الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفهوم كساد النقود الورقية
وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة
حدود التضخم
التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة
إعداد
الدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم
أستاذ الدراسات الإسلامية
بجامعة الملك عبد العزيز بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد
إن مشكلة التضخم النقدي، أو تدهور القوة الشرائية للعملات الورقية تدهورًا خطيرًا في بعض الأحيان أو الدول أدى إلى مشاكل في علاقات الالتزامات الآجلة، وضياع الحقوق، مما أورث النزعات والضغائن بين الخصوم. ولا يخفى أثر هذا في إضعاف الثقة في العقود الآجلة، وانعكاسه في شلل واضطراب اقتصاد المجتمع، وذلك لوجود الخلل السلوكي في بعض الأنظمة، نتيجة ضعف القيم، والقواعد التي يرتكن إليها في التعامل الاقتصادي.
ومها يكن فإن المشكلة قائمة وتفرض نفسها، ولا بد من وضع ضوابط التغير في قيمة النقود الورقية المؤثر في الحقوق، ثم وضع الحلول الشرعية.
ولقد كتب إخوان كرام في أثر تغير قيمة العملة كما سيأتي، أثروا المكتبة الإسلامية، فجزاهم الله تعالى خيرًا، لكن مفهوم كساد العملة وما يلحق به وحكمه الشرعي يحتاج إلى بحث وتوضيح، فاستعنت الله تعالى. وأرجو أن أكون قد وفقت لما يحبه الله ويرضاه. ونظرًا لتداخل موضوعي:
1-
مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة.
2-
حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية "نقودًا كاسدة".
دمجتهما في بعضهما، وسيكون البحث وفق الخطة التالية:
1-
مقدمة في النقود الورقية.
2-
بعض إيجابيات الورق النقدي.
3-
موقف الشريعة من الأوراق النقدية.
4-
التضخم ومشاكل وأخطاء تدهور قيمة النقود وآثاره.
5-
مفهوم كساد النقود الورقية، وضوابطه، وما يلحق به.
6-
آثار كساد النقود الورقية في تحديد أو تعيين قيمة الحقوق والالتزامات الآجلة والأدلة الشرعية.
7-
خاتمة وخلاصة البحث.
مقدمة في النقود الورقية
الأموال: نقود، وعروض، ومنافع، وحقوق. وكانت النقود في السابق إما دنانير ذهبية أو دراهم فضية، والنقدان هما الذهب والفضة، ولا زال للنقدين الاعتبار في الثروات والمدخرات حتى في التثمين للسلع والخدمات.
ثم تطورت النقود شكلًا ووظيفة؛ من نقود سلعية أو معدنية إلى نقود ائتمانية ورقية كتابية نائبة وثيقية، وهي نقود اصطلاحية اعتبارية اسمية قانونية، وكانت النقود الورقية قابلة للتبديل بالذهب، وكانت تغطيتها كاملة، ثم أصبحت إلزامية وتغطيتها نسبية، ولا تعتبر حوالة لأن مصدرها لا يقبل بتسديد قيمتها كسائر الحوالات، فهي أشبه بالفلوس الرائجة التي ثمنيتها بالاصطلاح، لا بالدنانير والدراهم التي ثمنيتها بالخلقة؛ لأن النقود الورقية لا تكاد قيمتها الذاتية تذكر، مقابل قيمته النقدية.
وصارت النقود الورقية تقوم بكافة وظائف النقود المعدنية، من كونها مقياسًا للقيم، ووسيطًا للمبادلة والدفع، وخزانًا للقوة الشرائية، فضلًا عن كونها وحدة حساب.
لكن هذا التطور في النقود من سلعية ذات قيمة ذاتية، إلى ائتمانية ذات قيمة اسمية اصطلاحية، منح الجهة المصدرة (الدورة) حرية ومرونة في سياستها النقدية، وهذا قد يؤدي إلى التضخم النقدي المؤدي إلى زيادة الأسعار، وبالتالي ضعف القوة الشرائية للورق النقدي، أو تغير قيمة العملة بالنسبة للأموال العينية والخدمات، فإذا كنت تملك مثلًا مبلغًا قوته الشرائية (100) ، بعد التدهور تشتري فيه نصف ما كنت تشتريه من قبل أو أقل، فهو ضريبة مباشرة تقتطع من أموال الأفراد دون رضاهم.
وفي كل الأحوال تتوقف قيمة رواج الأوراق النقدية على القدرة الإنتاجية للدولة المصرية لها، وإنتاجها هو السلعة الحقيقية والتي يقابلها النقد.
ومهما يكن فالنقود الورقية فكرتها قديمة، ففي صدر الإسلام روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل، فقيل له: إذن لا بعير فأمسك ذلك؛ لأن الطلب النقدي على الجلود يأخذ حجمًا كبيرًا يصعب معه إشباع الطلب السلعي وربما أدى ذلك إلى اختفاء البعير نفسه، وحاجتهم إليه ماسة"(1)
(1) موسوعة فقه عمر بن الخطاب للدكتور محمد رواس قلعجي ص 643 نقلًا من كتاب الإسلام والنقود للدكتور رفيق المصري، الطبعة الثانية 1410/ 1990، مركز النشر العلمي جامعة الملك عبد العزيز بجدة ص 10.
وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب أو الفضة نظيرة؛ أي أن الجلود إذا صارت نقودًا، أخذت حكم النقود في الربا فمبادلة نقد بنقد لا يجوز فيه النساء (التأخير أو التأجيل9. (1)
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن كل شيء اصطلحوا عليه فيما بينهم مثل الفلوس التي اصطلح الناس عليها، أرجو أن لا يكون به بأس، وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: أما الدرهم والدينار فلا يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذكر بعضهم: أن النقد ما تم الاتفاق على اعتباره حتى ولو كان قطعة من حجر أو خشب. (2)
وما زالت الفكرة تتطور حتى بدأ العالم يتخلى عن نظام الذهب والفضة والفلوس المعدنية كوسيط، وما انتصف القرن الذي نحن فيه حتى تبنى العالم نظام الأوراق النقدية غير القابلة للتحويل.
بعض إيجابيات الورق النقدي
لا يخفى أن اعتماد الأوراق النقدية بدل المعادن الوسيط فيه تسهيل للتبادل. وتقليل لنفقاته، ورفع كفاءة الأداء الاقتصادي، وسهولة التخزين أو الادخار، والتحويل، والصرف، والحمل، (النقل) ، فلو أراد شخص شراء عقار (عمارة، أرض، مصنع) أو أي سلعة كثيرة الثمن لاحتاج إلى حمالين لنقل الثمن بالنقود المعدنية، ولا يحتاج لمثل هذا في الأوراق النقدية، ثم ظهرت السندات (شيك تحويلي لقبض الثمن من المصرف) ثم ظهرت بطاقة الائتمان أسهل من دفتر الشيكات بموجبها توقع حوالة بقبض الثمن من المصرف
…
ثم
…
ثم. إلخ.
(1) المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس: 3/90؛ المصدر السابق ص 10
(2)
المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس: 3/90؛ المصدر السابق ص 10
موقف الشريعة من الأوراق النقدية
سبق ذكر أقوال بعض السلف من قول عمر بن الخطاب والإمام مالك والإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمهم الله تعالى- من أن النقد ما تم الاتفاق على اعتباره ولو كان قطعة حجر أو خشب أو الجلود، ووجوب الزكاة فيها وحرمة الربا. وفي هذا جاءت القرارات:
أ- قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم 10 بتاريخ 1/4/1393 هـ و7/4/1393:
أولًا: جريان الربا بنوعيه فيها (الأوراق النقدية) كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيره من الأثمان كالفلوس.
ثانيًا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة، إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
ثالثًا: جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات. (1)
ب- القرار التاسع لمجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في الدورة الثالثة في عمان الأردن 8-13 صفر 1407:
…
أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها.
وفي نفس المعاني والأحكام أيضًا جاء قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في دورته الأولى 1405 القرار السادس حول القيمة الورقية.
وجزاهم الله تعالى خيرًا فقد حسموا اللغط، وسدوا الأبواب على بعض المتأولين.
(1) نقلًا من كتاب الورق النقدي للشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، الطبعة الثانية، 1404/ 1984: ص 135-136
التضخم ومشاكل وأخطار تدهور قيمة النقود
أ- بعض أسباب التضخم:
بسبب الجوائح من حروب وزلازل وبراكين وقحط واضطرابات داخلية: عرقية طائفية، وضعف المواد، وهدر الطاقات، والسرف في الإنفاق في غير البنية الاقتصادية للدولة، وغير ذلك، بدأت تظهر مشاكل التضخم النقدي، وبالتالي ضعفت القوة الشرائية للعملة الورقية، مما أدى إلى رخصها تجاه السلع والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنها، وصارت مشكلة التضخم من أبرز المشكلات الاقتصادية المعاصرة التي تمس الفرد والجماعة في دول العالم الثالث خاصة وبقية العالم عامة، ويمكن تلخيص أسباب التضخم بالتالي:
1-
تخفيض الدولة لقيمة عملتها بالنسبة لبعض العملات الأخرى.
2-
الإفراط في الإصدار النقدي.
3-
توسع المصارف في منح الائتمان النقدي من أجل الربح السريع.
4-
التعامل بالربا.
5-
إلغاء العملة الرائجة والاستبدال بنقد آخر يصلح على التعامل به.
6-
تدهور الوضع الأمني في البلد المصدر للنقد مما يجعل الناس يسارعون بالتخلص من العملة خوفًا من كسادها فينخفض السعر جدًّا.
ب- بعض الآثار السيئة للتضخم والتغير في قيمة العملة أو الكساد: (1)
1-
إحداث الفوضى والنزاع في العلاقات بين الدائنين والمدينين.
2-
تدهور المدخرات للخزانة.
3-
اختلاف سبل الاستثمار للأفراد والجماعات وغير ذلك كثير.
وعليه فهذا التضخم الكبير للنقد أو التغير الفاحش في انخفاض القيمة؛ القريب من الكساد، أدى إلى خلل ونزاع خطير في مجال المعاملات الفردية، فقد يقرض المرء أخاه المحتاج رفقا به ومعونة له وتفريجًا لكربته، وعند حلول أجل الوفاء يجد المقرض أن المبلغ رجع إليه أقل بكثير مما دفع من حيث الورقة الشرائية أو قيمته بالنسبة للذهب والعملات الأخرى. وكذلك في بدل إيجارات المباني والأراضي ومحلات التجارة طويلة الأجل تنخفض قوة بدل الإيجار، وإن كان الكم لم يتغير، وكذلك في البيوع الآجلة (النسيئة والسلم) فيبيع التاجر البضاعة بنقد محدد مؤجل الوفاء إلى وقت معين، وعندما يحل الأجل يجد التاجر أن المبلغ المتفق عليه، قد اختلف حاله من حيث القوة الشرائية أو بالنسبة للذهب والعملات الأخرى. وكذلك المهر المؤجل يجعل التغيير الفاحش انخفاضًا في قيمته.
(1) عرف الدكتور حسين عمر في كتابه موسوعة المصطلحات الاقتصادية ص 68، 69 التضخم: وضع يكون فيه الطلب الكلي متجاوزًا العرض (الكلي) وعادة ما تكون هناك زيادة كبيرة في كمية النقود في الدولة – أو أوراق البنكنوت المصرفية- دون أن تصاحب ذلك زيادة مناظرة في حجم الناتج من مختلف السلع. وهنا فإن الزيادة في القوة الشرائية والطلب الفعال تؤدي في "الاقتصاد الحر" إلى ارتفاع في الأسعار والأجور، مما يفضي في النهاية إلى "دورة مفرغة" من الزيادات المتلاحقة في الأجور والأسعار.
وكذلك المقادير الشرعية للديات والحدود (نصاب السرقة) نصاب الزكاة، الدخول الدائمة مدى الحياة؛ المعاشات والإعانات الاجتماعية.
هذا وقد كتبت أبحاث وكتب من إخوة كرام في أحكام تغير النقود ككتاب "آثار التغيرات في قيمة النقود وكيفية معالجتها في الاقتصاد الإسلامي " للدكتور موسى آدم عيسى، وكتاب "دراسات في أصول المداينات "؛ فيه بحث عن تغير النقود وأثره على الديون للدكتور نزيه حماد، وكتاب "الإسلام والنقود" للدكتور رفيق المصري، وكتاب "الورق النقدي" للشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع.
وأبحاث علمية كثيرة فيه قدمت إلى أمانة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي
بدأت من نحو عشر سنين وكذلك أبحاث مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي كذلك منذ أكثر من عشر سنين وورقات عمل وأبحاث إلى ندوات اقتصادية وحلقات فقهية تبناها بنك التنمية الإسلامية ومجموعة دالة البركة.
ومما اتخذ من القرارات الصادرة عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي القرار رقم 4 الصادر عن الدورة الخامسة المنعقدة في الكويت "العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًّا كان مصدرها بمستوى الأسعار".
والتوسع في هذا ليس هو الغرض الأساسي لهذا البحث، هذا إذا تغيرت قيمة العملة وانخفضت قيمتها قليلًا فيجب وفاء الحقوق الثابتة في الذمة بنفس المقدار من حيث الكم، وكل زيادة في الكم هي ربا فضل وربا نسيئة.
أما إذا كسدت العملة أو انقطعت أو ألغي التعامل بها، أو انخفضت انخفاضًا فاحشًا ونزلت إلى 1 على 1000 من قيمتها السابقة أو أكثر كما هو الحال في الليرة التركية، واللبنانية وغيرهما من العملات هل يبقى كما هو؟
نعم الفقهاء اختلفوا في وفاء الحقوق الثابتة عند تغير العملة وخاصة عند نقص قيمتها، فهذا أبو يوسف صاحب أبي حنيفة –رحمهما الله تعالى- ومعه آخرون يقول:"يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج في البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض"(1)
ومثل هذه الفتوى عنه وعن غيره في حاشية ابن عابدين بعنوان "مطلب مهم في أحكام النقود إذا كسدت أو انقطعت أو غلت أو رخصت
…
وعند أبي يوسف تجب قيمته يوم البيع
…
ثم يقول وحاصل ما مر: أنه على قول أبي يوسف المفتى به لا فرق بين الكساد والانقطاع والرخص والغلاء في أنه تجب قيمتها يوم وقوع البيع أو القرض لا مثلها
…
" (2)
وآخرون من العلماء يؤدى: المثل لا القيمة. وذكرنا أن المجمع تبنى فتوى وجوب المثل لا القيمة. ولكن الخلاف بين الفقهاء قليل في حال كساد العملة أو انقطاعها كما سنعلم.
(1) تنبيه الرقود على مسائل النقود من رخص وغلاء: 2/60، 63. رسالة مطبوعة ضمن رسائل ابن عابدين دون ناشر ودون تاريخ.
(2)
حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار المعروفة بحاشية ابن عابدين 4/533، 534. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، 1386/1966.
مفهوم كساد النقود الورقية وضوابطه وما يلحق به
جاء في المعجم الوسيط: "كسد كسادًا وكسودًا لم يرج لقلة الرغبة فيه"(1)
وفي القاموس المحيط: كسد: لم ينفق. وفي تنبيه الرقود في اصطلاح الفقهاء: أن تترك المعاملة بها (العملة) في جميع البلاد وإن كانت تروج في بعض البلاد، لا يبطل لكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم (2) ويقول الأزهري: الكساد: خلاف النفاق ونقيضه، وسوق كاسدة: بائرة (3)
وفي تنبيه الرقود: عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان. (4)
فإذا ترك التعامل بالعملة الورقية في جميع البلاد فذلك ما يسميه الفقهاء بكساد النقد.
أما الانقطاع: أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يدل الصيارفة والبيوت.
وألحق بعض الفقهاء التغير الفاحش لقيمة العملة انخفاضًا بالكساد.
جاء في حاشية محمد المدني في حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل "وهو أن التغير إذا كان فاحشًا فيجب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء، أو الرخص، أما إذا لم يكن فاحشًا فالمثل". يقول الرهوني معلقًا على قول المالكية المشهور بلزوم المثل ولو تغير النقد بزيادة أو نقص "قلت ونبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف، ويقصد العلة التي استدل بها أصحاب القول المقابل المشهور في مسألة كساد النقد وهي أن الدائن دفع شيئًا منتفعًا به لأخذ منتفع به فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به"(5)
وينبغي أن نضع ضابطًا للتغير الفاحش في قيمة العملة الملحق بالكساد. جاء في المعجم الوسيط: فحش القول أو الفعل اشتد قبحه، وفحش الأمر: جاوز حده، فهو فاحش، ومؤنثه فاحشة، وجمعها فواحش. (6)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]، ويقول تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] والنهي يقتضي التحريم.
(1) المعجم الوسيط: ص 786.
(2)
تنبيه الرقود: 2/60
(3)
تهذيب اللغة للأزهري، تحقيق عبد السلام هارون، ومحمد علي النجار: 10/44.
(4)
تنبيه الرقود: 2/59
(5)
حاشية الرهوني: 5/120، 121؛ وحاشية المدني: 5/118 نقلًا عن كتاب دراسات في أصول المداينات للدكتور نزيه حماد ص 266
(6)
المعجم الوسيط: 674.
والفحش ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال. (1)
الفحشاء: ما ينفر عنه الطبع السليم، ويستنقصه العقل المستقيم. (2)
الفحش: كل شيء جاوز حده وقدره، فهو فاحش، وكل أمر لا يكون موافقًا للحق فهو فاحشة. (3)
يقول تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 19] قيل: خروجها من بيتها بغير إذن زوجها.
وفي القاموس المحيط: الفاحش: كل ما نهى الله عنه، والفاحش: الكثير الغالب والكثير عكس القليل.
يقول أبو الفرج البغدادي: الكثير: الغزير، والقليل: اليسير الزهيد. (4)
وفي القاموس: الكثرة: نقيض القلة، ومعظم الشيء.
وفي مفردات القرآن: الكثرة والقلة يستعملان في الكمية المنفصلة كالأعداد. (5)
يقول الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة: 249] .
ويقول الأزهري: الكثرة: نماء العدد. يقول الله تعالى {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] التفاخر بكثرة العدد والمال. (6)
وعليه لا شك أن أقصى ضابط للقلة والكثرة النصف (50?) فما هو أكثر من النصف كثير، وأقل من النصف قليل، وكثير من الفقهاء اعتبر استثناء الكثير كالاستثناء المستغرق المغلي وهو استثناء الكل، كقول المقر: له علي عشرة دراهم إلا عشرة يلغي الاستثناء ويثبت على المقر عشرة دراهم، ويلزمه القاضي بها؛ لأن المستثنى مستغرق (شامل) للمستثنى منه. وكذلك استثناء الكثير في قوله: له علي عشرة إلا سبعة فيلغو الاستثناء ويثبت المستثنى منه ويلزمه القاضي بالعشرة أيضًا.
يقول القرافي: إن الاستثناء إنما وضعته العرب لإخراج ما عساه يذهل عنه المتكلم فيحتاج إلى إخراجه بعد اندراجه في اللفظ. ويعذر في القليل؛ لأن مثله يجوز الذهول عنه أما أن ينطق بما نصفه باطل (كقوله عشرة إلا خمسة) فهذا يعد مشتغلًا بالهذيان (7)
(1) المفردات للراغب الأصفهاني ص 226، تحقيق صفوان عدنان داوودي.
(2)
التعريفات للجرجاني.
(3)
تهذيب اللغة للأزهري: 4/188
(4)
جواهر الألفاظ لأبي الفرج البغدادي، تحقيق محيي الدين عبد الحميد ص 123، 124
(5)
المفردات للراغب الأصفهاني ص 703.
(6)
تهذيب اللغة للأزهري: 10/176، 177
(7)
الاستغناء في أحكام الاستثناء لشهاب الدين القرافي المتوفى 682 هـ، تحقيق الدكتور طه محسن، مطبعة الإرشاد، بغداد 1402/1982: ص 540.
ويشهد لهذا قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14]{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83]{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 246]، {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249] ، {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82] ، {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] . وهكذا جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة فيها استثناء القليل وإبقاء الكثير.
فالأصل في الاستثناء إخراج القليل من حكم الكثير، وأما العكس أي: إخراج الكثير وإبقاء القليل في الحكم فقد عده كثير من أهل اللغة والفقه في حكم الاستثناء المستغرق الملغى كما تقدم.
وهذه بعض الفتاوى الفقهية في عدم اعتبار استثناء الأكثر: يقول الفقيه تقي الدين الفتوحي الحنبلي الشهير بابن النجار في كتابه منتهى الإرادات في باب الاستثناء: "ويصح في نصف فأقل من مطلقات وطلقات". (1)
أي إذا قال الزوج لزوجته: أنت طالق ثلاثًا إلا واحد. تقع طلقتان؛ لأنه استثنى أقل من النصف. وإن قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ثنتين يقع ثلاثا، فيلغو الاستثناء ويبقى المستثنى منه كقوله: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثًا. هذا هو الاستثناء المستغرق الملغى فيقع ثلاث طلقات. هذا الاستثناء في الطلقات.
والاستثناء في عدد الزوجات المطلقات كذلك، فلو كان عند الزوج أربع نساء وقال: نسائي طوالق إلا واحدة، يقع الطلاق على ثلاث من زوجاته ويبقى له واحدة، وعليه بيان اسمها، وإذا قال: نسائي طوالق إلا ثنتين يقع الطلاق على زوجتين، ويبقى زوجتان في عصمته وعليه بيان اسمهما. أما إذا قال: نسائي طوالق إلا ثلاثا طلقن جميعا لأنه استثنى أكثر من النصف، كقوله: نسائي طوالق إلا أربعًا، طلقن جميعًا وهذا هو الاستثناء الملغى.
ويقول القرافي في كتاب الاستغناء "وقال الزيدي في شرح الجزولية مذهب البصريين: لا بد أن يكون المستثنى أقل مما بقي، وقال الكوفيون وبعض البصريين يجوز النصف، وأكثر الكوفيين وكثير من الفقهاء لا يجيزون الأكثر، وقد حكى أبو يعلى الحنبلي أن مذهب أحمد لا يصحح استثناء الأكثر، وحكاه الخرقي في كتاب الإقرار ونقله المازري عن عبد الملك بن الماجشون من المالكية"(2)
وعند الحنفية اعتبروا أن ترك القليل من عدد أشواط طواف الزيارة (الإفاضة) لا يلغي هذا الركن عن الحاج وإنما يجبر النقص بدم ويتم حجه. يقول الميداني في اللباب شرح الكتاب (للقدوري) : ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها، ولم يطف بعده غيره، فعليه شاة؛ لأن النقصان بترك الأقل يسير، وإن ترك أربعة أشواط بقي محرمًا أبدًا في حق النساء حتى يطوفها. (3)
(1) منتهى الإرادات لتقي الدين الفتوحي: 2/271؛ تحقيق عبد الغني عبد الخالق، نشر عالم الكتب 1381/1962.
(2)
الاستغناء مرجع سابق ص 546؛ وأبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء شيخ الحنابلة في وقته (380-458) ؛ معجم المؤلفين: 9/254. الخرقي: أبو القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي الفقيه الحنبلي المتوفى 334. معجم المؤلفين: 7/282. وابن الماجشون: عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون المدني فقيه مالكي متوفى 212. معجم المؤلفين: 6/184
(3)
اللباب شرح الكتاب. عبد الغني الميداني، تحقيق محيي الدين عبد الحميد: 2/204.
ومثله في الاعتبار للعدد الأكثر في السعي بين الصفا والمروة، وعدد الحصيات في رمي الجمار.
ثم إن الفقهاء يفرقون بين الغبن (النقص والخداع) اليسير والغبن الفاحش الكثير.
ويثبت بعضهم خيار الفسخ في البيع للغبن كالحنابلة، جاء في المغني "يثبت الخيار في البيع للغبن في مواضع أحدها: تلقي الركبان إذا تلقاهم فاشترى منهم وباعهم وغبنهم.
الثاني: بيع النجش،
الثالث: المسترسل إذا غبن غبنًا يخرج عن العادة فله الخيار بين الفسخ والإمضاء وبهذا قال مالك
…
ولا تحديد للغبن في المنصوص عن أحمد، وحدد أبو بكر في التنبيه وابن أبي موسى في الإرشاد في الثلث، وهو قول مالك؛ لأن الثلث كثير بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم ((الثلث والثلث كثير)) (في الوصية) . وقيل بالسدس، وقيل بما لا يتغابن به الناس في العادة؛ لأن ما لا يرد الشرع بتحديده يرجع فيه إلى العرف. (1)
كما أن بعض الفقهاء ومنهم الحنابلة يعتبرون دية المرأة نصف دية الرجل، وكذلك في دية الأعضاء ومنافعها إلا إذا كانت الدية أقل من الثلث فتجب لها الدية كاملة.
يقول ابن النجار: "دية الحر المسلم مائة بعير
…
ودية أنثى بصفته نصف ديته ويستويان في موجب دون ثلث الدية". (2)
ويورد الدكتور الزحيلي عن الحنابلة (3) "يؤثر الغبن الفاحش في العقد فيجعله غير لازم سواء كان بتغرير أم بغير تغرير ويعطى للمغبون حق فسخ العقد في حالات ثلاث:
أ- تلقي الركبان: وهو أن يتلقى شخص طائفة من الناس يحملون متاعًا إلى بلد فيشتريه منهم قبل قدومهم البلد ومعرفتهم بالسعر وهو حرام ومعصية ويثبت لهم حق الفسخ إذا غبنوا غبنًا فاحشًا لقوله صلى الله عليه وسلم ((لا تلقوا الركبان)) (4) وهذا رأي الشافعية لثبوت الخيار فيه بنص الحديث (5)
(1) المغني والشرح الكبير على متن المقنع لابن قدامة، ط 1404: 4/92، 94.
(2)
منتهى الإرادات لابن النجار، مرجع سابق: 2/428، 429.
(3)
غاية المنتهى: 2/33؛ والمغني: 4/212، 218
(4)
عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد) . قلت لابن عباس: ما قوله: لا يبيع حاضر لباد؟ قال: (لا يكون سمسارًا له) متفق عليه واللفظ عليه واللفظ للبخاري، وسبل السلام: 3/20 وما بعدها
(5)
مغني المحتاج: 2/36؛ والمهذب: 1/292
ب- النجش: وهو زيادة في سعر السلعة المعروضة للبيع لا لرغبة في شرائها بل ليخدع غيره فيثبت الخيار للمشتري إذا لم يعلم بأن الذي يزيد لا يريد الشراء.
ج- المسترسل: وهو الشخص الجاهل بقيمة الأشياء ولا يحسن المساومة والفصال، ويشتري مطمئنًا إلى أمانة البائع ثم يتبين أنه غبن غبنًا فاحشًا فيثبت له الخيار بفسخ البيع". (1)
وعليه؛ الغبن نوعان: يسير وفاحش. والغبن اليسير: ما يدخل تحت تقويم المقومين، والغبن الفاحش: ما لا يدخل تحت تقويم المقومين.
وقدر نصر بن يحيى الغبن الفاحش بنصف العشر في العروض أي 5? التجارية، والعشر في الحيوانات، والخمس في العقار أو زيادة.
وبعد هذا الاستعراض لبعض أقوال العلماء لمعنى الكساد والتغير الفاحش الكثير لقيمة العملة، وأقصى بيان للمراد من الكثير أنه ما زاد على النصف. فإني أرى أن هبوط قيمة العملة الورقية إلى ما دون النصف ملحق بحكم كسادها، يوجب القيمة للحقوق وقت العقد، وإن تجاهل التدهور النقدي الفاحش فيه ظلم لأصحاب الحقوق، فالقرض صدقة باستخدام المال لزمن معين، وليس صدقة بأكثر المال.
وممكن أن تقوم هذه الحقوق الثابتة في هذه الحال بكمية من الورق النقدي بما يعادلها من الذهب وقت ثبوتها.
جاء في المعيار المعرب: "ما الحكم فيمن أقرض غيره مالًا من سكة ألغي التعامل بها؟
…
أفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب
…
وكان أبو محمد بن دحون يفتي بالقيمة يوم القرض، ويقول: إنما أعطاها على العوض فله العوض" (2)
ويقول الرهوني من علماء المالكية: "إذا أبطلت تلك العملة واستبدلت بغيرها فيرجع إلى قيمة العملة الملغاة من الذهب ويأخذ صاحب القيمة ذهبًا"(3)
ويقول ابن النجار في كتابه منتهى الإرادات وشرحه للبهوتي في باب القرض: "ما لم يكن القرض فلوسًا أو دراهم مكسرة فيحرمها السلطان أي يمنع التعامل بها، ولو لم يتفق الناس على ترك التعامل بها، فإن كان كذلك فله أي المقرض قيمته أي القرض المذكور وقت قرض نصًّا؛ لأنها تعيبت، وسواء نقصت قيمتها قليلًا أو كثيرًا، وتكون القيمة من غير جنسه أي القرض، إن جرى فيه أي أخذ القيمة من جنسه ربا فضل بأن اقترض دراهم مكسرة وحرمت، وقيمتها يوم القرض أنقص من وزنها فإنه يعطيه بقيمتها ذهبًا"(4)
وبالقيمة من الذهب يقول أبو يوسف: "وعليه قيمتها من الذهب يوم وقع القرض"(5)
يقول الدكتور رفيق المصري: "
…
إن قرض هذه النقود الورقية ولا سيما في بعض البلدان التي تتدهور فيها قيمة النقود تدهورًا مخيفًا لا بد من اتخاذ إجراءات لحمايته والمحافظة على استمراريته، أما ما ذهب إليه بعض العلماء من تجاهل هذه الحقيقة فهذا يعني ضمنًا أنهم موافقون على الظلم الذي يلحق بالمقرض أو أنهم غير مبالين بالقرض منح أو منع، أو أنهم متجاهلون للخلل الكبير الذي أصاب تلك النقود في أدائها لوظيفة الدفع المؤجل، فكيف يقال: إن هذه النقود الورقية تقوم مقام النقدين في كل شيء؟ هل تقوم مقامها في وظيفة الدفع المؤجل. (6)
(1) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبه الزحيلي، طبع دار الفكر: 4/223
(2)
المعيار المعرب لأحمد بن يحيى الونشريسي المتوفى 914 هـ، 6/163، 164، طبع دار الغرب الإسلامي.
(3)
حاشية الرهوني: 5/199 نقلًا عن كتاب دراسات في أصول المداينات، مرجع سابق ص 209
(4)
شرح منتهى الإرادات لمنصور البهوتي. 2/226؛ ومنتهى الإرادات لابن النجار: 1/298. مرجع سابق
(5)
تنبيه الرقود ص 62. مرجع سابق.
(6)
الإسلام والنقود ص 58. مرجع سابق.
آثار كساد النقود الورقية وما يلحق به في تعيين قيمة
الحقوق والالتزامات الآجلة والأدلة الشرعية
بعد أن عرفنا أن المراد من الكساد في الأصل ترك التعامل بالعملة الورقية في جميع البلاد، وأن التغير الفاحش في انخفاض قيمة العملة ألحقه بعض العلماء في الكساد، وضبطنا ذلك أنه إذا انخفضت العملة الورقية إلى أقل من نصف ما كانت عليه وقت ثبوت الحق أو الالتزام الآجل، وبينت أدلة اختياري لهذا المستوى من الانخفاض في الإلحاق بالعملة الكاسدة.
وبعد أن بينت أن بعض العلماء كأبي يوسف صاحب أبي حنيفة والرهوني من المالكية أفتى بثبوت قيمة العملة المتغيرة وقت العقد. وأفتى بعض علماء المالكية والحنابلة والحنفية بالقيمة يوم القرض بالذهب؛ وبعد هذا أسوق بعض الأدلة الشرعية على الحكم بثبوت القيمة يوم العقد أو وقت ثبوت الحق للحقوق والالتزامات الآجلة إذا كان التغير أو الانخفاض كثيرًا أو فاحشًا إلى أقل من نصف قيمتها وقت ثبوت الحق مقارنة بالذهب، هذه الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال بعض علماء هذه الأمة.
أ- من الكتاب:
يقول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] وصاحب الحق سواء أكان دائنًا أو مقرضًا أو أجيرًا (موظفًا) قائما بعمله أو متقاعدًا أو ملتزما بمقاولة إنشائية أو غيرها كعقد توريد (طعام مثلًا للمدارس أو المستشفيات) مقابل حق آجل؛ حينما يستلم أقل من نصف حقه وقت ثبوته بسبب الغلاء أما يكون الطرف الثاني قد أكل حقه بالباطل (حرام) ؟
إذا كانت هذه الآية في أول مرادها حرمت على المرء أن يأكل مال نفسه بالباطل وذلك إذا أنفق المال على وجه البطر والإسراف؛ لأن هذا من الباطل الحرام وليس من الحق، فمن باب أولى يحرم التعدي على حق غيره وأكله بالباطل ولو بثبوت العقد! يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي يرحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية في تفسيره: ولا تأخذوا أموالكم أي أموال غيركم إضافة إليهم؛ لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويحترم ماله، كما يحترم ماله؛ ولأن أكله لمال غيره، يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة، ولما كان أكلها نوعين: نوعًا بحق ونوعًا بباطل، وكان المحرم إنما أكلها بالباطل قيده الله تعالى بذلك". (1) وكذلك في قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] وتفسير العلماء للفاحشة بمجاوزة الحد وقدره وكل أمر لا يكون موافقًا للحق فهو فاحشة (2) واستلام صاحب الحق أقل من نصف حقه لا شك فيه مجاوزة للحق. ونقلنا أن صاحب القاموس المحيط يقول عن الفاحش: الكثير الغالب وتدهور قيمة العملة إلى أقل من نصف قيمتها سابقًا وقت ثبوت الحق لا شك أنه كثير غالب وأنه ظلم؛ والظلم يزال.
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي المتوفى 1376 هـ طبع مطبعة المدني 1408 هـ 1988م: 1/148 و149.
(2)
تهذيب اللغة للأزهري 4/188
ب- من السنة:
1-
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، (1) وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) (2) وفي رواية الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه)) قال عنه الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الشوكاني عنه: إنه قاعدة من قواعد الدين تشهد له كليات وجزئيات. (3) وضرر صاحب الحق الآجل بفوات أكثر حقه واضح، وهو حرام، والضرر يزال، وإزالة الضرر بتقويم الحق وقت ثبوته بنقد يقل التحكم والتأثير فيه نسبيًّا ألا وهو الذهب أمام العملات الورقية.
2-
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ((وضع الجوائح)) قال الخطابي: قال مالك: يوضع في الثلث فصاعدًا ولا يوضع فيما أقل من الثلث (4) ويقول أبو البركات أحمد بن محمد الدردير من علماء المالكية في تعريف الجائحة: كل شيء لا يستطاع دفعه عادة من أمر سماوي كبرد وثلج وغبار وسموم – أي ريح حار- وجارد وفأر ونار ونحو ذلك أو جيش
…
" (5) ويقول ابن تيمية: فالجائحة هي: الآفة السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد مثل الريح والبرد والحر والمطر والجليد والصاعقة ونحو ذلك (6) فالجائحة كل ما لا يستطاع دفعه ولا تضمين أحد فيه إذا أتلف أو أنقص أحد العوضين قبل قبضه (7) ويقول ابن تيمية: وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤجرات مما تمس الحاجة إليه، وذلك داخل في قاعدة المقصود والمعقود عليه قبل التمكن من قبضه. (8)
(1) سنن ابن ماجه تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2/784 رقم 2340، 2341؛ وفي سنن أبي داود 2/283.
(2)
سنن ابن ماجه تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2/784 رقم 2340، 2341؛ وفي سنن أبي داود 2/283.
(3)
نيل الأوطار للشوكاني توزيع دار الباز 5/385-387.
(4)
سنن أبي داود 3/670 و671 رقم 3374 ومعه كتاب معالم السنن للخطابي دار الحديث 1391 هـ
(5)
الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك لأبي البركات أحمد بن محمد الدردير: 3/244 دار المعارف بمصر 1393هـ
(6)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية 30/278.
(7)
الجوائح وأحكامها د. سليمان بن إبراهيم الثنيان دار عالم الكتب 1413هـ –1992م صـ6
(8)
مجموع الفتاوى 30/253 نقلًا عن كتاب الجوائح مرجع سابق ص 95.
3-
روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بم تأخذ مال أخيك بغير حق)) ؟ (1)
وبهذا تبدو لنا حكمة وضع النبي صلى الله عليه وسلم الجوائح فإنها تمنع المنازعات بين الناس وتزيل الأحقاد من قلوبهم، وتدرأ عنهم المفاسد وتجلب المصالح، ولو لم توضع لوقع الناس في حرج في معاملاتهم. وإني أرى التضخم النقدي الخطير من هذه الجوائح كالبرد والصواعق والزلازل والبراكين التي هي ليست بسبب من صاحب العقد ولا يمكن دفعها.
هذا وقد اعتبر مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي أن التضخم من الجوائح وتعويض المتضرر بتغير الأسعار وسماها الظروف الطارئة في دورته الخامسة من 8-16 ربيع الآخر عام 1402هـ وأنقل نص القرار بكماله لما فيه من الأدلة التي تنفي شبهة الربا، وتثبت إنصاف صاحب الحق الآجل المتضرر بسبب التدهور النقدي.
(1) صحيح مسلم تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رقم 921 ثم يعرف الجائحة: هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وكل مصيبة عظيمة وفتنة كبيرة.
القرار السابع بشأن الظروف الطارئة
وتأثيرها في الحقوق والالتزامات العقدية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
أما بعد،
فقد عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي مشكلة ما قد يطرأ بعد إبرام عقود التعهد ونحوها من العقود ذات التنفيذ المتراخي في مختلف الموضوعات من تبدل مفاجئ في الظروف والأحوال ذات التأثير الكبير في ميزان التعادل الذي بنى عليه الطرفان المتعاقدان حساباتهما فيما يعطيه العقد كلًّا منهما من حقوق، وما يحمله إياه من التزامات مما يسمى اليوم في العرف التعاملي بالظروف الطارئة.
وقد عرضت مع المشكلة أمثلة لها من واقع أحوال التعامل وأشكاله توجب التفكير في حل فقهي مناسب عادل يقضي على المشكلة في تلك الأمثلة ونظائرها كثيرة.
فمن صور هذه المشكلة الأمثلة التالية:
1-
لو أن عقد مقاولة على إنشاء بناية كبيرة يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة تم بين طرفين، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته بمبلغ مائة دينار مثلًا، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وأسمنت وأخشاب وسواها وأجور عمال تبلغ عند العقد للمتر الواحد ثمانين دينارًا فوقعت حرب غير متوقعة، أو حادث آخر خلال التنفيذ قطعت الاتصالات والاستيراد وارتفعت بها الأسعار ارتفاعًا كبيرًا يجعل تنفيذ الالتزام مرهقًا جدًّا.
2-
لو أن متعهدًا في عقد توريد أرزاق عينية يوميًّا من لحم وجبن ولبن وبيض وخضروات وفواكه ونحوها إلى مستشفى أو إلى جامعة فيها أقسام داخلية، أوالى دار ضيافة حكومية، بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدى عام، فحدثت جائحة في البلاد أو طوفان أو فيضان أو زلزال، أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية، فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة عما كانت عليه عند عقد التوريد، إلى غير ذلك من الأمثلة المتصورة في هذا المجال.
فما الحكم الشرعي الذي يوجبه فقه الشريعة في مثل هذه الأحوال التي أصبحت كثيرة الوقوع في العصر الحاضر الذي تميز بالعقود الضخمة بقيمة الملايين، كالتعهد مع الحكومات في شق الطرق الكبيرة، وفتح الأنفاق في الجبال، وإنشاء الجسور العظيمة، والمجمعات لدوائر الحكومة أو للسكنى، والمستشفيات العظيمة أو الجامعات، وكذا المقاولات التي تعقد مع مؤسسات أو شركات كبرى لبناء مصانع ضخمة، ونحو ذلك مما لم يكن له وجود في الماضي البعيد. فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره قبل تبدل الظروف وطروء التغييرات الكبيرة المشار إليها مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقة أو ساحقة؟ تمسكًا بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات؟ أو له مخرج وعلاج من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة، يعيد كفتي الميزان إلى التعادل ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟
وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع من فقه المذاهب واستعرض قواعد الشريعة ذات العلاقة مما يستأنس به ويمكن أن يوصى بالحكم القياسي والاجتهاد الواجب فقهًا في هذا الشأن كما رجع إلى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي:
1-
إن الإجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة كالحرب والطوفان ونحو ذلك، بل الحنفية يسوغون فسخ الإجارة أيضًا بالأعذار الخاصة بالمستأجر مما يدل على جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم أيضًا بطريق الأولوية فيمكن القول: إنه محل اتفاق، وذكر ابن رشد في بداية المجتهد (ج 2 ص/192 من طبعة الخانجي الأولى بالمطبعة الجمالية في مصر) تحت عنوان:(أحكام الطوارئ) أنه: (عند مالك أن أرض المطر (أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط) إذا كريت فمنع القحط من زراعتها، أو إذا زرعها المكتري فلم ينبت الزرع لمكان القحط (أي بسببه) أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة فلم يتمكن المكتري من زرعها) انتهى كلام ابن رشد.
2-
وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الإجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير ج 6 ص/30) أنه: (إذا حدث خوف عام يمنع ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصر البلد فامتنع الخروج إلى العين المستأجرة لزرع أو نحو ذك، فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة، فأما إذا كان الخوف خاصًّا بالمستأجر مثل أن يخاف وحده لقرب أعدائه
…
لم يملك الفسخ، لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية فأشبه مرضه.
3-
وقد نص الإمام النووي رحمه الله في روضة الطالبين (ج 5 ص/239) أنه لا تنفسخ الإجارة بالأعذار سواء كانت إجارة عين أو ذمة، وذلك كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض، أو حانوتًا لحرفة فندم، أو هلكت آلات تلك الحرفة، أو استأجر حمامًا فتعذر الوقود. قال النووي: وكذا لو كان العذر للمؤجر بأن مرض وعجز عن الخروج مع الدابة، أو أكرى داره وكان أهله مسافرين فعادوا واحتاج إلى الدار أو تأهل قال: فلا فسخ في شيء من ذلك إذ لا خلل في المعقود عليه.
4-
ما يذكره العلماء رحمهم الله في الجوائح تجتاح الثمار المبيعة على الأشجار بالأسباب العامة كالبرد والجراد وشدة الحر والأمطار والرياح ونحو ذلك، مما هو عام حيث يقرون سقوط ما يقابل الهالك بالجوائح من الثمن وهي قضية الجوائح المشهورة في السنة والفقه.
5-
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مختصر الفتاوى ص/376 أن من استأجر ما تكون منفعة إدارته لعامة الناس، مثل الحمام والفندق والقياسية، فنقصت المنفعة المعروفة لقلة الزبون أو لخوف أو حرب أو تحول سلطان ونحوه فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة.
6-
وقال ابن قدامة أيضًا في الصفحة 29 من الجزء السابق الذكر نفسه (لو استأجر دابة ليركبها أو يحمل عليها إلى مكان معين، فانقطعت الطريق إليه لخوف حادث أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق فلكل واحد منهما فسخ الإجارة وإن أحب إبقاءها إلى حين إمكان الاستيفاء جاز) . وقال الكاساني من فقهاء الحنفية في الإجارة من كتاب بدائع الصنائع (ج 4 ص/197) : (إن الفسخ في الحقيقة امتناع من التزام الضرر، وأن انكسار الفسخ عند تحقق العذر خروج عن العقد والشرع، لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه، فاستأجر رجلًا لقلعها، فسكن الوجع يجبر على القلع وهذا قبيح عقلًا وشرعًا) .
هذا وقد ذكر فقهاء المذاهب في حكم الأعذار الطارئة في المزارعة والمساقاة والمغارسة شبيه ما ذكروا في الإجارة.
7-
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده وقرر كثير من فقهاء المذاهب في الجوائح التي تجتاح الثمار ببرد أو صقيع، أو جراد، أو دودة، ونحو ذلك من الآفات، أنها تسقط من ثمن الثمار التي بيعت على أشجارها ما يعادل قيمة ما أتلفته الجائحة وإن عمت الثمر كله تسقط الثمن كله.
8-
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه ((لا ضرر ولا ضرار)) وقد اتخذ فقهاء المذاهب من قوله هذا قاعدة فقهية اعتبروها من دعائم الفقه الأساسية، وفرعوا عليها أحكامًا لا تحصى في دفع الضرر وإزالته في مختلف الأبواب.
ومما لا شك فيه أن العقد الذي عقد وفقًا لنظامه الشرعي يكون ملزمًا لعاقديه قضاءً عملًا بقوله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] .
ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي الملزم للمخاطبين به كافة، وقد وجد المجمع في مقاييس التكاليف الشرعية، ومعايير حكمة التشريع، أن المشقة لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته، كمشقة القيام في الصلاة، ومشقة الجوع والعطش في الصيام، لا تسقط التكليف ولا توجب فيه التخفيف، ولكنها إذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكليف بحسبه، أسقطته أو خففته، كمشقة المريض في قيامه للصلاة ومشقته في الصيام، وكمشقة الأعمى والأعرج في الجهاد، فإن المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي، توجب تدبيرًا استثنائيًّا يدفع الحد المرهق منه، وقد نص على ذلك وأسهب في بيانه، وأتى عليه بكثير من الأمثلة في أحكام الشريعة الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه (لموافقات في أصول الشريعة) .
فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة لا تأثير لها في العقود لأنها من طبيعة التجارة، وتقلباتها التي لا تنفك عنها ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيرًا بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيرًا استثنائيًّا.
ويقول ابن القيم – رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) : "إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض وكل أمر خرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها فليس من شرع الله في شيء، وحيثما ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره" وقصر العاقدين إنما تكشف عنه وتحدده ظروف العقد وهذا القصر لا يمكن تجاهله والأخذ بحرفية هذا العقد مهما كانت النتائج، فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة، أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفًا في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء، ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:
أ- في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلًا غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييرًا كبيرًا بأسباب طارئة عما لم تكن متوقعة حين التعاقد فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع وبناء على الطلب، تعديل الحقوق والالتزامات العقدية، بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه منه إذا رأى فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ يجبر له جانبًا معقولًا من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعًا أهل الخبرة الثقات.
ب- ويحق للقاضي أيضًا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرًا بهذا الإمهال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقًا للعدل الواجب بين طرفي العقد، ومنعًا للضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لا يد له فيه، وإن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعي الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها، والله ولي التوفيق، (1) وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
وهكذا يقرر هذا المجمع الموقر مبدأ التعويض للمتضرر صاحب الحق الآجل بسبب الجوائح، وإن تدهور قيمة الورق النقدي إلى ما دون منصف قيمته وقت العقد، ليس هذا من تقصير صاحب الحق حتى يتحمل الخسارة، إنما هو من الجوائح أو الظروف الطارئة القاهرة، فالعدل يقتضي أن يستوفى من الطرف الآخر للعقد الرابح من انخفاض العملة وارتفاع الأسعار ما يعادل الحق الثابت وقت العقد، هذا إذا كان تدهور قيمة العملة كثيرًا فاحشًا كما سبق ضبطه بالنصف؛ وإلا فلا، لأن التجارات لا تخلو من مخاطرات وما دون النصف يسير.
(1) قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي من الدورة الأولى 1398هـ حتى الدورة الثامنة 1405هـ ص/99 - 104
وفي مثل هذا الاتجاه يقول الدكتور نزيه حماد معللًا لتحقيق العدل في المعاملات المالية لإيجاد أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة هو الأولى بالاعتبار من رأي الجمهور الذاهبين أن الواجب على المدين أداؤه إنما هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت في الذمة دون زيادة أو نقصان، وذلك لاعتبارين:
(أحدهما) : أن هذا الرأي هو الأقرب للعدالة والإنصاف فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، والله يأمر بالقسط.
(والثاني) : أن فيه رفعًا للضرر عن كل من الدائن والمدين فلو أقرضه مالًا فنقصت قيمته، وأوجبنا عليه قبول المثل عددًا تضرر الدائن لأن المال الذي تقرر ليس هو المستحق، إذ أصبح بعد نقصان القيمة معيبًا بعيب النوع المشابه لعيب العين المعينة (حيث إن عيب العين المعينة، هو خروجها عن الكمال بالنقص، وعيب الأنواع نقصان قيمتها) ولو أقرضه مالًا فزادت قيمته، وأوجبنا عليه أداء المثل عددًا تضرر المدين، لإلزامه بأداء زيادة عما أخذ.. والقاعدة الشرعية الكلية أنه لا ضرر ولا ضرار.
إن الرأي الذي استظهره الرهوني من المالكية بلزوم المثل عند تغير النقد بزيادة أو نقص إذا كان ذلك التغير يسيرًا، ووجوب القيمة إذا كان التغير فاحشًا أولى في نظري من رأي أبي يوسف المفتى به عند الحنفية بوجوب القيمة مطلقًا وذلك لاعتبارين:
أحدهما: أن التغير اليسير مغتفر قياسًا على الغبن اليسير والضرر اليسير المغتفرين شرعًا في عقود المعاوضات المالية، من أجل رفع الحرج عن الناس، نظرًا لعسر نفيهما في المعاملات بالكلية، ولغرض تحقيق أصل تشريعي مهم، وهو استقرار التعامل بين الناس بخلاف الغبن الفاحش. والغرر الفاحش فإنهما ممنوعان في أبواب البيوع والمعاملات.
والثاني: أن التغير اليسير مغتفر تفريعًا على القاعدة الفقهية الكلية (أن ما قارب الشيء يعطى حكمه) بخلاف التغير الفاحش، فإن الضرر فيه بين والجور فيه محقق. (1)
(1) دراسات في أصول المداينات مرجع سابق ص 226 و227
خاتمة وخلاصة للبحث
1-
رأينا أن النقود الورقية ائتمانية اعتبارية وقيمتها اصطلاحية اسمية وليست ثمنيتها ذاتية بالخلقة كالذهب والفضة (النقدين) .
2-
أنها تقوم بوظائف النقدين تمامًا في وساطة التبادل وتقويم الأموال.
3-
فتاوى السلف والخلف على أنها أثمان تجب الزكاة فيها ويجري فيها الربا.
4-
أنها قابلة لتدهور القيمة أكثر من الذهب والفضة، وأن كثيرا من الدول تعاني من مشاكل التضخم النقدي وانخفاض قيمة عملتها، وظهور النزاع بين الناس.
5-
بينت المراد من كساد العملة الورقية أي انعدام أو إلغاء القيمة المالية لها، وإن انخفاض القيمة لها لأقل من نصف قيمتها وقت ثبوت الأجل (التدهور الفاحش) في معنى الكساد، وسقت الأدلة الشرعية على ذلك.
6-
وأنه في حالة الكساد والتدهور الفاحش تجب قيمة الحق الآجل وقت ثبوته بالذهب والأدلة على ذلك.
7-
وهذا لا علاقة له بالربا لأن الربا زيادة مشروطة وقت ثبوت الحق واعتبار قيمة النقد المنخفض لأقل من نصفه غير مشروط بل له علاقة بالضمان.
يقول الدكتور المصري: "وتغير قيمة النقود الورقية تغيرًا كبيرًا يعتبر من العيوب الموجبة للضمان، والضمان غير الربا، فهو متعلق بما يثبت في ذمة المدين بنقود ورقية، هل القيمة الاسمية (العدد) أو القيمة الحقيقة (القوة الشرائية لنقود أو سلع معينة والنقود يرد مثلها في القرض ولكن هل المثل مثل الصورة أم مثل المعنى؟) ". (1)
وبالختام:
أرى قبل الفصل بين المتنازعين في التعويض عن ضرر صاحب الحق الآجل أن يصطلحا لأن الله تعالى يقول {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 114] ، والرد إلى الصلح رد إلى الخير، ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"ردوا الخصوم كي يصطلحوا فإن فصل الخصومة بالقضاء يورث الضغائن"(2) فالصلح يحصل به مقصود رفع الضرر مع التراضي من غير ضغينة. والله أسأل أن يرفع كل الجوائح ما ظهر منها وما بطن عن أمة نبيه وحبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب.
الدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم
(1) الإسلام والنقود مرجع سابق ص/90
(2)
بدائع الصنائع مرجع سابق 7/13
أهم مراجع البحث:
1-
مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني.
2-
تيسير الكريم الرحمن من تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.
3-
سنن ابن ماجه، محمد فؤاد عبد الباقي.
4-
سنن أبي داود ومعه كتاب معالم السنن للخطابي.
5-
نيل الأوطار للشوكاني.
6-
صحيح مسلم تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
7-
موسوعة فقه عمر بن الخطاب د. محمد روس قلعجي.
8-
تنبيه الرقود على مسائل النقود (ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين) .
9-
حاشية الرد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين.
10-
منتهى الإرادات لابن النجار.
11-
اللباب شرح الكتاب عبد الغني الميداني.
12-
المغني لابن قدامة المقدسي.
13-
الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبة الزحيلي.
14-
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين الكاساني.
15-
المعيار المعرب لأحمد بن يحيى الونشريسي.
16-
الشرح الصغير على أقرب المسالك للإمام مالك، أحمد الدردير.
17-
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
18-
المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية.
19-
تهذيب اللغة للأزهري.
20-
القاموس المحيط للفيروز أبادي.
21-
جواهر الألفاظ لأبي الفرج البغدادي.
22-
الاستغناء في أحكام الاستثناء لشهاب الدين القرافي.
23-
الإسلام والنقود د. رفيق المصري.
24-
دراسات في أصول المداينات د. نزيه حماد.
25-
الجوائح وأحكامها د. سليمان الثنيان.
مفهوم كساد النقود الورقية
وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة
حدود التضخم
التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة
إعداد
الشيخ محمد المختار السلامي
مفتي الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
طلب مني سماحة الأمين العام للمجمع أن أتناول بالبحث: مفهوم كساد النقود الورقية في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة، وحدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة.
إن هذا الموضوع قد نظر فيه مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة، وقدم فيه تسعة من الباحثين الجلة دراسات قيمة بلغت في المجلة مع ما تبعها من مناقشة وقرار خمس عشرة وثلاثمائة صفحة، ثم عرض الموضوع في الدورة الخامسة وقدم فيه اثنا عشر بحثًا موسعة موثقة، دونت مع المناقشة والقرار في خمسين وستمائة صفحة من المجلة.
ورغم الجهد المبذول، جزى الله كل من أسهم فيه عن عمله وحسن قصده الجزاء الأوفى رغم ذلك فإن المسألة ما تزال مطروحة، وما زال الاقتناع العام بقرارات المجمع لم ينفذ نفاذ القبول العام.
وقد عدت للبحوث والمناقشات، وتأملت في البحوث وعشت من جديد جو المناقشات وانتهيت إلى مزيد تقدير للعلماء الجلة الذين قاموا بالدراسات المعمقة.
وأردت في كلمتي هذه أولًا أن أقصر بحثي على مذهب الإمام مالك، لأن العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، وهم أدرى مني بمذاهب أئمتهم وكتبهم قد توسعوا ما شاء لهم التوسع، واستخرجوا من بطون كتبهم ما لا أستطيع أن أزيد عليه.
ثم ثانيًا: أن أخلص من تتبع مذهب مالك عبر العصور إلى عرض تغير قيمة العملة الورقية في العصر الحاضر وما يترجح عندي بعد ذلك.
فهذا هو البحث الذي أقدمه والله أسأل أن يعصمني وإياكم من الزلل والخطأ، في تقرير الحكم الذي يرضيه، وكلكم راد ومردود عليه إلا من عصمه الله، فجعله مبلغ وحيه ومقرر شرعه، صلى الله عليه وسلم كما قال مالك.
المذهب المالكي:
الرأي الأول: أن الدين يقضى بمثل ما وجب به تغيرت السِكة أو لم تتغير انقطعت أو لم تنقطع، جاء في المدونة في باب الرهن:
قلت أرأيت إن أسلفت رجلًا فلوسًا، وأخذت بها رهنًا ففسدت الفلوس قال: قال مالك: ليس لك إلا فلوس مثل فلوسك، فإذا جاء بها أخذ رهنه لأن مالكًا قال: من أسلف فلوسًا أو اشترى بفلوس إلى أجل فإنما له نقد الفلوس يوم اشترى ولا يلتفت إلى فسادها ولا إلى غير ذلك.
قلت أرأيت إن أتيت إلى رجل فقلت: أسلفني درهم فلوس ففعل، والفلوس يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم حالت الفلوس ورخصت حتى صارت مائتا فلس بدرهم؟ قال: إنما يرد ما أخذ ولا يلتفت إلى الزيادة، قال: قال مالك: والشرط باطل وإنما عليه مثل ما أخذ (1) .
هذا النص من المدونة وقع فيه تدقيق بصورتين:
1-
التصوير الأول: الذي صور به سحنون سؤاله، دقق فيه: إذ أضاف إلى عدد الفلوس أن الدائن ضبطها بالرهن، لأن شأن الرهن أن تكون قيمته قريبة من قيمة الدين، فكأن المقرض أو البائع يشعر بأن يرغب في التحصيل على قيمة ما أقرضه أو ما باع به لا دونه، فكان الجواب واضحًا = من أسلف فلوسًا أو اشترى بفلوس إلى أجل فإنما له نقد الفلوس يوم اشترى، ولا يلتفت إلى فسادها.
2-
أما التصوير الثاني: فإن التدقيق جاء من أن الآخذ " المدين " طلب من الدائن درهم فلوس، فالمدين هنا هو الذي يرى منه أنه يرغب في الاحتفاظ بالموازنة بين الدرهم الفضي والفلوس، مع أنه لم يقبض إلا فلوسًا، وقد يكون غرضه إما أن يطمئن الدائن، وإما أن يتوثق لنفسه بأن يكون دينه مائة فلس صرفها درهم وإن غلت، فكان الجواب واضحًا أنه لا يرد إلا مثل ما أخذ، والشرط الذي ربط به باطل لا أثر له إذا غلت الفلوس أو رخصت، وهنا يأتي السؤال على الملحظ الذي لحظه مالك.. وعلى ماذا بنى رأيه؟ هذا ما نجد الإجابة عنه في باب السلم.
قال سحنون: ما قول مالك فيمن أسلم دراهم في فلوس؟ قال مالك: لا يصلح ذلك، قلت: وكذلك الدنانير إذا أسلمها في الفلوس؟ قال: نعم لا يصلح ذلك. قلت: وكذلك لو باع فلوسًا بدراهم إلى أجل أو بدنانير إلى أجل لم يصلح ذلك؟ قال: نعم. قلت: لم؟ قال: لأن الفلوس عين وهذا صرف (2) .
(1) المدونة ج 4 ص165
(2)
المدونة ج 3 ص128
فهذا النص من المدونة يبرز رأي مالك أنه يسوي بين الفلوس والذهب والفضة في أحكام الصرف ويطلق عليها لفظ العين، والعين كما جاء في الصحاح يطلق على الدينار ويطلق على المال الناض (1) وهو مرادف للنقد، كما يؤخذ من لسان العرب (2) فالفلوس عند مالك نوع من أنواع النقود يجري عليها أحكام النقود في باب الصرف ولا يجوز صرفها بفلوس ولا بدنانير ولا بدراهم إلا يدًا بيد.
ويزيد هذا المعنى تأكيدًا فيقول سحنون: قلت: أرأيت إن اشتريت فلوسًا بدراهم فافترقنا قبل أن نتقابض؟ قال: لا يصلح هذا في قول مالك وهذا فاسد. قال لي مالك: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق (3) .
ففي المواطن الثلاثة لا يختلف قول مالك في اعتبار الفلوس نقدًا لها أحكام الذهب والفضة.
ما هي الفلوس؟
الفلوس عند مالك كل سكة يتعامل بها الناس، وكونها في زمنه من نحاس لا تؤثر مادتها في الحكم، إذ المدار على رواجها في التعامل، يقول: ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة (4) .
وصورة الجلود التي فرضها مالك هي صورة النقود عندنا اليوم لأن الجلد في عهد مالك كان هو المادة التي تؤدي وظيفة الورق في عصرنا، وهو يشير بهذا إلى أن المادة وإن كانت لا قيمة لها فإن برواجها كنقد تأخذ أحكام النقدين، لأنه عندما تكون من نحاس لها قيمة ذاتية لمادتها، وأما إذا كانت من قطع جلود فإنه لا قيمة لمادتها إذ لا قيمة للجلد إذا قطع قطعًا صغيرة.
انضاف إلى هذا التأكيد في مواطن مختلفة من المدونة التنصيص على أن مالكًا في هذا الرأي يتفق مع شيوخه كما جاء في المدونة: "قال الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد وربيعة أنهما كرها الفلوس بالفلوس بينهما فضل أو نظرة، قالا: لأنها صارت سكة مثل سكة الدنانير والدراهم، كما روى الليث عن يزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر قالا: وشيوخنا كلهم أنهم كانوا يكرهون صرف الفلوس بالدنانير والدراهم إلا يدًا بيد"(5)
وجاء في المدونة أيضًا في مسألة تسليف الحديد والصوف والكتان، قال ابن وهب: قال الليث: كتب إلى ربيعة: الصفر بالصفر عرض ما لم يضرب فلوسًا. فإذا ضرب فلوسًا فهو بيع الذهب بالذهب والفضة يجري مجراهما. فيما يحل ويحرم.
قال يونس عن ربيعة أن قال: كل تبر خلقه الله فهو بمنزلة عرض من العروض. يحل منه ما يحل من العروض ويحرم منه ما يحرم من العروض إلا تبر الذهب والورق وإذا ضربت الفلوس دخلت مع ذلك.
(1) تاج العروس ج 6 ص2170
(2)
لسان العرب ج 2 ص947
(3)
المدونة ج 3 ص90
(4)
المدونة ج 3 ص91
(5)
المدونة ج 3ص91
ولما كانت المسألة واردة بمثل هذا الوضوح والتأكيد كان قول علماء المالكية في أمهات كتب المذهب أن الفلوس تأخذ حكم الذهب والفضة. وأنه إذا عمرت بها ذمة فالواجب عند الأداء نفس العدد من الفلوس، كما هو الشأن في الدراهم والدنانير لا ينظر فيها إلى حوالة الأسواق، فقد جاء في التلقين للقاضي عبد الوهاب: ومن باع بنقد أو اقترض، ثم بطل التعامل به لم يكن عليه غيره إن وجد، وإلا فقيمته إن فقد (1) فصاحب التلقين أضاف صورة لم تأت في المدونة وهي: إذا ما انقطعت السكة وعدمت فهنا يجعل القيمة هي المرجع، ولم يوضح هل المراد قيمة النقود يوم تعمير الذمة أي عند عقد البيع والسلف أو عند حلول الأجل الذي هو يوم وجوب إبراء الذمة. أو هو يوم الانقطاع للسكة. أو هما معًا؟ وذكر ابن الجلاب الفصل 771 تبديل السكة: ومن اقترض دراهم، أو دنانير، أو فلوسًا أو باع بها وهي سكة معروفة، ثم غير السلطان السكة، وأبدلها بغيرها، فإنما عليه مثل السكة التي قبضها ولزمته يوم العقد. (2)
وجاء في فتاوى أبي الوليد ابن رشد:
وسئل رضي الله عنه عن الدراهم والدنانير إذا قطعت السكة فيها. وأبدلت بسكة غيرها. ما الواجب في الديون والمعاملات المتقدمة وأشباه ذلك؟
فقال رضي الله عنه: المنصوص لأصحابنا ولغيرهم من أهل العلم رحمهم الله أنه لا يجب عليه إلا ما وقعت به المعاملة.
فقال له السائل: فإن بعض الفقهاء يقول: إنه لا يجب عليه إلا سكة متأخرة، لأن السلطان قطع تلك السكة وأبطلها فصارت كلا شيء، فقال وفقه الله: لا يلتفت إلى هذا القول، فليس بقول لأحد من أهل العلم، وهذا نقص لأحكام الإسلام، ومخالفة لكتاب الله تعالى وسنة النبي عليه السلام في النهي عن أكل المال بالباطل.
ويلزم هذا القائل:
1-
أن يقول: إن بيع عرض بعرض أنه لا يجوز لمتبايعيه أن يتفاسخا العقد فيه بعد ثبوته.
2-
وأن يقول: إن من كانت عليه فلوس فقطعها السلطان وأجرى الذهب والفضة فقط أن عليه أحد النوعين وتبطل عنه الفلوس.
3-
وأن يقول: إن السلطان إذا أبطل المكايل بأصغر أو أكبر، والموازين بأنقص أو أوفى وقد وقعت المعاملة بينهما بالمكيال الأول أو الميزان الأول أنه ليس للمبتاع إلا بالكيل الآخر وإن كان أصغر، وأن على البائع الدفع بالثاني وإن كان أكبر وهذا مما لا خفاء ببطلانه. (3)
نتبين من هذه الفتوى أن قضية الوفاء بما في الذمة من دين بسكة منقطعة قد أصبح يمثل إشكالًا، وأن هذا الواقع قد فرض نفسه على الناس لمعاودة النظر، وأن هذا النظر قد أدى إلى أن بعضهم – ولم يسم - قد نظر إلى هذا الواقع من جانب آخر واعتبر معطى أغفله من قبله هو أن السكة من خصائص السلطان، وأن السلطان مسئوليته هي العدل بين الناس، وأن لا يحدث من الترتيبات والتنظيمات والقوانين إلا ما يحقق العدل بينهم، فلا يظلم فريقًا ليؤثر فريقًا آخر.
(1) التلقين ص112
(2)
التفريع ج 2 ص158
(3)
الفتاوى ج1 ص540/542
فإبطال السكة كان في وقت السكة: ليست في يد صاحبها: لأنها إما عند المقترض أو المشتري لأجل، وله أن يقول لو كان المال بيدي لتحوطت ولعرفت كيف أواجه الواقع الجديد.
لكن القاضي كان شديدًا في الرد على صاحب هذا النظر:
1-
أنه قول ساقط لا يستحق أن يلتفت إليه الفقهاء ولا أن يعتبروه وجهة نظر أصلًا.
2-
لأنه يتناقض مع قواعد الإسلام في خط مخالف لنصوص الكتاب وللسنة – إذ هو من باب فتح باب لأكل أموال الناس بالباطل - فالتعليل هو أكل المال بالباطل الذي ورد النص الواضح فيه قرآنًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] . ثم أخذ يلزم قائل هذا القول بإلزامات ثلاثة وسنزيد هذا بيانًا فيما بعد إن شاء الله.
3-
أنه يلزم هذا القائل أن يكون الواجب إذا قطع السلطان التعامل بالفلوس أنه يجب أداء الدين من الذهب والفضة، فكأن هذه الحالة عنده من الوضوح في الحرمة أنه مما لا يقول به أحد.
والعجب من القاضي أبي الوليد كيف يحتد على قائل هذا القول مع أنه منقول عن ابن سحنون، وهو الذي فهمه ابن محرز من كلام أشهب، قال ابن عرفة: ابن بشير حكى الأشياخ عن كتاب ابن سحنون إن انقطعت الفلوس قضى بقيمتها وذكر ابن ناجي في شرحه على قول التفريع المتقدم: "ومن اقترض دراهم أو دنانير أو فلوسًا إلخ"(1)
وفي كتاب ابن سحنون إن انقطعت الفلوس قضى قيمتها. ونحوه وقع لأشهب على ما فهمه ابن محرز (2)
الرأي الثاني في المذهب المالكي هو الرجوع إلى القيمة
فقد ذكر ابن ناجي في شرحه لكلام صاحب التفريع المتقدم: "وفي كتاب ابن سحنون إن انقطعت فلوس قضى قيمتها، ونحوه وقع لأشهب على ما فهمه ابن محرز"(3)
وظاهر كلام ابن ناجي أن ابن سحنون نص على أنه يجب عند انقطاع السكة دفع قيمة السكة المنقطعة. وأن هذا المذهب لم ينص عليه أشهب وإنما فهمه ابن محرز من كلامه.
إلا أن حمل كلام ابن سحنون على أن القيمة قيمة الفلوس هو ما فهمه بعض من نظر في كلامه، وذكر الحطاب وقبله خليل في شرحه لكلام ابن الحاجب: ولو قطعت فلوس فالمشهور المثل: قال خليل: ذكر ابن بشير أن الأشياخ حكوا عن كتاب ابن سحنون أنه يقضي بقيمتها، وظاهره أنه يقضي بقيمة الفلوس، لكن حكى بعضهم عن كتاب ابن سحنون أنه يتبعه بقيمة السلعة اهـ.
(1) الرهوني ج 6 ص 120
(2)
شرح ابن ناجي على التفريع مخطوط المكتبة الوطنية ورقة 118
(3)
مخطوط التفريع ورقة 118 المكتبة الوطنية - تونس
وهذا ما حكاه أيضًا أبو الحسن الصغير في كتاب الصرف. حيث قال: وحكى عن ابن شاس أنه قال: إذا كانت الفلوس من بيع، على المبتاع قيمة السلعة (1)
كل من نقل قول ابن سحنون اعتبر أن هذا الرأي رأي شاذ لا يعتمد.
إلا أنه في القرن الخامس أخذ هذا القول الشاذ يجد تأييدًا. ويفتى به في بعض الأمصار.
فقد ذكر الونشريسي أن ابن الحاج سئل عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه أشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام – ومحمد بن عتاب حي ومن معه.. فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد - فأفتى الفقهاء: أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة، وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، قال وأرسل إلي ابن عتاب. فنهضت إليه فذكر المسألة. وقال لي: الصواب فيها فتواي فاحكم بها ولا تخالفها أو نحو هذا الكلام. (2)
إن ما نقله ابن الحاج عن ابن عتاب يتفق فيه ابن عتاب مع ما نقل عن ابن سحنون حسب الفهم الأول: أن القيمة هي المرجع وأنها قيمة السكة المنقطعة لا قيمة السلعة.
وأنه يعمم في هذا سواء أكان الدين ترتب عن بيع أو عن قرض، بل إن ابن دحون رحمه الله كان يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض فله العوض (3) فابن دحون يوجه ما أفتى به: أن المقرض والمقترض قد عقدا قرض المعروف بينهما على أن المقترض ينتفع بما اقترضه، ثم يرد عوض ما اقترضه مساويًا له، ولا يظلم المقترض بمطالبته بأكثر مما أخذ، ولا يظلم المقرض باسترجاعه أقل مما أعطى والعوض المساوي لا تظهر المساواة عنده في العدد فقط ولكن تظهر المساواة أن يكون لما يأخذه قيمة مساوية لما أعطاه، فلو أعطاه نفس العدد وقد انحطت قيمة السكة فقد ظلمه. كما نقل عن أبي عمر بن عبد البر أنه يتوسع في اعتبار الوضع يوم القضاء لا يوم العقد قال: وكان الفقيه أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى دارًا أو حمامًا بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد، ثم غيرت دراهم ذلك البلد إلى أفضل منها أن يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء، دون النقد الجاري عند العقد.
ويعلق الونشريسي. وقد نزلت هنا ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال، ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال، فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة وكانت حجته في ذلك: أن السلطان منع من إجرائها وحرم التعامل بها.
(1) حاشية الرهوني ج 5 ص 120/121
(2)
المعيار ج 6 ص163.
(3)
المعاير ج 6 ص163
ويعلق على هذه الفتوى فيقول: وهو خطأ من الفتوى. (1)
إن ابن عبد البر قد بنى فتواه في نظري على أمرين:
1-
أن المكتري يستوفي المنفعة شيئًا فشيئًا فيستحق المالك ما يقابل المنفعة التي مكن منها المكتري بالسكة التي يتعامل بها الناس وقت الانتفاع، ولما تغيرت السكة وجب أن يتسلم ما يقابل المنفعة مما يتداوله الناس بينهم. وهذا مراعاة لجانب العدالة.
2-
أن التنظيمات التي يحدثها ولي الأمر والتي لا تتعارض مع نصوص الشارع يجب على المسلم أن يحترمها ويعمل بها، ولما منع الحاكم من تداول نقد من النقود فإنه يجب على كل فرد أن يطيعه وهذا يوجب أن يكون إبراء الذمة لا يتم إلا بالنقد الذي أذن فيه.
وهذه النظرة التي أخذت تظهر بقوة في بلاد الأندلس نجد في نفس الفترة من يذهب إليها من اعتبار الواقع في حقيقته لا في ظاهره.
فقد ذكر الإمام المازري في شرحه للتلقين في باب الصرف أن شيخه عبد الحميد الصائغ يعدل عن المذهب المذكور من المدونة، ويعتل بأنه أعطى منتفعًا به ليأخذ منتفعًا به فلا يظلم بأن يعطي ما لا منفعة له فيه – ولا يحصل هذا الغرض إلا بأن يأخذ قيمتها، قال: وإذا لم توجد بعد انقطاعها كان عليه قيمة السلعة، كمن أسلم في فاكهة فانقطع إبانهما. إن السلم ينفسخ ويرد رأس المال إلى دافعه، وإن كانت قرضًا فانقطعت ولم توجد كانت عليه قيمتها يوم انقطاعها إذا كان الأجل قد حل، وإن لم يحل الأجل فإنه قبل الأجل لا يستحق المطالبة به، فلا يقوم له ما لا يستحق المطالبة به. (2)
فالشيخ عبد الحميد الصائغ مع تلميذه المازري لاحظا:
1-
أن الدائن عمر ذمة المدين بشيء منتفع به، أي له قيمة وقت العقد، ومعنى هذا أن ملكه بعد أن كان في ضمانه وينتفع بخراجه، قد انتقل إلى المدين وهو الذي ينتفع بخراجه فيكون من العدل أن يعود للدائن نظير ما سلمه لا في العدد الظاهري ولكن في القيمة النفعية التي كانت وقت العقد، فإذا بقيت السكة رائجة على حالها كان العدل أن يأخذ نفس السكة، وإذا انقطعت وحولت أخذ قيمتها من السكة الجديدة حتى تكون هذه السكة المحدثة التي يتقاضاها عن دينه تمكنه مما كان يتمكن منه من السكة القديمة لو لم تحول.
(1) المعايير ج 6 ص 163
(2)
شرح التلقين: مخطوط مكتبة القرويين بفاس ص129.
2-
أنه يقاس انقطاع السكة التي في الذمة على انقطاع المسلم فيه عند حلول الأجل فكلاهما في الذمة وكلاهما منقطع، فالحكم في الأصل أي السلم أن يعود رأس المال إلى دافعه. فكذلك إذا انقطعت السكة عاد رأس المال إلى دافعه.
3-
أنه بالتحول عن نفس السكة التي عمرت بها الذمة إلى السكة الجديدة ووجوب إبراء الذمة بإعطاء قيمة الدين يثور إشكال هو: ما هي القيمة؟ لأن القيمة قد تختلف بين وقت انبرام العقد، ووقت حلول أجل الدين الذي هو يوم الوفاء بما في الذمة. ووقت انقطاع السكة. فعلى أيهما يقوم الدين؟
ذهب بعضهم إلى أن القيمة هي قيمة الدين يوم عمرت به الذمة. وقت عقد القرض أو البيع الآجل.
وذهب بعضهم إلى أن الذمة بقيت مشغولة إلى يوم الوفاء بالدين فعندها ينظر في قيمة الدين ليتساوى الإبراء مع الدين، ذلك أنه قبل حلول الأجل ليس للدائن الحق في مطالبة المدين، وإذا لم يكن له حق المطالبة فلا يمكن أن يتصور تقويم ما لا حق له في المطالبة به.
ورأي ثالث: أنه ينظر في القيمة يوم التحول للسكة، فذلك هو اليوم الذي انتقل فيه ما عمرت به الذمة من السكة القديمة إلى السكة الجديدة، وإذا كان الشيخ عبد الحميد الصائغ يعود بانقطاع السكة إلى القيمة مطلقًا فإن معاصره في البلاد الإفريقية الشيخ أبا الحسن اللخمي يناقشه فيما ذهب إليه: ويلزم الدائن بقبول السكة المقطوعة، يقول المازري: ولما جرت هذه المسألة في مجلس شيخي الشيخ أبي الحسن اللخمي – رحمه الله أخذت أنتصر لما قاله شيخي أبو محمد عبد الحميد فقال لي الشيخ أبو الحسن: إني كنت ناظرته على المسألة وألزمته أن يجعل مقالًا لمن أسلم في طعام فصار الطعام لا يساوي شيئًا له قدر، أن يبطل السلم لأنه إنما دفع ما ينتفع به ليأخذ ما ينتفع به، فحاولت الانتصار لشيخنا أبي محمد عبد الحميد لما أفهمني شيخنا أبو الحسن أنه لم ينفصل له عن هذا بأن قلت له: السلم الأصل فيه أن لا يجوز لأنه بيع ما ليس عندك، لكن رخص فيه لأجل الرفق والحاجة والارتفاق الذي هو سبب الرخصة إنما هو اختلاف الأسواق، ولهذا لم يجز مالك السلم الحال.
واشترط في صحة السلم أجلًا تختلف الأسواق فيه، فلو آثر اختلاف الأسواق فسخه، وهو السبب في جوازه وصحته لكان كالمتناقض، بخلاف الدنانير والدراهم التي يجوز البيع بها في الذمة حالًا وإلى أجل قريب أو بعيد فإذا كانت مما بين فيها جواز المعاملة على اختلاف الأسواق فإن اختلافها اختلاف يتفاوت تفاوتًا كثيرًا يؤثر في العقد، فلم يجبني عن هذا بشيء أنقله عنه. (1)
ثم إنه بعد المازري جاء ابن الحاجب في مختصره فقال: لو قطعت الفلوس فالمشهور المثل، ولو عدمت فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم، فهما صورتان: الانقطاع والعدم (شرح ابن عبد السلام كلام ابن الحاجب) فصور المسألة الأولى بقوله: يعني لو باعه بفلوس أو سلفه إياها فقطع التعامل بها لقضي عليه بمثلها لأن ذلك لكسادها فهو مصيبة ممن له الفلوس.
(1) شرح المازري على التلقين ص129.
ويقابل هذا المشهور فيما يعطيه كلام المؤلف أن الشاذ القضاء بقيمتها، ولا أدري كيف يتصور القضاء بقيمتها مع وجودها، إلا أن يريد بقيمتها يوم تعلقت بالذمة لا يوم حلول الأجل، وهو مع ذلك مشكل لأنه إلزام لمن هو في ذمته أكثر مما التزم به وإنما حكى هذا عن ابن سحنون إذا انقطعت أي عدمت.
وصور المسألة الثانية بقوله: ولو عدمت فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم يعني إذا لم ينقطع التعامل بها، ولكنها لم توجد وقت اجتماع الاستحقاق والعدم فإنه يجب فيها القيمة يوم حلول الأجل لأنه حينئذ أعني – يوم حلول الأجل - وجب قضاؤها فلم توجد.
وإن تأخر طلبها بعد حلول الأجل بشهر مثلًا فقطعت في نصف ذلك الشهر فإنه يجب قيمتها في نصف ذلك الشهر لا في أوله وهو وقت حلول أجل الدين، ولا في آخره يوم التحاكم لأنها لم تزل في ذمته يوم الانقطاع وهذا معنى قول المؤلف: فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم وهذا القول هو اختيار الشيخ أبي الحسن اللخمي.
وقال بعض الشيوخ: عليه قيمتها يوم تحكمهما قال: لأنها لم تزل في ذمته إلى يوم التحاكم فيها والأول أقرب إلى التحقيق.
وإن كان قول ابن سحنون جاريًا في هذه الصورة فتكون فيها ثلاثة أقوال. (1)
فابن عبد السلام يؤكد أن مشهور المذهب أن الفلوس إذا كانت موجودة بأيدي الناس، ولكن انقطع التعامل بها فقضاء الدين من سلف أو بيع يكون بتلك الفلوس ولو كانت لا تساوي شيئًا يذكر معتبرًا ذلك مصيبة حلت بالدائن.
وإن القول الشاذ: هو استحقاق الدائن للقيمة ويتوقف في المراد بالقيمة، فإن كان المراد بالقيمة، قيمتها يوم السداد فإنه يعكر عليه أنها موجودة فكيف تقوم؟ وإن كان المراد قيمتها يوم تعلقها بالذمة أي يوم عقد البيع أو القرض فإنه يشكل عليه أن المدين التزم بأداء ما عليه يوم حلول الأجل مضبوط الصفة والعدد، فإلزامه بقيمة الدين يوم العقد لا يوم الوفاء إلزام بما لم يلتزم به.
وناقشه تلميذه ابن عرفة: بأن الفلوس إذا عدمت فإننا نقدر وجودها ونقومها على حسب ذلك التقدير فكذلك إذا كانت موجودة وانقطع التعامل بها فإنا نقدرها على اعتبار ثبوت التعامل بها.
والذي يظهر لي أن مناقشة ابن عرفة غير منزلة على كلام ابن عبد السلام، لأن كلام ابن عبد السلام مبناه أن الفلوس من المثليات وهي موجودة فكيف تخرج من دائرة المثلي إلى دائرة التقويم.
وأما إذا لم يبطل التعامل بها ولكنها فقدت في السوق، ففيها ثلاثة أقوال:
1-
إن الواجب القيمة للدين يوم الاستحقاق وانعدامها فإذا حل أجل الدين يوم غرة المحرم وكانت يومها موجودة ولكنه لم يتقاض دينه فانقطعت في نصف المحرم وتمكن من اقتضاء دينه في نهاية المحرم فإن القيمة هي قيمتها في نصف المحرم.
2-
إن الواجب القيمة يوم التحاكم نهاية المحرم.
(1) شرح ابن عبد السلام على مختصر ابن الحاجب ج 5 ص 412/413 مخطوط توبكابي.
3-
إن الواجب القيمة يوم ثبوت الدين في الذمة يوم القرض أو البيع.
وجاء الشيخ خليل بن اسحق، وكان لفظه في مختصره هو لفظ ابن الحاجب إذ قال:"وإن بطلت فلوس فالمثل أو عدمت فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم". (1)
يشرح الزرقاني كلام خليل مسويًّا بين أمرين:
1-
قطع التعامل بها بالكلية.
2-
تغيرها بزيادة أو نقص على أنه من باب أولى- ويعلل الزرقاني ذلك بأنه المنصوص في المدونة ولأن الفلوس من المثليات، والمثليات تقضى بأمثالها لا بقيمتها.
ويضيف الزرقاني صورة أخرى: وهي أنه إذا ماطل المدين دائنه حتى بطل التعامل فيقول: إن ظاهر المدونة الإطلاق أي التسوية بين حالة المماطلة وعدمها، وينقل عن الوانوغي أنه قيد المدونة بما إذا لم يكن هناك مطل، وأقر تقييد الوانوغي المشذالي وابن غازي في تكميل التقييد قائلًا: هو تقييد حسن غريب، وقال صاحب تكميل المنهاج: وهو ظاهر إذا آل الأمر إلى ما هو أرفع وأحسن. وأما إن آل إلى ما هو أقبح وأردأ فإنه يعطيه ما ترتب في ذمته. (2)
فالمماطل على هذا لا يخول له أن ينتفع من مطله، فإذا سقطت قيمة الفلوس فالواجب الأصل الأعلى، وإن زادت وارتفعت فالواجب الفلوس الرفيعة.
وعلق البناني على هذا التقييد بما يدفعه ويوجب السكة الواجبة في الذمة لا غير، موجهًا اعتراضه بأن الدائن قد دخل في معاملته على احتمالات إما أن يقضيه دينه في الأجل وإما أن يماطله فمفزعه إلى الحاكم، وإما أن يفلس فيذهب الدين كله أو بعضه.
ولذا فإن هذه حالة مدخول عليها لا توجب أية زيادة على المدين
مما ذكرناه من النقول عن كتب المذهب المالكي نتبين أمورًا:
أولًا: إن حكم الفلوس هو حكم الذهب والفضة في التعامل، وبناء على ذلك فبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والفلوس بالفلوس، يشترط في كل واحد من هذه الثلاثة التماثل والتناجز.
وإن بيع أحد الأصناف الثلاثة بالآخر هو من باب الصرف لا بد أن يكون يدًا بيد وأن الفلوس المختلفة المصدر والقيمة يحكم التبادل بينها قاعدة الصرف كما تشير إليه القرارات المجمعية "9 – د – 3" و"4- د – 5" و"6 – د- 8" وخاصة الفقرة الرابعة منه.
(1) شرح الزرقاني ج 5 ص60.
(2)
شرح الزرقاني ج 5 ص60
ثانيًا: إن الفلوس إذا بقيت ثابتة القيمة فالأمر واضح تقضى الديون بأثمانها كما يجوز الاتفاق على اقتضاء القيمة من نقد آخر بسعر اليوم.
ثالثًا: إن النقود إذا بطل التعامل بها. أو تغيرت بزيادة أو نقص فقد اختلف فيها الفقهاء:
1-
إن العبرة في الأداء هو بعملة يوم التعاقد، ولا ينظر لقوتها الشرائية ويعللون ذلك بما يلي:
أ- أن النقود من المثليات، والمثليات تقضى بالمثل لا بالقيمة، وهو التعليل الذي علل به القرار المجمعي رقم "4- د- 5"
ب- أن النقود لا ثمن لها، وهذا ما علل به البرزلي (1) على معنى أنها وضعت معيارًا لغيرها فلو رجعنا إلى القيمة انقلبت أوضاع التعامل واختلطت، وفقد الناس في تعاملهم المعيار الذي يرجعون إليه.
ج– أن النقود إذا كسدت أو انحطت قيمتها فهي مصيبة حلت بمستحقها تقاس على من اشترى دابة فماتت أو على من أسلم في بضاعة فانحط ثمنها يوم القبض وهذا القياس هو الذي وجه به اللخمي.
د- ألزم ابن رشد من يقول بالرجوع للقيمة بإلزامات ثلاثة:
أولًا: أنه لا يجوز للمتبايعين فسخ العقد إذا كان الثمن والمثمن عروضًا، يعني - والله أعلم - إذا تغيرت القيمة، فإذا تغيرت القيمة كان العائد لأحدهما أكثر مما أعطي وهو ممنوع حسبما ضبط في بيوع الآجال.
ثانيًا: أنه إذا أبطل السلطان التعامل بالفلوس وأجرى الذهب والفضة فقط أن على من كان عليه دين بالفلوس أن يجب عليه أن يقضي دينه من الذهب والفضة، معنى هذا أن يكون المدين ملزمًا بدفع دينه بعملة لم يلتزم بها.
ثالثًا: أن السلطان إذا أبدل الميزان أو المكيال بأوفى أو أقل إنه يجب على من تعلق بذمته عروض مقدرة بمكيال أو ميزان أو يقضي دينه بالمكيال الجديد. أي أن اعتماد التحول الأخير في العملة يوجب أن يلتزم المدين المكيال الأخير سواء أكان أكبر أم أقل.
(1) الرهوني ج 5 ص 120
2-
أن العبرة إذا أبطل التعامل بالفلوس فإن القضاء يكون في القيمة.
والقيمة قد اختلف فيها هؤلاء:
1-
قيمة الفلوس يوم انعقاد البيع أو القرض.
2-
قيمتها يوم انقطاعها ويوم استحقاقها باعتبار أقصى الأجلين.
3-
قيمتها يوم التحاكم وتتنزل منزلته المطالبة إذا قضاه بعد مطالبته.
ومن البين أن القيمة يوم الانقطاع لا يعني بها قيمتها عنده ولا بعده ولكن في آخر فترة للتعامل بها.
وإذا كان الدين من بيع، رأي رابع: أن القيمة هي قيمة السلعة يوم عقد البيع ويعللون ذلك بما يلي:
1-
أن المقرض أو البائع إلى أجل أخرج من يده ماله قيمة وما هو مرغوب فيه ليعود له عند الأجل ما يوازي ما خرج من يديه في العرف العام، وإذا كان الأصل والغالب أن يعود له ما اتفقا عليه صفة ومقدارًا فإنه إذا فرغ هذا العوض من القيمة التي كانت له كان للدائن أن يتقاضى حقه بالقيمة التي لدينه لا بالصورة الفارغة.
2-
أن السلطان إذا أبطل التعامل بالفلوس فقضاء الدين بالفلوس الممنوع التعامل بها فيه خروج عن طاعته وتعريض المتعامل بها نفسه للتأديب.
3-
أن يقاس إبطال التعامل بالفلوس على انعدام المسلم فيه عند الأجل، ولما كان في هذه الحالة يعود للمسلم رأس ماله فكذلك عند إبطال الفلوس يعود للدائن رأس ماله لا السكة المنقطعة.
الموازنة بين الاتجاهين:
مناقشة أدلة الفريق الأول:
1– أن النقود من المثليات: لا شك أن النقود من المثليات باعتبار أن المثلي هو ما يكال أو يوزن أو يعد، على معنى أن المتعاملين ينظرون إلى الكمية باعتبار أنها تحقق مصالحهم ويتساوى تحقق المصالح بتحقق المقدار، فقفيز من القمح يساويه قفيز من القمح فيما جعل القمح له من الغذاء، غلت قيمته أو رخصت، وقنطار من السكر يساويه قنطار من السكر كذلك ومائة بيضة تساويها مائة بيضة.
أما في الفلوس فإنها إذا عدم التعامل بها ذهبت المثلية كمائة حاوية من التفاح مملوءة يقابلها مائة حاوية من التفاح مملوءة، ولا يساويها مائة حاوية فارغة أو نصف مملوءة، والفلوس نظر الناس إليها لا باعتبار ذاتها وإنما باعتبار ما تحويه من قيمة، فإذا بطل التعامل بها ذهبت المثلية، إذ ألف فلس رائجة لا يماثلها ألف فلس لا تروج لا في وقت التعامل ولا عند حلول أجل الدين، فإذ كانت لا تساويها وقت التعامل فكيف تساويها وقت الأداء؟!
2-
أن النقود لا قيمة لها هو نفس السابق معبر عنه بصورة مختلفة إذ الحق النقود لها قيمة وقيمتها هي وظيفتها في تحقيق رغبات مالكيها.
3-
قياس كساد النقود على وضع المشتري لدابة فماتت أنها مصيبة نزلت به، وهذا قياس مع وجود الفارق، ذلك أن مشتري الدابة قد وضع عليها يده ودخلت في حوزه وانقطعت علاقة البائع بالمشتري بتمام الصفقة، وملك المشتري خراج ما اشتراه، فله غُنمه وعليه غُرمه شأن المالك، أما في الدين فإن العلاقة بين الدائن والمدين ثابتة وذمة المدين عامرة، نعم لو كسدت الفلوس بعد قبضها لصح القياس وما يكون أقرب في القياس هو أن يقاس هذا الوضع على مشتري الثمرة على رؤوس الأشجار على التبقية، فإذا أجيحت رجع المشتري على البائع بقيمة ما أجيح إن بلغ الثلث يوم الجائحة كما هو مذهب مالك (1) .
4-
ما ألزم به ابن رشد: من يقول بالرجوع للقيمة أنه يلزمه أن لا يجيز فسخ عقد بيع عوضاه عروض، وهذا غير لازم، وذلك لأن فسخ العقد إذا كان عوضاه عروضًا هو من باب الإقالة، والإقالة على الاختيار، فإذا اتفقا على الإقالة بأن يعود لكل ما دفعه ورضي بذلك فلا وجه للمنع منه، وأما في الوفاء بما في الذمة من النقود التي بطل التعامل بها فهو إلزام لأحد الطرفين في مقاطع الحقوق بقبول ما لا قيمة له.
وأما الإلزام الثاني: فالقائلون بالنظر إلى القيمة يلتزمونه، بل هم يقولون به ولا مانع منه، وإلزام المدين بأداء ما لم يلتزم به كلمة استعملت في غير حقيقتها، ذلك أن النقود لا تتعين بالتعيين، معنى هذا أن ذات النقد لا أثر له وإنما النظر للوظيفة التي يقوم بها النقد، فإذا بطلت وظيفته كان المساوي له في القيمة هو الذي تبرأ به الذمة.
وأما الإلزام الثالث: أنه إذا تغير المكيال والميزان يلزم منه أن يكون الوفاء بالمكيال الجديد، هذا الإلزام غير لازم أصلًا لأن إيجاد مكيال غير المكيال الأول لا ينعدم به المكيال الأول في التقدير ولا في المماثلة، بل يكون المكيال الجديد أو الميزان الجديد يحول الالتزام إلى ما هو أكثر أو أقل، بخلاف الاعتماد على العملة القديمة يفرغ المدين من دينه بشيء لا قيمة له، فالمكيال الجديد والميزان الجديد ظلم، والعدل هو الميزان والمكيال السابق، وذلك عكس الفلوس التي بطل التعامل بها، فالعدل قيمتها أو العملة المساوية لها التي حلت محلها، وهذا لا جور فيه على الدائن ولا على المدين لأنه دفع ما يساوي القيمة المتخلدة بذمته والتي استفاد منها.
(1) الزرقاني ج 9 ص193؛ والموسوعة الفقهية ج 15 ص70/71
مناقشة أدلة الفريق الثاني:
1-
الدليل الأول: يعتمد العدالة التي جاء بها الإسلام، ويعتمد نفي أكل المال بالباطل الذي ظن أصحاب الفريق أنهم اعتمدوه كما جاء في كلام ابن رشد.
والعدالة أن يأخذ كل طرف حقه لا أكثر ولا أقل، فإلزام الدائن بأخذ السكة التي بطل التعامل بها فيه ظلم له، لأنه دفع ما له قيمة وأخذ عند الأجل ما لا قيمة له، ولأن المدين لو فرضنا أنه تخلد بذمته ألف فلس وكانت الفلوس يوم التعامل عشرة بدرهم.
فيكون ما أخذه مساويًا لمائة درهم لا فارق بين من يملك ألف فلس ومن يملك مائة درهم عندما يدخلان السوق، إذ يتحصل كل منهما على مقدار مساوٍ من البضاعة التي يريد كل منهما أن يتملكها، فإذا بطل التعامل بالفلوس فإن قيمة الفلوس التي بطل التعامل بها لا تتجاوز وزنها من النحاس أو الحديد فتكون المائة فلس تساوي درهمًا.
فالمدين يدفع ما قيمته عشرة دراهم فيما قبضه وقيمته مائة درهم، لا يقال هذا هو الأمر لو تسلف قفيزًا من القمح ورخص ثمنه وذلك لأن قفيز القمح يتملك للانتفاع به ومنفعته باقية لم ينقص منها – فيما تراد له عادة وهو التغذية - شيء، إذ هو يعطي وحدات حرارية متساوية، فقيمته الغذائية لا تختلف وحاجة الناس إليه ولا تنقص.
بخلاف الفلوس التي بطل التعامل بها فهي كالقمح الذي نخره السوس ولم يبق من وحداته الحرارية إلا الشيء القليل.
2-
الدليل الثاني: قياس إبطال الفلوس على انعدام المسلم فيه أنه يعود للمسلم ما دفعه.
وفي هذا الدليل نظر إذ ظاهره أنه لا يثبت المدعى وذلك لأن الذي عاد إلى المسلم عين ما دفعه دون نظر إلى حوالة الأسواق.
تغير الفلوس بضعف قدرتها الشرائية:
إن التأمل في الاتجاهين الذين سبق ذكرهما يستخلص بواسطته التسوية بين انقطاع الفلوس وبين انخفاض قيمتها الشرائية.
1-
فبالنسبة للرأي الأول القائل بأن الديون تقضى بنفس السكة وإن انقطع التعامل بها. نجد:
أ- نص مالك في المدونة: أنه إذا رخصت الفلوس حتى على النصف من القيمة أن المدين يدفع نفس السكة التي تسلمها أو تخلدت بذمته ولا يلتفت إلى الزيادة ولا ينفذ الشرط كحكمها عند الانقطاع.
ب- الحدة التي ظهرت من ابن رشد على المفتي الذي أفتى بأنه يرجع إلى القيمة عند انقطاعها: فهو يلغي النظر إلى القيمة مطلقًا، فلا فرق بين انخفاضها أو زوال الفلوس من التعامل.
2-
وبالنسبة للرأي الثاني القائل بالرجوع إلى القيمة عند الانقطاع.
أ- رأي ابن سحنون وما فهمه ابن محرز من كلام أشهب وما حكاه أبو الحسن الصغير عن ابن شاس ورأي ابن عتاب. وابن دحون معللًا بأنه أخذ على العوض فله العوض = أي في باب القرض: المقترض استهلك الفلوس التي أخذها ليعوض له بدلها، وبدلها هو ما يساويها، يدل على أنه إذا انخفضت انخفاضًا بينًا أنه يرد القيمة.
2-
تعليل الشيخ عبد الحميد الصائغ: أنه أعطاه منتفعًا به ليأخذ بدله منتفعًا به فلا يظلم بأن يعطى ما لا منفعة له فيه ولا يحصل هذا إلا بأن يأخذ قيمتها، وهذا التعليل يقتضي طبعًا أنه إن نقصت نقصانًا بينًا كان عليه رد القيمة.
وأوضح من ذلك توجيه المازري لرأي شيخه عبد الحميد في مناقشته للشيخ أبي الحسن اللخمي: أن السكة لما كانت مما بين فيها جواز المعاملة على اختلاف الأسواق فإن اختلافها اختلافًا يتفاوت تفاوتًا كثيرًا يؤثر في العقد، على معنى أنه إذا تركنا المتخلد في الذمة تنهار قيمته انهيارًا كبيرًا يتضرر منه الدائن، فقد انتهى العقد سواء أكان عقد بيع أو قرض إلى جهالة في العوض عند حلول أجل القبض، جهالة فيها غرر كبير، وهو مما يفسد العقد.
3-
أن أشهب سوى في فوات الفلوس بين حوالة السوق وبطلانها (1) .
4-
أن الرهوني وهو يتابع الأقوال وتوجيهها أحسن بهذا المعنى فقال: وينبغي أن يقيد رأي المالكية: بما إذا لم يكثر جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف (2) .
وبهذا يظهر أن جريان التشريع لى منهج واحد يقتضي عدم التفرقة بين كساد الفلوس وانقطاعها، وبين وهن قدرتها الشرائية وهنًا يتضرر منه الدائن، فمن منع في هذا من الرجوع إلى القيمة في الكساد منع أيضًا في نقصان القيمة، ومن اعتبر القيمة في الكساد وجب أن يعتبرها في النقص البين.
أما تحديد النقص البين في هذا المقام فإني لم أجد فيه نصًّا فإما أن تلحق بالجائحة وهو الأقرب فيجري فيها الخلاف الوارد في الجائحة، وإما أن يعتبر ما يتضرر منه الدائن، وهنا يختلف التقدير، ففي الديون الكبرى كعشرة ملايين ريال مثلًا، فحتى عشرة في المائة تعتبر خسارة كبيرة للدائن، وفي مائة ريال يتسامح في 10? عادة ولهذا يرجع في تقدير ذلك إلى القضاء الذي يعطي لكل حالة ما يناسبها من الحكم وهو من باب تحقيق المناط حسبما بينه الإمام الغزالي.
العملة الورقية:
العملة الورقية هي كالفلوس تقاس عليها وتأخذ أحكامها، وذلك أنها بعيدة عن الذهب والفضة إذ الذهب والفضة لهما قيمة في أعيانهما، ولا يزيد الدينار المضروب أو الدرهم على مادتها إلا قيمة الضرب إذا لم تقم بالضرب الدولة من بيت المال، وقد تحدث الفقهاء عن أحكام من يأتي بذهبه أو فضته إلى دار الضرب، وإذا أبطل الحاكم التعامل بنقد منهما فإن الناس لا يتضررون من ذلك ضررًا كبيرًا، وقد كان المتعاملون يتعاملون بالوزن إذا اختل عيار النقد بالعد.
(1) حاشية الرهوني ج 5 ص 121
(2)
حاشية الرهوني ج 5 ص121
والفلوس قيمتها في التعامل أكثر من قيمتها المادية إذا كانت سكة رائجة ولذا فإذا أبطل العمل بها تهاوت قيمتها، وتعود إلى أصلها من قيمة مادتها المصنوعة منها ولذا فهي أقرب إلى الورق النقدي وإن كانت أفضل منه، فقد كانت وحدة التعامل في بلدي قبل الحرب العالمية الثانية هي الفرنك الموازي الفرنك الفرسي، وكانت السكة الرائجة في مضاعفات الفرنك الورق النقدي – 5/ 10/ 20/ 50/ 100/ - وكانت وحدة الفرنك من معدن هو خليط من النحاس وغيره، وينقسم الفرنك إلى عشرين وحدة، وكل وحدة منها هي "الصوردي" والصوردي له مضاعفات هي –2 –5 –10 – وكانت قطع الصوردي من خليط من النحاس أقل جودة من مادة الفرنك – فلما اشتعلت الحرب واحتل المحور البلاد التونسية عمدوا إلى طبع الأوراق النقدية لمجابهة نفقات الجيش، فأخذت ظاهرة التضخم تتسارع وانقطع التوريد أو كاد فكانت المسابك تشترى "الصوردي ومضاعفاته" بثمن أرفع من قيمته الرائجة وانقطع من الوجود في التعامل إذ من كان بيده شيء منه باعه للمسابك.
فالأوراق النقدية تتحد مع الفلوس في أن قيمتها أرفع من مادتها، وأنه يمكن للإنسان بواسطتهما إبراء الذمة أو تقديمها كأثمان أو أجور ونحو ذلك، وتختلف عنها، ذلك أن مادة الفلوس لها قيمة بخلاف الأوراق النقدية لا قيمة لها إذا بطل العمل بها، ولكن هذا الفارق قد نص مالك على عدم اعتباره لقوله إن الناس لو أجازوا بينهما لجلود حتى تكون لها سكة وعين لكراهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة، فهو قد سوى بين الفلوس التي مادتها معدن والتي مادتها جلد، وليس معنى ذلك أن الفلوس تكون من جلود كاملة، ولكنه يعني أنها تقطع قطعًا صغيرة فيطبع عليها كما يطبع على سكة الفلوس، إذ الجلد يغوص فيه النقش المقلوب المحفور أو البارز على الطابع – كما يشاهد ذلك في تجليد الكتب القديمة.
وبهذا يظهر صحة إلحاق الأوراق النقدية بالفلوس في أحكام التعامل بها، ولما انتهينا إلى أن الفلوس إذا بطل التعامل بها للفقهاء فيها طريقتان، فكذلك الأوراق النقدية، ولما كان القرن الخامس زمن اهتزازات كبرى في المشرق والمغرب، وقيام دول وسقوط أخرى وانقسام الدولة إلى دول مستقلة متعادية، الأمر الذي عمت به الاضطرابات والفتن وتأثر بذلك الاقتصاد طبعًا، وعمد بعض المتغلبين على التدخل في النقود تدخلًا اختلفت صوره، وخاصة في إبطال الفلوس والأمر بقطعها من التعامل واستبدالها بغيرها إبرازًا للانفصال بين الطور الجديد والطور القديم في هذه الظروف رأينا أن العلماء في الأندلس وإفريقية أحسوا بالمشكلة إحساس من يعيش الأزمة ويتأثر بملابساتها، فذهب من ذهب منهم إلى اعتماد القول بالقيمة في الوفاء بالديون سواء أكانت من قرض أو بيع، وإظهار هذا القول الضعيف والإفتاء به تبعًا لحالة عدم الاستقرار، وإن اختلفوا في الأصل الذي يرجع إليه كمعيار للقيمة هل هو سلعة أو سكة وفي أي ظرف تعتبر القيمة؟
قد يكون هذا الوضع المهتز في تلكم العصور أقرب إلى الاستقرار من الوضع الاقتصادي للعالم في هذا العصر، إذ أن الهيكل الاقتصادي العظيم بفروعه وشعبه وبضخامة الكتلة النقدية التي بلغت حدًّا ما عرفته البشرية في تاريخها الطويل، بما دخل في الدورة الاقتصادية من طاقة وفن وتقنية وعلم، أن هذا الهيكل رغم ذلك قد وقع إفراغ أساسه فنخرته المصالح الفردية والدولية والنظرة القصيرة إلى الغنم العاجل، والأنانية المفرطة، إنه بين الفينة والأخرى تنفجر أزمة انهيار مالي كعاصفة مفاجئة تتكتل الجهود لتجاوزها، ولكنها إن مرت بسلام دون أن ينهار الاقتصاد فإنها تضعف الثقة بالمستقبل، ويهتز الاطمئنان- ذلك:
1-
إن الكتلة النقدية اليوم لم تعد مرتبطة لا بالذهب ولا بالناتج القومي وحدهما، ولا هي تعبير عن الأوراق البنكية، بل يدخل فيها زيادة على ذلك الادخار إلى أجل، حساب الدفاتر، مستندات الخزينة، الادخار السكني الذي تقوم عليه الدولة أو البنوك أو المؤسسات.... ثم إن هذه الروافد أصبحت تتضخم يومًا فيومًا حتى تحققت لها الغلبة فبالرجوع إلى تقرير البنك المركزي الفرنسي الصادر سنة 1979 نتبين ما يلي:
إن نسبة أوراق العملة من الكتلة النقدية في فرنسا كانت تمثل سنة 1970 - 23.3? وانخفضت سنة فسنة حتى وصلت سنة 1979- 31.3?.
كما أن الموجودات من الذهب ومن الديون على الخارج كانت تمثل بالنسبة للكتلة النقدية 6.20? سنة 1970 وانحدرت شيئًا فشيئًا حتى وصلت سنة 1979 إلى 4.8?.
2-
إن الدور الذي فرضته الولايات المتحدة على العالم تبعًا لتفردها بالانتصار الحقيقي في الحرب العالمية الثانية، وتبعا لقوتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية بلغ أن أصبحت الولايات المتحدة لها امتياز البنك المركزي للعالم، إذ هي تتحكم حسب مصالحها في قيمة العملة في كل بلد من البلدان، فإذا فرضت مصالحها ارتفاع قيمة الدولار زادت في نسبة الفائدة، وأوقفت التدفقات الكبرى منه في الأسواق المالية، حتى إذا ما تحولت مصلحتها إلى العكس من ذلك خفضت من نسبة الفائدة وضخت بكتل كبيرة منه في الأسواق لتشتري العملة التي ترغب في التأثر عليها تأثيرًا يرفع من قيمتها تبعًا للخطة التي تبغي الوصول إليها من غزو الأسواق وانتعاش صادراتها وضرب المزاحمين لها.
وإذا كانت الدول ذات الاقتصاد المزدهر غير آمنة من الاهتزازات التي تسببها الاختيارات الأميركية، فإن دول العالم الثالث أشد إحساسًا وأكثر تأثرًا بالعوامل الخارجية زيادة عن تأثرها بأوضاعها الداخلية، فالاقتصاد فيها معلق بأرجوحة تتحرك حركة لا يتحكم فيها راكبها!
وأقرب مثال على هذا الدور الأميركي الخطير على استقرار أوضاع الاقتصاد، ما حدث في شهر مارس في هذه السنة 1995 لما انخفض سعر الدولار في الأسواق، كل المعلقين الاقتصاديين الذين استمعت إليهم يثبتون في تحليلهم أن هذا الانخفاض ليس نتيجة واقع فرض نفسه على الدولار لتنخفض قيمته، وإنما هو إرادة لخفض قيمته.
جاء في خاتمة تعليق الفيقارو (le Figaro) عدد 11-12 مارس 1995 على انهيار سعر الدولار في الأسواق: إن العالم لا يمكنه أن يعيش إلى الأبد في الفوضى النقدية وتحت تهديد الانهيار الاقتصادي، المؤسسات غير الأميركية وأجراؤها والمساهمون فيها ليس من المعقول أن يتحملوا التقلبات المفاجئة لمزاج الورقة الخضراء، عندما ينخفض الدولار فإن المصدر الفرنسي أو الإيطالي لا يمكنه أن يضيف بذلك المقدار قيمة مبيعاته في السوق الأميركية، وأيضًا فإن الذين يبيعون المواد الأولية "وهي بصفة عامة الدول في طريق النماء" خاسرون لأن مبيعاتهم مقدرة دائمًا بالدولار وحده، ما فائدة هذه المفاوضات التي لا نهاية لها؟ وهذا التمثيل النفساني (psycho drame) للتجارة العالمية، إذا كان بين ساعة وأخرى يمكن لبلد أن يغير لفائدته ميزان المعيار.... في هذا العالم الذي يكتنفه الخطر، الدول غنية والدول فقيرة عليها أن تواجه نفس الأزمات النقدية هي في غالب الأحيان نفس الأزمات النقدية، وهي في الغالب مكلفة للدول الغنية وهي دائمًا مؤلمة بالنسبة للدول السائرة في طريق النمو.
3-
إنه بجانب هذه الهيمنة الأميركية المعلنة هناك هيمنة أخرى أشد مكرًا ودهاء هي القوة الخفية التي لا يهمها إلا أن تحقق لنهمها في الثراء ما يتجاوز كل حد، هي لا يهمها مصلحة الدولة التي تنتسب إليها، ولا مصالح البشرية، إنهم بعبثهم بالأسواق يحققون لأنفسهم أرباحًا خيالية تزيد في سيطرتهم على الأسواق فتخضع التحركات المالية علوًّا وانخفاضًا لشرههم المالي، وبذلك يكون تأرجح العملات قنوات تحول لجيوبهم ملايين الدولارات في اليوم الواحد!
4-
القرارات التي يتخذها مجلس الأمن وخاصة الدول الكبار الخمس. في فرض عقوبات اقتصادية على بلد من البلدان، فإذا بعملته تنهار ويحدث التضخم الكبير الحلزوني، كما وقع في ليبيا والعراق.
إنه بجانب هذه العوامل الخارجية قد تحدث عوامل داخلية فتؤثر في البلد الذي حدثت فيه انهيارًا اقتصاديًّا كبيرًا، وذلك ما يحدث من فتن داخل الحدود القومية يصحبها عجز الحكومة القائمة عن ضمان أمن المواطنين على أنفسهم وأموالهم ويتبع ضعف سلطة الدولة عن القيام بواجباتها ضعف الثقة بالنقد فتهبط قوى الإنتاج وتفتح أسواق الظلام لتزيد الحالة سوءًا أو الأزمة استفحالًا كما حدث في لبنان، أو ما يحدث من تحول سريع من اقتصاد مسير إلى اقتصاد حر، فتتسارع إلى السوق قوى يحمل أصحابها الخوف من فوات الفرصة بما ترسب في نفوسهم من اقتصاد مسير فهم لا يبنون نشاطهم على نظرة بعيدة المدى خوفًا من الارتداد إلى الوراء والحالة التي كانوا عليها، يحملهم ذلك على استعجال الربح وتهتز البنى الاقتصادية وتحدث زيادة سريعة في تكليف الإنتاج، فيحدث التضخم المتسارع.
العدالة أساس سلامة المعاملات:
لم تسلم الدول ذات الاقتصاد المزدهر من آفة تقلبات العملة، فإذا كانت العملة الألمانية واليابانية آخذة في الصعود المتواصل في هذه الأيام فإن العملة الإيطالية والأسبانية والدنماركية قد هبطت والجنيه الإسترليني عرف هو أيضًا اهتزازات فماذا صنعت هذه الدول؟
لحد الآن لم تربط هذه الدول أداء الديون والالتزامات الآجلة بما طرأ على النقود من انخفاض أو ارتفاع، رغم أن أثره الأصلي أو التراكمي يبلغ نسبًا كبيرة. وهذا ما جعل الاقتصاديين يلفتون النظر إلى وجوب القيام بالإصلاح.
يقول الأستاذ موريس إليي في محاضرته الشروط النقدية لاقتصاد الأسواق من دروس الأمس إلى إصلاحات الغد:
"إن عمل اقتصاد الأسواق يعتمد على عدد كبير من الالتزامات المؤجلة، فهذا المشروع يلتزم بتقديم إنتاج معين بثمن معين، وهذا المشروع هو يشغل عاملًا يؤمن له مستوى معينًا من الأجر والقائم عليه يقترض الأموال اللازمة له لتنفيذه مع التزامه بسداد القروض وفوائدها، إن كفاءة الاقتصاد كالعدالة تستلزم الوفاء بهذه الالتزامات. كما تستلزم أن لا ينهب الدائنون ولا المدينون، فمن المناسب إذن أن نحمي المتعاقدين جميعًا من تغيرات القوة الشرائية للنقود ".
إن تقلبات القيمة الحقيقية للنقود باعتبارها لا تمكن من أي حساب اقتصادي صحيح إنما تشكل مصدرًا كبيرًا لعدم الكفاءة، وتؤدي في النهاية إلى إضعاف مركز الضعفاء، وإلى استحالة تطبيق أي سياسة اجتماعية فتلك التقلبات إذ تحقق الثراء لبعض الفئات الاجتماعية على حساب الفئات الأخرى، إنما تجلب مظالم تصير مع الزمن غير محتملة ولا مغتفرة أخلاقيًّا، إن متطلبات الكفاءة هنا تلحق بمتطلبات العدالة.
الواقع إن هذه التقلبات تتطلب ربطًا قياسيًّا إلزاميًّا بالقيمة الحقيقية لكل الالتزامات المؤجلة، وبصورة خاصة لكل القروض والافتراضات وعقود العمل المحدودة المدة، وهذا ما يؤمن للاقتصاد سيرًا كفئًا عادلًا (1) .
فالأستاذ يربط بين العدالة وكفاءة الاقتصاد، ويؤكد أن الاندفاع في المجهول الذي لا يتحكم فيه الإنسان ولا يستطيع أن يعد له حساب مضر بالاقتصاد ومثبط لتطوره.
كما أن العدالة تقتضي أن يكون هناك مقياس متفق عليه في الالتزامات الآجلة لا ينتفع أحد الطرفين انتفاعًا غير مشروع على حساب الطرف الآخر.
والناظرون في قضية انخفاض القدرة الشرائية نظرهم مشدود إلى الأمثلة الطافية على السطح، وهي أمثلة بلغت من التشوه حدًّا صارخًا هي ما وصلت إليه العملة اللبنانية والتركية والمكسيكية مما ينطق كل لسان بأن أداء الديون بأمثالها ظلم لا يقبله عقل راشد ولا يمكن أن تقره شريعة نزلت بالميزان القسط، وكيف تلزم من له دين تساوي قيمته عمارة أن يقبض ما لا يكفي لكراء شقة. وهذه الصورة هي كقميص سيدنا عثمان رضي الله عنه تثير المشاعر أو تعجل بالحكم ولا تتعمق في أبعاد المشكلة.
ما يقتضيه الربط القياسي:
لما كانت القاعدة التي استندت إليها الدعوة للربط القياسي هي العدالة، فإن العدالة لا تفرق بين دين ودين، ولا بين وضع ووضع، ولذلك لا بد من التفصيل في الالتزامات الآجلة حتى نتصور ما يترتب على هذا الأساس.
1-
الديون التي منشؤها القرض بلا ربا: وهو عمل خير قصد به وجه الله، ثم حدث أن ضعفت القوة الشرائية للنقود التي تم بها القرض: فاعتمادًا على قاعدة العدالة يجب أن يضاف إلى الدين نسبة النقص، فإذا فرضنا أن التآكل للقيمة هو 8? في السنة، ومضى على الدين خمس سنوات مما يفرض على المدين أن يضيف حوالي 50? والمدين قد يكون نشاطه يوفر له التعويض عن التآكل، وقد لا يوفر له ذلك.
فالأجراء والموظفون في معظم بلاد العالم لا يوجد ربط قياسي ينطبق بصفة آلية على أجورهم ورواتبهم، بل إن الزيادات التي تتحقق بعد مفاوضات طويلة مقصودة غالبًا لا يقبضها أصحابها إلا بعد أن يكون مفعول التضخم قد تجاوزها، فهذه الشريحة من المجتمع وهي الأكثر نكون قد ظلمناها لو طبقنا مبدأ الربط القياسي، لنضمن للجهة الأقوى الدائن كامل حقوقه، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإنه إذا تم هذا بين مسلمين من ألمانيا وارتفعت قيمة المارك الألماني فإن تطبيق مبدأ العدالة يقتضي أن لا يطلب الدائن عدد الماركات التي أقرضها وإنما يتقاضى أقل منها على نسبة القوة الشرائية التي حصل عليها المارك.
(1) سلسلة محاضرات العلماء البارزين (1) ص31 البنك الإسلامي للتنمية
2-
الديون الناشئة عن بيع آجل: هذا البيع الأصل أن يتكايس فيه المتبايعان، ويحسب كل طرف ما يرضاه لنفسه في هذا العقد، ويحصل بينهما الرضا بشروط العقد وطريقة الخلاص، ويكون البائع قد قدر في حسابه من جملة المعطيات عامل التضخم، فإذا ألزمنا المشتري بدفع زائد التضخم نكون قد ظلمناه بدفعه للفارق مرتين – مرة تقديريًّا حسبما ظنه البائع - ومرة واقعيًّا حسبما أثبته المعيار الذي قد يكون مساويًا لتقديرات البائع أو أرفع أو أخفض.
3-
الودائع في البنوك: الحساب تحت الطلب، هذه الودائع لا يختم عليها وإنما يتصرف فيها البنك في مشاريعه الاستثمارية تبعًا للضوابط التي يلزم بها البنك المركزي جميع البنوك، فهي إذن قروض مستحقة الأداء عند طلب المقرض، فلو ألزمنا المقرض بأن يضيف إلى المال المقرض ما تآكل من قيمة القرض أو أن ينقص من القرض ما زاد من القيمة يحدث اختلال في المصارف كبير.
4-
القراض: قد يكون نشاط عمل القراض يطول سنوات يحدث فيها التضخم أو العكس، فعند التنضيض، القاعدة أن ما زاد على رأس المال هو ربح، فهل نعتبر رأس المال هو العدد الذي قبضه العامل يوم عقد القراض؟ أو أن رأس المال هو باعتبار ما طرأ على قيمة رأس المال من تآكل أو قوة؟ معنى هذا أنه لو كان القراض بمائة ألف جنيه واستمر خمس سنوات، وكان التضخم يساوي 8? وبعد التنضيض وجد العامل بين يديه 200 ألف جنيه وقسطه من الربح هو 50? حسب العقد فهل يستحق 50 ألف جنيه؟ ويرد على صاحب المال المائة التي هي رأس المال والخمسين الربح؟ أو هو ملزم بأن يرد عليه قيمة ما أخذ فيكون حظه من الربح حوالي 26 ألف ويعطي لرب المال 174 ألفًا، والعكس فلو حدث في رأس المال قوة شرائية زائدة فهل يرد عليه رأس ماله عدًّا أو ينقص له بمقدار ما قويت به العملة ويعتبر ذلك ربحًا له حظه منه؟
5-
أن قضايا النزاع في الديون كثيرًا ما يطول أمد التقاضي فيها، فلو فرضنا أن المالك قام مدَّعيًا أن المكتري ماطله سنتين ولم يدفع له كراء الباخرة، وادعى المكتري أنه قام بأداء ما عليه إلا أن وثائقه قد احترقت في الحريق الذي أتى على مكتبه، واستعان كل منهما بما يرجح وجهة نظره، فهذه القضية محل اشتباه، ثم إن الحاكم حكم بعد نشر القضية بأن على المكتري أن يدفع للمالك ما تخلد بذمته، وطال أمد التقاضي 3 سنوات: فهل يحكم الحاكم بمائتي ألف جنيه حسبما جاء في العقد أو يضيف إلى تلكم القيمة ما دخل من تآكل أو ينقص ما طرأ من قوة؟
6-
الدولة لها حقوق على المواطنين وللمواطنين حقوق عليها، فهل تقضى هذه الحقوق بأمثالها أو يراعى فيها ضعف القدرة الشرائية أو قوتها؟
فإذا عقدت الدولة مع مقاول عقدًا بمائة مليون دولار، ووجدت نفسها غير قادرة على دفع ما تخلد بذمتها حالًا حسب بنود العقد، إما لأن الأموال المخصصة في الميزان قد نفذت لطوارئ اقتضت المصلحة العامة مواجهتها أو لأنها عقدت قرضًا مع ممول خارجي فحصل من الطوارئ ما عطل تنفيذ العقد في أمده، ثم إنها بعد سنة دعت المقاول لتسلمه حقوقه، فهل تدفع له ما قدمه في بياناته أو هي ملزمة بأن تضيف إليه نسبة التضخم أو تنقص منه نسبة القوة عند الأجل؟
7-
الشراءات المؤجلة على أقساط: كشراء سيارة مقسط ثمنها على خمس سنوات فهل يطبق على هذا الدين مقياس الربط الآلي قوة وضعفًا؟
8-
تحدث كثير من الباحثين عن الكالئ من الصداق، والذي يترجح عندي أن الكالئ من الصداق يبقى على ما حدد في العقد لأن النكاح مبني على المكارمة، ويجوز فيه ما لا يجوز في البيع من الجهالة.
هذه ما حضرني الآن من الصور التي لو أخذنا فيها مبدأ العدالة لحصل اضطراب قوي تبعًا لتعقد المشاكل تعقدًا بلغ حد استعصائها عن الحل، وأعتقد أن منشأ ذلك هو أن النظام العالمي لا يقوم على أسس منطقية ولا عادلة، وأن ترقيع ما تهرأ لا يعطي نتيجة، إذ كلما جذبت الخيط الجامع تمزق الأصل واتسع الخرق على الراقع، إن العالم الإسلامي كما هو تابع للحضارات الغربية في منجزاتها العلمية والتقنية هو واقع تحت سيطرتها الاقتصادية وآليات العمل في هذا الاقتصاد، فهو لا يستطيع تبعًا لذلك أن يحدث نظرة استقلالية في ناحية من النواحي في الوقت الذي هو مشدود إلى عربة القيادة يسير في سكتها مستقيمًا إن سارت على ذلك النحو أو ينعطف يمنة أو يسرة إذا هي انعطفت، ولذا فإن الوضع الاقتصادي يعالج بالعناية للقضاء على أصل الداء لا محاولة تغطية بعض أعراضه، هوهو ما يفرض أن ترتبط العقيدة والاقتصاد والاجتماع والتربية والسلوك كلها فتسير في موكب واحد مستقل ومترابط.
اشتراط الربط القياسي:
إذا كنت قد وصلت إلى أنه لا بد من حل جذري يقوم على أساس استقلالية المنهج الإسلامي نظريًّا تطبيقيًّا، فإن هذا الحل البعيد المنال لا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها، ولكن علينا أن ندعو إليه وأن نذكر به وأن نحييه في القلوب والعقول.
وأن سنن الله في الكون جرت على قاعدة التغير لا الثبات التي من مقتضياتها التطور من القوة إلى الفعل، ومن الكمون إلى الظهور ومن التبعية إلى الاستقلال.
وسؤال يقوم: هل نجد ما يلطف من شراسة هذا الوضع الاقتصادي الجائر ويقيم أوضاعه المختلفة في هذه الناحية؟ أعني الربط القياسي للالتزامات المؤجلة؟
الجواب عن هذا في نظري: إما أن يكون ربطًا آليًّا في جميع القضايا فقد لمسنا ما يترتب عليه من اضطراب، وإما أن يكون هذا الربط ربطًا بالشرط، بأن يشترط المتعاقدان في الالتزامات الآجلة بمقياس هو معيار ثابت أو أقرب إلى الثبات.
رأينا في طالعة البحث أن مالكًا يرى هذا الشرط شرطًا باطلًا لا يصح؛ وهذا لأنه أجرى الفلوس مجرى الذهب والفضة في باب التعامل اعتمادًا على القياس بعلة أن دورها في التعامل واحد، ورأينا بعض فقهاء المالكية يجيزون أن تعتبر القيمة للفلوس إذا ما تغيرت فإذا جاز عندهم الرجوع إلى القيمة بدون شرط فلأن يجوز بالشرط من باب أولى.
ولذا فإن الذي اطمأننت إليه أنه يجوز للمتعاقدين في الالتزامات الآجلة أن يضبطا قيمة الالتزام بمعيار هو المرجع عند الأداء، وبهذا يكون كل منهما على بينة من أمره، وعليه أن يأخذ من الاحتياطات للوفاء بالتزامه ما لا يدخل منه عليه ضرر كبير، أما إذا تعاقدا دون شرط فإن الالتزامات الآجلة تقضى بما وقع عليه الاتفاق من العملة في العقد.
أما المعيار الذي يرجع إليه المتعاقدان، فهو ما يتفقان عليه: سواء أجعلوا المعيار الذهب أو عملة بلد اقتصادها سليم يصمد على الاهتزازات أو سلة عملات، فعلى أية طريقة واضحة ومحددة من البداية يكون الاعتماد.
والله أعلم وأحكم وهو حسبي ونعم الوكيل.
كتبه فقير ربه محمد المختار السلامي
ملخص البحث
ضعف القدرة الشرائية للنقود الورقية
هذا البحث قد درس في الدورة الثالثة والخامسة لمجمع الفقه الإسلامي، وكانت جملة البحوث وما لحقها من مناقشات وقرارين دونت في المجلة فبلغت خمسًا وستين وتسعمائة صفحة واقتصرت في بحثي على مذهب مالك.
للمالكية رأيان في كساد النقود:
الرأي الأول: أن الديون تقضى بأمثالها ولا ينظر للقيمة لا عند الانقطاع ولا عند الرخص والغلاء بناء على أن المثلي يقضى بمثله؛ ولأن النقود أثمان فلو جعلناها مقومة لاختل الميزان، وأنها إن انحطت قيمتها فهي مصيبة نزلت بالدائن.
الرأي الثاني: أنه ينظر إلى القيمة إما يوم تعلق الدين بالذمة أو يوم انقطاع السكة أو يوم الأداء، أو هما معًا، ولكل من حدد المرجع وجهة، اعتمادًا على العدالة وأن النقود لا تراد لذاتها ولكن لما يمكن حاملها من التحصيل عليه.
ولم يوجد نص من علماء المالكية يتحدث في صراحة عن حكم انهيار القدرة الشرائية للفلوس، لكن يفهم من كلامهم التسوية بين انقطاع الفلوس ورخصها صراحة في كلام مالك في المدونة ومن تابعه، وتأملًا في تعليل أهل الرأي الثاني وما صرح به الرهوني في فهمه لكلام أصحاب هذا الرأي.
إلا أن ضبط الرخص الذي يكون معتبرًا عند أهل الرأي الثاني لم تنجد لهم تصريحًا به، ولكن يؤخذ إما قياسًا على الجائحة في الثمار أو يعتمد فيه رأي القضاء الذي ينظر في الواقع وملابساتها تبعًا لمقدار الدين وتأثر صاحبه بما طرأ من نقض هل هو مما مدخول عليه حسب العرف ويتسامح فيه أو هو مؤثر؟
العملة الورقية:
العملة الورقية حادثة فليس للفقهاء السابقين فيها رأي تبعًا لذلك، ولكن الاتجاه العام للفقهاء المعاصرين أنها تجري عليها أحكام التعامل المقررة في النقود؛ لأنها قامت مقامها وحظيت بالقبول العام اختزانًا للعمل ولتقديمها أثمانًا ومهرًا ونحو ذلك.
ويلاحظ أنه تأخذ شبهًا بالنقدين الذهب والفضة في أنها تقضى بها الديون قليلة كانت أو كثيرة، وتختلف عنها في أن مادتها لا قيمة لها بخلاف الذهب والفضة فإن مادة النقود تبقى على قيمة ما تحويه من وزن، وجودة في المعدن المكونة منه.
وتأخذ شبهًا بالفلوس في أن الفارق بين مادتها وبين قيمتها كبيرًا جدًّا، ومن ناحية أخرى تختلف عنها، ذلك أن الفلوس الشأن فيها ألا تدخل في التعامل إلا في الأشياء البسيطة التي لا كبير قيمة لها، ولذا جاء في القانون الفرنسي أن قضاء الديون بالنقود المعدنية لا يقبل إلا في حدود تافهة.
اهتزاز العملة الورقية والارتباط بمعيار:
بلغ اهتزاز العملة الورقية في عصرنا الحاضر ما غطى على ما وقع في الفلوس قديمًا وتجاوزه، ذلك:
1-
أن الارتباط بينها وبين الذهب قد تم إلغاؤه.
2-
أن الولايات المتحدة تبعًا لقوتها الاقتصادية والعلمية والتقنية فرضت الدولار على العالم كعملة للمبادلات، وامتازت بإصداره، فأخذت دور البنوك المركزية، ونتج عن هذا أنها تتحكم في التقلبات للقيمة النقدية حسب مصالحها.
3-
أنه بجانب الهيمنة الأميركية تقوم هيمنة أخرى، هذه التي تعبث بقيم النقود وتدخل في مبادلات وهمية في سوق البورصة وتزعزع الاقتصاد العالمي؛ لأنها مفرغة من القيم الخلقية، ومن الشعور بالانتساب إلى أوطانها أو إلى العائلة الإنسانية ويقتصر همها على الاستحواذ بشتى الطرق على المال.
4-
ما يمكن أن يحدث داخل حدود البلد الواحد من حروب أو فتن، أو تحول من انتهاج طريق اقتصادي إلى منهج آخر يختلف عنه.
هذه العوامل مجتمعة أو مفترقة ما تزال تهدد سلامة الاقتصاد العالمي ولم تسلم الدول العظمى من آثاره، فكيف بالدول السائرة في طريق النمو؟!
وترتب على ذلك أن الالتزامات الآجلة سيطر عليها عاملان مخربان: فقدان العدالة. وقلة الكفاءة.
إن الناظرين إلى اهتزاز قيمة العملة يطغى عليهم ما حدث في لبنان والعراق وتركيا والمكسيك ولا شك أنها مظاهر مفزعة.
ولكنا إذا قلنا باعتماد الارتباط القياسي فإن العدالة تفرض أن يكون ذلك شاملًا لجميع الالتزامات، ولو عممنا لدخل على التعامل اضطرابات أشد من تلك التي حدثت، ولا بد أن يشمل القوة كما يشمل الضعف.
الديون لو ربطناها بمعيار، فإنها يجب أن تشمل كل الديون، حتى الحسابات التي تحت الطلب؛ لأنها قروض في الحقيقة، وأن ينقص منها إذا حصل غلاء في القيمة النقدية، ولا يقتصر ذلك على النسب المرتفعة فإنه حتى النسب الضعيفة في الديون الطويلة الأمد تعظم بسبب التضخم التراكمي، وكذلك القراض، ما هو رأس المال؟ هل هو الكمية التي قبضها العامل أو يراعى فيه التضخم فيقسم الربح الزائد على رأس المال بعد إضافة نسبة التضخم لرأس المال؟ الديون التي للدولة على المواطنين وللمواطنين على الدولة الديون التي دخلت ميدان التقاضي كيف تحسب؟ الشراءات المؤجلة على أقساط تطول!!
الاقتراح:
أن يكون الربط القياسي لا ينطبق آليًّا على جميع المعاملات الآجل ولكن للطرفين أن يشترطا عند العقد الربط، وإذا شرطاه عمل به ويكون المعيار بناء على ذلك هو ما يتفقان عليه سواء أكان الذهب أو مجموعة سلع معينة أو سلة عملات، والله أعلم.
كتبه فقير ربه محمد المختار السلامي