المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

‌سد الذرائع

إعداد

الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بالهند

بسم الله الرحمن الرحيم

سد الذرائع

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وخاتم المرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدي بهديه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.

أما بعد: إن سد الذرائع أصل عظيم تنبني عليه مسائل كثيرة في جميع الأبواب الفقهية وخاصة في القضايا المعاصرة والمشكلات الحاضرة الآن.

المجددون قد تحيلوا لتحليل الحرام بأعمال ظاهرها مباح وفي باطنها نار فعلى الفقهاء التيقظ التام لئلا توصل فتاواهم لتحليل الحرام الصراح، فعلينا أن ندرس هذا الأصل الفقهي العظيم سد الذرائع دراسة عميقة ولا نستعمله للتضييق على الناس فيما رخص فيه الشرع ولا نأذن للإباحيين أن يبيحوا كل حرام.

قد درسنا في هذا البحث سد الذرائع لغة واصطلاحًا وفيما يجب فيه سد الذرائع وما هي العلاقة بين سد الذرائع والحيل وغير ذلك وإليكم التفصيل:

تعريف الذريعة لغة واصطلاحًا:

الذريعة من ذرع وهذه المادة تنبئ عن الامتداد والحركة ومنه الذارع ما بين طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى وذرع الرجل: رفع ذراعيه منذرًا أو مبشرًا قال:

تؤمل انفال الخميس وقد رأت سوابق خيل لم يذرع لديرها

وأذرع في الكلام وتذرع أكثر وأفرط، والذرع الطويل اللسان بالشر وذرع الرجل في سياحته تذريعًا: اتسع ومد ذراعيه والتذريع في المشي تحريك الذراعين

ص: 1427

والذريعة: الوسيلة وقد تذرع فلان بذريعة أي توسل والجمع الذرائع، والذريعة مثل الدريئة جمل يختل به الصيد، يمشي الصياد إلى جنبه، فيستتر به، ويرمي الصيد إذا أمكنه، وذاك الجمل يسيب أولا مع الوحش حتى تألفه،

والذريعة السبب إلى الفيء، وأصله من ذلك الجمل يقال: فلان ذريعتي إليك، أي سببي ووصلتي الذي أتسبب إليك

قال ابن الأعرابي سمي هذا البعير الدريئة والذريعة ثم جعلت الذريعة مثلًا لكل شيء أدنى من شيء وقرب منه وأنشد،

وللمنية أسباب تقربها كما تقرب للوحشية الدرع

وفي نوادر الأعراب: أنت ذرعت بيننا هذا وأنت سجلته يريد سببته.

وكذلك الذريعة استعملت بمعنى الحلقة، يتعلم عليها الرمي أو الطعن مثل الدريئة (1) .

(1) لسان العرب لابن منظور 3/ 1698

ص: 1428

والحاصل: أن لفظ الذريعة لغة عامة في كل ما يقرب الشيء إلى الشيء ويكون سببًا للحصول على آخر، وفيه الامتداد والتحرك، والمشيء إلى القدام، واستعمالاتها اللغوية عامة في الأشياء المادية وغيرها، وأيضًا الأمر الدقيق فيه الذي يقربها إلى المعنى الاصطلاحي الخاص وهو التستر ونوع من الختل، كان الشخص الذي يجعل شيئًا ذريعة لأن يصل إلى شيء آخر، الذي هو المقصود الأصلي له، فيستر جنب هذا الشيء، الذي جعله ذريعة كما أن الصائد يجعل الجمل للصيد سترًا له، ويريد أن يصل إلى الصيد الوحشي.

فإطلاق لفظ الذريعة تحتاج إلى ثلاثة أمور:

الأول: هو الذي يفضي إلى المقصود.

والثاني: الأمر الذي هو المقصود.

والثالث: علاقة السببية بين الأمرين.

والسد لغة: الجبل الحاجز، قال تعالى:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف: 93] .

وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9] قال الزجاج: هؤلاء جماعة من الكفار أرادوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءًا فحال الله بينهم وبين ذلك وسد عليهم الطريق الذي سلكوه فجعلوا بمنزلة من علت يده وسد طريقة من بين يديه ومن خلفه (1) .

فالحاصل: أن السد هو الإغلاق، وسد الطرق، ومعنى سد الذريعة هو المنع عن أمر يكون سببًا لحصول أمر آخر، ويقابله في فتح الذريعة، ومعناه فتح الطريق لحصول المقصود، فالمراد به إذن عمل يكون سببًا لحصول أمر آخر.

(1) لسان العرب ص 1979 وما بعدها

ص: 1429

الذريعة في اصطلاح الأصوليين:

كما ظهر مما مر في المعنى اللغوي للذريعة أن الذريعة هي الوسيلة إلى الشيء قال صاحب تهذيب الفروق.

(الذريعة بالذال المعجمة الوسيلة إلى شيء وأصلها عند العرب ما تألفه الناقة الشاردة من الحيوان، لتضبط به ثم نقلت إلى البيع الجائز صورة المتحيل به على ما لا يجوز، وهو السلف الجار نفعًا، وكذا غير البيع على وجه التحيل به على ما لا يجوز من كل شيء كأنه وسيلة لشيء)(1) .

وقد قال الشاطبي: إن حقيقة الذريعة التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة (2) .

وقال ابن رشد في كتاب المقدمات: إن الذرائع هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها إلى فعل المحظور، ومن ذلك البيوع التي ظاهرها الصحة، ويتوصل بها إلى إباحة الربا) (3) .

وقال ابن القيم الجوزية: لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في صحتها والإذن بها بحسب إفضاؤها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له ومنعًا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم وإغراء للنفوس به.

وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضًا ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء، إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال، ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم، بأن حرمها ونهى عنها. والذريعة: ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء (4) .

(1) تهذيب الفروق 3/274

(2)

الموافقات للشاطبي 4/ 199

(3)

المقدمات كتاب البيوع 2/ 524

(4)

إعلام الموقعين لابن القيم الجوزية 2/ 147

ص: 1430

ويبدو بعد إمعان النظر في التعريفات التي ذكرها الأصوليون أن الذريعة لها إطلاقان.

الأول: الإطلاق العام وهو كل ما كان وسيلة من خير أو شر يفضي إلى ما قصد من شر أو خير.

والثاني: كل خير ومباح يكون سببًا ووسيلة للشر وهذه حقيقة عرفية كما قال صاحب تهذيب الفروق.

وبناء على الإطلاق الأول: إذا كانت الذريعة خيرًا يفضي إلى شر فيجب سدها، وإذا كانت شرًا يفضي إلى خير يجب فتحها، وأما بناء على الثاني: فكل خير مباح إذا كان ذريعة لشر أو محرم يجب سدها، وهذا سد الذرائع.

فالحاصل أن الذريعة في اصطلاح علماء الأصول: كل قول أو عمل يكون مباحًا في نفسه، ولكنه يفضي إلى معصية ومحظور شرعي، كالبيع فإنه مباح في نفسه ولكن الاشتغال به عند أذان الجمعة يكون سببًا للمنع عن السعي إلى المسجد وذلك ما أمر به الله تعالى.

والسد معناه: المنع والإغلاق، فمعنى سد الذرائع هو المنع عن كل قول وعمل هو مباح في الأصل، ولكنه يؤدي إلى أمر محرم واعلم: أنه حكى في تهذيب الفروق عن الإمام ابن العربي: قاعدة الذريعة التي يجب سدها شرعًا، هو ما يؤدي من الأفعال المباحة إلى محظور منصوص عليه، لا مطلق محظوراً (1) .

(1) تهذيب الفروق 2/44

ص: 1431

أقسام الذرائع:

قسم الإمام الشاطبي: الذرائع إلى أربعة أقسام:

الأول: الذرائع التي تفضي إلى المفسدة قطعًا كحفر البئر على باب أحد أو على طريق في ظلام الليل بحيث يقع فيه الخارج من البيت حتما،

الثاني: الذرائع التي تؤدي إلى المفسدة نادرًا، كحفر البئر في مكان لا يكون طريقًا عامًا، ولا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه ولكن قد يقع فيه من لا يدري ذلك عند المرور به في الظلام.

الثالث: الذرائع التي توصل إلى المفسدة غالبًا بحيث يغلب الظن إفضاؤه إلى الفساد كبيع الأسلحة في أيام الحرب مع الأعداء؛ لأن الظن الغالب أنها ستستعمل ضد المسلمين، أو كبيع العنب لمن يتخذه خمرًا لأن الغالب أنه يصنع منه الخمر.

الرابع: الذرائع التي ربما تسبب المفسدة ولكن لا غالبًا ولا نادرًا نحو بعض أنواع البيوع التي قد تفضي إلى الربا، ولكنها لا تكثر ولا تندر (1) .

(1) انظر الموافقات 2/ 32

ص: 1432

حكم الذرائع:

قد أجمع الفقهاء على النوع الأول، وهو الذي يكون إفضاؤه إلى الفساد قطعيًا عادة بأنه ممنوع، وعن هذا القسم قال الإمام القرافي في كتاب الفروق:

(بل الذرائع ثلاثة أقسام: قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه وحسمه كحفر الآبار في طرق المسلمين فإنه وسيلة إهلاكهم فيها، وكذلك إلقاء السم في أطعمتهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى عند سبها)(1) .

أما النوع الثاني: وهو الذي يكون أداؤه إلى الفساد نادرًا فلا يحكم بمنعه، يقول القرافي:

وقسم أجمعت الأمة على عدم منعه، وأنه ذريعة لا تسد، ووسيلة لا تحسم، كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر فإنه لم يقل به أحد وكالمجاورة في البيوت خشية الزنا (2) .

أما النوع الثالث: وهو ما يغلب على الظن كونه موجبًا للفساد فقد ذهب العلماء إلى حظره ومنعه كالنوع الأول؛ لأن الشرع يقيم الظن الغالب في محل العلم واليقين في عامة الأحوال، وكثيرًا ما نرى أن ارتكاب مثل تلك الذرائع يوجب ارتكاب الممنوعات، وادعى القرافي الإجماع على منع هذا النوع مثل النوع الأول، فيقول:

(وما يغلب على الظن إفضاؤه إلى المفسدة أن هذا القسم قد أجمع على سده، كالمنع من حفر الآبار في طرق المسلمين إذا علم وقوعهم فيها أو ظن، وإلقاء السم في أطعمتهم إذا علم أو ظن أنهم يأكلونها فيهلكون)(3) .

ولكن العلامة ابن القيم أنكر الإجماع على منع هذا النوع في كتابه إعلام الموقعين، وحكى فيه خلاف العلماء قائلًا: إن بعض الشافعية وابن حزم روي عنهم الخلاف في هذا الصدد (4) .

أما النوع الرابع: وهو الذي لا يؤدي إلى المفسدة لا غالبًا ولا نادرًا، ولكن ربما يفضي إليها واختلف وجهات العلماء في حكم هذا النوع من المنع والجواز، فذهب الإمام أبو حنيفة والشافعي وابن حزم إلى عدم منع هذا القسم، وذلك لأن الفساد ليس غالبًا في هذه الصورة، والاعتبار للغالب ويستنتج من ذلك أن العقود والأعمال التي لا تؤدي إلى الفساد غالبًا لا تكون محظورة.

وأما الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل فإنهما يمنعان الذرائع في تلك الصورة كذلك، ويقولان إن ذلك الفعل ربما لا يبقى على إباحته الأصلية، لكونه موجبًا للفساد في كثير من الأحوال ونجد لذلك نظائر وشواهد كثيرة في الشرع مثلًا: الخلو بالمرأة الأجنبية، وسفر المرأة مع الرجل الأجنبي، فإن خوف الفتنة في هاتين الصورتين ليس غالبًا ولا نادرًا، فربما تقع الفتنة وربما لا تقع، ولكن الشرع الإسلامي قد منع من ذلك أيضًا فعلم من ذلك أنه يجب سد هذا النوع من الذرائع كذلك.

(1) الفروق 2: 32

(2)

الفروق 2/ 32

(3)

الفروق 3/ 266

(4)

إعلام الموقعين 3/ 136

ص: 1433

نظائر سد الذرائع في الأحكام الشرعية:

وبعد ما ذكرنا تعريف الذرائع وأنواعها وأحكامها يبدو من المناسب أن نذكر عدة نظائر كذلك، التي روعيت فيها تلك الأصول

1-

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .

فظاهر أن الآلهة الباطلة باطلة في الواقع، وسبهم ليس من الشر في ذاته، إلا أن سب المشركين الله كرد الفعل لذلك هو أعظم خطيئة ولذلك سد القرآن الكريم هذه الذريعة التي يتوصل بها إلى الشر.

2-

قد ورد النهي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، والغرض من ذلك هو المنع من المشابهة مع الكفار، وهذه المشابهة تتحقق بالسجود في تلك الأوقات.

وكذلك ورد النهي في الحديث الشريف عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها في النكاح لأنه يوجب قطع صلة الأرحام.

وكذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدائن عن قبول هدية المدين؛ لأن ذلك ربما يحدث الميل في نفس الدائن إلى الانتفاع بالدين.

3-

نهى الخليفة الثاني سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه عن الصلاة عند الشجرة التي انعقدت بيعة الرضوان تحتها، بل إنه قام بقطعها عندما خاف من أن هذا العمل المباح قد يدفع الناس إلى العودة إلى نزعة عبادة الأصنام القديمة، فقال رضي الله عنه حين رأي الناس يأتون إليها، ويصلون عندها، أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى، ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف، كما يقتل المرتد، ثم أمر بقطعها.

4-

إيقاع الطلاق يخرج المرأة من النكاح، وإذا خرجت المرأة من النكاح لا ترث زوجها، فإيقاع الطلاق في مرض الموت ينتج حرمان المرأة من الميراث وقام الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بتوريث زوجة عبد الرحمن في مرض وفاته، بالرغم من أن عدتها كانت قد انقضت وقد أجاب عمر رضي الله عنه عندما سأله القاضي شريح عن رجل طلق امرأته ثلاثًا وهو مريض، بأن المرأة تستحق الإرث ما دامت في العدة، ومن الظاهر أن الطلاق الذي جعله الشرع مباحًا يوجب التحريم من الإرث، فالمطلق وإن لم يقصد ذلك، ولكنه يتهم به لإقدامه على الطلاق في تلك الحال ولذلك أزيل أثر هذا الطلاق في باب الوراثة، وذلك سد للذريعة.

ص: 1434

الفرق بين الذريعة والسبب:

السبب كل شيء يتوصل به إلى غيره ومعناه الحبل أيضًا قال أبو عبيدة: السبب كل حبل حدرته من فوق وقال خالد بن جنب: السبب من الحبال القوي الطويل قال: ولا يدعى الحبل سببًا حتى يصعد به وينحدر به والسبب يستعمل لكل شيء يتوصل به إلى غيره.

أما عند الأصوليين: فالسبب ما يكون طريقًا إلى الحكم من غير تأثير، أي لا يضاف إليه وجوب ولا وجود، ولا يعقل فيه معاني العلل لكن يتخلل بينه وبين الحكم علة قال في كشف الأسرار.

السبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.. ومعنى ذلك أن الجميع يرجع إلى معنى واحد، وهو أن السبب ما يكون موصلًا إلى الشيء فإن الباب موصل إلى البيت، والحبل موصل إلى الماء، وهو في الشريعة عبارة عما هو طريق إلى الشيء أي إلى الحكم، يعني هو في عرف الفقهاء مستعمل فيما هو موضوعه لغة أيضًا

ولهذا قال بعضهم: السبب في اللغة عبارة عما يتوصل به إلى مقصود ما، وفي اصطلاح أهل الشرع عبارة عما هو أخص من المفهوم اللغوي وهو كل وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفًا لحكم شرعي، وفائدة نصبه سببًا معرفًا للحكم سهولة وقوف المكلفين على خطاب الشارع في كل واقعة من الوقائع، بعد انقطاع الوحي حذرًا من تعطيل الأحكام الشرعية في أكثر الوقائع، فعلى هذا التفسير، يكون السبب اسمًا عامًا متناولًا لكل ما يدل على الحكم، ويوصل إليه من العلل وغيرها، فيكون تسمية الوقت والشهر والبيت والنصاب، وسائر ما مر ذكرها في باب بيان أسباب الشرائع أسبابًا بطريق الحقيقة، وعلى التفسير المذكور لا يتناول العلل بل يكون اسمًا لنوع من المعاني المفضية إلى الحكم، فيكون تسمية تلك الأشياء أسبابًا بطريق المجاز (1) .

(1) كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي ص 17

ص: 1435

وقال سعد الدين التفتازاني في شرح التلويح: (أما السبب) .

وهو لغة ما يتوصل به إلى الشيء واصطلاحًا: ما يكون طريقًا إلى الحكم والطريق إليه لا مؤثر فيه، فلا بد للحكم من علة مؤثرة فيه موضوعة له، والسبب إما أن يضاف إليه أو لا، فالأول: السبب: الذي في معنى العلة (1) .

وقال الإمام جلال الدين أبو عمر بن محمد بن عمر الخبازي:

أما السبب فأربعة: حقيقة: وهو ما يكون طريقًا إلى الحكم من غير أن يضاف إليه وجوب ووجود لكنه تخلل بينه وبين الحكم علة لا تضاف إلى السبب مثل دلالة السارق على مال إنسان، وحل قيد العبد، وفتح باب القفص والاصطبل ودفع السكين إلى صبي، ليمسكه فوجأ به نفسه، أو غصبه فمات في يده بمرض، أو قال له إرق هذه الشجرة فانقضها لنأكل أو لتأكل أو حمله على دابة فسيرها وسقط (2) .

قال الآمدي: والسبب في اللغة عبارة عما يمكن التوصل به إلى مقصود ما ومنه سمي الحبل سببًا، والطريق سببًا لامكان التوصل بهما إلى المقصود، وإطلاقه في اصطلاح المتشرعين على بعض مسمياته في اللغة (وهو كل وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفًا لحكم شرعي) ولا يخفى ما فيه من الاحتراز (3) .

بعدما عرفنا المعنى اللغوي والاصطلاحي للسبب، وصلنا إلى أن الذريعة والسبب متقاربان في اللغة، أما الفرق بينهما في الاصطلاح هو أن الذريعة يراد بها التوصل إلى محظور، والسبب هو ما يترتب عليه الشيء كان مقصودًا أو غير مقصود، فالسبب بهذا المعنى العام عام يصدق على الذريعة إذا أراد العامل بفعل مباح التوصل إلى محظور وإذا كان العمل مفضيًا ولكن لم يقصد به فهو سبب أيضًا؛ لأنه يترتب عليه ذلك الأمر وليس بذريعة، فالسبب مراع فيه ترتيب الغير عليه والإفضاء إليه، أما الذريعة فتكون مفضية ولكن يقصد بها المحظور شرعًا.

(1) شرح التلويح على شرح التوضيح 1/137

(2)

المغني في أصول الفقه 337، 338

(3)

الأحكام في أصول الأحكام 1/110

ص: 1436

الفرق بين الذريعة والوسيلة:

والذريعة باعتبار تعريفها العام: يعم حتى يدخل في زمرتها ما إذا كان المطلوب حلالًا ويشمل السبب والوسيلة جميعًا، وذلك يشبه معناها اللغوي بدون فرق، نعم: يتحقق الفرق بينها وبينهما باعتبار المعنى الخاص، وهو الذي تختلف آراء العلماء الأصوليين في حدها، فلا بد في المعنى الخاص من وجود عدة أمور:

الأول: أن تكون الذريعة نفسها جائزة خارجة عن ماهية المحظور.

الثاني: أن تؤدي إلى فعل محظور شرعًا لا إلى مصلحة.

الثالث: أن يكون إفضاؤها في غالب الظن لا نادرًا.

فبناء على ما بينت من معنى الذريعة الخاص يكون تعريفه أكمل وأمنع.

الذريعة بالمعنى الخاص: عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه قويت التهمة في أدائه إلى فعل محظور (1) .

وأما الوسيلة: فهي تؤدي إلى تحقق مصلحة شرعية ثم هي تكون جائزة حينًا وتكون ممنوعة تارة، وفي هذا المعنى تفترق الذريعة عنها بالمعنى الخاص، قال محمد هشام البرهاني:

ونستطيع أن نقول هنا: إن العلماء متفقون على أن الوسيلة لا تكون ذريعة بالمعنى الخاص إلا إذا كانت مباحة جائزة متضمنة لمصلحة، فالوسيلة المحظورة الممنوعة ليست ذريعة في هذا المعنى ولهذا جرى الخلاف حول سدها ولو كانت ممنوعة لما جرى خلاف حول سدها (2) .

(1) انظر سد الذرائع 74 وما بعدها لمحمد هشام برهاني

(2)

انظر سد الذرائع 78 وما بعدها لمحمد هشام برهاني

ص: 1437

معنى الحيلة:

الحيلة والاحتيال والتحيل: الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف، ومن معانيها في اللغة والعرف: المكر والخديعة، والكيد وذلك مذموم ومحمود جميعًا، فإن قصد الفاعل خلاف ما يقتضيه ظاهره، وهو مذموم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ((المكر والخداع في النار)) (1) .

وإن كان قصده تحقيق مصلحة شرعية فهو حسن محمود لا قبح فيه ومن ذلك قوله تعالى في وصف من تخلف عن الهجرة لعذر معقول:

{لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98] .

أقسام الحيل:

وقد قسم العلماء الحيل إلى نوعين: الحيل الجائزة والأخرى المحرمة ويشملهما حد مشترك هو التحيل بوجه ما، لإسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط، أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة (2) .

الحيل المحرمة:

كل ما كان من الحيل يهدم ضابطة من الضوابط الشرعية أو يعارض مصلحة من مصالح الشرع الإسلامي المعتبرة سواء كانت الذريعة مشروعة أم غير جائزة، وهذا القسم على أربعة وجوه:

الوجه الأول: الاحتيال لتحليل ما هو حرام كالحيل الربوية بنوعيها، وهما أن يضم العاقدان إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود، أو يضما إلى العقد المحرم عقدًا غير مقصود.

الوجه الثاني: الاحتيال لتحليل ما انعقد سبب تحريمه وهو صائر إلى التحريم، كما إذا طلق أحد امرأته معلقًا ثم خالعها خلع الحيلة لتمنع وقوع الطلاق عند الشرط حتى بانت، ثم تزوجها بعد ذلك على رأي من يرى الخلع فسخ النكاح.

الوجه الثالث: الاحتيال على إسقاط ما هو واجب في الحال كالاحتيال لاسقاط الصلاة من ذمته بعد دخول وقتها ووجوبها بشرب خمر مثلًا ليخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه.

الوجه الرابع: الاحتيال لاسقاط ما انعقد وجوبه ولم يجب لكنه صائر إلى الوجوب، كالاحتيال على إسقاط الزكاة قبيل الحول بتمليكه ماله لبعض أهله ثم استرجاعه له بعد ذلك.

(1) مجمع الزوائد 271

(2)

انظر سد الذرائع ص86

ص: 1438

الحيل الجائزة: هذا النوع الثاني من الحيل: هو ما لم يهدم أصلًا شرعيًا ولا يناقض مصلحة شرعية، والضابط فيه: أن يقصد به إحياء حق أو دفع ظلم أو فعلم واجب، أو ترك محرم أو إحقاق حق، أو إبطال باطل ونحو ذلك مما يحقق مقصود الشارع الحكيم فهو جائز متى كان الطريق إلى ذلك سائغًا مأذونًا فيه شرعاً (1) .

قال ابن القيم: (والاحتيال هنا: يأخذ أشكالًا ثلاثة: فإما أن يكون لدفع الظلم حتى لا يقع، وإما أن يكون لرفعه بعد وقوعه وإما أن يكون لمقابلته بمثله حيث لا يمكن رفعه، والأولان جائزان، وفي الثالث تفصيل، فإن كانت الحرمة لحق الله لم تجز المقابلة كما لو جرعه الخمر أو زنى بامرأته، وإن كانت الحرمة لكونه ظلمًا في المال فهي مسألة الظفر، أجازها قوم وأفرطوا حتى أجازوا قلع الباب نقب الحائط للمقابلة بأخذ المال، ومنعها قوم بالكلية، وتوسط آخرون)(2) .

(1) سد الذرائع ص90

(2)

انظر تفصيل ذلك في إعلام الموقعين 4/26 ـ 27

ص: 1439

المقارنة بين الذرائع والحيل:

النوع الأول: الحيل المحرمة تناقض مقصد سد الذرائع تمامًا بالمعنى الخاص؛ لأن سد الذرائع يسد أبواب المحرمات والمفاسد إذ المتحيل يسلك مسلك الذرائع الممكنة التي توصل إليها، وتمهد له طريقًا إلى فتح أبوابها قال ابن تيمية:

واعلم أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع سد الطريق إلى ذلك المحرم بكل طريق، والمحتال يريد أن يتوصل إليه، ولهذا لما اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح شروطًا سد ببعضها التذرع إلى الزنا والربا، وكمل بها مقصود العقود لم يمكن للمحتال الخروج عنها في الظاهر، فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع منه الشارع، أتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس الشيء الذي سد الشارع ذريعته، فلا يبقى بمنزلة العبث، واللعب وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة (1) .

وهذا هو القسم الذي شن عليه الغارة العلماء، وفي هذا الصدد نقل ابن قدامة عن عبد الله بن عمر:(من يخدع الله يخدعه)(2) .

أما النوع الآخر: الحيل الجائزة فإن ذلك يوافق طبيعة الشريعة الإسلامية النيرة، ويحقق هدف سد الذرائع بالمعنى العام ـ لأنه يكون التحيل في المحرمة لارتكاب محرم، وهذه هي التي تناقض سد الذرائع ـ ويكون التحيل في الجائزة لفعل جائز، أو مطلوب وهذه لا تناقض الذرائع، بل هي في حقيقتها تطبيق لوجه من وجوه العمل به، بمعناه العام وذلك يتمثل في دفع الفساد بأمر جائز، أو لارتكاب أخف الضررين (3) .

كما أباح ابن القيم خلع الحيلة مع حرمته في مذهبه بعد ما قارن بين مفسدتي التحليل والخلع فرأى الأول أنها أرجح من الثانية، والأخرى أخف منها، فاحتال لدرئها بالثانية، وهو يشير إلى ضابط الفرق بين النوعين.

(والحيلة المحرمة الباطلة، هي التي تتضمن تحليل ما حرمه الله أو تحريم ما أحله الله أو إسقاط ما أوجبه الله، وأما حيلة تتضمن الخلاص من الآصار والأغلال، والتخلص من لعنة الكبير المتعال فأهلًا بها من حيلة، وأهلًا بأمثالها والله يعلم المفسد من المصلح والمقصود تنفيذ أمر الله ورسوله بحسب الإمكان والله المستعان (4) .

(1) فتاوى ابن تيمية 3/145، وما بعدها انظر إعلام الموقعين 3/171

(2)

انظر التفصيل المغني 5/ 192

(3)

انظر سد الذرائع ص94

(4)

إعلام الموقعين 4/ 112 وما بعدها مع تصرف يسير.

ص: 1440

موقف أئمة الفقه في الأخذ بسد الذرائع:

1-

فمنهم من جعله دليلًا واعتبره مصدرًا من مصادر الفقه وأصلًا من الأصول التشريعية، كالأدلة الأربعة الأساسية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ففي تنقيح الفصول يحصر القرافي أدلة المجتهدين بالاستقراء فيجدها تسعة عشر، منها سد الذرائع (1) .

ويبتني مذهب مالك على ستة عشر دليلًا منها أيضًا سد الذرائع (2) .

قال أبو زهرة: هذا أصل من الأصول التي أكثر من الاعتماد عليها في استنباطه الفقهي الإمام مالك وقاربه في ذلك الإمام أحمد بن حنبل (3) .

2-

ومنهم من يجعله قاعدة فقهية فحسب، لا مصدرًا كالمصادر الأربعة، يقول الشيخ فرج السنهوري في هذا الصدد عند كلامه حول مصادر الفقه.

وقد اعتاد كثير من الأصوليين أن يذكروا مصادر أخرى على أنها مصادر مختلف فيها، وهي في الواقع لا تعدو أن تكون أنواعًا من المصادر الأربعة السابقة.

يعني الكتاب والسنة والإجماع والقياس ـ أو قواعد كلية فقهية محضة (4) .

ثم قال أيضًا: ويذكرون الاستصحاب والبراءة الأصلية، وسد الذرائع والعلة والعرف وكلها قواعد فقهية وليست دليلًا يستند إليه في استنباط حكم شرعي (5) .

3-

ومنهم من لا يسميه بتسمية معينة فتارة يسميه مبدأ، ومرة أصلًا وحينًا قاعدة، وهذا هو الغالب الشائع في استعمال العلماء.

(1) تنقيح الفصول ص 198 الطبعة الأولى

(2)

البهجة 2/ 126

(3)

مالك لأبي زهرة ص 340

(4)

موسوعة جمال عبد الناصر الجزء النموذجي ص16

(5)

موسوعة جمال عبد الناصر الجزء النموذجي ص 16

ص: 1441

فابن تيمية جعله قاعدة في فتاواه (1) . وأصلًا في موضع منها (2) . والعلامة الشاطبي قرره في الموافقات أصلًا من الأصول القطعية في الشرع (3) .

ويقول في موضع آخر: وقاعدة الذرائع أيضًا مبنية على سبق القصد إلى الممنوع (4) .

وعده أبو زهرة أصلًا مرة (5) . ويسميه مبدأ أخرى وثالثة قاعدة (6) . كذلك نرى مصطفى الزرقاء سماه مبدأ مرة وأصلًا أخرى (7) .

والحق في ذلك أن سد الذرائع قاعدة من القواعد الأصولية، لا أصلًا من أصول الفقه الإسلامي كما رجحها الدكتور محمد هاشم البرهاني بعد استعراض سد الذرائع باعتبار أسمائه مفصلًا في الأخير بقوله:

الحقيقة الثالثة: إن سد الذرائع كقاعدة: هو أقرب الأشياء إلى حقيقته وإنها تدخل في سلك القواعد الأصولية دون الفقهية فهو من مباحث علم الأصول لا من مباحث الفقه (8) .

وعمل الصحابة وتلامذتهم التابعون بسد الذرائع في وقائع كثيرة كقضية جمع القرآن، اجتماع جميع الصحابة على جمعه في نسخة واحدة وإحراق ما عداها، فنرى بعد زمن قليل الصحابة والتابعين تبادروا إلى كتابة العلم والسنن، واستحبوا ذلك سدًا لباب ضياعها.

هكذا نرى بعدهم أن الفقهاء عملوا بسد الذرائع وإن لم يسموه بذلك الاسم، منهم الإمام أبو حنيفة وأتباعه كثيرًا ما يرجعون إلى باب الاستحسان والعمل بالاستحسان، وجه من وجوه العمل بسد الذرائع، كذلك الإمام الشافعي وأصحابه شنوا حملة على رده وإنكاره لكن لا يخفي على المستقرئ المتتبع أنهم أعملوه في فروع كثيرة، وأما الإمام مالك وأحمد وأتباعهما فسارعوا إلى أخذه، واشتهر مذهبهم بإعماله في الفروع الفقهية بل غالت المالكية في تطبيقه على الجزئيات في بعض الأحيان.

(1) فتاوى ابن تيمية 3/ 140

(2)

فتاوى ابن تيمية 3/ 145

(3)

الموافقات 3/ 61

(4)

الموافقات 3/ 189

(5)

مالك 340، وابن حنبل ص 327

(6)

مالك ص 256

(7)

انظر المدخل الفقهي 1/ 73

(8)

سد الذرائع ص 174

ص: 1442

وأما محل النزاع في سد الذرائع خصوصًا فيما بين الأئمة الأربعة ففي قسم واحد من أقسام الذرائع، وهو ما يفضي إلى المفسدة كثيرًا ولكن كثرته لم تبلغ مبلغ أن تحمل العقل على ظن المفسدة فيه دائمًا كمسائل البيوع الربوية أي التي قد تفضي إلى الربا (1) .

قال أبو زهرة عند كلامه على الموازنة بين الشافعي وأحمد

فقد أجمعوا على أن ما يؤدي إلى إيذاء جمهور ممنوع لا محالة، كحفر الآبار في الطرق العامة.

وقد أجمعوا أيضًا على أن ما يكون سبيلًا للخير والشر ويكون في فعله فوائد للناس، لا يكون ممنوعًا، كغرس العنب فإنه يؤدي إلى عصره وتخميره، ولكنه لم يكن لذلك بأصله، ولأن استخدامه لذلك احتمال والمنفعة في غرسه أكبر من هذه المضرة، والعبرة بالأمر الغالب أو الراجح في الظن وفيما عدا القسمين السابقين كان الخلاف، فالشافعي نظر إلى الأحكام الظاهرة، وإلى الأفعال عند حدوثها ولم ينظر إلى غاياتها ومآلاتها (2) .

بخلاف الإمام أحمد والإمام مالك فإنهما عند اتجاههما إلى الذرائع نظرًا إلى المآلات نظرة مجردة ونظرا إلى البواعث (3) .

وألقى الشيخ أبو زهرة الضوء على محط النزاع في كتابه (مالك) حيث قال: وهنا يتعارض جانبان قويان من النظر أحدهما النظر إلى الإذن، وأصل الإذن كان لمصلحة راجحة للفاعل، ولذا أجازه الشارع منه، والثاني المفسدة التي كثرت وإن لم تكن غالبة، فنظر أبو حنيفة والشافعي إلى أصل الإذن، ولذلك كان التصرف عندهم جائزًا لا مجال لمنعه. وهذا نظر أبي حنيفة والشافعي فرجحا جانب الإذن؛ لأنه الأصل، وأما مالك فقد نظر إلى الجانب الآخر، وهو جانب قوي أيضًا، وهو كثرة الفساد، المرتبة على الفعل وإن لم تكن غالبة (4) .

(1) انظر الموافقات 2/242

(2)

ابن حنبل ص 337

(3)

ابن حنبل ص 338

(4)

مالك لأبي زهرة ص 346 ـ 347

ص: 1443

سد الذرائع عند المالكية:

ومن المعروف في أوساط أهل العلم أن سد الذرائع جعله المالكية أصلًا من أصول الاستنباط الفقهي الأساسية المهمة وفي البهجة نقلًا عن راشد: يعد الأدلة التي بني عليها مالك مذهبه ستة عشر دليلًا منها أيضًا سد الذرائع (1) .

هكذا نسبه أبو زهرة إلى المالكية (2) .

وفي الواقع أنهم توسعوا في تطبيقاته على الفروع الفقهية وبالغوا في ذلك حتى نسب إليهم وعد بعض الفقهاء سد الذرائع من خصوصيات مذهب إمام دار الهجرة (3)

ميزتهم في سد الذرائع:

ومن المحقق أن جميع العلماء يأخذون بسد الذرائع وإن لم يسموه بهذا الاسم، نعم: خالفوا المالكية في تطبيقها على بعض الفروع (4) .

قال أبو زهرة:

(ونحن نميل إلى أن العلماء جميعًا يأخذون بأصل الذرائع وإن لم يسموه بذلك الاسم ولكن أكثرهم يعطون الوسيلة حكم الغاية إذا تعينت طريقًا لهذه الغاية فلم تكن طريقًا لغيرها على وجه القطع أو غلبة الظن، أما إذا لم تكن الوسيلة متعينة لا بطرق العلم، ولا بطريق الظن فهذا يختص مالك بالأخذ بأصل الذرائع فيه إذا كثر ترتب الغاية على الوسيلة، كبيوع الآجال فإنها في كثير من الأحوال تكون بقصد التوصل إلى الربا، فتحرم لهذه الكثرة وسدًا لذريعة الربا) .

ويقول أيضًا في نفس الكتاب: فمبدأ سد الذرائع لا ينظر فقط إلى النيات والمقاصد الشخصية، بل يقصد مع ذلك إلى النفع العام أو إلى دفع الفساد العام، فهو ينظر إلى النتيجة مع القصد، أو إلى النتيجة وحدها (5) .

(1) البهجة 2/ 126

(2)

مالك ص 340

(3)

انظر الفروق للقرافي 3/ 266، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 3/ 275 وتنقيح الفصول ص 200 والمدخل الفقهي 1/73.

(4)

مالك ص 342 ـ 351

(5)

مالك ص 324ـ 351

ص: 1444

شواهد سد الذرائع عند المالكية:

ومن أبرز تطبيقاته عندهم، منعهم للعقود التي تتخذ ذريعة إلى أكل الربا، من ذلك بيوع الآجال وقد منع منها كل صورة تؤدي إلى ممنوع مثل:(أنظرني أزدك) وبيع ما لا يجوز متفاضلًا، وبيع ما لا يجوز نساء، وبيع وسلف، وذهب وعرض بذهب، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل أن يستوفى، وبيع وصرف، وهذه هي أصول الربا (1) . سنعرض بعضًا منها فيما يلي:

1-

مثال ما يؤدي إلى بيوع وسلف: من باع سلعتين بدينارين لشهر ثم اشترى إحداهما بدينارين نقدًا، لم يجز لأن السلعة التي خرجت من يد البائع أولًا، ثم عادت إليه، اعتبرت ملغاة، فآل أمره إلى أنه دفع دينارًا وسلعة نقدًا ليأخذ عنها بعد شهر دينارين، الأول منهما: عند الدينار الذي دفعه نقدًا وهذا هو السلف، والثاني: منهما ثمن السلعة التي خرجت من يده ولم تعد وهذا هو البيع (2) .

2-

ومثال ما يؤدي إلى ذهب وعرض بذهب: من باع شيئًا بمائة دينار إلى أجل ثم قدم المشتري فسأل البائع الإقالة على أن يعطي البائع عشرة دنانير نقدًا أو إلى أجل أبعد من الأجل الذي وجبت فيه المائة، لم يجز لأن ذلك خديعة إلى بيع الذهب إلى أجل إذا كانت العشرة مؤجلة لما بعد أجل المائة وإلى بيع ذهب وعرض بذهب إذا كانت العشرة نقداً (3) .

3-

ومثال ما يؤدي إلى بيع الطعام قبل أن يستوفى: لو أراد أن يجريا المقاصمة بينهما في طعامين مؤجلين، أحدهما من سلم حل أجله والآخر من قرض لم يحل لم تجز لأنها تؤدي إلى بيع الطعام قبل أن يستوفى (4) .

(1) انظر بداية المجتهد 2/140 وتهذيب الفروق 3/375

(2)

انظر الدسوقي على الشرح الكبير 3/76

(3)

بداية المجتهد 2/141

(4)

انظر المدونة 9/142

ص: 1445

مغالاتهم بإعمال سد الذرائع:

يظهر ذلك في التطبيقات التالية، يكره صيام ست من شوال عند الإمام مالك (1) . وقد ثبت استحبابها بالحديث الصحيح عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فذلك صيام الدهر)) (2) .

يقول النووي: قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحدًا من أهل العلم يصومها، قالوا فيكره لئلا يظن وجوبه، ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح وإذا ثبتت السنة، فلا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها، وقولهم قد يظن وجوبها ينتقض بصوم يوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب (3) .

هكذا غالوا في قراءة السجدة فجر يوم الجمعة، وثبتت قراءتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجر يوم الجمعة، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة (4) .

ونكتفي بذلك المثالين نموذجًا، والأمثلة سواهما مبسوطة في كتاب سد الذرائع للدكتور محمد هاشم البرهاني (5) .

(1) انظر الاعتصام 1/188 ـ 319، وقواعد الأحكام 2/172 ـ 174

(2)

انظر تحفة الأحوذي 3/ 466، وبدائع الصنائع 2/ 783، والفتح 2/780

(3)

النووي على مسلم 6/ 168، وتحفة الأحوذي 3/ 56 وخصوصيات الجمعة للسيوطي 31

(4)

انظر سد الذرائع 633 وما بعدها

(5)

انظر إعلام الموقعين 1/29

ص: 1446

سد الذرائع عند الحنابلة:

ومن المعلوم أن الحنابلة لا يقيسون إلا نادرًا، حتى يقدموا الضعيف على القياس، فيأخذ إمامهم أحمد بن حنبل المرسل، ويرجحه عليه فإذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم (1) .

فالأصل عنده: إذا لم يكن في المسألة نص ولا قول صحابي ولا أثر مرسل أو ضعيف لجأ إلى الأصل الخامس وهو القياس فاستعمله للضرورة (2) . ويدخل في جملة القياس الصحيح عند الحنابلة، رعاية المصالح، ومن وجوه العمل بها سد الذرائع وفتحها.

إنما قارب الإمام أحمد بن حنبل الإمام مالكًا في الأخذ بسد الذرائع وإعماله في كثير من الاستنباطات والأحكام الفقهية إلى حد كبير وإن وقع الاختلاف في تطبيقه على الجزئيات الفقهية في بعض الأحيان كما يبدو من دراسة شواهد سد الذرائع في الفقه الحنبلي وجعله أتباعه من بعد أصلًا فقهيًا أيضًا أيضًا واعتمدوا عليه تابعين لإمامهم إذا كان أصلًا من أصول الفتوى عنده (3) .

فنرى مبدأ سد الذرائع عندهم كالمالكية أنهم لا ينظرون فقط إلى النيات والمقاصد الشخصية بل يقصد مع ذلك إلى النفع العام، أو إلى دفع الفساد العام، وهم ينظرون إلى القصد والنتيجة أو إلى النتيجة وحدها (4) .

قال أبو زهرة: وقد قرر أنه إذا كان الباعث الخير والنتيجة كانت شرًا غالبًا أو مؤكدًا منع الفعل مع نية الخير اعتبارًا بالمآل والنتيجة قياسًا على قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (5) . [الأنعام: 108]

(1) انظر إعلام الموقعين 1/ 29

(2)

انظر المرجع السابق والمدخل إلى فقه الإمام أحمد للشيخ بدران 41 ـ 43

(3)

ابن حنبل 330، مالك 342

(4)

ابن حنبل 330، مالك 342

(5)

ابن حنبل 336

ص: 1447

شواهد سد الذرائع عند الحنابلة:

ومن أبرز تطبيقاتهم على أصل سد الذرائع.

1-

ما جاء في المغني: ومن باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقدًا لم يجز، في قول أكثر أهل العلم؛ لأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع الكثير كألف بالقليل كخمسمائة والذرائع معتبرة عندنا ـ وقد نص الإمام أحمد على ذلك (1) .

2-

ما نقل عن الإمام أحمد عن كراهيته الشراء ممن يرخص في سلعته ليمنع من الشراء من جاره ويشبهه النهي عن طعام المتباريين وهما الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر ومباهاته في التبرع وقد رأى ابن القيم أن النهي في الأمرين يتضمن سد الذريعة من وجهين.

الأول: أن تسليط النفوس على الشراء منهما، وأكل طعامهما تفريج لهما وتقوية لقلوبهما وإغراء لهما على فعل ما كرهه الله ورسوله.

والثاني: أن ترك الأكل والشراء منهما ذريعة إلى امتناعهما وكفهما عن ذلك (2) .

3-

منع الإمام أحمد الأسير والتاجر من الزواج في دار الحرب خشية تعريض ولده للرق أو لأنه قد لا يمكنه منع العدو من مشاركته في زوجته، كما حرم الله نكاح الأمة على القادر على نكاح الحرة، إذا لم يخش العنت؛ لأن ذلك ذريعة إلى إرقاق الولد، حتى ولو كانت من الآيسات من الحبل والولادة سدًا للذريعة وحسمًا للباب (3) .

(1) المغني 4/ 157 ـ 158

(2)

إعلام الموقعين 3/ 169، انظر ابن حنبل لأبي زهرة 334

(3)

المغني 9/ 281، إعلام الموقعين 3/164.

ص: 1448

سد الذرائع وشواهده عند الشافعية:

وإن كان الإمام الشافعي وأصحابه بذلوا محاولاتهم في رد سد الذرائع وإنكاره، لكن أعملوه في جملة فروع مع ذلك، نعم فالشافعي رحمه الله نظر إلى الأحكام الظاهرة لا إلى غاياتها (1) . وقال في ذلك:

(الأحكام على الظاهر والله ولي الغيب من حكم على الناس بالإيمان جعل لنفسه ما حظر الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله عز وجل إنما يتولى الثواب والعقاب على الغيب لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه وكلف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما وصفت من هذا يدخل في جميع العلم (2) .

ننقل بعض الجزئيات الفقهية التي اعتبر فيها الشافعية سد الذرائع فيما يلي:

1-

قال الشافعي وأصحابه: ويستحب للمعذورين الجماعة في ظهرهم، حكي أنه لا يستحب لهم، فالجماعة المشروعة في هذا الوقت، هي الجمعة، وبهذا قال الحسن بن صالح وأبو حنيفة والثوري، والمذهب الأول كما لو كانوا في غير البلد، فإن الجماعة تستحب في ظهرهم بالإجماع فعلى هذا قال الشافعي: استحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا في الدين، وينسبوا إلى ترك الجماعة تهاوناً (3) .

2-

منع المفطر بعذر عن الأكل عند من لا يعرف عذره سدًا لذريعة التهمة بالفسوق والمعصية (4) .

3-

ومن ذلك ما أجازوا قتل الأطفال والنساء والأسرى الذين يتترس بهم الكفار لئلا يكون ترك قتلهم ذريعة إلى ترك الجهاد أو غلبة الكفار على المسلمين وفي هذا الصدد يقول الشيرازي.

(فإن تترسوا أطفالهم ونساءهم فإن كان في حال التحام الحرب جاز رميهم، ويتوفى الأطفال والنساء لأنه لو تركنا رميهم جعل ذلك طريقًا إلى تعطيل الجهاد وذريعة إلى الظفر بالمسلمين)(5) .

(1) انظر ابن حنبل 337

(2)

ابن حنبل 337

(3)

المجموع 4/ 263

(4)

المجموعه والمهذب 1/ 178

(5)

المجموع 2/ 334

ص: 1449

موازنة بين الأئمة الأربعة في الذرائع:

ويبدو واضحًا فيما تقدم من المباحث أن سد الذرائع قاعدة أو أصل مجمع عليه في نفس الأمر، وإن كان من المعروف لدى أهل العلم أن المالكية يأخذون به أكثر ويقاربهم الحنابلة والشافعية أقل الفقهاء أخذًا به، ويقرب إليهم أبو حنيفة وأصحابه لذلك صرح علماء المالكية وغيرهم: إن سد الذرائع ليس من خواص مذهب الإمام مالك (1) .

ثم نرى إجماعهم في بعض القضايا التي أعملوا فيها سد الذرائع بدون نزاع، ووقوع اختلافهم في بعضها، وذلك بناء على اختلاف أصول ضمنية في صدد (سد الذرائع) كما بينه الإمام أبو زهرة يقول:

(فقد أجمعوا على أن ما يؤدي إلى إيذاء جمهور المسلمين ممنوع لا محالة كحفر الآبار في الطرق العامة.

وقد أجمعوا أيضًا على ما يكون سبيلًا للخير والشر ويكون في فعله فوائد للناس لا يكون ممنوعًا كغرس العنب، فإنه يؤدي إلى عصره وتخميره، ولكن لم يكن لذلك بأصله ولأن استخدامه لذلك احتمال والمنفعة في غرسه أكبر من هذه المضرة والعبرة بالأمر الغالب أو الراجح في الظن.

وفيما عدا القسمين السابقين كان الخلاف: فالشافعي نظر إلى الأحكام الظاهرة ولم ينظر إلى غاياتها ومآلاتها.. وإن هذه النظرة تخالف نظر الإمام أحمد ومالك، فإنهما عند اتجاههما إلى الذرائع نظرًا إلى المآلات نظرة مجردة ونظرا إلى البواعث (2) .

وأما النظر في الفروع فيقف المالكية وحدهم في كثير من المسائل يسدون الذريعة فيها، على حين يكون الأئمة الثلاثة في الطرف الآخر، أو يكون لهم في المسألة قول واحد، على حين يكون للحنابلة قولان مشهوران، وربما يكون المالكية والحنابلة في جانب والشافعية والأحناف في الجانب الآخر.

ومن الأول: كراهة المالكية لأكل الخيل لأن في أكلها تقليل آلة الجهاد وخالفهم جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة (3) .

ومن الثاني: قول المالكية بعدم جواز قبول بعض ما أسلم فيه وبعض رأس ماله لأنه من الذرائع عندهم إلى البيع والسلف وإلى بيع الطعام قبل أن يستوفى، وقد وافقهم الحنابلة في إحدى الروايتين وخالفوهم في الأخرى وهي قول أبي حنيفة والشافعي (4) .

ومن الثالث: أوضح مثال للخلاف بين الفقهين المالكي والحنبلي وبين الفقه الشافعي والحنفي في مسألة الذرائع هو تلك البيوع الربويه فقد توسع مالك وأحمد في تحريمها وإبطالها، وضيق الشافعي باب الإبطال وقاربه في ذلك أبو حنيفة وأصحابه (5) .

(1) انظر الفروق للقرافي 2/33 ـ 34، وتنقيح الفصول 200

(2)

ابن حنبل 337 ـ 338

(3)

انظر النووي على مسلم 13/ 95 وتحفة الأحوذي 5/ 505، والإشراف 2/256

(4)

انظر بدائع الصنائع 5/215، والمغني 4/ 264

(5)

ابن حنبل 340 بتغير يسير

ص: 1450

سد الذرائع عند الحنفية:

وإن كانت المالكية والحنابلة اشتهروا بأخذ سد الذرائع وما أتى به الحنفية في المصادر والأحكام ولم يفردوه بالذكر في أصول الفقه مستقلًا ولا سموه بتلك التسمية ولكن أعملوه في الفروع الفقهية كالفقهاء الآخرين كما يبدو واضحًا من التأمل في مجتهداتهم واستنباطاتهم، وخصوصًا راعوه في أبواب المعاملات ولا بد لمعرفة نظرة الحنفية في سد الذرائع دراسة ثلاثة أمور:

الأول: ما هي مكانة سد الذريعة عندهم في أصول الفقه؟

الثاني: وما هي الضوابط مبناها وأساسها على ذلك التصور في القواعد الفقهية؟

الثالث: وما هي الشواهد من جزئيات فقههم على العمل بسد الذرائع؟ تدور محادثتي الآن حول سد الذرائع عند الحنفية باعتبار تلك الجوانب الثلاثة في ضوء أصول الفقه:

وعند الأحناف أصل معروف ومهم هو الاستحسان وإن اختلف آراء العلماء الحنفية في حده ولكن ترجع كلها إلى شيء واحد هو ترك القياس بأقوى الدلائل والمصالح يسمى استحسانًا هذا الدليل القوي قد يثبت بالنص من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مصلحة راجحة تلائم مجموع طبيعة الشريعة الإسلامية، والأول يسمى استحسان النص والثاني يدعى باستحسان الضرورة أو العرف.

ويتبين من التأمل أن ضابطة سد الذرائع تأتي تحت القسم الثاني من قسمي الاستحسان؛ لأن مصالح الشريعة خمسة، حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ النسل وحفظ العقل، وحفظ المال، وتحمل تلك المصالح الخمسة ثلاثة مدراج: الضرورة، والحاجة، والتحسين، وما سبق من الأحكام الفقهية في تطبيق سد الذرائع عليها يقصد بها حفظ الدين عمومًا، وهي تنزل بمنزلة الحاجة للاتقاء من ارتكاب قسم من أقسام المحرمات الدينية، والقياس يقتضي أن تكون مباحة لأنه لم تكن بنفسها ممنوعة لكنها توصل الإنسان إلى اقتراف محظور شرعي فصارت ممنوعة سدًا لباب المحرمات وهذا هو سد الذرائع.

وما قسم الفقهاء الحنفية الحرام إلى قسمين حرام لذاته وحرام لغيره فإذا كان ثانيهما مبنيًا على الاجتهاد غير منصوص عليه فلا يختلف مقصده من غرض سد الذرائع بل هو يحقق منشأة في الواقع.

فاتضح فيما تقدم أن الاستحسان عند الحنفية ضابطة جامعة كاملة تشمل عدة مصادر شرعية ضمنية، ولذا لم يشعروا بأي حاجة إلى إتيان بسد الذرائع منفردًا مستقلًا.

ص: 1451

القواعد الفقهية الموافقة لسد الذرائع:

ولم نجد في المؤلفات الحنفية حول القواعد الفقهية ذكر ضابطة صريحًا، تحقق هدف سد الذرائع، نعم نرى في طي كتبهم الفقهية بعض الضوابط ضمنًا، تلائم سد الذرائع، يقول ملك العلماء الكاساني في صدد أن خروج النساء الشواب من البيوت إلى جماعات لا يجوز لأنه فيه خوف الفتنة والفتنة حرام قال:

ما أدى إلى الحرام فهو حرام (1) .

وقال الكاساني في شأن الاستمتاع بالحائض إنه لا يجوز فوق الركبة (الاستمتاع به سبب الوقوع في الحرام وسبب الحرام حرام)(2) .

ولا يجوز الوطء بالأمة في زمن الاستبراء فحسب بل لا تباح دواعي الجماع أيضًا قال الكاساني فيه:

لأن الاستمتاع بالدواعي وسيلة إلى القربان، والوسيلة إلى الحرام حرام (3) .

ولا يجوز للحادة أن تتخذ الزينة والطيب في العدة قال برهان الدين المرغيناني في الهداية.

إن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها وهي ممنوعة عن النكاح فتجتنبها كيلًا تصير ذريعة إلى الوقوع في المحرم (4) .

وقال العلامة ابن الهمام فيما منع عقدان: إنما حرمت العقد الأول لأنه وسيلة، وحرمت الثاني؛ لأنه مقصود الفساد (5) .

واستخرجت القواعد التالية مما تقدم من تصريحات الفقهاء،

1-

ما أدى إلى الحرام فهو حرام.

2-

سبب الحرام حرام.

3-

الوسيلة إلى الحرام حرام.

4-

ما تكون ذريعة إلى الوقوع في الحرام فهو حرام.

5-

العقد الفاسد الذي يتوسل إلى الفساد فهو فاسد.

وبالنظر إلى تلك القواعد وحد سد الذرائع (على قول المالكية) لا نرى فرقًا كبيرًا بين مراديهما جميعًا.

(1) بدائع الصنائع 1/157

(2)

بدائع الصنائع 2/ 119

(3)

بدائع الصنائع 2/ 120

(4)

الهداية 2/42

(5)

فتح القدير 5/209

ص: 1452

شواهد سد الذرائع عند الحنفية:

وتوجد في الكتب الحنفية كثير من الفروع الفقهية التي تكون روحها سد الذرائع هناك نعرض بعضًا منها فيما يلي:

1-

جاء في الدر المختار: فصل: (يراعى شرط الواقف في إجارته فلم يرد القيم بل القاضي لأن له ولاية النظر لفقير وغائب وميت، (فلو أهمل الواقف مدتها قيل تطلق) الزيادة القيم (وقيل تقيد بسنة) مطلقًا (وبها) أي بالسنة (يفتي في الدار، وبثلاث سنين في الأرض) إلا إذا كانت المصلحة بخلاف ذلك وهذا مما يختلف زمانًا وموضعاً) (1) .

وفي رد المحتار: (قوله وقيل تقيد بسنة) لأن المدة إذا طالت تؤدي إلى إبطال الوقف، فإن من رآه يتصرف بها تصرف الملاك على طول الزمان يظنه مالكاً (2) .

2-

والكلام منه ما يؤجر به كالتسبيح ونحوه، وقد يأثم به إذا فعله في مجلس الفسق وهو يعلمه، وإن قصد به فيه الاعتبار والإنكار فحسن (3) .

3-

ويكره أن يقرض بقالا درهمًا، ليأخذ منه به ما يحتاج إلى أن يستغرقه (4) .

4-

والمتاع في يده غير مضمون بالهلاك يعني لا يضمن ما ذكر سواء هلك بسبب يمكن الاحتراز عنه كالسرقة أو بما لا يمكن كالحريق الغالب والفأرة وهذا عند الإمام وقالا: لا يضمن إذا هلك بما يمكن التحرز عنه

وقد تقدم أن بقولهما يفتى في هذا الزمان لتغير أحوال الناس وإن شرط الضمان على الأجير، فإن كان فيما لا يمكن التحرز عنه لا يجوز بالإجماع (5) .

5-

ومنها: وجوب نقض حائط مملوك مال إلى طريق العامة على مالكها دفعًا للضرر العام.

6-

ومنها: جواز الحجر على البالغ العاقل الحر عند أبي حنيفة رحمه الله في ثلاث، المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس دفعًا للضرر العام.

7-

ومنها جوازه على السفيه عندهما، وعليه الفتوى دفعًا للضرر العام.

8-

ومنها: التسعير عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش.

9-

ومنها: بيع طعام المحتكر جبرًا عليه عند الحاجة وامتناعه من البيع دفعًا للضرر العام.

10-

ومنها: منع اتخاذ حانوت للطبخ بين البزازين وكذا كل ضرر عام.

11-

وفي خلاصة الفتاوى: رجل دعي إلى وليمة، أو طعام فوجد ثمة لعبًا أو غناء لا بأس يقعد ويأكل وهذا إذا لم يكن على المائدة بل في المنزل فإن كان ذلك على المائدة أو يشربون الخمر على المائدة، لا يقعد وهذا إذا كان الرجل خامل الذكر فإن كان ممن يقتدي به لا يقعد إن لم يقدر على النهي في الوجهين.

(1) الدار المختار على هامش رد المحتار 4/ 400 ـ 401

(2)

رد المحتار 4/400.

(3)

ملقتى الأبحر 2/246

(4)

ملتقى الأبحر 2/253

(5)

البحر الرائق: باب ضمان الأجير 8/27

ص: 1453

وقول أبي حنيفة رحمه الله: ابتليت بهذا مرة كان ذلك قبل أن يصير مقتدى به، وهذا إذا لم يعلم بذلك قبل الدخول في البيت فإن علم إن كان محترمًا يعلم أنه لو دخل عليهم يتركون ذلك إكرامًا له فعليه أن يدخل وإن علم أنهم لا يتركون لا يدخل عليهم (1) .

12-

وفي الأشباه: ويتفرع على ذلك لو استقرض ألفًا واستأجر المقرض (لحفظ مرآة أو ملعقة) كل شهر بعشرة وقيمتها لا تزيد على الأجر ففيها ثلاثة أقوال: صحة الإجارة بلا كراهة، اعتبارًا لعرف خواص بخارى، والصحة مع الكراهة للاختلاف والفساد لأن صحة الإجارة بالعرف العام ولم يوجد، وقد أفتى الأكابر بفسادها (2) .

13-

قال في جامع الفصولين: القاضي لا يقبل الهدية من رجل لو لم يكن قاضيًا لا يهدي إليه (3) .

14-

وفي الدر المختار: (ولم يبع) في الزيلعي يحرم أن يبيع (منهم ما فيه تقويتهم على الحرب) كحديد وعبيد وخيل (ولا نحمله إليهم ولو بعد صلح لأنه عليه السلام نهى عن ذلك)(4) .

15-

وفي الأشباه: اليمين على نية الحالف إن كان مظلومًا وعلى نية المستحلف إن كان ظالمًا كما في الخلاصة (5) .

16-

وفي الدر المختار: وكذا يضمن لو سعى بغير حق عند محمد أي للساعي وبه يفتي (قوله وبه يفتي) أي دفعًا للفساد وزجرًا وإن كان غير مباشر، فإن السعي سبب محض لإهلاك المال والسلطان يغرمه اختيارًا لا طبعاً (6) .

17-

وفي فتاوى النسفي: إنه يكسر دنان الخمر ولا يكون بإلقاء الملح قناعة ولا ضمان على الكاسر في شيء من ذلك (7) .

18-

وفي الخلاصة: والخياط إذا استؤجر على خياطة ثوب الفساق ويعطي في ذلك كثير أجر لا يستحب أن يعمل لأنه إعانة على المعصية (8) .

19-

وفي نفس الكتاب: ذمي سأل مسلمًا عن طريق البيعة لا ينبغي له أن يدله (9) .

(1) خلاصة الفتاوى وكتاب الكراهية 4/357

(2)

الأشباه النظائر لابن نجيم 103

(3)

رد المحتار 4/ 432

(4)

الدر المختار على هامش رد المحتار 4/ 134

(5)

الأشباه مع الغمز 1/186

(6)

رد المحتار وعلى هامشه الدر المختار 6/ 213

(7)

خلاصة الفتاوى 4/336

(8)

خلاصة الفتاوى 4/ 347

(9)

خلاصة الفتاوى 4/348

ص: 1454

في آية قضايا يكثر إعمال تلك القاعدة؟

وبهذا الخصوص ينبغي الإشارة إلى أن الأحناف أعملوها في أية أبواب وقضايا أكثر ـ فنرى أنهم راعوها في باب الربا أكثر، لذا منع عن بيع العينة، ومنع أكثر المشائخ من البيع بالوفاء باعتبار روحه، ونفذوا عليه أحكام الرهن، كذلك منعوا من اشترى متاعًا بأكثر من قيمته من بيعه على البائع بأقل منها (1) . لأن تلك الصور كلها تتذرع لنيل الربا بالواسطة.

وأنزلت دواعي الجماع بمنزلة الوطء في تحريم المصاهرة والإحرام، وروعيت تلك القاعدة في مسألة الاستمتاع بالحائض إلى حد، وتفسد جميع صور البيع التي تؤدي إلى النزاع بالجهالة بناء عليها، كذلك منعت جميع صور البيع والإجارة التي تعاون على الإثم والمعصية، هذه هي القضايا التي أعملوا فيها تلك الضابطة وأكثروا تطبيقها عليها، ومن ذلك النوع فروع كثيرة مبسوطة في كتب الفقه ومن أراد التفصيل فليرجع إليها.

(1) انظر بدائع الصنائع 5/199

ص: 1455

فتح الذرائع:

وقد مرت تفاصيل سد الذرائع وأمثلته، وأما فتح الذرائع فمعناه طلب الخير وفيه مطلبان:

المطلب الأول: رعاية الكتاب الكريم لمصالح الخلق ولا ريب أن الشريعة الإسلامية قد راعت مصالح الخلق تمامًا، ويبنى عليها سعادة الدنيا والآخرة، ولا خير إلا دلت عليه ولا مصلحة إلا أرشدت إليها، وإنها وضعت لرعاية مصالح الخلق ولدفع المفاسد عن الناس يقول ابن القيم:

الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة (1) .

والمطلب الثاني: تحقيق المصالح من الناحية الإيجابية والدليل عليها في واقع التشريع ما أشار إليه الدكتور محمد هاشم البرهاني.

" المقاصد التي تعود تكاليف الشريعة إليها بالحفظ ثلاثة:

الأول: المقاصد الضرورية وهي التي يتوقف عليها قيام مصالح الدارين وبفقدانها تختل الحياة الدنيا، ويفوت النعيم وهي خمسة: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل.

الثاني: المقاصد الحاجية، وهي التي تفتقر إليها للتوسعة ورفع الحرج والضيق عن الخلق كسائر المعاملات من بيع وشراء وإجارة ورهن وما إلى ذلك.

الثالث: المقاصد التحسينية: وهي التي ترجع إلى محاسن العادات ومكارم الأخلاق ولا تبلغ مبلغ المقاصد الحاجية ولا الضرورية كآداب المأكل والملبس والمسكن (2) .

وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية هذه المقاصد، وراعتها كل المراعاة ووضعت قواعدها العامة وبنت أصولها الأساسية وإن فتح الذرائع إلى كل خير وبر معروف؛ لأن الخير وصف يلزم كل أمر تمخض لمصلحة راجحة أو كان يؤدي إلى مصلحة راجحة، فما كان يؤدي إلى المصلحة فهو ذريعة ولا شك بوضوح الإفضاء فيه، وأما ما كان يتمحض بنفسه لمصلحة فضلًا عن الفائدة فنادر الوجود في الواقع (3) .

(1) إعلام الموقعين 3/14

(2)

ملخص من سد الذرائع 344 وما بعدها

(3)

الموافقات للشاطبي 2/25

ص: 1456

شواهد فتح الذرائع:

1-

قوله تعالى مخاطبًا نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43] .

ولا بد لتبليغ الرسالة الواجب على موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يذهبا إلى فرعون، والذهاب إليه امتثالًا بأمر الله تعالى هو ذريعة لأداء الرسالة المفروضة عليهما بقوله عز وجل:{فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] .

2-

وإنما أمر سبحانه وتعالى عباده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] والمقصود صلاة الجمعة المفروضة، ولكن السعي وسيلة إلى إقامتها كذلك السعي إلى البيت الحرام ذريعة لأنه يوصل إلى الحج المشروع المشتمل على المصالح والحث على السعي إلى البيت الحرام والعمل به يسمى بفتح باب الذريعة (1) .

3-

ومنه قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] فخروج المسلمين لالتقاء الكفار ذريعة لا بد من تحقيقها للجهاد في سبيل الله الذي أمر به الله عز وجل في نفس الآية.

4-

ويكون ارتكاب أخف الضررين فتحًا للذريعة حينا كما ثبت من قصة الخضر مع موسى عليه السلام حيث أباح الله تعالى للخضر أن يعيب السفينة تجري في البحر التي ركبها هو وموسى عليه السلام لكيلا يصيبها ضررًا أكبر منه هو أن يغصبها ملك ظالم كان وراءها في الطرف الآخر فقال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] .

هناك تحملت المفسدة فيه للتوصل إلى المطلوب الراجح المصلحة فتحًا للذريعة ودفعًا للضرر الأكبر.

5-

ويكون اتخاذ الحيل الجائزة لتحصيل المطلوب داخلًا في زمرة فتح الذريعة كما هو ثابت من قصة يوسف عليه السلام مع إخوته: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) } [يوسف: 69 ـ 76] .

والفقهاء أجازوا اتخاذ الحيل الجائزة لتحقيق مصالح ومقاصد مختلفة كما مر تفصيلها، هذه كلها داخلة في فتح الذرائع.

(1) انظر سد الذرائع 71

ص: 1457

فالحاصل:

أنه يتبين من استقراء كتب الفقه أن جميع الفقهاء يراعون أصل سد الذرائع بالرغم من اختلافهم في التعبير، غير أن وجهاتهم تختلف عند المقارنة فيما بين المصلحة والمفسدة، فيحكم بعضهم بالجواز عندما يرى المصلحة راجحة في قضية، والمفسدة مرجوحة وغير قابلة للاعتبار، وعلى العكس من ذلك يرى البعض الآخرون في نفس القضية، المفسدة راجحة والمصلحة مرجوحة ويحكمون بمنعها، وهناك قضايا كثيرة من مثل هذا النوع، تحدث في حياتنا الاجتماعية، فمن واجب الفقهاء أن يرجعوا إلى هذا الأصل للتوصل إلى الحلول الشرعية الملائمة لتلك الحوادث مثلًا. امرأة غاب عنها زوجها ولكنه قد ترك خلفه من المال، ما تعيل به المرأة نفسها، وبعد ما قضت سبعة أو ثمانية أعوام، تنتظر زوجها، ترافع إلى القاضي وتبتغي التفريق من زوجها الغائب فيأمرها القاضي بالتربص إلى أربعة أعوام بعد طلب التفريق، علاوة على ما تربصت، بناء على الفقه المالكي، ولكن القاضي إذا غلب على ظنه بالنظر إلى شباب المرأة وفساد البيئة واختلاط الجنسين في المجتمع أن حكم الانتظار المزيد يدفع المرأة إلى السوء، ويوقعها في الفتنة التي شرع النكاح للوقاية منها، فهل يجوز للقاضي أن يفسخ نكاح المرأة من زوجها الغائب على الفور، سدًا لباب الفتنة وخوفًا من الزنا؟ ويمكننا أن نستخدم هذا الأصل للبحث عن حلول تلك القضايا والمشكلات الاجتماعية، ولكن يجب أن يكون الفقيه عميق النظر، بعيد الغور مطلعًا على دقائق هذا الأصل، خبيرًا بجميع نواحي القضية، لكيلا يكون ذلك موجبًا لهدم أساس الدين ويجعل الفساد صلاحًا وبالعكس، وبدون التمييز الصحيح بين المصلحة والمفسدة.

ولذلك استخدام هذه الأصول بدون الوعي الفقهي الصحيح والنظر الثاقب العميق قد تكون ذريعة إلى مفسدة لا بد من سد بابها كذلك.

الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

ص: 1458

المراجع

1-

القرآن الكريم:

2-

لسان العرب لابن منظور.

3-

تهذيب الفروق للقرافي.

4-

الموافقات للشاطبي.

5-

المقدمات الممهدات لابن رشد الجد.

6-

اعلام الموقعين لابن القيم.

7-

كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي.

8-

شرح التلويح على شرح التوضيح.

9-

المغني في أصول الفقه للخبازي.

10-

الإحكام في أصول الأحكام للآمدي.

11-

سد الذرائع للبرهاني

12-

مجمع الزوائد للهيثمي.

13-

تنقيح الفصول للقرافي.

14-

فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.

15-

البهجة.

16-

مالك لأبي زهرة.

17-

موسوعة جمال عبد الناصر.

18-

أحمد بن حنبل لأبي زهرة.

19-

المدخل الفقهي لمصطفى الزرقاء.

20-

الفروق للقرافي.

21-

بداية المجتهد، لابن رشد

22-

الدسوقي على شرح الكبير.

23-

المدونة للإمام مالك.

24-

الاعتصام للشاطبي.

25-

قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام.

26-

تحفة الأحوذي للمبارك فوري.

27-

بدائع الصنائع للكاساني.

28-

فتح القدير لابن همام.

29-

شرح مسلم للنووي.

30-

خصوصيات الجمعة للسيوطي.

31-

المدخل إلى فقه الإمام أحمد للشيخ بدران.

32-

المجموع شرح المهذب للنووي.

33-

المهذب للشيرازي.

34-

الإشراف.

35-

الهداية، للمرغيناني.

36-

الدر المختار للحصكفي.

37-

ملتقى الأبحر

38-

رد المختار لابن عابدين الشامي.

39-

البحر الرائق لابن نجيم.

40-

خلاصة الفتاوى.

41-

الأشباه والنظائر لابن نجيم.

42-

غمز عيون البصائر للحموي.

ص: 1459