المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

‌سد الذرائع

إعداد

الشيخ مصطفى كمال التارزي

عضو المجلس الإسلامي الأعلى بتونس

بسم الله الرحمن الرحيم

الذرائع

مقدمة:

إذا كان من الواجب على المسلم أن يتعرف طريق معرفة حكم الله تعالى في أي أمر من الأمور لاستخراج الأحكام من ينابيعها فإنما يكون ذلك بمعرفة الأدلة التي نصبها الشارع لمعرفة الأحكام، وهذه الأدلة كثيرة بعضها مجمع عليه وبعضها محل خلاف.

أما الأدلة المتفق عليها فهي: 1- الكتاب. 2- السنة. 3- الإجماع.

والجمهور على اعتبار القياس دليلًا رابعًا.

والأدلة التي هي موضع خلاف بين الجمهور هي: 1- مذهب الصحابي. 2- الاستحسان، 3- المصحلة. 4- سد الذرائع. 5- العرف. 6- الاستصحاب 7- شرع من قبلنا.

ولقد تقرر عند جمهور الفقهاء أن العقل ليس له أن يشرع الأحكام ولا يضع التكليفات وأن عمل العقل ينطلق حيث يطلقه الله تعالى، ذلك لأن التكاليف في الشريعة الإسلامية يتعلق بها الثواب والعقاب وهما أمران يتولاهما العليم الحكيم يوم القيامة وما كان الله تعالى ليعذب أحد لم يبين له طلبه فيها. ولذا قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وإذا كانت بعض أحكام الله في أحداث تجد ولا يكون لنا نص صريح في حكمها فيكون عمل الفقيه حينئذ في استخراج النصوص الشرعية وبيان قواعد الشرع العامة التي تعد نبراسًا يهتدي بهديه ويقتبس من نوره وتطبيق تلك المعاني على ما يجد من أحداث.

وبهذا يظهر أن الأصل في أدلة الأحكام هو النصوص وهي الكتاب والسنة وتعتبر بقية المصادر كلها مبنثقة منها وراجعة إليها. ومن ذلك.

الذرائع أو: سد الذرائع وهناك من الفقهاء من يرجع المصادر كلها إلى القرآن والسنة إذ يقول سبحانه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]

ص: 1508

الفصل الأول

مفهوم الذرائع وسد الذرائع

أ - معنى الذرائع:

والذريعة معناها في اللغة: الوسيلة. ويقال تذرع فلان بذريعة أي: توسل والجمع: الذرائع ـ والذريعة: الجمل يختل به الصيد يمشي الصياد إلى جنبه فيتستر به ويرمي الصيد إذا أمكنه والذريعة: السبب إلى الشيء يقال: فلان ذريعتي اليك أي سببي ووصولي الذي أتسبب به إليك ثم جعلت الذريعة مثلًا لكل شيء أدنى من شيء وقريب منه. وقد تذرع فلان بذريعة أي توسل (1) .

تعريف ابن تيمية: الذريعة: ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت من ذلك الإفضاء لم يكن لها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة هي الفعل الذي ظاهره مباح وهو وسيلة إلى فعل محرم (2) .

تعريف الإمام المازري: المشهور عند الفقهاء: أن سد الذريعة هو: منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز (3) .

تعريف الإمام القرافي: سد الذرائع معناه: حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها (4) .

تعريف الإمام الشاطبي: الذريعة الممنوعة: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة (5) .

تعريف ابن رشد الجد: الذرائع هي: الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور (6) .

(1) لسان العرب الجزء الأول ص 1064 مادة ذريعة ـ معجم مقاييس اللغة لابن فارس الجزء الثاني ص 350 ـ تاج اللغة وصحاح العربية الجزء الثالث 1211

(2)

الفتاوى الكبرى 3/ 256

(3)

أبو عبد الله المازري في شرح التلقين للقاضي عبد الوهاب في طالع باب بيوع الآجال.

(4)

الفروق للقرافي الفرق 58 ص32

(5)

الموافقات في أصول الأحكام ج4 ص 198

(6)

كتاب المقدمات الممهدات ج2 ص 198

ص: 1509

وعند علماء الأصول: ما يكون طريقًا لمحرم أو محلل فإنه يأخذ حكمه، فالطريق إلى الحرام حرام والطريق إلى المباح مباح ذلك لأن الشارع إذا كلف العباد أمرًا فكل ما يتعين وسيلة له مطلوب بطلبه.

وإذا نهى الناس عن أمر فكل ما يؤدي إلى الوقوع فيه هو حرام أيضًا وقد ثبت ذلك بالاستقراء للتكليفات الشرعية طلبًا ومنعاً (1) .

فقد وجدنا الشارع ينهي عن الشيء وينهي عن كل ما يوصل إليه ويأمر بالشيء ويأمر بكل ما يوصل إليه، فقد أمر بصلاة الجمعة وأمر بالسعي إليها ونهى عن البيع بعد النداء لأن الامتناع عن البيع في ذلك الوقت سبيل إلى أداء الصلاة في وقتها (2) . وأمر بالمحبة بين الناس وأمر بكل ما يؤدي إلى تحقيقها ونهى عن التباغض والفرقة ونهى عن كل ما يؤدي إليها، وبهذا تقرر عند الفقهاء أن ما لا يؤدي الواجب إلا به فهو واجب، فالزنا حرام والنظر إلى عورة المرأة الذي يفضي إليه حرام أيضًا، والجمعة فرض فترك البيع لأجل أدائها واجب لأنه ذريعة إليها، والحج فرض والسعي إليه فرض مثله عند القدرة عليه (3) .

(1) محمد أبو زهرة، ابن حنبل حياته وعمره ص 314

(2)

محمد أبو زهرة، ابن حنبل حياته وعمره ص 314

(3)

أبو زهرة الفقه ص 375

ص: 1510

ب - معنى سد الذرائع:

تعريف السد: السد هو إغلاق الخلل وردم الثلم. وسدده أصلحه وأوثقه وحكى الزجاج: ما كان مسدودًا خلقه فهو سد، وما كان من عمل الناس فهو سد ـ والسد والسد: الجبل والحاجز ومنه قوله تعالى: {بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94](وسداً) أي حاجزًا يمنعهم من الوصول.

وروي عن أبي عبيدة أنه قال: بين السدين: مضموم إذا جعلوه مخلوقًا من فعل الله، وإن كان من فعل الآدميين فهو سد بالفتح (1) .

فمعنى سد الذرائع: منع الجائز لأنه يؤدي إلى المحظور، أو قولهم: منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز. فقد منع الشارع ما يجوز خشية أن يتوصل به إلى المحرم.

وقد ثبت نهي الشارع عن المفاسد في ذاتها كما ثبت نهيه عن الأمور التي تتضمن منفعه وتفضي إلى المفسدة إفضاء يخرج عن إرادة المكلف وبناء على ذلك فإن فتح الذرائع، ترك الوسيلة لتؤدي نتيجتها المباحة من غير حذر.

وبهذا نعلم أن الذرائع كما يجب سدها إذا كانت مؤدية إلى مفاسد، يجب فتحها إذا كانت مؤدية إلى مصالح فلا يجوز سدها، لا سيما إذا كانت المصالح متوقفة عليها.

وتكره وتندر وتباح تبعًا للأصل فكان سد الذرائع أحد طرفي الذريعة.

(1) لسان العرب ج2 ص 217

ص: 1511

فتح الذريعة:

قال القرافي: اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح كما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة (1) .

ولم تراع الشريعة الإسلامية الذرائع من جهة سدها فقط بل راعتها كذلك من جهة الفتح، فأعطت كل وسيلة حكم مقصدها في الغالب.

فوسيلة المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها إنما هو بحسب إفضائها إلى غاياتها، كما قال ابن القيم: إن وسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، ومن وسائل ما فيه ذرائع الصلاح التي فتحها الشارع وأذن فيها: تسعير ما يعرض في الأسواق للبيع من طعام وغيره، فقد أذن فيه الشارع حماية للعامة من الغبن.

فالشارع حينما أذن في التسعير فتح ذريعة إلى مصلحة عامة تعود على الحياة الاقتصادية بالخير.

وقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا رجح فيها جانب المصلحة في المآل: وذلك كالمال الذي يبذل للعدو في فداء الأسرى فإنه يزيد العدو قوة وكل ما من شأنه أن يقوي العدو فهو حرام على المسلمين، ولكن البذل في هذه الحالة ذريعة إلى مصلحة هي إنقاذ أسرى المسلمين، وهذه المصلحة أرجح من فساد المال الذي يناله العدو، ولذلك يفرعون عن قاعدة سد الذريعة قاعدة أخرى وهي التي ذكرها القرافي: كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة (2) .

ومدار هذا كما قال العز بن عبد السلام أن المصالح التي أمر الشارع بتحميلها ضربان: أحدهما مصالح الإيجاب والثاني مصالح الندب، والمفاسد التي أمر الشارع بدرئها ضربان أحدهما مفاسد الكراهة والثاني مفاسد التحريم. والشرع يحتاط لدرء الكراهة والتحريم والتحريم كما يحتاط لجلب مصالح الندب والإيجاب (3) .

وهي مبنية على الظنون فكلما كان الغالب صدق الظنون بنيت عليها مصالح الدنيا والآخرة؛ لأن كذبها نادر، ولا يجوز تعطيل مصالح صدقهما الغالب خوفًا من مفاسد كذبها النادر، ولا شك أن مصالح الدنيا والآخرة مبنية على الظنون كما ذكرناه ولا يجوز العمل بكل ظن.

ويقول علال الفاسي: إن سد ذرائع الفساد وفتح ذرائع الصلاح مما قصدت إليه شريعة الإسلام، ومن وسائل التطور التي أحكمتها، لتبقى صالحة لكل زمان ومكان.

وقال ابن عاشور (4) : ولولا أن لقب سد الذرائع قد جعل لقبا لخصوص سد ذرائع الفساد لقلنا إن الشريعة كما سدت الذرائع فتحت ذرائع أخرى، أما وقد درجنا على أن اصطلاحهم في سد الذرائع لقب خاص بذرائع الفساد فلا يفوتنا التنبيه على أن الشريعة قد عمدت إلى ذرائع المصالح، ففتحتها بأن جعلت لها حكم الوجوب، وإن كان صورتها مقتضية المنع أو الإباحة، وهذه المسألة هي الملقبة في أصول الفقه بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وهي الملقبة في الفقه بالاحتياط.

وفتح الذرائع لم يكن محل خلاف بين العلماء، بل الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء هو سد الذرائع، ولذلك اعتبر من الأدلة عند الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل حتى أشتهر المذهب المالكي به واعتبر أكثر المذاهب اعتمادًا عليه.

(1) الفروق للقرافي الجزء 2 ص33

(2)

الفروق ج2 ص 33

(3)

قواعد العز بن عبد السلام ج2 ص 14

(4)

مقاصد الشريعة ص 125

ص: 1512

الفصل الثاني

الفرق بين الذريعة والسبب

وبين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه

أ - الفرق بين الذريعة والسبب:

لقد تقدم تفسير الذريعة لغة وشرعًا وهي التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة أو عكسه، أما السبب فسنيين معناه لغة وشرعًا، وأقوال العلماء في أوجه التشابه والتباين بينه وبين الذريعة.

السبب لغة:

قال الجوهري: هو الحبل وكل شيء يتوصل به إلى غيره وأسباب السماء: نواحيها (1) .

وقال ابن منظور: كل شيء يتوصل به إلى شيء غيره، وجعلت فلانا لي سببًا إلى فلان في حاجتي أي وصلة وذريعة.

وفسر ابن عباس: الأسباب في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] أي تقطعت المودة (2) .

وقال القرطبي: الوصلات التي كانوا يتوصلون بها في الدنيا من رحم وغيره، عن مجاهد وغيره وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه ثم جعل كل ما جر شيئًا سبباً (3) .

ويطلق السبب ويراد به الطريق كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف 89) وفي قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص: 36: 37] .

(1) ناتج اللغة 1 ص 145

(2)

لسان العرب ج2 ص 78

(3)

جامع أحكام القرآن ج2 ص 206

ص: 1513

قال ابن كثير: قال سعيد بن جبير: أبواب السماوات وقيل طريق السماوات وكل ما أدى إلى شيء فهو سببه (1) .

أما معناه عند علماء الأصول: فيطلق على بعض مسبباته في اللغة وعرفه الآمدي بقوله: السبب كل وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه معرفًا لحكم شرعي (2) .

وقال الشاطبي: السبب ما وضع شرعًا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم كما كان النصاب سببًا في وجوب الزكاة والسرقة سببًا في القطع.

وقسم الشاطبي الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة، إلى قسمين:

أولًا: أفعال خارجة عن حدود المكلف.

ثانيًا: أفعال تقع تحت مقدوره.

أما ما يكون خارجًا عن حدود المكلف فقد يكون سببًا أو يكون شرطًا أو يكون مانعًا، فالسبب مثل كون الاضطرار سببًا في إباحة الميتة وخوف العنت سببًا في إباحة نكاح الإماء والسلس سببا في إسقاط الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج وزوال الشمس أو غروبها سببا في وجوب الصلاة.

وأما ما يكون في مقدور المكلف فهو إما سبب أو شرط أو مانع، أما السبب فمثل كون النكاح سببًا في حصول التوارث بين الزوجين، وتحريم المصاهرة وحلية الاستمتاع والذكاة سببا لحيلة الانتفاع بالأكل، والسفر سببا في إباحة القصر والفطر، والقتل والجرح سببًا للقصاص، والزنا وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابًا لحصول تلك العقوبات فإن هذه الأمور وضعت أسبابا لشرع تلك المسببات (3) .

(1) ابن كثير ج2 ص 244

(2)

الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/181

(3)

الموافقات للشاطبي ج1 ص 188

ص: 1514

وعرفة الإمام الغزالي في المستصفى بقوله: وحده ما يجعل الشيء عنده لا به ثم يقول فإن الوصول بالسير لا بالطريق ولكن لا بد من الطريق ونزح الماء بالاستقاء لا بالحبل ولكن لا بد من الحبل (1) .

أما القرافي فقد قرر عند التنبيه الرابع الذي عقده بعد الفرق الثامن والخمسين أن الأسباب من جملة الوسائل وعرفه الشوكاني في إرشاد الفحول بأنه وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه علامة لحكم شرعي.

وظاهر كلام ابن تيمية أنه إذا كان الإفضاء إلى المفسدة ليس فعلًا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه، أو كان الشيء نفسه فساد كالقتل والظلم، فهذا يعتبر من باب السبب (2) .

وأما إذا كان الفعل في ذاته غير مفسدة وإنما يفضي إلى المفسدة كبيع السلاح في الفتنة، فهذا من باب الذرائع.

ونبه الشاطبي إلى أن مشروعية الأسباب تستلزم مشروعية المسببات وإن صح التلازم بينهما عادة، ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب، وإذا نهي عنه لم يستلزم النهي عن المسبب، وإذا خير لم تستلزم أن يخير في مسببه.

مثل ذلك: الأمر بالبيع لا يستلزم الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع، والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح؛ لأن المكلف يتعاطي الأسباب والمسببات من فعل الله تعالى وحكمه، لا كسب فيها للمكلف.

ثم جعل إليهم العمل ليجازوا عليه ثم الحكم فيه لله وحده فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات (3) .

وبهذا يظهر أن الذريعة إذا كانت للتوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة أو ما هو ممنوع فإن السبب لا يخالف المسبب ولا يتأثر بنية الفاعل ولا يتبدل والأسباب الممنوعة أسباب للمفسدة دائمًا. والأسباب المشروعة أسباب للمصالح دائمًا.

(1) المستصفى للغزالي ج1 ص 94

(2)

الفتاوي الكبرى ج3 ص 139

(3)

الشاطبي المسألة الثانية بتصرف ج1/ 189 ـ 190

ص: 1515

الفرق بين الذرائع والوسائل

الوسيلة لغة: المنزلة عند الملك والوسيلة: الدرجة والوسيلة القربة.

وسل فلان إلى الله وسيلة: إذا عمل عملًا يقربه إليه، والواسل: الراغب إلى الله.

وتوسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل: والوسيلة: الوصلة والقربة. قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] .

وقال الجوهري: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير وفي حديث الأذان:

" اللهم آت محمدًا الوسيلة " وهي منزلة في الجنة أو القرب إلى الله.

وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة (1) .

وقد فسر الرسول في حديث آخر أخرجه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلى الله عليه بها عشرًا ثم سلوا لي الله الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) (2) .

وبهذا يتبين أن الوسيلة تتفق مع الذريعة في معنى الوصول إلى المتوسل إليه ولكن تطلق إطلاقات أخرى وهي: المنزلة في الجنة والشفاعة يوم القيامة

وفي الاصطلاح: الذرائع هي منع الجائز الذي يؤدي إلى فعل محظور، وتحريم الوسائل يؤدي إلى نفس المعنى، فلا فرق بين الاصطلاحين، وهذا هو المعنى المتعارف عند المالكية ويبدو أن المالكية الذين اعتمدوا سد الذرائع واعتبروه قاعدة ودليلًا من أدلة التشريع، لم يفرقوا بين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه، وقالوا بتحريم الوسائل التي تستلزم المتوسل إليه.

ولكن فرق الشافعية بينهما بتقييد الوسيلة بالمقصودة. ويظهر هذا في القسم الثالث من أقسام الذريعة التي ذكره القرافي وهو القسم المختلف فيه كبيوع الآجال، والمالكية اعتبروا هذا القسم مما ينطبق عليه قيد استلزام الوسيلة للمتوسل إليه، بناء على قطعية الإفضاء وهو من باب سد الذرائع.

(1) لسان العرب لابن منظور باب وسل الوسيلة ج3 ص 927

(2)

صحيح مسلم الجزء الأول 288

ص: 1516

أما الشافعية ففرقوا بين سد الذرائع وتحريم الوسائل وأخرجوا هذه الصورة واعتبروها من باب الوسائل، وبذلك كان الفرق بين سد الذريعة وبين الوسيلة كبيع العينة فهو باطل عند المالكية مطلقًا من باب سد الذرائع، وهو جائز عند الشافعية إذ هو يشتمل على عقدين صحيحين.

ويقول الشافعي: إذا تحقق مقصد التحليل كان ذلك وسيلة إلى المحرم. وصورة هذا العقد كما ذكره القاضي عبد الوهاب في كتاب الإشراف على مسائل الخلاف إذا اشترى سلعة بأجل بمائة لم يجز أن يبيعها من بائعها نقدًا بثمانين.

وكذلك إذا ابتاعها إلى أجل لم يجز له أن يبيعها من باعها إلى أجل بزيادة على المائة التي اشتراها بها، وأجاز الشافعي كل ذلك واعتبر هذه المعاملة مبنية على عقدين منفصلين صحيحين إلا إذا تيقن أنه قصد الربا.

ص: 1517

الفصل الثالث

المقارنة بين الذرائع والحيل الشرعية

ومدى الوفاق أو الخلاف بينها

الذريعة: معناها الطريقة التي تكون ذاتها جائزة ولكنها توصل: إلى ممنوع. فليست هي المقصودة في نفسها وإنما المقصود ما توصل إليه (1) .

وفسرها ابن عاشور: بأنها: ما يفضي إلى فساد سواء قصد الناس إفضاءه إلى فساد أم لم يقصدوا ذلك في الأحوال العامة (2) .

أما الحيلة: فهي مشتقة من التحول ومعناها نوع مخصوص من التصرف الذي هو التحول من حال إلى حال، ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية موصلًا إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن إليه إلا بنوع من الذكاء والفطنة.

وصارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قصد بها الحيل التي يستحل بها المحارم، كحيل اليهود، وكل حيلة تضمنت اسقاط حق الله أو الآدمي فهي تندرج فيما يستحل بها المحارم (3) .

وقال ابن عاشور: التحيل يراد منه: أعمال يأتيها بعض الناس في خاصة أحوال للتخلص من حق شرعي عليه، بصورة هي معتبرة شرعًا حتى يظن أنه جار على حكم الشرع (4) .

وقال الشاطبي: الحيلة: حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعًا، فإن كان واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة ولكن بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية (5) .

نفس هذا المعنى أشار إليه ابن تيمية عندما قال: فالحيلة أن يقصد سقوط الواجب أو حل الحرام بفعل لم يقصد به ما جعل ذلك الفعل له أو ما شرع، فهو يريد تغيير الأحكام الشرعية بأسباب لم يقصد بها ما جعلت تلك الأسباب له (6) .

(1) تهذيب الفروق 3/274

(2)

مقاصد الشريعة 123

(3)

الفتاوى لابن تيمية 1/291، إعلام الموقعين 3/252

(4)

مقاصد الشريعة 122

(5)

الموافقات ج4/ 201

(6)

الفتاوى ج3/ 109

ص: 1518

الفرق بين الذرائع والحيل:

يبدوا أن هناك تشابها كبيرًا بين الذرائع والحيل، والكلام فيهما متداخل إذ يلتقيان أحيانًا ويفترقان أحيانًا أخرى، والذين تكلموا على هذا الموضوع وكتبوا فيه كثير، ولكن الفروق لم تكن واضحة إذ كثيرًا ما يستدل لأحداهما بأدلة الأخرى.

وضع الفوارق وحصرها ابن عاشور فجعل لها فوارق ثلاثة:

الفرق الأول: من جهتي العموم والخصوص وعلى هذا الاعتبار فالحيل والذرائع قد يلتقي كل منهما مع الآخر في صور ويفترق عنه في صور أخرى.

أ - فمثال ما كان ذريعة وليس حيلة سب الأوثان، فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى.

ب - مثال ما كان حيلة وليس ذريعة: ما يحتال به من المباحات في الأصل كبيع نصاب الزكاة أثناء الحول، فرارًا من الزكاة.

ج- مثال ما كان ذريعة وحيلة: اشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن.

الفرق الثاني: من جهة القصد وعدمه. لأن الحيل لا بد فيها من قصد والذريعة أعم من ذلك؛ لأن ما يفضي إلى فساد يسد ذريعة سواء قصد الناس به إفضاءه إلى فساد أم لم يقصدوا.

الفرق الثالث: الحيل المبحوث عنها لا تكون إلا مبطلة لمقصد شرعي، والذرائع قد تكون مبطلة لمقصد الشارع من الصلاح وقد لا تكون مبطلة إذا عارضها أمر آخر، كزراعة العنب فإنها تؤدي إلى مفسدة وهي توفير الخمر في السوق، وتستطيع الأمة أن تستغني عنه، فلو طبقت هذه الذريعة لحق الحرج جمهورا من الناس.

وذلك حرمان لا يتناسب مع سماحة الشريعة، فكانت زراعة العنب بهذا الاعتبار أرجح عند بعض العلماء عما تؤول إليه من اعتصار بعض نتائجها خمرًا فأبيحت زراعة العنب بهذا الاعتبار ورجحت على المفسدة المتوقعة من زراعة العنب، بينما عدد كثير من العلماء ومنهم ابن تيمية يرى أن الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم بل خشية إفضائها إلى المحرم (1) .

(1) فتاوى ابن تيمية 3/ 257

ص: 1519

وعلى هذا الاعتبار قسمت الذرائع إلى قسمين:

القسم الأول: كونه ذريعة إلى فساد تلازمه ولا تفارقه بحيث يكون مآله إلى فساد مطردًا بحيث يكون الفساد من خاصته. وهو محل اتفاق العلماء في حرمته وسده.

القسم الثاني: قد يختلف مآله إلى فساد تخالفا قليلًا أو كثيرًا فيكون محطًا لاجتهاد العلماء واختلافهم في إباحته أو حرمته بتغليب جانب الحرمة أو الإباحة لاعتبارات أخرى.

أما ابن القيم: فإنه لم يعتبر سد الذرائع من المسائل المستقلة بنفسها، بل اعتبره ضمن قاعدة عامة وهي: العبرة في الشريعة بالمقاصد والنيات، وجعل الحيل تابعة للذرائع، وأطال الحديث في هذه القاعدة وبعد أن قررها وبين بناء الأحكام عليها وشرح أقسامها استدل بأدلة كثيرة من القرآن والسنة على وجوب سد الذرائع أنهاها إلى تسعة وتسعين دليلًا، ولما وصل إلى الحيل اعتبر أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، وقال: فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة (1) .

فأين من يمنع الجائز خشية الوقوع في المحرم ممن يعمل الحيلة في التوصل إليه؟ ثم بين أن الأدلة التي ذكرها من قبل في بيان وجوب سد الذرائع كلها تقوم حجة على تحريم الحيل وزاد أدلة أخرى فقال: ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله، واسقط فرائضه بالحيل.

كقوله ((لعن الله المحلل والمحلل له)) و ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها)) و ((لعن الله الراشي والمرتشي)) و ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده)) (2) واعتبر أن الحيل المحرمة مخادعة لله ومخادعة الله حرام.

وهو وإن اعتبر الحيل تأخذ حكم سد الذرائع لأنها تابعة لها إلا أنه مع ذلك اشترط القصد في التحيل وعبر عن ذلك في كلامه عن تحريم الحيل قائلا: ومدار الخداع على أصلين:

أحدهما إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له.

والثاني: إظهار قول لغير مقصوده الذي وضع له. وهذا منطبق على الحيل المحرمة (3) . وفي الأصلين ينص على أن القصد هو مدار الحرمة.

(1) إعلام الموقعين ج3 ص 147

(2)

إعلام الموقعين ج3 ص172

(3)

إعلام الموقعين ج3 ص 174

ص: 1520

أما الإمام الشاطبي: فإنه لم يختلف كثيرًا عما قرره ابن تيمية وابن القيم في اعتبار الحيل تابعة للذرائع تأخذ حكها وقيدها كما قيدها من ذكرناه قبله من العلماء، وقال: ولكن هذا بشرط أن يظهر لذلك قصد إلى إبطال الأحكام الشرعية وهو وإن اعتبر أن مالكًا حكم قاعدة الذرائع في أكثر أبواب الفقه ولكنه قال: ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي فإنه اعتبر المآل أيضًا، ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان (1) .

ثم قال من أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضًا لأن الواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة قد عاند الشارع لأن الهبة موجبة لإبطال الحكم فكان هذا القصد بخصوصه ممنوعًا لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع عن أداء الزكاة فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحة ممنوع (2) .

أقسام الحيل وأحكامها:

القسم الأول من الحيل: ما كان المقصود منها جائزا غير محظور من إثبات حق أو دفع باطل، وأنواعه باعتبار الطرق الموصلة إليه ثلاثة لأن الطريق إلى المقصود منها:

أ - إما أن تكون محرمة: كالوصول إلى الحق المجحود بشهادة الزور، فتحرم الحيلة لتحريم الوسائل.

ب - إما أن تكون جائزة موضوعة لذلك المقصود شرعًا، ومن أمثلة ذلك ما إذا خافت المرأة أن يغيرها زوجها بالزواج عليها فالحيلة في منع هذا الأذى عنها أن تشترط هي أو وليها في العقد أنه متى تزوج عليها فأمرها بيدها إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته.

ج- أن تكون جائزة ولكنها لم توضع بالقصد الأول لذلك المقصود شرعًا، ومن أمثلة هذا النوع أن ينكح المرأة ليعتز بأهلها وليستعين بمالها أو بجاهها فيما لا يغضب الله فإن المقصود جائز، لكن النكاح لم يوضع لذلك شرعًا على وجه القصد وإنما وضع بالقصد الأول لطلب الولد وعفة الزوجين عما حرم الله والمساكنة والأزدواج وقد يستتبع المعاونة والنصرة، فإذا نكح المرأة لمالها ينتفع به أو لأهلها ينصرونه مثلًا جاز ذلك النكاح لأن هذا المقصود لا يتنافى مع مقاصد النكاح الأصلية بل كان موثقًا لها.

(1) الموافقات للشاطبي ج4 ص 198

(2)

الموافقات للشاطبي ج4 ص 202

ص: 1521

والدليل على مشروعية الحيل التي كان المقصود منها جائزًا غير محظور من القرآن قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] هذا تعليم لأيوب عليه السلام لإيجاد مخرج عن يمينه التي حلف ليضربن زوجته مائة وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] ومن السنة: حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعمل رجلًا على خيبر فأتاه بتمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله إنما نأخذه الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة. قال: لا تفعل. بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم تمرا.

وبهذا يتبين أن ما يتخلص به الرجل من الحرام، أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل، هو أمر جائز، أما من احتال في حق إنسان حتى يبطله، أو في باطل حتى يحسنه، أو في حق حتى يدخل فيه شبهة، فهو حرام.

ص: 1522

وقال ابن القيم: " ولا ريب أن هذه الحيل مخارج مما ضاق على الناس فيكون له بالحيلة مخرج منه، وكذلك الرجل تشتد به الضرورة إلى نفقة ولا يجد من يقرضه فيكون له من هذا الضيق مخرج بالعينة والتورق"(1)

ولو لم يفعل ذلك لهلك وهلكت عياله، والله تعالى لم يشرع ذلك ولا يضيق عليه شرعه الذي وسع خلقه" (2)

القسم الثاني من الحيل: ما كان المقصود منها محرمًا، وهو يتنوع باعتبار الطرق المفضية إليه إلى ثلاثة أنواع أيضًا.

أ - محرمة في نفسها، كالاحتيال على فسخ النكاح بالردة.

ب - إباحة تفضي إلى المقصود المحظور كما تفضي إلى غيره من المقاصد الحسنة.

كالسفر لقطع الطريق، وكالزيادة في ثمن السلعة عند عرضها للبيع من أجنبي عن العقد من غير أن يكون له رغبة في شرائها، فإذا قصد من تلك الزيادة التغرير بالمشتري فهي حرام، وإذا قصد بها دفع الغبن عن البائع أو يشتريها المشتري بقيمتها فهي حلال عند بعض العلماء.

ج- مباحة شرعت لغير هذا المقصود المحظور فيتخذها المحتال وسيلة إليه، ومن أمثلته الفرار من الزكاة ببيع النصاب أو هبته أو استبداله قبيل حولان الحول. وهذا النوع هو موضع الزلل ومحل الانتباه والمقصود الأول من الكلام على الحيل.

وهذا النوع الثالث: وهو ما كان المقصود بها محرمًا والوسيلة مباحة لم تشرع له، حرام من جهتين: من جهة الغاية والمقصود ـ ومن جهة الوسيلة والطريق.

أما من جهة الغاية فلأن المحتال قصد به إباحة ما حرم الله وإسقاط ما أوجبه.

وأما من جهة الوسيلة: فلأنه اتخذ آيات الله هزوا وقصد بالسبب ما لم يشرع لأجله، بل قصد ضده، فقد ضاد الشارع في الغاية والوسيلة والحكمة جميعاً (3) .

(1) انظر ص182 ج3 إعلام الموقعين بين فيها ابن القيم التورق

(2)

إعلام الموقعين ج3 ص 207

(3)

إعلام الموقعين ج3 ص 286 إبطال الدليل على إبطال التحليل لابن تيمية ص 84

ص: 1523

والشاطبي رحمه الله قسم الحيل ثلاثة أقسام بناء على موافقتها للمصالح التي وضعت الشريعة لها أو مخالفتها لها:

أحدها: ما لا خلاف في بطلانه، كحيل المنافقين والمرائين.

الثاني: ما لا خلاف في جوازه، كالنطق بكلمة الكفر إكراهًا عليها، قال الشاطبي، وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع (1) .

الثالث: ما لم يتبين بدليل قاطع موافقته لمقصد الشارع أو مخالفته له، وهذا على خلاف بين العلماء، ومرد اختلافهم اختلاف نظرهم في موافقته لمقصد الشارع أو مخالفته له.

فمن رأى أنه غير مخالف لمقصد الشارع أجاز الحيلة فيه، ومن رآه مخالفًا منع الحيلة؛ لأنه لا أحد من الأئمة يجيز مخالفة قصد الشارع (2) .

وقد مثل الشاطبي لما اختلف نظر المجتهدين فيه بنكاح المحلل فهو حيلة إلى رجوع الزوجة إلى من طلقها طلاقًا بائنًا، فمن أجاز هذه الحيلة نظر إلى موافقة الصور نصوص الشارع ونصوصه مفهمة لمقاصده.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتك)) (3) . ظاهر في أن المراد في النكاح الثاني ذوق العسيلة، وقد حصل ولو كان قصد التحليل معتبرًا في الفساد لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه حيلة لا يفسده وإلا لزم ذلك في كل حيلة، ونظرا إلى ما فيه من المصلحة بقصد الإصلاح بين الزوجين.

وإذا كان الشاطبي قد بني تحريمه للحيل على موافقتها للمصالح التي وضعت الشريعة لها أو مخالفتها لها، وإن ما لم يتبين موافقته لمقصد الشارع أو مخالفته له هو محل النظر، فمن رآه من العلماء موافقًا لمقصد الشارع أجازه ومن رآه مخالفًا منعه، فإن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم استدلا لحرمة الحيل التي جعلها الشاطبي محل نظر، ولذلك كان موقفهما هو التنديد في تحريم التحليل والمنع منه وإنكار أن ينسب لأحد من الأئمة القول به (4) .

كما يرى أن من أفتى بالحيل المحرمة هو غير مقتد بإمام من أئمة الدين، ومن نسب شيئًا من الحيل المحرمة لأحد من الأئمة فهو جاهل بأصولهم؛ لأن أكثر ما نقل من الحيل مناقض لأصول الأئمة (5) .

(1) الموافقات ج3 ص 377

(2)

الموافقات ج2 ص 388

(3)

رواه الجماعة عن عائشة في قصة امرأة رفاعة (نيل الأوطار ج6 ص 253

(4)

الفتاوى لابن تيمية ج3 ص93

(5)

إعلام الموقعين ج3 ص 171

ص: 1524

الفرق بين المقاصد والوسائل في قوة الحكم:

موارد الشريعة قسمان:

1-

مقاصد: وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسها.

2-

وسائل: وهي الطرق المفضية إلى المقاصد وحكمها كحكم ما أفضت إليه من تحليل وتحريم غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع بها بحسب إفضاءها إلى غايتها وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن بها بحسب إفضائها إلى غايتها فوسيلة المقصود تالية للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغاية وهي مقصود قصد الوسائل (1) .

الفرق بين الغلو في الدين وبين سد الذريعة:

إن سد الذريعة موقعه وجود المفسدة ووجوب سدها، والغلو في الدين موقعه المبالغة في إلحاق مباح بمأمور به ـ أو بمنهي عنه شرعًا، أو في إتيان عمل شرعي بأشد مما أراد به الشارع بدعوى خشية التقصير من مراد الشارع وهو المسمى في السنة بالتعمق والتقطع ـ وفيه مراتب.

1-

منها ما يدخل في الورع في خاصة النفس الذي بعضه إحراج لها، والورع يرجع إلى طلب حصول اليقين مما نحن مكلفون فيه بالظن، مثل التحري في رسم القبلة بالقواعد الفلكية التي لم نكلف بها، واستمرار الإمساك في رمضان حصة بعد الغروب لتحقق الغروب، وابتداء الإمساك فيه زمنا قبل الفجر.

2-

ومنها الورع في حمل الناس على الحرج، ومنها ما يدخل في معنى الوسوسة المذمومة، يقول الشيخ ابن عاشور ويجب على المستنبطين والمفتين أن يتجنبوا مواقع الغلو والتعمق في حمل الأمة على الشريعة وما يسن لها من ذلك (2) .

(1) الفروق للقرافي ج2 ص32

(2)

مقاصد الشريعة ابن عاشور ص 126

ص: 1525

الفصل الرابع

أقسام الذرائع بحسب القطع

بتوصيلها للحرام وعدم القطع

أركان الذريعة:

أركان الذريعة ثلاثة:

الركن الأول: الوسيلة:

وهي الأساس الذي تقوم عليه الذريعة لأن وجودها يستتبع بالضرورة وجود الركنين التاليين وهما: الإفضاء، والمتوسل إليه:

والوسيلة يمكن أن نلاحظ فيها الملاحظات الآتية:

أولًا: الوسيلة قد تكون غير مقصودة لذاتها وذلك حين يتجه الفاعل إلى الفعل من غير أن يقصد المتوسل إليه، كمن يسب آهلة المشركين غيرة لله وانتصار للحق سبحانه وإغاظة للكفار، من غير نية إثارتهم ودفعهم لسب الله تعالى، فيسبون الله تعالى عدوًا بغير علم، ومع أن المسلم لا يظن به ذلك فقد منع؛ لأن المعهود فيمن عميت قلوبهم أن يغاروا على ما يظنونه آلهة.

كما نهى الله سبحانه وتعالى أن يقولوا للرسول: راعنًا، يريدون المراعاة والانتظار؛ لأن اليهود كانوا يتخذون مخاطبة المسلمين بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذريعة إلى الهزؤ، ويقصدون من وراء ذلك الرعونة، فعد استعمال المسلمين لها وسيلة إلى فعل خبيث لليهود، ولو كان غرضهم مجرد المخاطبة.

ثانيًا: قد تكون الوسيلة مقصودة لغيرها، أي أنها وسيلة لمقصود، كبيع شيء بمائة إلى أجل ثم يشتريه بثمانين حالة، فقد آل أمره إلى أنه أقرض ثمانين في الحال ليأخذ عند الأجل بدلها مائة؛ لأنه لما عاد الشيء نفسه إليه اعتبر كأن لم يكن موجودًا بيعًا ولا شراء، ولم يجر عليه عقد بالمرة، مع أنه بقيت صورته بينه، فكان عقدًا جر نفعا، وهو عين الربا المحرم، وقد حالت حرمته دون الدخول عليه ابتداء، فكانت صورته صورة عقد البيع ثم الشراء وسيلة مشروعة الظاهر وهي باطلة في الواقع (1) .

ثالثا: إنها الأساس الأول الذي تقوم عليه الذريعة؛ لأن وجوده يستتبع وجود الركنين الآخرين، فمجرد وجوده بالفعل تنتظم معه الأركان وجودًا بالفعل أو تقديرًا.

فلو ضربت المرأة ذات الخلاخيل وقصدت تحصيل الافتتان ثم حصل الافتتان بالفعل فقد توافرت الأركان الثلاثة، ولو ضربت مع قصد إثارة الافتتان ولم يحصل الافتتان أو ضربت من غير قد وحصل الافتتان أو ضربت من غير قصد ولم يحصل الافتتان فإنها تمنع من ذلك في الوجوه الثلاثة الأولى.

ويقدر حصول الافتتان في الأول والقصد في الثاني والقصد مع الافتتان في الثالث، أما لو قصد الافتتان من غير ضرب بالأرجل وبقي ذلك في داخل نفسها فلا ذريعة، وإذا وجد الافتتان ولم يوجد سبب آخر غير الضرب بالأرجل يؤدي إليه، فذلك دليل على أنه إنما حصل بسبب الضرب، ولهذا فإن الركن الأول يعد الأساس.

(1) سد الذريعة محمد البرهاني ص 103

ص: 1526

الركن الثاني: الإفضاء:

وهوالذي يصل بين طرفي الذريعة، وهما الوسيلة والمتوسل إليه، وجرى استعمال كلمة الإفضاء للدلالة عليه، ويلاحظ في هذا الركن أمران:

الأمر الأول: الإفضاء أمر معنوي يحكم على وجوده أما بعد الإفضاء فعلا وإما تقديرًا.

1-

أما الإفضاء فعلًا: وهو يكون بحصول المتوسل بعد حصول الوسيلة.

-كعصر الخمر بعد زراعة العنب.

-وكحصول الفاحشة بعد النظر إلى الأجنبية أو التحدث معها.

-أو وطء المحرم المحرمة بعد تطيبها بالنظر إلى أن التطيب من دواعي الوطء.

2-

الإفضاء تقديرا: وهو على وجوه:

الوجه الأول: أن يقصد فاعل الوسيلة التذرع إلى المتوسل إليه حقيقة، كمن يعقد النكاح على امرأة ليحللها لزوجها الأول، ومن يلجأ إلى صورة بيوع الآجال ليأخذ القليل بالكثير، ومن يحفر بئرًا خلف باب الدار ليقع فيها كل من يدخلها.

الوجه الثاني: ألا يقصد فاعلها التذرع، ولكن كثرة اتخاذها في العادة وسيلة مفضية للمتوسل إليه يجعلنا نحكم عليها بأنها وسيلة مفضية، كأن يبيع سلعتين بدينارين لشهر، ثم يشتري إحداهما بدينار نقدًا، فإننا نتهمه بالقصد إلى جمع بيع وسلف معًا ولو لم يقصد ذلك بالفعل.

الوجه الثالث: ألا يقصد فاعلها التذرع بها ولكنها قابلة من نفسها لأن يتخذها وسيلة للإفضاء بها إلى المتوسل إليه سواء أفضت بالفعل أو لم تفض، كسب آلهة المشركين، فإنها قابلة لأن تحمل المشركين على سب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم. فلذلك نمنع منها ولو لم ينو المسلم إثارتهم لذلك.

الوجه الرابع: ألا يقصد فاعل الوسيلة ولا غيره التذرع بها، ولكنها قابلة من نفسها الإفضاء، فنقدر كذلك الإفضاء بالفعل لنمنع منها كمن يحفر للسقي في طريق المسلمين أو يلقي السم لغرض مباح كإبادة الحشرات في الخضر أو الفواكه والبر والشعير، فغرض الأول منها السقي وغرض الثاني المباح الذي يعينه على إبادة الحشرات وكلاهما جائز لصاحبه فعله، ولكنه منع بتقدير الإفضاء إلى موت الإبرياء بالتردي والتسمم، ولولا هذا التقدير لبقي الحكم في الوسيلة على الجواز.

الأمر الثاني: يلاحظ في الركن الثاني وهو الإفضاء ضرورة بلوغه حدًا معينًا من القوة ليثبت بناء على ذلك المنع، والقوة إنما تكون بالكثرة العددية أو بخطورة المحظور الذي تفضي إليه (1) .

(1) سد الذريعة محمد هشام البرهاني ص 121

ص: 1527

الركن الثالث: المتوسل إليه:

ويسمى أيضًا: الممنوع والمتذرع إليه، ويلاحظ فيه الأمور الآتية:

أولا: أن يكون ممنوعًا، فإن لم يكن كذلك بأن كان جائزًا فلا تكون الوسيلة إليه ذريعة بالمعنى الخاص وإن صح كونها ذريعة بالمعنى العام، ولا بد أن يكون فعلًا بمعنى أن يكون مقدورًا للمكلف، فإن لم يكن كذلك فالوسيلة إليه سبب أو مقتضى.

ثانيًا: الذي يلاحظ فيه أيضًا أنه الأساس في تقدير قوة الإفضاء وضعفه، فليست كثرة الإفضاء وحدها هي الأساس بل إن خطورة المتوسل إليه ومقامه بين المفاسد هو الذي يحدد كذلك هذه القوة.

فالمفسدة في الدين أخطر من المفسدة في النفس، والمفسدة في النفس أخطر من المفسدة الواقعة في العقل، والمفسدة في العقل أخطر من المفسدة الواقعة في المال وهكذا.

ومن جهة أخرى تعتبر المفسدة الواقعة في الجمع الغفير أخطر من المفسدة الحالة بعدد معين كما يعتبر المقبل على المفسدة بقصد أخطر من الواقع فيها بغير قصد.

ولهذا نجد العلماء يبالغون في سد الذرائع التي تؤدي إلى محظور في العقيدة وفي الدين وقد كتبوا في ذلك كتبا، وعقدوا له أبوابًا وفصولًا، والمطالع لكتب البدع والحوادث يجد الشواهد الكثيرة على ذلك (1) .

(1) سد الذريعة محمد هشام البرهاني ص122

ص: 1528

أقسام الذرائع باعتبار الحكم ورأي العلماء فيها

أ- عند القرافي:

والذرائع: أقسام ثلاثة باعتبار ما تفضي إليه من مصلحة أو مفسدة.

القسم الأول

ما أجمعت الأمة على منعه وسده وحسمه (1) . وهو كل مباح أو واجب أو مندوب أو مكروه يكون طريقًا ووسيلة إلى مفسدة، فيصير حرامًا بالتبع إلى ما يؤدي إليه.

فوسيلة المحرم محرمة: فالفاحشة حرام، والنظر إلى عورة الأجنبية حرام لأنها تؤدي إلى الفاحشة، وذلك لأن الشارع إذا كلف العباد أمرًا فكل ما يتعين وسيلة له مطلوب بطلبه، وإذا نهى الناس عن أمر فكل ما يؤدي إلى الوقوع فيه حرام أيضًا، فقد نهى عن التباغض والفرقة ونهى عن كل ما يؤدي إليها، ونهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، وأن يستام على سوم أخيه، أو يبتاع على بيعه، وما ذلك إلا لأنه ذريعة إلى التباغض المنهي عنه، فإذا حرم الشارع شيئًا وله وسائل تفضي إليه فإنه يحرمها تحقيقًا لتحريمه، ولو كانت في ذاتها مباحة، ومن غير المعقول أن يكون الشيء في ذاته ممنوعًا، وتباح الوسائل الموصلة إليه (2) .

والنوع الأول هو الذي يعنيه الأصوليون عندما يخصصون الحديث على سد الذرائع غالبًا؛ لأن الذي يعنيهم أولًا إنما هو دفع الفساد.

كما أتفق علماء الأصول على أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح. يقول القرافي: إن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج.

والوسيلة أنقص رتبة من المقاصد في حكمها، والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسط، ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] .

فقد أثابهم الله على الظمأ والنصب ولم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو لإعزاز الدين وصون المسلمين فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة.

(1) الفروق الجزء الثاني ص 33

(2)

أوصل الأحكام للكبيسي ص 148

ص: 1529

القسم الثاني

ما أجمعت الأمة على عدم منعه، وأنه ذريعة لا تسد، ووسيلة لا تحسم، كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر، فإنه لم يقل به أحد وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا.

القسم الثالث:

ما اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا؟ وذلك كبيوع الآجال، كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر، فمالك يقول إنه أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل، توسلًا بإظهار صورة البيع لذلك، والشافعي ينظر إلى صورة البيع، ويحمل الأمر على ظاهره، فيجوز ذلك، والحكم بالعلم هل يحرم لأنه وسيلة للافضاء إلى الباطل من قضاء السوء أو لا يحرم؟ محل خلاف بين العلماء.

ولكل وجهة، وقد وجدنا الشارع ينهي عن الشيء وينهي عن كل ما يوصل إليه، ويأمر بالشيء ويأمر بكل ما يوصل إليه، وهكذا كان كل مطلوب بالقصد الأول قد طلبت وسائله بالقصد الثاني، وكل منهي عنه بالذات تكون وسائله منهيًا عنها، لأنها تؤدي إليه، وبذلك المنهج أخذ الإمام مالك ومن تبعه، والإمام أحمد ومن تبعه.

والأصل في اعتبار سد الذرائع هو النظر إلى مآلات الأفعال، وما تنتهي في جملتها إليه، فإن كانت تتجه إلى المصالح التي هي المقاصد والغايات من معاملات الناس بعضهم مع بعض كانت مطلوبة بمقدار يناسب طلب هذه المقاصد، وإن كانت مآلاتها تتجه نحو المفاسد فإنها تكون محرمة بما يتناسب مع تحريم هذه المفاسد.

والنظر في هذه المآلات لا يكون إلى مقصد العامل ونيته، بل إلى نتيجة العمل وثمرته، وبحسب النية يثاب الشخص أو يعاقب في الآخرة، وبحسب النتيجة والثمرة يحسن الفعل في الدنيا أو يقبح، ويطلب أو يمنع، وقد يستوجبان النظر إلى النتيجة والثمرة دون النية المحتسبة والقصد الحسن، فمن سب الأوثان مخلصًا العبادة لله فقد احتسب نيته عند الله في زعمه، ولكنه سبحانه وتعالى نهى عن السب إذا أثار ذلك حنق المشركين فسبوا الله تعالى. فقد قال تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .

فهذا النهي كان الملاحظ فيه هو النتيجة الواقعة لا النية المحتسبة.

ص: 1530

ب- عند الشاطبي:

واعتبر الشاطبي الذرائع من القواعد المبنية على اعتبار مآلات الأفعال وقال: إن مالكًا حكمها في أكثر أبواب الفقه.

لأن حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة، ثم مثل لها ببيع العينة، وهو ما إذا جعل مآل ذلك البيع مؤديًا إلى بيع خمسة نقدًا بعشرة إلى أجل وقال: ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي فإنه اعتبر المآل أيضًا؛ لأن البيع إذا كان مصلحة جاز وما وقع من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى، فكل عقدة منهما لها مآلها، ومآلها في ظاهر أحكام الإسلام مصلحة، ولكن هذا بشرط أن لا يظهر قصد إلى المآل الممنوع، ويتفق مالك مع الشافعي باعتباره مؤديا إلى مفسدة (1) .

وبهذا يمكن أن نصل إلى الأمور الآتية:

أولًا: أن أصل سد الذرائع قال به أئمة المذاهب وأتباعهم في الجملة، فليس خاصًا بالمالكية كما أثبته القرافي، بل يمكن القول بأن المالكية قالوا به أكثر من غيرهم (2) . والشاطبي نفسه قال: قاعدة الذرائع متفق عليها بين المذاهب في الجملة وإنما الخلاف بينهم في تحقيق المناط فلا يكون سد الذرائع عند الشافعي إلا إذا قصد الممنوع، وابن رشد من المالكية يرى أنه لا إثم على فاعله فيما بينه وبين الله حيث لم يقصد الممنوع والفساد إنما هو لاطراد حكم الحاكم فقط (3) .

ثانيًا: ما كانت مفسدته راجحة على ما فيه من المصلحة، كسب آلهة المشركين، وهذا مما أجمع العلماء على المنع منه أيضًا، والمنع منه واضح من النصوص التي جاءت في الشريعة ونص عليه أنه من سد الذرائع.

ثالثا: ما كانت المفسدة فيه محتملة كزراعة العنب خشية الخمر، والتجاور في البيوت خشية الزنا، وهذا النوع أجمع العلماء على عدم سده، ومن ذلك ما كانت مصلحته راجحة على مفسدته كالنظر إلى المخطوبة، وكلمة حق عند سلطان جائر.

رابعًا: المختلف فيه هو ما تتساوى فيه المصلحة مع المفسدة، أو كان قصد المفسدة فيه غير ظاهر، وقد مثل له القرافي ببيوع الآجال، والنظر إلى المرأة (4) .

(1) الشاطبي ج4 ص 198 ـ 200

(2)

الفروق ج3 ص 266، تهذيب الفروق 3/ 274، إرشاد الفحول 246 ـ 247

(3)

الموافقات ص 4 ـ 200 ـ 201

(4)

أصول مذهب الإمام أحمد ـ لعبد الله التركي ص459

ص: 1531

وقد يقصد الشخص الشر بفعل المباح فيكون آثمًا فيما بينه وبين الله، ولكن ليس لأحد عليه سبيل، ولا يحكم على تصرفه بالبطلان الشرعي، كمن يرخص في سلعته ليضر بذلك تاجرًا ينافسه، فإن هذا بلا شك عمل مباح، وهو ذريعة إلى إثم هو الإضرار بغيره، وقد قصده ومع ذلك لا يحكم على عمله بالبطلان، ولا يقع تحت التحريم الظاهر الذي ينفذه القضاء، فإن هذا العمل من ناحية النية ذريعة للشر، ومن ناحية الظاهر قد يكون ذريعة للنفع العام والخاص، فإن البائع ينتفع بلا شك ببيعه ولو بربح قليل، ومن رواج تجارته، ومن كثرة الإقبال عليه، وينتفع العامة من ذلك الرخص، وقد يدفع التجار إلى تنزيل الأسعار (1) .

(1) أصول مذهب الإمام أحمد ـ لعبد الله التركي ص 459

ص: 1532

ج- عند ابن القيم:

ولقد قسم ابن القيم الذرائع بالنسبة إلى نتائجها إلى قسمين:

أولًا: أن تكون بحكم وضعها مفضية إلى فساد: كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنى المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد ليس لها ظاهر غيرها.

ثانيًا: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز، أو مستحب فيتخذ وسيلة للمحرم إما بقصده كمن يعقد النكاح قاصدًا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدًا به الربا، أو بغير قصده، كمن يصلي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي، وهو نوعان:

1-

أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته، كالنظر إلى المخطوبة، وكلمة حق عند سلطان جائر.

2-

أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته، وذلك كسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وتزين المتوفى عنها زوجها (1) .

وبهذا تكون الأقسام أربعة عند ابن القيم:

1-

وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة.

2-

وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوصل إلى المفسدة.

3-

وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة، لكنها مفضية إلى المصلحة غالبًا ومصلحتها راجحة على مفسدتها.

4-

وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوصل إلى مفسدة، ولكنها مفضية إليها غالباً، / ومفسدتها راجحة على مصلحتها.

(1) إعلام الموقعين ج3 ص 148

ص: 1533

وهذه الأقسام سليمة من حيث الفرض العقلي، ولكن القسم الأول لا يعد من الذرائع بل يعد من المقاصد؛ لأن الخمر والزنا والقذف كالربا وأكل أموال الناس بالباطل والنصب والسرقة مفاسد في ذاتها وليست ذرائع ولا وسائل. والكلام هنا في الذرائع والوسائل التي يؤدي إلى المفاسد فتدفع. ويسمى ذلك سد الذرائع (1) .

ويظهر أن ابن القيم حاول أن يقيم الدليل على المنع في القسمين الثاني والرابع من الأقسام التي هي محل نظر عند الفقهاء، ودلل على المنع بتسعة وتسعين وجهًا من الأمثلة موافقًا لأسماء الله الحسنى تفاؤلًا، وذكر في كل وجه المنع الذي قصده، وهو سد الذريعة، ولنكتف هنا بذكر بعض الأوجه التي ذكرها في كتابه إعلام الموقعين (2) . والأدلة على المنع من فعل ما يؤدي إلى الحرام ولو كان جائزا في نفسه:

الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فحرم الله سب آلهة المشركين مع كون السب غيظًا وحمية لله وإهانة لآلهتهم، لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا آلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزًا في نفسه لئلا يكون سببًا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.

الثالث: قال الإمام أحمد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة، ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية، ويلزم من لم يسد الذرائع أن يجوز هذا البيع كما صرحوا به، ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان، وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو معاوضة تعين على معصية الله كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطرق وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤجره لذلك، أو إجارة داره أو حانوته أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية، ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه، ومن هذا: عصر العنب لمن يتخذه خمرًا، وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والمعتصر معًا، ويلزم من لم يسد الذرائع أن لا يلعن العاصر، وأن يجوز أن يعصر العنب لكل أحد، ويقول: القصد غير معتبر في العقد، والذرائع غير معتبرة. ونحن مطالبون بالظواهر، والله يتولى السرائر، وقد صرحوا بهذا. ولا ريب في التنافي بين هذا وبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .

الرابع: ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من الكبائر شتم الرجل والديه)) . قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) متفق عليه، ولفظ البخاري:((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) . قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) .

فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك، وتوسله إليه وإن لم يقصده (4) . وتبين لنا بصفة واضحة وجلية اعتماد الشريعة الإسلامية على سد الذرائع واعتباره من أدلة التشريع.

هذا وقد أجمع الصحابة على كثير من الأحكام اعتبارًا لسد الذرائع أو فتحها، فقد أجمع السلف الصالح على توريث المطلقة في مرض الوفاة، حتى لا يجعل الطلاق وسيلة إلى الحرمان من الإرث، سدًا للذريعة، ويسمونه: المعاملة بنقيض المقصود، وكذلك أجمعوا على أن القاتل لا يرث. وما ذلك إلا اعتبارا لسد الذرائع، حتى لا يعمد الناس إلى قتل أقاربهم ليستولوا على إرثهم (5) .

(1) أبو زهرة أحمد بن حنبل ص 319

(2)

إعلام الموقعين ج3 ص 149

(3)

إعلام الموقعين ج3 ص 17

(4)

إعلام الموقعين ج3 ص 150

(5)

أصول الفقه لعربي اللوة ص 211

ص: 1534

الفصل الخامس

موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع

مع تحرير محل النزاع في ذلك

الاحتجاج لسد الذرائع والأخذ به:

لقد تقدم في الفصل الرابع أن بينا قول القرافي الذي يقسم الذرائع إلى أقسام ثلاثة: ما هو معتبر إجماعًا، وما هو ملغي إجماعًا، وما هو مختلف بين العلماء والمذاهب في اعتباره من الذرائع، كبيع الآجال، وأن الأخذ بالذرائع أكثر منه الإمامان مالك وأحمد بن حنبل، ودونهما في الأخذ به الإمامان الشافعي وأبو حنيفة النعمان، ولكنهما لم يرفضاه جملة، ومهما يكن الأمر فإن الأخذ بالذرائع لا تجوز المبالغة والإغراق فيه؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى تعطيل كثير من المصالح، فقد يمتنع بعضهم عن تولي أموال اليتامى أو أموال الأحباس خشية التهمة من الناس، وخوفًا من الوقوع في أكل تلك الأموال، سدا الذريعة مع أن ذلك غير صحيح؛ لأن الله تعالى أذن في مثل هذه المخالطة ووكل المخالطين في ذلك إلى أمانتهم، حيث قال تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] .

وهكذا وكل الله الأمر إلى أمانة المكلفين في مثل هذه الأمور المخوفة حتى لا يقال إنه قد يؤدي إلى أمور محظورة فيمتنع لأن المضار التي تترتب على سد الذرائع في مثل ذلك أكثر من المضار التي تترتب على فتحها، إذا لو تركت الولاية على اليتيم سدا للذريعة لأدى ذلك إلى ضياع مال اليتامى، ولو ردت الشهادات سدًا لذريعة الكذب لضاعت الحقوق وعليه فلا بد من النظر إلى ما يؤدي إليه الأمر من المصلحة أو المفسدة أو يرجح بينهما إذا اقتضاه الفعل للأخذ بأرجحهما أثرًا، ومن هنا كانت الذرائع أصلًا للاستنباط باعتبار أن أساس الاستنباط وقاعدته النظر في مآل الأفعال وما يترتب عليها من مصلحة أو مفسدة، وأما الذين لا يحتجون بسد الذرائع فيرون أن منعه ليس من هذا الباب بل من باب: ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام، ومن باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (1) .

(1) إرشاد الفحول للشوكاني ص246

ص: 1535

موقف أئمة الفقه منه:

أ- الشاطبي:

وقال أبو إسحاق الشاطبي إن سد الذرائع أصل شرعي قطعي متفق عليه في الجملة، وإن اختلف العلماء في تفصيله، وقد عمل به السلف بناء على ما تكرر من التواتر المعنوي في نوازل متعددة دلت على عموميات معنوية، وإن كانت النوازل خاصة ولكنها كثيرة (1) .

ويقول الشاطبي في المسألة السادسة في العموم والخصوص:

العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط بل له طريقان:

أحدهما: الصيغ إذا وردت وهو المشهور في كلام أهل الأصول.

ثانيهما: استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ (2) .

وذلك لأن الأحكام التي قامت على سد الذرائع قد بلغت من الكثرة ما يدل على قصد الشارع إلى سد ذرائع الفساد.

واستنتج بعد ذلك قاعدة على صحة الاعتماد على الاستقراء فقال: إن قاعدة الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى، كعملهم على ترك الأضحية مع القدرة عليها (3) .

وكإتمام عثمان في حجه بالناس (4) . وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة.

(1) الموافقات ج3 ص 61

(2)

الموافقات ج3 ص 298

(3)

كما أخرجه البيهقي عن أبي بكر وعمر كانا لا يضحيان كراهة أن يظن من رآهما وجوبها.

(4)

روي البيهقي عن عثمان أنه أتم بمنى: فقال إن القصر سنة رسول الله وصاحبيه ولكنه حدث طغام فخفت أن يستنوا (وطغام الناس بالفتح أوغادهم) .

ص: 1536

ب- ابن القيم:

وابن القيم تلميذ ابن تيمية الذي كان متحمسًا مثله للعمل بسد الذرائع قال: إن قاعدة سد الذرائع من القواعد القطعية في الدين، وإن الشارع اعتبرها في التشريع، وسار عليها في تقويم الأحكام، وعرفت ملاءمتها لجنس تصرفات الشارع، لا من دليل واحد، ولا من نص معين، بل من جملة نصوص، ومجموعة أدلة تفوق الحصر وقد أيد دعواه بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين وما أجمعت عليه الأمة في عهودها المتباينة من اعتماد سد الذرائع، واعتبارها وسائل لسد الفساد (1) .

وإن ما ورد من الشواهد والتطبيقات لسد الذريعة من الصحابة والتابعين قد انتقل بحذافيره إلى الأئمة المجتهدين، واستوعبته المذاهب الاجتهادية وبنت عليه أصولها ولهذا كان علينا أن نلقي نظرة على كل مذهب من المذاهب المشهورة لندرك مدى أخذها بسد الذرائع، وتحرير محل النزاع في ذلك.

إن شهرة المذهب المالكي باعتماده على سد الذرائع لا يقوم حجة على أن المذاهب الأخرى لا تقول بحرمة الوسائل المؤدية إلى الحرام، والمسماة بسد الذرائع، بل تخرجها بتخاريج أخرى تصل بها إلى نفس الحكم والغاية التي وصل إليها كل من المذهب المالكي والحنبلي.

يقول القرافي في الفرق الثامن والخمسين من كتابه الفروق: ليس سد الذرائع من خواص مذهب مالك كما يتوهمه كثير من المالكية، بل من الذرائع ما أجمعت الأمة على سده، ومنها ما أجمعت الأمة على عدم منعه، وقسم اختلف فيه العلماء: هل يسد أو لا؟ (2) ثم قال في الفرق الرابع والتسعين بعد المائة: وإنما النزاع بين المالكية والشافعية في الذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال ونحوها، ثم ذكر الخلاف في بيوع الآجال وما استدل به كل واحد من الفريقين (3) .

(1) إعلام الموقعين ج3 ص 149

(2)

الفروق للقرافي ج2 ص 32

(3)

الفروق للقرافي ج3 ص 266

ص: 1537

الفصل السادس

هل الأخذ بسد الذرائع مما اختص به المذهب المالكي أو أن الأخذ به ثابت في كل المذاهب وإن لم تصرح به؟

شواهد من فقه الأئمة الأربعة على العمل بسد الذرائع

سد الذريعة عند المالكية:

سد الذرائع من الأصول المهمة عند المالكية، وليس هناك من المذاهب من أخذ بسد الذرائع كمذهب مالك، لا سيما وهو أكثر المذاهب اعتمادًا على رعاية مصالح الناس وأعرافهم، ولهذا كان العمل بالمصلحة المرسلة أصلًا مستقلًا من أصول التشريع في مذهب مالك، وليس سد الذرائع إلا تطبيقًا عمليًا من تطبيقات العمل بالمصلحة، ولهذا عد من أصول مذهب مالك، وبالغ في ذلك بعض الفقهاء حتى عد سد الذرائع من أصول مذهب مالك خاصة.

والمتتبع لكتب المالكية في الأصول والفروع يرى أنهم يتجهون في سد الذرائع إلى سد وسائل الفساد، فكل ما يؤدي إلى فساد غالبًا فهو ممنوع، من غير تقييد بكون ذلك الفساد قد ينص عليه بنص خاص، أو كونه داخلًا في النهي العام عن الضرر والضرار وعن كل فساد، وإن الذرائع ينظر فيها إلى نتائجها، فإن كانت فسادًا واجب منعها لأن الفساد ممنوع فيمنع ما يؤدي إليه، وإن كانت مصلحة طلب الأخذ بها لأن المصلحة مطلوبة، ويسمى ذلك باب فتح الذرائع (1) .

وفتح باب الذرائع مأخوذ به عند مالك كسده ولذلك قال القرافي المالكي في فروقه: " اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة "(2) .

ومن هنا جاء وجوب الصناعات باعتبارها ذرائع للمصالح العامة التي يقوم عليها شأن العمران ولا يستغنى عنها الناس، وكان وجوبها على سبيل الكفاية لأن الناس ليسوا جميعًا مطالبين بأن يكونوا صناعًا.

ولقد بين في الفروق بعض التفصيل في القسم الثالث من الأقسام الثلاثة التي قسم إليها الذريعة، وهو الذي جرى فيه الاختلاف بين المجتهدين: أيسد أم لا؟ وذلك كبيوع الآجال، ويسميها الحنابلة والشافعية بيوع العينة.

ففي المذهب المالكي قال الدردير في كلامه على بيوع الآجال: هو بيع ظاهره الجواز لكنه قد أدى إلى ممنوع فيمتنع، ولو لم يقصد التوسل إلى ممنوع، سدًا للذريعة. وقال: ويمنع من البيوع ما أدى لممنوع يكثر قصده، كبيعة سلعة بعشرة لأجل ثم يشتريها بخمسة نقدًا أو لأجل، قال: فقد آل الأمر إلى رجوع السلعة لربها وقد دفع قليلًا وأعاد كثيراً (3) .

فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل بإظهار صورة البيع، لذلك يكون باطلًا.

والشافعي يقول: ينظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره، فيجوز ذلك، وهذه البيوع يقال إنها تصل إلى ألف مسألة اختص بها مالك (4) .

(1) مالك لأبي زهرة ص 415

(2)

الموافقات ج2 ص 33

(3)

الشرح الصغير ج3 ص116 ـ 117

(4)

أصول الفقه أبو زهرة ص 280

ص: 1538

شواهد سد الذرائع عند الحنابلة:

وافق الحنابلة المالكية في اعتمادهم على أصل سد الذرائع في كثير من الاستنباطات والأحكام الفقهية، ولكنهم لم يبلغوا في ذلك حد الكثرة التي أشرنا إليها في فقه المالكية (1) . وليس غريبًا على مذهب سلفي كمذهب الإمام أحمد أن يتجه إلى اعتبار سد الذرائع أصلًا صحيحًا في مجال التأصيل، والاعتماد عليه دليلًا في ميدان التطبيق؛ لأنه أصل أثبتت صحته النصوص من الكتاب والسنة وعمل السلف من الصحابة والتابعين (2) .

ومذهب الإمام أحمد يتمسك بالنصوص ويتعلق بالآثار ويبحث عما كان عليه السلف لينهج منهجهم ويقول بقولهم، وإذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى من خالفه، ولا يقدم على النص عملًا ولا رأيا ولا قياسًا ولا قول صحابي، فإذا لم يكن في المسألة نص ولا قول صحابي ولا أثر مرسل أو ضعيف لجأ إلى الأصل الخامس وهو القياس فاستعمله، ويدخل في جملة القياس الصحيح عند الحنابلة: رعاية المصالح، ومن وجوه العمل بها: سد الذرائع وفتحها (3) .

إن أحمد بن حنبل ومثله في ذلك مالك رضي الله عنه كان عند الحكم ينظر إلى المآلات فيقررها، ويمنع كل ما يؤدي في مآله إلى محرم ويقر كل ما يؤدي في مآله إلى مطلوب، وينظر في ذلك نظرًا كليًا وجزئيًا، فيحرم تلقي الركبان لكي لا يؤدي إلى غلاء الأسعار، فكان التحريم لأنه يؤدي إلى ضرر خاص بالبائعين وضرر عام بالمستهلكين، وكان المنع بالنسبة للمآلات منظورًا فيه إلى النتيجة المترتبة سواء أكانت مقصودًا أم غير مقصودًا، أما الإثم الأخروي فإنه ينظر إلى الباعث.

وقد قرر أنه إذا كان الباعث الخير، والنتيجة كانت شرًا غالبا أو مؤكدًا، منع الفعل مع نية الخير، اعتبارًا بالمآل والنتيجة (4) .

(1) فتاوى ابن تيمية ج3 ص 273

(2)

أبو زهرة: ابن حنبل 331

(3)

سد الذرائع، محمد هشام البرهاني ص 639

(4)

أحمد بن حنبل أبو زهرة ص 323

ص: 1539

وسنعرض بعض الأمثلة من الفقه الحنبلي توضح أخذ أحمد بالذرائع:

كان الإمام أحمد يكره الشراء ممن يرخص السلع، ليمنع الناس من الشراء من جار له، أو من السوق الذي يؤمه الناس للشراء، وكان ذلك من الذريعة؛ لأن الامتناع عن الشراء منه ذريعة إلى امتناعه عن انزال ذلك الضرر بأخيه، ولأن الشراء منه إغراء له بالسير في طريقة هذا.

ولقد ورد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام المتباريين، وهما الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر في التبرع، والذي يرخص في السعر للإضرار هو من ذلك النوع أو أشد قبحًا؛ لأنه يعتمد الإضرار بغيره، وقد يؤدي فعله في الاحتكار بأن تزول منافسة غيره فيستبد بالأسعار، وقد ذكرنا من قبل أنه قد ينتفع عامة الناس من الرخص، ولكل حال تبدو فيها البواعث يحتاط ولي الأمر للنتائج (1) .

(1) أبو زهرة

ص: 1540

موقف الشافعية من سد الذرائع:

كان أكثر الفقهاء أخذًا بالذرائع أحمد ومالك رضي الله عنهما، وأقل الفقهاء أخذ بها الشافعي، وكان أبو حنيفة وأصحابه أقرب إلى الشافعي في القلة، ولم يقاربوا مالكًا وأحمد، وذلك بعد إجماع الجميع على نوع من الذرائع أخذًا، وعلى نوع آخر ردًا، كما أجمعوا على أن ما يؤدي إلى إيذاء جمهور المسلمين ممنوع لا محالة، كحفر الآبار في الطريق، أو إلقاء المواد السامة والمتعفنة في مياه الشراب.

كما أجمعوا أيضًا على أن ما يكون سبيلًا للخير كما يصلح أن يكون سبيلًا للشر لا يكون ممنوعًا، كغرس العنب، فإنه يؤدي إلى عصره وتخميره، ولكن لم يكن ذلك بأصله، ولأن استخدامه لذلك احتمالي، والمنفعة في غرسه أكبر من هذه المضرة، والعبرة بالأمر الغالب أو الراجح في الظن.

فإذا تمخض غرسة لتخميره كأنواع من العنب لا تصلح إلا للخمر أصبح حرامًا وسد الذريعة فيه واجبًا (1) . وقد أبطل الشافعية العمل بسد الذرائع لسببين اثنين:

السبب الأول: أن سد الذرائع مظهر من مظاهر الاجتهاد بالرأي وهم لا يأخذون منه إلا بالقياس؛ لأن العلم عندهم خمس طبقات نص عليها الإمام الشافعي بقوله: " العلم طبقات شتى:

الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت.

الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.

الثالثة: أن يقول أصحاب النبي قولا ولا نعلم له مخالفًا منهم.

الرابعة: اختلاف أصحاب النبي.

الخامسة: القياس على بعض الطبقات. ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم من أعلى" (2) .

(1) أبو زهرة أحمد بن حنبل 324

(2)

الأم ج7 ص287 ـ 308

ص: 1541

وكلام الشافعي في كتاب إبطال الاستحسان، وفي كتاب جماع العلم، وفي الرسالة كلها تلتقي على قضية واحدة هي أن الاجتهاد بالاستحسان وغيره من الوسائل التي لا تعتمد على نص ثابت، ومنها سد الذرائع، اجتهاد باطل لا يمت إلى الشرع بصلة (1) .

السبب الثاني: أن الشافعي يرى أن الشريعة تبنى على الظاهر، وأنه يجب أن لا نتجاوز في تفسيرها حكم النص الذي حصره في خمسة أشياء، ولهذا نجده يقصر مصادر الأحكام الشرعية على الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة والقياس على النص، ولهذا رفض الاستحسان لأنه لا يعتمد على النص في عبارته ولا إشارته ولا دلالته بل يعتمد على ما ينقدح في نفس الفقيه الفاهم لأصولها وفروعها ومصادرها أو على روح الشريعة.

فيجب أن لا يتجه العلماء في تطبيقها إلى الباطن، وأن من حكم على الناس بالظن جعل لنفسه ما حذر الله تعالى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم لأن الله عز وجل إنما يتولى الثواب والعقاب على المغيب، وكلف العباد أن يأخذوا بالظاهر، ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة، كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الظاهرية هي التي يتمسك بها أشد الاستمساك، وينهي فيها عن تظنن غايات أمور لم تكن قائمة ولا ثابتة وقت الفعل أو التصرف.

لأن الأخذ بذلك بالظن، والشريعة عنده ظاهرية تنظر إلى صورة الأفعال ومادتها لا إلى مآلاتها أو بواعثها، إذا لم يكن هناك دليل ظاهر إلى المآلات والبواعث.

وإن هذه النظرة تخالف نظرة الإمامين أحمد ومالك، فإنهما عند اتجاههما إلى الذرائع نظرًا إلى المآلات نظرة مجردة، ونظرًا إلى البواعث فمن عقد عقدًا قصد به أمرًا محرما واتخذ العقد ذريعة له فإن المآل والباعث يحرمان العقد فيأثم عند الله، ويكون العقد باطلًا؛ لأنه ربا. فيبطل سدا للذريعة (2) .

ولذلك يبطل الشافعي حكم الازكان (الظن) من الذرائع في البيوع وغيرها ويحكم بصحة العقد، فالرجل إذا أراد أن ينكح امرأة ونوى أن لا يحبسها إلا يومًا أو شهرًا إنما أراد أن يقضي منها وطرا بدون أن يعلن عن نيته في العقد فالعقد صحيح لأنهما عقدا النكاح مطلقًا على غير شرط.

(1) سد الذرائع محمد هشام البرهاني ص681، الأم: كتاب إبطال الاستحسان 309

(2)

أحمد ابن حنبل أبو زهرة ص 335

ص: 1542

يقول الشافعي: " إنه لا يفسد عقد أبدًا إلا بالعقد نفسه لا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره ولا بتوهم ولا بأغلب ظن، وكذلك لا يفسد كل شيء إلا بعقده ولا تفسد البيوع بأن يقول هذه ذريعة وهذه نية سوء.

ولو جاز أن نبطل من البيوع بأن يقال: متى خاف أن تكون ذريعة إلى الذي لا يحل، ألا ترى أن رجلًا لو اشترى سيفًا ونرى بشرائه أن يقتل به كان الشراء حلالا وكانت النية بالقتل غير جائزة ولم يبطل بها البيع؟ وكذا لو باع البائع سيفًا من رجل يراه أنه يقتل به رجلًا كان هكذا" (1) . ومعنى هذا الكلام أنه لا يفسده العقد للمآل الذي يؤدي إليه تنفيذه كما لا يفسده للنية.

ويقول في موضع آخر: " فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما يثبت بالظاهر عقدها، لا تفسدها نية المتعاقدين، كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة أولى أن لا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها، ثم إذا كان توهما ضعيفًا والله أعلم"(2) .

وفي هذا ترى الشافعي يستنكر الحكم بأن بيع السلاح في الفتن باطل لأنه لا يصح أن يتوهم على العاقد نية عنده إذا كان البيع صحيحًا عند تأكده نية نفسه، وهذا المعنى لم يقله أحمد ولا مالك رضي الله عنهما لأنهما نظرًا إلى المآل، ويطبق الشافعي نظره في العقد التي يقصد بها الربا أو يظن من عقدها أن المقصد بها الربا فحكم بأن الثمن إذا كان مؤجلًا وقبض المشتري العين كان له أن يبيعها إلى البائع بأقل من الثمن ولو كان نية الربا ثابتة في ذلك العقد بأن تكون النتيجة استدانة المشتري من البائع دينا وأداءه بأكثر منه، وأمارات الربا واضحة، ولكن ما دام لم يقترن بالعقد عند انشائه ما يدل على قصد الربا، فالبيع صحيح، وقد نص على صحته في الأم:" وإذا اشترى طعامًا إلى أجل فقبضه فلا بأس أن يبيعه ممن اشتراه منه ومن غيره بنقد وإلى أجل، وسواء في هذا المعين وغير المعين"(3) ، أي سواء في ذلك ما يعين على الربا أو لا يعين على الربا، وسواء أكان ذريعة إلى محرم أم لم يكن لأن الشافعي نظر إلى الصورة الظاهرة وترك المغيب لله.

(1) الأم الجزء السابع ص270، ابن حنبل لأبي زهرة ص 326

(2)

الأم الجزء الثالث ص33

(3)

الأم 3: 33

ص: 1543

ويستدل الشافعي على ظاهريته بقوله: " قال قائل ما دل على ما وضعت من أنه لا يحكم بالباطل قيل في كتاب الله ثم في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم " وأمر الله تبارك في شأن المنافقين، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) } [المنافقون: 1ـ 3] .

وأقرهم رسول الله يتناكحون ويتوارثون ويقسم لهم إن حضروا القسمة ويحكم لهم بأحكام المسلمين وقد أخبر الله تعالى عن كفرهم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اتخذوا أيمانهم جنة من القتل بإظهار الإيمان، وقال رسول الله:((يا أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن محارم الله، فمن أصاب منكم من هذه القذرات شيئًا فليستتر فإنه إن يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)) فأخبرهم أنه لا يكشفهم عما لا يبدو من أنفسهم (1)

وإذا قلنا إن الإمام أحمد يتفق مع الإمام مالك في المآلات ويخالف الشافعي في عدم النظر إلى ذلك، فإن هناك أمرًا قد انفرد بمخالفة الشافعي فيه وهو النظر إلى المقاصد التي يرمي إليها العاقد من عقده، فالشافعي يقرر أن النية ليس لها أثر في الحكم على العقد من حيث الصحة والفساد، ما دامت النية غير مشترطة في إنشاء العقود والعقد يكون صحيحًا مهما كانت نية صاحبه ولو خالفت معنى العقد والمقصد الشرعي بينما الإمام أحمد يقول: إن القصد مقترن بالعقد والعقد يكون الحكم فيه على أساس ذلك القصد فإن كان القصد حرامًا كان العقد على حرام وإن كان فاسدًا لا ينشأ به التزام.

(1) الأم 3/ 33

ص: 1544

وقد رد ابن القيم على الشافعي ردًا قويًا مركزًا، فقال:" والمتكلم بالعقود إن قصد منها ما لا يجوز قصده كالمتكم بنكحت وتزوجت فلا يقصد منه عشرة زوجية مؤقتة بل يقصد تحليلها لمطلقها الثلاث، ويقصد ببعت واشتريت الربا، وما شبه ذلك فهذا لا يحصل به مقصوده الذي قصده وجعل اللفظ والفعل وسيلة إليه لأن في تحصيل مقصوده تنفيذًا للمحرم وإسقاطًا للواجب وإعانة على المعصية ومناقضة شرعه، وإعانته على ذلك إعانة على الإثم والعدوان"(1)

وبهذا يظهر أن الشافعي يرى أن كل عقد تؤخذ أحكامه من صيغته ومما لابسه واقترن به، ففساده لا يكون من صيغته، وصحته تكون منها، ولا يفسد من أمور خارجة عنها ولو كانت نيات ومقاصد لها أمارات ومآلات مؤكدة، والإمام أحمد يخالف في ذلك تمام لأن الحكم عنده على أساس ذلك القصد.

ثم إن الأساس الذي يقوم عليه أصل الذرائع يدفعنا حتمًا إلى اعتباره موجودًا عند الشافعية من وجهين.

الوجه الأول: لا يمكن بحال أن نقول إن الشافعي ينكر آثار سد الذرائع في الشريعة الإسلامية، ولكنه يثبتها ضمن المصادر الأصلية الأخرى.

أ - عن طريق الكتاب كما جاء في قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] .

ب - عن طريق السنة كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) الحديث (2) .

ج- عن طريق القياس: كحرمة الصيد الواقع في الشبكة إذا نصبها قبل الإحرام، قياسًا على ما جاء في قصة أصحاب السبت.

د- عن طريق الاستحسان كاستحسان أبي يوسف كراهة السلام على لاعبي الشطرنج وما إليه، تحقيرًا لهم عن ذلك، ولأن في السلام عليهم معنى من معاني الإعانة على الإثم.

(1) إعلام الموقعين بتصرف ج3 ص 106 ـ 107 أحمد بن حنبل، أبو زهرة ص 329

(2)

رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر

ص: 1545

الوجه الثاني: أن سد الذرائع يقوم على عدة أصول، وترتبط به قواعد معتبرة عند الشافعية كغيرهم مثل:

1-

جلب المصالح ودرء المفاسد (1) .

2-

المصالح معتبرة في الأحكام وليست هذه في الحقيقة إلا وسائل.

3-

ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

4-

من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه (2) .

5-

إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام (3) .

6-

اعتبار الأهم ورعاية جانبه.

وبهذا نعلم أن الشاطبي يطبق مفهوم ما أدى إلى الحرام حرام لا بطريقة سد الذرائع وإنما اعتمادًا على قواعد أخرى أدت إلى نتائج مقاربة لنتائج سد الذرائع.

أمثلة لسد الذرائع عند الشافعي:

ومما يدل على أن الشافعي نفسه أخذ بسد الذرائع في بعض الأحيان ما قاله في كتاب الأم:

بعد أن ذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته)) وهذا يدل على أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل واعتبر الشافعي المعذورين عن ترك الجمعة كالمرضى والمسافرين يصلون الظهر مكان صلاة الجمعة جماعة أو فرادى، واستحب الشافعي رحمه الله لهم إخفاء الجماعة سدًا لذريعة التهمة في تركهم لصلاة الجمعة (4) .

والشيرازي يذكر وجها آخر لسد الذريعة في نفس الصورة المتقدمة ويقول: يستحب للمريض والمسافر إذا أفطرا في رمضان أن لا يأكلا عند من يجهل عذرهما سد لذريعة التهمة بالفسوق والعصيان (5) .

(1) الموافقات للشاطبي ج2 ص 7

(2)

الأشباه والنظائر 152 ـ 154

(3)

الأشباه والنظائر 103 ـ 107

(4)

الخطيب الشربيني في مغني المحتاج ج1 ص 279

(5)

المهذب 1 ص 278

ص: 1546

الحنفية وسد الذرائع:

لا يعني عدم ذكر الحنفية لسد الذرائع ضمن أصولهم عدم اعتبارهم لصحة العمل به لأننا نلمح ذلك عندهم في أمرين:

الأول: قولهم بالاستحسان وهو باب يدخلون منه إلى العمل بالمصلحة وسد الذرائع من وجوه العمل بالمصلحة، بل إن بعض صورة الاستحسان عندهم هي عين صور سد الذرائع عند المالكية، فلا يبدو الفرق بين المذهبين إلا في التسمية.

الثاني: عملهم بسد الذرائع بالفعل في فروع كثيرة، وسنستعرض بعضًا منها فيما يلي:

1-

الحداد على البائن المتوفى عنها زوجها.

قال صاحب البداية: وعلى المبتوتة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مسلمة الحداد، وهو الامتناع عن الطيب والزينة والدهن والكحل لإظهار التأسف، ولأن المرأة إن كانت متزينة متطيبة تزيد رغبة الرجل فيها وهي ممنوعة عن النكاح ما دامت في عدة الوفاة أو الطلاق فتجتنبهما حتى لا تصير ذريعة إلى الوقوع في المحرم (1) .

2-

قضاء القاضي لمن يتهم فيه من ذوي رحمه، فقد ذكر السمرقندي أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه ولا لأبويه وإن علوا، ولا لزوجته ولا لأولاده وأن سفلوا ولا لكل من لا تجوز شهادته لهم، وذلك سدا للذريعة ومنعا للشبهة (2) .

3-

تحريم مقدمات الوقاع على المعتكف كاللمس والقبلة دون الصائم الذي يأمن على نفسه؛ لأن الوطء محرم على الأول بالنص قصدًا في قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وعلى الثاني ضمنًا من الأمر بالإمساك عن المفطرات فالتحقت المقدمات بالتحريم في الأول ولم تلتحق في الثاني ونص الحنفية على أن الوسيلة إلى الشيء حكمها حكم ذلك الشيء. (3)

4-

اتفاق الحنفية مع المالكية والحنابلة في المنع من بعض صور بيوع الآجال، ومن ذلك أنهم نصوا على أن من اشترى سلعة بألف حالة أو نسيئة قبضًا لم يجز له أن يبيعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول كله أو بعضه؛ لأن من الشروط المعتبرة في صحة العقود عندهم الخلو من شبهة الربا؛ لأن الشبهة ملحقة بالحقيقة في باب المحرمات احتياطًا، وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات)) .

(1) الهداية ج3 ص 291 ـ 294

(2)

تحفة الفقهاء ج3 ص 699

(3)

فتح القدير 2/123

ص: 1547

ووجه الشبه هنا كما قال الكاساني: (أن الثمن الثاني يصير قصاصًا بالثمن الأول فبقي من الثمن الأول زيادة لا يقابلها عوض في عقد المعاوضة، وهو تفسير الربا إلا أن الزيادة تثبت بمجموع العقدين فكان الثابت بأحدهما شبهة الربا والشبهة ملحقة بالحقيقة، بخلاف ما إذا نقد الثمن لأن المقاصة لا تتحقق بعد بالثمن فلا تتمكن الشبهة بالعقد، ولو نقد الثمن كله إلا شيئًا قليلًا فهو على الخلاف مع الشافعي ولو اشترى ما باع بمثل ما باع قبل نقد الثمن جاز بالإجماع لانعدام الشبهة، وكذا لو اشتراه بأكثر مما باعه قبل نقد الثمن)(1) .

فقد نص الحنفية في كثير من المواضع أثناء عرضهم لوسائل المحرمات أن ما أدى إلى الحرام هو حرام وأن الوسيلة إلى الشيء حكمها حكم ذلك الشيء، وهذا هو أصل الحكم بسد الذرائع، ومنها ما قاله للكاساني، " ولا يباح للشواب من النساء الخروج إلى الجماعات بدليل ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى الشواب عن الخروج لأن خروجهن إلى الجماعة سبب الفتنة والفتنة حرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام"(2) .

وهذا تصريح واضح لاعتبار سد الذرائع في المذهب الحنفي، وبلسان أحد شيوخ هذا المذاهب.

وكذلك منها ما قاله الكاساني في شأن الاستمتاع بالحائض قال: " الاستمتاع بها بما يقرب الفرج سبب للوقوع في الحرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)) والمستمتع بالفخذ يحوم حول الحمى ويرتع حوله فيوشك أن يقع فيه فقد دل على أن الاستمتاع بالحرام سبب الوقوع في الحرام وسبب الحرام حرام "(3) .

وبهذا نعلم أنه إذا كان هناك فوارق عميقة بين مذهب الشافعي الذي لا يريد أن يحكم المآل والمقاصد في العقود، وإنما يحكم صيغة العقد، فإن الحنفية وإن لم يقولوا بسد الذرائع إلا أنهم يحكمون المقاصد والمآل، ولا يرون حرجًا في تبني قواعد المالكية والحنابلة في غالب ما يتعلق بسد الذرائع (4) .

(1) بدائع الصنائع للكاساني 5/199، الهداية 3/47

(2)

بدائع الصنائع للكاساني 1/ 157

(3)

بدائع الصنائع للكاساني 2/119

(4)

بدائع الصنائع ج2 ص 120

ص: 1548

رأي ابن حزم في سد الذرائع:

لقد أنكر ابن حزم سد الذرائع بناء على نزعته الظاهرية التي تقف عند حد ظواهر النصوص وتبطل كل أدلة إلى أي من القياس والاستصلاح وما يتصل بهما من استحسان وسد للذرائع، وقد تناول أدلة سد الذرائع التي اعتمدها مالك والإمام أحمد بن حنبل وتعرض لها بالرد والإبطال في كتبه، وعلى الأخص في كتابه: الإحكام في أصول الأحكام، وهو محجوج بالعموم القاطع الثابت بالنقل، وبعمل الصحابة والتابعين الذي لا يدع مجالًا لأي تردد.

وقد اعتمد في رده على العمل بسد الذرائع عدة أمور، منها (1) .

إبطال الاحتجاج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من الشبهات: ((إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) الحديث. مدعيا:

أ - أن المراد بالحديث: الحض على الورع وليس تحريم الحلال.

ب - أن المراد من الحديث جلي في أن ما حول الحمى ليس من الحمي.

ج- أن المشتبهات ليست بيقين من الحرام، لأنها ليست مما فصل لنا لقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] وما لم يفصل لنا أنه من الحرام فهو حلال بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] .

وبقوله عليه السلام: ((أعظم الناس جرمًا في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)) (2) .

ويبدو مما قرره هنا أن الشبهات ليست داخلة في إطار المحرمات، وأنه يستحب تركها فقط، وقد أجاب علماء المذاهب التي تعتمد أصل سد الذرائع بإجابات مطولة عن كل الشبهات التي أثارها ابن حزم حول العمل بأصل سد الذرائع ويمكن أن نشير في هذه العجالة إلى نماذج من هذه الردود.

أولًا: حول قول ابن حزم المشتبهات ليست من الحرام قالوا: هذا غير صحيح لأنها ترجع في الحقيقة إما إلى الحلال أو إلى الحرام وإذا خفيت على بعض الناس أو على أكثرهم فهي ليست كذلك بالنسبة إلى القليل؛ لأن مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)) يفيد أنها معلومة من جهة القليل منهم، وحكمها عند هؤلاء لا يخرج من مرتبتي الحلال والحرام وليس في حقيقة الأمر مرتبة ثالثة بين هاتين.

(1) الأحكام ج6 ص 746

(2)

سد الذريعة للبرهاني 724

ص: 1549

ثانيًا: قول ابن حزم إن النهي عن المباح تكليف بما لا يطاق وأن العمل بسد الذرائع يجعله قاصرًا على تحريم ما يؤدي إلى الحرام فقط والجواب أن العمل بسد الذرائع لم يكن قاصرًا على تحريم ما يؤدي إلى الحرام؛ لأنه يشمل ما هو أعم من ذلك، كمجرد الامتناع والكف من غير تحريم، وقد ثبت هذا بفعله صلى الله عليه وسلم حيث امتنع عن أكل الضب ولم يحرمه وبفعل الصحابة رضي الله عنهم حيث امتنعوا عن كثير من المباحات من غير أن ينقل عنهم القول بتحريمها.

ثالثًا: من الشبه التي أثيرت في هذا الموضوع قول ابن حزم بأن على النبي بيان كل ما ينبغي للمرء أن يتركه مما لا بأس به ليبلغ درجة المتيقن، فمن حديث عطية السعدي قول النبي:((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به البأس)) والجواب أنه ليس من العلماء من يلزم النبي ببيان أحكام كل الوقائع لأن هذا من المحال بعينه، فإن الوقائع أكثر من أن تحصر، لأنها تختلف بحسب المكلف وظروفه الواقعة والزمان والمكان ويكفي من المشروع بيان القاعدة، وعلى المكلف أن يقيس عليها الوقائع بحسب ظروفه وأحواله، فلا بد من التفريق بين الحلال المطلق وبين ما لا بأس به، وهو الذي تركه أولى من فعله، وعلى هذا لا يلزم ترك كل حلال (1) . ولا يمكن أن نتناول مذهب ابن حزم في هذا الموضوع بكل تفصيلاته في هذا البحث لأن ابن حزم أثار شبهات كثيرة جدًا في كتابه إحكام الأحكام وحاول بكل جهوده أن يبطل العمل بسد الذرائع؛ لأنه يعتبره تشريعًا زائدًا على ما ورد به النص وذلك انتصارًا لنزعته الظاهرية التي تقف عند حد ظواهر النصوص.

وقد أخذ ابن حزم على المالكية الغلو في بعض المسائل مثل قول أصحاب مالك بأن من طلق إحدى زوجتيه وشك أهند هي أم غيرها طلقتا معا ولا يحتاج في طلاق الثانية إلى استئناف طلاق.

(1) سد الذرائع: البرهاني ص 733

ص: 1550

وقولهم بأن من شك بعد تحقيق الطلاق أطلق زوجته طلقة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا لم تحل له إلا بعد زواج (1) .

بل أنكر إنكارًا بالغًا ذلك الغلو حيث قال: " وأصحاب مالك يلزمون الطلاق ثلاثًا من يشك أطلق ثلاثًا أم أقل، ويفرقون بين من طلق إحدى امرأتيه ثم لا يدري أيتهما المطلقة منهما فيطلقون كلتا امرأتيه ويحرمون حلالا كثيرًا خوفًا من مواقعة الحرام، وفي هذا عبرة لمن اعتبر، ليت شعري كما يشفقون في الاستباحة من مواقعة الحرام أما يشفقون في قطعهم بالتحريم وبالتفريق من مواقعة الحرام في تحريمهم ما لم يحرمه الله تعالى؟ وقد علم كل ذي دين أن تحريم المرء ما لم يصح تحريمه عنده حرام عليه " ثم يقول: والعجب كل العجب أنهم يحتاطون بزعمهم على هذا الذي جهل أي امرأتيه طلق خوف أن يواقع التي طلق وهو لا يعلمها فيكون قد أوقع حرامًا يعلمه بعينه، ولا يتقون الله تعالى فيحتاطون على أنفسهم التي أمروا بالاحتياط عليها، وقد قال لهم ربهم تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فيحرمون عليه الثانية التي هي امرأته بلا شك ولم يطلقها قط فيخرجونها عن ملكه بغير إذن من الله تعالى، ويبيحون فرجها لمن لا شك في أنه حرام عليه من سائر من يتزوجها من الناس، وهي غير مطلقة ولا مفسوخ نكاحها ولا متوفى عنها فصاروا محللين للفروج المحرمة بيقين " ثم يقول: " وأيضًا فإنهم حكموا بالطلاق على امرأة لم تطلق من أجل أن غيرها طلقت، والله تعالى يقول:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ} (2)[الأنعام: 164]

(1) انظر الدسوقي على الشرح الكبير ج2

(2)

انظر في كل ذلك ـ الأحكام لابن حزم وكتاب سد الذرائع للبرهاني

ص: 1551

الغلو في سد الذرائع:

وبعض العلماء اعتبر الإفراط في تطبيق سد الذرائع ربما وصل إلى حد الغلو في كثير من الفروع في مذهب مالك، مما جعلهم يقدمون العمل بما جاء من سد الذرائع على ما اقتضاه النص الصريح ولذلك أمثله كثيرة منها:

1-

ما نقل عن الإمام مالك رحمه الله من كراهيته لصيام ست من شوال (1) ، وقد ثبت استحبابه بالحديث الصحيح، عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فذلك صيام الدهر)) أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه، وأخرجه الطبراني وأحمد، ولفظه عند ابن ماجه:((من صام ستة أيام بعد الفطر كان كصيام السنة، من جاء بالحسنة فهل عشر أمثالها)) .

كما أخرجه الطبراني عن عائشة رضي الله عنها ورواه الدارقطنى عن البراء بن عازب رضي الله عنه (2) . وهذا كله يؤدي استحباب صومها، وأنه لا ينبغي تركها لمحذور يمكن استدراكه بالتعليم، بل إن ترك صومها من ذي هيئة مقتدى به ذريعة مقابلة يلزم سدها حتى لا تؤدي إلى اعتقاد حرمة صومها، يقول النووي:" في حديث الباب دلالة صريحة لمذهب الشافعي وأحمد وداود وموافقيهم في استحباب صوم هذه الستة، وقال مالك وأبو حنيفة، يكره ذلك قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحدًا من أهل العلم يصومها. قالوا فيكره، لئلا يظن وجوبه، ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح إذا ثبتت السنة فلا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها، وقولهم قد يظن وجوبها ينتقض بصوم يوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب"(3) .

(1) انظر الاعتصام 2/211، والدسوقي على الشرح الكبير 1/ 488 ـ 489

(2)

تحفة الأحوذي 3/ 466

(3)

النووي على مسلم 8/56، وانظر المحلي لابن حزم 7/17، وما بعدها

ص: 1552

2-

تركهم لقراءة السجدة فجر يوم الجمعة: وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر ألم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان)) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (1) .

وأخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما (2) .

وفيه دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في فجر الجمعة، والمداومة عليها لما تشعر به صيغة الحديث من مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك أو على الأقل إكثاره منه، بل قد ورد التصريح بمداومته صلى الله عليه وسلم. أخرجه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه (3) . وما ذكره المالكية من محذور، يدفعونه بترك قراءتها، وهو خشية اعتقاد العامة كون فريضة الفجر يوم الجمعة ثلاث ركعات، وقد استشهد له بعضهم بما شاع عند عامة مصر: أن صبح الجمعة ثلاث ركعات لما يرونه من مواظبة الإمام على قراءة سورة السجدة والسجود لها.

3-

حبس المصلي لوضع ثوبه أمامه: روى أبو مصعب صاحب الإمام مالك قال: قدم علينا ابن مهدي يعني المدينة ـ فصلى، ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم، ورمقوا مالكًا، وكان قد صلى خلف الإمام، فلما سلم قال ـ الإمام مالك رحمه الله: من ههنا من الحرس؟ فجاءه نفسان، فقال خذ صاحب هذا الثوب فاحبساه، فحبس فقيل له: أنه ابن مهدي، فوجه إليه، وقال له: أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف، وشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئًا ما كنا نعرفه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) . فبكى ابن مهدي وآلي على نفسه ألا يفعل ذلك أبدًا، لا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في غيره (4) ، وهذا غلو لا مبرر له في إعمال سد الذرائع وإلا فماذا يعني وضع الثوب بين يدي المصلي هل يمكن اعتبار ذلك ذريعة إلى اعتقاد الجهال عدم صحة الصلاة إلا بذلك، أو ذريعة إلى عبادة من دون الله، لتستحق التأنيب والحبس، هذا أقصى ما يمكن أن يتصوره المجتهد في سد الذرائع، بل منع الناس من وضع حوائجهم أمامهم وهم يؤدون الصلاة ذريعة في حد ذاته إلى محظور مؤكد من وجه آخر؛ لأن الناس لا يستغنون في كثير من الأحوال عن حمل حوائجهم، فلو حرمنا عليهم وضعها أمامهم في أثناء صلاتهم، لأدى ذلك: إما إلى تركهم الصلاة مع الجماعة في المسجد أو إلى انشغال أفكارهم حولها لو وضعوها خلفهم.

(1) الاعتصام 1/ 211

(2)

النووي على مسلم 6/ 168، وتحفة الأحوذي 3/56، وخصوصيات يوم الجمعة للسيوطي ص 31

(3)

نفس المراجع السابقة: النووي على مسلم 6/ 167 وتحفة الأحوذي، وخصوصيات الجمعة

(4)

الاعتصام 1/116

ص: 1553

الفصل السابع

أثر القول بسد الذرائع

اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية

أثر القول بسد الذرائع:

إن القول بسد الذرائع له اعتبار في الفروع الفقهية، ويختلف هذا الأثر بمقدار اعتماد قاعدة سد الذرائع أصلا من أصول الفقه الإسلامي أو عدم اعتبارها.

ولما كان هذا الأصل معتبرا عند المالكية أكثر من غيرهم،قالو إن سد الذرائع من أصول مالك، مع أنه تقدم لنا في الفصل السادس من هذا البحث أن سد الذرائع معتبر في الكثير من الفروع الفقهية عند غالب أئمة الفقه الإسلامي.

ويؤيد هذا ما قاله ابن القيم: إن سد الذرائع أحد أرباب الدين إذا كان مفضيًا إلى الحرام، قال في إعلام الموقعين:" وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي " والأمر نوعان:

أحدهما: مقصود لنفسه.

والثاني: وسيلة إلى المقصود.

والنهي نوعان:

أحدهما: ما يكون النهي عنه مفسدة في نفسه.

والثاني: ما يكون وسيلة إلى مفسدة.

فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين (1) .

والمفضية للحلال قسم من قسمي الذريعة لأن الذرائع كما يجب سدها في النهي يجب فتحها في الأمر، إذا أفضت إلى مصلحة وهي بأقسامها الثلاثة:

على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة، وعلى هذا الاعتبار تكون الذرائع شاملة لنصف الدين.

والخلاف بين المذاهب إنما كان في التوسع في الأخذ بها والتطبيق في اعتبارها، وهذا ينشأ عنه من غير شك خلاف في كثير من الأحكام الشرعية والفروع الفقهية.

فبينما يحكم بعضهم على تصرفات تبدو من المكلف بالفساد والبطلان، ويمنع ترتب أثرها عليها، نجد الفريق الآخر يحكم عليها بالصحة والجواز، ويبني عليها آثارها المعتبرة شرعًا، وقد يوصف العقد بالبطلان والفساد كبيوع الآجال عند مالك وأحمد، ويحكم عليه بالصحة والانعقاد عند المالكية، وقد يكون العقد مكروهًا كما ذكرت الشافعية في بيع العنب لعاصره خمرًا؛ لأنه لا يتعين أن يعصر ليكون خمرًا.

(1) إعلام الموقعين ج3 ص 171

ص: 1554

ويكون أثر هذا الاختلاف ظاهرًا في فروع كثيرة من أبواب الفقه الإسلامي.

المثال الأول: نكاح المريض مرض الموت.

فإن الإمام مالكًا رحمه الله يقول: إن النكاح غير صحيح: دليله على ذلك هو سد الذرائع، وذلك أنه يتهم المريض بأنه يقصد من نكاحه إلحاق الضرر بالورثة حيث يدخل وارثًا جديدًا عليهم، فيمنع منه حتى لا يتخذ من نكاحه هذا ذريعة للتشفي من الورثة، وإدخال الضرر عليهم، يقول ابن رشد:" واختلفوا في نكاح المريض. فقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز، وقال مالك في المشهور عنه إنه لا يجوز. وسبب اختلافهم تردد النكاح بين البيع وبين الهبة، وذلك أنه لا يجوز هبة المريض إلا من الثلث ويجوز بيعه، ولاختلافهم أيضًا في سبب آخر وهو: هل يتهم على إضرار الورثة بإدخال وارث زائد أو يتهم؟ وقياس النكاح على الهبة غير صحيح"(1) .

وقد ذهب جمهور الفقهاء، وهم الحنفية والشافعية والحنابلة، إلى صحة نكاح المريض على أن لا يتجاوز صداق المرأة مهر مثلها

أما جمهور الفقهاء فقد استدلوا بعدة أدلة تبيح نكاح المريض:

1-

ما رواه نافع مولى ابن عمر أنه قال: كانت ابنة حفص بن المغيرة عند عبد الله بن ربيعة فطلقها ثم تزوجها مرة أخرى وهو مريض لتشارك نساءه في الميراث وأجازوا هذا العقد.

2-

القياس على صحة بيعه وشرائه، فكما أن بيعه وشراءه صحيحان فكذلك نكاحه ينبغي أن يكون صحيحًا.

3-

إن النكاح من الحوائج وذلك لأن بقاء النسل يتوقف عليه، والمرء غير ممنوع من صرف ماله في حوائجه الأصلية.

المثال الثاني: اختلف الفقهاء فيمن مات وقد وجبت عليه زكاة ولم يؤدها.

ذهب مالك وأبو حنيفة ـ رحمهما الله ـ إلى أنه إن أوصى بها لزم الورثة إخراجها من الثلث، وإن لم يوص بها لم يلزمهم بشيء (2) .

واعتمادًا على سد الذرائع قال مالك بعدم لزوم شيء إذا لم يوص به؛ لأنه لو التزمت الورثة بذلك لأدى إلى أن يترك الإنسان زكاة ماله طول عمره اعتمادًا على أن الورثة سيخرجونها بعد موته، وربما يتخذ ذلك ذريعة للإضرار بهم.

(1) بداية المجتهد ج2 ص 49

(2)

العناية على الهداية ج8 ص466

ص: 1555

سد الذرائع أداة لوقاية المجتمع من الفساد:

ويبدو من جميع ما ذكرنا من أمثلة وأدلة لكل مذهب في هذه الدراسة أن اعتبار سد الذرائع في الفروع الفقهية هو نوع من الحصانة للشريعة الإسلامية، تسلم به ممن يريد أن يستخدمها لأغراض نفسية، وهي في الآن نفسه ضابطة تقي النفوس البشرية من الانزلاق مع الأهواء والمفسدة.

ويبدو أننا في هذا الزمن، ربما نكون في أشد الحاجة إلى الأخذ بالاستقامة والمثل العليا، وسد ذرائع الفساد والحرام، لنحمي بها مجتمعاتنا من الميل إلى الميوعة والمنكر والإباحية والشر، والسقوط في أحضان الرذيلة، حتى نضمن لأنفسنا بناء مجتمع متضامن ومتماسك.

وإن قاعدة سد الذرائع تقيم الدليل على أن التشريع الإسلامي فيه عوامل إيجابية فعالة تدفع الإنسان دائمًا إلى ضبط النفس وتقوية الإرادة، ومقاومة الشر، وبذلك تكون شريعتنا حاملة في ذاتها لعوامل حصانتها.

وهو في الآن نفسه أصل من الأصول المهمة، يعزز كل التشريعات القائمة على تنظيم المصالح العامة ورعايتها، وبذلك يمكن الاعتماد عليه في جميع أوجه النشاط الاجتماعي والاقتصادي، كتحديد الأسعار ومقاومة الغش ومنع كل ما يدعم انتشار الفتنة والفساد والتحلل الجنسي وانتشار المشروبات الكحولية والمخدرات.

وقاعدة سد الذريعة التي وضعت لتقف سدا أمام كل ما يؤدي إلى الحرام يمكن أن تكون أداة فعالة وناجحة في يد المشرع الذي يسهر على إقامة تشريعات وقوانين تنظيمية تحمي المجتمع من الانهيار، وتقيه من عوامل التدهور والانحطاط.

ص: 1556

الفصل الثامن

أمثلة لفتح الذرائع وسدها

أ - أمثلة لفتح الذرائع:

لقد تقدم لنا أثناء هذا البحث أن القرآن الكريم اتجه في تحقيق المصالح ودرء المفاسد ناحيتين:الأولى إيجابية، والثانية سلبية:

والإيجابية: تتمثل في أنها فتح لكل أبواب الخير، وإن شئت فقل: فتح الذرائع لكل خير وبر ومعروف؛ لأن الخير وصف يلزم كل أمر تمحض لمصلحة راجحة.

فما كان يؤدي إلى مصلحة فهو ذريعة، ويتجلى معنى فتح الذرائع في أن الله يوجب أمورًا لا لعينها بل لكونها وسائل وذرائع لأمور أخرى ثبت طلبه لها.

وشواهد فتح الذرائع كثيرة في القرآن والسنة والفروع الفقهية من ذلك:

1-

السعي لأداء صلاة الجمعة والجماعة امتثالًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] .

وجه الاستدلال من الآية على فتح الذريعة: هو أن الله تعالى يأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة والسعي ليس وسيلة مقصودة لذاتها وإنما كان الأمر بوسيلة السعي إلى الصلاة لأنها ذريعة إلى إقامة الصلاة المفروضة كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وكذلك الأمر بترك البيع عند النداء لصلاة الجمعة لتحصيل فريضة السعي إلى الصلاة.

2-

الأمر بإعداد القوة من السلاح والعتاد فالأمر بإعداد السلاح أمر واجب لا لذاته بل لتحقيق واجب هو القتال امتثالًا لقول الله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] .

3-

الأمر بالافاضة من عرفات امتثالًا لقول الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 198 ـ 199] والإفاضة وسيلة لتحقيق مناسك الحج على الوجه المطلوب.

4-

جواز بيع رديء التمر بدراهم، وشراء جيده بتلك الدراهم، فقد كان عامل الرسول صلى الله عليه وسلم بخيبر يشتري صاعًا من الجنيب (وهو أجود التمر) بصاعين من الجمع (وهو رديئه) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا، فهذه الذريعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها.

5-

أباحت الشريعة دفع المال للعدو لتخليص الأسرى مع أن في دفع المال إليه تقوية له، وهي حرام؛ لأنه إضرار بالمسلمين لكن مصلحة الأسارى أعظم نفعًا، لأنها تقوية للمسلمين من ناحية أخرى.

6-

تسعير ما يباع في الأسواق من نحو الأقوات فإنه ذريعة إلى حماية العامة أن يغينوا ويغلي الباعة عليهم ما يحتاجون إليه في كل يوم، فالإذن بالتسعير فتح ذريعة إلى مصلحة اقتصادية لا يستهان بها.

7-

جواز حفر بئر في مكان لا يتضرر فيه غالبًا؛ لأن الفساد في حفرها يعتبر نادرًا، وبذلك كانت المصلحة في حفرها أرجح من احتمال ما قد يحدث نادرًا من سقوط أحد فيها.

ص: 1557

ب -أمثلة لسد الذراع:

لقد قمنا أثناء عرضنا لهذا البحث بذكر أمثلة متعددة لسد الذرائع وفتحها عند مختلف المذاهب، سواء في تعريفنا للذرائع، أو في أقسامها، أو موقف أئمة المذاهب منها، كما بينا أن القرافي يقول: إن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح. والذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة.

واستجابة لما طلب منا في العنوان الثامن فهذه بعض الأمثلة لسد الذرائع:

1-

مثال ما يؤدي إلى: أنظرني أزدك: لو اشترى ثوبًا بعشرة إلى شهر ولما حل الأجل جاء البائع يطلب العشرة ولم يكن عند المشتري ما يوفيه، فقال له: بعني سلعة يكون ثمنها عشرة نقدًا بخمسة عشر إلى أجل، لم يجز؛ لأنه يؤول إلى: أنظرني أزدك، وبيان ذلك: أن الزيادة في ثمن السلعة إنما كانت لتأجيل العشرة. وأصل هذه الصورة: قول مالك: في الموطأ: " فالرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل، فإذا حلت قال له الذي حل عليه الدين: بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدًا بمائة وخمسين إلى أجل: هذا بيع لا يصح، ولم يزل أهل العلم ينهون عنه " وقد بين الإمام مالك رحمه الله علة النهي بقوله: " وإنما كره ذلك لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكره آخر مرة، ويزداد عليه خمسين دينارًا في تأخيره عنه. فهذا مكرره ولا يصلح، وهو أيضًا يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية، إنهم كانوا إذا حلت ديونهم قالوا للذي عليه الدين، إما أن تقضي وإما أن تربي، فإذا قضى أخذوا، وإلا زادوهم في حقوقهم وزادوهم في الأجل"(1)

(1) الموطأ: كتاب البيوع، باب: ما جاء في الربا في الدين 1/ 673، وانظر الزرقاني عليه 3/139

ص: 1558

2-

ومثال ما يؤدي إلى بيع ما لا يجوز متفاضلًا: إذا اشترى ما باعه بعشرة دنانير لأجل، بثمانية، نقدًا أو لدون الأجل، أو بثمانية، أربعة منها نقدًا وأربعة مؤجلة لدون الأجل الأول، لم يجز، لما يؤول إليه العقد من بيع ما لا يجوز متفاضلًا، وبيانه: أنه لما عادت السلعة إلى يد صاحبها اعتبرت ملغاة، وآل أمر العقدين إلى دفع ثمانية دنانير معجلة في عشرة مؤجلة.

3-

مثال الحيل: كل أمثلة للذرائع إلى الربا أو إلى الممنوع بوجه عام يمنعه العلماء ولو لم يقصد العاقدان أو أحدهما التوصل إلى المحظور، فلو وجد القصد الفاسد منهما أو من أحدهما كانت الذريعة أولى بالمنع، وتدخل حينئذ في باب الاحتيال، ولما كانت الحيل الفاسدة مناقضة لسد الذرائع كان المنع منها من تطبيقاته المهمة عندهم، وقد فرق الشاطبي بين الحيل المحرمة والأخرى الجائزة، وضبط الأولى بأنها التي تهدف أصلًا شرعيًا، أو تناقض مصلحة شرعية، من إحلال حرام أو تحريم حلال أو إسقاط واجب.

4-

منع بيع العنب لمن يتخذه خمرًا لما فيه من المعاونة على الإثم، قال تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولو وقع البيع فهو باطل إن علم البائع قصد المشتري ذلك، إما بقوله وإما بقرائن مختصة به، تدل على ذلك، وإن كان الأمر محتملًا كأن يشتريه من لا يعلم حاله أو من يصنع الخل والخمر معا ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر، صح.

وهكذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام، كبيع السلاح لأهل الحرب، أو لقطاع الطرق أو في الفتنة، وكذا بيع الأمة أو إجارتها لأجل الغناء، وإجارة داره أو دكانه لبيع الخمر فيها، أو لتتخذ كنيسة أو بيت نار أو أشباه ذلك من العقود التي يحكم عليها بالحرمة والبطلان.

5-

منع خلوة الرجل بأجنبية لأنه ذريعة للزنا بها، لحديث:((إياكم والدخول على النساء)) قال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال ((الحمو: الموت)) (1) . والحمو: أخو الزوج.

والخوف من أخي الزوج أكثر من غيره لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلو بها من غير أن ينكر عليه.

(1) أخرجه البخاري ومسلم من عقبة بن عامر البخاري

ص: 1559

خلاصة البحث

لما كان من الواجب على المسلم أن يتعرف طريق معرفة حكم الله في أي أمر من الأمور لاستخراج الأحكام من ينابيعها، كذلك وجب أن يتعرف على الأدلة التي نصبها الشارع لمعرفة الأحكام وهذه الأدلة كثيرة منها سد الذرائع.

والأصل في أدلة الأحكام هو النصوص، وهي الكتاب والسنة، وبقية المصادر ومنها سد الذرائع وهي كلها راجعة إليها.

والذرائع جمع ذريعة وهي لغة الوسيلة التي يتوسل بها إلى الشيء، وفي الاصطلاح الشرعي ما تكون وسيلة إلى الممنوع شرعًا، ومعنى سد الذريعة منعها بالنهي عنها، والذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، وكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة.

وقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا رجح فيها جانب المصلحة، وهي مبنية على الظنون، فكلما كان الغالب صدق الظنون بنيت عليه مصالح الدنيا والآخرة.

وفتح الذرائع لم يكن محل خلاف بين العلماء، بل الذي وقع فيه الخلاف هو سد الذريعة وما ورد من أن أصل الذرائع متفق عليه لا يناقض من أن هناك خلافًا في التسمية، وطريق التخريج ومجال التطبيق في الجزئيات، ويؤكده ما ذكره القرافي من تقسيم الذرائع إلى أقسام ثلاثة: ما أجمعت الأمة على سده، وما أجمعت الأمة على عدم منعه، وقسم اختلف فيه العلماء كبيوع الآجال.

والفرق بين السبب والذريعة، أن السبب ما وقع شرعًا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم، كما كان النصاب سببا لوجوب الزكاة، بينما سد الذرائع هو كون الفعل مما يفضي إلى النتيجة الضارة التي يأباها الشارع.

أما الفرق بين الوسيلة والذريعة: فالمالكية لا يرون فرقًا ظاهرًا بين الذريعة والوسيلة فإذا كانت الذريعة من منع الجائز الذي يؤدي إلى فعل محظور وتحريم الوسائل يؤدي إلى نفس المعنى.

والشافعي الذي يقول بجواز بيع العينة لأنه يشتمل على عقدين صحيحين، يحرمه إذا تحقق مقصد التحيل فكان عند ذلك وسيلة إلى المحرم.

ص: 1560

أما الفرق بين الحيلة والذريعة: فالحيلة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، وفرق العلماء بين نوعين من الحيل.

النوع الأول: ما يهدم أصلًا من الأصول التي اعتبرها الشارع أو يناقض مصلحة من المصالح التي راعاها الشارع فهذا نوع حرام وممنوع.

النوع الثاني: ما لا يهدم أصلا شرعيًا ولا يناقض مصلحة، وقصد به إحياء حق أو دفع ظلم كالنطق بكلمة الكفر إكراها بقصد إحراز الدم، فهو حلال وقد قسمت الحيلة تقاسيم كثيرة لاعتبارات متعددة.

والفرق بين المقاصد والذرائع: أن المقاصد هي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسها أما الوسائل فهي الطرق المفضية إلى المقاصد، وحكمها كحكم ما أفضت إليه غير أنها أخفض رتبة من المقاصد.

والفرق بين الغلو في الدين وبين الذريعة: أن الغلو في الدين موقعه المبالغة في إلحاق المباح بمأمور به أو بمنهي عنه شرعًا ـ أو إتيان عمل شرعي بأشد مما أراد به الشارع بدعوى خشية التقصير عن مراد الشارع.

وأركان الذريعة ثلاثة:

1-

الوسيلة وهي الأساس الذي تقوم عليه الذريعة.

2-

الإفضاء وهو الذي يصل بين طرفي الذريعة.

3-

المتوسل إليه وهو الممنوع والمتذرع إليه.

أقسام الذرائع باعتبار الحكم هي أقسام ثلاثة عند القرافي: ما أجمعت الأمة على منعه وما أجمعت الأمة على عدم منعه وما هو محل اختلاف العلماء، وأربعة أقسام عند الشاطبي وهو يقول إن قاعدة الذرائع متفق عليها بين المذاهب وإنما الخلاف عنده في تحقيق المناط.

وعند ابن القيم هي أقسام أربعة كذلك بالنسبة إلى نتائجها: وكون مصلحة الفعل أرجح من المفسدة أو تكون المفسدة أرجح من المصلحة.

وإن الأخذ بالذرائع أكثر منه الإمامان مالك وأحمد بن حنبل، ودونهما في الأخذ به الإمامان الشافعي وأبو حنيفة النعمان ولكنهما لم يرفضاه جملة.

ص: 1561

مالك وسد الذرائع:

سد الذرائع من الأصول المهمة في مذهب مالك وهو أكثر المذاهب اعتمادًا على رعاية مصالح الناس، وليست الذريعة إلا تطبيقًا عمليًا من تطبيقات العمل بالمصلحة، ويعتبر مالك أن سد الذرائع هو سد وسائل الفساد، فكل ما يؤدي إلى الفساد غالبًا فهو ممنوع من غير تقيد بكون ذلك الفساد قد نص عليه بنص خاص أو كان داخلًا في النهي عن الضرر والضرار، والذرائع ينظر فيها إلى نتائجها فإن كانت فسادًا وجب منعها وإن كانت مصلحة وجب الأخذ بها.

مذهب أحمد بن حنبل في سد الذرائع:

إن الإمام أحمد بن حنبل يعتبر سد الذرائع أصلًا صحيحًا في مجال التأصيل والاعتماد عليه دليلًا عليه في ميدان التطبيق؛ لأنه أصل أثبتت صحته النصوص من الكتاب والسنة وعمل السلف من الصحابة والتابعين ـ وإذا لم يجد نصًا لجأ إلى الأصل الخامس وهو القياس فاستعمله، ويدخل في جملة القياس الصحيح عند الحنابلة رعاية المصالح، ومن وجوه العمل بها سد الذرائع وفتحها ـ فهو ينظر إلى المآلات فيقررها ويمنع كل ما يؤدي في مآله إلى محرم.

ص: 1562

مذهب الإمام الشافعي في سد الذرائع:

أبطل الشافعية العمل بسد الذرائع لسببين أثنين:

الأول: أن سد الذرائع مظهر من مظاهر الاجتهاد بالرأي، وهم لا يأخذون منه إلا بالقياس، وإن الاجتهاد بالاستحسان وغيره من الوسائل التي لا تعتمد على نص ثابت ومنها سد الذرائع اجتهاد باطل لا يمت إلى الشرع بصلة؛ لأن الأخذ بسد الذرائع أخذ بالظن، والشريعة عنده ظاهرية تنظر إلى صورة الأفعال ومادتها لا إلى مآلاتها أو بواعثها إذا لم يكن هناك دليل ظاهر على المآلات والبواعث.

مذهب الحنفية وسد الذرائع:

لا يقول الحنفية بسد الذرائع ولا يعني عدم ذكر الحنفية لسد الذرائع ضمن أصولهم عدم اعتبارهم لصحة العمل به. وذلك لأمرين.

1-

قولهم بالاستحسان وهو باب يدخلون منه إلى العمل بالمصلحة وسد الذرائع.

2-

عملهم بسد الذرائع بالفعل في فروع كثيرة.

مذهب ابن حزم في سد الذرائع:

أنكر ابن حزم سد الذرائع بناء على نزعته الظاهرية التي تقف عند حد ظواهر النصوص، وتبطل كل أدلة إلى أي من القياس والاستصلاح وما يتصل بها من استحسان وسد الذرائع.

هذا وقد ذكرنا في تعرضنا لكل مذهب أدلته والأمثلة التي اعتمدها في بناء مذهبه، كما تعرضنا إلى مقارنة بين كل المذاهب الخمسة التي ذكرناها مع بيان محل الاتفاق ومواطن الاختلاف.

كما ذكرنا أمثلة من الغلو في سد الذرائع التي ظهرت في مذهب مالك وانتقدها بعض العلماء.

ثم تعرضت إلى أمثلة من فتح الذرائع وأمثلة من سد الذرائع بدون تقيد بمذهب من المذاهب. والله أعلم.

مصطفى كمال التارزي

ص: 1563