المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصها

وأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزامات

إعداد

الدكتور محمد علي القري بن عيد

الأستاذ المشارك في جامعة الملك عبد العزيز بجدة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهديه.

اللهم ألهمنا الصواب وآتنا الحكمة وفصل الخطاب.

1 -

مقدمة: في طبيعة النقود المعاصرة ونظم الإصدار النقدي:

تنقسم النقود عند الاقتصاديين بحسب نظام الإصدار إلى نوعين:

نقود سلعية ونقود ائتمانية.

* وللنقود عندهم قيمتان ملازمتان للنقود دائمًا: الأولى: تلك المستمدة من منافع الاستعمال، والثانية: من منافع التبادل؛ وتكون النقود سلعية إذا كانت الأولى (القيمة الاستعمالية) كبيرة حتى لو كانت غير غالبة على الثانية، أما إذا كانت قيمة الاستعمال ضئيلة لا تكاد توجد أضحت النقود في تعريفهم ائتمانية، ولتوضيح ذلك نعرض ما يلي:

الذهب والفضة نقود سلعية (1) لسببين:

الأول: أنها وإن استخدمت كوسيط للتبادل بالوزن (المراطلة) أو بالعد (السكة مثل الدرهم والدينار) ، فليس لها استقلال عن أصلها المعدني، فمثلًا دينار من الذهب وزنه مثقال وسعر صرفه عشرة دراهم، لا يختلف في قيمته، عن مثقال من الذهب على شكل سبيكة، فهو وإن كان نقودًا فهو يبقى سلعة كسائر السلع.

والثاني: أن لها منافع استعمالية كبيرة، فالذهب والفضة تكون حليًّا وتتزين بهما النساء وترصع بهما السيوف

إلخ.

قيمة هذا النوع من النقود مستمدة في أعين الناس من مصدرين الأول: هو قيمتها الاستعمالية، والثاني: قبولها العام عند الناس وتبني الحكومة لها كنقد، فإذا أبطلها السلطان فلم تعد وسيطًا للتبادل لم تتأثر كثيرًا؛ لأنها تبقى سلعة نافعة تباع وتشترى لأغراضها الأخرى مثل الذهب والفضة (2) .

(1) النقود السلعية – وإن كان أشهر الذهب والفضة – فهي كثيرة، منها الملح والقمح والماعز والبرونز

إلخ

(2)

فعلى سبيل المثال دولار مارياتريزا امبراطورة النمسا والمجر (الذي كان يسمى في الجزيرة العربية الريال الفرنسي) سك من الفضة في القرن الثامن عشر، واستمر مكتسبًا ثقة الناس حتى الستينات من هذا القرن عندما أوقفت في أوائل القرن العشرين وكانت النمسا قد خرجت من النظام المعدني قبل ذلك بسنين كثيرة

ص: 1115

أما النقود الورقية والفلوس (لا سيما ما كان منها من معادن خسيسة) فهي نقود ائتمانية، ومعنى ذلك أن تلك ليس لها أصل تنسب إليه أو تتصل به، فإن كانت مصنوعة من الورق، فإن رقعة تساوي في حجمها وألوانها الدولار ليس لها قيمته التبادلية أو قوته الشرائية، وكذلك الفلوس، فالفلس المصنوع من "النيكل" له قيمة تبادلية مستقلة عن معدنه فلا تكون قيمة وزنه من النيكل كقيمة ذلك الفلس، ثم إن هذا النوع من النقود (الائتمانية) ليس له قيمة استعمالية فالورق النقدي لا يؤكل ولا يتزين به ولا يستخدم لأي غرض نافع في الاستهلاك المباشر (1) .

وتستمد النقود الائتمانية قيمتها من مصدرين:

الأول: ختم السلطان؛ لأنها صادرة من المصرف المركزي في الدولة التي تلزم قوانينها المواطنين باستخدام تلك العملة وسيطًا للتبادل وأداة للمدفوعات الآجلة (2) .

الثاني: ثقة الناس بها، فربما يكون عليها ختم السلطان إلا أن الناس لا يثقون بأن تلك العملة ستحافظ على قوتها الشرائية في المستقبل فيحجمون بقدر الطاقة (لأن في ذلك مخالفة للقانون) عن التعامل بها، وعكس ذلك صحيح، وقد سجل المؤرخون أن البلشفيك عندما استولوا على الحكم في روسيا ألغوا عملة القياصرة وأصدروا نقودًا خاصة بالحكومة الثورية، لكنهم أسرفوا في طباعة النقود حتى فقدت قوتها الشرائية لارتفاع معدلات التضخم، فصار الناس يعودون إلى استخدام عملة القياصرة رغم علمهم بأن الحكومة المخلوعة لن تعود أبدًا إلى الحكم، لكنهم ارتضوا تلك لعلمهم بأن الكمية الكلية منها لن تزيد ومن ثم ستحافظ نسبيًّا على قيمتها في التبادل مستقبلًا.

بعد هذا نقول: إن النقود التي نتعامل بها في يوم الناس هذا في كل أنحاء العالم (بلا استثناء) هي نقود ائتمانية تتميز بما يلي:

1-

أن قيمتها مستمدة من قبول الناس لها وثقتهم أنها ستحافظ على قيمتها في المستقبل، ومن ختم السلطان عليها.

2-

ليس لها قيمة استعمالية البته، لا سيما عندما تكون على صفة حسابات في المصارف وأرقام في دفاتر البنوك.

3-

ليس لها معدن أو أصل تنسب إليه، فهي معنوية حتى لو طبعت على الورق أو على رقائق معدنية، ولم يعد لمفهوم "غطاء العملة" أي معنى أو فائدة عملية.

4-

أنها غير مرتبطة بالذهب أو الفضة، وإن نصت تعليمات صندوق النقد الدولي على أن أعضاءه يعرفون عملاتهم بوزن من المعدن النفيس (3) .

5-

أن هناك جهة حكومية محددة (هي المصرف المركزي) تصدر العملة وتعلن لها سعر صرف تحرص على استقراره وعلى الدفاع عنه وتتبنى السياسات التي تدعمه، ولم يكن هذا معروفًا أو معهودًا أبدًا فيما مضى، فهو من سمات نظم الإصدار النقدي الحديثة ولهذا التطور آثار بالغة الأهمية كما سيظهر فيما بعد.

(1) ورب قائل: إن النقود المغشوشة هي نوع ثالث من النقود والجواب أنها تتبع ما غلب عليها أي الغش أو السلامة منه

(2)

Legal Tender

(3)

ومعلوم أنه لم يعد لصندوق النقد الدولي نفسه أثر في النظام النقدي العالمي إذ تحول (عمليًّا) منذ منتصف الثمانينات إلى مؤسسة للإقراض

ص: 1116

2-

انقطاع النقد وكساده وغلاؤه ورخصه:

أما وقد ظهر أن النقود السلعية ومنها الدرهم والدينار لم تعد موجودة في زمننا الحاضر، وإنما الناس يتعاملون بالورق النقدي (الائتماني) . فكيف تكون حالات النقود التي تحدث عنها الفقهاء مثل الانقطاع والكساد والغلاء والرخص؟

أ- انقطاع النقود:

وقد عرفه الفقهاء بمثل التعريف التالي أو قريبًا منه: "عدم وجود مثل الشيء في الأسواق ولو وجد ذلك المثل في البيوت فإنه ما لم يوجد في الأسواق فيعد منقطعًا"(1) .

وقد كان هذا يحدث كثيرًا في الأزمنة القديمة عندما كان الناس يتعاملون بأنواع من النقود، في نفس الوقت، مثل أنواع الدراهم والدنانير والفلوس المختلفة، وقبل ما لا يزيد عن خمسين سنة كانت أكثر مجتمعات الإسلام، لا سيما في الشرق الأوسط، لا تزال تتعامل بما لا يقل عن خمس أو ست عملات في نفس الوقت (2) . ولذلك يحدث في كثير من الأحيان أن يتعاقد الناس، وتترتب لبعضهم على بعض الحقوق والديون بعملة محددة ثم تنقطع تلك العملة لأسباب كثيرة، منها: توقف سكها في بلد المصدر، ارتفاع قيمة معدنها مقابل العملات الأخرى (إذا ارتفع الطلب على الذهب اختفى من الأسواق)

إلخ فهي تختفي من الأسواق ولكنها تبقى لدى بعض الأفراد في البيوت.

وقد عرفت البلدان التي كانت تتبنى نظام المعدنين (الذهب والفضة) في إصدارها النقدي هذه الظاهرة في العصور الحديثة.

فالمملكة العربية السعودية قبل سنة 1954 م كانت تعاني من مثل ذلك إذ كانت نقودها الريال (الفضي) والجنيه (الذهبي) فكان ارتفاع أسعار الذهب في خارج المملكة يؤدي إلى اختفائه من الأسواق لاتجاه الناس لتصديره فيختفي من الأسواق وما بقي منه يحتفظ به الناس في منازلهم، ومثل ذلك يحدث عند ارتفاع سعر الفضة، تلك هي حالات الانقطاع التي تحدث عنها الفقهاء.

وقد كانت ملاحظة الفقهاء في هذا الموضوع دقيقة، إذ كانت النقود تختفي من الأسواق (أي في التبادل) ولكنها تبقى في البيوت؛ لأن ارتفاع قيمتها يدفع الناس إلى الاحتفاظ بها وادخارها، وهذا شبيه بما يسمى عند الاقتصاديين بقانون قريشام (3) وواضح أن هذه الظاهرة مردها أن للنقود من ذاتها قيمة لذلك يميل الناس إلى سحبها من التبادل مطمئنين إلى بقاء تلك القيمة فيها؛ لأنها مستمدة من محتواها من المعدن.

(1) درر الحكام لعلي حيدر 1/ 108

(2)

وقد تعامل المسلمون بأجناس من الدراهم والدنانير في نفس الوقت، وتزخر كتب التاريخ بأسمائها مثل البغلية والطبرية واليزيدية والشريفي والبندقي والمحمدي والكلب والأنموري والناصري.. إلخ. وتعامل أهل الحجاز قبل سنة 1954 م في نفس الوقت بالريال المجيدي (نسبة إلى السلطان عبد المجيد) والريال الفرنسي (دولار ماريا تريزا) والريال السعودي (من الفضة) والجنيه الإنجليزي (الذهب المسمى جورج) والجنيه السعودي (ذهبي) والروبية الهندية (من الفضة) والريال الحميدي (نسبة إلى السلطان عبد الحميد) والريال الهاشمي (من الفضة) والجنيه الهاشمي (أبو خيلين) إضافة إلى القرش (نيكل) والبيزة والآنه وغيره من أنواع الفلوس

(3)

وهو القانون الذي يقول: إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من الأسواق أي أن الناس يحتفظون بها ويتعاملون في الشراء والبيع بالعملة الرديئة ليتخلصوا منها

ص: 1117

وقد ذكرنا آنفًا طبيعة النظام النقدي المعاصر وأنه يقوم على النقود الائتمانية. فهذا الانقطاع عندئذٍ لا يتصور في ظل النقود الائتمانية.

والنتيجة: أن كل ما ذكره الفقهاء من أحكام في موضوع الانقطاع ليس له مناط في زمننا الحاضر. والله أعلم.

ب- كساد النقود (1) :

وقد عرفه الفقهاء بأنه إبطال التداول بنوع من العملة وسقوط رواجها في البلاد كافة، من ذلك إيقاف حكومة ما إصدار النقد الذي كان متداولًا في البلاد، يحدث هذا في الوقت الحاضر في حالات كثيرة لا سيما في البلاد النامية التي تحدث فيها الانقلابات العسكرية، أو عند تغير السياسة النقدية أو المالية للحكومة

إلخ، كما كان يحدث قديمًا عند تغير السلاطين والملوك والحكومات.

وقد اعتادت الدول في العصر الحديث على خلاف ما كان في الماضي، أن تضرب للناس عندما تقدم على تغير العملة، أجلًا تسمح لهم فيه أن يستبدلوا العملة الجديدة بالقديمة، ثم هي – دائمًا - تحدد لهم سعر الصرف بين العملتين، مثل أن تقول: كل جنيه جديد يساوي في الصرف خمسة قديمة..إلخ، ولا نعرف دولة حديثة أقدمت على إلغاء عملتها القديمة وإصدار عملة جديدة بدون أن تفعل ما ذكر من الاستبدال وتحديد سعر الصرف، وقد أشرنا آنفًا أن تحديد الحكومات لسعر صرف لعملاتها تسعى إلى استقراره، وتدافع عنه وتحرص على استمراره وهو أمر حديث ما كان معروفًا إلا في أنظمة الإصدار النقدية القديمة.

إذن فإن الحقوق والالتزامات والديون والقروض لن تتأثر كثيرًا بإبطال النقود، ولما كان سعر الصرف بين العلميتين قد حدد بمرسوم فلا خلاف –في نظر الكتاب- بين حالة الكساد هذه وبين أن يقترض الرجل من أخيه ألفًا من الريالات فيقبض منه ورقتين من فئة 500 ريال، ثم إذا حان الأجل وجد أن الحكومة قد ألغت فئة الـ 500 ريال، فقضاه عشر ورقات من فئة 100 ريال، لا فرق بين الحالتين، والله أعلم. (2) .

(1) وقد يسميه بعض الفقهاء الإبطال أو قطع التعامل أو ترك المعاملة

(2)

على أننا يجب أن ننتبه أننا نفترض هنا أن كلا العملتين القديمة والجديدة هي من أنواع النقود الائتمانية لا السلعية، أما الانتقال من النقود السلعية إلى الائتمانية فالأمر فيها مختلف: فمثلًا عندما خرجت المملكة العربية السعودية من نظام الإصدار السلعي (ممثلًا بالريال الفضي والجنيه الذهبي) إلى النقود الورقية أفتى علماء المملكة باستحقاق الدائنين الذين سبقت عقودهم النظام الورقي ما ثبت في ذمة المدينين من عملة مثل الريال الفرنسي أو الريال الفضي وهذا عين الصواب. والله أعلم. انظر ص 205 في مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة ورئيس القضاء والشئون الإسلامية، جمع وترتيب محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة 1300 هـ

ص: 1118

يمكن القول إذن أن مسألة كساد النقود غير متصورة في العصر الحاضر وإن تغيرت العملات وحل الحديد منها محل القديم.

ويستثنى من ذلك الحالات التالية:

1-

احتلال جيش بلد ما لقطر آخر وإسقاط نظامه السياسي وإلغاء عملته وفرض عملة الغازي على الناس في البلد المحتل (1) .

2-

انهيارالنظام السياسي بسبب الحرب الأهلية وذهاب سلطة الحكومة ووجودها المؤثر في البلاد، فعندئذٍ يحل بنقودها الكساد وتصبح عملتها غير ذات قيمة (2) .

وحتى في الحالتين المذكورتين آنفًا فإن الحكومة التي سيستتب لها الأمر ستعلن عند إصدارها لعملة جديدة (3) سعر الصرف بين عملتها الجديدة وعملة البلد القديمة.

وفي الحالتين المذكورتين فقط نرى أن كلام الفقهاء في موضوع كساد النقود له اتصال بالنقود المعاصرة.

ويرى الكاتب أن الحالة الأولى –فقط- تقتضي فيها العدالة وتحقيق مقاصد الشرع العمل على الربط بالقيمة لاحتمال أن المحتل سوف يحدد لعملة البلد القديمة سعرًا مجحفًا لا يراعي فيه مصالح أهل البلد المحتل.

والنتيجة: أن الكساد وإن كان مما يصيب النقود في الحاضر كما كان يصيبها في الماضي إلا أن ما يترتب عليه من مشكلات شديدة الاختلاف عبر الزمان القديم، بل إن فتاوى الفقهاء القدامى إنما تعالج مشاكل غير موجودة في عالم اليوم فليس لها (أي تلك الفتاوى) عندئذٍ –في نظر الكاتب- مناط في عالمنا المعاصر، والله اعلم.

ج- الغلاء والرخص:

إذا كان الانقطاع والكساد لم يعد –في نظر الكاتب- من التغيرات التي تصيب النقود المعاصرة، فإن الغلاء والرخص هو مما تتعرض له النقود في الزمن الحاضر كثيرًا، وتتولد عن ذلك مشكلات متعددة تدخل ضمن ما تعارف الاقتصاديون على تسميته بالتضخم.

(1) مثل ما حدث في الكويت إبان الاحتلال العراقي

(2)

مثل الذي حدث في يوغسلافيا السابقة أو الاتحاد السوفيتي المنحل

(3)

مثل الجمهوريات التي ظهرت بعد سقوط يوغسلافيا أو الاتحاد السوفيتي

ص: 1119

وقد تحدث الفقهاء القدامى عن الغلاء والرخص وما يترتب على ذلك من أثر على الديون والمهور المؤجلة والقروض..إلخ، والغلاء والرخص عندهم إنما هو مسألة تتعلق بالديون المعقودة بالفلوس أو الدراهم والدنانير المغشوشة وليس بالذهب والفضة، ذلك أنهم قد أجمعوا على أن الديون بالدرهم والدينار لا تتأثر بالغلاء والرخص، فليس للدائن إلا ما ثبت في ذمة المدين ولم يشذ عن ذلك أحد بمن فيهم أبو يوسف –رحمه الله (1) هذا مع أنهم كانوا يعرفون التضخم كما سيأتي تفصيله.

وانقسموا في موضوع الديون والالتزامات المعقودة بالفلوس أو الدراهم المغشوشة في حالات الغلاء والرخص إلى أقوال ثلاثة:

أ- فمنهم من قال: ليس للدائن إلا ما ثبت في ذمة المدين كالحنابلة، جاء في المغني "قد ذكرنا أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله، ولو كان ما أقرضه موجودًا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره أو لم يتغير.."(2) والشافعية، قال في الأم:"ومن سلف فلوسًا أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي سلف أو باع بها"(3) .

والمالكية: جاء في المدونة "قلت: أرأيت إن أتيت إلى رجل فقلت له أسلفني درهم فلوس، ففعل، والفلوس يومئذٍ مائة فلس بدرهم ثم حالت الفلوس ورخصت حتى صارت مائتا فلس بدرهم، قال: إنما يرد ما أخذ لا يلتفت إلى الزيادة"(4) .

ب- ومنهم من قال: يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في ذمة المدين يؤديه دراهم أو دنانير، وهذا رأي أبي يوسف (5) .

(1) فقد نقل ابن عابدين قي تنبيه الرقود (ص 61- 62) : وإن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط.. وقال: "وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جارٍ في الذهب والفضة.. فإنه لا يلزم من وجب له نوع منها سواه بالإجماع"

(2)

المغني 2/ 365

(3)

الأم: 3/ 33

(4)

المدونة 8/ 135

(5)

انظر رسائل ابن عابدين 2/ 60 و64

ص: 1120

ج- ومنهم من قال: يقيد رد القيمة بأن يكون التغير فاحشًا وإلا فالمثل، وهذا ما ذكره الرهوني في حاشيته على شرح الزرقاني لمختصر خليل (1) .

وهنا يجب ملاحظة النقاط التالية:

إن الفقهاء عندما يتحدثون عن الغلاء والرخص في النقود، فإنهم يشيرون إلى علاقة النقود الرائجة بالذهب والفضة؛ لأنها هي عندهم النقود بالخلقة، وهي الأثمان التي إليها تنسب النقود وتقاس عليها، ولم يتحدثوا أبدًا عن علاقة بين النقود (التي أصابها الغلاء والرخص) والمستوى العام للأسعار، أي أثمان جميع الأشياء.

أما الغلاء والرخص للنقود في زمننا الحاضر فمفهومها مختلف عما سبق، وهي لا تخلو أن تكون أحد أمرين بينهما اتصال كبير:

أ- أنها تشير إلى علاقة العملة المحلية بسلة من العملات الدولية أو بعملة خارجية، مثل أن يتغير سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار أو المارك.. إلخ، أو علاقتها بحقوق السحب الخاصة، فيقال كانت الليرة تساوي دولارًا واحدًا في سنة كذا وهي اليوم ألف ليرة بدولار.. إلخ.

ب- أنها تشير إلى التغيرات التي تطرأ على ما يسمى بمؤشر تكاليف المعيشة (CPI) والذي يفترض أنه يقيس التغير في القوة الشرائية للنقود أو المستوى العام للأسعار فيقال: كان يكفي المواطن في سنة كذا راتب مقداره مائة ليرة في الشهر واليوم لا يكفيه عشر آلاف.

(1) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لخليل 5/122 ومن المعلوم أن الرهوني ليس ممن يعول على قوله كثيرًا عند المالكية فلا يعد من كبار المجتهدين كما أن الشيخ الصديق الضرير قد نفى الخلاف في المذهب المالكي وأن القول واحد فيه هو أن الرد إنما يكون بالمثل في كل حال، انظر بحثه الذي قدمه إلى ندوة:"موقف الشريعة من ربط الحقوق والالتزامات الآجلة لمستوى الأسعار وأحكام تطبيق ذلك في إطار الاقتصاد الإسلامي" التي نظمها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب في جدة سنة 1987 م

ص: 1121

عليه نقول: إن كلام الفقهاء القدامى في مسالة غلاء ورخص النقود لا يتعلق أبدًا بالمستوى العام للأسعار بل بعلاقة الفلوس والدراهم المغشوشة بالذهب والفضة.

إذن فإن بين مفهوم الفقهاء القدامى للغلاء والرخص والمفهوم المعاصر للتغيرات في القوة الشرائية للنقود فروقًا كبيرة تؤثر في نظرنا في الحكم، منها:

1-

أن التغيرات التي تطرأ على الذهب أو الفضة ليست تحت سيطرة أو إرادة الحكومة أو أي فرد من أفراد المجتمع، فلا يمكن والحال هذه أن توجه المصلحة جهة بعينها، فمن المعلوم أن سعر هذين المعدنين (حتى يوم الناس هذا) معتمد

على تفاعل قوى العرض والطلب في السوق العالمية والتي –وإن تأثرت مؤقتًا بقرارات من حكومات معينة- فهي مستقلة عن أي جهة، ومن ثم فإن الارتفاع أو الانخفاض فيها لا يحدث بطريقة منتظمة (Systimatic) يمكن توقعها أو التنبؤ بها بدقة، وإنما هي تغيرات أشبه ما تكون بالأنواء والأحوال الجوية فهي كضرب عشواء (1) هذا على خلاف مؤشر تكاليف المعيشة الذي يقيس القوة الشرائية للنقود، والنقود في يد الحكومة يصدرها مصرفها المركزي وتؤثر عليها وعلى قوتها الشرائية سياساتها النقدية والمالية.

فربما زادت الحكومة من عرض النقود حتى ترخص، فإذا رخصت وأصبحت السلع والخدمات أغلى مما سبق ارتفع مؤشر تكاليف المعيشة والمذكور فلا تستطيع الحكومة عندئذٍ دفع ما عليها إلا بمزيد من النقود، فتصدر مزيدًا منها، فإذا أصدرت المزيد زادت النقود رخصًا.. وهكذا يدور الاقتصاد في حلقة مفرغة، ويصبح تغير النقود بالرخص جزءًا من نظام نقدي معتمد من الحكومة، ويضحي الانخفاض في القوة الشرائية للنقود معروفًا للجميع (2) .ويشهد على ذلك أن العالم برمته لم يشهد منذ نحو 50 عامًا إلا الارتفاع في الأسعار، وربما اختلفت نسبة الارتفاع من سنة إلى أخرى ومن بلد إلى ثانية وربما شذ عن ذلك آحاد السلع، ولكن الظاهرة العامة هي الارتفاع المستمر في تكاليف المعيشة، أليست هذه الظاهرة أبين وأثبت وأرسى وأشد تأثيرًا من العرف الذي إذا ساد لم تصح معه الزيادة في القروض؟ فإذا سمح بأن تقتضي الديون بالقيمة لا بالمثل فإن ما في ذمة المدين "سيزيد"(وليس له اتجاه إلا الزيادة) بنسبة كذا في السنة، لا فرق عندي بين هذا الربط وبين المتعارف أو التشارط على زيادة في القرض (أو الدين الذي ثبت في الذمة) كنسبة من الفائدة المتغيرة، ذلك هو عين ربا بالنسيئة؛ لأن الزيادة لا تختلف في حقيقتها وأثرها وحكمها الشرعي عن ذلك العرف والشرط والله أعلم.

(1) فمثلًا عندما اشتعلت أزمة الخليج في سنة 1990م كانت جميع النظريات والتوقعات تقول بضرورة ارتفاع سعر الذهب ارتفاعات شاهقة، ولكن الذي حدث أنه لم يتغير، هذا مصداق لما ذكرناه

(2)

معلوم أن كل الدول تتبنى خطة وسياسة محددة لإصدار النقود تتضمن معدلًا للنمو السنوي فيها (أي مزيد من الإصدار) بل أن بعض الدول تلزم مصرفه المركزي بسد جزء محدد كنسبة مئوية من العجز في ميزانيتها –سنويًّا- بمزيد من الإصدار للنقد الورقي

ص: 1122

3 -

التضخم وارتفاع الأسعار ليس جديدًا على العالم بل كان معروفًا عند القدماء:

يعرف التضخم بأنه الارتفاع الملموس للمستوى العام للأسعار في بلد خلال فترة زمنية معينة، وهو يعني انخفاض القوة الشرائية للنقود، وهي المشكلة التي يعاني منها كل مجتمعات اليوم تقريبًا، هذا التضخم ليس جديدًا على العالم بل عرف حتى في الأزمنة القديمة، وقد حدثت كثيرًا في بلاد المسلمين في الماضي، وحاصرها أكثر الفقهاء القدامى، وقد سجلت كتب التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة على ذلك منها على سبيل المثال لا الحصر ما ذكرت بعض كتب التاريخ:

"ودخلت سنة ست ومائتين.. قيل وكان فيها رخص حتى بلغ الطعام ثمنًا خسيسًا فأخبرني سعيد

قال: جاء رجل من أهل المرج.. ليطحن في رحاها وكان السعر رخيصًا جدًّا، فلم يطحن له من كثرة الطعام وهوانه فجاع وقال لطحان: خذ مني الحنطة، وأعطني دقيقًا فلم يفعل، قال: فأعطني رغيفين آكلهما وخذ من الحنطة ما تريد قال: ما بي حاجة إلى ذلك وكلم غيره في مثل ذلك فلم يفعل

" (1) .

"ودخلت سنة سبع ومائتين ارتفع السعر وغلا بالموصل وسائر بلاد الجزيرة والبصرة والكوفة حتى بلغ الكر (40 أردب) نيفًا وثلاثة آلاف درهم

" (2) .

وخلال القرن السادس عشر الميلادي شهد العالم كله ارتفاعًا ملموسًا في مستويات الأسار جاء بسبب تدفق الذهب على أوربا بعد اكتشاف العالم الجديد ثم انتقل الذهب حاملًا معه التضخم إلى أنحاء العالم المختلفة بعد ذلك.

ومنتفٍ أن يكون الفقهاء القدامى على غير علم بهذا الغلاء ولم يعرفوا بحدوث التضخم، كيف يكون ذلك وأشهر الرسائل التي ألفت في مسألة الغلاء والرخص إنما جاءت في نحو هذه الفترة (أي في القرن السادس عشر الميلادي، العاشر الهجري وما بعده)(3) ، ومع هذا فقد وجدنا أنهم كانوا دائمًا يتحدثون عن القيمة لتعني الذهب والفضة ولم يعبأوا أبدًا بمسألة انخفاض أو ارتفاع القوة الرائية لهذين المعدنين، ولم يروا أن لها تأثيرا على الديون الثابتة في الذمة بالدرهم والدينار، مع أنك ترى أن القوة الشرائية للدرهم والدينار تتغير وكانوا يدركون ذلك تمامًا.

(1) أبو زكريا محمد الأزدي، تاريخ الموصل تحقيق د. علي حبيبه – القاهرة، لجنة إحياء التراث الإسلامي 1387هـ

(2)

أبو زكريا محمد الأزدي، تاريخ الموصل تحقيق د. علي حبيبه – القاهرة، لجنة إحياء التراث الإسلامي، 1387هـ

(3)

مثل السيوطي في رسالته "قطع المجادلة عند تغيير المعاملة"(القرن العاشر) ، والخطيب التمرتاشي "بذل المجهول في مسألة تغير النقود (القرن العاشر) ، عبد القادر الحسيني "رسالة في تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني" (القرن الثاني عشر) ، ابن عابدين "تنبيه الرقود إلى أحكام النقود" (القرن الثالث عشر)

ص: 1123

ورب قائل: إن السبب في ذلك إنما يعود إلى أنهم لم يطوروا مقياسًا يمكن من خلاله التعرف على القوة الشرائية للنقود (CPI) ولو كانوا عرفوه، لما وسعهم إلا الفتوى بجواز تبينه والقول بملاءمته في حالات الغلاء والرخص.

والجواب عن هذا:

أ- أنهم لم يكونوا بحاجة إلى مثله لإدراك أن التضخم يجتاح البلاد، ذلك أن السلع والخدمات في زمنهم كانت قليلة محدودة ومستويات المعيشة متقاربة والحاجات الأساسية للناس معروفة: هي القمح والزيت واللحم والتمر وما إلى ذلك، فإذا ارتفع سعر حتى واحد منها لمس ذلك بشكل واضح لدى جميع الناس، وهي أدق في قياس المستوى العام للأسعار من المؤشر لأن الأخير يعتمد على عينات قليلة من مجموعة كبيرة جدًّا من السلع والخدمات ثم يعمم النتيجة على تكاليف المعيشة، وإنما احتاج الناس إلى المؤشر لما تعددت الحاجات وكثرت السلع وأنواعها وأشكالها حتى صارت تعد بآلاف، وظهرت الخدمات جزء مهم في النشاط الاقتصادي وتوسعت المناطق وكثر سكان البلاد، والأهم من هذا كله هو أن هذه المؤشرات إنما ظهرت عند ظهور نموذج الدولة الحديثة التي تتبنى سياسة نقدية تهدف إلى تحقيق استقرار في الأسعار، وثبات لصرف العملة، وتحتاج إلى طريقة لاتخاذ القرارات المتناسقة.

ب - إن مؤشر تكاليف المعيشة لا يصلح إن يكون مقياسًا للعدل أو الظلم أو أداء لحفظ الحقوق فهو لا يعول عليه، كيف وهو مقياس تقريبي جدًّا تؤثر عليه الأهوال وتتحكم فيه السياسة – وقد بسطنا جوانب أخرى من أسباب القول بعدم صلاحيته في الملحق رقم (1) .

4 -

الفروق الأساسية بين الربط بالذهب والربط بمؤشر تكاليف المعيشة:

سبق أن ذكرنا أن بعض الكتاب المعاصرين قد فهم –خطأً- كلام الفقهاء عن "الرد بالقيمة"(وهو كثير) أنه مرادف للقول بالربط بالمستوى العام للأسعار، وقد رأينا أن ذلك غير صحيح إذ إن القيمة عند الفقهاء هي الذهب والفضة، ونحن الآن نزيد في إيضاح أن الربط بالذهب مختلف في حقيقته وفي آثاره عن الربط بمؤشر تكاليف المعيشة، فالقول بجواز الربط بالذهب يختلف في مآلاته وفي حقيقته عن القول بجواز الربط بالمؤشر.

أ- منها، أن مؤشر تكاليف المعيشة هو مقياس تقريبي (جدًّا) يقيس بطريقة مبسطة ظاهرة بالغة التعقيد سريعة التغير عظيمة الخطورة، وهو لا يعتمد على عناصر موضوعية فقط بل تؤثر فيه الأهواء وتوجهه الأغراض السياسية وتصدره وتشرف عليه الجهة الوحيدة التي تستفيد دائمًا من التضخم وهي الحكومة، فلذلك نجد أن لها – أبدًا - مصلحة في زيادة (التضخم بإصدارها النقود بلا حدود) ثم إخفاء الآثار السيئة لهذه الفعلة المشينة بالتلاعب بمؤشر تكاليف المعيشة، ولذلك لا غرابة أن نجد أن هذا المؤشر في جميع الدول النامية تقريبًا لا قيمة له ولا يعول عليه ولا يستمد منه أية منفعة عملية، أما الربط بالذهب فهو يعيد النقود إلى أصلها الصحيح وهي الارتباط بالمعدن النفيس.

ص: 1124

ب- إن الربط بمؤشر تكاليف المعيشة سياسة ثبت فشلها عمليًّا في دول أميركا اللاتينية وهي لا تعالج التضخم بل تؤدي إلى تفاقمه وتسارعه كما ثبت من التجربة، ذلك لأن مستوى الأسعار إذا زاد ارتفع مؤشر تكاليف المعيشة، الأمر الذي يعني أن جميع القروض والديون والالتزامات المالية المؤجلة المربوطة ستزيد بنفس النسبة مما يزيد من تكاليف الإنتاج، الأمر الذي سينعكس على زيادة في معدلات الأسعار فيرتفع المؤشر مرة أخرى وهكذا يدور الاقتصاد في حلقة مفرغة، أما الربط بالذهب فلا يؤدي مثل ذلك لأن ارتفاع سعره ربما تبعه ارتفاع في القيمة النقدية للديون والالتزامات ومن ثم ارتفاع التكاليف مثل المؤشر ولكن ذلك لن يؤدي بحال إلى ارتفاع سعر الذهب مرة أخرى لأنه مستقل عن كل بلد.

ج- إن أكثر المطالبين بإيجاد صيغة "شرعية" للربط بمؤشر تكاليف المعيشة هي الحكومات الإسلامية التي تقترض من مواطنيها بإصدار السندات بالفائدة وتلاقي الضغوط الكثيرة من جهات متعددة في بلادها تنادي بالامتناع عن التعامل بالربا، وأنه لا سبيل إلى اجتثاث داء الربا من معاملات الأفراد إذا كانت الحكومة هي أكبر المتعاملين به، وهذه الحكومات لا ترى سبيلًا لتمويل عملياتها إلا بالاقتراض وتراكم الدين، والاقتراض في زمننا الحاضر غير متصور بدون اشتراط الزيادة للمقرض، فكان الربط القياسي المخرج الذي يريدون من خلاله الوصول إلى ما يريدون وما أيسر ذلك إذا كانت الحكومة التي تقترض بإصدار سندات مربوطة هي ذاتها التي تصدر النقود وتولد التضخم، وهي عينها التي تصدر الإحصاءات التي يحسب المؤشر بناء عليها، وما على تلك الحكومات إذن إلا أن تتأكد أن جميع ذلك يتجه دائمًا إلى الارتفاع المستمر.

ولكن لو قيل لهذه الحكومات: فلتربط تلك السندات بالذهب وليس المؤشر (ولا يعني هذا أني أنادي بذلك) لوجدت أن الأمر قد اختلف لأنها عندئذٍ سوف تضطر إلى إصلاح أمورها المالية وإلا فستجد نفسها في يوم من الأيام غير قادرة على الاقتراض، وسوف ترى أنه ليس من مصلحتها أن تتوسع بدون حدود في إصدار النقود الورقية والاستدانة من الجمهور بلاد حدود.

5 -

ليس صحيحًا أن "النقدية" قد زالت عن الذهب:

يعتقد كثير من الناس أن معدن الذهب ليس – الآن - أكثر من سلعة كسائر السلع ليس لها خصوصية، ومن ثم فإن ارتباط النقود بها ليس له مبرر إلا كمبرر ارتباطها بالبترول أو القمح أو أية سلعة من السلع المتداولة في الأسواق العالمية، وأن الزمن الذي كان الذهب فيه نقودًا قد مضى وانقضى، وأن التعلق بالذهب في هذا المجال ليس أكثر من شعور "عاطفي" لا مبرر له.

ص: 1125

وهذا غير صحيح (على إطلاقه) إذ لا يزال الذهب هو أصل النقود ومنه استمدت أكثر العملات رواجًا في العالم قيمتها (في الأصل) وإن انتهت صلتها المباشرة به في الوقت الحاضر.

واليوم، لا يزال للذهب مكانته الخاصة وطبيعته المتميزة التي يختلف فيها عن أي معدن آخر، وهو ينتسب إلى النقود والمالية أكثر من انتمائه إلى السلع الاستهلاكية والصناعية، خذ على سبيل المثال:

أ- استعمل الناس الذهب كوسيط للتبادل قبل أكثر من 3000 سنة.

وبقي بصورة أو بأخرى، هو عملة العالم حتى سنة 1971 عندما ألغت الولايات المتحدة قابلية تحويل الدولار إلى الذهب، لكن مع ذلك يبقى الذهب كأفضل مقياس للقيمة وإن كان مقياسًا غير مباشر في المعاملات المعاصرة.

وبقدر ما يتعلق الأمر بقياس القيمة فإننا في واقع الأمر لم نخرج عن نظام الذهب حتى اليوم فمن ذلك:

- أن سعر أوقية الذهب عندما خرجت الولايات المتحدة عن نظام الذهب سنة 1971 كان 35 دولارًا، واليوم تضاعف هذا السعر عشر مرات ليصبح 350 دولارًا تقريبًا، ولكن الملفت للنظر أن كثيرًا من المؤشرات النقدية قد تضاعفت أيضا عشر مرات، فمثلًا تضاعف الدين العام في الولايات المتحدة عشرة أضعاف، وزادت تكاليف الدين العام عشر مرات، وارتفعت أسعار الفائدة الحقيقية عشرة أضعاف

إلخ، كل ذلك دليل على أن الذهب لا يزال في الحقيقة هو "النقود بالخلقة".

- أقوى العملات في العالم اليوم هي تلك التي حافظت على علاقة مستقرة مع الذهب (1) فعلى الرغم من عدم وجود ربط رسمي فإن اليابان تحرص دائمًا على استقرار علاقة الين بالذهب، لذلك فقد تضاعفت قيمة الذهب بالين ثلاث مرات منذ سنة 1971، بل إن سياسة اليابان النقدية معتمدة على تحديد أهداف تتعلق بالمحافظة على علاقة مستقرة للين بالذهب (2) .

- لا يزال الذهب هو أفضل المؤشرات الدالة على اتجاه الأسعار في المستقبل، وبينما تمتلئ كتب الاقتصاد بالتحليلات الاقتصادية المعقدة عن علاقة مستوى الأسعار في المستقبل بالكمية النقدية إلا أن الواقع يدل على أن الذهب هو أفضل المؤشرات، ولقد نجحت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة في تحقيق الاستقرار في مستوى الأسعار بعد أن تبنى بنكها المركزي (نظام الاحتياط الفدرالي) الذهب كأساس لسياسته النقدية.

(1) Wall Street Jaurnal P.6/8 -15-94

(2)

Wall Street Jaurnal P.9/May 15-94

ص: 1126

ب- يعتقد كثير من الخبراء النقديين لاسيما بعض أعضاء مجلس المصرف المركزي الأمريكي (نظام الاحتياطي الفدرالي) أنه لا سبيل إلى إيجاد نظام نقدي دولي مستقر إلا بارتباط العملات الدولية الرئيسية بطريقة أو بأخرى بالذهب، وقد انضم حاكم المصرف المركزي الأمريكي مؤخرًا إلى مثل هذا الرأي.

كل ذلك دليل على أن الذهب لا يزال هو النقود الطبيعية.

ج- تمنع القوانين المصرفية في أكثر دول العالم البنوك من التجارة في السلع مثل القمح أو البترول أو الفوسفات أو النحاس أو الألمونيوم

إلخ إذ تحصر نشاطها في النقود بأنواعها، وتدخل هذه القوانين الذهب في معية النقود لا السلع ولذلك فهي تجيز للبنوك المتاجرة به والاستثمار فيه.

د- يتميز الذهب –بخلاف سائر المؤشرات وجميع السلع- باستقلاله عن القوى المؤثرة من دول وبنوك وشركات استثمار وأفراد، وسبب ذلك أن السلع الأخرى مثل البترول أو القمح وما شاكلها تهلك بالاستعمال، ولذلك فإن العرض الكلي لها هو العرض المعد للبيع لغرض الاستهلاك اليوم أما إنتاج الأمس فقد انتهى، لكن أمر الذهب مختلف، فهو لا يتعرض لمثل هذا.

لذلك فإن العرض الكلي للذهب اليوم هو جميع الذهب الموجود في كل أنحاء العالم منذ أن اكتشف الإنسان الذهب، ولا يستبعد الخبراء أن ذهب الفراعنة وذلك الذي استخرج في زمن حامورابي جميعها تتداول في أيدي الناس اليوم بعد أن تغيرت في أشكالها مرات كثيرة، ولما كان الذهب في تزايد من جهة الإنتاج وجدت أنه كلما مر الوقت أدى ذلك إلى زيادة "استقلال" الذهب عن سيطرة جهة بعينها.

هب أن دولة ما قررت تخفيض قيمة الذهب (مع أننا لا نتصور مصلحة أو قدرة لأية دولة في مثل هذا العمل) بزيادة المعروض منه، يجب على مثل تلك الدولة أن تنتج كميات كبيرة جدًّا تؤثر على المعروض الكلي منه وهذا أمر عسير على أية دولة لاسيما إذا علمت أن ذلك يعني أنها ستمنى بخسارة لأن إنتاجها من الذهب –إن كانت منتجة- سيكون ذا قيمة أقل بقدر ما تزيد من البيع وتنجح في خفض الأسعار، ولا نعرف دولة اليوم عندها مثل هذه القدرة، افترض أن دولة رغبت في رفع أسعار الذهب (ولا نتصور مصلحة لأية دولة في أن تقوم بمثل ذلك) . عليها عندئذٍ أن تشتري منه كميات كبيرة، وهي عندما تفعل ذلك ستدفع الثمن بعملتها الورقية مما يؤدي إلى تدهور قيمة الأخيرة وهو أمر لا ترغب في حصوله الدول. وغير متوقع أن دولة ما لديها من الذهب ما يؤدي إلى مثل ذلك. وحتى على افتراض حصول ذلك، فإن الدولة التي تفعل مثل هذا ستفعله مرة واحدة فلا تستطيع الاستمرار فيه بطريقة منتظمة كالنقد الورقي الذي لا يكلف إلا الحبر والورق.

ص: 1127

هـ- والإنتاج العالمي من الذهب لا يضيف إلى الكمية الكلية الموجودة منه أكثر من 2? سنويًّا، الأمر الذي يعني استقرار العرض الكلي منه ومن ثم استقرار النقود المعتمدة عليه، بخلاف النقود الورقية التي يمكن للحكومة والبنوك أن تولد منها كميات لا تكاد تكون محدودة.

6 -

الذهب أفضل الوسائل لاستقرار الأسعار:

قد حدث في الماضي كما ذكرنا أعلاه أن ارتفعت الأسعار وانخفضت حتى في ظل النظام الذهبي، لكن الثابت أن التقلبات في الأسعار في ظل الذهب إنما هي في المدى القصير فحسب، أما على المدى الطويل فإن الذهب هو أفضل وسيلة لتحقيق الاستقرار في الأسعار لأجيال بل لقرون، فمثلًا في الفترة التي اعتمدت فيها بريطانيا نظام قاعدة الذهب وهي من 1717م حتى 1934م كان المستوى العام للأسعار ثابتًا تقريبًا، وكذلك الحال في الولايات المتحدة فقد استقرت الأسعار بدون تغير يذكر منذ سنة 1791 م عندما تبنت الحكومة نظام الذهب حتى الحرب العالمية الثانية (1) .

7 -

المآلات الشرعية والاقتصادية للقول بجواز الربط بالمؤشر:

الأمور بمآلاتها، وما أدى إلى الحرام فهو حرام.. هذه جميعًا قواعد معروفة، ولذلك وجب علينا عند الاختلاف حول مسألة الربط أن نسترشد بمآلات إذا خفي علينا الدليل وعسر القياس، ومآل القول بجواز الربط هو أولًا: استباحة الفائدة الربوية بحيلة مشينة، بل إني أقول إنه لا معنى للقول بحرمة الفائدة إذا قلنا بجواز الربط القياسي، لأن تحريمها لا يعدو عندئذٍ أن يكون لغوًا، ذلك أن المحصلة واحدة والنتيجة واحدة بين القول بجواز الربط بمؤشر تكاليف المعيشة والقول بجواز الفوائد المصرفية للأسباب التالية:

- معلوم أن مؤشر تكاليف المعيشة هو في اتجاه مستمر إلى الارتفاع لا إلى الانخفاض (إلا في النادر جدًّا) ، هو ربما ارتفع قليلًا وربما زاد كثيرًا ولكن اتجاهه معروف، يترتب على القول بجواز الربط إذًا:

أولًا: أن رأس المال في جميع القروض والديون سوف يكون مضمونًا لأنه لا يتصور انخفاض الأسعار بطريقة تأتي على جزء منه.

ثانيًا: إن الزيادة حاصلة بشكل مؤكد (بسبب ما ذكرنا) وإن كانت غير معروفة بالنسبة عند التعاقد بين الأفراد لأنها لا تعلن إلا في نهاية العام، (ولكنها معروفة بصفة شبه مؤكدة عند الحكومة) .

فلا اختلاف بين الربط إذن وبين الفائدة المتغيرة، فالقول بجواز الربط مآله التعامل بالربا واستباحته بأدنى الحيل.

(1) انظر في تفصيل ذلك كتاب: The Golden Constant لمؤلفه الأستاذ في جامعة كاليفورنيا Roy Jastram صدر سنة 1978م

ص: 1128

-ومنها، أن الربط يؤدي إلى مزيد من الظلم وليس إلى استتباب أركان العدل في المجتمع، ذلك أن الربط إنما يحمي الدائنين على حساب المدينين الذين هم أبرياء من اقتراف "جريمة" التضخم، والدائنون هم الأثرياء الموسرون والمدينون هم في غالب الأحوال المستثمرون الذين ينفعون المجتمع بتوليد الثروة وإيجاد فرص العمل للناس، وهم الأفراد ذوو الدخول المتدنية الذين يشترون حاجاتهم الأساسية بالتقسيط والدفع الآجل، يؤدي الربط عندئذ إلى إعادة توزيع الدخل في المجتمع لصالح تلك الفئة الغنية فيضحى الحال كما حذرت منه الآية الكريمة {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] .

-والربا إنما حرم لما فيه من الظلم كما قال تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فهذا الربط لما ثبت فيه من الظلم آل إلى ما يؤول إليه الربا فاستحق ما أوجب الله عليه من حكم، فالظلم صفة مشتركة بين الربا والربط.

-ومنها، أن ربط ديون لحكومة بمؤشر تكاليف المعيشة يزيد من تكلفة الدين الحكومي، ذلك أن الفائدة التي تدفع على السندات الحكومية تقل (في كل دول العالم تقريبًا) عن معدل التضخم نظرًا إلى تدني مستوى المخاطرة في تلك السندات، فإذا ربطت هذه الأسناد بمؤشر تكاليف المعيشة زاد ما تدفعه الحكومة من ربا على هذه الديون، فمن أين ستأتي الحكومة بمثل تكل الزيادة؟ لا مصدر لذلك إلا:

أ- زيادة الضرائب على الناس، وهذا مؤداه اقتطاع مزيد من دخول الأفراد يحول إلى دائني الحكومة وهم الأثرياء وجلي ما في ذلك من الظلم أو:

ب- التوسع في الإصدار النقدي بطريقة تؤدي إلى تفاقم مشكلة التضخم وتدهور القوة الشرائية للنقود وواضح ما في ذلك من ظلم أو:

ج- توجيه ما كان من الممكن أن يستخدم في بناء المدارس والمستشفيات التي يستفيد منها جميع الناس، توجيهًا إلى دائني الحكومة من حملة الأسناد وهو ظلم لأولئك الذين لا يحملون سندات الدين، وهذا في الحالات التي يكون للحكومة موارد غير الضرائب.

ص: 1129

-ومنها، أن انتشار العمل بالربط في القطاع المصرفي يعني أن الودائع بكل أنواعها (حتى الحسابات الجارية) ستزيد بمقدار ارتفاع الأسعار، هذه الزيادة النقدية من أين ستأتي بها البنوك؟

أ- أما بالنسبة للبنوك التقليدية فهي ستضطر إلى رفع سعر الفائدة على القروض بأنواعها. وهذا يعني:

* بالنسبة للمستثمرين أن تكاليف الإنتاج ستزيد مما يدفعهم إلى زيادة الأسعار على جميع الناس.

* ويعني بالنسبة للمستهلكين أن فائدة القروض سترتفع فلا يستطيع الاقتراض من البنك إلا ذوو اليسار، كما أن أولئك الذين سيقترضون سيدفعون جزءًا أكبر من دخولهم لحماية المودعين المربوطة ودائعهم بالمبشر، (الذين ستتصل بهم تلك الزيادة) من آثار التضخم.

ب- وبالنسبة للبنوك الإسلامية. فإنها ستضطر إلى رفع هامش المرابحة الأمر الذي يعني أن عددًا أقل من الأفراد سيستفيد من هذه الخدمة، ومن استفاد منها فإنه سيدفع مبلغًا إضافيًّا لحماية المودعين في البنك وأصحابه من آثار التضخم، ثم كما أن ذلك سيدفع في البنوك الإسلامية إلى اختصاص نفسها بنصيب أكبر من الربح في المشاركات والمضاربات، الأمر الذي يجعلها غير مجدية لكثير من رجال الأعمال وسيرجح عندهم في الميزان صيغة الديون والتمويل بالقرض والمرابحة على أنواع المشاركات وجلي ما في ذلك من المفاسد على الاقتصاد الإسلامي.

8 -

سوابق المسلمين في الربط بالذهب:

فكرة الربط بالذهب ليست مما تعارف عليه الناس في البلاد الغربية، بل هي لا تكاد توجد، والذي ينتشر عندهم هو الربط بمؤشر تكاليف المعيشة.

أما المسلمون فالأمر عندهم يختلف، فرغم أن مسألة الربط لا تزال من الأمور التي هي محل نظر عند الفقهاء المعاصرين، إلا أن المسلمين قد عرفوا قديمًا وفي العصر الحديث نماذج للربط يعملون بها ويمارسونها وقد أجمع الفقهاء على قبولها وتبنيها، منها:

أ- ربط نصاب زكاة النقود بالذهب: معلوم أن كثيرًا من أحكام الإسلام فيما يتعلق بالمال مثل الزكاة والدية والربا والصرف..إلخ جاءت مفصلة بالدرهم والدينار، فلما انتشر العمل بالنقود الورقية أخذت هذه النقود أحكام الدرهم والدينار من حيث ربا الفضل وأحكام الصرف..إلخ، أما الزكاة: نصاب زكاة النقود فقد بقي محسوبًا بما يقابل النصاب من الذهب من العملة الورقية – وهو نوع من الربط.

ص: 1130

ب- نصاب القطع في السرقة: يشترط لإقامة حد السرقة أن يكون المال المسروق متقومًا وأن يكون محرزًا وأن يبلغ النصاب، وقد ذهب الحنفية إلى أن النصاب الذي يجب القطع بسرقته هو عشرة دراهم مضروبة لقوله صلى الله عليه وسلم:((لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم)) (1) وعند المالكية والحنابلة أن النصاب ربع دينار أو ثلاثة دراهم خالصة من الغش لما روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم)) .

وعند الشافعية أن النصاب ربع دينار من الذهب، لأن الأصل عندهم تقويم الأشياء بالذهب لما أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها:((لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا)) .

وفي البلاد التي لا تزال تقيم الحدود ومنها قطع يد السارق، فإنها تعتمد النصاب الذهب أو الفضة بحسب الرأي الفقهي السائد، ثم تنظر إلى ما يقابل ذلك من النقود الورقية المعاصرة لتحديد نصاب القطع، وهذا نوع من الربط بالذهب.

ج- تحديد مقدار الدية: الدية هي المال الذي يدفع في الجناية على النفس أو ما دونها كما قال تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وما ثبت في السنة عنه صلى الله عليه وسلم ((

وأن في النفس الدية مائة من الإبل)) وقوله صلى الله عليه وسلم ((

وعلى أهل الذهب ألف دينار)) (2) .

واختلف الفقهاء في مقدار الذهب والفضة، ولكنهم اتفقوا جميعًا على أن الدية في الذكر الحر المسلم هي مائة من الإبل، فإذا لم توجد كانت الدية ما تساويه من الدينار أو الدرهم أو النقود التي يتعامل بها الناس.

وهذا أيضًا نوع من الربط القياسي.

رأي الكاتب في مسألة كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلائها ورخصها:

بعد كل ما ذكر فإننا رأينا في هذا الموضوع:

أ- أن كلام الفقهاء حول كساد النقود وانقطاعها وغلائها ورخصها لا ينطبق على النظام النقدي المعتمد على النقود الورقية غير المرتبطة بالذهب.

ب- أن تدهور القوة الشرائية للنقود يؤدي إلى تظالم الناس وإلى بخس المدين لمال الدائن.

ج- أن الحل الجذري هو إصلاح الأنظمة النقدية في بلاد المسلمين.

د- ولكن حتى يتحقق ذلك – وهو بعيد - فإن حفظ الحقوق في حالات غلاء النقد يجب أن يكون بالربط بالذهب.

هـ- وأن علينا أن نسعى إلى تصميم الوسائل والأدوات المقبولة من الناحية الشرعية لتحقيق هذا الغرض.

الدكتور محمد علي القري بن عيد

(1) أخرجه عبد الرزاق

(2)

أخرجه النسائي

ص: 1131