الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سد الذرائع
إعداد
أ. د وهبة مصطفى الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
بكلية الشريعة ـ جامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
سد الذرائع
الحمد لله رب العالمين ثم الصلاة والسلام على أفضل الأنبياء وأكرم المرسلين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد؛
هذا بحث عن سد الذرائع له أهمية واضحة في علم أصول الفقه وفي الوقائع الفقهية والعقود والحيل الشرعية، كما أن له دورًا واضحًا في غرس عوامل الخشية لله تعالى، وتربية الوازع الديني، والوجدان المسلكي النقي القائم على أساس متين من مراقبة الله عز وجل في السر والعلن، وفي المطامح والمطامع.
وسيظهر من خلال البحث أن فقهاءنا متفقون على ضرورة الأخذ بمبدأ الذرائع سدًا وفتحًا، على وفق ما هو مقرر في صرائح النصوص الشرعية، وهم إن اختلفوا في بعض تطبيقاته تأثرًا بما ينازعهم من أصول اجتهادية أخرى له صفة العموم في منهجهم الاستنباطي، فإنهم في بقية الحالات يعلنون صراحة الأخذ بالذرائع، وبخاصة ما جاء به النص القرآني أو النبوي، وسيتبين ذلك صراحة من خلال إيراد عبارات أئمة المذاهب حول اعتماد الذرائع أصلًا من أصول الشريعة.
وسيكون بحث هذا الموضوع بحسب الخطة التالية:
1-
تعريف الذرائع، بيان معنى سدها.
2-
الفرق بين الذريعة والسبب، والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه.
3-
المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية ومدى الوفاق أو الخلاف بينها.
4-
أقسام الذرائع بحسب القطع بتوصيلها للحرام وعدم القطع، أحكامها وشروطها.
5-
موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع، مع تحرير محل النزاع في ذلك.
6-
هل الأخذ بالذرائع مما اختص به المذهب المالكي، أو أن الأخذ بها ثابت في كل المذاهب وإن لم تصرح به؟ شواهد من فقه الأئمة الأربعة على العمل بسد الذرائع.
7-
أثر القول بسد الذرائع، اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية.
8-
أمثلة لفتح الذرائع وسدها.
1-
تعريف الذرائع، بيان معنى سدها:
الذريعة في اللغة: هي الوسيلة التي يتوصل بها إلى الشيء، وهذا المعنى يشمل كل ما له صلة تؤدي إلى غيره، بغض النظر عن صفة الجواز أو المنع؛ لأن ذلك من خصائص الأحكام الشرعية.
وهي في اصطلاح علماء الأصول لها معنى عام ومعنى خاص، أما المعنى العام: فهو ما ذكره ابن القيم، وهو أن الذريعة: ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء (1) . والمراد بالشيء هنا الأحكام الشرعية من طاعة أو معصية. فكل ما كان انتقالًا من الجائز إلى المحظور أو بالعكس فهو ذريعة. وأما المعنى الخاص: فهو ما ذكره الشاطبي وهو أنها: ما يتوصل به إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة (2) . وهذا يقصر الذريعة على الذريعة المحرمة، أي الوسيلة غير الممنوعة بذاتها المتخذة جسرًا إلى فعل محظور، وذلك إذا قويت التهمة في أدائها.
ويترتب على المعنى العام أن الذريعة تسد وتفتح، وتأخذ حكم المقصد أو الغاية، ويكون تعبير الذرائع في مجال الأحكام الشرعية ذا حدين: سد الذرائع: ومعناه الحيلولة دون الوصول إلى المفسدة إذا كانت النتيجة فسادًا؛ لأن الفساد أو الحظر ممنوع، وفتح الذرائع: ومعناه الأخذ بالذرائع إذا كانت النتيجة مصلحة؛ لأن المصلحة مطلوبة شرعًا، قال القرافي (3) . " اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره، وتندب، وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج.
(1) إعلام الموقعين 38/ 147.
(2)
الموافقات 4/ 198 وما بعدها
(3)
الفروق 2/ 33
وموارد الأحكام على قسمين:
مقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها. والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة. ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] فأثابهم الله على الظمأ والنصب، وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة ".
يتضح من هذا البيان الدقيق أن وسيلة المحرم محرمة، ووسيلة الواجب واجبة، لكن هذا مبني على قاعدة مقررة عند جمهور العلماء في مباحث الحكم الشرعي: وهي " ما لا يتم الواجب به فهو الواجب " فالفاحشة حرام، والنظر إلى عورة الأجنبية حرام، لأنها تؤدي إلى الفاحشة، والجمعة فرض فالسعي إليها فرض وترك البيع لأجل السعي فرض أيضًا، والحج فرض، والسعي إلى البيت الحرام وسائر مناسك الحج فرض لأجله؛ لأن الشارع إذا كلف العباد أمرًا، فكل ما يتعين وسيلة له مطلوب بطلبه، وإذا نهى الناس عن أمر، فكل ما يؤدي إلى الوقوع فيه حرام أيضًا.
وقد ثبت هذا بالاستقراء للتكاليف الشرعية طلبًا ومنعاً (1) . فقد وجدنا الشارع ينهي عن الشيء، وينهى عن كل ما يوصل إليه، ويأمر بالشيء، ويأمر بكل ما يوصل إليه، فقد أمر بالمحبة بين الناس، ونهى عن التباغض والفرقة، ونهى عن كل ما يؤدي إليها (2) . فنهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، وأن يستام (يسوم) على سوم أخيه أو يبتاع على بيعه (3) . وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى التباغض المنهي عنه ونحوه. وقد أسهب ابن القيم في بيان هذا الأصل وتقريره وإثباته بالأدلة الشرعية (4) .
ويترتب على المعنى الخاص للذريعة: حسم وسائل الفساد، أي قطعها نهائيًا، ومنه الجائز المؤدي إلى المحظور؛ لأن الشرع نهي عن المفاسد ذاتها، ونهى أيضًا عن كل أمر يتضمن منفعة، لكنه يفضي إلى المفسدة، ولو من غير إرادة المكلف، كشرب الخمر المؤدي إلى السكر، فإنه أمر منهي عنه لذاته؛ لأن الخمر حرمت لعينها، ولو لم تسكر بسبب تناول القليل منها، ونهى الشرع أيضًا عن الأمور المباحة في ذاتها، الموضوعة لمصلحة، لكنها اتخذت وسيلة للمفاسد، كبيع العينة، ونكاح المحلل، وبيع العنب لعاصره خمرًا، وهو المراد بسد الذرائع، ويترتب أيضًا على هذا المعنى في مجال فتح الذرائع إباحة الوسيلة المؤدية لمصلحة مقصودة شرعًا.
والخلاصة: معنى الذرائع ـ كما ذكر القرافي ـ حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة، منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور.
(1) ابن حنبل لأستاذنا المغفور له الشيخ محمد أبو زهرة: ص 314
(2)
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) .
(3)
حديث متفق عليه بين أحمد والشيخين عن أبي هريرة: (ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه) . ولمسلم: (ولا يسوم المسلم على سوم المسلم)(سبل السلام 3/ 22 ـ 23، ط الحلبي) .
(4)
إعلام الموقعين 3/ 147.
2-
الفرق بين الذريعة والسبب، وبين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه:
الأسباب من جملة الوسائل كما قال القرافي (1) . ويتضح الفرق بين الذريعة والسبب من خلال بيان معنى كل منهما، أما السبب في اللغة فهو الحبل وما يتوصل به إلى غيره، وفي الاصطلاح الأصولي: هو وصف ظاهر منضبط، دل الدليل السمعي على كونه علامة لحكم شرعي (2) . وقد يكون السبب مناسبًا للحكم فيسمى أيضًا علة كالسفر سبب لجواز الفطر في رمضان، وهو مناسب ظاهر، لتضمنه معنى المشقة التي تقتضي الترخيص، والإسكار سبب لتحريم الخمر، وهو وصف مناسب؛ لأنه يذهب العقول ويضيعها، وقد يكون غير مناسب، كدلوك الشمس، هو سبب لوجوب صلاة الظهر، في قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وعقولنا لا تدرك وجه المناسبة الظاهرة بين السبب والحكم، ومثل ذلك شهود شهر رمضان لوجوب الصوم، وأشهر الحج لفرضيته.
وحكم السبب: أنه إذا وجد ترتب عليه مسببه حتما سواء أكان مسببه حكما تكليفيا، كإباحة الفطر في رمضان بسبب السفر، أم إثبات ملك أو حل أو إزالتهما، كالبيع لتملك المبيع، وكالزواج يثبت حل الاستمتاع بين الرجل والمرأة، ويوجب المهر والنفقة، والطلاق يثبت حق المراجعة ـ ولو قال الرجل لا رجعة لي ـ لأن المسبب بترتيب الشارع، لا من الإنسان، وتم الربط بين السبب والمسبب بصنع الله وإرادته، إلا أن السبب (أو المقدمة) قد يتحقق من غير أن يكون فيه معنى الإفضاء أو الذريعة المفضية إلى المفسدة أو النتيجة مطلقا، كالسفر لمعصية، فإنه سبب ويتوقف ارتكاب المعصية على قطع المسافة وتجاوز الوطن، إلا أن السفر ليس من شأنه أن يفضي إلى تلك المعصية.
(1) الفروق: 2/ 33
(2)
شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 2/ 7؛ إرشاد الفحول للشوكاني: ص6
كذلك لا يلزم في الذريعة التي يتوصل بها إلى ما فيه مفسدة أن يتوقف عليها وجود تلك المفسدة، فقد يعصي المقيم وقد لا يعصي المسافر، وهناك فرق بين العاصي بسفره والعاصي في السفر، فالأول لا يقصر ولا يفطر؛ لأن سبب هذين السفر، وهو في هذه الصورة معصية، فلا يناسب الرخصة: وأما مقارنة المعاصي لأسباب الرخص فلا تمتنع إجماعًا. يتبين من هذا أن أركان الذريعة ثلاثة: الوسيلة، والإفضاء، والمتوسل إليه أو المتذرع إليه، وهو الممنوع، والأساس في تقدير قوة الإفضاء، كاجتماع البيع والسلف، فإن البيع من الوسائل وهو مقصود بالمنع؛ لأنه وسيلة إلى السلف بمنفعة، فيمنع (1) .
ويتبين أيضًا أن الذريعة التي من أركانها الإفضاء للنتيجة: وهو الذي يصل بين طرفي الذريعة: الوسيلة والمتوسل إليه، لا تستلزم وجود المتوسل إليه، فإما أن يتم الإفضاء فعلًا، كعصر الخمر من العنب المبيع للخمار، وإما أن يقدر وجود الإفضاء تقديرًا، من غير أن يفضي بالفعل، وهذا يتحدد في عنصر القصد، فقد يقصد فاعل الوسيلة التذرع بها إلى المتوسل إليه، كمن يعقد النكاح على امرأة ليحلها لزوجها الأول، وقد لا يقصد فاعلها التذرع بها، ولكن كثرة اتخاذها وسيلة في العادة يدل على أنها وسيلة مفضية، كأن يبيع سلعتين بدينارين لشهر، ثم يشتري إحداهما بدينار نقدًا، فإنه متهم بالقصد إلى الجمع بين بيع وسلف معًا، ولو لم يقصد ذلك بالفعل، وقد لا يقصد فاعل الذريعة التذرع بها، ولكنها قابلة في نفسها لاتخاذها وسيلة للإفضاء بها إلى المتوسل إليه، كسب آلهة المشركين، فإنه قابل لحمل المشركين على سب الإسلام أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم فيمنع منها (2) .
(1) سد الذرائع في الشريعة الإسلامية للأستاذ محمد هشام البرهاني: ص 101 وما بعدها
(2)
المرجع السابق: ص118 وما بعدها.
أما الوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه، فهي تظهر بالعلاقة أو الرابطة القائمة بين السبب والمسبب، فإن تعاطي السبب مستلزم لوجود المسبب كإبرام عقد المبيع المؤدي لإثبات حكمه أو أثره، وهو تملك المشتري المبيع، واستحقاق البائع الثمن في ذمه المشتري.
وفي غير دائرة السبب المحض لم يفرق المالكية بين سد الذرائع وتحريم الوسائل، فهما في المعنى سواء، وفرق بعض الشافعية (1) . بينهما، وقالوا بتحريم الوسائل التي تستلزم المتوسل إليه، أي تفضي إليه بصورة قطعية، فهي وحدها الوسائل المحرمة، وهي المعتبرة بالإجماع، كحفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم في أطعمتهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى، ومنع الماء الذي يستلزم منع الكلأ، الذي هو حرام، فكل هذا من تحريم الوسائل، لا من سد الذرائع، أما المالكية فلا يشترطون هذا القيد الذي ذكره الشافعية، وقالوا بتحريم الوسائل أو الذرائع المختلف فيها غير المجمع عليها، كبيوع الآجال، والنظر إلى الأجنبية، وهي كالمجمع عليها.
(1) حاشية حسن العطار من علماء القرن الثالث عشر على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/399، البحر المحيط للزركشي 6/ 85
3-
المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية ومدى الوفاق أو الخلاف بينها:
رتب العلماء على أصل سد الذرائع منع الحيل في الشريعة، وبخاصة الإمامان ابن تيمية وابن القيم، وأفاض الأخير في بيان وجوه بطلان الحيل إفاضة واسعة، وحمل حملة شديدة على من سماهم " أرباب الحيل " في الجزء الثالث من إعلام الموقعين.
والحيلة في اللغة والعرف: المكر والخديعة والكيد، وأكثر ما تستعمل الحيلة في الفعل المذموم أو فيما في تعاطيه خبث.
والحيلة عند الفقهاء نوعان: مباحة ومحظورة. فإن قصد بها الوصول إلى الحرام فهي حرام، وإلا فلا.
والحيلة الشرعية المباحة: هي التحيل على قلب طريقة مشروعة وضعت لأمر معين، واستعمالها في حال أخرى، بقصد التوصل إلى إثبات حق أو دفع مظلمة، أو إلى التيسير بسبب الحاجة، وبما أن هذا النوع من الحيل لا يهدم مصلحة شرعية، فهو جائز شرعًا، مثاله: أن أهالي بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة، وبما أن هذه الإجارة لا تجوز عند الحنفية في الأشجار، اضطروا إلى وضع حيلة بيع الكرام وفاء (1) . فالبيع الوفائي حيلة شرعية اتخذت بسبب حاجة الناس، ولأجل التخلص من قاعدة منع الإجارة الطويلة في الأشجار.
والحيلة الشرعية المحظورة: هي تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر (2) .
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم المصري 1/41
(2)
الموافقات للشاطبي 4/ 201
يظهر من هذا التعريف: أن الحيلة هي للتخلص من قواعد الشريعة، فهي أخص من الذريعة، وهناك فرقان آخران بين الحيلة والذريعة، فالذريعة: لا يلزم فيها أن تكون مقصودة، والحيلة: لا بد من قصدها للتخلص من المحرم.
والحيلة تجري في العقود خاصة، والذريعة أعم. وكل من الحيلة والذريعة وسيلة لشيء.
أجاز فقهاء الحنفية وبعض الشافعية هذه الحيل إذا لم يقصد بها إبطال الأحكام صراحة، وإنما ضمنا، ومنعها مالك والشافعي وأحمد، للقاعدة الأصولية:" الأمور بمقاصدها ". وأن " العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني " وأن " التشريع مبني على مصالح مقصودة" وأنه يجب سد الذرائع أو الوسائل التي تفوت هذه المصالح، فلو وضع الشارع حكمًا مبنيًا على مصلحة، ثم أجاز الحيلة للتخلص من هذا الحكم، لكان الجواز نقضًا له، وهو تناقض لا يجوز وقوعه.
مثاله: الزكاة شرعت لسد حاجة الفقراء، فلو أجيزت هبة المال قبيل آخر الحول، فرارًا من الزكاة، لكان معناه إبطال مقصود الشريعة وإلحاق الضرر بالفقراء.
والشفعة شرعت لدفع الضرر، فلو شرع التحيل لإبطالها، لكان عودًا على مقصود الشريعة بالإبطال، وللحق الضرر الذي قصد إبطاله (1) . وأبطل ابن تيمية كل الحيل التي تؤدي إلى إسقاط شرط حرمه الشارع؛ لأن هذه مطلوبات، وإهمالها محرم، وكل ما يؤدي إلى المحرم يكون محرمًا، ولو كان في أصل ذاته مباحًا، وكذلك إذا كان غرضه أن يصل إلى أمر محلل، ولكنه لم يستطع الوصول إليه إلا بأمر محرم، فإنه في هذه الحال لا يكون التحايل سائغًا لأن المحرم الذي اتخذ وسيلة إلى الحلال حرام لذاته، كمن يتخذ الخيانة سبيلًا للوصول إلى حقه، أو شهادة الزور سبيلًا لإثبات حق مجحود، فإنه لا يسوغ؛ لأن الخيانة حرام لذاتها، وشهادة الزور حرام لذاتها، والمفسدة التي تترتب على فساد الشهادات وضياع الأمانات أشر من المفسدة التي تقع بضياع حق مفرد لواحد من الناس، فإنه إذا ساغ الاستشهاد بالزور لإثبات حق، فيستشهد بالزور لإثبات الباطل، وإذا ساغت الخيانة للوصول إلى الحق، فيسوغها لنفسه من يريدها لذاتها، وبذلك يكون أمر الناس فرضي، والحرام لذاته لا يباح مطلقا، ولا في أي حال إلا للضرورة (2) . وقال في المغني: والحيل كلها محرمة لا تجوز في شيء من الدين، وهو أن يظهرا عقدًا مباحًا يريدان به محرمًا، مخادعة وتوسلًا إلى فعل ما حرم الله تعالى، واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك (3) .
(1) الموافقات 2/201 إعلام الموقعين 3/124، 346 فتاوى ابن تيمية 3/ 146
(2)
ابن تيمية للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ص 449
(3)
شرح الكوكب المنير لابن النجار 4/ 434 ـ 435
4-
أقسام الذرائع بحسب القطع بتوصلها للحرام وعدم القطع، أحكامها وشروطها:
تنقسم الذريعة بالمعنى الخاص بحسب أحوال إفضاء الوسيلة الجائزة إلى المتوسل إليه الممنوع، ويختلف كل نوع بحسب قوة الإفضاء الذي يتردد بين أن يكون قطعيًا، أو كثيرًا غالبًا أو كثير غير غالب، أو نادرًا.
وكان الشاطبي رحمه الله أول من قسم الذرائع باعتبار مآلها وقطعية توصيلها للحرام وعدم القطع، وما يترتب عليها من ضرر أو مفسدة إلى أربعة أقسام (1) .
الأول: ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعًا: كحفر البئر خلف باب الدار في وسط الظلام، بحيث يقع الداخل فيه حتمًا، وشبه ذلك، هذا ممنوع غير جائز وإذا فعله شخص يعد متعديًا بفعله، ويضمن ضمان المتعدي في الجملة: إما لتقصيره في إدارك الأمور على وجهها، أو لقصده نفس الأضرار.
الثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا: كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه، وبيع الأغذية التي غالبها ألا تضر أحدًا، وهذا مباح باق على أصله من الإذن فيه؛ لأن الشارع أناط الأحكام بغلبة المصلحة، ولم يعتبر ندور المفسدة، إذ ليس في الأشياء خير محض، ولا شر محض، ولا توجد في العادة مصلحة خالية في الجملة عن المفسدة. قال الشاطبي: ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة ـ مع معرفته بندور المضرة عن ذلك ـ تقصيرًا في النظر، ولا قصدًا إلى وقوع الضرر، فالعمل إذن باق على أصل المشروعية.
(1) الموافقات: 2/ 358 ـ 361
الثالث: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرًا، ويغلب على الظن إفضاؤه إلى الفساد، كبيع السلاح إلى أهل الحرب، وبيع العنب إلى الخمار ونحوهما. وهذا هو الكثير الغالب.
وحكمه أنه يلحق الظن الغالب بالعلم القطعي لأمور:
1-
أن الظن في الأحكام العملية يجري مجرى العلم، فالظاهر جريانه هنا.
2-
نص الشارع على سد الذرائع كما سيأتي بيانه، وهذا القسم داخل في مضمون النص؛ لأن معنى " سد الذائع " هو الاحتياط للفساد، والاحتياط يوجب الأخذ بغلبة الظن.
3-
إن إجازة هذا النوع فيه تعاون على الإثم والعدوان والمنهي عنه.
4-
أن يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا، لا غالبًا ولا نادرًا، كبيوع الآجال، فإنها تؤدي إلى الربا كثيرًا لا غالبًا، وهذا موضع نظر والتباس، فإما أن ينظر إلى أصل الإذن بالبيع، فيجوز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة؛ لأن العلم أو الظن بوقوع المفسدة منتفيان، إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه، ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر، ولا يبنى المنع إلا على العلم أو الظن، وأيضًا لا يصح أن نحمل عمل العامل وزرا لمفسدة لم يقصدها، ولم يكن مقصرًا في الاحتياط لتجنبها، لأنها ليست غالبة، وإن كانت كثيرة.
وإما أن ينظر إلى كثرة المفاسد، وإن لم تكن غالبة، فيحرم، وهذا هو مذهب مالك وأحمد، لأسباب ثلاثة:
ا- أنه يراعي كثرة وقوع القصد إلى الربا في هذه البيوع، أما القصد نفسه فلا ينضبط، أما إنها مظنة الوقوع فقد تتخلف المفسدة في حالة من الحالات، وكثرة وقوع المفاسد مع قابلتيها للتخلف يجعلها قريبة الوقوع، ويجب الاحتياط لها في العمل، إذ إن كثرة المفاسد في باب الاحتياط تصل إلى درجة الأمور الظنية الغالبة، أو المعلومة علميًا قطعيًا في مجاري العادات، لأنها تشارك حال غلبة الظن، وحال العلم في كثرة المفاسد المترتبة، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.. وقد اعتبرت الكثرة في حديث أم ولد زيد بن أرقم الذي سيذكر في حجية الذرائع.
ب- في بيوع الآجال تعارض أصلان: لأن البيع في الأصل مأذون فيه، وهناك أصل ثان: وهو صيانة الإنسان عن إيقاع الضرر بغيره، ويرجح الأصل الثاني لكثرة المفاسد المترتبة، فيجب المنع من هذه البيوع، ويخرج بالترجيح الفعل عن أصله وهو الإذن إلى العمل بالأصل الثاني، وهو المنع، سدا لذرائع الفساد والشر.
ج- وردت نصوص كثيرة بتحريم أمور كانت في الأصل مأذونا فيها، لأنها تؤدي في كثير من الأحوال إلى مفاسد، وإن لم تكن غالبة ولا مقطوعًا بها، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به، وهي الجرار الخضر ونحوها، لئلا يتخذ ذريعة، وحرم عليه الصلاة والسلام الخلوة بالأجنبية، وأن تسافر المرأة مع غير ذي رحم محرم، ونهى عن بناء المساجد على القبور وعن الصلاة إليها، وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وقال: إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم، وحرم خطبة المعتدة ونكاحها، حتى لا تكذب في انتهاء العدة، وحرم على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة وسائر دواعي النكاح، ونهى عن البيع والسلف، وعن هدية المدين، وميراث القاتل، وحرم صوم يوم عيد الفطر والأضحى، إلى غيره مما هو ذريعة، فقد كان النهي في هذه الحالات خشية وقوع المفاسد التي قد تترتب عليها، وإن لم يكن المترتب بغلبة الظن أو بالعلم القاطع، والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالجزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقًا إلى مفسدة، كما قال الشاطبي.
-أحكام الذرائع:
المهم في بيان أحكام الذرائع تخصيصها بالذرائع بالمعنى الخاص: وهي الوسائل الجائزة المؤدية إلى ممنوع في النوع الأهم من أنواع الذريعة بالمعنى العام، وهي محل النزاع أو الخلاف بين العلماء كما سيأتي بيانه.
أما حكم الذرائع بالمعنى العام (وهي الوسيلة الجائزة المؤدية إلى الجائز الممنوع وبالعكس) فقد عرفنا أن القرافي حكم عليها بأن وسيلة المحرم محرمة، ووسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة والحج، لكن ابن الشاط في حاشيته على الفروق (1) لا يسلم له هذا الإطلاق ويصحح القول بعدم لزومه فيقول:(جميع ما قاله في هذا الفرق صحيح غير ما قاله منه أن حكم الوسائل حكم ما أفضت إليه من وجوب أو غيره، فإن ذلك مبني على قاعدة أن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والصحيح أن ذلك غير لازم فيما لم يصرح الشرع بوجوبه والله تعالى أعلم) .
وكذلك القرافي نفسه ذكر تحت عنوان (تنبيه) بعد كلامه السابق (2) : القاعدة أنه كلما سقط اعتبار المقصد، سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع له في الحكم، وقد خولفت هذه القاعدة في الحج، في إمرار الموس على رأس من لا شعر له، مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر، فيحتاج أي دليل يدل على أنه مقصود في نفسه، وإلا فهو مشكل على القاعدة.
وفي (تنبيه) أخر يقول القرافي: قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع به، بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة عندنا، وكدفع مال لرجل يأكله حرامًا، حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن دفعه عنها إلا بذلك، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال عند مالك رحمه الله تعالى، ولكنه اشترط فيه أن يكون يسيرًا، فهذه الصور كلها الدفع وسيلة إلى المعصية بأكل المال، ومع ذلك فهو مأمور به لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة.
(1) الفروق، حاشية ابن الشاط عليه: 2/32
(2)
الفروق 2/33
والخلاصة: ليس للوسيلة حكم ما تفضي إليه بإطلاق، بل إن هناك اعتبارات أخرى تؤثر في تحديد حكمها (1) ، ومن أهم هذه الاعتبارات ظرف الضرورة، كالجهاد مع أن فيه تعريض النفس للهلاك، أو ظرف الحاجة مثل كشف العورة والنظر إليها فذلك مطلوب نظرًا للمال.
وأما حكم الذرائع بالمعنى الخاص فيتردد بين الجواز عند وجود المصلحة، والمنع أو التحريم عند وجود المفسدة أو كون النتيجة (المتوسل إليه) حرامًا.
تكون الذريعة جائزة إذا كان أداؤها للفعل المحرم نادرًا، سواء أكانت الوسيلة مباحة أو مندوبة أو واجبة؛ لأن في منعها حرجًا وتعطيلًا لمصالح كثيرة، مثال الوسيلة المباحة: التصرفات العادية مع كونها قابلة للإفضاء إلى المحرم، ومثال الوسيلة المندوبة: التصدق على المساكين بالمال، فهو مندوب، لكن يحتمل إنفاق المال في وجوه الحرام. ومثال الوسيلة الواجبة: دفع الزكاة لمسلم، فأنفقها في حرام.
وتكون الذريعة ممنوعة إذا كان أداؤها للفعل المحرم قطعًا أو كثيرًا غالبًا أو غير غالب، سواء أكانت الوسيلة مباحة أو مندوبة أو واجبة. مثال الوسيلة المباحة: اتخاذ البيع أو الشراء أو القرض ذريعة لأكل الربا.
ومثال الوسيلة المندوبة: الاشتغال بالنافلة على وجه يظن الجاهل معها فرضيتها. ومثال الوسيلة الواجبة: الصدق إذا أدى إلى كشف أسرار المسلمين لأعدائهم، أو التفريق بينهم بإيقاع العداوة، تمنع الوسيلة في هذه الحالات للتحقق من الوقوع في المفسدة، وتعتبر الغلبة أو الكثرة في حكم القطع؛ لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة احتياطًا، وعملًا بالقاعدة:(ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال) .
(1) الذرائع للأستاذ هشام البرهاني: ص202
-شروط الذرائع:
للذرائع شروط تفهم من تقسيمات العلماء لها كالشاطبي وابن القيم (1) . فإذا كانت الذريعة جائزة يشترط فيها شرطان.
1-
أن يكون الوقوع في المفسدة نادرًا: ففي حال الندرة لا يمنع الفعل؛ لأنه ليس في الأشياء خير محض ولا شر محض، والنادر لا حكم له.
2-
أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته، كالنظر إلى المخطوبة، والمشهود عليها. والمصلحة: غرض الشارع في كل أوامره ونواهيه وفي كل تشريعاته وأحكامه، والمفسدة: هي التي اعتبرها الشرع ضررًا، لا ما يراه الإنسان مفسدة.
وإذا كانت الذريعة ممنوعة فيشترط فيها ثلاثة شروط:
1-
أن تكون من شأنها الإفضاء إلى المفسدة لا محالة (قطعاً) أو غالبًا أو كثيرًا، فإن لم تتحقق المفسدة أو كانت قليلة أو نادرة فلا تمنع الوسيلة، مثلا (شرب المسكر مفض) لا محالة إلى مفسدة السكر، والزنى مفض إلى اختلاط الماء وفساد الفراش.
2-
أن تكون المفسدة أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة، وإن كانت الوسيلة مباحة لم يقصد بها التوصل إلى مفسدة، مثل سب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، أي في ديارهم أو أمامهم.
3-
أن يقصد بالمباح التوصل إلى مفسدة، كعقد الزواج المقصود به التحليل، وعقد البيع الذي قصد به التوصل إلى الربا.
(1) الموافقات 2/358 ـ361 إعلام الموقعين 3/148
5-
موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع، من تحرير محل النزاع في ذلك:
انقسم العلماء في الظاهر بالنسبة للأخذ بالذرائع فريقين:
الاتجاه الأول للمثبتين: وهم المالكية والحنابلة والشيعة والإمامية (1) : اعتبر هؤلاء مبدأ الذرائع أصلًا من أصول الفقه.
الاتجاه الثاني للمانعين: وهم الحنفية والشافعية والظاهرية (2) : لم يأخذ هؤلاء بالذرائع الاجتهادية غير النصية المصرح بها في الكتاب والسنة. وقد صرح الإمام الشافعي في كتابه الأم (3) . في الأخذ بالذرائع النصية ـ كما تقدم ـ فقال: وفي منع الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله عام يحتمل معنيين: أحدهما ـ أن ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى تحريم ما أحل الله لم يحرم.
فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام.
(1) الفروق 2/32 وما بعدها، شرح الكوكب المنير 4/434ـ 436 المدخل إلى مذهب أحمد: ص 138، الأصول العامة للفقه المقارن للشيخ محمد تقي الحكيم ص414.
(2)
إرشاد الفحول للشوكاني: ص217
(3)
الأم 3/272، البحر المحيط للزركشي 6/84
أدلة المثبتين: استدل أصحاب الاتجاه الأول لإثبات حجية الذرائع وكونها أحد أصول التشريع بأدلة واضحة من القرآن والسنة (1) . فمن القرآن الكريم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] ، والمراد من كلمة (راعنا) المنهي عنها أنها اسم فاعل من الرعونة، كان اليهود يستعملون هذه الكلمة بقصد سب النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه في حيلة اصطياد السمك من اليهود موبخًا لهم:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] .
وأدلتهم في السنة النبوية: قوله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (2) . وقوله: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات)) (3) . ((المؤمنون وقافون عند الشبهات)) (4) . ((من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه)) (5) . ((الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (6) . ((استفت قلبك وإن أفتاك المفتون)) (7) . ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) ، قيل: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال:((يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) (8) .
(1) قال ابن رشد في المقدمات الممهدات 2/41: وأبواب الذرائع في الكتاب والسنة يقول ذكرها ولا يمكن حصرها، ثم أورد أحاديث كثيرة، وقال: والربا أحق ما حميت مراتعه ومنع منها لئلا يستباح الربا بالذرائع، وأيضًا فإن مراعاة التهمة أصل بني الشرع عليه، قال رسول الله عليه وسلم:(لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه) .
(2)
رواه النسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنها.
(3)
رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(4)
ذكره الشوكاني في إرشاد الفحول: ص 217، ولم أجده في غير كتب الأصول
(5)
ذكره الشوكاني في إرشاد الفحول: وهو من حديث النعمان بن بشير السابق الذي في آخره: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)
(6)
رواه أحمد والدارمي في مسنديهما بإسناد حسن عن وابصة بن معبد بلفظ: الإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك
(7)
تخريجه في الرقم السابق
(8)
رواه البخاري ومسلم من عبد الله بن عمرو، ورواه أبو داود في سننه
واستدل ابن تيمية رحمه الله على سد الذرائع بشواهد قولية وعملية من السنة، وهي ما يأتي:
1-
الحديث السابق الذي ينهي عن شتم الرجل أبوي غيره، حتى لا يكون ذريعة إلى سب أبوي نفسه؛ لأن سب الغير يؤدي إليه.
2-
إن الشارع نهي عن خطبة المعتدة؛ لأنه قد يجر إلى ما هو أكبر منه، وهو الزواج في العدة.
3-
نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف (1) ، مع أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر يصح، لئلا يؤدي إلى الربا.
4-
نهى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض (2) ، حتى يحسبها من دينه، لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية، فيكون ربا.
5-
إن الشارع منع أن يكون للقاتل ميراث (3) ، لكيلا يتخذ القتل سبيلا لتعجيل الميراث.
6-
اتفق الصحابة على قتل الجماعة بالواحد، مع ما فيه من عدم المساواة، وذلك كيلا يكون ذريعة إلى الإجرام، ولا عقاب عليه.
7-
إن الله سبحانه وتعالى منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كان بمكة، من الجهر بالقرآن، فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به.
قال ابن تيمية بعد هذه الشواهد: والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه، أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم، إذ الفروع المختلف فيها، منها ما يحتج لها بهذه الأصول، ولا يحتج بها.
والأدلة عدا هذه كثيرة، وأفاض ابن القيم في سردها، حتى إنه أورد تسعًا وتسعين وجهًا للدلالة على سد الذرائع والمنع منها (4) .
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة والحاكم عن عمرو بن شعيب من أبيه عن جده
(2)
رواه القزويني وابن ماجه عن أنس بلفظ: (إذا أقرض أحدكم قرضًا، فأهدي له) أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك، وفيه مجهول. وروى البخاري في تاريخه عن أنس:(إذا أقرض فلا يأخذ هدية) .
(3)
إعلام الموقعين 3/149 ـ 217
(4)
إعلام الموقعين 3/ 149 ـ 217
-تحرير محل النزاع في الذرائع:
اتفق العلماء على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان مطلقًا، وأن ما يؤدي إلى إيذاء جماعة المسلمين ممنوع، كحفر الآبار في الطريق العامة، أو إلقاء السم في طعامهم.
واتفقوا على أنه لا يجوز سب الأصنام، حيث يكون سببا في سب الله، عملًا بمقتضى قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
واتفقوا على أن ما يكون طريقا للخير والشر، وفي فعله منفعة للناس، لا يكون محظورًا، كغرس العنب فإنه يؤدي إلى صنع الخمر، ولكن لم يكن غرسه لهذا الغرض بأصله، وإنما الانتفاع بغرسه أكبر من حصول الإضرار به، والعبرة للغالب (1) . ومثله أيضًا: المجاورة في البيوت خشية الزنى. وأما موضع الخلاف فهو في بيوع الآجال أو بيع العينة (2)، قال الشاطبي (3) : قامت الأدلة على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا مجمع عليه، وإنما النزاع في ذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال.
من أمثلة بيوع الآجال: أن يبيع البائع سلعة بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يشتريها من المشتري بخمسة نقدًا. وهذه البيوع يقال: إنها تصل إلى ألف مسألة. ومن أشباهها في الحكم: كل مباح تذرع به إلى مفسدة كالنظر للضرورة إلى المرأة الأجنبية والتحدث معها من حيث إنه ذريعة للزنى.
(1) الموافقات 4/ 400، الفروق 2/33، 3/266، كتاب ابن حنبل للشيخ محمد أبي زهرة: ص324
(2)
فرق المالكية بين بيوع الآجال وبيع العينة، أما بيع الأجل: فهو أن يبيع شيئًا لأجل كشهر، ثم يشتري البائع نفسه من المشتري بجنس ثمنه نقدًا بأقل من الثمن الأول أو إلى أقرب من الأجل، أو بأكثر من الثمن إلى أبعد من الأجل، فلا تجوز هاتان الصورتان للتهمة وأدائها إلى ممنوع: وهو اجتماع بيع وسلف أو سلف جر منفعة أو ضمان يجعل، وأما بيع العينة: فهو أن يقول شخص لآخر: اشتر سلعة بعشرة نقدًا، وأنا آخذها منك باثني عشر لأجل، فلا يجوز لما فيه من سلف جر نفعًا (شرح الكبير للدردير: 3/77، 78، 88
(3)
الموافقات 3/ 304ـ وما بعدها
وموطن النزاع أو الخلاف ـ على الوجه الأدق في الذرائع ـ ليس في البيوع التي يظهر فيها القصد إلى الربا، فإن ذلك لا يجوز بحال، وإنما الخلاف هو في الحالة التي لم يظهر منها القصد إلى الممنوع.
فالمالكية والحنابلة: يبطلون هذه البيوع؛ لأن العقد نفسه يحمل الدليل على قصد الربا، إذ إن مآل هذا التعاقد هو بيع خمسة نقدًا بعشرة إلى أجل، والسلعة فيما بين ذلك لغو لا معنى له.
وأما أبو حنيفة: فهو وإن لم يقل بحكم الذرائع، إلا أنه يبطل هذه البيوع على أساس آخر، وهو أن الثمن إذا لم يستوف وتم قبض السلعة لم يتم البيع الأول، فيصير الثاني مبنيًا عليه، أي إنه ليس للبائع الأول أن يشتري شيئًا ممن لم يتملكه، فيكون البيع الثاني فاسدًا، ويؤول الأمر إلى بيع خمسة في عشرة لأجل، وهو ربا فضل ونساء معا، فيصبح العقد الثاني فاسدًا؛ لأن فيه معنى الربا. كما أن أبا حنيفة في غير العقار لا يجيز بيع الشيء قبل قبضه، فليس للمشتري أولا أن يبيع الشيء إلى البائع أو لا أو إلى غيره قبل قبض المبيع في حالة البيع قبل القبض.
وأما الشافعي: فيصحح هذه البيوع في الظاهر قضاء، لاكتمال الأركان والشروط، ويترك ناحية القصد الباطن (أي النية الخبيثة والباعث السيئ) إلى الإثم والعقاب الأخروي إلى الله الذي يحاسب العباد على السرائر والنيات الأئمة، بمعنى أن العقد حرام للنهي عنه، لكن النهي لا يبطل العقد في كل بيع يؤدي إلى مفسدة، وكذا كل تصرف يفضي إلى معصية، ما دام مستوفيًا أركانه وشروطه الصحيحة، فالعقدان صحيحان في الظاهر، حتى يقوم الدليل على قصد الربا المحرم (1) .
(1) مغني المحتاج 2/37 ـ38
والخلاصة: ينظر الشافعي إلى صورة البيع، ويحمل الأمر على ظاهره فيجوز ذلك، فكل ما لم يكن مشروطًا في العقد، فهو جائز عند الشافعية. ويؤيد هذا التحقيق لموضع الخلاف ما قاله القرطبي والقرافي المالكيان. قال القرطبي (1) . سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلًا.
ثم قرر موضع الخلاف فقال: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور، إما أن يفضي إلى الوقوع قطعًا أولا، الأول: ليس من هذا الباب، بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه، ففعله حرام من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والذي لا يلزم (أي إفضاؤه إلى الوقوع في المحظور قطعاً) : إما أن يفضي إلى المحظور غالبًا أو ينفك عنه، أو يتساوى الأمران، وهو المسمى بالذرائع عندنا، فالأول: لا بد من مراعاته والثاني والثالث: اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه، وربما يسميه: التهمة البعيدة، والذرائع الضعيفة.
وقال القرافي (2) : مالك لم ينفرد بذلك ـ أي بسد الذرائع ـ بل كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها. وأضاف قائلًا: فإن من الذرائع ما هو معتبرة بالإجماع، كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم في طعامهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذ.
ومنها: ما هو ملغي إجماعًا، كزراعة العنب، فإنها لا تمنع خشية الخمر، وإن كان وسيلة إلى المحرم.
ومنها: ما هو مختلف فيه، كبيوع الآجال، فنحن لا نغتفر الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا في أصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا، لا أنها خاصة بنا.
وقال: وبهذا تعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية وفي هذه المسألة بقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] فقد ذمهم لكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم بحبس الصيد يوم الجمعة. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل شهادة خصم وظنين)) (3) . خشية الشهادة بالباطل، ومنع شهادة الآباء للأبناء (4) .
ثم قال وإنما قلنا: إن هذه الأدلة لا تفيد في محل النزاع، لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا أمر مجمع عليه، وإنما النزاع في ذريعة خاصة، وهو بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع.
(1) إرشاد الفحول للشوكاني: ص217، البحر المحيط للزركشي 6/82، ط. الكويت
(2)
الفروق 2/32، 3/266، تهذيب الفروق 2/42، إرشاد الفحول ص217
(3)
رواه مالك في الموطأ موقوفًا على عمر، وهو منقطع، رواه أبو داود والبيهقي مرسلًا ورواه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي إسناده نظر (نيل الأوطار 8/291)
(4)
رواه الخصاف أبو بكر الرازي عن عائشة وفي مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق هو من قول شريح: (لا تجوز شهادة الابن لأبيه، ولا الأب لابنه، ولا المرأة لزوجها. ولا الزوج لامرأته)
-أدلة البيوع الربوية:
البيوع الربوية أو بيوع الآجال تسمى أيضًا بيوع العينة، وإن فرق بينها المالكية في الاصطلاح كما تقدم؛ لأنه يتوسط في التعامل بالربا عين (سلعة) كأن يبيع الشخص عينا، كأرز أو سكر بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري لبائعها بثمن معجل أقل، فيكون الفرق ربا، وقد استدلوا على تحريم هذه البيوع بسد الذرائع للربا، وبحديث تكلم بعض العلماء في سنده، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إذا ضمن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر ـ أي اشتغلوا بالزراعة ـ وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله عليهم بلاء، فلا يرفعه، حتى يراجعوا دينهم)) (1) .
وأضاف المالكية دليلين آخرين وهما:
1-
إن هذه البيوع، وإن كانت على صورة بيع جائز في الظاهر، إلا أنها لما كثر قصد الناس التوصل إلى ممنوع في الباطن، كبيع بسلف، وسلف بمنفعة، منعت قياسًا إلى الذرائع المجمع على منعها، بجامع أن الأغراض الفاسدة في كل، هي الباعثة على عقدها؛ لأنه المحصل لها.
2-
بحديث ذكره مالك في الموطأ، وهو (أن أم ولد زيد بن أرقم قالت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين إني بعت من زيد بن أرقم عبدًا بثمانمائة درهم إلى العطاء، واشتريته منه بستمائة نقدًا، فقالت عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب، قالت: أرأيتني إن أخذته برأس مالي؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: فمن جاءه موعظة من ربه، فانتهى فله ما سلف، وأمره إلى الله) (2) .
فهذه صورة النزاع (3)، قال القرافي: وهذا التغليظ العظيم لا تقوله رضي الله عنها إلا عن توقيف، فتكون هذه الذرائع واجبة السد، وهو المقصود.
وقال ابن رشد في المقدمات الممهدات: وهذه المبايعة كانت بين أم ولد زيد بن أرقم ومولاها قبل العتق، فيخرج قول عائشة على تحريم الربا بين السيد وعبده مع القول بتحريم هذه الذرائع، ولعل زيدا لا يعتقد تحريم الربا بين السيد وعبده (4) .
(1) رواه أحمد وأبو داود والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفي إسناده مقال، ولأحمد من رواية عطاء، ورجاله ثقات، وصححه ابن القطان (سبل السلام 3/41، نيل الأوطار (5 (206) وتعقب ابن حجر تصحيح ابن القطان بأن فيه الأعمش وهو مدلس.
(2)
رواه عبد الرزاق في مصنفه عن عائشة، ورواه أيضًا الدارقطني، وقال الشافعي: لا يصح (نيل الأوطار، المكان السابق)
(3)
الفروق 3/267
(4)
المقدمات الممهدات 2/54، ط دار الغرب الإسلامي، إرشاد الفحول ص217
-أدلة الشافعية:
أجاب الزركشي من الشافعية على أدلة المالكية بأن عائشة قالت ذلك باجتهاد، واجتهاد واحد من الصحابة لا يكون حجة على الآخر بالإجماع، ثم قولها معارض بفعل زيد بن أرقم، ثم إنها أنكرت البيع لفساد التعيين، فإن البيع الأول فاسد بجهالة الأجل؛ لأن وقت العطاء غير معلوم، والثاني بناء على الأول، فيكون فاسدًا (1) .
ثم انتقل الشافعية من منع أدلة المالكية في الجملة إلى إثبات مدعاهم، فقالوا: وإذا اختلف الصحابة كما ذكر، فمذهبنا القياس، واحتجوا بثلاثة أدلة:
1-
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فهذا يقتضي إباحة البيع الصحيح ومشروعيته. وأجابهم القرافي (2) . بأن هذا النص عام، وما استدل به المالكية من حديث عائشة خاص، والخاص مقدم على العام، على ما تقرر في علم الأصول.
2-
ثبت في السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتى بتمر جنيب ـ نوع جيد من أنواع التمر ـ فقال: أتمر خيبر كله هكذا؟ فقالوا: إنا نبتاع الصاع بالصاعين من تمر الجمع، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تفعلوا هذا، ولكن بيعوا تمر الجمع بالدراهم، واشتروا بالدراهم جنيبًا)) (3) فهذا بيع صاع بصاعين، وإنما توسط بينهما عقد الدراهم، فأبيح.
وأجاب القرافي: بأن المالكية يمنعون أن يكون العقد الثاني من البائع الأول، وليس ذلك مذكور في الخبر، مع أن بيع العقد إذا تقابضا فيه ضعفت التهمة، وإنما المنع حيث تقوى التهمة.
3-
إن العقد المفضي للفساد لا يكون فاسدًا إذا صحت أركانه، كبيع السيف من قاطع الطريق، والعنب من الخمار، مع أن الفساد في قطع الطريق أعظم من سلف جر نفعًا، لما فيه من ذهاب النفوس.
وأجاب القرافي: بأن محل ذلك إذا لم تكن الأغراض الفاسدة هي الباعثة على العقد، وإلا منع كما في عقود صور النزاع، وهناك فرق بين هذه البيوع وبيع السيف من قاطع الطريق ونحوه، فإن البيع للقاطع ليس محصلًا لقطع الطريق وعمل الخمر، إذ الفساد ليس مقصودًا مع البيع بالذات، حتى يكون باعثًا على عقده كصورة النزاع.
(1) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، 6/84 ط وزارة الأوقاف بالكويت، إرشاد الفحول ص 217
(2)
الفروق 3/268
(3)
متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما والجنيب: الطيب أو الصلب أو الذي أخرج منه حشفه ورديئه، وتمر الجمع: هو التمر الرديئ، المجموع من أنواع مختلفة (سبل السلام 3/38) .
الترجيح:
إن الموضوع المختلف فيه، وهو المباح الذي يتذرع به إلى المفسدة، أرى أنه ينبغي فيه سد الباب أمام المحتالين والمفسدين الذين يحاولون التحلل من قيود الشريعة وأحكامها، فإن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، وهي إنما تنظر في الحقيقة إلى غايات الأشياء ومآلاتها، فإن كانت هذه الغايات مفاسد وأضرار منعت من أسبابها وسدت الوسائل والطرق التي يتذرع بها إليها ولو كانت هذه الوسائل في نفسها جائزة.
وبهذا يكون مذهب المالكية والحنابلة، ويقاربهم الحنفية في هذه المسألة أسد وأحكم، والعمل به أوجب وألزم.
وفيما عدا البيوع الربوية يتفق العلماء على الأخذ بأصل الذارئع، وإن لم يسمه بعضهم بهذا الاسم، ولكن على اختلاف في المقدار وتباين في طريقة الوصول إلى الحكم، فأكثرهم أخذ بها الإمامان: مالك وأحمد، ويليهم الإمام أبو حنيفة، وأقلهم أخذًا بها الإمام الشافعي رضي الله عنهم، وهو يتفق مع ما نقل عن الشافعي من تحريم الحيل. ولكن أبا حنيفة والشافعي لم يعتبراه أصلًا قائمًا بذاته، بل كان داخلًا في الأصول المقررة عندهما كالقياس، والاستحسان الخفي الذي لا يبتعد عما يقرره الشافعي إلا في العرف القائم بين الناس.
والخلاصة ـ الذرائع ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقطع بتوصله إلى الحرام، فهو حرام بالاتفاق بين العلماء.
والثاني: ما يقطع بأنها لا توصل، ولكن اختلطت بما يوصل، فكان من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه.
والثالث: ما يحتمل ويحتمل، وفيه مراتب متفاوتة، ويختلف الترجيح عند المالكية بسبب تفاوتها.
ويخالف الشافعية في القسمين الثاني والثالث فلا يأخذان بسد الذرائع فيها، ويقولون بسد الذرائع في القسم الأول لانضباطه وقيام الدليل (1) .
لكن يلاحظ أن الأخذ بالذرائع لا تصح المبالغة فيه، فإن المغرق فيه قد يمتنع عن أمر مباح أو مندوب أو واجب، خشية الوقوع في ظلم، كامتناع بعض العادلين عن تولي أموال اليتامى أو أموال الأوقاف، خشية التهمة من الناس، أو خشية على أنفسهم من أن يقعوا في ظلم، ولأنه لوحظ أن بعض الناس قد يمتنع عن أمور كثيرة خشية الوقوع في الحرام (2) .
(1) البحر المحيط للزركشي 7/85
(2)
أصول الفقه للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة: ص281
6-
هل الأخذ بالذرائع مما اختص به المذهب المالكي أو أن الأخذ بها ثابت في كل المذاهب وإن لم تصرح به؟ شواهد من فقه الأئمة الأربعة على العمل بسد الذرائع.
إن سد الذرائع معمول به في الاجتهاد في فقه الصحابة والتابعين، وفي المذاهب الاجتهادية الأربعة على تفاوت في مدى الأخذ به، أو درجة الأخذ، فمن عمل الصحابة بسد الذرائع: منع نكاح الكتابيات، وتضمين صاحب الدابة عما تتلفه، وتضمين الصناع، وإمضاء الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا، وتحريم المرأة أبدًا على متزوجها في العدة، وقتل الجماعة بالواحد، وتوريث المبتوتة في مرض الموت من زوجها، لو مات في مرضه الذي طلق فيه (1) .
واستمر هذا العمل في عصر التابعين، مثل القول بمجانبة أهل الهوى والفساد، وترك بعض الأفعال المباحة حتى لا تتخذ سنة، مثل خلع الخليفة نفسه بطلب المعارضة، وترك تطويل الصلاة سدا لزريعة الوسواس وكراهية بعض التابعين صوم ست من شوال، حتى لا يلحق برمضان ما ليس منه، وترك الترفه في المطعم والشرب والمركب والمسكن (2) .
وصرح المالكية كالقرطبي والقرافي وابن رشد الجد كما تقدم بأنهم لم ينفردوا في الأخذ بالذرائع، وشاركهم أئمة المذاهب الأخرى بها، ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها، فهناك ذرائع مجمع على حكمها، كسب آلهة المشركين، وحفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم في أطعمتهم وأشربتهم، وهناك ذرائع مهمل حكمها كزراعة العنب خشية الخمر، وإباحة التجاور في البيوت، ولو احتمل وقوع الزنا، وإباحة النظر إلى المخطوبة، والتعريض بالخطبة أثناء عدة الوفاء، ونحو ذلك مما يندر إفضاؤه إلى المفسدة، أو استثني من أصل المنع بالنص، لما فيه من المصلحة الراجحة على المفسدة المحتملة، وهناك ذرائع مختلف فيها كبيوع الآجال، منهم من ألحقها بالذرائع الممنوعة، لأنها ذريعة يتحيل بها آكل الربا إلى بيع درهم نقدًا بدرهمين إلى أجل، ومنهم من ألحقها بالذرائع المهملة، لأنها عبارة عن عقدين صحيحين، كلاهما مقصود شرعًا، ولا فرق في القصد بين حصول ذلك مع عاقد واحد أو عاقدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في إباحة بيع تمر الجمع بالدراهم، ثم الشراء بها تمرا جيدًا، لم يفصل.
لكن اتفاق المذاهب الأربعة على الأخذ بسد الذرائع ليس بدرجة واحدة في مجال التطبيقات الفعلية، فالمالكية في أعلى درجة، والشافعية عكسهم، والحنابلة أقرب للمالكية، والحنفية أقرب للشافعية، وهناك شواهد من فقه أئمة المذاهب الأربعة على العمل بسد الذرائع.
(1) الذرائع للأستاذ هشام البرهاني ص 535 ـ547
(2)
الذرائع للأستاذ هشام البرهاني ص 560، 572، 575، 591، 599
-شواهد المالكية في الأخذ بالذرائع:
من أبرز أمثلة القول بسد الذرائع عند المالكية، بيوع الآجال وبيوع السلم التي تؤدي إلى ممنوع (1) .
أما بيوع الآجال: فهي بيوع ظاهرها الجواز، لكنها تؤدي إلى ممنوع، وهو أكل الربا، وصورتها الأساسية التي تتفرع عنها صورة أخرى، قيل: إنها تصل إلى ألف مسألة: هي أن يبيع شخص لآخر شيئًا لأجل، ثم يشتريه منه إلى أجل آخر، أو نقدًا. والصور المتفرعة عنها هي أصول الربا، مثل أنظرني أزدك، وبيع ما لا يجوز متفاضلًا، وبيع ما لا يجوز نساء، وبيع وسلف، وذهب وعرض بذهب، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل أن يستوفي، وبيع وصرف.
مثال: " أنظرني أزدك " أن يشتري ثوبًا بعشرة إلى شهر، ولما حل الأجل، ولم يكن عند المشتري ما يوفي البائع، طالب ببيع سلعة أخرى ثمنها عشرة نقدًا بخمسة عشرة مؤجلة.
ومثال: " بيع ما لا يجوز متفاضلًا ": شراء ما باعه بعشرة دنانير إلى أجل بثمانية نقدًا، وهذا كربا الجاهلية.
ومثال: (بيع ما لا يجوز نساء بيع ذهب إلى أجل، ثم شراؤه بفضة، وهذا ممنوع لأنه يؤدي إلى بيع الذهب بالفضة إلى أجل) .
ومثال: " بيع وسلف " بيع سلعتين بدينارين لشهر، ثم شراء إحداهما بدينار نقدًا، ومنعه؛ لأنه يؤول إلى أنه دفع دينارًا وسلعة نقدًا ليأخذ عنها بعد شهر دينارين.
ومثال: " بيع ذهب وعرض بذهب ": بيع ثوب بعشرة دنانير إلى أجل، ثم شراؤه مع سلعة أخرى كشاة مثلًا بمثل الثمن الأول أو أقل نقدًا أو لدون الأجل، ومنعه؛ لأن العقد الثاني أعاد للبائع الأول سلعته، ودفع عنها للمشتري عشرة دنانير، يأخذ عنها من المشتري الأول عند حلول الأجل عشرة وشاة.
ومثال: " ضع وتعجل" بيع سلعة بعشرة دنانير إلى أجل كشهر، ثم شراؤها في الحال باثني عشر، يدفع له منها دينارين، وتجري المقاصة في الباقي، فكأنه قال له: أعطني من ثمن السلعة ثمانية وأسامحك بالباقي.
ومثال: " بيع الطعام قبل استيفائه ": الإقالة من الطعام (قمح أو شعير) المسلم فيه، بزيادة أو نقصان، قبل حلول الأجل ومنعه؛ لأن ذلك بيع جديد، فيكون المسلم (رب السلم) قد باع الطعام قبل قبضه.
ومثال: " بيع وصرف ": بيع ثوب بعشرة دراهم محمدية إلى شهر، ثم شراؤه بثوب نقدًا وبخمسة دراهم يزيدية، فكأن صورة البيع على أن يبدل له، إذا حل الأجل، خمسة يزيدية بخمسة محمدية.
(1) الذرائع للأستاذ هشام البرهاني ص615 ـ 638، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3/76، 86 ـ91، 228 وما بعدها، بداية المجتهد 2/139 ـ 143
وأما عقود السلم التي تؤدي إلى ممنوع: وهو ربا الفضل والنساء، فتكون في حل كون رأس مال السلم (الثمن) والمسلم فيه طعامين متماثلين كقمح في قمح، أو مختلفين كقمح في فول، أو نقدين كذهب بذهب أو بفضة أو بالعكس، أو شيء في أكثر منه، كثوب في ثوبين أو عكسه، أو شيء في أجود منه، كثوب رديئ في جيد وعكسه، كل ذلك حذرًا من الوقوع في الممنوع، وهو سلف بزيادة، أو ضمان بجعل، فإذا كان السلم بطعامين أو نقدين، أدى إلى ربا الفضل والنساء عند تحقق الزيادة بين عوضي السلم، وإلى ربا النساء عند تماثلهما، وكذا يتحقق السلف بزيادة الشيء في غير الطعامين والنقدين إذا أسلم في أكثر منه أو أجود. ومن أسلم شيئًا في أقل أو أردأ منه، يقع في ضمان بجعل، كمن أسلم ثوبين في ثوب، فكأنه يعطي المسلم إليه ثوبين، ليكون أحدهما في ضمانه، ويكون الآخر في نظير هذا الضمان.
ومن المثلة الأخرى عند المالكية لسد الذرائع (1) : كراهية صوم ست من شوال عقب رمضان، وترك قراءة السجدة فجر يوم الجمعة، وترك قراءة السجدة في الفريضة ولو كان المصلي منفردًا، والدعاء بهئية الاجتماع في أدبار الصلوات، والتفريق بين رجل وامرأة تزوجها في عدتها ودخل بها وتحريمها عليه أبدًا، وتوريث المبتوتة في مرض الموت.
(1) الاعتصام للشاطبي 2/116، 211، 354 الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1/185، 488 ـ 489، بداية المجتهد 2/82
-شواهد الحنابلة في سد الذرائع:
الحنابلة كالمالكية في القول بسد الذرائع، ولكنهم في التطبيقات أقل منهم، من الأمثلة عندهم (1) اتفاقهم مع المالكية في المنع من بيوع الآجال وهي كما تقدم: أن يبيع السلعة بنسيئة ثم يشتريها نقدًا، ومنع بيع العينة كأن يبيع سلعة بنقد، ثم يشتريها بأكثر منه نسيئة إلا أن يغير السلعة؛ لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى السلف بزيادة. ومن ذلك: لو أقرضه شيئًا، وباعه سلعة بأكثر من قيمتها، أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها، توصلًا إلى أخذ عوض عن القرض، فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم، ومنع بيع العنب لمن يعصره خمرا، وبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطرق أو في الفتنة وكراهية الشراء ممن يرخص في سلعته ليمنع الناس من الشراء من جاره، ونحو ذلك مما هو ذريعة الإثم.
وتحريم الحيل لمناقضتها سد الذرائع، كشراء ثمرة قبل بدو صلاحها، واشتراط قطعها في الحال، ثم تركها حتى يبدو صلاحها، في رواية عن الإمام أحمد، وكبيع رطلي تمر بدرهم، ثم شراء رطل تمر جيد بذلك الدرهم، في حال التواطؤ على ذلك والحيلة.
وسد ذرائع الابتداع في الدين فيما هو مشروع في أصله، لكنه يؤدي مع الجهل وطول الزمن إلى تغيير المشروعات وقلب الأحكام.
وإيقاع طلاق الثلاثة بلفظ واحد ثلاثًا، فإنه ذريعة إلى نكاح التحليل، فيكون المختار في رأي ابن تيمية وابن القيم إيقاعه طلقة واحدة.
وعدم قبول توبة الزنديق المشهود بالزندقة، إذا ارتد، استثناء من حكم استتابة المرتد.
ومنع الوكيل بالبيع من شراء الشيء لنفسه، سد للذريعة، وفي رواية عن أحمد. وضمان من منع الطعام أو الشراب عن غيره، مع غناء عنه، فتجب عليه الدية في ماله، وإجارة الأرض بطعام معلوم، من جنس ما يزرع فيها في رواية عن أحمد؛ لأنه يجعل ذريعة إلى المزارعة عليها، بشيء معلوم من الخارج منها.
(1) الذرائع للأستاذ هشام البرهاني: ص 639 ـ 650، إعلام الموقعين 3/ 169 وما بعدها فتاوى ابن تيمية 3/ 145 ـ 149، شرح الكوكب المنير 4/ 436
-شواهد الحنفية في سد الذرائع:
يأخذ الحنفية (1) بمبدأ سد الذرائع من خلال الاستحسان المصلحي، فهو وجه من وجوه العمل بالمصلحة، أو من طريق اجتهادات أخرى، كقولهم بمنع بيوع الآجال مثل المالكية والحنابلة، كأن يشتري شخص سلعة بألف حالة أو نسيئة، ثم يقبضها، فلا يجوز له أن يبيعها من البائع بخمسمائة، قبل أن ينقد الثمن الأول كله أو بعضه، لما فيه من شبهة الربا، والشبهة ملحقة بالحقيقة في باب المحرمات احتياطًا.
ومن الأمثلة عندهم: استحباب صوم المفتي يوم الشك سرًا، حتى لا يتهم بالعصيان، مع إفتائه العام بالانتظار بدون طعام وشراب إلى وقت الزوال، ثم يأمرهم عند الزوال بالإفطار، منعا من اعتقاد الزيادة.
وتحريم مقدمات الوقاع (الوطء) على المعتكف كاللمس والقبلة، دون الصائم الذي يأمن على نفسه؛ لأن الوطء محرم على الأول بالنص قصدًا في قوله تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، وعلى الثاني ضمنا، من الأمر بالإمساك عن المفطرات فالتحقت المقدمات بالتحريم في الأول، ولم تلتحق في الثاني. ونصوا (أي الحنفية) على أن الوسيلة إلى الشيء حكمها حكم ذلك الشيء (2) . ومنع الفتيات الشابات من الخروج إلى الجماعات؛ لأن خروجهن إلى الجماعة سبب الفتنة، والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام، فهو حرام (3) .
ومنع الاستمتاع بالحائض بما يقرب الفرج؛ لأنه سبب للوقوع في الحرام، وحرم ابن عابدين إحداث الغرف والخلوات في المساجد، ولو كان الأصل في إحداثها معاونة طلاب العلم الفقراء على الدرس والتحصيل؛ لأن أكثر المنتفعين بها اليوم معرضون عن طلب العلم، لاهون بالطبخ والأكل والشرب والغسيل وغير ذلك، مما يؤدي إلى تقذير المسجد (4) .
وكره الحنفية اتباع رمضان بست من شوال، من غير فصل بإفطار يوم العيد؛ خوفًا أن يلحق بالفريضة، وقدم الحنفية ديون الصحة على ديون مرض الموت، وديون المرض المعلومة الأسباب كبدل مال ملكه أو استهلكه أو مهر امرأة تزوجها، على الديون المقر بها من غير علم بأسبابها، منعا من تهمة الإقرار ولأن حق غرماء الصحة تعلق بمال المدين (5) .
(1) الذرائع للأستاذ هشام البرهاني: ص 651-656
(2)
فتح القدير 2/132
(3)
البدائع 1/157
(4)
حاشية ابن عابدين 3/371
(5)
فتح القدير 7/2 وما بعدها
-شواهد الشافعية في سد الذرائع:
أخذ الشافعية بمبدأ سد الذرائع كما تقدم إذا كان منصوصًا عليها في القرآن أو السنة، كما أخذوا بالمبدأ وهو الذريعة إذا تحقق أداؤها للمفسدة، فما يقطع بتوصله إلى الحرام فهو حرام، وفرقوا في هذا بين سد الذرائع وتحريم الوسائل المستلزمة للمتوسل إليه، أي المفضية إليه بصورة قطعية، وهم أشبه بالحنفية الذين ينكرون اعتبار سد الذرائع أصلًا من أصول التشريع لكنهم من جانب آخر يتفقون مع بقية الأئمة في بعض تطبيقات المبدأ، ويصرحون في تعليل الأحكام به، عملًا بأصول اجتهادية أخرى، مثل قاعدة:" ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " ومثل الأخذ بمبدأ الضرورة أو الحاجة في استثناء بعض الأحكام من تطبيق قاعدة الحكم العام، ويظهر من الأمثلة التالية أخذهم بالذرائع لكن دون غيرهم في الكثرة والقلة (1) .
من ذلك استحباب أداء المعذورين في ترك الجمعة كالمرضى والمسافرين صلاة الظهر، في حال السر أو الخفاء، سدا لذريعة التهمة في تركهم صلاة الجمعة، ومثل قول الإمام الشافعي بأنه لا ضمان على الأجير المشترك كالقصار والملاح ولكنه لا يفتي به لفساد الناس، وكذلك قوله بقضاء القاضي بعلمه الشخصي في الحوادث.
وقول الشافعية بمنع المفطر بعذر من الأكل، عند من لا يعرف عذره، سدًا لذريعة التهمة بالفسوق والمعصية (2) .
وقولهم بعدم لزوم إقرار المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر، في حق الغرماء؛ لأنه قد يتخذ إقراره ذريعة إلى التصرف بأمواله بتواطؤ وحيلة (3) .
وقولهم بمنع الوكيل بالبيع من بيع السلعة لنفسه، حتى لا يتهم بنقص الثمن (4) . وقولهم المشهور بحرمان القاتل من الميراث، بمختلف أنواع القتل، سواء كان القاتل متهمًا بتعجيل الإرث أو غير متهم حسما للباب، وسدًا للذريعة (5) . وإجازتهم قتل من يتترس به الكفار من أطفال ونساء وأسرى مسلمين، حتى لا يتخذ التترس ذريعة إلى ترك الجهاد أو استيلاء الكفار على ديار المسلمين (6) . وكراهيتهم كل ما يكون ذريعة إلى الإثم، من باب التعاون عليه، كبيع العنب لمن يعصره خمرًا، والتمر ممن يعمل النبيذ وبيع السلاح ممن يعصى الله تعالى به؛ لأنه لا يأمن أن يكون معونة على المعصية.
وإبطالهم شراء الحربي سلاحًا كدرع وترس في الماضي؛ لأنه يستعين به على قتالنا (7) .
(1) الذرائع للأستاذ البرهاني ص658 ـ664
(2)
المهذب 1/178
(3)
المهذب 1/321
(4)
المهذب 1/352
(5)
المذهب 2/ 24 ـ 25
(6)
المهذب 2/ 234
(7)
المهذب 1/ 267، مغني المحتاج 2/10، 37
7-
أثر القول بسد الذرائع، اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية:
تبين من شواهد سد الذرائع عند العلماء أن الحكم قد يتغير ويختلف فيما بينهم، فيكون حرامًا أو مكروهًا عند جماعة خلافًا لغيرهم، وقد يوصف العقد بالبطلان أو الفساد كبيوع الآجال عند جماعة وهم الجمهور والصحة عند آخرين وهم الشافعية، وقد يكون العقد مع صحته مكروهًا كما ذكر الشافعية في طائفة من العقود كبيع العنب لعاصره خمرًا، وبيع الحربي أو الذمي في دار الحرب حديدًا ونحوه مما يتأتى أو يصنع منه السلاح إذا كان يغلب على الظن أنه يعمله سلاحًا واكتفوا بالقول بالكراهة؛ لأنه لا يتعين جعل الحديد عدة حرب.
والخلاف في بيوع الآجال وهي محل النزاع الشهير في اعتبار الذرائع وعدم اعتبارها محصور في دائرة ضيقة، وذلك فيما إذا لم تنكشف نية المتعاقد، ولم يدل على قصد الربا فيها دليل من تكرار أو غيره.
قال القرافي (1) : من باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم اشتراها بخمسة، وأخذ عشرة إلى آخر الشهر، فهذه وسيلة السلف: خمسة بعشرة إلى أجل، بإظهار صورة البيع لذلك، والشافعي ينظر إلى صورة البيع، ويحمل الأمر على ظاهره، فيجوز ذلك. وهذه البيوع يقال: إنها تصل إلى ألف مسألة اختص بها مالك (ومعه أحمد) وخالفه الشافعي، ويجيز الحنفية بيع الأجل إن توسط شخص ثالث، وإلا فسد العقد، ومنشأ الخلاف يرجع إلى مسألة مهمة في الشريعة الإسلامية، وهي مسألة " النية واللفظ في العقود ". وفي هذه المسألة اتجه الفقه الإسلامي اتجاهين (2) .
(1) الفروق 2/32
(2)
أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 2/ 889 ـ 901
-الأول ـ مذهب الشافعي، وقريب منه مذهب أبي حنيفة:
الاعتداد بالألفاظ في العقود دون النيات والقصود إذ إن نية السبب والغرض غير المباح شرعًا مستترة، فيترك أمرها لله وحده، يعاقب صاحبها عليها، ما دام أتم بنيته، ومن هنا قرروا أن (المعتبر في أوامر الله المعنى والمعتبر في أمور العباد الاسم واللفظ) أي فيما إذا لم يكن في العقد ما يدل على النية والقصد صراحة، فإن ظهر القصد في العقد صراحة أو ضمنًا بقرائن، فيعمل بقاعدة:(العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني)(1) . وهكذا فكل عقد عند الشافعي تؤخذ أحكامه من صيغته ومما لابسه واقترن به، ففساده يكون من صيغته، وصحته تكون منها، ولا يفسد لأمور خارجة عنه، ولو كانت نيات ومقاصد لها أمارات، أو ولو كانت مآلات مؤكدة ونهايات ثابتة، فهم يصححون بيوع الآجال لنظراتهم الظاهرية.
ومعنى هذا الاتجاه أن الشافعية لا يأخذون بنظرية الباعث في العقود، وإنما يعتمدون على ظواهر الصيغة أو ألفاظ التعاقد، كما أنهم لا يحكمون على التصرف بالصحة أو بالبطلان بحسب الغاية أو المآل، ويقولون: إن الشريعة تبنى على الظاهر، وسد الذرائع من مظاهر الاجتهاد بالرأي، وهم لا يصرحون بالأخذ منها إلا بالقياس، لكنهم في الواقع يرون أن سد الذرائع معتبر عندهم كالاستحسان، ضمن المصادر الأصلية الأخرى.
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 110 وما بعدها؛ حاشية الحمدي على الكتاب السابق 2/ 12 وما بعدها، الأشباه والنظائر للسيوطي 40، 148 ـ 149 مغني المحتاج 2/ 37 ـ38 الملكية ونظرية العقد للشيخ محمد أبو زهرة ص 215 وما بعدها.
ويستند عندهم إلى أصول معتبرة وهي عشرة (1) .
الأول: أصل جلب المصالح ودرء المفاسد.
الثاني: اعتبار المآل مع قرينة.
الثالث: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الرابع: لا يجيزون التذرع بأمر ظاهر الجواز لغرض غير مشروع.
الخامس: اعتبار الشبهات والاحتياط.
السادس: اعتبار التهم.
السابع: قاعدة (من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه) .
الثامن: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام الحلال.
التاسع: ما حرم استعماله حرم اتخاذه، وما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
العاشر: اعتبار الأهم ورعاية جانبه.
-الاتجاه الثاني: مذهب ابن حنبل
الذي يتشدد بحق في رعاية النية والقصد، ودون اللفظ ويتلخص مذهبه بما يفهم من كلام ابن القيم بما يلي (2) .
أولًا: إن اتفقت نية العقد مع ما تدل عليه عبارته، انعقد العقد، وترتب عليه أثره الشرعي كالبيع العادي الذي لا يقصد به الربا أو التحايل على الربا.
ثانيًا: إن قصد غير ما تدل عليه عبارته، ولكن لم يدل شيء على نيته، كان مؤاخذًا بنيته ديانة، أي أمام الله، إلا أنه يلزم قضاء حكم العقد، كما يؤخذ من عبارته، كمن يعقد عقد زواج بلفظ: نكحت أو تزوجت، لا يقصد عشرة زوجية دائمة، بل يقصد تحليلها لمطلقها الثلاث، أو يستعمل فعل: بعت واشتريت بقصد الربا، ونحو ذلك.
ثالثًا: إن كشفت قرينة على هذه النية، وكانت لا تنافي الشريعة، صح العقد وإلا كان فاسدًا لا أثر له.
(1) الذرائع للأستاذ محمد هشام البرهاني: ص 675 ـ 677
(2)
إعلام الموقعين 3/117، 119، وما بعدها، 4/ 400 وما بعدها
والاتجاه الأول: وهو النظر إلى الأحكام الظاهرة، وإلى الأفعال عند حدوثها، دون النظر إلى غاياتها ومآلاتها، أخذ به الإمام الشافعي في الذرائع، بل إنه عمم تلك النظرة الظاهرية المادية على كل نواحي الشريعة وطبق قاعدته على العقود والتصرفات (1) .
وخالفه في تلك النظرية الإمامان مالك وأحمد في الحكم بالذرائع، فإنهما نظرًا إلى المآلات والغايات نظرة مجردة، ونظرا إلى البواعث أيضًا، فمن عقد عقدًا قصد به أمرًا محرمًا، واتخذ العقد ذريعة له، فإن المآل والباعث يحرمان العقد، فيأثم عند الله، ويكون العقد باطلًا؛ لأنه ربا، فيبطل سدا للذريعة.
ولا أجد بدا في تقديري من اختيار مذهب مالك وأحمد رضي الله عنهما؛ لأنه متمش مع قاعدة: " الأمور بمقاصدها " وحديث ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) فبين النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية، وبين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال (2) .
وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا، حصل له الربا، ولا يعصمه من حرمة الربا صورة البيع.
ثم إن هذا المسلك أنزه في الدين، وأقرب إلى مقاصد الشريعة العامة التي جاءت لإصلاح الناس، على أسس صالحة من الخير والسداد، في النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
واعتبار الذرائع عند هؤلاء يكون بأمرين:
الأول: قصد المكلف إلى التخلص من أمر شرعي، كمن يتحايل للتخلص من فريضة الزكاة، بأن يهبها مثلًا للفقير ليردها إليه، أو يبيعها مع شيء ثم يشتريها من الفقير، فإن هذا يحرم؛ لأنه ذريعة مؤكدة لهدم ما أمر الله به.
الثاني: إن الغالب الكثير أن يكون أمر من الأمور في وقت من الأوقات يؤدي إلى ما حرم الله تعالى، فإنه يكون حرامًا في ذلك الوقت وحده، دون سواه، كبيع السلاح في أيام الفتن.
(1) الأم 3/33، 7/70
(2)
الأم 3/123
8-
أمثلة لفتح الذرائع وسدها:
فتح الذرائع كما عرفنا: معناه الأخذ بالذرائع (أو الوسائل) إذا كانت النتيجة مصلحة؛ لأن المصلحة مطلوبة، وسد الذرائع بالمعنى الخاص: هو الوسيلة الجائزة المؤدية إلى ممنوع، وقد تقدم التمثيل لكل منهما، وأضيف هنا أمثلة أخرى يجمعها أن فتح الذرائع: طلب وسائل الخير، وسد الذرائع: تحريم وسائل الشر، وكلاهما معتبر في الشريعة (1) ، فمن أمثلة فتح الذرائع التي تدور حول إيجاب الله تعالى أمورًا لا لذاتها، بل لكونها وسائل أو ذرائع لأمور أخرى ثبت طلبة لها (2) .
السعي لأداء صلاة الجمعة والجماعة، وترك البيع عند النداء لصلاة الجمعة في آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] .
ومثله السفر إلى مكة لأداء مناسك الحج.
النفير للجهاد وملاقاة الأعداء في آية {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] وكذا إنفاق المال وإعداد السلاح في الآية التالية لها.
الإفاضة من عرفات لذكر الله عند المشعر الحرام في آية {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) } [البقرة: 198 ـ 199] .
النظر في ملكوت السماء والأرض وما فيهما من أحوال الكواكب والجماد والنبات والحيوان لتمكن الإيمان في القلب في الآية {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] وغيرها من الآيات الكثيرة.
إفشاء السلام وإطعام الطعام، وحسن الظن بالناس، والتعاون على البر والتقوى، والبعد عن الضغينة والغل والحقد والحسد والغيبة والنميمة وغير ذلك مما جاء في القرآن والسنة لغرس المحبة بين الناس.
(1) كتاب " ابن حنبل " لأستاذنا المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة ص 327، وكتاب " مالك " له أيضًا.
(2)
الذرائع للأستاذ البرهاني: ص 349 ـ 351
ومن أمثلة سد الذرائع التي تدور حول تحريم كل من شأنه أن يؤدي إلى المفسدة بنحو مباشر (1) .
تحريم كل ما يؤدي إلى الكفر من أسباب ووسائل كاتباع الهوى والشيطان واتخاذه وليًا من دون الله وطاعته في آيات كثيرة مثل آية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) } [البقرة: 168 ـ 169] وآية {يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) } [الأعراف: 27] وكذا اتخاذ الكفار المشركين والكتابيين والمنافقين أولياء في آية {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] وآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) } [النساء: 88 ـ 89] وآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أو أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 51 ـ 57] وآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) } [الممتحنة: 1ـ2] وغير ذلك.
(1) الذرائع للأستاذ البرهاني: ص 351 ـ 372
تحريم وسائل الزنى وذرائعه بالأمر بغض البصر في آية {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) } [النور: 30: 31] إلا عن المحارم والأزواج، والنهي عن خضوع النساء بالقول في آية {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) } [الأحزاب: 2ـ 3] والنهي عن الخلوة بالنساء في آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] .
النهي عن النظر إلى العورات وتحريم الدخول إلى البيوت بغير استئذان في آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) } [النور: 27 ـ 28] .
أورد ابن القيم تسعة وتسعين دليلًا على أن للوسائل حكم المقاصد، وعلى المنع من فعل ما يؤدي إلى الحرام، ولو كان جائزًا في نفسه (1) . مثل النهي عن سب آلهة المشركين أمامهم، مع كون السب غيظًا وحمية لله وإهانة لآلهتهم، لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى، والنهي عن الضرب بالأرجل ذات الخلاخيل، لكونه وسيلة لإثارة دواعي الشهوة من الرجال للنساء، والأمر باستئذان المماليك والصغار ثلاث مرات، لئلا يكون دخولهم بغير استئذان ذريعة إلى اطلاعهم على عورات الآباء والسادة وقت القيلولة والنهي عن كلمة (راعنا) مع قصدهم بها الخير، لئلا يكون ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، والنهي عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها، وتحريم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، والنهي عن بناء المساجد على القبور، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانًا والإشراك بها، ونحو ذلك.
منعت السنة النبوية ذرائع مباحة الأصل لما يترتب عليها من محظور مثل: المسافر لا يطرق أهله ليلًا، لا يأكل المضحي من أضحيته فوق ثلاث، النهي عن الجلوس في الطرقات، منع النظر لمن هو فوق الإنسان أو أفضل منه في الدنيا، في مال أو ملبس أو مسكن، النهي عن مدح الإنسان في وجهه، كراهة النوم قبل العشاء والسهر بعدها، الإشارة بالسلاح لغيره، حمل السلاح في الحرم من غير ضرورة، كراهة الاحتباء يوم الجمعة أثناء الخطبة لأنه جالب للنوم، إدامة النظر إلى المجذومين، التخلي في قارعة الطريق وفي الظل والموارد، البول في الجحر، نهى المحرم عن الطيب، السفر بالقرآن إلى أرض العدو (2) .
(1) إعلام الموقعين 3/147 ـ 171
(2)
الذرائع للأستاذ البرهاني: ص 483 ـ 493
خلاصة البحث
الأخذ بمبدأ الذرائع فتحا وسدًا أصل من أصول التشريع الكبرى، وسياسة منهجية حكيمة في التخطيط لتحقيق مقاصد الشريعة العامة، وتربية الأمة والجماعة والأفراد، وإرساء معالم السيرة نحو تحقيق الغايات الكبرى للأمة الإسلامية، فلا يعقل أن يقرر التشريع حكمًا لغاية معينة، ثم يبيح الوسائل أو الذرائع المانعة من إنفاذ الحكم، ولا يقبل بحال تحقيق المصالح ودرء المفاسد بغير الأخذ بسياسة الذرائع فتحًا وسدًا، القائمة على طلب الخير ومنع الشر.
وفتح الذرائع: معناه الأخذ بالذرائع إذا كانت النتيجة مصلحة؛ لأن المصلحة مطلوبة شرعًا، وسد الذرائع بالمعنى الخاص معناه منع الوسائل الجائزة المؤدية إلى ممنوع، وكلاهما مطلوب، وتكون وسيلة الواجب واجبة ووسيلة المحرم محرمة، وهذا متفق مع القاعدة الشرعية:(ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فالفاحشة حرام والنظر إلى عورة الأجنبية حرام، لأنها تؤدي إلى الفاحشة والجمعة فرض فالسعي لها فرض، وترك البيع لأجل السعي فرض أيضًا، والحج فرض، والسعي إلى البيت الحرام وسائل مناسك الحج فرض لأجله، لأن الشارع إذا كلف العباد أمرًا، فكل ما يتعين وسيلة له مطلوب بطلبه، وإذا نهي الناس عن أمر، فكل ما يؤدي إلى الوقوع فيه حرام أيضًا.
وقد ثبت هذا باستقراء التكاليف الشرعية طلبًا ومنعًا، فقد وجدنا الشارع ينهي عن الشيء، وينهي عن كل ما يوصل إليه، ويأمر بالشيء، ويأمر بكل ما يوصل إليه، فقد أمر بالمحبة بين الناس، ونهى عن التباغض والفرقة، ونهى عن كل ما يؤدي إليها، فنهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، وأن يستام على سوم أخيه، أو يبتاع على بيعه، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى التباغض المنهي عنه ونحوه.
والذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره، وتندب، وتباح، ويترتب على الأخذ بمبدأ أو أصل سد الذرائع حسم وسائل الفساد، أي قطعها نهائيًا، ومنع الجائز المؤدي إلى المحظور؛ لأن الشرع نهى عن المفاسد ذاتها، ونهى أيضًا عن كل أمر يتضمن منفعة، لكنه يفضي إلى المفسدة، ولو من غير إرادة المكلف، كشرب الخمر المؤدي إلى السكر، فإنه أمر منهي عنه لذاته، فيحرم القليل منها والكثير؛ لأن القليل شرعًا وطبًا ذريعة إلى الكثير، فما الإدمان وتعلق الإنسان بالمسكر إلا بسبب تناول الشراب بين الفينة والأخرى، ولو من غير إرادة من الشارب، بسبب تلوث الدم بالكحول.
وهناك فرق بين الذريعة والسبب؛ لأن السبب يترتب عليه مسببه حتمًا، أما الذريعة فركنها الإفضاء للنتيجة، ولا تستلزم وجود المتوسل إليه، فإما أن يتم الإفضاء فعلًا، كعصر الخمر من العنب المبيع للخمار، وإما أن يقدر وجود الإفضاء تقديرًا، من غير أن يفضي بالفعل، ويحدد ذلك عنصر القصد، أو كثرة اتخاذ الوسيلة جسرًا موصلًا للحرام، أو كون الوسيلة قابلة من نفسها لاتخاذها وسيلة للإفضاء بها إلى المتوسل إليه، كسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، فإنه ذريعة لسب الإله الحق أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا فرق عند المالكية بين سد الذرائع وتحريم الوسائل، فهما في المعنى سواء، وفرق بينهما بعض الشافعية قائلين بتحريم الوسائل التي تستلزم المتوسل إليه، وهي المعتبرة بالإجماع، كحفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في طعامهم، ولكنهم لا يقولون بسد الذرائع.
ورتب العلماء على أصل سد الذرائع منع الحيل في الشريعة، فإن تجويز الحيل يناقض القول بسد الذرائع وتبطل كل الحيل التي تؤدي إلى إسقاط حق، أو تسويغ محرم، أو إسقاط شرط حرمه الشارع؛ لأن هذه مطلوبات وإهمالها محرم، وكل ما يؤدي إلى المحرم يكون محرمًا، ولو كان في أصل ذاته مباحًا، وكذلك اتخاذ الحرام كالرشوة والخيانة وشهادة الزور سبيلًا للوصول إلى الحلال لا يجوز؛ لأن هذه الأمور حرام لذاتها، والمفسدة المترتبة عليها أشر من مفسدة ضياع الحق الفردي لأحد الناس.
وتسد الذرائع إذا أدت إلى المفسدة قطعًا كحفر البئر خلف باب الدار في وسط الظلام، أو أدت إليها كثيرًا لا نادرًا، وغالبًا كبيع السلاح لأهل الحرب، أو غير غالب كبيوع الآجال المتخذة جسرًا للربا من طريق بيع السلعة لأجل بثمن أعلى، ثم شراؤها في الحال من قبل بائعها بثمن معجل أقل، فيكون الفرق بين الثمنين ربا، وهذا مذهب الإمامين مالك وأحمد، وبيوع الآجال هي محل الخلاف الشهير في العمل بسد الذرائع، فأخذ به هذان الإمامان لكثرة وقوع القصد إلى الربا، وأفسد أبو حنيفة هذه البيوع عملًا باجتهاد آخر غير سد الذرائع بسبب عدم إتمام البيع الأول لعدم استيفاء الثمن، ويؤول الأمر إلى بيع خمسة في عشرة مثلًا لأجل، وهو ربا فضل ونساء معًا، وصحح الشافعي هذه البيوع في الظاهر لاكتمال أركانها وشروطها حتى يقدم الدليل على قصد الربا المحرم، وترك الحساب على القصد الخبيث الباطن والباعث السيئ إلى الله تعالى؛ لأن هذا الإمام يأخذ في الحكم على العقود بالإرادة الظاهرة لا الباطنة.
وقد أوردت أدلة الفريقين: المثبتين لتحريم بيوع الآجال، والفرق بينها وبين بيع العينة عند المالكية، والمانعين وهم الشافعية، كما ذكرت أحكام الذرائع وشروطها، وحررت محل النزاع في الذرائع وهو بيوع الآجال وانتهيت إلى ترجيح رأي المالكية والحنابلة، لاتفاقه مع مقاصد الشريعة وحرصها على تحصيل المصالح ودرء المفاسد، وانسجامه مع اتجاه التشريع بتحريم الربا ووسائله وسد الباب أمام المحتالين والمفسدين الذين يحاولون التحلل من قيود الشريعة وأحكامها، وفيما عدا هذه البيوع يتفق أئمة المذاهب على الأخذ بأصل الذرائع، وإن لم يصرح به بعضهم بالأخذ به أصلًا من أصول التشريع، ويمكنني تأكيد هذه الحقيقة وهي أن سد الذرائع أصل مقرر في القرآن والسنة وفقه الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد على تفاوت في درجة الأخذ به في دائرة أتباع المذاهب بين كثرة وقلة، فلم ينفرد المالكية بالأخذ به، ولا خصوصية لهم به، إلا من حيث زيادتهم فيها، فهناك ذرائع مجمع عليها، وذرائع ملغاة، وذرائع فرعية فقهية مختلف فيها، وإن بالغ المالكية أحيانًا بالأخذ ببعضها.
وأيدت هذه الحقيقة بشواهد واضحة من فقه الأئمة الأربعة، وظهر أثر القول بسد الذرائع واعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية بإعلان تحريم البيوع الربوية وبطلانها عند الأكثرية، وتصحيحها في الظاهر عند الشافعية، والقول بحظر بعض المنهيات عند بعضهم، واكتفاء الآخرين بالقول بالكراهة، مثل بيع السلاح في الفتنة ونكاح التحليل وبيع العنب لعاصره خمرًا، أو القول بالبطلان كشراء الحربي سلاحًا أو حديدًا ونحوه مما يصدر لجعله عدة حرب، وبرز أثر الخلاف أيضًا في القول بتحريم الحيل الممنوعة المؤدية إلى تقويض أحكام الشريعة أو التخلص من العمل بها أو إسقاط حق أو تسويغ محرم، أو إسقاط شرط حرمه الشرع، وأجاز بعض الفقهاء كالحنفية وبعض الشافعية بعض الحيل، ولكن ذلك غير سديد شرعًا وفقهًا.
وختمت البحث بطائفة من الأمثلة على فتح الذرائع وسدها، سواء من النصوص الشرعية أم من الاجتهادات الفقهية، تأكيدًا لتأصيل هذا المبدأ في الشريعة.
أ. د. وهبة مصطفى الزحيلي
أهم مراجع البحث
- الأم للإمام الشافعي، الطبعة الأميرية.
- فتاوى ابن تيمية، طبعة الملك خالد.
- أعلام الموقعين لابن القيم، تحقيق محيي الدين عبد الحميد.
- الموافقات للشاطبي، مطبعة المكتبة التجارية بمصر.
- الاعتصام للشاطبي، مطبعة المكتبة التجارية بمصر.
- الفروق للقرافي، الطبعة الأولى 1345 هـ.
- المحصول للرازي، تحقيق الدكتور طه جابر العلواني، الطبعة الأولى.
- شرح العضد على مختصر المنتهى لابن الحاجب، المطبعة الأميرية.
- حاشية حسن العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع، المطبعة الأميرية.
- البحر المحيط للزركشي، طبع وزارة الأوقاف بالكويت.
- الأشباه والنظائر لابن نجيم المصري، الأميرية.
- الأشباه والنظائر للسيوطي، ط التجارية.
- مالك وابن حنبل وابن تيمية للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة.
- المالكية ونظرية العقد وأصول الفقه للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة.
- المدخل إلى مذهب أحمد لابن بدران، إدارة الطباعة المنيرية.
- المقدمات الممهدات لابن رشد الجد، ط دولة قطر.
- شرح الكوكب المنير لابن النجار بتحقيق: محمد الزحيلي، د. نزيه حماد، الطبعة الأولى.
- بداية المجتهد لابن رشد الحفيد، مطبعة الاستقامة بمصر.
- فتح القدير لابن الهمام ط التجارية، البدائع للكاساني ط الأولى، حاشية ابن عابدين، طبع البابي الحلبي.
- المهذب للشيرازي ومغني المحتاج للشربيني، ط البابي الحلبي.
- الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه، طبع البابي الحلبي.
- المغني لابن قدامة، الطبعة الثالثة بدار المنار.
- سد الذرائع في الشريعة الإسلامية للأستاذ محمد هشام البرهاني الطبعة الأولى بيروت.
- أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي، ط دار الفكر بدمشق.