن عثمان عن بعض أصحابنا عن الإمام الصادق عليه السلام: (في الرجل يسلم الدراهم في الطعام إلى أجل، فيحل الطعام، فيقول ليس عندي طعام، ولكن انظر ما قيمته فخذ مني ثمنه؟ قال عليه السلام: لا بأس بذلك)(1) وعن علي بن محمد قال: (كتبت إليه: رجل له على رجل تمر أو حنطة أو شعير أو قطن، فلما تقاضاه قال: خذ بقيمة مالك عندي دراهم، أيجوز له ذلك أم لا؟ فكتب: يجوز ذلك عن تراض منهما إن شاء الله)(2) .

وفي حكم تعذر المبيع في السلم عند الحلول موت البائع قبل الأجل وقبل وجود المبيع، حيث إن الموت يجعل الدين حالا. وهناك صورة أخرى مختصة بما إذا كان البائع قد أحضر في الأجل قسما من بضاعة السلم ولم يوجد القسم الآخر، فهنا في صورة عدم كون القبض بتفريط من المشتري يكون بالخيار في أخذ المهيأ له ورأس ماله المقابل لغير الموجود أو الفسخ بالجميع أو الانتظار لحين وصول الباقي وأما إذا كان عدم القبض بتقصير من المشتري فلا خيار له، بل يجب عليه أخذ الموجود وانتظار الباقي.

وقد يقال في الصورة الأولى (عندما يأخذ المشتري الموجود ويفسخ في غير الموجود) بوجود خيار للبائع وهو خيار تبعض الصفقة، كما هو ليس ببعيد وعلى مقتضى القاعدة. ويدل على الصورة الأخيرة صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام قال:(سألته عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك إلى أجل مسمى؟ قال عليه السلام: لا بأس إن لم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه، (له) أن يأخذ صاحب الغنم نصفها أو ثلثها ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم، ويأخذ دون شروطهم

) (3) .

وصحيحة عبد الله بن سنان قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يسلم في الطعام (إلى أن قال) : أرأيت إن أوفاني بعضا وعجز عن بعض أيصلح أن آخذ بالباقي رأس مالي؟ قال: نعم ما أحسن ذلك) (4) ومعنى ذلك وجود أشياء جائزة أيضا كالفسخ أو الانتظار لحين وصول الباقي، كما تقدم ذلك في صورة عدم تقصير المشتري في عدم القبض.

(1) وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلف ح6

(2)

وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلف/ ح11

(3)

وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11من السلف/ح1

(4)

وسائل الشيعة/ ج13/ ياب 11 من السلف/ ح2

ص: 387

صحة الشرط الجزائي عن تأخير تسليم البضاعة:

لقد عرف الفقه الإمامي الشرط الجزائي في عقد الإجارة، فقد روى الحلبي في الصحيح قال: كنت قاعدا إلى قاض وعنده أبو جعفر (الإمام الباقر عليه السلام جالس، فجاءه رجلان فقال أحدهما: إني تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعا إلى بعض المعادن، فاشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا؛ لأنها سوق أخاف أن يفوتني، فإن احتبست عن ذلك حططت من الكراء لكل يوم احتبسه كذا وكذا، وأنه حبسني عن ذلك اليوم كذا وكذا يوما؟ فقال القاضي: هذا شرط فاسد وفيه كراه. فلما قام الرجل أقبل إلى أبو جعفر عليه السلام فقال: شرطه هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه (1) .

أقول: فإن لم تكن خصوصية لعقد الإجارة في صحة الشرط الجزائي، فيكون الشرط الجزائي صحيحا في جمع العقود إن لم يكن هناك نهي عنه، هذا بالإضافة إلى الحديث الصحيح:((المسلمون عند شروطهم)) فإذا اشترط المشتري لبضاعة السلم أن أي تأخير يحصل في تسليم البضاعة يستوجب نقصان قيمة البضاعة بمقدار 10 % من الثمن الأصلي، أو أن البضاعة السلمية إذا تأخرت شهر عن الأجل المحدد نقصت قيمة البضاعة 10 % من الثمن الأصلي، فإن تأخرت شهرين نقصت 20 %، فإن هذا الشرط يكون صحيحا ونافذا حسب قاعدة (المؤمنون عند شروطهم) وما لم يحط بجميع السعر حسب "ما لم يحط بجميع كراه" أو حسب تسالم عليه الارتكاز العقلاني من عدم صحة هكذا شرط يكون مؤاده اشتريت البضاعة السلمية بلا ثمن. بل أن {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] يوجب علينا العمل بالعقد الذي اشترطت فيه الشرط الجزائي إذا كان معنى العقد موجودا معه، فإنه بعمومه يدل على وجوب الوفاء بالعقد الذي شرط فيه الشرط الجزائي. ثم إن هذا الشرط الجزائي الذي يذكر في متن العقد له صورتان صحيحتان:

(1) وسائل الشيعة/ ج13/ باب 13 من الإجارة/ ح2

ص: 388

الصورة الأولى: أن يكون على نحو شرط النتيجة: ومثاله ما تقدم، إذ يكون المشروط له (على تقدير مخالفة الشرط) قد ملك مقدار النقصان على ذمة المشروط عليه.

الصورة الثانية: أن يكون على نحو شرط الفعل: وهو أن يقول له: إذا تخلفت عن تسليم البضاعة في وقتها المحدد إلى شهر فعليك أن تدفع لي مقدار عشرة دنانير، فإن تخلفت إلى شهرين فعليك أن تدفع عشرين دينارا، ففي هذه الصورة لا يوجد اشتغال ذمة المشروط عليه عند التخلف، بل يجب عليه تمليك المقدار المعين حسب الشرط، فإن لم يفعل فقد فعل حراما مطلقا.

وهناك صورة ثالثة: كما لو قال: إذا تأخرت عن تسليم البضاعة في الوقت المحدد فينقص الثمن (ولم يحدد النقصان) ففي هذه الصورة تبطل المعاملة لجهالة الثمن على تقدير التأخير. (1) .

إصدار سندات سلم قابلة للتداول وضوابط ذلك في حال الجواز:

إذا كانت هناك شركة لبيع الحديد والرصاص أو أي متاع من الأمتعة أو أي طعام من الأطعمة التي صح فيها السلم، وقد عقدت الشركة عقد سلم مع شخص معين إلى أجل محدد، فقد تقدم أنه لا يجوز له بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل، وكذا لا يصح بيع المكيل أو الموزون بعد الأجل قبل القبض إلا تولية أو شركة، وقد قلنا فيما سبق بجواز إيجاد الوكالة في استلام البضاعة السلمية أو الحوالة فيها بعد إيجاد ما يسمى بالسلم الموازي، وجواز المصالحة والإقالة والإجارة قبل الأجل أو قبل القبض. أما هنا فنريد أن نفتش عن إمكان أن تقوم الشركة أو الحكومة بإصدار صك سلم قابل للتداول. فنطرح هنا هذه الأفكار للتداول والمناقشة وخلاصتها:

(1) تعرضنا للشرط الجزائي بصورة أوسع في بحث المناقصات، فمن أراد التوسع فليراجع بحثنا في المناقصات

ص: 389

1-

أن تقوم الجهة (حكومة أو شركة أو غيرهما) بإصدار صك (وثيقة) تفيد أنها تبيع البضاعة السلمية المعينة إلى من يشتريها على أن تسلم له بعد سنة مثلا ولكن الشركة لا تكون مسؤولة إلا أمام من يبرز الوثيقة عند حلول الأجل. وهنا من يشتري هذه البضاعة السلمية ويتسلم الوثيقة لا يمكنه أن يبيع البضاعة السليمة قبل الأجل أو لا يمكنه من بيع المكيل أو الموزون قبل القبض وهذا شيء صحيح إلا أنه هل يتمكن أن يهب هذه البضاعة السلمية لشخص آخر بشرط أن يهب الآخر له شيئا معينا (وليكن كمية من المال) ؟

الجواب: ذكرنا أن الهبة عقد مستقل يختلف عن البيع حتى وإن كانت الهبة مشروطة بهبة الآخر له شيء آخر؛ لأن الهبة المعوضة (المشروط فيها هبة الآخر كمية من المال) عبارة عن التمليك الذي اشترط فيها العوض فهي ليست إنشاء تمليك بعوض على جهة المقابلة بعوض على جهة المقابلة، لذا لا يكون تملك للعوض بمجرد هبة الواهب إلى الموهوب له وتملكه ما وهب له، بل غاية الأمر أن الموهوب له بعد أن تملك ما وهب له يجب عليه أن يعمل بالشرط فيملك العوض، فإن لم يفعل كان للواهب الرجوع في هبته نتيجة اقتضاء عدم العمل بالشرط.

وعلى هذا فإن التعويض المشترط في الهبة كالتعويض الغير مشترط في الهبة، يكون عبارة عن تمليك جديد يقصد به وقوعه عوضا، لا أن حقيقة المعاوضة والمقابلة مقصودة في كل من العوضين كما يتضح ذلك بملاحظة التعويض الغير مشترك في ضمن الهبة الأولى.

ولو كانت الهبة المعوضة هي تمليك بعوض على جهة المقابلة، فلا يعقل تملك أحدهما لأحد العوضين من دون تملك الآخر للآخر، مع أن ظاهر الفقهاء في الهبة المعوضة هو عدم تملك العوض بمجرد تملك الموهوب له الهبة كما تقدم.

ص: 390

إذن قد اتضح أن البيع يختلف عن الهبة المعوضة اختلافا أساسيا حيث إن حقيقة البيع: تمليك العين بالعوض، وهذا لا يكون هبة معوضة وإن قصدها. وحقيقة الهبة المعوضة: هي التمليك المستقل مع اشتراط العوض في تمليك مستقل يقصد به العوضية، وهذا ليس معاوضة حقيقية مقصودة في كل من العوضين، وبهذا يبطل ما يقال من أن الهبة المعوضة هي بيع للاختلاف الحقيقي في معنييهما.

ولكن الذي يقف في وجه هذه العملية: أن الهبة لا بد في صحتها من القبض، والقبض للبضاعة لا يحصل بقبض الوثيقة، بل يحصل بقبض مصداق الوثيقة وهي العين الخارجية.

ولكن: أليس من حقنا أن نتساءل في أن الإعلان عن كون الشركة مسؤولة عمن يبرز هذه الوثيقة عند الأجل يكون قد جعل للوثيقة قيمة عرفية؟ وعلى هذا فهل يمكن أن يهب صاحب الوثيقة القيمة العرفية لهذه الورقة بما تحمل من قدرتها على تحقق البضاعة السلمية ويكون تسليمها هو تسليم لقيمتها بما تحمل من قدرة على البضاعة كهبة الدينار والدرهم؟

2-

إن المشتري للوثيقة يتمكن أن يوكل شخصا في استلامها في أجلها، مع إسقاط حق عزله من الوكالة ويجعل وكالته مطلقة بحيث يتمكن أن يفعل الوكيل بالبضاعة السلمية كل ما يحلو له حتى بيعها أو هبتها أو أكلها أو إتلافها وما إلى ذلك، وبما أن هذه الوكالة بهذه الصفة لها ثمن، فيتمكن الموكل أن يأخذ ثمن هذه الوكالة، وهكذا يفعل الثاني والثالث، وحينئذ لم يصدق أن المشتري قد نقلها قبل الأجل أو قبل القبض مع تحقق فكرة تداول صكوك السلم ودخولها في الاستثمار، فهل تكون هذه الفكرة كافية لتداول صكوك السلم؟

وعيب هذه الفكرة الثانية هو فيما إذا مات أحد الأفراد قبل حلول الأجل فقد سقطت الوكالة وحينئذ يستحق البضاعة السلمية ورثة الميت (لا من بيده الوثيقة وورثته) ، وهذا مما يلكأ هذا الطريق.

3-

قد نقول بأن التداول لصكوك السلم يحصل فيما إذا اقترض صاحب السلعة (صاحب الوثيقة والصك) مقدار هذه البضاعة من المال، ثم يقوم صاحب السلعة بمصالحة الدائن عما في ذمته من الدين بما في ذمة بائع السلم، فإذا كانت المصالحة عقدا مستقلا ولا ارتباط له بالبيع، فهل تكون هذه العملية كافية لتداول صكوك السلم؟

ص: 391

خلاصة البحث:

وتلخيص البحث يكون بذكر عدة نقاط:

1-

عرف السلم بأنه: "ابتياع مال مضمون إلى أجل معلوم بمال حاضر أو في حكمه"

2-

دلت على مشروعيته العمومات القرآنية مثل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} والروايات المتواترة وإجماع المسلمين.

3-

اتضح لدينا أن مشروعية السلم أصلية وليست استثناء، وقد استدللنا على ذلك براويات صحيحة دلت على جواز بيع النخل والفاكهة سنتين أو أكثر، وجواز بيع ثمرة الحائط إذا كان فيه ثمار مختلفة فأدرك بعضها ولم يدرك الآخر، وجواز بيع ما يجز، جزتين أو ثلاث جزات وما يخرط خرطة أو خرطات، وجواز الإجارة التي هي بيع منفعة معدومة.

كما استدللنا على أن المشروعية للسلم أصلية بجواز بيع الحصة المشاعة والكلي في المعين، حيث إن الكلي في الذمة لا يختلف في أصله عنهما.

4-

شروط السلم ستة هي: "ذكر الجنس والوصف الرافعين للجهالة، وقبض رأس المال قبل التفرق وتقدير المسلم فيه والثمن بأحد المقادير الرافعة للجهالة، وتعيين الأجل بما لا يحتمل الزيادة والنقيصة، وأن يكون المسلم فيه موجودا غالبا بحسب العادة وقت الحلول".

5-

إن المعاملات التي يجوز فيها السلم هي كما يأتي:

أ- بيع السلم المعروف الذي يكون الثمن فيه هو النقد والمثمن عبارة عن سلعة من السلع.

ب- إسلاف الأعراض في الأعراض إذا اختلفت.

ج- إسلاف الأعراض في الأعراض إذا اتفقت ولم تكن مقدرة بالكيل أو الوزن، كالثياب في الثياب.

د- إسلاف الأثمان في الأعراض، وقد يقال له بيع النسيئة باعتبار آخر.

هـ- إسلاف الأوراق النقدية بالأوراق النقدية إذا كانا من جنسين مختلفين على القول المشهور القائل بعدم وجود التقابض فيها.

ص: 392

و يجوز أن يكون ما في الذمة ثمنا في السلم إذا كان حالا.

ز- كما يمكن تجزئة تسليم السلم على أوقات متفرقة معلومة.

6-

إن السلم يجري في كل سلعة تنضبط في الوصف على وجه ترتفع الجهالة ولا يؤدي إلى عزة الوجود، وهذا هو الضابط في أنواع السلع التي يجري فيهل السلم.

7-

إن كل شيء لا يمكن ضبطه بالوصف، بحيث تبقى بعد بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره جهالة فاحشة مقتضية إلى التنازع، لا يصح فيه السلم.

8-

إن الماركة المعينة إذا كانت في السلعة (ذات العنوان المشترك) خصوصيات معينة تجعلها متميزة في خصوصيتها أو في تصنيعها عن بقية السلع بدون هذه الميزة، فهي صنف مستقل عن بقية الماركات. كما أن اشتراط المشتري ماركة معينة لغرض عقلاني يوجب أن تكون هذه الماركة صنفا مستقلا عن بقية الماركات التي يشترط إفرادها في الخصوصيات.

9-

لا يجوز بيع البضاعة السلمية قبل حلول الأجل إلا على البائع تولية أو بأقل من ثمنها.

10-

لا يجوز بيع بضاعة السلم "إذا كانت مكيلة أو موزونة" بعد حلول الأجل وقبل القبض على غير بائعه إلا تولية أو شركة. وهذا هو معنى اشتراط قبض المكيل أو الموزون في جواز بيعه على غير بائعه مرابحة.

11-

إن اشتراط قبض المكيل أو الموزون قبل بيعه على غير بائعه هو أمر تعبدي لم نجد له حكمة معقولة.

12-

يجوز بيع بضاعة السلم (إذا لم تكن مكيلة أو موزونة) على غير بائعها بعد حلول الأجل وقبل القبض، استنادا إلى قاعدة:(الناس مسلطون على أموالهم) ، بل وورود الرخصة في ذلك في النصوص المتقدمة.

13-

يجوز لمن اشترى سلما أن يبيع صفقة سلمية قبل الأجل أو قبل القبض ثم يحول المشتري الجديد على بائعه بنفس المقدار الذي اشتراه أو يوكله في القبض وهذه هي فكرة السلم الموازي التي نطقت بها بعض النصوص المتقدمة وهي خارجة عن تحريم المنع الذي تقدم في بيع المكيل أو الموزون قبل القبض أو بيع البضاعة السلمية قبل الأجل.

14-

يجوز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على البائع ما لم يستلزم الربا، وذلك لتصريح الروايات بذلك.

ص: 393

15-

إن التحقق من قدرة البائع في بيع السلم على توفير السلعة لا يقوم مقام القبض كما أن التأمين على السلعة المسلم فيها أو وجودها في مخازن عمومية منظمة لا يغني عن القبض، كل ذلك للتباين بين القبض الذي اشترط في بيع السلعة المكيلة أو الموزونة وبين هذه الأمور التي غاية ما تفيد ضمان السلعة السلمية، وهو يختلف عن القبض الذي هو مفهوم محسوس.

16-

تجوز عدة تصرفات في المكيل والموزون السلمي قبل القبض كما تجوز عدة تصرفات في البضاعة السلمية قبل حلول الأجل، وهي:

1-

التولية في البضاعة السلمية قبل الأجل، أو قبل القبض.

2-

الشركة بربح في البضاعة السلمية قبل الأجل أو قبل القبض.

3-

الإقالة.

4-

الصلح.

5-

الحوالة أو الوكالة.

6-

الحطيطة على بعد الآراء.

7-

الإجارة.

17-

إذا عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم فيتمكن المشتري من اتباع عدة خطوات:

1-

فسخ المعاملة واستعادة الثمن الأولي لتخلف الشرط.

2-

ينتظر وجود السلعة لحين توفرها في السوق

3-

يعاوض البائع عليها بجنس آخر غير الثمن الأولي إذا رضي البائع بذلك.

4-

يأخذ قيمة المتاع حين الاستحقاق إذا رضي البائع بذلك.

5-

يعاوض البائع بجنس الثمن الأولي بزيادة عنه أو نقيصة إذا رضي البائع بذلك.

كل ذلك دلت عليه النصوص المتقدمة.

ص: 394

18-

إن الشرط الجزائي في صورة تأخير تسلم البضاعة، إذا كان معينا بنقصان الثمن أو بدفع مبلغ من المال أقل من الثمن فهو شرط صحيح يجب الوفاء به، للنص الوارد في عقد الإجارة ولصحة الشروط ما لم تكن مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه، أما إذا كان الشرط الجزائي يجعل البضاعة السلمية بدون ثمن أو كان النقصان من الثمن غير معلوم فهو شرط باطل.

19-

طرحنا هنا فكرة إصدار سندات سلمية قابلة للتداول خلاصتها: هو أن تصدر الشركة وثيقة (صكا) يفيد بيع كمية من السلع المعينة بثمن معين، يباع لمن أراد على أن يكون حامل الصك هو المالك له. ثم يقوم الحامل للصك بهبته بشرط أن يهب له الموهوب له شيئا آخر. وعيب هذه الفكرة هو أن الهبة يشترط في صحتها القبض ولم يكن هناك قبض للبضاعة السلمية. ولكن تساءلنا عن إمكان أن يهب حامل الوثيقة القيمة العرفية لهذه الوثيقة بما تحمل من قدرتها على تحقق البضاعة السلمية، ويكون تسليمها هو تسليم لقيمتها كهبة الدينار والدراهم؟

كما طرحنا فكرة أن يوكل صاحب الصك شخصا في استلام البضاعة السلمية في وقتها وكالة غير قابلة للعزل ويوكله في التصرف فيها بأي أنواع التصرف حتى الإتلاف والأكل والبيع، وهذه الوكالة بهذه الصورة لها قيمة، فيتمكن الموكل أن يأخذ قيمة هذه الوكالة فهل بهذه الفكرة نتمكن أن نجعل صكوك السلم قبل التداول؟

وهناك فكرة ثالثة عبارة عن اقتراض صاحب السلعة مقدارا من المال يساوي ثمن البضاعة السلمية، ثم يقوم صاحب السلعة بمصالحة الدائن عما في ذمته من الدين بما في ذمة بائع السلم، فإن كانت المصالحة عقدا مستقلا لا ارتباط له بالبيع فهل تكون هذه العملية كافية لتداول صكوك السلم؟

وأخيرا نبتهل إلى الله عز وجل في أن يسددنا ويجنبنا الزلل في القول والعمل والحمد لله رب العالمين

الشيخ حسن الجواهري

ص: 395