الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سد الذرائع
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
الأمين العام للمجمع العالمي لأهل البيت بإيران
بسم الله الرحمن الرحيم
سد الذرائع وفتحها
التعريف:
الذريعة هي الوسيلة: والسد: إغلاق الخلل، والفتح: رفع الموانع وفي الاصطلاح ذكر في تعريف سد الذريعة أنه (حسم مادة وسائل الفساد فيما إذا كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى مفسدة)(1) .
أما فتح الذرائع فهو (تيسير السبل إلى مصالح البشر)(2) .
في حين دعا السيد الحكيم إلى تعريف جامع للذريعة بأنها (الوسيلة المفضية إلى الأحكام الخمسة)(3) . فهي تارة تسد وأخرى تفتح باعتبار المقصد.
والأصح التفريق بين العمليتين واستعمال اللغة الفقهية فيهما فيقال:
سد الذرائع هو: تحريم الوسيلة المؤدية إلى فعل محظور.
وفتح الذرائع هو: إيجاب الوسيلة التي يتوقف عليها فعل واجب.
وهذا التفريق نافع لوجود اختلاف ما في نوعية البحث في الموردين.
(1) الموسوعة الكويتية ج24 ص276
(2)
ن. م ص 281
(3)
أصول الفقه المقارن ص 408
أقسام الذريعة:
وقد قسمها ابن القيم إلى أقسام أربعة:
1-
الوسائل الموضوعة للإفضاء إلى المفسدة كالزنا المفضي لاختلاط الأنساب.
2-
الوسائل الموضوعة للأمور المباحة ويقصد الفاعل التوسل إلى المفسدة كمن يعقد البيع ويقصد الربا كحيلة شرعية.
3-
الوسائل الموضوعة للأمور المباحة ولم يتم قصد الفساد منها إلا أنها تؤدي في الغالب إليه ومفسدتها أرجح من مصلحتها كسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم فيسبوا الله عدوا.
4-
الوسائل الموضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة إلا أن مصلحتها أرجح من مفسدتها كالنظر في المخطوبة.
ويرى أنها كلها محرمة إلا الرابع (1) .
وهناك تقسيم آخر متداول عند علماء الإمامية وهو تقسيمها (أي الذريعة) إلى ما كانت من قبيل العلة التامة وما كانت من قبيل جزء العلة أو يعبر عنها بما ينفك وما لا ينفك.
والانفكاك وعدمه يلاحظ فيه التلازم العرفي لا العقلي.
كما أن هناك تقسيمات أخرى ربما كان لها أثر في نوع الحكم عليها.
(1) إعلام الموقعين ج4 ص 147 ـ 148
موقف المذاهب:
ذهب المالكية والحنابلة إلى أن سد الذرائع من أدلة الفقه مركزين على القسم الثاني من الأقسام الماضية في حين ذكر ابن القيم أن الأقسام كلها ما عدا القسم الرابع محرمة وأنكر الحنفية والشافعية كونها من أدلة الفقه. وأما الإمامية فقد ذكر السيد الحكيم أن هذا الموضوع وإن لم يعنون بهذا العنوان لديهم لكنه يبحث عنه في بحث (الوجوب الغيري للمقدمة) وأنهم يكادون يطبقون على تبعية المقدمة في حكمها لذي المقدمة إلا أن جماعة من كبار المتأخرين منهم أنكروا تبعية حكم المقدمة لحكم ذيلها.
وسنرى فيما يلي أن هناك فرقًا بين بحوثهم وهذا البحث وعلى الأقل في سد الذرائع.
أدلة القائلين بسد الذرائع ومناقشتها:
ذهب المالكية والحنابلة إلى أن سد الذرائع هي من الأدلة الفقهية واستدلوا بما يلي:
1-
دليل الاستقراء
2-
أحاديث الاحتياط.
3-
الدليل العقلي.
أولًا: دليل الاستقراء:
وقد استعرض علماؤهم الكثير من موارد التحريم فوجدوا أنها من باب سد الذرائع إلى الحرام من قبيل تحريم النظر المقصود إلى المرأة، وتحريم الخلوة بها. وتحريم إظهارها للزينة الخفية وتحريم سفرها وحدها بعيدًا ولو لحج أو عمرة، وتحريم النظر إلى العورات، ووجوب الاستئذان عند الدخول إلى البيوت وغير ذلك مما يعلم أنها حرمت لكي يتم سد الطرق إلى الزنا وحينئذ فلو كان هناك طريق لم ينص على حكمه تم منعه عملًا بطريقة الشارع.
-المناقشة:
وقبل الدخول في المناقشة يجب التنبيه على أمر مهم وهو:
أن الحديث ينصب على المقدمات التي لا تستلزم بشكل قطعي تحقق الحرام أما إذا افترضنا الاستلزام وعدم الانفكاك ـ ولو بشكل عرفي ـ فإن فعل هذه المقدمات لا ريب في حرمته العقلية (على الأقل) فالقاء المصحف في النار مثلًا يستلزم إحراقه وإهانته وهي محرمة قطعًا (بل يعتبرها التقي السبكي خارجة عن باب سد الذرائع)(1) . وإنما عبرنا عن الحرمة بالحرمة العقلية على الأقل لنستوعب رأي القائلين بعدم تبعية حرمة المقدمة لحرمة ذي المقدمة من باب التحريم المولوي وإن كانوا يؤكدون على وجود حكم عقلي بالحرمة كالحكم العقلي بوجوب المقدمة لتحقيق ذي المقدمة كما يمكن القول بوجود اتفاق على حرمة كل ما ينتهي بشكل طبيعي وعرفي إلى الحرام إذا أدى إلى ذلك كحفر الآبار في طرق المسلمين أيضًا أما إذا لم يؤد إلى الحرام فنقول فيه أيضًا أنه لا كلام في قبحه الفاعلي باعتبار الحافر متجرئًا على الحرام وعاملًا على تحقيقه فإذا قلنا باستحقاق المتجرئ للعقاب استحقه بذلك (وهنا بحث خاص بالموضوع) .
فمصب البحث ـ كما أكد القرافي (2) بحق ـ هو ما كان أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لكنه ليس غالبًا.
(1) راجع إعلام الموقعين لابن القيم ح3 ص148
(2)
الفروق للقرافي في ج2 ص 32
وغني عن التنبيه أن الخلاف إنما يجري في غير ما ورد في الكتاب والسنة أما ما قام عليه دليل من موارد سد الذرائع فلا خلاف فيه كما في مسألة النهي عن سب آلهة المشركين لئلا يسبوا الله تعالى.
وهنا نتساءل عن المقصود بسد الذريعة وحرمة كل وسيلة يمكن أن تفضي إلى الحرام وإن كانت بنفسها مباحة كالمشي في طريق قد يؤدي إلى الحرام فهل يراد سد كل وسيلة يمكن أن تؤدي إليه وتحتمل فيها ذلك أم أن المراد هو سد خصوص الوسائل التي نقطع ـ حقيقة أو عرفًا ـ بأدائها إلى الحرام؟
فإن كان الثاني فلا خلاف في ذلك من حيث الحرمة وإن كان الكلام في عقليتها وغيريتها قائمًا. والحقيقة هي قيام تزاحم بين الحكم الأولي لذات المقدمة والقائم على الملاك المتوفر فيها والحكم الأولي لذي المقدمة (إذا كان التزاحم متصورًا بين حكم الإباحة وحكم الحرمة) وحكم ذي المقدمة تكليفي وهو مقدم في الغالب على الحكم غير التكليفي وربما كان ملاك الإباحة أكثر أهمية من ملاكات بعض الأحكام التكليفية.
أما إذا كان المراد هو الأول فهو أمر غريب.
صحيح أن الشارع قد يشتد اهتمامه بحذف مفسدة مهمة فيصب اهتمامه على سد كل الطرق التي تؤدي إليها ولو احتمالًا وحينئذ يقوم مباشرة بالتحريم كما في موضوع الزنا واختلاط المياه وضياع الأنساب حيث عمل الشارع على سد كثير من الطرق المفضية إليه على نحو الاحتمال وقد يستفيد البعض من أسلوبه أن كل طريق يؤدي إليه بنفس المستوى يجب سده ولكن هذا الأمر لا يمكن أن يشكل قاعدة عامة في كل موارد المفسدة لنقول بسد الذرائع كدليل وأصل عام، إلا أن يرشدنا الشارع إلى هذا المعنى، أو يقوم هو بسد الذرائع المفضية إلى الحرام، وكمثال لذلك نشير إلى أن الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله تعالى) يقول وهو في صدد تقدير حرمة التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة المحترمة:(ويمكن أن يستدل عليه بما سيجيء من عمومات حرمة اللهو والباطل وما دل على حرمة الفحشاء ومنافاته للعفاف المأخوذ في العدالة وفحوى ما دل على حرمة ما يوجب ـ ولو بعيدًا ـ تهيج القوة الشهوية بالنسبة إلى غير الحليلة مثل ما دل على المنع عن النظر لأنه سهم من سهام إبليس والمنع عن الخلوة بالأجنبية لأن ثالثهما الشيطان وكراهة جلوس الرجل في مكان المرأة حتى يبرد المكان ويرجحان التستر عن نساء أهل الذمة لأنهم يصفن لأزواجهن والتستر عن الصبي المميز الذي يصف ما يرى والنهي في الكتاب العزيز أن يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وعن أن يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن إلى ذلك من المحرمات والمكروهات التي يعلم منها حرمة ذكر المرأة المعينة المحترمة بما يهيج الشهوة)(1) .
(1) المكاسب للشيخ الأعظم الأنصاري ـ طبعة تبريز ص22
يقول أستاذنا الحكيم:
(على أنا لا نمنع أن يتخذ الشارع احتياطات لبعض ملاكات أحكامه التي يحرص أن لا يفوتها المكلف بحال، فيأمر وينهي عن بعض ما يفضي إليها تحقيقاَ لهذا الغرض، إلا أن ذلك لا يتخذ طابع القاعدة العامة، ولعل الكثير من الأمثلة التي ذكرها (يعني ابن القيم حيث ذكر ما يقارب المائة بين آية وحديث وجد فيها اتحاد الحكم بين الوسائل وما تفضي إليه) منصبة على هذا النوع.
ويكفينا أن لا يكون في هذه الأمثلة من التعليلات ما يصلح لأن يتمسك بعمومه أو إطلاقه لتحريم جميع المقدمات التي تقع في طريق المحرمات، مهما كان نوعها، وليس علينا إلا أن نتقيد بخصوص هذه المواقع التي ثبت فيها التحريم (1) .
نعم يمكن لأحد أن يدعي حصول اطمئنان له بطريقة الشارع في كل الموارد إلا أن إثبات ذلك في غاية الصعوبة (2) .
وقد ذكرت الموسوعة بعض ما قاله الشافعية والحنفية في رد هذه القاعدة الكلية المدعاة باعتبار أن الذرائع هي الوسائل وهي مضطربة من حيث الأحكام، ومختلفة مع المقاصد من حيث قوة المصالح والمفاسد وأضافت الموسوعة المذكورة: (وقالوا إن الشرع مبني على الحكم بالظاهر كما قد أطلع الله ورسوله على قوم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولم يجعل له أن يحكم عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا، وحكم في المتلاعنين بدرء الحد مع وجود علامة الزنا، وهو أن المرأة أتت بالولد على الوصف المكروه.
قال الشافعي: وهذا يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، فإذا أبطل الأقوى من الدلائل أبطل الأضعف من الذرائع كلها) (3)
ولعل الشافعي أراد أن يقول بأنه صحيح أن هذه الوسيلة يظهر منها أنها مقدمة للحرام ولكن هذا الظاهر لن يبرر التحريم ما لم يصل إلى مستوى القطع العرفي على الأصل.
(1) أصول الفقه المقارن ص 411
(2)
وقد يستفاد من طريقة الشارع أحيانًا ما يعد ضوءًا كاشفًا (على حد تعبير أستاذنا الصدر) يستفيد منه الحاكم الشرعي بتنظيم شئون البلاد
(3)
الموسوعة الكويتية ج 24 ص 278 نقلًا عن الأم للشافعي ج7 ص 270 قبيل باب إبطال الاستحسان من كتاب الاستحسان.
ثانيًا: دليل الاحتياط:
الدليل الثاني للقائلين بسد الذرائع وهو ما يمكن تسميته بدليل الاحتياط حيث استند القائلون فيه إلى الأدلة التي تذكر في باب وجوب الاحتياط أو حسنه من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (1) . وقوله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كان كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه)) (2) .
-المناقشة:
وأهم ما يقال فيه أنه استناد إلى دليل الأصل العملي في حيث أنه يراد هنا الاستدلال به على أصل من أصول الفقه وهو ما يسمى بالأصل الاجتهادي.
ومن المعلوم أن الأصول العملية إنما يرجع إليها لرفع الحيرة والشك عند فقدان الدليل الاجتهادي، والمفروض أن الأدلة الاجتهادية هنا قائمة على إباحة الذريعة باعتبارها هي، ولا معنى لتقديم مقتضى أصل عملي على دليل اجتهادي لأن الأصل الاجتهادي مقدم عليه رتبة ورافع لموضوعه.
على أن الاستناد لما ذكر وأشباهه ليس تامًا في إثبات أصل عملي بالاحتياط وتحريم كل شبهة تحريمية (كما يقول بذلك الإخباريون من الإمامية) والحديث في هذا المجال مفصل إلا أننا نشير إلى مجمله على النحو التالي:
(1) ورد في صحيح الترمذي (ج4 ص 668 ـ ط. الحلبي) من حديث الإمام الحسن بن علي (ع) وقاله عنه: حديث حسن صحيح.
(2)
أخرجه البخاري (الفتح ج1 ص126 الطبعة السلفية) ، ومسلم (ج3 ص 1219، ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير
فقد استند القائلون بوجود أصل شرعي يحكم الاحتياط في كل مورد مشتبه مطلقًا أو فيه شبهة تحريم إلى كثير من النصوص الشريفة نذكر منها ما يلي:
1-
قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
وقد نوقشت دلالة الآية على ذلك بأنها ربما كانت تحوي نهيا إرشاديًا إلى أن الانفاق المذكور في المقطع السابق على الآية الشريفة، يجب أن لا يكون إلى الحد الذي يوجب الإفلاس والتعرض إلى الهلاك وهو احتمال قربة المرحوم الصدر (1) . أو أنها ترشد إلى لزوم الانفاق في الجهاد وإلا تعرضت البلاد للفناء كما جاء في بعض التفاسير من قبيل تفسير الإمام الرازي (2) . ومن الواضح أن الاستدلال يبطل مع هذا الاحتمال.
ثم إننا هنا نشك في أن العمل بهذه الذريعة فيه هلكة فيكون المورد من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وهو باطل.
ثم إن النهي لو أريد به النهي عن التهلكة الأخروية لم يعد نهيًا مولويًا وإنما هو نهي إرشادي لأنه يعد من شؤون الطاعة والعصيان وهي لا تقبل جعلًا شرعياً (3) .
2-
قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] .
فيقال إن الآية الشريفة تنهى عن تقحم الشبهة وتأمر بالرد إلى الله والرسول. إلا أن من المحتمل أنها تشير إلى موارد النزاع لا الشك في الحكم، وربما كانت تركز على النزاع في الأمور العامة باعتبار وروها بعد قوله تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ثم إن الرد إلى الله يعني تحكيم شريعة الله لا الرجوع إلى الأهواء وهو أجنبي عن موردنا الاستدلالي.
(1) بحوث في علم الأصول ج2 ص83
(2)
التفسير الكبير للفخر الرازي ج5 ص 136
(3)
راجع أصول الفقه المقارن ص 469
الاستدلال ببعض الروايات الدالة على حسن الاحتياط من قبيل ما ذكر في الدليل وهناك روايات كثيرة غيرها مثل الروايات التالية:
أ - من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه (1) .
ولم تبين الرواية ماهية هذا الاستبراء.
ب - أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت (2) .
وقرينة (بما شئت) تؤكد الاستحباب.
جـ- أورع الناس من وقف عن الشبهة (3) .
ولا دلالة فيها على الوجوب.
د - من هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه (4) .
هـ- الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وتركك حديثًا لم تروه خير من روايتك حديثًا لم تحصه (5) .
ومن الواضح أن أدلة البراءة الشرعية ـ كما قلنا ـ ناهيك عن أدلة الإباحة الاجتهادية في الذرائع لا تجعل الارتكاب هنا اقتحامًا بلا دليل، فليس هنا هلكة حتى يعتبر ارتكابها كذلك.
هذا بالإضافة إلى كونها إرشادًا لحكم العقل.
و الأمور ثلاثة أمر بين لك رشده فاتبعه، وأمر بين لك غية فاجتنبه، وآخر اختلف فيه فرده إلى الله (6) .
تؤدي إلى الحرام لارتفاع نسبة احتمال الوقوع فيه مما يجعلها من حيث المجموع طريقًا طبيعيًا له وهو يجعلها من حيث المجموع محرمة على أن الحديث قد يشير إلى الذرائع التي تؤدي بشكل طبيعي إلى الحرام وهذا ما اتفقنا على حرمته باعتباره ملازمًا عرفًا للحرام ـ وهذا المعنى قد يستفاد من الحوم حول الحمى يوشك أن يواقعه بشكل طبيعي.
(1) جامع أحاديث الشيعة الباب الثامن من أبواب المقدمات ج28
(2)
جامع أحاديث الشيعة الباب الثامن من أبواب المقدمات ج30
(3)
جامع أحاديث الشيعة الباب الثامن من أبواب المقدمات ج33
(4)
جامع أحاديث الشيعة الباب السابع من أبواب المقدمات ج 33
(5)
جامع أحاديث الشيعة الباب الثامن من أبواب المقدمات ج40
(6)
جامع أحاديث الشيعة الباب الثامن من أبواب المقدمات ج 45 وهناك أحاديث تشابهه معنى من قبيل ما جاء في مقبولة عمر بن حنظلة كما عنونت في كتب الإمامية (وسائل الشيعة ج18 طبعة المكتبة الإسلامية ص 114 وقد جاء فيها (إنما الأمور الثلاثة أمر بين رشده فيتبع وأمر بين غية فيجتنب، وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم) وقربها السيد الحكيم من التواتر المعنوي (أصول الفقه المقارن ص 498) وبحثت في كتب الإمامية الأصولية بشكل واف (راجع فوائد الأصول للشيخ الأنصاري ص 209 الطبعة الحجرية، المطفوي)
ثالثًا الدليل العقلي:
وملخصه أن إباحة الوسائل إلى الشيء المحرم المفضية إليه نقض للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمة الشارع وعلمه تأبى ذلك (1) .
-المناقشة:
إن المراد بهذه الوسائل إن كانت تلك التي تستلزم الوقوع في الحرام فلا ريب في أنها مما يمنع العقل منها إلا أنه لا دليل على كونها ذات حرمة شرعية دائمًا لأن الحرمة ـ كما هو معلوم ـ تتبع توفر الملاك في نفس العمل، فإذا لم يكن في أصل الذريعة ملاك الحرمة لم يكن هناك معنى للحكم المولوي بالحرمة بل يعتمد الشارع على تحريمها العقلي باعتبارها مقدمة لازمة للحرام.
إلا أن المناقشة المهمة هي أن موضع النزاع هي تلك الموارد التي قد تؤدي إلى الحرام ولا يوجد فيها حتى الإلزام العقلي بالامتناع عنها، وليس فيها أي نقض للتحريم وإغراء للنفوس وما لم يصلنا من الشارع تحريم فهي باقية على حكمها الأصلي.
ومن هنا فنحن نعتقد أن ما يبحث عند علماء الإمامية تحت عنوان مقدمة الواجب أو مقدمة الحرام ومدى ترشح الوجوب والحرمة إلى المقدمات، لا علاقة له ببحث سد الذرائع المختلف فيه بين المذاهب الأربعة ـ كما تصور ذلك بعض أساتذتنا (2) . فمصب النزاع ليس هو المقدمات التي ثبت تحريمها بنفسها ولا تلك التي تستلزم الحرام وإنما يركز المتنازعون على تلك التي قد تؤدي إلى الحرام (كما يؤكد القرافي)(3) .
وهذا المورد ليس محلًا للنزاع عند علماء الإمامية أيضًا.
يقول الإمام الشهيد الصدر بعد تقسيمه مقدمات الحرام إلى قسمين ما لا ينفك عن الحرام وما ينفك عنه: (فالقسم الأول من المقدمات يتصف بالحرمة الغيرية دون القسم الثاني؛ لأن المطلوب في المحرمات ترك الحرام وهو يتوقف على ترك القسم الأول من المقدمات ولا يتوقف على ترك القسم الثاني)(4) .
(1) إعلام الموقعين لابن القيم ج3 ص 148
(2)
أصول الفقه المقارن ص410
(3)
الفروق ج2 ص 32
(4)
دروس في علم الأصول ـ الحلقة الثالثة ج1 ص376
ملاحظات:
الأولى: ذكر الأستاذ سلام أن (الواقع أن الفقهاء جميعًا يأخذون بأصل الذرائع مع اختلاف في مقدار الأخذ به وتباين في طريقة الوصول إلى الحكم أن المشاهد في أحكام الفروع أن أكثر الفقهاء يعطي الوسيلة ـ أي الذريعة ـ حكم الغاية إذا تعينت الوسيلة لهذه الغاية، أما إذا لم تتعين طريقًا لها فالمشهور عن الإمام مالك أنها تعتبر أصلا للأحكام، ويقرب منه في ذلك الإمام أحمد وتبعها ابن تيمية وابن القيم (1) .
والذي ينبغي أن يقال إن تعين الوسيلة للغاية لا يكسبها حكم الغاية دائمًا إلا إذا كانت الغاية غير منفكة عن الوسيلة، فلو أن طريقًا ما كان هو الطريق الوحيد للوصول إلى بيت فيه مفسدة لم يحرم السير فيه لأغراض أخرى، ثم إننا لا ندري كيف يحرم كل طريق يؤدي إلى المفسدة، ولو كان الأداء غير غالبي فضلًا عن كونه في قليل من الأحيان.
وعلى أي حال فالنص غير دقيق وتقسيم القرافي أدق منه.
الثانية: لاحظ الأستاذ الحكيم على ما قاله مالك وأحمد وابن تيمية وابن القيم من أن هذه المسألة من أصول الأحكام وعلق عليه بأن اكتشاف حكم المقدمة إما أن يتم من خلال الحكم العقلي بقاعدة الملازمة بين الحكم الشرعي ذي المقدمة والحكم الشرعي في المقدمة وحينئذ تدخل المسألة في مباحث صغريات حكم العقل.
وإما أن تستفاد هذه الملازمة من خلال الدلالة اللفظية الالتزامية لأدلة الأحكام ـ كما بني عليه البعض ـ وحينئذ يكون وجوب المقدمات مدلولًا للسنة ولا تشكل المسألة أصلًا برأسه (2) .
ولو كان هؤلاء العلماء يقصدون ذلك لكان الإشكال واردًا.
إلا أن المحتمل أنهم يريدون أن المسألة تشكل قاعدة عامة تستنبط منها الأحكام حتى وإن كانت تطبيقًا لأصول أخرى سابقة عليها.
الثالثة: قد ينطبق عنوان محرم على بعض المقدمات وإن لم تكن مستلزمة بشكل عرفي للنتيجة المحرمة فتحرم ولكن لا من باب هذا الأصل وإنما من باب انطباق العنوان المحرم عليها
…
وهذا العنوان من قبيل (الاعانة على الأثم) المنهي عنها في القرآن الكريم وقد يقع الاختلاف في موارد الانطباق.
فبيع هياكل العبادة المبتدعة كالصليب أو الصنم، وبيع آلات اللهو المخصصة للحرام وكذلك آلات القمار هي من الموارد المحرمة بلا ريب باعتبارها إعانة على الإثم بالإضافة للأدلة الخاصة الواردة فيها.
وبيع العنب على أن يعمل خمرًا والخشب على أن يعمل صنمًا وإجارة المساكين ليباع ويحرز فيها الخمر، وبيع محلات السينما على أن تعرض فيها الأفلام الخليعة، وإجارة الأماكن ليتم تعذيب المؤمنين فيها كل ذلك وأمثاله مما ينطبق عليه حتمًا عنوان الإعانة على الإثم فضلًا عن أنه أكل للمال بالباطل باعتبار أن تلك المنافع ساقطة في نظر الشارع.
وربما وقع الاختلاف في بيع العنب مثلًا دون تقييد بصنع الخمر ولكنه يحتمل أنه بفعل ذلك، أو في بيع شيء أو انضم إليه شيء آخر في عقد آخر لكان مقدمة حتمية للحرام، أو بيع سلاح ممن يظن أنه يتعامل مع العدو المحارب، أو تمرير بضاعة من خلال بعض الدوائر التابعة للظالمين مما يؤدي لأخذهم ضرائب عليها وتقوية كيانهم دون أن يقصد هذه التقوية وإنما يقصد التصدير لبلاد أخرى.
وخلاصة الأمر: إنه إذا صدقت عناوين محرمة أخرى على بعض المقدمات كانت محرمة لذلك ولكننا نبحث عن المقدمية نفسها وهل تستوجب الحرمة إذا لم تكن ملازمة أم لا؟ ونشير هنا إلى البحث القيم الذي قدمه الشيخ الأعظم الأنصاري في هذا الموضوع فليراجع (3) .
(1) المدخل للفقه الإسلامي ص 270
(2)
أصول الفقه المقارن ص415
(3)
المكاسب طبعة تبريز من ص 14 إلى 21
سد الذرائع والحيل الشرعية:
ربما اعتبر البعض أن العقد الذي يملك صورة ظاهرية مباحة ويراد منه الغرض الحرام يجب تحريمه وضعيًا من باب سد الذرائع.
وقد حرم ابن القيم فعل من يعقد النكاح قاصدًا به التحليل أو يعقد البيع قاصدًا الربا (1) .
كما حرم المالكية بيوع الآجال كمن باع سلعة إلى شهر بعشر دراهم ثم اشتراها نقدًا بخمسة قبل آخر الشهر فمالك يقول: إنه أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل توسلًا باظهار صورة البيع لذلك.
وقد خالف الشافعي في ذلك مؤكدًا على النظر على ظاهر العقد فهو لا يفسد بشيء تقدمه أو تأخر عنه.
وقد ذكرت الموسوعة أن هناك بيوعًا تصل إلى ألف مسألةاختص بها مالك وخالفه فيها الشافعي (2) فما هو الموقف في هذا المجال؟
والظاهر أن هذا الباب لا يدخل في بحثنا عن سد الذرائع وفق المقياس الذي طرحناه من قبل لأنه لا يستلزم تمامًا أو بشكل غالبي تحقيق الهدف وإن أدى إليه أحيانًا.
فإن بيع الشرط (أو ما يسمى ببيع الوفاء) مثلًا قد يكون حقيقة بيعًا يبيع فيه شخص بيتًا لآخر مشترطًا عليه إعادته عند إعادة الثمن في الوقت المحدد.
كما قد يؤدي إلى تحايل على الربا بهذه الطريقة أو فلنقل قد يؤدي إلى نفس النتائج المقصودة من الربا ولكن هل تحرم نتيجة الربا كمثل حرمة الربا؟
وهل من الممكن وضع ضابط للتمييز بين النوعين على أساس القصد مثلًا والعمل بعد ذلك بمبدأ سد الذرائع؟
(1) إعلام الموقعين ج3 ص 148
(2)
الموسوعة الكويتية ج24 ص279
وعلى أي حال، فإن الإشكال يبقى قائمًا من جهة أخرى باعتبار إمكان التحايل لتحقيق الربا وهو المسرب الطبيعي لكثير من أنماط الفساد الاجتماعي والاقتصادي، والأزمات القائمة التي نشاهدها في النظم المتعاملة به فكيف ينسجم هذا مع طرح مسألة التحايل والفرار من الربا؟ حتى في بعض النصوص الشرعية مما يوهم أن الإسلام يفتح بنفسه الباب لجريان الربا إلى المجتمع وهو ما نهى عنه بشتى أساليب النهي ولكن تحت عناوين أخرى بحيل ووسائل وأساليب التفافية تقوم بالدور المفسد نفسه دون أن تمتلك الحرمة الشديدة نفسها.
وقد عبر الإمام الخميني رحمه الله عن هذا الإشكال بقوله: (وهذه عويصة بل عقدة في قلوب كثير من المتفكرين وإشكال من غير منتحلي الإسلام على هذا الحكم، ولا بد من حلها، والتشبث بالتعبد في مثل هذه المسألة، التي أدركت العقول مفاسد تجويزها ومصالح منعها، بعيدًا عن الصواب)(1) .
وهو يعقب بالتالي على ذلك مؤكدًا أن الروايات الواردة في مجال الفرار من الربا تنصب في معظمها على الربا المعاوضي الجاري في النقود وفي المكيل والموزون حيث تؤدي الضميمة من غير الجنس إلى إخراج المعاملة من كونها تعاملًا بالمثلين، وذلك كما في رواية الحلبي لا بأس بألف درهم ودرهم بألف درهم ودينارين إذا دخل فيها ديناران أو أقل أو أكثر فلا بأس به) (2) .
(1) البيع للإمام الخميني ج2 ص408
(2)
وسائل الشيعة ـ الباب السادس من أبواب الصرف ـ ج4
ولا يرى إشكالًا في تجويزها في الربا والمعاوضي قائلًا:
وأما تجويزها في القسم الأول (المعاوضي) فلا إشكال فيه أصلًا ولا عقدة ولا عويصة لأن المثليات كسائر الأمتعة لها قيمة قد ترتفع وقد تنخفض، واشتراء من الحنطة الجيدة بمنين أو بأمنان من الشعير كاشتراء سائر الأمتعة بقيمتها السوقية، واشتراء دينار أو درهم له قيمة سوقية تساوي دينارين من غير صنفه أو درهمين كذلك ليس فيه إشكال ولا عويصة (عرفية) رأسًا، بل لعل سر تحريم الشارع المبادلة فيها ليس إلا مثلًا بمثل خارج عن فهم العقلاء، وإنما هو تعبد، فالحيلة في هذا القسم لا إشكال فيها أما ربا القرض فلم ترد في مجال التخلص منه إلا بعض الروايات وهي إما أن تكون ضعيفة من حيث السند والدلالة وإما أن تكون بصدد أراءة سبيل صحيح يحقق الغرض بتحويل هذا العقد إلى عقود صحيحة أخرى تترتب عليها أحكامها الطبيعية ولا تنتج عنها المفاسد الربوية، والأزمات الخانقة قد لا تترتب على هذه السبل التي طرحت هنا (1) .
وحتى لو افترضنا وجود روايات ما ـ كما يدعى ـ سليمة السند والدلالة فهي بالنظر العرفي المسلم مخالفة لمقتضى الكتاب والسنة القطعية المؤكدة على كونه من الظلم والفساد وإعلان الحرب ضد الله تعالى ولذلك توضع عليها علامات الاستفهام.
(1) وسائل الشيعة ج12 ص371
هذا وهناك بعض الروايات التي تمنع من التحايل على الربا.
فقد ورد في رواية يونس الشيباني قال:
قلت لأبي عبد الله (ع)(الصادق) : الرجل يبيع البيع، والبائع يعلم أنه لا يسوى والمشتري يعلم أنه لا يسوى إلا أنه يعلم أنه سيرجع فيه فيشتريه منه قال: فقال: يا يونس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قال لجابر بن عبد الله: كيف أنت إذا ظهر الجور وأورثتم الذل؟
قال: فقال له جابر: لا بقيت إلى ذلك الزمان ومتى يكون ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: إذا ظهر الربا، يا يونس وهذا الربا فإن لم تشتره مرده عليك؟ قال: قلت: نعم قال: فلا تقربنه، فلا تقربنه (1) .
ومن الواضح في هذا الحديث أن مورد البحث هو اشتراط البيع الأول بالثاني مما يعني مجرد عملية تحايل تؤدي بشكل واضح إلى الربا دون أن تترتب أية نتائج أخرى.
(1) ويراجع للتفصيل كتاب البيع ج2 ص 408
معيار التشخيص:
ومن هنا فمن الطبيعي أن نبحث عن معيار لتشخيص الموضوع المحرم المتحايل به عن غيره والمعيار الذي يطرح هنا هو العرف.
والعرف إنما يرجع إليه في ثلاثة مجالات:
الأول: ما يكشف منه الحكم الشرعي الفرعي أو حتى الأصل العام وذلك لو ثبتت هناك سيرة عرفية عامة على إجراء عقد الفضولي مثلًا أو الاستصحاب وكانت هذه السيرة ممتدة إلى عصر المعصوم مما يحقق التقرير والإمضاء له بمقتضى عدم صدور الردع المناسب له.
الثاني: تشخيص المفاهيم التي أوكلت إليه من قبل الشارع من قبيل معرفة المفاهيم التالية وبالتالي مدى انطباقها على مصاديقها:
(الإناء، الصعيد، الفقير، المسكين، الغنى، الإسراف، التبذير..) .
الثالث: ما يرجع إليه لمعرفة مرادات المتكلمين عندما يستعملون الألفاظ سواء كان المتكلم الشارع أو غيره ويرجع إليه ما هو من قبيل الدلالات الالتزامية إذا كان منشأ الدلالة عرفيًا، ويمثل له بحكم الشارع بطهارة الخمر الذي انقلب إلى خل الملازم عرفًا لطهارة الإناء، وكذلك البحث عن القرائن العرفية، وأنواع الجمع العرفي بين الدليلين المتنافيين، ويدخل هنا تشخيص مراد غير الشارع كما في أبواب الأقرارات والوصايا.
نعم هناك بعض المفاهيم التي يرى الشارع أن يتدخل فيها بنفسه لتشخيص بعض مصاديقها لغموضها على العرف أو لخشيته من اتجاه العرف إلى مصاديق أخرى، كما في الفقاع مثلًا أو الربا المعاوضي.
ولو عدنا إلى موضوعنا لرأينا أن اللازم الحصول على تأكد عرفي من عدم صدق الربا مما يستدعي رفض الحالات المشتبهة بملاحظة ما ورد من تأكيد شديد على عدم الاقتراب منه، هذا مع مراعاة أصول أخرى أكدت على مبدأ السماح والتيسير والمنن الإلهية التي لا ينبغي ردها، والتشدد مخالف لهذه المضامين كما في مسألة (التقصير في السفر) .
وحينئذ فيجب اتباع النظر العرفي الدقيق، والعرف لا يرى الفرق بين العملين أو العقدين إذا لم يتمتع أحدهما بشروط وظروف تختلف عن الأخرى.
فالتغيير اللفظي المجرد لا يخرج العقد من مصاديق الربا وصغرياته في نظر العرف أو أن يقال إن العرف يوسع من مفهوم الربا القرضي متجاوزًا به عقد القرض نفسه ليشمل كل مورد مشابه له إذا لم تختلف الشروط والنتائج فيه فتكون التوسعة في (الكبرى) .
فمحاولات من قبيل ما يلي تعد من تطويل المسافة وتعقيد الأمر فقط:
أ - وضع مال بإزاء عملية الإقراض نفسها لا في مقابل المال المقترض.
ب - بيع ثمانية دنانير مثلًا بعشرة مؤجلة.
جـ- بيع العينة مع اشتراط البيع الثاني في البيع الأول.
وقد جاء في الرواية عن علي بن جعفر عن الإمام الكاظم (ع) قال: سألته عن رجل باع ثوبًا بعشرة دراهم ثم اشتراه بخمسة دراهم أيحل؟ قال إذا لم يشترطا ورضيًا فلا بأس.
وهنا محاولات كثيرة أخرى لا يرى العرف خروجها عن الربا رغم تطويل المسافة.
أما بيوع الآجال أو بيوع الوفاء فإن الشرائط والظروف فيها تختلف من حيث الملكية والتلف والنماء وأمثال ذلك مما يضع علامات تغييرية أمام العرف تمنع من الصدق العرفي للربا عليها.
كما أنها قد تكون عقودًا مقصودة في نفسها دونما أي قصد للربا فلا يمكننا إذن إبطالها بالمعيار العرفي ولا نستطيع بعد هذا أن نستند إلى سد الذرائع لتحريمها أو إبطالها بمجرد أنها قد تؤدي إلى نفس النتيجة أو قد تستخدم غطاء لعملية ربوية، ما دامت لا تؤدي بشكل قطعي أو غالبي إلى الحرام.
فتح الذرائع:
ذكرت الموسوعة الكويتية بأن المراد به هو (تيسير السبل إلى مصالح البشر) وقال القرافي المالكي: اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي إلى الجمعة والحج والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة:
ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] ثم ذكر أمثلة من ذلك منها التوسل إلى فداء أسارى المسلمين بدفع المال للكفار - والذي هو محرم عليهم الانتفاع به بناءًا على أنهم - مخاطبون بفروع الشريعة عند المالكية وعند الإمامية أيضًا ومنها دفع المال لرجل يأكله حرامًا حتى لا يزني بامرأة (1) .
(1) الموسوعة ج24 ص 281 ـ 282 ويلاحظ هنا أن الإمامية لا يطبقون على حكم تكليف الكفار بالفروع فليراجع كتاب مستند العروة الوثقى ج5 من كتاب الصلاة ص111 حيث نجد الإمام الخوئي ينكر ذلك تبعًا لصاحب المدارك.
وقد ذكرنا في مطلع البحث أن التعريف الأفضل هو: إيجاب الوسيلة التي يتوقف عليها فعل واجب وإلا فالتعريف المذكور هنا يشمل حتى الأفعال الخارجية ويأتي هنا بحث (مقدمة الواجب) و (التزاحم) المطروح بشكل مفصل في كتب الإمامية وملخصه:
إنه لو توقف واجب على مقدمة ما فإن المقدمة بلا ريب سوف تجب عقلًا لأن نفس وجوب ذي المقدمة يحرك نحو الإتيان بمقدماته
…
وإنما وقع الخلاف في وجود وجوب شرعي (مولوي) للمقدمة بالإضافة للوجوب العقلي فيقال بوجود ملازمة بين الحكم الشرعي في ذي المقدمة والحكم الشرعي في المقدمة ويتفرع عليه القول بـ (الوجوب الغيري) أي ما وجب لغيره.
والحقيقة هي أن كل واجب تنظر فيه المصلحة فيمكن أن يكون واجبًا لغيره إلا أن المراد هنا هو أن يكون مصب الجعل الشرعي على شيء ثم يترشح الوجوب الشرعي إلى مقدماته.
وهذا الوجوب الغيري للمقدمات له خصائص منها:
أ - أنه لا يحرك نحو فعل المقدمة بشكل مستقل عن التحريك نحو ذي المقدمة.
ب - وأنه لا يستتبع ثوابًا (إلا باعتباره شروعًا في امتثال ذي المقدمة) .
جـ- وإن مخالفته ليست موضوعًا مستقلًا لاستحقاق العقاب إضافة للعقاب على ذي المقدمة؛ لأن الملاك الذي تم تفويته هو ملاك ذي المقدمة، ولذلك لا عقاب على المقدمات بالإضافة لتفويت أصل الواجب.
د- وأنه لا يتوقف على قصد القربة فهو واجب مقدمي ملاكه المقدمية لا غير إلا أن يكون قصد القربة جزءًا من المقدمة نفسها.
والملاحظ أن العلماء الذين فصلوا كثيرًا في هذا المورد تحيروا في الثمرة العملية الناتجة من القول بالوجوب الغيري للمقدمة وعدمه.
وقد ذكر الشهيد الصدر (رحمه الله تعالى) أن أفضل ما يمكن أن يقال في المورد هو أمران:
الأول: إذا أصبح واجب علة تامة لحرام (أي ذريعة لا تنفك عن النتيجة المحرمة) وكان الواجب أهم ملاكًا من الحرام، فإننا إذا قلنا بعدم وجود ملازمة (بين الحكمين الشرعيين في المقدمة وذيلها) يعود الأمر من حالات ما يسمى لديهم بالتزاحم بين ترك الحرام وفعل الواجب والعمل هنا على تقديم الأهم ملاكًا.
أما إذا قلنا بوجود الملازمة فهذا يعني أن هناك حرمة مولوية تترشح إلى الواجب فينصب حكمان على مورد واحد هو (الحرمة الغيرية المولوية والوجوب النفسي) وهذا يعني أن دليلي الوجوب والحرمة يتكاذبان ويدخل المورد في باب التعارض مما يتطلب تطبيق قواعده لا قواعد باب التزاحم (1)
(1) ويمكن أن يناقش في هذا الاستنتاج بما فرق به المرحوم الشيخ المظفر في (أصوله ج2 ص116) بين أبواب التزاحم والتعارض واجتماع الأمر والنهي حيث أكد أن العنوان المأخوذ في الخطاب الشرعي إذا كان مأخوذًا بنحو الفناء في مطلق الوجود (كما في العموم البدلي في قبال العموم الاستغراقي حيث يسع العنوان جميع مصاديقه) ولم تكن هناك مندوحة، فإنه يدخل في باب التزاحم بين التكليفين الفعليين (لأنه لا معارضة بين الدليلين في مقام الإنشاء بعد أن لم يكن الخطاب متسعًا لمصاديقه) وما نحن فيه من هذا القبيل لأن المأخوذ تكاذب في مقام الجعل والإنشاء بين خطاب (صل) النفسي وخطاب (لا تصل) الغيري الذي افترضنا أنه ترشح من خطاب (لا تغضب) بمقتضى الملازمة بين الحكمين المولويين بين حكم المقدمة وحكم ذيها إلا أنه قد يؤدي ما قاله الشهيد الصدر بأن هناك فرقًا بين التنافي في خطابي (لا تصل) و (ولا تغصب) والتنافي في خطابي (صل ولا تصل) لأنهما متنافيان بالفعل والترك، ولا مجال للتزاحم هنا. والجواب أننا نتصور التزاحم بينهما أيضًا لاختلاف الملاك فيهما فهذا يتبع الملاك النفسي للمقدمة وهذا يتبع الملاك المقدمي لها فيقدم الأهم على المهم. وعليه فالظاهر أن الثمرة العملية لا تظهر في هذا المثال لأن المقام دائمًا هو مقام التزاحم لا غير
الثاني: إذا كان الأمر على العكس فتوقف فعل الواجب كإنقاذ غريق محترم على ارتكاب حرام كتصرف بأرض مغصوبة فإن حرمة الغصب هنا تسقط لتزاحمها مع الواجب الأهم وحينئذ فإن ارتكب الغصب دون أن ينقذ الغريق، فإن لم نقل بالملازمة فقد ارتكب حرامًا، أما إذا قلنا بها فإن الوجوب الغيري يمنع من اتصاف هذه الحركة بالحرمة (1) .
وقد اختار المرحوم الصدر انكار الوجوب الغيري كحكم شرعي للمقدمات وإن سلم بوجود شوق وحب غير ناشيء من التلازم بين حب شيء وحب مقدماته (2) .
ومبنى المتأخرين من علماء الإمامية كالمرحوم السيد محسن الحكيم والمرحوم الإمام الخوئي وغيرهما انكار هذه التبعية أيضًا ـ وهو المذهب الحق.
وعليه، ومع إنكار وجود حكم شرعي للمقدمة فإن الأمر يتحول إلى نوع من التزاحم بين تنفيذ حكم المقدمة في نفسها وحكم ذي المقدمة بعد أن لم يمكن تنفيذهما معًا.
والتزاحم ـ كما هو معلوم ـ إنما يكون في مورد يصدر فيه حكمان من الشارع ولكنهما يتنافيان في مقام الامتثال إما لعدم القدرة على الجمع بينهما كما في المثال السابق أو لقيام الدليل الثالث على عدم إرادة الجمع بينهما:
وفي هذا المجال يرجع إلى مرجحات باب التزاحم.
وأهم معيار هو الأهمية المستقاة من الشريعة.
وهنا تأتي بحوث في بيان علامات ومعايير الأهمية. فيقال إن الحكم المضيق مثلًا مقدم على الحكم الموسع (كما لو تزاحم أداء الدين المستحق مع حكم الصلاة في وقتها الموسع) وإن ما ليس له البدل مقدم على ما له البدل.
(كما لو تزاحم الأمر بالوضوء مع انقاذ نفس ظامية) .
وإن ما كان أمره معينًا يقدم على ما كان مخيرًا.
(كالوفاء بالنذر فإنه يقدم على الكفارة المخيرة) .
وإن ما كان مشروطًا بالقدرة العقلية مقدم على ما كان مشروطًا بالقدرة الشرعية.
(كتقديم الوفاء بالدين على الحج) .
وهكذا.
(1) دروس في علم الأصول ـ الحلقة الثالثة ج1 ص377 ـ 378
(2)
دروس في علم الأصول ـ الحلقة الثالثة ص 383
ومن هنا نعرف أن البحث عن سد الذرائع يعود إلى البحث عن التزاحم، ففي الأمثلة التي ذكرها القرافي يتم التزاحم مثلًا بين وجوب فداء أسرى المسلمين وحرمة إعانة الكفار في الانتفاع بمال المسلمين، أو بين حرمة الإعانة على أكل المال بالباطل وحرمة الزنى، وأمثال ذلك حيث يقدم الأهم على المهم، بل يمكن القول بأن التزاحم بين وجوب ذي المقدمة وإباحة المقدمة في مورد السعي إلى الجمعة فيقدم الأهم وهو الوجوب.
أما الحسن الذي ذكره للوسائل وأنها تدخل في زيادة الثواب كما في الآية الكريمة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} [التوبة: 120] فهو في الواقع ناتج من ارتفاع صعوبة الجهاد نفسه و (أفضل الأعمال أحمزها) بلا ريب.
الخلاصة: من خلال ما تقدم نستخلص الأمور التالية:
1-
أن هناك اختلافًا حقيقيًا بين العلماء من مختلف المذاهب حول مورد النزاع وهو الذرائع التي لا تستلزم ولو بشكل عرفي تحقق الحرام.
2-
أنه قد يشتد اهتمام الشارع بنفي مفسدة ما فيعمل على سد كل الطرق التي تؤدي إليها ولو احتمالًا إلا أن ذلك لا يشكل دائمًا قاعدة عامة.
3-
إن لولي الأمر في ظل الظروف التي يشخصها أن يحرم بعض الوسائل المباحة باعتبار استغلالها للإقدام على الحرام ومن أمثلة ذلك تحريم استقبال الباث الخارجي للتلفزة الغربية المعادية للأخلاق.
4-
أن الأدلة التي ذكرها القائلون بسد الذرائع وأهمها دليل الاستقراء وأدلة الاحتياط والدليل العقلي لا يمكنها أن تنهض بقضية سد الذرائع لورود مناقشات جادة عليها.
5-
إن سد الذرائع حتى لو تمت أدلته ليس أصلًا من أصول الفقه وإن أمكن أن يشكل قاعدة مهمة عامة.
6-
إنه قد ينطبق على بعض المقدمات عنوان محرم من قبيل عنوان (الإعانة على الإثم) فتحرم لذلك لا لكونها ذريعة محتملة الإيصال إلى الحرام.
7-
إن المعيار في التفريق بين الحيل الشرعية المرفوضة ومحاولات التخلص الحقيقي من الحرام هو العرف الذي أوكل الشارع إليه تشخيص المفاهيم.
8-
عند الحديث عن فتح الذرائع هناك مجال لبحث وجوب المقدمة وبحوث التزاحم الذي يأتي عندما يتزاحم واجبان في مقام الامتثال وحينئذ يقدم الأهم على المهم.
والله الهادي إلى سواء السبيل
الشيخ محمد علي التسخيري