الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سد الذرائع
إعداد
الدكتور أحمد محمد المقري
مدير المجمع الفقهي الإسلامي
برابطة العالم الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على سيدنا محمد
الأمين القائل: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم وسار على منهجهم إلى يوم الدين.
وبعد: فإن الفقه الإسلامي بأصوله وقواعده وفروعه من العلوم الجليلة التي كانت ولا تزال ذخرا ثمينا ومصدرا عظيما ثرًا يرجع إليه العلماء على اختلاف تخصصاتهم فضلا عن الفقهاء أصحاب الشأن فيه ولقد ظل هذا الفن المستنبط من المصادر الرئيسية للتشريع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس معينا يستقي منه الباحثون من طلبة العلم والمعرفة ويجدون بغيتهم فيه طوال القرون الماضية وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولا يخفى أن هذه الأصول الأربعة متفق عليها بين الأئمة الأعلام غير أنهم اختلفوا في بعض الأصول التابعة كقول الصحابي وإجماع أهل المدينة والمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان فمنهم من أخذ بالاستحسان وتوسع فيه وهم الأحناف ومنهم من أخذ بالمصالح المرسلة وسد الذرائع وتوسع فيهما وهم المالكية ومنهم من أخذ من ذلك بحذر وهم الحنابلة ومنهم من أعرض عن الجميع وهم الشافعية عدا قول الصحابي إذا لم يعرف له مخالف.
ولما كان التشريع الإسلامي جاء لتحقيق مقاصد الشريعة الخاصة والعامة وكان الهدف هو رعاية المصالح التي قصدها الشارع ودرء المفاسد التي نهى عنها الشارع كان على الفقيه تلمس المصلحة حيث كانت ثم بيان الأصل المعتمد الذي تتحقق المصلحة بمقتضاه.
ولذا فقد رأى الإمام مالك رحمه الله أن سد الذرائع أصل يعتمد عليه في تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
وعليه فمبدأ سد الذرائع عند المالكية أصبح أصلا يعول عليه في كثير من المسائل لتحقيق المصالح الخاصة أو العامة وتوسعوا في ذلك توسعا كبيرا كما أن الحنابلة أخذوا من هذا الأصل بطرف ولم يوغلوا فيه وخالفهم الشافعية والحنفية فأنكروا عليهم القول بسد الذرائع ولكنهم قالوا بتحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات لأنها مستلزمة للمتوسل إليه وتحريم الوسائل بهذا المعنى قائم على أساس يقرب من اليقين بينما القول بسد الذرائع قائم في أغلب صوره على الظن والتوهم والتخمين.
مثاله: حفر بئر في طريق المسلمين أو إلقاء السم في الأطعمة وسب أصنام المشركين كل هذه وسائل متيقن استلزامها للمتوسل إليه وهو وقوع المارة في البئر وهلاك من أكل من الطعام المسموم وسب المشركين للذات العلية وهذه كلها محرمة بالإجماع.
وحينما طلب مني الكتابة في أحد الموضوعات التي طرحتها الأمانة العامة للمجمع الفقهي الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة اخترت موضوع (سد الذرائع) وكنت أعلم أن المالكية لهم اليد الطولى في تحرير هذا الأصل وتطبيقه على الكثير من المسائل الفقهية كما كنت أعلم أيضا أن الشافعية والحنفية لا يقولون به لذلك أردت الإسهام بهذا البحث المختصر جدا لبيان أوجه الخلاف بين الأئمة حول هذا الموضوع مع بيان الأدلة التي اعتمد عليها القائلون به والمانعون منه.
أرجو الله تعالى التوفيق والسداد وهو حسبي ونعم الوكيل.
سد الذرائع:
التعريف: الذرائع جمع ذريعة، والذريعة لغة: هي كل ما يتخذ وسيلة ويكون طريقا إلى شيء غيره. وسدها معناه: رفعها وحسم مادتها.
وفي الاصطلاح الشرعي: كل ما يتخذ وسيلة لشيء آخر، بصرف النظر عن كون الوسيلة أو المتوسل إليه مقيدا بوصف الجواز أو المنع.
وعرفها القاضي عبد الوهاب بقوله (الذرائع هي الأمر الذي ظاهره الجواز إذا قويت التهمة في التطرق إلى الممنوع)(1) .
وقال الباجي: (الذرائع هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوسل بها إلى فعل محظور)(2) .
وقال في كتاب الحدود: (الذرائع ما يتوصل به إلى محظور العقود من إبرام عقد أو حله)(3) .
وقال ابن رشد الجد في المقدمات: (الذرائع هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور)(4) .
وقال القرطبي: (الذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع)(5) .
وقال ابن تيمية: (الذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكنها صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم)(6) . وقال الشاطبي: (حقيقة الذرائع: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة)(7) .
وهي بهذا المعنى تشمل المتفق عليه والمختلف فيه ويتصور فيها الفتح كما يتصور فيها السد؛ لأن موارد الأحكام قسمان:
1-
مقاصد، وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
2-
وسائل: وهي الطرق المفضية إلى المقاصد.
وحكم الوسائل كحكم ما أفضت إليه من المقاصد، فوسيلة الواجب واجبة ووسيلة المحرم محرمة.
(1) الاشراف في مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 1/275
(2)
كتاب الإشارات في الأصول المالكية، المطبوع بهامش حاشية السوسي على الورقات ص 113
(3)
كتاب الحدود العدد الأول من صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية المجلد 2/29
(4)
المقدمات 2/198
(5)
الجامع لأحكام القرآن عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَاعِنَا} 2/57
(6)
الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية جـ 3 /139
(7)
الموافقات للإمام الشاطبي جـ 4 /198
في سد الذرائع وفتحها:
قال الإمام القرافي رحمه الله: واعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، ويكره، ويندب. ويباح: فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج. غير أن الوسائل أخفض مرتبة من المقاصد، وهي أيضا تختلف مراتبها باختلاف مراتب المقاصد التي تؤدي إليها.
فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة (1)
. والوسيلة إما أن تكون:
1-
توسلا بالخير إلى الخير كالنكاح المتخذ وسيلة للإنجاب، والصدق وسيلة للنجاة.
2-
توسلا بالشر إلى الشر كشرب الخمر المتخذ وسيلة لارتكاب جريمة وكإلقاء النار في موضع سريع الاشتعال.
3-
توصلا بالخير إلى الشر كالتوسل بالبيع إلى الربا، وبزراعة العنب إلى صنع الخمر.
4-
توصلا بالشر إلى الخير كسرقة المال واغتصابه لعمل خيري من مستشفى أو مدرسة.
فيدخل في معنى الذريعة ما يلي:
1-
الانتقال من الجائز إلى مثله.
2-
الانتقال من المحظور إلى مثله.
3-
الانتقال من الجائز إلى المحظور.
4-
الانتقال من المحظور إلى الجائز.
ويتصور فيها الفتح والسد. فيقال فتح الذرائع، ومعناه: إجازة الوسائل المؤدية إلى خير وبر ويقال سد الذرائع. ومعناه: منع الوسائل المؤدية إلى كل شر وفساد ومنكر. والقرافي والشاطبي رحمهما الله يقرران هذا المعنى في سد الذرائع وفتحها بإعطاء الوسيلة حكم المقصد.
ويقول ابن القيم رحمه الله: (لما كانت المقاصد، لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها، معتبرة بها، فوسائل المعاصي والمحرمات في كراهتها، والمنع منها، بحسب إفضائها إلى غايتها، وارتباطاتها بها.
ووسائل الطاعات والقربات في محبتها، والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها. فوسائل المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل.
فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها، ويمنع منها، تحقيقا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم، وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى تأبى ذلك كل الإباء) (2) .
(1) انظر شرح تنقيح الفصول للقرافي: 449؛ سد الذرائع: 40
(2)
إعلام الموقعين جـ 3/147
معنى سد الذرائع:
معنى سد الذرائع: سد الطرق والوسائل حتى لا تؤدي إلى آثارها المقصودة سواء أكانت محمودة، أم مذمومة، صالحة أم فاسدة، ضارة أم نافعة.
ومعنى فتح الذرائع: فتح الطرق والوسائل لتؤدي إلى آثارها المقصودة منها من غير تقييد، بكون هذه الآثار محمودة أم مذمومة صالحة أم فاسدة ضارة أم نافعة هذا كله بالمعنى العام للذريعة.
أما المعنى الخاص للذريعة فهو (عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه قويت التهمة في أدائه إلى فعل محظور) .
الشرح:
فكونه (غير ممنوع) يعني أن الوسيلة داخلة ضمن إرادة المكلف لتوصف بالمنع أو الحظر. أما ما يخرج عن قدرة المكلف فإنه يستحيل سده.
وقوله (لنفسه) يفيد ضرورة كونه في أصل وضعه جائزًا متضمنا لمصلحة المكلف فيخرج بذلك ما يكون مفسدة فلا يكون ذريعة.
وشرط (قوة التهمة) لإخراج ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة نادرًا لا يغلب على الظن وقوعه. والتقييد (بالفعل في المتوسل إليه) لإخراج الذرائع التي تلزم عنها مفاسد لا سلطان للمكلف على حصولها أو عدم حصولها.
وكون (المتوسل إليه محظوراً) شرط ضروري لإعطاء الذريعة في الاصطلاح الخاص معناها الحقيقي وبذلك تخرج الذرائع التي توصل إلى أمر جائز أو مطلوب.
ومعنى سد الذرائع هنا يعني: حسم وسائل الفساد، ومعنى فتحها يعني: ترك الوسيلة لتؤدي إلى نتيجتها من غير منع.
الفرق بين الذريعة والمقدمة وبين الذريعة والوسيلة، والحيلة:
1-
بين الذريعة والمقدمة:
عرفنا فيما مضى تعريف الذريعة في الاصطلاح، أما المقدمة فهي ما يتوقف عليها وجود الواجب مثل الوضوء فإنه يتوقف عليه وجود الصلاة، ويلزم من عدمه عدمها، ولا يلزم من وجوده وجودها ولا عدمها.
إذا الفرق بين المقدمة وبين الذريعة أن المقدمة الظاهر فيما جانب العدم، بمعنى أنه يلزم من عدم وجودها عدم وجود الواجب ولا يلزم من وجودها وجوده.
أما الذريعة: فالظاهر فيها جانب الوجود، بمعنى أنه إذا وجدت وجد المقصود قطعا أو احتمالًا. وبالمثال يتضح المقال: ضرب المرأة برجلها ذات الخلاخيل ذريعة للافتتان بها لأن من شأن الضرب بالأرجل أن يجر إلى ذلك، ولا يكون الضرب بالأرجل مقدمة لأن الافتتان لا يتوقف عليه.
والسفر لارتكاب معصية معينة لا تتم إلا به مقدمة لأن المعصية تتوقف على حصوله في هذه الصورة، فيكون السفر حراما كحرمة المعصية. لأن مقدمة الحرام حرام (1)
(1) انظر سد الذرائع ص 84 بتصرف يسير
2-
بين الحيلة وبين سد الذرائع:
الحيلة، والاحتيال، والتحيل: الحذق أو جودة النظر، والقدرة على دقة التصرف. ومن معانيها في اللغة والعرف: المكر، والخديعة، والكيد فتطلق على الفعل الذي يقصد به فاعله إنزال مكروه بغيره. وقد يقصد بها الوجه المحمود ومنه ما وصف الله تعالى بها نفسه بقوله:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50] وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] .
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15-16] فإنه سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص، ومنه استدراج الغير لما فيه مصلحة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:(الحرب خدعة)(1) . والحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب، وترك المحرم، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم، وعقوبة المعتدي (2) .
وتحته أيضا التوصل إلى استحلال الحرام وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات، وقد غلب استعمال الحيلة في عرف الفقهاء على الممنوع المذموم منها.
وقد أطلق الفقهاء أيضا الحيلة على ما يخرج من المضايق بوجه شرعي ليكون مخلصا شرعيًا. وفرق العلماء بين نوعين من الحيل: النوع الأول:
ما يهدم أصلا من الأصول التي اعتبرها الشارع، أو يناقض مصلحة من المصالح التي راعاها الشرع سواء كانت الوسيلة إلى ذلك مشروعة أم غير مشروعة فهذا النوع حرام وممنوع.. لأن الأحكام الشرعية إنما أقيمت لمصالح معينة اعتبرها الشارع الحكيم. ولأن الأعمال وإن أخذت صورتها المشروعة ظاهرا وسائل لا تقصد لأنفسها بل للمعاني المقصودة منها وهي المصالح التي شرعت لأجلها.
فلو أجيز لفتح أمام كثير من الناس الانطلاق من قيود الشريعة والتحلل من التكاليف ولنضرب مثلا لذلك الزكاة التي شرعها الله لمصالح دينية وخلقية واجتماعية:
امتثالا لأمر الله تعالى، ورفعا لرذيلة الشح، ورفقا بالفقراء والمحتاجين، وتعاونا على البر والتقوى. فمن أخرج أمواله عن ملكه قبل انتهاء الحول بهبة صورية ليسترجعها بعد مرور الحول اسقاطا للحق المفروض عليه للفقراء في هذا المال وهربا من وجوب الزكاة فقد ارتكب إثما كبيرا وظلما عظيما ومكن لرذيلة الشح من نفسه، وأوغر صدور الفقراء ضده. وكخلع الحيلة: وهو أن يعلق الطلاق بشرط محقق تعليقا يقع به، ثم أراد منع وقوع الطلاق عند تحقق الشرط فخالعها حتى بانت ثم تزوجها بعد ذلك.
(1) كتاب الجهاد من صحيح البخاري
(2)
انظر إعلام الموقعين
النوع الثاني:
هو ما لا يهدم أصلا شرعيًا، ولا يناقض مصلحة، شهد الشرع لاعتبارها وضابطه أن يقصد به إحياء حق أو دفع ظلم، أو فعل واجب أو ترك محرم.
ونحو ذلك مما يحقق مقصود الشارع، ويسميه البعض بالمخارج فهذا النوع جائز متى كان الطريق إليه سائغا مأذونا فيه شرعًا.
فمن الحيل إحراز النفس مثلًا:
- النطق بكلمة الكفر إكراها بقصد إحراز الدم من غير اعتقاد لمقتضاها قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] . - ومن التخلص من الظلم ما فعله الرجل الذي كان يتعرض لأذية جاره وظلمه فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرح متاعه في الطريق، فجعل كل من يمر به يسأله من شأن المتاع فيخبره بأن جاره يؤذيه، فيسبه المارة ويلعنونه فكف الجار عن الأذية وجاء إلى جاره معتذرا متعهدا أن لا يؤذيه أبدا (1) .
ومن الحيل الجائزة ستر ما لا يحسن إظهاره مثل ما جاء في حديث ((إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف))
والاحتيال في هذا الباب ثلاثة أنواع:
الأول: لرفع الظلم قبل أن يقع.
الثاني: لرفع الظلم بعد وقوعه.
الثالث: لمقابلة السيئة بالسيئة وفيه تفصيل.
إما أن يكون لحق الله فلا يجوز المقابلة بالمثل كمن جرع شخصا خمرًا، أو زنى بامرأته فإنه لا يجوز المقابلة بالمثل، بل يؤخذ للمظلوم حقه عن طريق ولي الأمر وإن كان الظلم في المال. فمن العلماء من أجاز أخذ المال (2) وبالمقابل وجوزوا قلع الباب ونقب الحائط ونحو ذلك ومنهم من منع بالكلية، وتوسط آخرون.
(1) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة وقد أوردته هنا بمعناه ورواه الإمام أحمد في مسنده
(2)
إعلام الموقعين جـ 4 /26-27 بتصرف يسير
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله في الحيل:
إن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيه خرم قواعد الشريعة في الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول (1) فرارا من الزكاة، فإن أصل الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعًا. فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية (2) وقال الشيخ عبد الله دراز في تعليقه على الموافقات: جعل المفسدة في الحيل خرم قواعد الشريعة خاصة كإبطال الزكاة وهدمها بالكلية ولا يخفى أن هذا ممنوع، والهبة ذريعة إليه فتكون الحيلة أخص من الذريعة (3) . وبهذا يظهر أن التحيل على الإحكام الشرعية باطل على الجملة نظرا إلى المآل، والخلاف في ذلك إنما وقع في تحقيق المناط.
(1) المراد به قبل نهاية الحول
(2)
انظر تعليق دراز على الموافقات جـ 4/201
(3)
انظر تعليقه جـ 4/201
الفرق بين سد الذرائع وتحريم الوسائل:
سد الذرائع هو منع الجائز الذي يؤدي إلى فعل محظور ومفاد التحريم والذريعة هي الوسيلة إلى الشيء فسد الذرائع بناء على هذا المعنى يعني تحريم الوسائل وإذا لا فرق بين الاصطلاحين وهذا عند المالكية لأنهم يسوون بين الذرائع والوسائل وبين سد الذرائع وتحريم الوسائل في المعنى.
وفرق الشافعية بينهما لأنهم اعتبروا القسم الأول من سد الذرائع المجمع على منعه وسائل ينطبق عليها قيد استلزام الوسيلة للمتوسل إليه بناء على قطعية الإفضاء فهو من الوسائل المحرمة وتفريقهم هذا كي لا تلزمهم الحجة بأن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع بدليل الأمثلة التالية:
حرمة حفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في أطعمتهم أو سب أصنام المشركين فهذه لصور وأمثالها وسائل عندهم فالمنع منها تحريم للوسائل لا سدا للذرائع لأنها مستلزمة للمتوسل إليه (1) .
فالفرق إذا بين سد الذرائع وتحريم الوسائل لا يستقيم إلا مع إخراج ما يستلزم المتوسل إليه ويفضي إليه بصورة قطعية عن مسمى الذرائع وهو أسلوب المانعين من الأخذ بأصل سد الذرائع لرده، وبغير هذا الإخراج لا يظهر إلا في الاستعمال اللفظي، وهو اصطلاح الآخرين (2) .
إذا فالقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم أي المتوسل إليه قائم على أساس يقرب من اليقين بينما القول بسد الذرائع قائم في أغلب صوره على الظن والتوهم والتخمين وشتان ما بينهما (3) .
(1) سد الذرائع ص96 بتصرف
(2)
سد الذرائع ص96 بتصرف
(3)
انظر الاختلاف في الأدلة ص579 بتصرف يسير
أقسام الذرائع:
تنقسم الذرائع بالمعنى العام إلى قسمين:
القسم الأول: الذرائع التي تفضي إلى المصلحة وهي على نوعين:
أ- أن تكون الذريعة والوسيلة مصلحة بحد ذاتها: وعندها تكون مطلوبة أو مباحة حسب قوة وحال ما تؤدي إليه. فإن كان مباحا فمباحة كالكسب الحلال المؤدي إلى التمتع بالطيبات، وإن كان مندوبا فمندوبة كالكسب الحلال لدفع غائلة الجوع، وإن كان واجبا فواجبة كالوضوء بالنسبة للصلاة.
ب- أن تكون الذريعة المفضية إلى المصلحة مفسدة في حد ذاتها: كالسرقة من أجل الإنفاق على العيال، ففي هذه الحالة تكون الوسيلة ممنوعة وإن كانت تؤدي إلى مصلحة لأن الغاية لا تبرر الوسيلة في الإسلام إلا إذا رافقتها ضرورة ملجئة فتباح بقدر الضرورة عملا بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها.
وهذا موضع اتفاق لدى العلماء وهو الذي تؤيده الأدلة الشرعية الإجمالية والتفصيلية وتشهد له نصوص الكتاب والسنة ويؤيده العقل وعليه إجماع المسلمين.
القسم الثاني: الذرائع المفضية إلى المفاسد وهذا القسم أيضا على نوعين:
أ- أن تكون الذريعة مفسدة في حد ذاتها وتفضي إلى المفسدة بطبعها كالسعي بالفساد بين الناس المؤدي إلى الفتنة وإيقاد نار الضغائن في النفوس، وترك السلام المؤدي إلى القطيعة غالبًا، والزنا المفضي إلى اختلاط الأنساب وضياع النسل وشرب المسكر المفضي إلى غياب العقل والإضرار بالجسم، ولا خلاف في أن هذا النوع محظور على وجه الكراهة أو الحرمة بحسب مقدار المفسدة فيه.
ب- أن تكون الذريعة المؤدية إلى المفسدة مصلحة في حد ذاتها ومشروعة، وهذا النوع من الذرائع على مراتب حسب نسبة المفسدة التي تفضي إليها واعتبار قصد الفاعل للمفسدة وعدمه وبالتالي يختلف النظر الفقهي إليها سدا وفتحًا، وقد ذكر العلماء مراتب هذا النوع من الذرائع وأقسامه، كما ذكروا حكم كل مرتبة منها ولقد فصل ابن القيم رحمه الله هذه الأقسام وبين حكمها فقال:
الفعل والقول المفضي إلى مفسدة قسمان:
أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفسد الفراش ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها.
والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه.
فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل أو يعقد البيع قاصدا الربا أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك.
والثاني: كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله ونحو ذلك.
ثم هذا القسم من الذرائع نوعان:
أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.
والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته، فهنا أربعة أقسام:
الأول: وسيلة موضوعة إلى المفسدة.
الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة.
الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
ثم ذكر رحمه الله أن الشريعة جاءت بإباحة القسم الرابع ومثل له بما يلي:
1-
النظر إلى المخطوبة.
2-
فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي.
3-
كلمة الحق عند ذي سلطان جائر.
وقال: فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المفسدة بقي النظر في القسمين الوسط هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ وجزم بالمنع من عدة وجوه بلغت تسعة وتسعين وجها ونذكر في هذا المبحث مختارات منها:
1-
قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وكانت المصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، قال: وهذا كالتنبيه أو التصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
2-
قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 36] فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
3-
نهى الله تعالى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.
4-
ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) . فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده.
5-
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه وقولهم إن محمدا يقتل أصحابه.
6-
أن الله تعالى أمر بغض البصر سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.
7-
أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المقرض من قبول الهدية وكذلك أصحابه حتى يحسبها من دينه لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا.
8-
النهي أن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفار ولهذا لا تقام الحدود في الغزو.
9-
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يشهد على اللقطة، وقد علم أنه أمين وما ذاك إلا سدا لذريعة الطمع والكتمان، فإذا بادر وأشهد كان أحسم لمادة الطمع والكتمان، قال: وهذا أيضا من ألطف أنواعها.
وبهذه الأمثلة نكتفي للتدليل على منع الإتيان بفعل يكون وسيلة إلى حرام وإن كان جائزا وتشمل القسمين الثاني والثالث من التقسيمات التي ذكرناها عن ابن القيم رحمه الله (1)
أما الإمام الشاطبي في الموافقات فقد قسم جلب المصلحة أو دفع المفسدة إلى ثمانية أقسام فقال: "جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين:
أحدهما: أن لا يلزم عنه أضرار الغير.
والثاني: أن يلزم عنه ذلك، وهذا الثاني ضربان:
أحدهما: أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير.
الثاني: أن لا يقصد إضرارا بأحد، وهو قسمان:
أحدهما: أن يكون الإضرار عاما كتلقي السلع وبيع الحاضر للبادي، والامتناع عن بيع داره أو فدانه وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره.
والثاني: أن يكون خاصا وهو نوعان:
أحدهما: أن يلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر، فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه ظلمة يعلم أنها تقع بغيره، أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره عالما أنه إذا استحازه استضره غيره بعدمه، ولو أخذ من يده استضر هو.
الثاني: أن لا يلحقه بذلك ضرر وهو على ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يكون إلى المفسدة قطعيًا، أعني القطع العادي، كحفر البئر خلف الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه لا بد وشبه ذلك.
والثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموقع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه وأكل الأغذية التي غالبها لا تضر أحدا وما أشبه ذلك.
والثالث: ما يكون غالبا كبيع السلاح من أهل الحرب، والعنب من الخمار، وما يغش به ممن شأنه الغش ونحو ذلك.
(1) انظر إعلام الموقعين ج3/176-177-178.
والثاني: أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال فهذه ثمانية أقسام (1) .
ثم أسهب رحمه الله في بيان هذه الأقسام من حيث الإذن ببقائها وعدمه، وقد أوجزها صاحب كتاب سد الذرائع حفظه الله فقال وحاصلها:
1-
تصرف مأذون فيه، لا يلزم عنه إضرار بالغير.
2-
تصرف مأذون فيه، يلزم عنه إضرار بالغير بقصد.
3-
تصرف مأذون فيه، يلزم عنه إضرار عام بغير قصد.
4-
تصرف مأذون فيه، يلزم عنه إضرار خاص، بغير قصد يلحق صاحبه بمنعه من ضرر.
5-
تصرف مأذون فيه، يلزم عنه بغير قصد إضرار خاص مقطوع، لا يلحق صاحبه بمنعه منه ضرر.
6-
تصرف مأذون فيه، يلزم عنه بغير قصد إضرار خاص نادر، لا يلحق صاحبه بمنعه فيه ضرر.
7-
تصرف مأذون فيه، يلزم عنه بغير قصد إضرار خاص كثير غالبًا، لا يلحق صاحبه بمنعه ضرر.
8-
تصرف مأذون فيه، يلزم عنه بغير قصد إضرار خاص كثير لا غالب، لا يلحق صاحبه بمنعه منه ضرر.
وحيث عرفنا أن الذريعة هي الوسيلة إلى الغاية لذا فإن الأصل في اعتبار سدها هو النظر في مآلات الأفعال وما تنتهي في جملتها إليه، وحكمها أن الوسيلة إلى المحرم محرمة ويجب سدها وأن الوسيلة إلى الواجب واجبة ويجب فتحها. فالذريعة مطلوبة إذا حققت مصلحة مشروعة وهي مرفوضة إذا حققت مفسدة والمعتبر في ذلك نتيجة العمل وثمرته لا قصد من أخذ بالذريعة ونيته، فإن سب المؤمن للأصنام التي تعبد من دون الله تعبير عن نية صالحة ومع ذلك نهى الله عنه اعتبارا لما يترتب عليه فكان الملاحظ فيه هو النتيجة الواقعة لا النية الدينية المحتسبة وقد يقصد الشخص الشر بفعل مباح فيكون آثما فيما بينه وبين الله، ولكن ليس لأحد عليه سبيل ولا يحكم على تصرفه بالبطلان الشرعي كمن يرخص في سلعته ليضر بذلك تاجرا منافسًا. فمبدأ سد الذرائع ينظر إلى النية مع النفع العام ودفع الفساد العام والنية معتبرة في موازين الله عز وعلا، والنتائج في واقع الحياة معتبرة في موازين المصالح الدنيوية.
وقد تجد من التصرفات ما يحقق منفعة فردية على حساب منفعة فرد آخر دون أن يكون في الموقف نفع عام ولا فساد عام، فإن أمكن تحقيق المنفعة بأسلوب لا يضر الغير، فلا إشكال في منعه من إيقاع الضرر بالغير؛ لأن قصد الإضرار واضح كمن بنى جدارا يسد به الشمس والنور والهواء عن جاره دون أن تلجئه إلى ذلك حاجة ملحة أما إن اضطر إلى تحقيق منفعة بدون قصد الإضرار فلا بأس (2) .
(1) انظر سد الذرائع ص185
(2)
من بحث لفضيلة الشيخ صلاح أبو إسماعيل بتصرف يسير انظر بحوث المؤتمر الرابع للفقه المالكي 699
حجية سد الذرائع:
عرفنا أن الذرائع أصل في الفقه الإسلامي أخذ به أكثر الفقهاء من حيث المبدأ واختلفوا في مقداره، ولم يختلفوا في كونه أصلا ثابتًا. ومن الأمثلة المجمع عليها في سد الذرائع ما جاء من نهي عن سب الأصنام خشية أن تتخذ ذريعة لسب الله تعالى، قال الله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] نهوا عن ذلك حتى لا يكون ذريعة لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل يهود ومن المسائل التي يحكم فيها بالإباحة وهي محرمة أصلا من باب الذرائع.
1-
دفع مال فداء للأسرى من المسلمين فإن الأصل في ذلك حرام لما فيه من تقوية للعدو المحارب وما فيه من ضرر بالمسلمين، لكنه أجيز لأنه يتحقق من ورائه حرية طائفة من المسلمين وتقوية المسلمين بإطلاق سراحهم، وهذا من باب الأخذ بفتح الذرائع لا بسدها.
2-
دفع مال من المسلمين لدولة محاربة لدفع أذاها إذا لم يكن للمسلمين قوة يستطيعون بها حماية أنفسهم.
3-
دفع الرشوة لدفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بها على تفصيل لدى الفقهاء وينظر في مظانه.
4-
أعطاء المال لمن يقطعون الطريق على الحجاج أو التجار والمسافرين ونحوهم فقد أجاز ذلك بعض المالكية وبعض الحنابلة (1) .
ويدعي بعض الفقهاء أن مبدأ سد الذرائع مما اختص به مالك وتابعه أحمد رحمهما الله.
غير أن القرافي رحمه الله يقول: "أجمع الفقهاء على أن الذرائع ثلاثة أقسام:
أحدها: معتبر إجماعا كسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى.
ثانيها: لا عبرة به إجماعا كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر.
وثالثها: مختلف فيه كبيوع الآجال نحن اعتبرنا الذريعة فيها وخالفنا غيرنا.
فحاصل القضية أننا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا لأنها خاصة بنا (2) .
مثال: من باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر ثم اشتراها بخمسة قبل شهر، فمالك يقول إنه أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل وراء ستار من البيع الصوري، والشافعي ينظر إلى صورة البيع فيجيزها ويحمل الأمر على ظاهره؛ لأن الربا وإن يكن حراما فإن صورة هذا البيع لم تتعين وسيلة للربا وذريعة إليه لا بطريق العلم ولا بطريق الظن وإن كثر ترتب الغاية المحرمة على تلك الصورة من صور البيع.
فمالك يعتبر الكثرة ركيزة التحريم، والشافعي يعتبر أن الأصل في التصرف هو الإذن ولا يلغى هذا الأصل إلا بدليل يوجب العلم أو غلبة الظن على الأقل، ولا يكفي الحدس لإلغاء الأصل في البيع (3) .
(1) انظر أصول الفقه للمرحوم الشيخ محمد أبو زهرة ص 288
(2)
انظر تنقيح الفصول ص 429؛ والفروق له ج2 ص32
(3)
انظر بحث سماحة المرحوم الشيخ صلاح أبو إسماعيل في كتاب بحوث المؤتمر الرابع للفقه المالكي ص702-703
الأصول التي اعتمد عليها القائلون بسد الذرائع:
لقد عدت الذرائع – بفتحها وسيلة إلى المصلحة أو بسدها سبيلا إلى المضرة – نصف شرائع الإسلام، وكانت قطب الرحى في مذهب الإمام مالك رحمه الله فكان مذهبا فياضا بالعطاء.
والأصل في سد الذرائع هو النظر إلى الصالح العام فيجب اتخاذ الذريعة لتحقيق مصلحة عامة ويمنع اتخاذ الذريعة درءا للمفاسد فالميزان هو جلب المصالح ودفع المفاسد ما أمكن الدفع والجلب، ولا يخالف في ذلك أحد. ولا يجوز لأي شخص أن يستمسك بمصلحة مباحة له إذا أدى الاستمساك بها إلى إحداث ضرر عام، أو منع مصلحة عامة. فتلقى السلع قبل نزولها إلى الأسواق واحتكارها لأجل التحكم في أسعارها ممنوع؛ لأنه وإن كان في أصله جائزا لأنه شراء فإنه يجب منعه لأنه سيوقع الناس في ضيق والإضرار بالناس في مصالحهم العامة لا يجوز. وبيان ذلك أن موارد الأحكام قسمان:
مقاصد: وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسهما أي التي هي في ذاتها مصالح أو مفاسد. ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحليل أو تحريم، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها.
يقول القرافي: الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة (1) .
فالأصل في اعتبار الذرائع هو النظر إلى مآلات الأفعال، فيأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يؤول إليه سواء أكان يقصد ذلك الذي آل إليه الفعل أم لا يقصده، فإذا كان الفعل يؤدي إلى مطلوب فهو مطلوب، وإن كان لا يؤدي إلا إلى شر فهو ممنوع.
وبالنظر إلى هذه المآلات نجد أنه لا يلتفت إلى نية الفاعل بل إلى نتيجة العمل وثمرته وبحسب النتيجة يحمد الفعل أو يذم.
وسد الذرائع يقوم على عدة أصول وقواعد معتبرة عند الفقهاء منها:
1-
جلب المصالح ودرء المفاسد.
2-
اعتبار المآل الذي يؤيده أن المصالح معتبرة في الأحكام وليست هذه في الحقيقة إلا وسائل غايتها تحقيق مصالح معينة.
3-
قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كغسل جزء من الرأس لكمال غسل الوجه.
4-
أن الشافعية لا يجيزون كغيرهم من العلماء التذرع بأمر ظاهر الجواز لتحقيق أغراض غير مشروعة لما في ذلك من مناقضة للشرع، فهم يحرمون الوسائل المفضية إلى ممنوع، وغيرهم يراها من باب سد الذرائع ولا مشاحة في الاصطلاح.
5-
اعتبار الشبهات عند الإمام الشافعي رحمه الله والاحتياط في درء المفاسد فهو يقبل العدل الواحد في رؤية هلال شهر رمضان لأنه إثبات عبادة، ولا يقبل في هلال شوال إلا شاهدين لأنه إسقاط فرض فوجب الاحتياط لذلك.
6-
اعتبر التهم ومنه قول الشافعي رحمه الله فيما إذا أخر المعذورون صلاة الظهر حتى فاتت صلاة الجمعة أحب لهم أن يصلوها جماعة، وأن يخفوها لئلا يتهموا في الدين إلى غير ذلك.
7-
قاعدة من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه – وزاد الإمام علم الدين البلقيني رحمه الله عليها فقال: " من استعجل الشيء قبل أوانه، ولم تكن المصلحة في ثبوته عوقب بحرمانه ".
(1) انظر تنقيح الفصول ص449؛ والفروق جـ2 ص32
فأنت تلاحظ قوله: ولم تكن المصلحة في ثبوته تشمل كل الاستثناءات من القاعدة مراعاة للمصلحة (1) .
8-
إذا اجتمع الحلال والحرام غلب جانب الحرام: مثاله ما نقله الإمام الجويني في السلسلة قال: لم يخرج عنها إلا ما ندر فمن فروعها إذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التحريم، والآخر يقتضي الإباحة قدم التحريم في الأصح. ومن ثم قال عثمان بن عفان رضي الله عنه سئل عن الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أحب إلي.
9-
قاعدة "ما حرم استعماله حرم اتخاذه""وما حرم أخذه حرم إعطاؤه" وعلى هذا الأساس حرم اتخاذ الملاهي وأواني النقدين واقتناء الكلب لا لصيد أو حراسة، إلى غير ذلك من الأشياء كالخنزير والحرير والحلي للرجل وإعطاء الربا وحلوان الكاهن ومهر البغي والرشوة وأجر النائحة.
10-
قاعدة "اعتبار الأهم ورعاية جانبه" من ذلك تفويت الأقل حفاظا للأكثر قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: "اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة، ولو وقع مثل قصة الخضر عليه السلام في زمننا هذا لجاز تعييب المال حفاظا لأصله، ولأوجبت الولاية ذلك في حق المولى عليه حفاظا للأكثر بتفويت الأقل فإن الشرع يحصل على الأصح بتفويت المصالح، كما يدرأ الأفسد بارتكاب المفاسد (2) .
ويقول أبو زهرة رحمه الله: الأخذ بالذرائع ثابت في كتب المذاهب الإسلامية وإن لم يصرح به، وقد أكثر الإمامان مالك وأحمد، وكان دونهما في الأخذ به الشافعي وأبو حنيفة –رحمهم الله جميعاً- ولكنهما لم يرفضاه جملة ولم يعتبراه أصلا قائما بذاته، وكان داخلا في الأصول المقررة عندهما كالقياس والاستحسان الحنفي الذي لا يبتعد عما قرره الشافعي إلا في العرف.
(1) انظر الأشباه والنظائر للإمام السيوطي
(2)
قواعد الأحكام جـ2 ص75
وإن الأخذ بالذرائع لا تصح المبالغة فيه، فإن المغرق فيه قد يمتنع عن أمر مباح أو مندوب أو واجب خشية الوقوع في ظلم كامتناع بعض العادلين عن تولي أموال اليتامى، أو أموال الأوقاف خشية التهمة من الناس، أو خشية على أنفسهم من أن يقعوا في ظلم، ولأنه لوحظ أن بعض الناس قد يمتنع عن أمور كثيرة خشية الوقوع في الحرام، ولذلك قيد ابن العربي في كتابه أحكام القرآن بأن ما يحرم للذريعة إنما ثبت إذا كان المحرم الذي تسد ذريعته يثبت تحريمه بنص لا لقياس ولا لذريعة، فلا يصح أن يترك تولي مال اليتيم خشية الظلم. ولذا قال القرطبي: فإن قيل يلزم ترك مالك أصله في التهمة وسد الذريعة إذا جوز له الشراء من يتيمة، فالجواب أن ذلك لا يلزم وإنما يكون ذريعة فيما يؤدي من الأفعال المحظورة إلى محظورات منصوص عليها وأما هاهنا فقد أذن الله تعالى في صورة المخالطة ووكل المخالفين في ذلك إلى أمانته يقول تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] . وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال أنه يتذرع إلى محظور فيمتنع، كما جعل الله النساء مؤتمنات في فروجهن، مع عظيم ما يترتب على قولهن ذلك من الأحكام ويرتبط به من الحل والحرمة وإن جاز أن يكذبن.
وبناء على ما تقدم فإنه يتقرر هنا أصلان:
الأول: أن الذرائع يؤخذ بها إذا كانت توصل إلى فساد منصوص عليه، وبالقياس إذا كانت توصل إلى حلال منصوص عليه. فسدها في الأول يكون لمفسدة عرفت بنص، وفتحها في الثاني لمصلحة عرفت بنص. ووجه ذلك أن المصلحة أو المفسدة المعرفة بنص مقطوع بها، فتكون الذرائع لخدمة النص ولكن هذا الأصل لم يتصد لذكره إلا ابن العربي، وكتب الأصول المالكية لم تتصد لذلك وظاهرها أنها لا تشترط هذا الشرط.
الأصل الثاني: إن الأمور التي تتصل في أحكامهم الشرعية بالأمانات لا تمتنع لظهور الخيانة أحيانًا، فإن المضار التي تترتب على سدها أكثر المضار التي تدفع بتركها، فلو تركت الولاية على اليتيم سدا للذريعة لأدى ذلك إلى ضياع اليتامى، ولو ردت الشهادات سدا لذريعة الكذب لضاعت الحقوق (1) .
(1) أصول الفقه لأبي زهرة 295
الأصول التي اعتمد عليها القائلون بسد الذرائع:
استدل القائلون بسد الذرائع بشواهد كثيرة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة هذه الشواهد تثبت هذا الأصل وتشهد للعمل به.
وقد أجاد وأفاض في الاستدلال لصحة هذا الأصل ابن قيم الجوزية في كتابه القيم إعلام الموقعين فذكر تسعة وتسعين وجها من الكتاب والسنة وعمل الصحابة تدل على منع الذرائع ثم قال بعد تحرير محل الخلاف فيها، والدلالة على المنع من وجوه فذكرها ثم قال: ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافقة لأسماء الله الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة تفاؤلا بأن من أحصى هذه الوجوه وعلم أنها من الدين وعمل بها دخل الجنة.
ولنذكر فيما يلي عددا من الأمثلة المذكورة:
أولًا: من كتاب الله تعالى: قال تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
1-
حرم الله سبحانه سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا لهم وحمية لله وإهانة لأصنامهم لكونه ذريعة لأن يسب المشركون الله تعالى فكانت مصلحة ترك مسبة الله تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا من باب المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
2-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] نهى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية المؤمنين من قول هذه الكلمة لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها غير ما يقصده المسلمون يسبون بها النبي صلى الله عليه وسلم.
3-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] . أمر الله تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة.
4-
قوله تعالى لنبيه موسى وأخيه هارون عليهما السلام {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] . فأمرهما تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفر وأعتاهم عليه. لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيق به ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى.
5-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . نهى سبحانه وتعالى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.
ثانيًا: من السنة:
1-
قوله صلى الله عليه وسلم: ((من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)) متفق عليه (1) .
جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم سابا لوالديه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده.
2-
حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن والسفر بها ولو في الحج سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع (2) .
3-
حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وخالتها وقال: ((إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم، حتى لو رضيت المرأة بذلك)) لم يجز لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة.
4-
نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع الرجل بين سلف وبيع ولو أفرد أحدهما عن الآخر صح. وإنما ذلك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا. فانظر إلى حمايته الذريعة إلى ذلك بكل طريق.
5-
السنة قضت بأنه ليس للقاتل من الميراث شيء لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسد الشارع الذريعة بالمنع.
(1) البخاري ومسلم
(2)
إعلام الموقعين جـ3 ص180
ثالثًا: في فقه الصحابة:
1-
جمع الصحابة رضي الله عنهم القرآن حتى لا يضيع بموت حامله، ونسخه عثمان رضي الله عنه في مصحف واحد وأحرق ما عداه سدا لذريعة الاختلاف فيه.
2-
ترك عمر رضي الله عنه الأراضي المفتوحة عنوة في يد أصحابها وفرض عليهم الخراج وجعلها وقفا على المسلمين وخالفه بعض الصحابة في أول الأمر ثم أجمعوا على رأيه بعد أن استبان لهم وجه الحق وذلك سدا لذريعة التقاعس عن الفتوح وعجز الجند (1) .
3-
منع نكاح الكتابيات سدا لذريعة فتنة نساء المؤمنين بميل الرجال إلى نساء أهل الكتاب لجمالهن، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية بالمدائن فكتب إليه "أن خل سبيلها" فكتب إليه حذيفة "أحرام هي يا أمير المؤمنين؟ " فكتب إليه عمر "أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى نخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين"(2) .
4-
خفة الصلاة لمدافعة الوسواس: بما أن تطويل الصلاة مستحب إلا أنه قد يكون ذريعة إلى الفتنة والوسواس ولهذا لما سئل الزبير ابن العوام رضي الله عنه عن خفة الصلاة لدى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال "نبادر الوسواس" أي سدا لذريعة الوسواس، وفي الفتنة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفتان أنت يا معاذ" حين كان معاذ يطيل الصلاة بالناس" (3) .
5-
قطع شجرة بيعة الرضوان
لما رأى عمر رضي الله عنه الناس يأتون إلى شجرة بيعة الرضوان ويصلون عندها قال: "أراكم رجعتم إلى العزى ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد، وأمر بقطع تلك الشجرة سدا لذريعة التشبه بالمشركين"(4) .
(1) انظر الخراج لأبي يوسف 14-15
(2)
انظر كتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني 75؛ وتاريخ الفقه للدكتور محمد يوسف موسى ص86
(3)
انظر الموافقات للشاطبي جـ4 ص103
(4)
انظر إغاثة اللهفان جـ1 ص205؛ وسد الذرائع ص579
شواهد من فقه الأئمة الأربعة باتفاقهم على سد الذرائع فيها:
1-
نكاح الكتابيات الحرائر اتفق الأئمة الأربعة على جوازه عملا بظاهر الكتاب واتفقوا على كراهيته عملا بمذهب الخليفة عمر خشية أن يميل إليها فتفتنه عن الدين أو يتولى أهل دينها. فسد الذريعة هنا واضح.
2-
توريث المطلقة ثلاثا في مرض الموت لأنه متهم في قطع إرثها.
3-
قبلة الصائم، أجمعوا على كراهيتها لمن لا يأمن أن تثير شهوته.
4-
اتفقوا على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثا وهو اجتهاد لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وموافقة الصحابة عليه.
5-
اتفقوا على قتل الجماعة بالواحد وهو اتفاق من قبل الصحابة.
6-
اتفقوا على ضمان ما أتلفته الدابة كما هو ثابت عن الصحابة أيضا مع اختلافهم في الأحوال التي يترتب فيها الضمان.
سد الذرائع عند المالكية:
هذا أصل من أصول الاستنباط الفقهي عند المالكية، وقد بلغوا فيه مبلغا لم يبلغه أحد من أصحاب المذاهب في أخذه لهذا الأصل؛ لأن المذهب المالكي أوسع المذاهب الاجتهادية اعتمادا على رعاية المصالح بين الناس، ولهذا كان العمل بالمصالح المرسلة أصلا من أصول المذهب المالكي، وسد الذرائع ما هو إلا تطبيق عملي للعمل بالمصلحة، ومن أبرز تطبيقاتهم:
منعهم العقود التي تتخذ ذريعة إلى أكل الربا ومنها:
أ- بيوع الآجال: وهي بيوع ظاهرها الجواز تؤدي إلى ممنوع كأن يبيع شخص لأجل ثم يشتريه منه بنقد أو إلى أجل آخر، ولها عدة أحوال مختلفة تشمل كلا من الأجل والثمن والسلعة والبائع والمشتري، فالنسبة للأصل فإن الشراء الثاني قد يكون نقدا أو إلى أجل الأول أو إلى الأجل نفسه أو إلى أبعد منه.
وأما بالنسبة للثمن فإما أن يكون مثل الأول أو أقل أو أكثر، وإما أن يكون عينا أو طعاما أو عرضا أو حيوانًا.
وأما بالنسبة للسلعة، فقد يشتري البائع نفس السلعة التي باعها أو بعضها أو هي زيادة عليها أو مثلها.
وأما بالنسبة للبائع فقد يشتريها لنفسه أو وكيله أو محجوره. وأما بالنسبة للمشتري فقد يبيعها هو أو وكيله.
ومن أمثلة هذا البيع: ما يؤدي إلى: أنظرني أزدك جاء في الموطأ جـ2 ص173.
قال مالك في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى أجل: "هذا بيع لا يصلح ولم يزل أهل العلم ينهون عنه".
قال مالك: وإنما كره ذلك لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكر له آخر مرة، ويزداد عليه خمسين دينارا في تأخيره عنه، فهذا مكروه لا يصلح.
ولبيوع الآجال أمثلة كثيرة مبسوطة في كتب الفقه المالكي وغيره.
ب- ما يؤدي إلى بيع المال الربوي متفاضلًا، كأن يبيع صنفاًوسطا في الجودة بصنفين أحدهما أجود والثاني أردأ.
قال مالك رحمه الله: لا يصلح مد زبد ومد لبن بمدي زبد وهذا مثل من يبيع صاعين من كبيس من التمر وصاعا من حشف بثلاثةأصوع من عجوة، فهذا لا يصلح (1) .
قال ابن رشد: إن مالكا يرد هذا لأنه يتهمه أن يكون إنما قصد أن يدفع مدين من الوسط في مد من الطيب فجعل الرديء ذريعة إلى تحليل ما لا يجب من ذلك (2) . هكذا في الأصل. ولعله: ما لا يجوز.
ج- القراض بالدين: قال مالك: إذا كان لرجل على رجل دين فسأله أن يقره عنده قراضا أن ذلك يكره حتى يقبض ماله ثم بقارضه بعد أو يمسك وإنما ذلك مخافة أن يكون أعسر بماله، فهو يريد أن بؤخر ذلك على أن يزيد فيه (3) .
د- تأجيل الصداق: قال مالك: والأجل في الصداق أي يكره تأجيله بأجل معلوم ولو إلى سنة لئلا يتذرع الناس إلى النكاح بغير صداق، ويظهرون أن هناك صداقا مؤجلا (4) .
(1) انظر الموطأ جـ2 ص639
(2)
بداية المجتهد جـ2 ص121
(3)
الموطأ جـ2 ص689
(4)
انظر الشرح الكبير جـ2 ص309
في الفقه الحنبلي:
الحنابلة يأتون في الدرجة الثانية بعد المالكية عملا بسد الذرائع ولذلك نجد لديهم عددا كبيرا من المسائل التي اعتمدوا فيها على سد الذرائع منها:
أ- منعهم العقود المؤدية إلى الربا:
كمن اشترى نسيئة ما باعه نقدًا: قال ابن قدامة: "وإن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة: فقال أحمد في رواية حرب "لا يجوز ذلك إلا أن يغيرا السلعة لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فأشبه مسألة العينة" (1) .
ومنها ما يؤدي إلى بيع الطعام بالطعام نسيئة قال ابن قدامة: ومن باع طعاما إلى أجل فلما حل الأجل أخذ منه الثمن الذي في ذمته طعاما قبل قبضه لم يجز ووجه ذلك: أنه ذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نسيئة فحرم كمسألة العينة.
وعلى هذا: كل شيئين حرم النسأ فيهما لا يجوز أن يؤخذ أحدهما عوضا عن الآخر قبل قبض ثمنه إذا كان البيع نساء نص أحمد على ما يدل على هذا.
ثم قال ابن قدامة: والذي يقوي عندي جواز ذلك إذا لم يفعله حيلة ولا قصد ذلك في ابتداء العقد (2) .
(1) وهي أن يشتري ما باعه إلى أجل بأقل مما باعه نقدا
(2)
انظر المغني جـ4 133-134
ب- الوصية للمخالعة في مرض الموت:
إذا خالع الزوج امرأته في مرض الموت صح خلعه، فإذا أوصى لها بعدما خالعها فإن كان ما أوصى به لها أقل مما كانت تستحقه بالإرث فلا تلزم الوصية إلا بمقداره لأنه يفهم أنه اتخذ الخلع والوصية ذريعة ليوصل إليها أكثر من حقها، ويدخل الضرر على بقية الورثة (1) .
ج- منعهم العقود التي تؤدي إلى الحيل:
قال ابن القيم: وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن والمحتال يفتح الطريق إليها بحيله فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه؟ (2) .
ومثل ذلك عدم قطع الثمرة المشتراة حتى يبدو صلاحها. قال ابن قدامة: اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، فتركها حتى بدا صلاحها فنقل عنه حنبل وأبو طالب: أن البيع باطل ونقل أحمد بن سعيد أن البيع لا يبطل قال في تعليل البطلان: لأن صحة البيع تجعل ذلك ذريعة إلى شراء الثمرة قبل بدو صلاحها وتركها حتى يبدو صلاحها ووسائل الحرام حرام كبيع العينة.
- وبعد مناقشة الروايتين قال: - وهذا فيما إذا لم يقصد وقت الشراء تأخيره ولم يجعل شراءه بشرط القطع حيلة على المنهى عنه من شراء الثمرة قبل بدو صلاحها وتركها حتى يبدو صلاحها، فأما إن قصد ذلك فالبيع باطل من أصله لأنه حيلة محرمة (3) .
(1) انظر المغني جـ7 ص356
(2)
إعلام الموقعين جـ3 ص 171
(3)
انظر المغني جـ4 65-67
د- الشراء ممن يرخص في السلع:
نقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يكره الشراء ممن يرخص في السلع، ليمنع الناس من الشراء من جاره، وقد ورد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام المتباريين وهما الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر في التبرع والذي يرخص في السعر للإضرار يشبه هذا بل هو أشد قبحا لأنه يعمد إلى الإضرار بغيره.
قال ابن القيم: ونص الإمام أحمد على كراهية الشراء من هؤلاء، وهذا النهي يتضمن سد الذريعة من وجهين: أحدهما: أن تسليط النفوس على الشراء منهما وأكل طعامهما تفريح لهما وتقوية لقلوبهما وإغراء لهما على فعل ما كرهه الله ورسوله.
الثاني: أن ترك الأكل من طعامهما ذريعة إلى امتناعهما وكفهما عن ذلك (1) .
(1) انظر إعلام الموقعين ج3 ص203
في الفقه الحنفي:
كنا قد ذكرنا أن الحنفية والشافعية لا يقولون بسد الذرائع غير أنا نجد في كتب الفقه لديهم ما يفيد بأنهم يقولون بهذا الأصل فمن ذلك:
أ- صوم يوم الشك:
المختار عند الحنفية استحباب صوم المفتي ليوم الشك ويفعله سرا حتى لا يتهم بالعصيان ويفتي الناس بالإفطار حسما لمادة اعتقاد الزيادة. قال ابن الهمام: المختار أن يصوم المفتي بنفسه أخذا بالاحتياط ويفتي العامة بالتلوم إلى وقت الزوال ثم بالإفطار، حسما لمادة اعتقاد الزيادة، ويصوم المفتي سرا لئلا يتهم بالعصيان. فطلب الأسرار بصوم الشك من الإمام وغيره من الخاصة حتى لا يكون ذريعة لاتهامهم بمخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الشك.
وهذا تطبيق عملي لسد الذرائع.
ب- الحداد على البائن والمتوفى عنها زوجها:
قال في الهداية: وعلى المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت بالغة مسلمة الحداد وهو الامتناع عن الطيب والزينة والدهن والكحل لإظهار التأسف، ولأن المرأة إن كانت متزينة متطيبة تزيد رغبة الرجال فيها، وهي ممنوعة النكاح ما دامت في عدة الوفاة أو الطلاق فيجتنبها حتى لا تصير ذريعة إلى الوقوع في المحرم (1) .
(1) انظر الهداية جـ3 ص291-194
ج- إقرار المريض:
إذا أقر المريض بدين – وهو في مرض الموت- فإنه يتهم أنه قصد بهذا الإقرار إبطال حق الغير، ولذلك لا يكون هذا الإقرار ملزما كما لو كان في حال الصحة.
ولهذا إذا أقر بدين في مرضه وعليه دين في الصحة قدم دين الصحة، وكذلك الدين الذي لزمه حال المرض تقدم هذه الديون على ما أقر به من ديون غير معلومة الأسباب لاتهامه بأنه قصد مضايقة الغرماء.
قال صاحب الهداية: وإذا أقر الرجل في مرض موته بديون وعليه ديون في صحته وديون لزمته في مرضه بأسباب معلومة فدين الصحة والدين المعروف الأسباب مقدم.
ويقول صاحب الهداية في البداية: ولنا أن الإقرار لا يعتبر دليلا إذا كان فيه إبطال حق الغير، وفي إقرار المريض ذلك لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء، ولهذ منع التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث (1) .
(1) انظر الهداية جـ7 ص2-3
في الفقه الشافعي:
وكما أشرنا سابقا إلى أن الشافعية لا يقولون بسد الذرائع ولكنهم يقولون بتحريم الوسائل ونذكر هنا بعض الأمثلة التي ظاهرها العمل بسد الذرائع منها:
1-
إخفاء صلاة الجماعة للمعذورين في ترك الجمعة:
المعذورون في ترك الجمعة –كالمرضى والمسافرين- يصلون الظهر مكانها في جماعة أو فرادى واستحب الشافعي رحمه الله لهم إخفاء الجماعة سدا لذريعة التهمة في تركهم لصلاة الجمعة.
قال النووي قال الشافعي والأصحاب: ويستحب للمعذورين الجماعة المشروعة هذا الوقت الجمعة: قال النووي: والمذهب الأول كما لو كانوا في غير البلد، فإن الجماعة تستحب في ظهرهم بالإجماع. وقال: فعلى هذا قال الشافعي أستحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا وينسبوا إلى ترك الجمعة تهاونا (1) ولعله أراد الجمعة.
2-
المفطر بعذر في رمضان لا يجهر بفطره:
المسافر والمريض إذا أفطرا في رمضان بسبب السفر أو المرض يستحب لهما أن يخفيا فطرهما عند من يجهل أمرهما. سدا لذريعة التهمة بالفسوق والمعصية.
قال الشيرازي في المهذب "فإن قدم المسافر وهو مفطر، أو برئ المريض وهو مفطر استحب لهما إمساك بقية النهر لحرمة الوقت. ولا يجب ذلك لأنهما أفطرا بعذر، ولا يأكلان عند من لا يعرف عذرهما بخوف التهمة والعقوبة (2) .
(1) انظر المجموع جـ4 ص363؛ وسد الذرائع 498
(2)
شرح المهذب جـ6 ص262
3-
عدم تضمين الأجير المشترك:
الصحيح عند الشافعي رحمه الله تعالى أن الأجير لا يضمن مطلقًا، خاصا كان أو مشتركا ويرى الربيع أنه كان لا يبوح بهذا خوفا من ضياع أموال الناس.
جاء في الأم: قال الربيع: الذي يذهب إليه الشافعي أنه لا ضمان على الصناع إلا ما جنت أيديهم ولم يكن يبوح بذلك خوفا من الضياع (1) .
وظاهرة العمل بسد الذرائع حيث امتنع عن فتوى الناس بما يرى صحته حتى لا يتخذها الفجار ذريعة لتضييع الأموال بالتهاون في حفظها والعناية بها (2) .
4-
قضاء القاضي بعلمه:
من المقرر لدى الشافعي رحمه الله: أن القاضي يقضي بعلمه، ولكنه كان يكره الكلام بهذا بعدما فسد القضاة سدا لذريعة الجور على الناس.
قال في الأم: "إذا كان القاضي عدلا فأقر رجل بين يديه بشيء كان الإقرار عنده أثبت من أن يشهد عنده كل من يشهد لأنه قد يمكن أن يشهدوا عنده بزور، والإقرار عنده ليس فيه شك، وأما القضاة اليوم فلا أحسب أن أتكلم بهذا كراهية أن أجعل لهم سبيلا إلى أن يجوروا على الناس والله الموفق (3) .
كما توجد مسائل أخرى في فقه الشافعية ظاهرها العمل بسد الذرائع، من ذلك:
1-
إقرار المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر حكموا بعدم لزومه في حقه وهل يلزم في حق الغرماء فيه قولان.
2-
حرمان القاتل من الميراث بكل حال حسما للباب وسدا لذريعته.
3-
قاعدة من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
(1) انظر الأم جـ3 ص264
(2)
انظر أثر الأدلة 590
(3)
انظر الأم جـ7 ص44
لكن الشافعي رحمه الله في كتابه الأم نص على عدم الأخذ بسد الذرائع، واتهم القائلين به بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لسببين أساسيين:
الأول: أن سد الذرائع مظهر من مظاهر الاجتهاد بالرأي وهو وأتباعه لا يأخذون من ذلك إلا بالقياس؛ لأن العلم خمس طبقات، نص عليها الإمام الشافعي بقوله: "العلم طبقات شتى: الأول: الكتاب والسنة إذا ثبتت، ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قولا ولا نعلم له مخالفا منهم، الرابعة: اختلاف الصحابة في ذلك،والخامسة:القياس على بعض الطبقات،ولا يصار إلى شىء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى (1) .
الثاني: أن الشافعي رحمه الله كان يرى أن الشريعة تبنى على الظاهر، وأنه يجب ألا نتجاوز في تفسيرها حكم النص، ولهذا قصر مصادر الأحكام الشرعية على الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة، والقياس على النص ورفض الاستحسان وقال: من استحسن فقد شرع لأن الاستحسان لا يعتمد على النص في عبارته ولا إشارته، ولا دلالته، بل يعتمد على ما ينقدح في نفس الفقيه الفاهم لأصولها، وفروعها، ومصادرها، ومواردها، أو على روح الشريعة ومعانيها الكلية (2) .
قال رحمه الله في الأم: "الأحكام على الظاهر والله ولي المغيب، ومن حكم على الناس بالأزكان (3) جعل لنفسه ما حظر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. لأن الله عز وجل إنما يولي الثواب والعقاب على المغيب لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه وكلف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر. ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل ما دل على ما وصفت من أنه لا يحكم بالباطن؟ قيل كتاب الله ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذكر الله تبارك وتعالى المنافقين فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} قرأ إلى {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناكحون ويتوارثون ويسهم لهم إذا حضروا القسمة ويحكم لهم أحكام المسلمين، وقد أخبر الله تعالى ذكره عن كفرهم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اتخذوا أيمانهم جنة من القتل بإظهار الأيمان على الإيمان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي إليه على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ به، فإنما أقطع له بقطعة من النار)) ، فأخبرهم أنه يقضي بالظاهر، وأن الحلال والحرام عند الله تعالى على الباطن، وأن قضاءه لا يحل للمقضى له ما حرم الله تعالى عليه إذا علمه حراما (4) .
(1) انظر الأم جـ7 ص246
(2)
انظر سد الذرائع ص681
(3)
هو تفهم الشيء بالظن والتفرس
(4)
انظر الأم جـ2 ص41-42
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن محارم الله تعالى فمن أصاب منكم من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله)) فأخبرهم أنه لا يكشفهم عما لا يبدو من أنفسهم، وأنهم إذا أبدوا ما فيه الحق عليهم أخذوا بذلك (1) .
وفي كتاب الاستحسان من كتاب الأم قال الشافعي رحمه الله: وفي جميع ما وصفت ومع غيره مما استغنيت بما كتبت عنه عما فرض الله تعالى على الحكام في الدنيا دليل على أن حراما على حاكم أن يقضي أبدا على أحد من عباد الله إلا بأحسن ما يظهر وأخفه على المحكوم عليه، وإن احتمل ما يظهر منه غير أحسنه كانت عليه دلالة بما يحتمل ما يخالف أحسنه وأخفه عليه. أو لم تكن لما حكم الله في الأعراب الذين قالوا آمنا. وعلم الله أن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، وما حكم الله تعالى به في المنافقين الذين أعلم الله أنهم آمنوا ثم كفروا وأنهم كذبة بما أظهروا من الإيمان، وبما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتلاعنين حين وصف قبل أن تلد إن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق، فجاءت به على الوصف الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم لزوجها فلا أراه إلا قد صدق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن أمره لبين)) ، أي لقد زنت وزنى بها شريك الذي رماه زوجها بالزنى، ثم لم يجعل الله إليهما سبيلا إذا لم يقرا، ولم تقم عليهما بينة، وأبطل في حكم الدنيا عليهما استعمال الدلالة التي لا يوجد في الدنيا دلالة بعد دلالة الله على المنافقين والأعراب أقوى مما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مولود امرأة العجلاني قبل أن يكون، ثم كان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: والأغلب على من سمع الفزاري يقول للنبي صلى الله عليه وسلم، "إن امرأتي ولدت غلاما أسود وعرض بالقذف إنه يديد القذف، ثم لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن التعريض ظاهر قذف، فلم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه حكم القاذف. قال: والأغلب على من سمع قول ركانة لامرأته أنت طالق البتة أنه يعقل أنه قد أوقع الطلاق بقوله طالق، وأن البتة إرادة شيء غير الأول أنه أزاد الإبتات بثلاث ولكنه لما كان ظاهرا في قوله واحتمل غيره لم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بظاهر الطلاق وذلك واحدة.
(1) انظر الأم جـ2 ص41-42
ثم قال الشافعي رحمه الله: "فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالا على أن ما أظهروا يحتمل غير ما أظهروا بدلالة منهم، أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة وذلك أن يقول قائل من رجع عن الإسلام ممن ولد على الإسلام قتلته. ولم أستتبه، ومن رجع عنه ممن لم يولد على الإسلام استتبته، ولم يحكم الله تعالى على عباده إلا حكما واحدًا، مثل أن يقول: من رجع عن الإسلام ممن أظهر نصرانية أو يهودية أو دينا يظهر كالمجوسية استتبته، فإن أظهر التوبة قبلت منه ومن رجع إلى دين يخفيه لم استتبه قال الشافعي: وكل قد بدل دينه الحق ورجع إلى الكفر فكيف يستتاب بعضهم ولا يستتاب بعض وكل باطل (1) .
وقال الشافعي: العلم من وجهين، اتباع، واستنباط، والاتباع اتباع كتاب فإن لم يكن فسنة وإن لم يكن فقول عامة من سلف، لا نعلم له مخالفاً فإن لم يكن فقياس على كتاب الله عز وجل، فإن لم يكن فقياس على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فقياس على قول عامة من سلف، لا مخالف له، ولا يجوز القول إلا بالقياس (2) .
وفي الرسالة يقول الشافعي: "ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا من جهة عالم مضى قبله، وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والإجماع والآثار".
وما وصفت من القياس عليها (3) وفي كتاب إبطال الاستحسان أيضا من الأم يقول: (إنه لا يفسد عقد أبدًا، إلا بالعقد نفسه، لا يفسد بشيء تقدمه، ولا تأخره، ولا بتوهم، ولا بأغلب، وذلك كل شيء لا تفسده إلا بقصده، ولا تفسد البيوع بأن نقول: هذه ذريعة، وهذه نية سوء، ولو جاز أن نبطل من البيوع بأن يقال: متى خاف أن يكون ذريعة إلى الذي لا يحل كان أن يكون اليقين من البيوع بعقد ما لا يحل، أولى أن ترد به من الظن. ألا ترى أن رجلا لو اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقتل به، كان شراء حلال، وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع، وكذا لو باع البائع سيفا من رجل يراه أن يقتل به رجلا كان هكذا) ثم يقول: "فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكام الإسلام على أن العقود إنما يثبت بالظاهر عقدها، لا يفسدها نية العاقدين، كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة، فأولى ألا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها ثم سيما إذا كان توهما ضعيفا والله تعالى أعلم (4) ".
(1) انظر الأم ج7 و269-270
(2)
انظر اختلاف الحديث للشافعي المطبوع على هامش الأم ج7 ص148، 149
(3)
انظر الرسالة الفقرة: 1468
(4)
انظر الأم ج7/270
وفي جواز بيوع الآجال عند الشافعي يقول رحمه الله: "من باع سلعة من السلع إلى أجل وقبضها المشتري فلا بأس أن يبيعها من الذي اشتراها منه بأقل من الثمن أو أكثر بدين أو نقد، لأنها بيعة غير البيعة الأولى. قال: "وإذا اشترى الرجل طعاما إلى أجل فقبضه فلا بأس أن يبيعه ممن اشتراه منه، ومن غيره بنقد، وإلى أجل، وسواء في هذا المعين وغير المعين (1) فأنت ترى أن الشافعي رحمه الله يشدد على صحة العقود وأنه لا يفسدها ما يأتي بعدها أو قبلها ولا يفسدها غير عاقدها، وأن التهمة لا تصح وسيلة لإبطال العقود.
لكننا نجده في باب إحياء الموات يناقش قضية منع فضل الماء بعد أن أورد حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من منع فضول الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة)) قال الشافعي رحمه الله: وفي منع الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله عام يحتمل معنيين: أحدهما أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى (2) . قال الشافعي: فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام، وهذا تحريم منه للوسائل كما أشار إلى ذلك ابن السبكي رحمه الله حيث قال: قال الشيخ الإمام الوالد: إنما أراد الشافعي رحمه الله تحريم الوسائل لا سد الذرائع، والوسائل تستلزم المتوسل إليه، ومن هذا منع الماء، فإنه يستلزم منع الكلأ والذي هو حرام، ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل، ولذلك نقول: من حبس شخصا ومنعه من الطعام والشراب فهو قاتل له وما هذا من سد الذرائع في شيء.
قال الشيخ الإمام: وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها وأصل النزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها.
وعقب على ذلك صاحب كتاب أثر الأدلة بقوله: وهذا التحقيق سديد ووجيه فالقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم المتوسل إليه قائم على أساس يقرب من اليقين، بينما القول بسد الذرائع قائم في أغلب صوره على الظن والتوهم والتخمين، وشتان بينهما، ولأجل ذلك كان مسلك الشافعي رحمه الله تعالى أخذ الناس بالتهم، وإفساد تصرفاتهم بالظن مسلكا سليما وصحيحا يتفق مع ما دلت عليه نصوص الشريعة السمحة من أخذ المكلفين بظواهرهم، وترك سرائرهم إلى الله تعالى –كما أثبت الشافعي بما سقناه لك من كلام وبيناه في جلاء موقفه- وذلك كي تستقر للناس أحوالهم ويطمئنوا إلى تصرفاتهم، طالما أنها لا تصادم الشريعة في ظاهرها (3) والله أعلم.
(1) انظر الأم ج3/33
(2)
انظر الأم ج7/272
(3)
أثر الأدلة المختلف فيها ص579
الغلو في سد الذرائع:
لا يخفى أن المالكيين غالوا في إعمال سد الذرائع من ذلك:
1-
ما نقله الشاطبي صاحب كتاب الاعتصام عن الإمام مالك كراهيته لصيام ست من شوال خوفا أن يعدها الناس من رمضان (1) .
وقد ثبت استحبابها بالحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فذلك صيام الدهر) رواه مسلم.
2-
تركهم لقراءة سورة السجدة فجر يوم الجمعة (2) خشية أن يعتقد الناس وجوبها، وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر الم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان (3) .
3-
الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات نقل عن الإمام مالك كراهة الدعاء بأثر الصلوات على هيئة الاجتماع وعللوا كراهيته لذلك بأنه سبب لحصول الكبر والخيلاء للإمام حيث يجتمع له أمران التقدم في الصلاة وشرف كونه نصب نفسه واسطة بين الله تعالى وبين عباده في تحصيل مصالحهم على يده (4) .
4-
فيمن تزوج امرأة في عدتها ودخل بها قالوا بالتفريق بينهما وبتحريمها عليه إلى الأبد. بينما الإمامان أبو حنيفة والشافعي يقولان بالتفريق فإذا انقضت العدة فلا بأس بتزويجه إياها وهي الرواية المشهورة عن الإمام أحمد (5) .
5-
قولهم بكراهة القبلة للصائم ولو كان يأمن أن تثير شهوته. والإمامان أبو حنيفة والشافعي يقولان لا يكره لمن كان يأمن على نفسه وهو رواية عن أحمد (6) .
6-
توريث المبتوتة في مرض الموت سواء مات في عدتها أو بعدها تزوجت أم لم تتزوج (7) غير أن الشافعي في القول الجديد وجماعة قالوا بعدم توريثها، وقال بعضهم بتوريثها ما لم تتزوج، ومنهم من قال بتوريثها ما دامت في العدة (8) .
(1) انظر الاعتصام للشاطبي جـ1/211
(2)
بداية المجنهد جـ2-47
(3)
النووي على مسلم جـ6/168
(4)
انظر الاعتصام جـ1-353
(5)
انظر بداية المجتهد جـ2-51
(6)
انظر تفسير القرطبي جـ2/323
(7)
انظر بدايةالمجتهدجـ2-82؛ والمغني جـ6/372
(8)
انظر بداية المجتهد جـ2-82؛ والمغني جـ6/372
فأنت ترى أن المالكية اختاروا حكم التغليظ مع إمكان سد الذريعة بما دونه كما في تحريم الزواج أبدا بمن عقد عليها في عدتها.
وقد يكون هذا الاختيار مخالفة لنص ثابت ككراهة الإمام لصوم الست من شوال ونحو ذلك. والحاصل أن إعمال سد الذرائع في هذا الزمان أصبح ضرورة بعد فساد كثير من الناس، وعدم الورع لدى غالبهم، إلا أن الغلو فيه فيما لا مبرر شرعي ولا عقلي له غير مقبول فقد ذكروا مثلا أن مالكا رحمه الله أمر بحبس ابن مهدي لوضعه الرداء بين يديه أثناء الصلاة واعتبر مالك رحمه الله ذلك حدثا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الحنفية فقد وردت شواهد في فقههم عند سد الذرائع ومع أنهم لا يعتبرون سد الذرائع أصلا من أصولهم كالمالكية لعدم اعتبارها لصحة العمل به إلا أننا نجدهم يطبقون هذا الأصل من خلال ما يلي:
1-
الاستحسان الذي هو أصل عندهم وهو باب واسع توسع فيه الأحناف أكثر من غيرهم فمن خلاله يلجون إلى العمل بالمصلحة وسد الذرائع إذ إن بعض صور الاستحسان عندهم لا تختلف عن صور سد الذرائع عند المالكية.
2-
عملهم بسد الذرائع في فروع كثيرة منها:
1-
المنع من بعض صور بيوع الآجال لأن من الشروط المعتبرة في صحة العقود عندهم خلوها من شبهة الربا لأن الشبهة ملحقة بالمحرمات احتياطا (1) .
2-
استحباب صوم المفتي ليوم الشك وينبغي أن يفعله سرا حتى لا يتهم بالعصيان ويفتي العامة بالتلوم والانتظار بدون طعام ولا شراب حتى وقت الزوال ثم يأمرهم بالإفطار حسما لمادة اعتقاد الزيادة.
وهذا تطبيق لسد الذرائع يشهد بإعمال الحنفية له (2) .
3-
نص علماء الحنفية على تحريم اللمس والقبلة للمعتكف معللين ذلك بأنها من دواعي الوطء المحرم عليه بقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (3)[البقرة: 187] .
4-
نصوا على أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام، وأن الوسيلة إلى الشيء حكمها حكم ذلك الشيء وهذا أصل الحكم بسد الذرائع.
مثال: قولهم: (ولا يباح للشواب الخروج إلى الجماعات لنهى عمر عن ذلك. ولأن خروجهن إلى الجماعة سبب الفتنة والفتنة حرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام (4) إلى غير ذلك من المسائل التي لا يتسع المقام في هذا البحث المختصر لذكرها.ومع كون الشواهد واضحة الإستعمال في سد الذرائع إلا أنهم لا يعتبرونه أصلا عندهم بل وينكرون على المالكية القول بسد الذرائع وكأنهم يفسرون ذلك بتحريم الوسائل كما هو الحال عند الشافعية. والله أعلم.
(1) انظر بدائع الصنائع للكاساني جـ5/199
(2)
انظر فتح القدير جـ2-57؛ وبدائع الصنائع ج: 2/78
(3)
فتح القدير جـ2/113
(4)
بدائع الصنائع جـ1/157؛ وانظر سد الذرائع من 651-655
وأما الشافعية فلم يقولوا بسد الذرائع ولم يعتبروه أصلا من أصولهم بل شددوا النكير على القائلين به واعتبر الشافعي رحمه الله القائلين به مخالفين للتنزيل والسنة وذلك لسببين أساسيين:
الأول: أن سد الذرائع مظهر من مظاهر الاجتهاد بالرأي وهم لا يأخذون منها إلا بالقياس لأن العلم عندهم خمس طبقات نص عليها الإمام الشافعي رحمه الله وهي: الكتاب والسنة إذا ثبتت والإجماع وقول الصحابي الذي لا يعلم له مخالف وما اختلف فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم القياس على بعض الطبقات.
أما الاستحسان والمصلحة وما إليها من وجه العمل بالرأي فقد أبطلها جملة.
الثاني: أن الشافعي رحمه الله كان يرى أن الشريعة تبنى على الظاهر، وأنه يجب ألا تتجاوز في تفسيرها حكم النص. ورفض الاستحسان رفضا قاطعا وقال:(من استحسن فقد شرع) لأن الاستحسان لا يعمد على نص ولما كانت الشريعة تبنى على الظاهر فإنها تنفذ كذلك على حسب الظاهر – فليس للحاكم أن يتكشف نيات الناس، وخفايا نفوسهم. وقد نقلنا شيئا من أقواله رحمه الله فيما سبق من البحث. وعلى أساس هذا الظاهر التزم الشافعي في حكمه على العقد بحسب ما تدل عليه ألفاظه وما يستفاد منه في اللغة وعرف العاقدين في الخطاب من حيث الصحة والبطلان. ولا اعتبار للنيات الباطنة في العقود ولذا نجده يقول:(أنه لا يفسد عقد أبدا إلا بالعقد نفسه، لا يفسد بشيء نقدمه ولا تأخره، ولا بتوهم ولا بأغلب، وكذلك كل شيء لا نفسده إلا بقصده ولا تفسد البيوع بأن يقول: هذه الذريعة وهذه نية سوء (1)
…
إلخ. وقد نقلنا عنه ذلك في أثناء البحث ولذا أجاز رحمه الله صور بيوع الآجال لأن عقودها صحيحة.
(1) انظر الأم جـ4/92، جـ7/270
غير أنا نجد أن الشافعية أعملوا سد الذرائع في فقههم واعتبروه من باب تحريم الوسائل المستلزمة للمتوسل إليه فمن ذلك:
1-
ما يرجع إلى الكتاب كما جاء في قوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
ونظائر ذلك كثير في القرآن الكريم.
2-
ما يرجع إلى السنة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"(1) ونظائر ذلك في السنة كثير.
3-
ما يرجع إلى القياس: كحرمة الصيد إذا نصب له الفخ قبل الإحرام قياسا على ما جاء في قصة أصحاب السبت (2) ومثل منع الموصى له القاتل للوصي من حقه في الوصية قياسا على منعه من الإرث وأمثال ذلك كثير.
ثانيًا:
وبما أن سد الذرائع يقوم على عدة أصول ذكرناها في البحث فقد ارتبطت بهذا الأصل قواعد معتبرة عند الشافعية منها: قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد التي لا يخالف فيها أحد، وقاعدة اعتبار المآل فكل مقدمة لنتيجة أو وسيلة تفضى قطعا أو ظنا أو غالبا أو نادرا إلى غاية معينة تأخذ حكمها بحسب قوة إفضائها (3) .
وقاعدة ما لا يتم الواجب إلى به فهو واجب واعتبار الشبهات والاحتياط في درء المفاسد واعتبار التهم ومن ذلك قول الشافعي رحمه الله تعالى فيما إذا أخر المعذورون صلاة الظهر حتى فاتت الجمعة: "أحب لهم أن يصلوها جماعة وأن يخفوها لئلا يتهموا في الدين "(4) .
ومنها: إن قدم المسافر وهو مفطر أو برئ المريض وهو مفطر يستحب لهما الإمساك بقية النهار لحرمة الوقت ولا يأكلان عند من لا يعرف عذرهما لخوف التهمة والعقوبة (5) ونظائر ذلك كثير.
وقاعدة إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام (6) ومن فروع القاعدة إذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التحريم والآخر الإباحة قدم التحريم في الأصح.
(1) انظر رياض الصاحين 161؛ وإعلام الموقعين ج3/150
(2)
انظر رياض الصالحين 161؛ وإعلام الموقعين ج3/150
(3)
انظر سد الذرائع ص695 بتصرف
(4)
المجموع شرح المهذب ج4/363
(5)
انظر شرح المهذب ج6/262
(6)
انظر سد الذرائع ص704
والشافعي رحمه الله ذكر حديث أبي هريرة في منع الماء ليمنع به الكلأ في كتاب إحياء الموات من الأم الذي نقلناه عنه سابقا في هذا البحث قال: وهو إنما يحتمل أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى. ثم قال: فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام (1) .
قال صاحب سد الذرائع حفظه الله: "ليس في كلام الشافعي رضي الله عنه في اعتبار الذرائع أصرح من هذه العبارة غير أن اتباع الإمام رحمهم الله صرفوها عن ظاهرها بقصر معناها على ما يفضي قطعا إلى المفاسد وهو القسم المجمع على سده من الذرائع ولكن العبارة عامة وليست خاصة فإن الشافعي رحمه الله لم يقل ما كان ذريعة مستلزمة لمنع ما أحل الله لم يحل وكذا ذريعة مستلزمة لإحلال ما حرم الله بل أطلقها.
قلت: ما ذكرناه عنه رحمه الله في بيوع الآجال وما نقلناه عنه في كتاب إبطال الاستحسان من منعه من سد الذرائع يؤكد ما قاله أتباع الإمام من أنه أراد تحريم الوسائل المستلزمة وهذا القول يتفق مع ما دلت عليه نصوص الشريعة من أخذ المكلفين بظواهرهم وترك سرائرهم إلى الله تعالى طالما أن تصرفاتهم لا تصادم الشريعة في ظاهرها والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
(1) انظر الأم ج7/272؛ وانظر سد الذرائع ص704
خلاصة البحث
لقد أشرت في هذا البحث إلى أهمية سد الذرائع وحاجة الناس إليه في هذا العصر، كما بينت اتجاهات الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى ومذاهبهم نحو مسألة سد الذرائع وذكرت أن منهم من أخذ به وتوسع فيه حتى أصبح في مذهبه أصلا يعول عليه وهم المالكية ومنهم من أخذ فيه بحذر وهم الحنابلة ومنهم من أعرض عنه وهم الشافعية والحنفية ولكنهم قالوا بتحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات.
ومعنى سد الذرائع سد الطرق والوسائل حتى لا تؤدى إلى آثارها المقصودة سواء كانت محمودة أم مذمومة صالحة أم فاسدة ضارة أم نافعة.
ثم إن هناك فرقا بين الذريعة والمقدمة وبين الذريعة والوسيلة وبين الذريعة والحيلة وللذرائع قسمان فمنها ما يفضي إلى مفسدة ومنها ما يفضي إلى مصلحة ولكل منهما نوعان.
والذريعة والوسيلة عند المالكية بمعنى واحد. باعتبار أن سد الذريعة هو النظر في مآلات الأفعال وما تنتهي إليه في جملتها.
وحكم الوسيلة إلى المحرم محرمة ويجب سدها وإلى الواجب واجبة ويجب فتحها.
والذريعة مطلوبة إذا حققت مصلحة مشروعة ومرفوضة إذا حققت مفسدة والمعتبر هو النتيجة وثمرة العمل، لا القصد والنية.
وسد الذرائع حجة يحتج به وهو أصل من أصول الفقه الإسلامي أخذ بها معظم العلماء في المبدأ واختلفوا في المقدار.
ومما اتفق على العمل به:
1-
الامتناع عن سب الأصنام امتثالا لأمر الله في ذلك خشية أن يسب الله تعالى.
2-
دفع مال فداء للأسرى من المسلمين.
3-
دفع مال من المسلمين لدولة محاربة ليرفع أذاها عند العجز عن مقاومتها.
4-
دفع الرشوة لرفع الظلم إذا لم يدفع إلا بها.
5-
إعطاء المال لمن يقطعون الطريق لكف أذاهم عن السابله وذلك عند العجز عن الأخذ على أيديهم.
والأصل في سد الذرائع هو النظر إلى الصالح العم فيجب اتخاذ الذريعة لتحقيق مصلحة عامة ويمنع اتخاذ الذريعة درءا للمفاسد.
والأصول التي اعتمد عليها القائلون بسد الذرائع هي:
1-
جلب المصالح ودفع المفاسد ما أمكن إلى ذلك سبيلًا.
2-
اعتبار المآل.
3-
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
4-
تحريم الوسائل المفضية إلى ممنوع عند الشافعية وغيرهم.
5-
اعتبار الشبهات.
6-
اعتبار التهم.
7-
من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه.
8-
إذا اجتمع الحلال والحرام غلب جانب الحرام.
9-
ما حرم استعماله حرم اتخاذه وما حرم اتخاذه حرم عطاؤه.
10-
تفويت الأقل حفاظا على الأكثر.
وقد استدل القائلون بهذا الأصل بشواهد كثيرة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة رضي الله عنهم.
أولًا: أدلتهم من كتاب الله تعالى:
1-
{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
2-
3-
ثانيًا: من السنة:
1-
النهي عن الشتم للآباء والأمهات ((لعن الله من شتم والديه)) بمعنى أن يشتم الرجل أبا الرجل فيشتم أباه ويشتم أمه فيشتم أمه.
2-
تحريم الخلوة بالأجنبية.
3-
لا يرث القاتل من مال مقتوله شيئًا.
ثالثًا: فقه الصحابة:
1-
جمع الصحابة للقرآن الكريم.
2-
ترك الأرض المفتوحة عنوة في يد أصحابها وفرض الخراج عليهم.
3-
قطع شجرة بيعة الرضوان سدا لذريعة التشبه بالمشركين.
رابعًا: من فقه الأئمة الأربعة مما أجمعوا عليه وهو:
1-
توريث المطلقة ثلاثا في مرض الموت.
2-
وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثًا.
3-
قتل الجماعة بالواحد.
وقد أشرت في هذا البحث إلى بعض المسائل التي أخذ بها كل إمام من أئمة المذاهب الأربعة سدا للذريعة وفيما يلي ذكر نماذج منها.
من فقه المالكية:
منعهم العقود التي تتخذ ذريعة إلى أكل الربا كبيع الآجال وبيع المال الربوي متفاضلا والقراض بالدين وتأجيل الصداق.
ومن فقه الحنابلة:
منعهم العقود المؤدية إلى الربا كمن اشترى نسيئة ما باعه نقدا وبيع الطعام بالطعام نسيئة. ومنعهم الوصية للمخالعة في مرض الموت، ومنع العقود التي تؤدي إلى الحيل. إلى غير ذلك.
ومن فقه الحنفية:
صوم يوم الشك للمفتي سرًا، ووجوب الحداد على البائن والمتوفى عنها زوجها. وعدم إقرار المريض بدين في مرض موته لاتهامه بإبطال حق الغير.
وفي فقه الشافعية:
1-
إخفاء صلاة الجماعة للمعذورين في ترك الجمعة خشية أن يتهموا في الدين.
2-
المفطر بعذر في رمضان لا يجهر بفطره عند من لا يعلم بحاله.
3-
قضاء القاضي بعلمه قال به الشافعي لكنه كرهه بعد ما فسد القضاة سدا لذريعة الجور وإلى غير ذلك من المسائل في هذا الباب.
وهناك غلو في سد الذرائع عند المالكية مثل:
1-
كراهية صيام ست من شوال.
2-
تركهم لقراءة سورة السجدة في صلاة فجر يوم الجمعة.
3-
من تزوج امرأة في عدتها فرق بينهما إلى الأبد.
والحاصل أن إعمال سد الذرائع في هذا الزمان أصبح ضرورة مع فساد كثير من الناس وعدم الورع لدى غالبهم إلا أن الغلو في استعمال سد الذرائع فيما لا مبرر له غير مقبول.
وقد بينت أن الشافعي رحمه الله قال بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم المتوسل إليه. ومنع ما اعتمد على الظن والتخمين والتوهم ولذا كان مسلكه في عدم أخذ الناس بالتهم وإفساد تصرفاتهم بالظن مسلكًا سليمًا وصحيحًا يتفق مع ما دلت عليه نصوص الشريعة السمحة من أخذ المكلفين بظواهرهم وترك سرائرهم إلى الله تعالى. والله سبحانه أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور أحمد محمد المقري
مراجع البحث
القرآن الكريم
1-
صحيح الإمام البخاري.
2-
صحيح الإمام مسلم.
3-
سنن أبي داود.
4-
موطأ الإمام مالك.
5-
مسند الإمام أحمد.
6-
الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني.
7-
أثر الأدلة المختلف فيها.
8-
أحكام القرآن لابن العربي.
9-
اختلاف الحديث للإمام الشافعي.
10-
الاختلاف في الأدلة لمصطفى ديب البغا.
11-
الإشارات في الأصول المالكية.
12-
الأشباه والنظائر للسيوطي.
13-
الإشراف في مسائل الخلاف.
14-
أصول الفقه لأبي زهرة.
15-
إعلام الموقعين لابن القيم.
16-
الأم للإمام الشافعي.
17-
بحوث المؤتمر الرابع للفقه المالكي.
18-
بداية المجتهد لابن رشد.
19-
تاريخ الفقه للدكتور محمد يوسف موسى.
20-
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
21-
الحدود (العدد الأول من صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية) .
22-
الخراج لأبي يوسف.
23-
الرسالة للإمام الشافعي.
24-
سد الذرائع للشيخ محمد هشام البرهاني.
25-
الشرح الكبير لأحمد الدردير.
26-
شرح تنقيح الفصول للقرافي.
27-
الفتاوي لشيخ الإسلام ابن تيمية.
28-
قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام.
29-
المجموع شرح المهذب للإمام النووي.
30-
المغني لابن قدامة.
31-
المقدمات لابن رشد.
32-
الموافقات للشاطبي.
33-
الهداية شرح البداية للمرغيناني.
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة الصباحية –بإذن الله- هو سد الذرائع، وقدم فيه عدد من البحوث، والعارض هو فضيلة الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي والمقرر هو فضيلة الشيخ خليل بن محيي الدين الميس.
الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد:
هذا الموضوع الذي تقدم فيه عدد من الباحثين تناولوا هذا الجانب، ومن المعلوم أن سد الذرائع ذات شأن خطير كما هو الشأن في المباحث الفقهية. فلذلك هذه البحوث وإن تعددت وبلغ عددها هذا المقدار فإن الخلاف بينها لا يحقق خطورة ولا يتشعب، وهي مستمدة كلها من كتب علم الأصول والمصدر واحد، وكذلك هناك تشابه كبير بين هذه المباحث. فلذلك الكل اتفقوا على تعريف الذرائع وبيان الفرق بين الذريعة والمقدمة أو السبب، واتفقوا أيضا على منع الحيل الشرعية الممنوعة المؤدية إلى تقويض أحكام الشريعة والخروج على سياستها وحكمتها لأن تشريع وإباحة الحيل يناقض القول بسد الذرائع مناقضة ظاهرة، ويؤدي إلى الوقوع في الحرام أو الفساد. كذلك البحوث اتفقت في تقسيمات الذرائع، فعند الأصوليين هناك تقسيم للشاطبي، وتقسيم لابن القيم، وتقسيم للقرافي، وابن عاصم، وهذه التقسيمات وإن اختلفت في توجيهها لكن المبنى فيها واحد، ويمكن الدمج بين هذه التقسيمات والتوصل بها إلى أن الذرائع منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه كما هو واضح.
كذلك أورد السادة الباحثون أمثلة توضيحية من المذاهب على فتح الذرائع وسدها.
كذلك توصلوا إلى نتيجة طيبة وهي أن القول بسد الذرائع متفق عليه في الجملة بين المذاهب وإن كان بعضها يغالي ويكثر الأخذ بالذرائع كالمذهبين المالكي والحنبلي وبعضها يقل من هذا على تفاوت، فالحنفية لا يصرحون بالقول بسد الذرائع لكنهم يقررون العمل به أخذا بمبدأ الاستحسان. كذلك الإمام الشافعي لا يقول بسد الذرائع في الظاهر لكن يصرح في مواطن كثيرة في (الأم) وفي (الرسالة) لهذا التعبير: أن الذرائع المؤدية إلى الحرام ينبغي أن تكون حرامًا. وسبب هذا الاتفاق بين العلماء للأخذ بالذرائع في الجملة أن هناك نصوصا كثيرة في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة على منع الذرائع، لذلك اتفقت هذه المذاهب بالجملة على الأخذ بالذرائع، وأورد السادة الباحثون أمثلة توضيحية متعددة للقول بأن هذه المذاهب تأخذ بالذرائع على تفاوت في مقدار الأخذ فيما بينها. كذلك أورد السادة الباحثون على اعتبار هذه الذرائع في هذه الشريعة. وإذن هناك عمود البحث يكاد يكون متفقا عليه بين هؤلاء السادة الباحثين، ولكن أردت أن أورد بعض النماذج أو بعض العبارات التي انفرد فيها كل باحث عن غيره.
على سبيل الترتيب وإنما حسب الصدفه في البحوث التي وجدتها مرتبة عندي بحث الشيخ الطيب محمد سلامة فإنه أضاف إلى ما بحثه غيره تأصيل العلامة ابن عاشور، سد الذرائع بإرجاعه إلى قاعدة تعارض المصالح والمفاسد في هذه الشريعة موافقا في ذلك القرافي.
فضيلة الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي، قال في خلاصته بعد أن اتفق مع غيره في عمود البحث: يمكننا أن نستخدم هذا الأصل للبحث عن حلول القضايا والمشكلات الاجتماعية بشرط كون الفقيه عميق النظر، بعيد الغور، مطلعا على دقائق هذا الأصل، خبيرا بجميع نواحي القضية حتى لا يكون ذلك موجبا لهدم أساس الدين وجعل الفساد صلاحا وبالعكس، وبدون التمييز بين المصلحة والمفسدة.
الدكتور إبراهيم الدبو ركز على موقف العلماء لسد الذرائع، ثم قال: واعتبار الذرائع سدا وفتحا دليل على مرونة الشريعة الإسلامية وإنها بحق نزلت رحمة للعالمين تساير واقع الناس في كل جديد نافع.
هذه عبارات من حسن الحظ متقاربة في معناها، ودليل على أن أصل الذرائع يصلح أن يكون قاعدة اجتماعية نافعة ومهمة في الحياة الإسلامية المعاصرة.
الدكتور علي الجفال اهتم ببيان أقسام الذرائع وأمثلتها في كل مذهب، وشروط الذرائع –كما ذكرت في بحثي- وقارن بين الذرائع والحيل الفقهية ومواقف أئمة الفقه الإسلامي من الاحتجاج بسد الذرائع، وقال في الفرق بين الذريعة والحيلة:
إن الذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة والحيلة لا بد فيها من القصد، وأما الذريعة فبصرك فيها حديد وعهدك بها غير بعيد. وانتهى إلى تحريم الحيل لاستعمالها في تحليل الربا والكسب الحرام.
وفضيلة الدكتور الشيخ أحمد محمد المقري بعد أن أبان أهمية سد الذرائع وحاجة الناس إليه في هذا العصر –كما قال السادة المتحدثون ممن ذكرتهم في الطليعة- أبان أيضا اتجاهات الأئمة الأربعة ومذاهبهم في مسألة سد الذرائع وقال في النهاية: سد الذرائع حجة يحتج بها، وهو أصل من أصول الفقه الإسلامي أخذ بها معظم العلماء في المبدأ واختلفوا في المقدار. وهذه نتيجة شبه متفق عليها –كما ذكرت في المقدمة- بين الجميع.
أما فضيلة الشيخ خليل الميس فذكر كغيره في بحثه الطويل معنى الذرائع وأقسامها وأمثلتها وقارن بينها وبين الحيل الفقهية، وذكر أوجه الوفاق والخلاف بينهما، وانتهى إلى القول: إن القائلين بسد الذرائع إنما حملهم على القول به خوفهم من التلاعب على أحكام الشريعة، أو الوصول إلى العبث فيها باتخاذ ما هو حلال من حيث الظاهر والأصل وسيلة إلى ما هو ممنوع ومحرم، فقالوا بالسد للذرائع احتياطا في شرع الأمر مع أن الأمر لا يعدو أن يكون في الغالب قيام شبهة في القصد. وكأنه تأثر بكلام ابن حزم في حصر الذرائع بمواضع الاحتياط والشبهة، وهذا لا شك منتقد فالذرائع لا تقتصر على تجنب مواطن الاشتباه وإنما تشمل أمورا أخرى كبيوع الآجال، وتشمل –في الحقيقة- كل ما قويت له التهمة في اتخاذ العقد جسرا للوصول إلى الربا. فهذه النتيجة فيها شيء من القصور عن المطلوب.
الدكتور خليفة بابكر الحسن حرر محل النزاع بين العلماء كما فعلت في بحثي، وذكر موقف أئمة الفقه من الأخذ بسد الذرائع مع شواهد وتطبيقات، الأمثلة التي ذكرها غيره. وارتأى في النهاية –وهذا شيء انفرد به- أن فتح الذرائع يدخل في باب الموازنة بين المصلحة والمفسدة ورجحان المصلحة، وهو ما اتجه إليه الإمام الشاطبي ثم اقترح في آخر بحثه أن فتح الذرائع –كما فعل القرافي- لا يعدو أن يكون إيغالا في استخدام المصطلحات الفنية، وهو إيغال قد يتحمله المعنى لأن فتح الذرائع موجود في كل المسائل ويحسن إدخال بعضها في قاعدة الضرورات، بمعنى أن مسائل فتح الذرائع هي ضرورات أجازت ارتكاب المحظور. كذلك هنا أرى أن قصره قضية فتح الذرائع على الضرورات بالقيد الضيق لمعنى الضرورة، في الحقيقة لا يتفق مع المبدأ المقرر وهو فتح الذرائع، فليس كل الأمور التي تفتح فيها الذرائع تكون من باب الضرورات وإنما قد تكون الذريعة إلى المباح فتكون مباحة وليست ضرورة، وقد تكون الذريعة إلى المندوب وإلى الواجب، وقد لا ينطبق معنى الضرورة عليها.
وأما الشيخ محمد علي التسخيري فقد عني بأدلة القائلين بسد الذرائع ومناقشتها، وأغلب أدلته عقلية. ثم ذكر أدلة فتح الذرائع وركز على منع الحيل الشرعية، واعتمد في تحريم الحيل على العرف وهذا انفرد به. وانتهى إلى القول بأن سد الذرائع حتى لو تمت أدلته ليس أصلا من أصول الفقه وإن أمكن أن يشكل قاعدة مهمة عامة وهذا يتفق مع نهاية كلامي في بحثي عن الذرائع منذ أكثر من أربعين عامًا.
ثم جاء بعد ذلك فضيلة الشيخ محمد الشيباني فقد ذكر معنى الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه مثلما فعل الشيخ الطيب محمد سلامة، يعني المدرسة واحدة –مدرسة المالكية- هم يلتزمون ما عليه أئمتهم وكتبهم، في الغالب لا تكاد تجد مالكيا يخرج عن دائرة الإمام مالك، رحمه الله. فبعد أن ذكر الشيخ الشيباني أقسام الذرائع عند القرافي وابن عاصم والشاطبي وابن القيم، قال: إن الذرائع هي ثلاثة: مجمع عى اعتباره، ومجمع على إلغائه وإباحته، وقسم مختلف فيه. وأفاض كما ذكرت في بيان أمثلة الذرائع وفتحها.
خلاصة الكلام في هذا الموضوع في قضية الذرائع يتجلى فيما يأتي:
الذرائع أصل من أصول هذه الشريعة ومعمول به في الجملة نصا واجتهادا لدى الفقهاء، وسد الذرائع معناه كل ما يتوصل به إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة أو مضرة، وهذا الأصل يراد به تحريم الذريعة الممنوعة وهي الوسيلة غير الممنوعة بذاتها ولكنها متخذة جسرا إلى فعل محظور إذا قويت التهمة في أدائها إلى ذلك المآل أو الغرض أو الغاية عملا بقاعدة:"الأمور بمقاصدها".
ومن المتفق عليه بين العلماء أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان مطلقًا، وأن ما يؤدي إلى إيذاء جماعة المسلمين ممنوع كحفر الآبار في الطرقات العامة من غير ترخيص من الدولة أو الحكومة، ولا توفير الحواجز الواقية من الوقوع في هذه الآبار. كذلك مما يؤذي جماعة المسلمين إلقاء السم في الطعام والماء العام، أو بيع الأغذية الفاسدة المسممة، فهذا أيضا ضرر ينبغي منعه.
كذلك من المتفق عليه ما جاءت به النصوص في القرآن والسنة من الأمثلة الكثيرة على سد الذرائع مثل سب الأديان الأخرى والأصنام أمام أتباعها لأن هذا يحرضهم على سب الإله الحق {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ووضع الله في اليهود {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163] المد البحري كانت تأتي الأسماك فيه يوم السبت فغاظهم ذلك وهم قوم ماديون بالفطرة فكيف لا يستفيدون من هذه الأسماك التي تأتيهم بدون اصطياد في المد البحري فأقاموا حواجز على الشواطئ ثم إذا انحسر الماء بالجزر فإن الأسماك تبقى في هذه الأحواض فيأتون يوم الأحد ويأخذون الأسماك ولا يتصادمون مع مبدئهم في تحريم العمل على أنفسهم يوم السبت {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] . فهذه في الواقع نصوص –وما أكثر النصوص أيضاً- في السنة النبوية على منع الذرائع، منها: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في الأوعية ونهى عن خطبة المعتدة، ونهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، ونهى عن الخطبة على الخطبة والبيع على البيع ونهى عن هدية المديان، كل هذه من قبيل سد الذرائع، والأمثلة كثيرة موجودة في البحث.
أيضا يقتضي سد الذرائع منع الحيل الشرعية المحظورة لأن الحيلة نوعان حيلة مباحة وحيلة ممنوعة. الحيلة المباحة مثل ما فعل أهل بخارى الحنفيون الذين لا يجيزون – بحسب قواعد مذهبهم - التجارة الطويلة، فوجدوا أنه في إجارة الأشجار والكروم يحتاجون إلى الإجارة الطويلة فاحتالوا لذلك ببيع الكرم وفاء، وهو البيع الوفائي، فتوصلوا إلى الهدف من طريق هذا البيع فهذه حيلة مقبولة. أما الحيلة الممنوعة التي هاجمها ابن القيم ونحن نهاجمها وكما قلت يعبر عن من يأخذ بالحيل وهم الشافعية والحنفية يقولون:(قال أرباب الحيل) ، ويكررها في كتابه (إعلام الموقعين) ، فمثل حيلة إسقاط الزكاة قبل نهاية الحول الزكوي يأتي شخص وهو صاحب هذا المال ويهب ماله إلى فقير وقد يكون كفيفا في الغالب، فيعطيه هذا المال ثم يقول له يا شيخ فلان أنت مالك ومال هذه الصرة؟ فيقول نعم جزاك الله خيرا، فيقول له تبيعها إلي فيستردها منه في الحال بمائة درهم، فيأخذ هذه المائة درهم ويكون قد حضر له طعاما فيدفأ من هذا الطعام ويرد له المال فيتخلص من الزكاة.
هذا عبث وهذا أمر لا يقبله صغار الناس وصغار العقلاء فما بالنا بالكبار خصوصا وأن شريعتنا شريعة مثالية لا تقبل مثل هذا بحال من الأحوال.
والنهية أن الذرائع أنواع وهي: ذرائع مجمع على منعها وهي المنصوص عليها، لا خلاف في ذلك، أو المؤدية إلى المفسدة قطعًا، أو إلى المفسدة كثيرا غالبا أي بحسب غلبة الظن وتكثر الحالات، أو لأن الظن في الأحكام العملية يجري مجرى العلم أو اليقين سواء أكانت الوسيلة مباحة أو مندوبة أم واجبة. ومن المجمع عليه البيوع التي يظهر فيها القصد إلى الربا بالنص على ذلك في العقد، هذا متفق عليه إذا نص في العقد على أن القصد من هذا البيع الوصول إلى الربا هذا متفق على منعه، لكن الخلاف أن يكون العقد خاليا من هذا النص ويتواطأ خارج العقد على أن يكون هذا البيع جسرا للوصول إلى الربا، هذه كما سأبين موضع الخلاف. وهناك ذرائع مجمع على إباحتها وهي ما يؤدي إلى المفسدة نادرا كحفر البئر في ملك خاص هذا لا يضر ذلك لأن الإنسان حر التصرف في ملكه. وأما الذرائع والتي هي في الحقيقة محل الخلاف ومحط النزاع بين العلماء وهي بيوع الآجال أو بيوع العينة وأشباهها التي يظهر منها القصد إلى الربا أو الممنوع والباعث عليها خبيثًا.
جمهور العلماء لم يفرقوا بين بيوع الآجال وبيوع العينة، أما المالكية ففرقوا بينهما. بيوع الآجال هي بيع شيء بعشرة مثلا إلى أجل ثم شراء البائع ذاته هذا الشيء بثمن أقل، وهذا ممنوع لأنه يؤدي إلى الربا كثيرًا، ممنوع طبعا بتصريح عند المالكية والحنابلة، ويقصد به التوصل إلى الربا باتخاذ العقد المشروع وسيلة إلى الربا. وأما بيوع العينة عند المالكية فهي تكليف شخص بشراء شيء والالتزام بشرائه بثمن أعلى كأن يقول له: اشتر سلعة بعشرة نقدا وأنا آخذها منك باثني عشر لأجل. فبيوع العينة –كما صرح شراح خليل- تصل إلى ألف مسألة عند المالكية، وهم كما ذكر بعض الأخوة المالكية أنه فيها شيء من المغالاة. هذه البيوع ممنوعة لدى المالكية والحنابلة لأنها وسيلة للربا لما فيه من سلف جر نفعًا، وأما الحنفية فيمنعونها لأن العقد الأول لم يتم إذ لم يقبض الثمن، والبيع الثاني مبني على بيع لم يتم فيكون فاسدًا، كذلك بيع في الغالب لشيء قبل القبض فيكون أيضا فاسدا فهو ممنوع، بناء على هذه عند الحنفية استحسانًا. وأما الإمام الشافعي فيقول: العقد من حيث الظاهر جائز وصحيح لأنه اشتمل على أركانه وشرائطه. والنزعة في الفقه الشافعي تميل إلى الحكم على الأشياء هي نزعة ظاهرية، لكن الإمام الشافعي من جانب آخر قال: وأدع القصد المؤثم لله جل جلاله.
إذن من حيث الحرمة يتفق مع بقية الفقهاء على تحريم ما اتخذ جسرا إلى الربا لكن هل يصحح العقد من حيث الظاهر. ومن هنا برزت الحاجة إلى معرفة عقد زواج التحليل وبيع العنب لعاصره خمرا وبيع السلاح في الفتنة، وما شاكل ذلك. هذه العقود صحيحة في الظاهر ولكن القصد الخبيث منها يحكم الإمام الشافعي بتأثيم من كان قصده ذلك.
وأما الذرائع الملغاة إجماعا فهي مثل زراعة كروم العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر. إن أدى إلى المحرم في سوء الاستعمال، ومثل المجاورة في البيوت خشية الفاحشة، أو إطالة المباني كعصرنا الحاضر لسبب الانفجار السكاني وكثرة الناس وضيق الأماكن فوجدت هذه المباني كلها كانت في الأصل ممنوعة ثم زال المنع بسبب الظروف والحاجات الحاضرة.
والخلاصة، ضابط إباحة الذرائع شيئان: أن يكون الوقوع في المفسدة نادرًا، وأن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته. هذان ضابطان لإباحة الذريعة، كون المفسدة نادرة وكون المصلحة أرجح من المفسدة. ولا شك أن ما رجحت المصلحة فيه على المفسدة فإنه ينبغي أن يكون جائزًا. ضوابطه وشروطه ثلاثة، شرطان منها يتفقان مع إباحة الذرائع.
أولًا: أن تكون الذريعة من شأنها الإفضاء إلى المفسدة مؤدية إلى المآل قطعا أو غالبا أو كثيرًا.
ثانيًا: أن تكون المفسدة أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة، يعني عكس فتح الذرائع، وإن كانت الوسيلة مباحة كعقد البيع المقرر والمشروع وعقد الزواج وما شاكل ذلك.
ثالثًا: أن يقصد بالمباح التوصل إلى مفسدة كعقد الزواج المقصود به التحليل، وبيع العنب لعاصره خمرًا، وعقد البيع الذي قصد به التوصل إلى الربا (بيوع العينة، أو بيوع الآجال) وغير ذلك من المقاصد الخبيثة، وما أجمل ما قاله الشاطبي في هذا الصدد: دائما نحن نحكم على التصرفات باعتبار المآل أو الغاية.
فإذا كان المآل والغاية سليمين ومحققين لمصلحة فتكون الوسيلة جائزة، أما إذا كان المآل والغاية فاسدين فيهما مفسدة ومضرة فينبغي أن يمنع، وقد يلحظ الباعث السيئ والنية الخبيثة، قد يحكم على العقد ببطلانه أو فساده إذا كان هذا الباعث أو هذه النية لا تتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية. فهذه في الحقيقة ضوابط هذا المبدأ، وأكون بهذا قد وفيت بما قلت لكم، يعني لا يكون الخلاف في هذا الموضوع خلافا بعيد الأطراف وإنما هو خلاف قليل لأن المصادر واحدة والكلمات متقاربة.
هناك ثلاثة بحوث لم أتعرض لها وسأقدم ملخصا لها وهي:
بحث الشيخ مصطفى كمال التارزي يتفق مع ما ذكره الباحثون من تعريف الذريعة والوسيلة وأركان وأقسام الذرائع وأمثلة سد الذرائع وفتحها ومنع الحيل الشرعية المحظورة وأوضح الفرق بين الغلو في الدين وبين سد الذرائع وهذا مما انفرد به جزاه الله خيرًا. وأبان كالشيخ الطيب سلامة أن المالكية لا يرون فرقا ظاهرا بين الذريعة والوسيلة. وانتهى إلى أن الإمامين مالكا وأحمد قالا بسد الذريعة، وأن الإمامين الشافعي وأبا حنيفة لا يقولان بها لكن هذين الإمامين اعتبرا الذرائع وصححا العمل بها في الفروع الفقهية، وهو عند الحنفية داخل تحت قولهم بالاستحسان، وذكر أن ابن حزم أنكر سد الذرائع بناء على نزعته الظاهرية المعروفة.
الأخ الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين عرف الذرائع أيضا وذكر أقسامها وعلاقتها بالحيل وقال: إن سد الذرائع أو فتحها أمور نسبية تستخدم بحسب كل حالة على حدة، فليس هناك قاسم مشترك يمكننا من فتح الذريعة أو سدها. وانتهى إلى خاتمة تكون على حد قوله صالحة للنشر والترجمة بحول الله تعالى. وانتهى في هذه الخاتمة أن الذريعة أكثر اعتبارا عند الفقهاء، وأن بعض الفقهاء –يعني المالكية والحنابلة- جعلها مصدرا من مصادر التشريع، وبعضهم –كبقية المذاهب- جعلها قاعدة من القواعد الفقهية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ حسن الجواهري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه الميامين، البحث في هذا الأصل المهم من أصول الفقه الذي يتوقف على ثبوته أو عدم ثبوته أحكام كثيرة يعمل بها العباد، يستدعي من كل مخلص في سبيل الدين التريث والجهد للوصول إلى الحقيقة. وقد رأيت أن أطرح بعض النقاط لعلها تكون مفيدة للوصول إلى النتيجة. هنا أمثلة تسرد لقاعدة سد الذرائع وعليها دليل خاص ورد من الشارع، وهذا لا كلام لنا فيه ويصح لنا نسبته إلى الشارع والتدين به لأنه حكم شرعي دل عليه دليل قطعي من الشريعة. وأما ما كان من أمثلة قد تضرب لسد الذرائع التي تؤدي غالبا إلى الحرام ولكن الشارع لم يحرمها بنص شرعي خاص أو عام، ليكون هذا النص العام قاعدة عامة يشمل كل الذرائع التي قد تؤدي إلى الحرام، وهذا هو موضوع البحث في سد الذرائع. إذن الذي يريد أن يسد الذرائع إلى الحرام فيحرمها لا بد له من اقتناص دليل قوي حتى يتمكن أن ينسل الحرمة من الشارع، ولا يمكن أن يكتفي بالأدلة التي دلت على سد ذريعة معينة خاصة، فإن الشارع يمكنه أن يتكلم بكلام عام فيأتي بصيغة عامة تدل على تحريم كل ذريعة.
…
ثم ما دام الفقيه إذا قلنا إذا كان الفقيه شاكا في حرمة الذريعة التي قد تؤدي إلى الحرام أو يظن بحرمتها فما هو الأصل الذي يجب أن يعتمد عليه؟ هذا الذي أريد أن أركز عليه. ما دام الفقيه شاكا في حرمة الذريعة في صورة الشك التي قد تؤدي إلى الحرام أو يظن حرمتها فما هو الأصل الذي يجب أن يعتمد عليه في صورة الشك؟. بعبارة أخرى إذا ظننا بالحرمة هل يمكننا أو يحق لنا أن نسند الحرمة إلى الشارع ونتدين بها ونفتي على أختها، هل يجوز لنا في حالة الظن بالحرمة؟.
طبعا ما أراه هو عدم الجواز، ويكفي كدليل عليه من القرآن الكريم قوله تعالى حيث قال في ذم اليهود:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] ، فقد دلت هذه الآية على أن ما لم يكن إذن من الشارع في التحريم يكون إسناد الحكم إلى الشارع من الافتراء الباطل. ومن السنة أيضا توجد هناك روايات تقول حتى لو قضى الإنسان بالحق وهو لا يعلم فهو في النار. إذن إذا نسبنا حكما إلى الشارع في مورد الشك أو الظن فحتى لو كان حكمنا حقا ولكنه من دون دليل فينطبق علينا الإفتاء بغير العلم والقضاء بالحق مع عدم العلم.
بالنسبة إلى حكم العقل، العقلاء يقبحون من تكلف بالحرمة وأسندها إلى المولى إلى الشارع وهو لا يعلم بالحرمة بل ظن بها ظنًا. طبعا هذا حكم عقلي ضروري، يعني تقبيح.
الإجماع عامة يوجد على عدم جواز إدخال ما لم يعلم من الدين في الدين. إذن نسبة الحكم والحرمة إلى الشارع من دون دليل قوي وقاطع فيها شيء من الإشكال. نعم يجوز لأحد أن يقول أنا أحتاط لديني فلا أعمل، كل وسيلة قد تؤدي إلى الحرام ولرجاء إدراك الواقع، هذا احتياط، هذا شيء آخر غير نسبة الحرمة إلى الدين والتعبد بها، هذا شيء حسن، يحتاط الإنسان لدينه لرجاء إدراك الواقع من دون إدخاله في الدين وأن ينسبه إلى الشارع. طبعا بشرطين، هذا حسن وجيد بشرطين:
الشرط الأول: ألا يكون الاحتياط معارضا لاحتياط آخر. مثلًا، إذا ظن إنسان أن سفر ابنته يوقعها في الحرام فيمنعها احتياطا ولكن بشرط ألا يكون هناك احتياط آخر معارض له وهو أن سفر البنت إلى الخارج لأجل التعليم والحصول على العلم أو من أجل الشفاء من مرض معين، بشرط ألا يعارضه احتياط آخر. هذا هو الشرط الأول.
الشرط الثاني: ألا يثبت دليل على وجوب العمل على إتيان الذريعة. مثلا إذا ظننت أن هذه الذريعة تؤدي إلى الحرام لكن قام الاستصحاب على وجوبها. استصحاب هناك. فالعمل على ترك الذريعة التي قد تؤدي إلى الحرام وعدم العمل بالاستصحاب الذي يدل على الوجوب هذا يكون تجريا، تركنا الدليل وعملنا بالظن بالحرمة، وتركنا الدليل وتصير الحرمة حرمة تجري.
بهذين الشرطين يكون الاحتياط للدين حسنًا. أما إذا لم يوجد الشرط الأول بل وجدت ذريعة إلى الحرام وظننا بحرمتها أو شككنا بها ولكن وجد احتياط آخر كما قلنا في أن هذه البنت التي قد تقع في الحرام إذا سافرت، الذريعة التي تؤدي إلى الحرام يعارضها احتياط آخر وهو أهمية سفرها؛ لأن فيه تحصيل علم أو شفاء من مرض مثلًا، فالاحتياط يقتضي السفر أيضًا. وبما أن أمر هذه البنت دائر بين السفر واللاسفر وكلا الأمرين يمكن فيه الاحتياط فيمكن للولي أو لنفس هذه البنت إجراء احتياط عدم السفر ولكنه ليس بحسن. ففي صورة يكون الاحتياط حسنا وفي صورة إذا كان هناك احتياط آخر يعارض سد الذريعة يكون سد الذريعة جائزا ولكنه ليس بحسن.
إذن العمل بسد الذريعة أو فتح الذريعة إذا كان هناك ظن –طبعا صورة الظن لا في صورة القطع- بها من دون دليل على حجية هذا الظن قد تجتمع فيها جهتان لعدم الجواز. نسنده إلى الشارع، هذا شيء قد لا يكون صحيحًا، وإذا خالف أصلا من الأصول العلمية أو الأدلة الشرعية والحرمة هنا هي عبارة عن تجلي طرح الدليل لأجل الظن بالحرمة أو طرح الحجة لأجل المصير إلى غير الحجة. أما إذا كان سد الذريعة لم يخالف الأصل ولم يخالف الدليل والتزمنا بأنه حكم الله.
طبعا هذا الكلام كله فيه تخصيص. أن هذا الكلام كله مبني على ما هو التحقيق من أن الأصول لفظية كانت أو علمية مثل الاحتياط والاستصحاب والأصول اللفظية غير مقيدة بصورة عدم الظن على خلافها وهي المبنى الصحيح. هل أن هذه الأصول العملية واللفظية هل هي مبنية غير مقيدة بصورة عدم الظن على خلافها أو مقيدة بصورة عدم الظن على خلافها؟ الصحيح أنها غير مقيدة بصورة عدم الظن على خلافها، أما إذا قلنا بحجية هذه الأصول اللفظية والعملية في صورة عدم كون ظن بخلافها فلقائل أن يمنع أصالة حرمة العمل بالظن، ولكن هذا المبنى الثاني خلاف التحقيق.
بالنسبة لفتح الذرائع نفس الكلام المتقدم في فتح الذريعة في صورة الشك في الحكم الشرعي أو ظن الحكم الشرعي. نسبته إلى الشارع والتدين به مشكل لأنه تشريع محرم. وأيضا إذا كان يعارضه أصل عملي ففيه مشكلة ثانية أن العمل به فيه طرح للدليل فيكون العمل بفتح الذريعة مخالفة الأصل العملي من احتياط أو استصحاب، طرح الدليل والركون إلى اللادليل. نعم يجوز العمل بفتح الذريعة على وجه الاحتياط لرجاء إدراك الواقع وهو حسن بالشرطين المتقدمين، لا فتح الذريعة لا يكون في مقابلة احتياط آخر، أو لا يكون في قباله دليل دل على الاستصحاب مثلًا.
وشكرا لكم.
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أولا يجب علي أن أشكر باسمكم جميعا صاحب الفضيلة الدكتور وهبة الزحيلي على عرضه القيم فلقد لخص جميع الأبحاث تلخيصا حسنًا. وإنني ليس لي أي اعتراض على تلخيصه وعرضه الكريم ولكن لي اعتراض على بعض ما ورد في هذه الأبحاث. فما نقل عن ابن القيم في موضوع (أرباب الحيل) لا يقصد به الحنفية والشافعية كما يبدو للذهن أو يتبادر؛ لأن العلامة ابن القيم الزرعي –رحمه الله ورضي عنه- كان كثير التقدير والاحترام للأئمة وللمذاهب، وإنما يعترض بقوله (أرباب الحيل) يعترض على بعض المتفقهة الذين انتسبوا إلى بعض المذاهب الفقهية من المتأخرين وأدخلوا في هذه المذاهب ما ليس منها. فالحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة جميعا المتقدمون –وهذا قاسم مشترك بيننا جميعا فيما يظهر- متفقون على أن الحيل التي تؤدي إلى أمر محرم ممنوعة شرعا مهما قلنا في وصف هذا المنع، هل هو حرام أو مكروه تحريماً؟ هذا اصطلاح، وأن الحيل التي تؤدي إلى المسموح شرعا مسموحة، ودليل ذلك ما ورد في كتب الحنفية من أن رجلا –وهذا الأمر موجود في (فتح القدير) و (العناية شرح الهداية) و (البناية) و (الكفاية) وفي ابن عابدين وغيره من كتب المذهب- جاء إلى الإمام أبي يوسف –رحمه الله فقال له: يا قاضي القضاة إنني رجل مليء ووجبت علي الزكاة فاستكثرتها فأخذت هذه الزكاة التي أوجبها الله علي وجمعتها إلى مالي كله ووهبته إلى زوجتي فوهبتني إياه، فمر الحول عليهما معا وهما لا يجب عليهما الزكاة لا الزوج باعتبار أنه لم يتم حول قمري ولا الزوجة لأنها ملكته يوما واحدًا، هل سقطت عني الزكاة؟ قال:"سقطتما ولكن إلى النار".
هذا هو موقف الحنفية من الحيل الممنوعة وهذا موقف أئمتهم، يعني الطبقات الأولى من المذهب مثلا إلى الطبقة العشرين، أما إذا جاء بعد ذلك من بعض المتفقهة، جاء مثلا في بعض كتب الحنفية المتأخرة: ولو أن رجلا أحب أن يتخلص من ماء مستعمل ماذا يفعل به؟ قالوا: يعطيه لكلب أو يبيعه لشافعي. هل هذا يمثل المذهب؟ هذا كلام الشرنبلالي، هذا لا يمثل المذهب. وقال بعض الشافعية: ولو أن رجلا دخل في فرج امرأة!! هذا لا يمثل المذهب. يعني هذا كلام فاسد من أساسه فلا يجوز أن نقول قالت الشافعية كذا وقالت الحنفية كذا. هذا كلام يوجد في كل المذاهب الفقهية، كلام سخيف تافه كهذا الكلام مردود لدى العقلاء ولدى الفقهاء. وبالجملة الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة من مذاهب الجمهور فيما أحسب أيضا أن الإمامية الاثني عشرية كذلك مثل مذاهب الجمهور كلها متفقة على أمرين اثنين: أن الحيل التي تؤدي إلى الممنوع ممنوعة مهما كانت درجة المنع، هذا اصطلاح؛ لأن الحنفية، وهذا أقوله لأخي فضيلة الشيخ حسن الجواهري حينما أصر على أن
…
فقالوا: لا يجوز أن نقول عما ثبتت حرمته بالاجتهاد –يعني ومعلوم لديكم أن الاجتهاد بأغلبية الظن ليس بالنص- لا يجوز أن نقول عنه إنه حرام بل نقول عنه مكروه تحريما أو مكروه تنزيها مثلا وذلك على حسب درجة الكراهة، ولا يجوز أن نقول حرام –عند الحنفية- إلا إذا جاء النص على ذلك من كتاب أو سنة متواترة أو مشهورة أو إجماع المصلحة يجوز أن ينقض بمثله كما هو معلوم لديكم. حينئذ نرى أن دوائر المذاهب كلها تنصب في دائرة واحدة وهي: أن قضية الحيل أو قضية الذرائع ثلاثة أصناف، صنف ممنوع وصنف مسموح، وصنف مختلف فيه. وهذا القاسم المشترك موجود لدينا جميعًا، فلماذا مثلا يقال إن الحنفية والشافعية هم أرباب الحيل؟ هل رأينا أبا حنيفة على ورعه أو الشافعي أو أبا يوسف أو محمد بن الحسن أو تلامذة الإمام الشافعي كالمزني وغيره قالوا بهذه الحيل، أو سمحوا بها للناس؟ الواقع أن العلامة ابن القيم أكبر وأجل وأكثر ورعا وتحوطا لدينه وأكثر تأدبا مع العلماء الأوائل حينما قال: أرباب الحيل، ولم يقل الحنفية ولا الشافعية.
وباختصار بالنسبة لفضيلة الشيخ حسن الجواهري –حفظه الله- فإنه لم يقرأ قراءة كافية –فيما أرى- أصول المذهب الحنفي، فقضية الكراهة التحريمية أو الكراهة التنزيهية أظن أن ذلك موجود في بقية المذاهب ولكن بصيغة أخرى. الحنفية يقولون عن قضية الذرائع:(مقدمة الواجب) ، وهذا رد على بعض الباحثين من إخواني الذين قالوا إن الحنفية لا يقولون بالذرائع إلا عن طريق الاستحسان.
الواقع وتعلمون أنني من خدام الفقه الإسلامي كله لا سيما المذهب الحنفي، الذي رأيته في المذهب ودراستي المتواضعة أن المذهب الحنفي يقول بالذرائع كما تقول به المالكية تماما وكما تقول به الحنابلة ولكن يضعون له اصطلاحا آخر اسمه (مقدمة الواجب) ومن قرأ مثلا كتاب (التوضيح) لصدر الشريعة و (حاشية التلويح) للتفتازاني و (حواشي التلويح) لأن التلويح عليه حواشٍ، أو (كشف الأسرار الكبير) للبخاري شرح أصول البزدوي، يجد في طيات هذه الكتب اصطلاحا هو (مقدمة الواجب) ، لا يوجد هناك كلمة (سد الذريعة) أو (الذريعة) أو (الذرائع) قد لا يكون هذا الاصطلاح موجودا ولكنه لبه وجوهره ومعناه مقدمة الواجب لديهم.
وأرجو ألا أكون هنا مدرسا ولكن مذكرا لبعض منسياتكم، أن ما أدى إلى الواجب فهو واجب وما أدى إلى الحرام فهو حرام، وما أدى إلى المندوب فهو مندوب، وما أدى إلى المباح فهو مباح، وما أدى إلى المكروه فهو مكروه. لذلك يضعون للذريعة حكم ما توصل إليه، وهذا الفرع لا يدخل تحت قضية المكروه تحريما والحرام، هذا الفرع لا يدخل عندهم بل يبقى على الأصل لأن ما أدى إلى الحرام فهو حرام وليس مكروها تحريمًا، لأنني حين أسير في طريق حرام فإنني –قولا واحداً- أقع في الحرام من أول مرة وإلا فلماذا حرمنا عملية إسقاط الزكاة كما قال أبو يوسف؟ لماذا قال له: سقطتما ولكن إلى النار؟ لماذا؟ هل هذه العملية التي استفتي بها ذلك الرجل قاضي القضاة هذه العملية هل هي جائزة؟ هل نستطيع أن نقول مكروهة تحريما أو مكروهة تنزيهاً؟ إنها حرام، حرام؛ لأن فيها إسقاط الزكاة، ومثل ذلك ما يقوله بعض فقهاء عصرنا من أن أوراق البنكنوت (النقدية) ليست نقودا إنما هي يقولون مرة سلع ومرة إنها حوالة والواقع أنهم يقصدون أو لم يقصدوا يسقطون ركن الزكاة وهو الركن الركين في الإسلام.
فأشكر لسيادتكم صبركم علي في هذا المقال الواسع وأشكر لإخواني حسن إصغائهم وشكرًا.
الشيخ عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الهادي الأمين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، أود هنا أن أشير إلى، أولًا، شكر الباحثين الكرام على أبحاثهم وشكر العارض الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي.
فيه بعض الأمور بودي أن أنبه عليها ثم لي بعض الملاحظات. أولًا: ينبغي أن ننبه إلى أهمية قضية سد الذرائع بالنسبة لبعض القضايا الواقعة في عصرنا هذا، فإن بعض فقهاء هذا العصر وخاصة من ابتلي بالفتوى قد يتساهلون القول بالحرمة في كثير من المسائل استنادا إلى الاحتياط وسد الذريعة، فإذا سئلوا في قضية الأصل أنها جائزة لكن قد يختلط معها شيء من الحرام على وجه احتمال الضعيف أو الموهوم أو الأدرأ، استعجلوا بالحكم بالحرمة استنادا إلى سد الذريعة أو الأخذ بالاحتياط. وبعض من ابتلي بالفتوى أيضا يستند في التحريم إلى اعتبار أنها مفسدة في العرف، وهذه المفسدة قد تكون ملغاة لأن المفسدة المعتبرة بسد الذريعة هي المفسدة التي اعتبرها الشارع ضررا لا ما يراه هذا الفقيه مفسدة للعرف. هذا الاتجاه في الحقيقة نلمسه في كثير من الفتاوى المعاصرة وفي هذا تعسير وتحجير في غير محله قد يلجأ المستفتي أو الناس إلى المحظور. فالاحتياط في غير مكانه وسد الذريعة في غير محلها هو بذاته ذريعة إلى الفساد لما فيه من تعطيل المصالح وهو قاعدة (رفع الحرج) لقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . لهذا نص الشاطبي –كما ورد في بعض الأبحاث- على أن الذريعة تكون جائزة إذا كان أداؤها للفعل المحرم نادرا سواء أكانت الوسيلة مباحة أم مندوبة أو واجبة؛ لأن في منعها حرجا وتعطيلا لمصالح كثيرة.
بالنسبة للملاحظات، الملاحظة الأولى حينما أراد الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي أن يلخص أقسام الذرائع فهما من تقسيم الشاطبي قال: إن الذرائع ثلاثة أقسام، أحدها ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام باتفاق، والثاني ما يقطع بأنها لا توصل ولكن اختلطت بما يوصل، ثم قال: فكان من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل بالحرام بالغالب منها الموصل إليه.
أعتقد هذه العبارة حسب الشرح الذي سمعناه ليست مقصودة، إلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بما يغلب توصيله إلى الحرام هذا غير صحيح وليس هذا مراد الشاطبي لأن الفقهاء نصوا على أن النادر لا حكم له. وفي هذا قال الشاطبي أيضا وهذا من بحث الدكتور وهبة، يقول: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا –وسمعناه الآن- كحفر بئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه هذا مباح باق على أصله من الإذن فيه. وورد أيضا رد لهذا في بعض الأبحاث نقل عن التاج السبكي، قال: قال الشيخ الإمام يعني والده، وهذا بعد أن ذكر العبارة بأن النادر الذي قطع بأنه لا يصل إلى الحرام بالغالب الموصل إليه –قال: وهذا غلو في القول بسد الذرائع.
الملاحظة الثانية، بالنسبة لتحرير محل النزاع، وهذه القضية التي أعتقد أنها مهمة وكثير من الأبحاث أو تقريبا الأبحاث التي اطلعت عليها لم تحرر محل النزاع تحريرا واضحًا. سأختار ما ذكره الدكتور وهبة في تحرير محل النزاع الذي ورد في بحثه، يقول في تحرير محل النزاع: الترجيح، إن الموضوع المختلف فيه، وهو المباح الذي يتذرع به إلى المفسدة، أرى أنه ينبغي فيه سد الباب أمام المحتالين والمفسدين الذين يحاولون التحلل من قيود الشريعة وأحكامها، فإن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد. هذا النقل الموجود أقول إنه ينبغي أن لا نتقيد بإطلاق هذا اللفظ المباح مطلقًا، المباح الذي يتذرع به إلى المفسدة ينبغي فيه سد الباب إلى آخر العبارة. ثم قال: مذهب المالكية، وهو يريد أن يرجح مذهب المالكية. وبهذا يكون مذهب المالكية والحنابلة ويقاربهم الحنفية في هذه المسألة أسد وأحكم والعمل به أوجب وألزم. أعتقد أن مذهب المالكية في محل النزاع هذا يحتاج إلى شيء من التوضيح. فمذهب المالكية فيما يبدو من العبارات المنقولة أن الجائز أو المباح في محل النزاع ليس على إطلاقه وليس كل مباح يتذرع به إلى المفسدة يسد بابه وإنما المراد الجائز أو المباح إذا كثر قصد الناس إلى التوصل به إلى الممنوع، هذا الذي ينبغي أن يبطل ويسد بابه، وهذا ما قالوه في بيوع الآجال وهي محل النزاع، قالوا إن البيوع إن كانت على بيع جائز في الظاهر إلا أنها لما كثر قصد الناس إلى التوصل إلى ممنوع في الباطن كبيع بسلف أو سلف بمنفعة منعت قياسا على الذرائع المجمع على منعها بجامع أن الأغراض الفاسدة في كل هي الباعثة على عقدها لأنها المحصن لها. ولذلك قال القرافي: إذا لم تكن الأغراض الفاسدة هي الباعثة على العقد فلا يمنع. وأيضا قال: كل مباح أفضى إلى المفسدة غالبا أعتقد أن محل النزاع هو ما حرره الشاطبي في القسم الرابع، قال: كل فعل مأذون فيه بالأصل ولكنه طرأ عليه ما جعله يؤدي إلى المفسدة كثيرا لا غالبًا. هذا محل النزاع. وأيضا حرره بقريب منه ابن القيم حينما قال: بقي الخلاف –أي تحرير محل الخلاف- قائما في الوسيلة الموضوعة للمباح ويقصد بها التوصل إلى المفسدة وكذا بالنسبة للوسيلة الموضوعة للمباح أيضا من غير قصد التوصل بها إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. وهذا هو المعنى الخاص بالذريعة عند الأصوليين وعند الفقهاء.
وشكراً،
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كما تفضل فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي من أن حديثنا اليوم إنما هو حديث في الأصول لا في الفروع، فإني أريد أن أقصد بعض ما يتعلق بهذا المبدأ الذي تحدث به لأرتب عليه ما أريد أن أرتبه.
معلوم أن المدارس الاجتهادية بينها أصول متفق عليها، وهناك أصول مختلف فيها عبر عنها الإمام الغزالي بقوله: الأصول الموهومة. واعتبر سد الذرائع من تلك الأصول الموهومة التي لا يستند إليها، فيصبح أصل بحث موضوع سد الذرائع هو في أصل من الأصول التي يعتمدها المجتهد أو لا يعتمدها المجتهد. فهي ليست في يد كل شخص يتحدث بها ويستند إليها في إسناد الحكم ولكنه لا يجوز لشخص أن يقدم على الاعتماد على سد الذرائع إلا إذا كان مجتهدا في إحدى رتب الاجتهاد لا حافظا من حفاظ المذهب. وهذه النقطة التي أردت أن أثيرها اليوم لأن هناك أصلين قد وقع الاعتماد عليهما من أهلهما ومن غير أهلهما وهما الضرورة وسد الذرائع. فالضرورة اعتمدها كثيرون في إباحة ما حرمه الله، وسد الذرائع اعتمده كثيرون في تحريم ما أحله الله، وذلك لأنه إذا لم يكن للفقيه المشتبه الذي يستطيع به أن يلم بأطراف الشريعة إلماما يجعله مدركا إدراكا واضحا لمقاصد الشارع فإنه لا يجوز له أن يستند لا إلى هذا الأصل ولا إلى الأصل الآخر، ثم إن المنهج في البحث هذا الذي أريد وتحدثت عنه قبل، وأصل كلامي من قبل بكلامي اليوم هو أن حديثنا دائما عن الأمثلة التي أتى بها المجتهدون وأتى بها الفقهاء في كتبهم، فهذه تصلح للتدريس لتلاميذ الجامعة، فقضية الزكاة التي ذكرناها أكثر من مرة وأعدنا فيها الكلام هذه قضية كان لها مكان يوم كانت الدولة هي التي تجمع الزكاة، فكان يريد أحدهم أن يخرج من الزكاة بهذه الحيل ولكنها انتهت اليوم فمن أراد أن يخرج الزكاة أخرجها ومن لم يدفعه دينه وخوفه من الله أن يخرج الزكاة فهو لا يبحث عن أية حيلة من الحيل ولا أية طريقة من الطرق لإبطال الزكاة عليه. فلذلك القضية اليوم نحن أمام حيل كثيرة أو ذرائع كثيرة استخدمت للفساد، فهلا تتبع الباحثون ما يجري في البنوك الإسلامية؟ ما يجري في كثير من البنوك الإسلامية أن كثيرا من العقود ظاهرها صحيحة ولكنها من قبيل الذرائع الفاسدة، فهلا وقع من السادة الباحثين تتبع لبعض هذه القضايا وبيان الذرائع الصحيحة والذرائع الفاسدة، وما يقبل وما لا يقبل؟.
من الذرائع التي كان من الحق أن نذكرها هي الجمع بين العقود فالجمع بين العقود الأصل أن كل عقد على انفراد هو جائز، لكن جمع عقدين في عقد واحد، هذا وقع منعه في كثير من المذاهب وعددت العقود في قول ابن عاصم:
وجمع بيع مع شركة ومع
جعل وقراض امتنع
هذا، جمع العقود هل يعتبر ذريعة للربا والفساد أم لا؟ فهذه قضايا أساسية تعترضنا كفقهاء، والباحث الذي نظر في موضوع سد الذرائع حبذا لو أتانا بهذا
النظر الذي يصل بالأصول إلى الواقع حتى يجلي طريقة استخدام هذا الأصل في التفقه.
وفي بداية كلمتي لابد أن أذكر أنني أثني على ما قاله أخي فضيلة الشيخ عجيل النشمي فأنا معه فيما ذكره.
بقيت قضية دخلت في الواقع في كلام فضيلة الشيخ من أن الاستناد إلى (القطعي والظني) وأن الظن لا ينسب.. يا سيدي لو أردنا أن نبحث عن الأحكام المقطوع بها، بمعنى أنها استندت إلى نص مقطوع به. فإن السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام الأحاديث المقطوع بها هي قليلة، المتواتر منها قليل ثم إن النص القرآني الكريم في فهمه ونفي الاحتمالات العشر هو مما يجعل أن المقطوع به يكاد يكون قليلا جدا في ذات القرآن من حيث فهم الفقيه النص القرآني، ونحن نطلق التحريم والتحليل والجواز والكراهة والإباحة نطلق ذلك على أساس الظنون وما كلفنا إلا بالظن؛ لأن من يستطيع أن يقول إن الله –تعالى- قصد هذا قطعا 100 % هذه جراءة على الله فنحن نعتمد الظن وهذه هي الطاقة التي مكن الله منها المجتهد الذي لا يصل إلى أكثر من الظن. فلهذا أردت أن أبين إلى أن هذه القضية أن قضية الظن غير مقبولة وإلى آخره هو أننا نريد تدقيقا أكثر وأن ما كلفنا به هو الظن. وشكراً،
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أود في البداية أن أؤكد وأؤيد مقالة العلامة فضيلة الشيخ المختار السلامي بأنه كان من الواجب على هذه الأبحاث أن تبحث في القضايا المعاصرة وخاصة البنوك وتكييفها حسب هذا الأصل أو هذه القاعدة، وهو ما خلت منه الأبحاث، وكان هذا المفروض والمطلوب في التطبيقات المعاصرة؛ لأن هذه القاعدة أو هذا الأصل معلوم لدى كل من له ممارسة بعلم الأصول. هذا أولًا. ثانيًا: كما هو معروف أن علماء الأصول يعنونون هذه القاعدة بـ (سد الذرائع) حتى ظن بعض الكاتبين وبعض المؤلفين أن هذا الأصل لا يتضمن إلا السد والمنع لا الفتح، ولكن نبه على هذا الجانب أعلم المفكرين من الأصوليين على أن هذا الأصل كما يتضمن السد فهو يتضمن الفتح، وأن الوسيلة أو الذريعة تعتورها الأحكام الخمسة، تكون محرمة وتكون واجبة وتكون مندوبة وتكون مكروهة. وتكون مباحة فإذا كان الأقدمون يعنونونها بسد الذرائع وهذا العنوان الوضعي لأبرز وأهم هذه القاعدة الأصولية جلب علينا نحن الفقهاء اعتراضا وجدلا كبيرا وهو أننا لا نجيد إلا السد، وأن هذه القاعدة وقفت حائلا بين التطوير أو التحديث ومواكبة العصر، الفقه الإسلامي ومواكبة العصر. وتحدثوا بما شاؤوا حول هذا الأصل وهذه القاعدة وطعنوا فيها، ومن خلالها طعنوا على الفقه الإسلامي.
أود أن أقول: ألا يمكن إذا أردنا أن نعنون لهذه القاعدة حتى لا يلتبس الأمر ولا يظن أن المقصود هو السد والمنع فقط، أن يقال سد الذريعة وفتحها، حتى إن كثيرا من الكاتبين الفقهاء لا يتعرضون إلى هذا الموضوع إلا لسد الذريعة ولكن لا يتعرضون إلى الجانب الآخر وهو فتح الذريعة. وشكراً،
الشيخ محمد علي التسخيري:
قبل كل شيء أود أن أشكر الأستاذ الزحيلي على هذا العرض الشيق وإن اتهمني بالعقلية في المنهج فقط. في الواقع أنا كنت أتحدث عن أصول، وهذه الأصول مستنبطة من نصوص الشريعة. ربما كانت المناقشات فيها شيء من التعقيد، لذلك قد يبدو أن السير عقلي. المهم أننا يجب أن –كما قيل- نحرر محل النزاع ولا أريد أن أطيل.
التركيز كله إنما يكون على الوسيلة التي تؤدي إلى المفسدة كثيرا لكن لا غالبا ولا قطعا بحيث الوسيلة التي لا تنفك عن المفسدة. تلك التي لا تنفك عن المفسدة، أو تلك التي تؤدي بشكل عادي إلى المفسدة كحفر الآبار في الطرق ربما لا يقع فيها إنسان لكنه يؤدي إلى مفسدة بشكل طبيعي. التركيز إنما هو على الوسيلة التي تؤدي إلى المفسدة –إلى الحرام- كثيرا لكن لا غالبًا. هذه الوسيلة هل نحرمها أو تبقى على حكمها الأول من الحرام؟ حفر بئر من الحلية فهو حلال. هذا مهم جدا أن نركز عليه لأنه هو الذي سوف يؤدي إلى النتيجة.
النقطة الثانية: لم أر من الأدلة ما ينهض بقوة إلا كما أشار سماحة الشيخ الجواهري أدلة الاحتياط، (ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه) ، (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) إلى آخره. وأدلة الاحتياط لا تنهض بنفسها أدلة اجتهادية قوية على التحريم وإنما قد ترشد إلى أمور عقلانية عرفية يعمل بها المشرع بشكل جيد (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) و (من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه) .
النقطة الأخرى: المهم في الاستدلال، ما نسميه ما أدري
…
نحن هناك أحيانا المصطلحات عندما نقول: الكلي في الذمة أو الكلي في المعين يعني عندما نقول: الكلي في الذمة أو الكلي في المعين يعني الموصوف تارة يكون في الذمة وأخرى يكون في الخارج. هناك صبرة صاع منها أبيعك إياه، هذا الصاع يمكن أن ينطبق على كثيرين، أو عندما يكون في الذمة هذا الذي في الذمة طن من الحنطة يمكن أن ينطبق على هذا الطن وهذا الطن. وما ينطبق على كثيرين نسميه كلي هذه هي صيغتنا، ليس فيه مشكلة. موصوف لكن يقبل الانطباق على كثيرين. هذه هي المصطلحات. نحن عندنا في الأصول في باب التعادل يطرحون مصطلحي التعارض والتزاحم. إذا كان هناك دليلان لا يمكن أن يصدر باعتبارهما يتكاذبان نسميه باب التعارض وله شروطه، وإذا كان هناك أمران يمكن أن يصدرا لكن يتزاحمان في مقام الامتثال (أنقذ غريقًا، لا تغضب) وتوقف إنقاذ الغريق على اجتياز الأرض المغصوبة. هنا تزاحم في مقام الامتثال حل المشكلة كلها في باب التزاحم. هناك تزاحم يحدث بين المفسدة هناك وبين علية هذه الوسيلة. إذا كان هذه حلال فأسلكها. وإذا كان هذه حرام فيجب ألا أسلكها، هذا التزاحم يحل بشكل طبيعي ولدى الجميع عن طريق ملاحظة أهمية الحكمين. فأي الحكمين بنظر الشارع هو الأهم؟ يقدم الأهم على المهم. إنقاذ مؤمن غريق أهم بكثير من اجتياز أرض مغصوبة في نظر الشارع، أو عدم رد سلام مثلًا. فهنا تفتح هذه الوسيلة لتحقيق تلك الغاية. هذا مهم. المهم باب التزاحم يجب أن نلحظه.
المشكلة في كثير من المصاديق تجد مصاديق كثيرة بعضها صحيح وبعضها غير صحيح. المهم والقاعدة هو مسألة التزاحم بين الأهم والمهم. هذه نقطة هامة أيضًا. النقطة الأخرى أحيانا أنا رأيت وهذا أقوله لكم بصراحة نزاع ضخم حول أصل من أصول الفقه. مسألة المصالح المرسلة، الشيعة يرفضونها. سد الذرائع، يرفضونه، ولكن عندما تدخل المسألة تجد أن هؤلاء يرون له مجالا وهؤلاء يرون له مجالا آخر بالنسبة إلى هذا المجال يجب أن نفرق بين عمل الحاكم في سياسته الشرعية وعلم المفتي، أكثر هذه الأمثلة المطروحة في مسألة سد الذرائع هي في الواقع ضوء إرشادي لعمل الحاكم. الحاكم عندما يرى أن هذه الأطباق الصناعية أنها في الأصل محللة، النظر إلى تلفزيونات الآخرين محلل ولكن عندما يرى أنها ذريعة للوصول إلى حرام لتحقيق هجوم ثقافي على عالمنا الإسلامي يحرم كل هذا الشيء، وعندنا الآن في إيران حرمت كل هذه الأمور وجمعت كل الأطباق لأنها صارت ذريعة في نفسها محللة لكنها ذريعة للحرام. هناك فرق إذن بين عمل الحاكم وبين إفتاء المفتي ويجب أن نفرق بينهما بشكل كبير.
شيء آخر في الحيل الشرعية. الحيل الشرعية الإنسان يقع في تضاد من جهة صورة العقد جيدة، صور العمل حسب القواعد جيدة، من جهة أخرى الباطل مقصود منها، وأن المقصود ليس هذه الصورة وإنما هو باطل. ما هو المعيار في التفريق بين الصورة الصحيحة والصورة الباطلة؟ أنا –كما أشار إليه الشيخ الزحيلي- أرى أن الفهم العرفي موكول له هذا التحقيق. عندما أبيعك عشرة معجلة بعشرين مؤجلة، في الواقع العرف يرى أن هذا قرض وليس ربا. أو كما في هذه القضية قضية التخلص من الزكاة.
ولكن أحيانا لا، عمل مقصود كما هو في قضية بيع الوفاء قد يقصد منه طرف الربا ولكن أحيانا قد لا يقصد. فإذا مثلا في أثناء عملية البيع فنت العين فهي تفنى من مال المشتري، فرق بين هذا وبين الربا. الربا إذا أخذت القرض وفنى المبلغ فهو في ذمته. هذا أيضا أؤكد عليه.
النقطة الأخرى مسألة بعض الذرائع قد تحرم لكن لا من باب سد الذرائع. الآن وضع الأموال في البنوك الربوية وأموال جارية، نحرمها لا من باب أدائها إلى شيء وإنما من باب إعانتها على الظلم، في نفسها عمل إعانة على الظلم وإعانة على عمل. ولا ريب أن بعض العناوين تصدق مباشرة على الذرائع فتحرمها. هذا شيء غير سد الذرائع.
هناك بعض التوضيحات، مسألة مقدمة الواجب التي أشار إليه الشيخ الفرفور هي من أهم البحوث الأصولية، والشيخ يقول: لعلك لا تعلم هذا المصطلح، من أهم البحوث الأصولية في المدرسة الإمامية وربما طال البحث إلى ستة أشهر في مقدمة الواجب. أحببت أن أوضح هذا.
النقطة التالية سماحة الشيخ السلامي وهو أستاذنا الجليل، المقصود أن الظن ظنان هناك ظن قام عليه دليل قطعي وهناك ظن لم يقم عليه دليل قطعي. حجية الخبر الواحد قام على اعتبار الخبر الواحد دليلا قطعيا لا ريب فيه، حينئذ الخبر الواحد ينتج لي ظنا ولكن هذا الظن حجة وكل الأصوليين من الشيعة يقولون الحجية معناها ثلاثة أمور: التنجيز، يعني إذا ثبت فأنا محاسب عليه، والتعذير إذا لم أعمل وكان في الواقع غير ذلك فأنا معذور، وصحة الإسناد فصحة الإسناد الشريعة.
أما الظن الذي يرفض هو الظن الذي لم يقم عليه دليل قطعي كالظنون الاستحسانية في كثير من الأحايين، ظنون لم يقم عليها دليل قطعي، يجب أن نفصل. هذه نقطة مهمة أرجو أننا عندما نقول نرفض الظن لا نقول كل أحكامنا قطعية، لا، نقول: كل ظن قام عليه دليل قطعي، كما يقول كل ما بالعرض يجب أن ينتهي إلى هذا الذات أمام عقلي.
الظن الذي قام على اعتباره. إذن القطعي هو المهم.
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
يبدو أن هذا البحث (سد الذرائع) يحتاج كما نقول إلى فتح باب الذرائع كما ونحتاج إلى السد. ما تحصل لدينا من قراءة هذه المصادر الأصولية الصعبة مكرمة خص الله –تعالى- بها الأئمة، كل فتح له كوة لم يستطع أحد من الآخرين سدها. كوة في الاستدلال، باب في الاستدلال أمر عجب ينسجم مع عقليته من البداية إلى النهاية.
فهذا التسلسل المنطقي والمنهجي عند كل إمام يصل إلى ما يصل إليه. والحقيقة الذي تحصل لدينا أنهم اتفقوا في الحكم واختلفوا في العنوان (سد الذرائع) ، يعني ما اتفقوا على منعه اتفقوا على المنع ولكن ما الدليل؟ هذا هو الذي صار فيه خلاف.
أمر آخر: لوحظ موجة من التوافق ما بين الاستحسان وسد الذرائع. ثم ما قيل في الحيل يقال في الذرائع، وإن كانت كلمة الحيلة في الحقيقة غير مستساغة سمعًا، لذلك في عمق كتب الحنفية القديمة يقولون: كل حيلة يحتال بها الرجل لإبطال حق الغير أو لإدخال شبهة فيه فهي مكروهة –أي تحريماً- وكل حيلة يحتال بها الرجل ليتخلص بها من حرام أو يتوصل بها إلى حلال فهي حسنة. وهو معنى ما نقل عن الشعبي: لا بأس في الحيلة فيما يحل. تضرب لذلك مثلا بالزكاة وسمي حيلة. أمير –لا أدري الكوفة أم البصرة - زوج ابنيه وتبين في الصباح أن عروس كل منهما زفت إلى الآخر خطأ –وهذا شيء معروف في الفقه- فدعي الفقهاء ومنهم –كما قال وهذا موجود في كتب التراجم- أبو حنيفة قال: ما نفعل؟ فقال للأول طلق زوجتك غير المدخول بها فطلقها فتركه وقال للثاني: طلق زوجتك غير المدخول بها فطلقها، ثم عقد على كل منهما، وقالوا هذا، وصف من الحيلة. إذن المخرج من المشكلة في بعض الأمور الشفعة ونعرف حق الشفعة، وربما جارك ثقيل الدم تريد أن تسقطه من الشفعة والشفعة حق فقالوا في بعض الصور كيف يمكن أن يسقط الشفعة لا لإبطال حق مستقر ولكن لدفع ضرر؟ ما قيل في سد الذرائع يقال في الحيل تمامًا.
ثم إخواننا نرجو قبل كل شيء نحن أظن جميعا قراء للفقه مع التسليم أن هؤلاء الأئمة الذين كرمهم الله تروننا كل قضية لم يقعدوا لها تقعيدا واضحا تتيه فيها عقول الملايين من فقهاء اليوم. إذن نحن الآن أمام الحكم متفق عليه ولكن العناوين مختلفة، لا يمكن لعاقل ولا لمسلم أن يقول بحيلة لإبطال حق شرعي مستقر أو كما قيل في قضية الزكاة، نحن نتعجب كيف يمكن.. هل يقول فيها فقيه أو يرد فيها فقيه على سائل يحتال؟ لا فقيه يحتال، السائل هو الذي يحتال وليس الفقيه.
وشكرًا، والسلام عليكم.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
فضيلة الرئيس، أريد أن أتحدث عن نقاط بصفة سريعة إن شاء الله. أولًا: مسألة الذرائع اشتهر عند الناس أن الذي يقول بها هو الإمام مالك وأحمد – رحمهما الله تعالى - والحقيقة أن المذاهب كل مذهب اعتاض عن العمل بدليل بدليل آخر، فالشافعية الذين لا يقولون بسد الذرائع بالغوا لا نقول أسرفوا في العمل بالقياس وبظاهر النصوص وأهل الظاهر بالغوا في العمل بالاستصحاب، والأحناف بالغوا في الاستحسان، ولذلك لم يحتاجوا إلى سد الذرائع.
ثانيا: سد الذرائع معروف في المذاهب الأخرى، معروف عند الشافعية والأحناف، وإن كان الشائع أنهم لا يعملون به، إلا أن الخلاف في داخل مذاهبهم يدل على أنهم يعملون به، وأن أصحاب هذه المذاهب في بعض الأحيان يعملون بسد الذرائع كما يعمل به المالكية والحنابلة. مثلا الإمام أبو حنيفة –رحمه الله تعالى- يقول بجواز إيجار الدور في العراق أو في سواد العراق –حسب عبارته- للنصارى لاتخاذها كنائس بينما أصحابه يقولون بأن ذلك لا يجوز. الإمام أبو حنيفة –رحمه الله تعالى- يقول بجواز أجرة حمال الخمر كما ينص عليه الكاساني في (بدائع الصنائع)، ويقول: لأن الخمر قد يحمل لإراقته، وهذا نظر فقهي، معناه أن الحمل لا يُتَوسّل به فقط إلى الشرب وإنما يُتوسّل به إلى أشياء أخرى، فقال بجواز أخذ الأجرة عليه وصاحباه لا يقولان ذلك؛ لأن صاحباه يقولان بسد الذرائع في هذا وفي تلك، الشافعي –رحمه الله تعالى- يقول بصحة إيجار دار لمن يتخذها مثلا مثابة القمار أو حانة للخمر أو مكانا للربا، ويقول بصحة بيع العنب لمن يتخذه خمرا، بينما أصحابه لا يقولون بذلك، وذكر ابن قدامة عند كلامه على بيع العنب لمن يتخذه خمرًا.
إذن الإطلاق أن هذه المذاهب لا تقول بسد الذرائع، إنما هي تقول به في داخلها، عندما يتسرب الإنسان إلى داخل هذه المذاهب ليطلع عليها يجد أنها تقول بسد الذرائع. فالإطلاق إذن فيه تجاوز.
ثالثًا: مسألة فتح الذرائع، وكما قال بحق فضيلة الدكتور عبد الوهاب، هناك فتح الذرائع مع سدها والعلماء يقرنون بينهما.
سد الذرائع إلى المحرم
حتم كفتحها إلى المنحتم
ويعبر عنه بعض الأحيان: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذن يوجد سد ويوجد فتح، هذا أمر واضح جدًا.
رابعًا: الذين يقولون بسد الذرائع هم أيضا لا يقولون به إذا ضعفت كما أشار إليه البعض، بل هناك قواعد، عند المالكية قاعدة: (الأمر الجائز لا يترتب عليه شيء.
وكل من فعل ما يجوز له
ونشأ الهلاك مما فعل
وأتلف المال فلا يضمن ما آل له الأمر وفاقا فاعلم) ، هذه القاعدة ذكرها القرافي ونظمها صاحب القوافي ولو أنها صاحب القوام
…
الزكاة أولا لإسقاط الحج لا يجب عليه حج ولا زكاة بخلاف من استبدل ماشية بغيرها للهروب من الزكاة فإنه تجب عليه الزكاة. إذن هم يسقطون الذرائع في كثير من الحالات.
خامسًا: مسألة حرمة الوسائل: حرمة الوسائل هذا أمر يجب أن يتوقف عنده الباحثون ولم يتوقفوا عنده كثيرًا. تحريم الوسائل ليس كتحريم المقاصد، ولأجل ذلك ما حرم للوسيلة فإنه يجوز للحاجة. مثال ذلك ما يقوله العز بن عبد السلام –رحمه الله تعالى-: لا يمنعنك من زيارة أخ ما تشاهده من المناكر في الطريق، فإنك إن غيرت هذه المناكر فذلك أجر آخر وإن لم تغيرها فلا شيء عليك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالكعبة وعليها ثلاثمائة وستون صنمًا. فهو يرى أن هذه المناكر يجوز المرور بها ومجاوزتها للحاجة، وكذلك كلام ابن حجر –رحمه الله تعالى- في الفتح عند حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القعود على الطرقات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجازه لما ذكر له الحاجة ولكن وضع شروطا وضوابط، وقال: هذا يدل على أن النهي ما كان عزيمة. فهذا أمر يجب أن نتوقف عنده تحريم الوسائل يجوز للحاجة ولكن أي حاجة؟ هذا أمر يجب أيضا على الفقيه أن يوضحه.
سادسًا: هناك نقطة قد أشار إليها الإخوان، كان يجب على الباحثين أن يبحثوا في المسائل العملية، المسائل المعاصرة التي نعيشها، وهي مسائل كثيرة منها مسألة إيداع الأموال في البنوك الربوية ومنها مسألة طلب الجنسية في بلاد الكفر وهذه المسألة طرحت علينا السنة الماضية في فرنسا. نحن نعرف أن كثيرا من علمائنا كمالك –رحمه الله تعالى- الذي يرى أن السفر إلى هذه الديار التي سماها ديار حرب وإن كانت هي ديار هدنة يرى أنه من مسقطات الشهادة: فهنا الناس يتسألون هل يجوز لنا أن نطلب الجنسية بناء على ضيق أو حرج؟ يعني شخص قد يضيق ذرعا بالمقام في بلاده ولكنه حتما سيصل إلى أشياء لا تحمد عقباها فيما يتعلق بتعليم أولاده وبتربيتهم تربية إسلامية قد يجد صعوبة وحرجا فهل تجوز له الجنسية أو لا تجوز له؟ هذه المسألة من مسائل الوسائل لأننا نمنعها خوفا من ما تؤدي إليه، فيجب أن نطرح مثل هذه القضايا، التعامل مع المصارف الربوية، ووضع الأموال في هذه المصارف، ومسألة الأطباق التي تحدث عنها الشيخ التسخيري، ومسألة طلب الجنسية في بلاد الكفار، وتضمين الطبيب الذي يقوم بعمل قد يؤول إلى هلاك إذا قلنا بمسألة الضمان بالمآل. أخيرا فإن الذرائع قد لا تكون السبب –وهو مهم جداً- الوحيد في الخلاف بين العلماء في بيوع الآجال خلاف في الحقيقة يرجع إلى قاعدة أخرى وهي أن الشافعي –رحمه الله تعالى- لا يرى العمل بقول الصحابي، رأي صحابي عنده ليس حجة كافية في مذهبه الجديد. والحال أن الإمام أحمد ومالكا – رحمهما الله تعالى- يرجعان إلى قول عائشة في حديث العالية بنت أنفع في الغلام الذي باعته لزيد بن أرقم.
فالمسألة هنا ترجع إلى دليل آخر غير سد الذرائع.
وكلمة أخيرة أقول لكم جزاكم الله خيرا على وضع هذه النقطة في جدول الأعمال وأنا أقترح في كل دورة أن نخصص بندا لمسألة من مسائل الأصول، في دليل من أدلة الأصول، وأن نركز في تناولنا لهذا الدليل على المسائل العملية المعاصرة التي نعيشها فهذا أمر مهم جدًا. وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الرئيس:
بقي من أصحاب الفضيلة الراغبين في الكلام عدد كثير وتعلمون أننا كنا نجعل استراحة في وسط الجلسة الصباحية وفي هذا اليوم تجاوزناها، فما بقي إلا قليل مما كان يخصص لجلسة الاستراحة فإن رأيتم ولا سيما أنه لا بد من إعداد القرار وطباعته أن ننهي الجلسة. مناسب؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من خلال هذه المداولات يتحرر أن سد الذرائع وفتحها أصل من أصول الشريعة بتقاسيمه المعتبرة لدى علماء الشريعة وإن اختلفوا في تفاصيلها فهم يلتقون في كليتها. وأن فتحها آخية لسدها.
سد الذرائع إلى المحرم
حتم كفتحها إلى المنحتم
وإن سد الذرائع لا يقتصر على مواضع الاشتباه فقط وإنما يشمل كل ما من شأنه الوصول إلى المحرم. وأن سد الذرائع أو فتحها مربوط بشروط وبضوابط كما عرضها فضيلة العارض –جزاه الله خيراً- ولهذا فقد ترون مناسبا أن تؤلف اللجنة من أصحاب الفضيلة: العارض، والمقرر، والشيخ النزيه، والشيخ الشيباني، والشيخ العماري.
مناسب؟ وبها ترفع الجلسة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 96 /9/د9 بشأن: "سد الذرائع"
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبي ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415 هـ، الموافق1-6 إبريل 1995م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "سد الذرائع" وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
1-
سد الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحقيقته: منع المباحات التي يتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات.
2-
سد الذرائع لا يقتصر على مواضع الاشتباه والاحتياط، وإنما يشمل كل ما من شأنه التوصل به إلى الحرام.
3-
سد الذرائع يقتضي منع الحيل إلى إتيان المحظورات أو إبطال شيء من المطلوبات الشرعية، غير أن الحيلة تفترق عن الذريعة باشتراط وجود القصد في الأولى دون الثانية.
4-
والذرائع أنواع:
(الأولى) مجمع على منعها: وهي المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أو المؤدية إلى المفسدة قطعا أو كثيرا غالبًا، سواء أكانت الوسيلة مباحة أم مندوبة أم واجبة. ومن هذا النوع العقود التي يظهر منها القصد إلى الوقوع في الحرام بالنص عليه في العقد.
(والثانية) مجمع على فتحها: وهي التي ترجح فيها المصلحة على المفسدة (والثالثة) مختلف فيها: وهي التصرفات التي ظاهرها الصحة، لكن تكتنفها تهمة التوصل بها إلى باطن محظور، لكثرة قصد ذلك منها.
وضابط إباحة الذريعة: أن يكون إفضاؤها إلى المفسدة نادرًا، أو أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.
وضابط منع الذريعة: أن تكون من شأنها الإفضاء إلى المفسدة لا محالة (قطعاً) أو كثيرا أو أن تكون مفسدة الفعل أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة.