الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحكيم في الفقه الإسلامي
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
الأمين العام للمجمع العالمي لأهل البيت بإيران
والشيخ علي عندليب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين، وبعد:
فقد يمكن القول بأن التحكيم يشكل ظاهرة بشرية عامة لا تختص بها أمة دون أمة، ومن هنا فقد كان التحكيم شائعا بين قبائل العرب في الجاهلية بل ربما اعتبر الشكل الرئيسي السائد للعدالة والقضاء بين الأفراد في مجتمع كان الحق فيه متوقفًا على القوة في غالب الأحيان (1) .
(والمنافرة) هي إحدى عادات العرب القديمة والتي تتم بعد تنازع رجلين في الشرف ولجوئهما إلى حكماء يحكمون بتفضيل الأشرف منهما، ومن أشهر المنافرات منافرة عامر بن الطفيل مع علقمة بن علاثة على رئاسة القبيلة إذ حكما هرم بن قطبة الفزاري (2) .
وقد جوز الشرع الإسلامي ذلك على تفصيلات سنذكرها فيما يلي بعد تقديم التوضيحات:
معنى التحكيم
معنى التحكيم في اللغة:
قال الخليل (3) : وحكمنا فلانا أمرنا؛ أي يحكم بيننا.
قال ابن دريد (4) : يقال حكمت فلانا في كذا وكذا تحكيمًا، إذ جعلت أمره إليه.
قال الجوهري (5) : حكمت الرجل تحكيما إذا منعته مما أراد، ويقال أيضًا: حكمته في مالي، إذ جعلت إليه الحكم فيه.
قال ابن فارس (6) : يقال: حكمت فلانًا تحكيمًا، منعته عما يريد، وحكم فلانا في كذا، إذا جعل أمره إليه.
قال ابن منظور (7) : وحكموه بينهم، أمروه أن يحكم، ويقال: حكمنا فلانًا فيما بيننا أي أجزنا حكمه بيننا.
قال الفيروزآبادي (8) : وحكمت الرجل (بالتشديد) فوضت الحكم إليه.
فالتحكيم في اللغة هو تفويض الأمر وجعله إلى الغير ليحكم، وهذا المعنى بعينه هو معنى التحكيم اصطلاحا مع زيادة، وإليك نصوص الفقهاء:
قال الشيخ (9) : إذا تراضى نفسان برجل من الرعية يحكم بينهما وسألاه الحكم بينهما ....
(1) الأوضاع التشريعية في الدول العربية ص 212 وما بعدها
(2)
بلوغ الأرب للألوسي ج 1 ص 287 وما بعدها
(3)
العين، ج 3، ص 67
(4)
جمهرة اللغة ج 2، ص 186
(5)
الصحاح، ج 5، ص 1902
(6)
مقاييس اللغة، ج 2، ص 91.
(7)
لسان العرب، ج 12، ص 142
(8)
القاموس، ص 537.
(9)
الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 40
قال المحقق (1) : لو تراضى خصمان بواحد من الرعية وترافعا إليه فحكم بينهما ....
قال العلامة (2) : لو تراضى خصمان بواحد من الرعية وترافعا إليه وحكم
…
قال الشهيد الثاني (3) : قاضي التحكيم وهو الذي تراضى به الخصمان للحكم بينهما مع وجود قاض منصوب.
وقال في كتابه الآخر (4) : التحكيم هو أن يحكم الخصمان واحدا من الناس
…
فالتحكيم في اصطلاح الفقهاء هو تراضي الخصمان بواحد من الرعية والترافع إليه ليحكم بينهما، فلا فرق بين المعنى اللغوية والاصطلاحي إلا في كون الحكم من الرعية، إذ اللغويون لم يقيدوه بهذا بخلاف الفقهاء، فإنهم قيدوه.
الفرق بين التحكيم والقضاء والإفتاء
أما التحكيم فقد توضح معناه مما تقدم، فلا بد من بيان معنى القضاء والإفتاء حتى يظهر الفرق فيما بينها:
معنى القضاء في اللغة:
القضاء في اللغة: الحكم (5) كما أن له معاني أخر كالإتقان والإنفاذ والإنهاء.
وفي اصطلاح الفقهاء إما الحكم وفصل الخصومة بين المتنازعين كما عن بعضهم (6) وإما ولاية الحكم شرعا كما عن بعضهم الآخر (7) .
والتحقيق أن القضاء هو الحكم وفصل الخصومة، والولاية خارجة عن تعريفه، فلا فرق بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، نعم إن القضاء منصب من المناصب وشأن من شؤون الوالي، ويحتاج إلى نصب الإمام في مشروعيته؛ لأنه من شؤونه بالأصالة.
(1) الشرائع، ص 314
(2)
التحريرج2،ص: 180
(3)
الروضة، ج 1، ص 278
(4)
المسالك، ج 2، ص 351
(5)
العين، ج 5، ص 185؛ الصحاح، ج 6، ص 2463؛ النهاية، ص 78؛ مقاييس اللغة، ج 5، ص99
(6)
الجواهر، 40 / 9؛ والروضة للشهيد الثاني 1 / 276
(7)
الدروس، 2 / 65؛ كشف اللثام 2 / 140
معنى الإفتاء في اللغة:
الإفتاء تبيين الحكم عما يشكل من الأحكام (1) .
وفي الاصطلاح هو الإخبار عن الله تعالى بحكم شرعي متعلق بكلي (2) .
أما الفرق بين الإفتاء والتحكيم والقضاء ففي الإخبار والإنشاء إذ الإفتاء إخبار، والقضاء والتحكيم إنشاء وإلزام، مع أن الإفتاء إخبار عن الحكم الشرعي الكلي، والقضاء والتحكيم إنشاء الحكم الجزئي في شيء مخصوص، ولحكم القاضي آثار كوجوب التنفيذ وعدم جواز رده ونفوذه للغير، سواء كان مقلدا أو مجتهدًا، بخلاف الفتوى فإن المجتهد الآخر لا يجوز له العمل على طبق فتوى هذا الفقيه مثلًا.
وأما الفرق بين التحكيم والقضاء، ففي النصب وعدمه؛ لأن القضاء من المناصب، ويحتاج القاضي في كونه قاضيًا إلى نصب الإمام، بخلاف قاضي التحكيم فإنه يصير حكما بتراضي الخصمين وترافعهما إليه من دون نصب من الإمام، وإن شئت قلت: إن القاضي منصوب من قبل الإمام، والحكم منصوب من قبل المترافعين، فبهذا يفرق بينهما، وأما الفرق بينهما من حيث شرائط القاضي والحكم من الاجتهاد والذكورة وغيرها فسيأتي.
مشروعية التحكيم:
المشهور جواز التحكيم، بل ادعى الشيخ الطوسي أنه لا خلاف في جوازه حيث قال:(إذا تراضى نفسان برجل من الرعية يحكم بينهما وسألاه الحكم بينهما كان جائزا بلا خلاف)(3) . وكذلك في المسالك للشهيد الثاني (4)، بل ظاهر كلام كشف اللثام (5) الإجماع عليه حيث قال:(لو تراضى الخصمان بحكم بعض الرعية فحكم بينهما جاز عندنا) وبه قال أبو حنيفة (6) والشافعي (7) وأحمد (8) .
(1) القاموس، ص 654 العين، ج 8، ص 137؛ لسان العرب، ج 10، ص 183؛ المفردات، ص 373؛ المصباح المنير، ص 631؛ مجمع البحرين، ج 1، ص 326.
(2)
الجواهر، ج 40، ص 100؛ المستند للتراقي، ج 2، ص 515؛ كتاب القضاء للكنى، ص 201؛ مجمع البحرين، ج 1، ص 343
(3)
الخلاف، ج 2، كتاب القضاء، المسألة 40، ص 602
(4)
المسالك، ج 2، ص 351
(5)
كشف اللثام، ج 2، ص 140
(6)
المغني، ج 10، ص 137
(7)
المغني، ج 10، ص 137
(8)
المغني، ج 10، ص 137
واستدل على جواز التحكيم بوجوده:
1-
محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيًا لتحاكموا إليه. ورواه الكليني عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الحسين بن علي عن أبي خديجة مثله إلا أنه قال: شيئا من قضائنا. ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن محمد مثله (1) .
تقريب الدلالة: إن المعتبرة ناظرة إلى قاضي التحكيم، إذ قوله عليه السلام:(فإني قد جعلته قاضيًا، متفرع على قوله عليه السلام: (فاجعلوه بينكم) وهو قاضي التحكيم.
2-
محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقًّا ثابتا له؛ لأن أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60] ، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكمًا، فإني قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا قلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله
…
قلت: فإن كان واحد اختيار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلف في حكم وكلاهما اختلافا في حديثكم؟ فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما. ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر .....
ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن عيسى نحوه.
ورواه الصدوق بإسناده عن داود بن الحصين (2)
(1) الوسائل، ج 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ج 5، ص 4
(2)
الوسائل، ج 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ج 1،ص 99، والباب 9، ج 1، ص 75
تقريب الدلالة: أن هذه المعتبرة المعروفة بمقبولة عمر بن حنظلة كالمعتبرة السابقة ناظرة إلى قاضي التحكيم؛ لأن قوله عليه السلام: (فإني قد جعلته عليكم حاكمًا) متفرع على قوله عليه السلام: (فليرضوا به حكمًا) فجعله حاكمًا موقوف على تراضي الخصمين بتحكيمه، وهذا قاضي التحكيم، بل قول السائل:(فإن كان كل واحد اختار رجلًا ....) مع تقرير الصادق عليه السلام يدل على جواز التحاكم إلى اثنين ويأتي في الكلام فيه.
3-
محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيهما يمضي الحكم؟ قال: ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر.
ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن الحسن بن موسى الخشاب عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن داود بن الحصين مثله (1) .
تقريب الدلالة: هذه المعتبرة تدل على جواز التحكيم إلى رجلين، فدلالتهما على مشروعية أصل التحكيم واضحة.
4-
محمد بن الحسن بإسناده عن الحسن بن سعيد عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منا ليس هو ذاك، إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط (2)
تقريب الدلالة: هذه الصحيحة تدل على جواز التحكيم بقوله عليه السلام: (ليس هو ذاك) .
5-
محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن يزيد بن إسحاق عن هارون بن حمزة الغنوي عن حريز عن أبي بصير عن أبى عبد الله عليه السلام قال في رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء: كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدً} [النساء: 60] .
ورواه الصدوق بإسناده عن محمد بن يحيى مثله (3) .
(1) الوسائل، ج 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ج 20، ص 80
(2)
الوسائل، ج 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ج 8، ص 5.
(3)
الوسائل، ج 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ج 2، ص 3
تقريب الدلالة: هذه الرواية تدل على جواز التحكيم، بل على وجوبه فيما لم يكن قاض منصوب لو اضطر المتخاصمان إلى التحاكم، وأنه لا يجوز التحاكم إلى أهل الجور، ولكن في سندها تأمل لتردد أبي بصير بين الثقة والمجهول.
6-
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله)) (1) .
تقريب الدلالة: لولا أن حكمه بينهما جائز لما تواعده باللعن، وكان التهديد على أصل حكمه أولى عن التهديد على عدم عدالته فيه، وبالجملة مفهومه عدم اللعن على من حكم وعدل.
وأورد عليه (2) بأن ظاهره الورود في مورد حكم آخر وهو حرمة الحكم بغير العدل لا في بيان صحة القضاء من كل من يشمله لفظ الخبر، مع أنه لم يثبت صحة سنده.
أقول: الظاهر أن دلالته على جواز التحكيم تامة؛ لأنه لو كان في مقام بيان حرمة بغير العدل فقط من دون بيان أصل التحكيم كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((تراضيا به)) زائدًا، وذكره دليل على كونه واردًا في مورد جواز التحكيم والحكم بالعدل معًا، نعم لم يثبت صحة سنده.
7-
ما وري في تحاكم النبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي إلى بعض الصحابة، وأمير المؤمنين علي عليه السلام.
(1) الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء، المسألة 40، ص 602؛ والمغني، ج 10، ص 137، فيه: فهو ملعون.
(2)
القضاء للكني، ص 24
1-
محمد بن علي بن الحسين، قال عليه السلام (1) : وفي رواية محمد بن بحر (يحيى – خ) الشيباني عن أحمد بن الحرث قال: حدثنا أبو أيوب الكوفي، قال: حدثنا إسحاق بن وهب العلاف، قال: حدثنا أبو عاصم النبال عن ابن جريج، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة فاستقبله أعرابي ومعه ناقة، فقال: يا محمد تشتري هذه الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم، بكم تبيعها يا أعرابي؟)) فقال: بمائتي درهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((بل ناقتك خير من هذا)) قال: فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يزيد حتى اشترى الناقة بأربعمائة درهم قال: فلما دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأعرابي الدراهم ضرب الأعرابي يده إلى زمام الناقة، فقال: الناقة ناقتي والدراهم دراهمي، فإن كان لمحمد شيء فليقم البينة، قال: فأقبل رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترضى بالشيخ المقبل؟ فقال: نعم، يا محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((تقضي فيما بيني وبين هذا الأعرابي؟)) فقال: تكلم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الناقة ناقتي والدراهم دارهم الأعرابي)) فقال الأعرابي: بل الدراهم دراهمي والناقة ناقتي، إن كان لمحمد شيء فليقم البينة، فقال الرجل: القضية فيها واضحة يا رسول الله؛ لأن الأعرابي طلب البينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((اجلس)) فجلس، ثم أقبل رجل آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أترضى يا أعرابي بالشيخ المقبل؟)) قال: نعم، يا محمد فلما دنا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((اقض فيما بيني وبين الأعرابي)) قال: تكلم يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((الناقة ناقتي والدراهم دارهم الأعرابي)) فقال الأعرابي: بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي، وإن كان لمحمد شيء فليقم البينة، فقال الرجل:((القضية فيها واضحة يا رسول الله؛ لأن الأعرابي طلب البينة)) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أترضى بالشاب المقبل؟)) قال: نعم، فلما دنا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((يا أبا الحسن اقض فيما بيني وبين الأعرابي)) فقال تكلم يا رسول الله، فقال:((الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي)) فقال الأعرابي: لا، بل الناقة ناقتي والدرهم دراهمي، وأن كان لمحمد شيء فليقم البينة، فقال علي عليه السلام: خل بين الناقة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الأعرابي، ما كنت بالذي أفعل أو تقيم البينة، قال: فضربه علي عليه السلام ضربة (فاجتمع أهل الحجاز على أنه رمى برأسه، وقال بعض أهل العراق: بل قطع منه عضوًا)، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما حملك على هذا يا علي؟)) فقال: يا رسول الله نصدقك على الوحي من السماء، ولا نصدقك على أربعمائة درهم.
(1) من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 61، 62
2-
قال محمد بن علي بن الحسين (1) : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فادعى عليه سبعين درهمًا ثمن ناقة باعها منه، فقال: قد أوفيتك، فقال:((اجعل بيني وبينك رجلًا يحكم بيننا)) فأقبل رجل من قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((احكم بيننا)) فقال للأعرابي: ما تدعي علي رسول الله؟ قال: سبعين درهمًا ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: ((قد أوفيته)) فقال للأعرابي: ما تقول؟ قال: لم يوفني، فقال لرسول الله: ألك بينة على أنك قد أوفيته؟ قال: لا، قال للأعرابي: أتحلف أنك لم تستوف حقك وتأخذه؟ فقال: نعم، فقال رسول الله ((لأتحاكمن مع هذا إلى رجل يحكم بيننا بحكم الله عز وجل) فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام ومعه الأعرابي، فقال علي عليه السلام: ما لك يا رسول الله؟ قال: ((يا أبا الحسن احكم بيني وبين هذا الأعرابي)) فقال علي عليه السلام: يا أعرابي ما تدعي على رسول الله؟ قال: سبعين درهمًا ثمن ناقة بعتها منه، قال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: ((قد أوفيته ثمنها)) فقال: يا أعرابي أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال؟ قال: لا، ما أوفاني شيئًا، فأخرج علي عليه السلام سيفه فضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لم فعلت يا علي ذلك؟)) فقال: يا رسول الله نحن نصدقك على أمر الله ونهيه وعلى أمر الجنة والنار والثواب والعقاب ووحي الله عز وجل ولا نصدقك في ثمن ناقة هذا الأعرابي وإني قتلته؛ لأنه كذبك لما قلت له: أصدق رسول الله فيما قال؟ فقال: لا، ما أوفاني شيئًا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:((أصبت يا علي، فلا تعد إلى مثلها)) ، ثم التفت إلى القرشي وكان قد تبعه، فقال:((هذا حكم الله لا ما حكمت به)) .
(1) من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 60؛ الوسائل، ج 18، الباب 18 من أبواب كيفية الحكم، ج 1، ص 200
تقريب الدلالة: تحاكم النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي إلى رجال من أصحابه مع أنهم لم يكونوا قضاة يدل على جواز التحكيم ومشروعيته، إلا أنه لم يثبت صحة سند الأول اللهم إلا أن يقال: إنهما مشهوران ورواهما الإمامية في كتبها كما قال السيد المرتضى (1) : (قد روت الشيعة أيضًا عن ابن جريح عن الضحاك عن ابن عباس قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة
…
)) ، فعلى هذا تكون الروايتان معتبرتين، مع أنه يكفي صحة سند الثاني، إذ طريق الصدوق إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام معتبر إن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رد الحكم إلى رجل صار قاضيًا منصوبًا.
قلنا – ما ورد في الروايتين هو التحاكم إلى رجال، والرضا بتحكيمهم، وبهذا لا يصير المحكم قاضيًا.
8-
تحاكم الصحابة:
قال في المسالك (2) : وقد وقع في زمن الصحابة ولم ينكر أحد منهم ذلك..
قال ابن قدامة (3) : ولأن عمر وأبيًّا التحاكم إلى زيد (4) ، وحاكم عمر أعرابيًّا إلى شريح قبل أن يوليه، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكونوا قضاة.
9-
قال النسائي (5) : أخبرنا قتيبة قال: حدثنا يزيد - وهو ابن المقدام بن شريح - عن شريح بن هانئ عن أبيه، أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه وهم يكنون هانئًا أبا الحكم، فدعاه رسول الله فقال له:((إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟)) فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، قال:((ما أحسن من هذا، فما لك من الولد؟)) قال: لي شريح وعبد الله ومسلم. قال: ((فمن أكبرهم؟)) قال: شريح، قال:((فأنت أبو شريح)) ، فدعا له ولولده، هذا وإنما يكون عمل الصحابي حجة إذا كشف عن رأي المعصوم (ع) .
10 – عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
استدل في كشف اللثام (6) على مشروعيته بما دل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويرده أن الحكم والقضاء غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الحكم والقضاء إنشاء الحكم الجزئي على شيء مخصوص، وهذا يغاير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ ليس في الأمر والنهي وإنشاء الحكم.
(1) الانتصار، ص 238، 239
(2)
المسالك، ج 2، ص 351
(3)
المغني، ج 1، ص 137
(4)
السنن الكبرى للبيهقي، ج 10، ص 145
(5)
سنن النسائي، ج 8، ص 226، ورواه أيضًا في السنن الكبرى، ج 10، ص 145
(6)
كشف اللثام، ج 2، ص 140
11-
الآيات الواردة في النهي عن الحكم بغير ما أنزل الله، والأمر بالحكم بالعدل:
منها قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، ومنها قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] ..
ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النساء:58] .
فإن المستفاد منها صحة الحكم بالعدل والحق من كل مؤمن ولو لم يكن قاضيًا، وإنما الذم على الحكم بغير ما أنزل الله.
أقول: وإن استدل بها في كشف اللثام (1) ، ولكن الظاهر منها الورود في مورد حرمة الحكم بغير العدل والحق لا في بيان صحة الحكم والقضاء من كل أحد، فصحة الحكم تتوقف على دليل آخر.
وقيل بعدم جواز التحكيم وعدم نفوذ الحكم المحكم:
قال العلامة في التحرير (2) : ولو تراضى خصمان بواحد من الرعية وترافعا إليه فحكم لم يلزمهما الحكم، ولكن قال بلزومه في القواعد (3) والإرشاد (4) .
قال في الروضة على ما حكي عنها في الجواهر (5) : هل يجوز أن يحكم الخصمان رجلًا غير القاضي؟ وهل لحكمه بينها اعتبار؟ قولان، أظهرهما عند الجمهور نعم، وخالفهم الإمام والغزالي فرجحا المنع.
واستدل على المنع بوجهين:
1-
لو جاز التحكيم يلزم توفيت الولاية على القاضي المنصوب، وتفويت رأيه ونظره (6) ويرده أنه لا ملازمة بين جواز التحكيم وتفويت الولاية والرأي، إذ القاضي منصوب على القضاة والحكومة، وله ولاية على الحكم ولو لم يراجعه أحد، وأما تفويت الرأي فهو أيضًا لا يلزم؛ إذ التفويت في حكم ولم يعمل به، وأما فيما لم يحكم ولم ينظر فليست تفويت، وإلا يلزم من نصب قاض تفويت رأي القاضي المنصوب قبله، وهو كما ترى.
2-
أن جواز التحكيم على خلاف الأصل، إذ الأصل عدم نفوذ حكم أحد إلا ما خرج بالدليل (7) ، ويرده أن الدليل قام على جوازه، فخرج من الأصل بالدليل.
(1) كشف اللثام، ج 2، ص 140
(2)
التحرير، ج 2، ص 180
(3)
القواعد، (الينابيع الفقهية) ، ج 11، ص 393.
(4)
الإرشاد، ج 2، ص 138
(5)
الجواهر، ج 4، ص 24
(6)
المسالك، ج 2، ص 315
(7)
المسالك، ج 2، ص 351.
شرائط قاضي التحكيم
القول في شرائط قاضي التحكيم:
1-
البلوغ:
قال الشهيد الثاني: واعلم أن الاتفاق واقع على أن قاضي التحكيم يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب من الشرائط (1) .
وقال في الروضة: فإن استجماعه لشرائط الفتوى شرط إجماعًا، وكذا بلوغه وعقله وطهارة مولده وغلبة حفظته وعدالته (2) .
قال المحقق: ويشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب (3) .
وقال الشهيد الأول في الدروس: ويشترط استجماع الشرائط (4) .
ولكن قال في اللمعة: ولا بد من الكمال والعدالة وأهلية الإفتاء والذكورة والكتابة والبصر إلا في قاضي التحكيم (5) .
قال في الجواهر: نعم يتجه اعتبار ما كان دليله عامًّا لمثله من الشرائط كالبلوغ والإسلام ونحوهما (6) .
والدليل على اشتراط البلوغ في قاضي التحكيم، مضافًا إلى الإجماع المنقول (وإن كان فيه تأمل) أن ما يدل على جواز التحكيم يختص بالبالغ، ولا إطلاق فيه بحيث يشمل الصبي، فالأصل عدم نفوذ حكم الصبي.
2-
العقل:
ظهر مما تقدم في البلوغ أن اشتراط العقل إجماعي كما في المسالك والروضة.
والدليل على ذلك انصراف أدلة جواز التحكيم عن المجنون، وهذا لا الإشكال فيه، وعن السفيه أيضًا.
3-
العدالة:
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] ، والفاسق ظالم، والاحتكام إليه ركون إلى الظالم وهو منهي عنه، مع أنه ادعي عليه الإجماع.
4-
الذكورة:
قال الشهيد الثاني: وأما الذكورية فلم ينقل أحد فيها خلافًا، ويبعد اختصاص قاضي التحكيم بعدم اشتراطها وإن كان محتملًا (7) .
والدليل على اشتراطها اختصاص الأدلة بها، إذ ورد فيها (فيتراضيان برجل منا) ، فلا إطلاق فيها حتى تشمل الأنثى، فمقتضى الأصل عدم نفوذ حكم الأنثى، اللهم إلا أن يقال: إن ذكر الرجل هنا إنما هو باعتباره عنوانًا مشيرًا.
(1) المسالك، ج 2، ص 352
(2)
الروضة، ج 1، ص 279
(3)
الشرائع، ص 314
(4)
الدروس، ج 2، ص 68
(5)
الروضة، ج 1، ص 278
(6)
الجواهر، ج 40، ص 28
(7)
الروضة: ج 1،ص 279
5-
طهارة المولد:
ادعي الإجماع على اعتبارها في قاضي التحكيم كما تقدم.
واستدل على ذلك بأن قوله: (فيتراضيان برجل منا) ينصرف إلى غير ولد الزنا، وليس هنا ما يدل على نفوذ حكمه (1)
وفيه أنه لا وجه للانصراف، إذ ولد الزنا الذي يكون مؤمنًا يصدق عليه أنه رجل منا بلا إشكال، فيشمله الدليل، فحكمه نافذ، فالأقوى أنه لا يشترط طهارة المولد في قاضي التحكيم.
وأما الإجماع فيحتمل كونه مدركيًّا فلا حجة.
6-
غلبة الحفظ والضبط:
والدليل على انصراف الأدلة عن غير الضابط.
وفيه: أن التحكيم في واقعة لا يحتاج إلى غلبة الحفظ والضبط، إلا أن يكون غير ضابط ولو في قضية واحدة.
7-
الكتابة:
والدليل على ذلك الإجماع، ولكنه يحتمل كونه مدركيًّا، وإطلاق الأدلة يردها.
8 -
البصر:
الكلام فيه كالكلام في الكتابة.
9 -
الاجتهاد:
المشهور هو اشتراط الاجتهاد في قاضي التحكيم بل ادعي عليه الإجماع.
وقيل بعدم اعتبار الاجتهاد فيه (2) ، وهو الأقوى.
واستدل بعدم اعتباره بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، فإن المستفاد منه صحة الحكم بالعدل من كل مؤمن ولو لم يكن مجتهدًا.
وبإطلاق الروايات الدالة على جواز التحكيم (كصحيحة الحلبي وغيرها) فتدل على صحة حكم قاضي التحكيم ولو لم يكن مجتهدًا.
(1) تكملة المنهاج، ج 1، ص 11
(2)
تكملة المنهاج، ج 1،ص 9
شرائط التحكيم
هل يشترط في جواز التحكيم عدم وجود الإمام أو القاضي المنصوب من قبله في البلد أم لا؟
المشهور عدم الاشتراط، بل لا أجد فيه خلافًا إلا ما حكي في الجواهر (1) عن بعض الفقهاء.
قال في االدروس (2) : قضاء التحكيم وهو سائغ وإن كان في البلد قاض.
وقال في القواعد (3) : والتحكيم سائغ وإن كان في البلد قاض.
وقال في الروضة (4) : قاضي التحكيم وهو الذي تراضى به الخصمان للحكم بينهما مع وجود قاض منصوب من قبل الإمام.
وقال في كشف اللثام (5) : لو تراضى الخصمان بحكم بعض الرعية فحكم بينهما جاز عندنا وإن كان الإمام حاضرًا أو هناك قاض منصوب منه.
والدليل على عدم الاشتراط إطلاق الأدلة الدالة على جواز التحكيم إلا أن يقال: إن الروايات صدرت في زمن عدم وجود قاض منصوب من قبل الإمام، وعدم بسط يده فلا إطلاق في البين، فالقدر المتيقن من جواز التحكيم هو عدم وجود قاض منصوب، فتأمل.
هل يشترط في نفوذ حكمه تراضي الخصمين بالحكم بعده أم لا؟ فيه قولان:
1-
عدم الاشتراط، قال به الشيخ (6) ، والمحقق (7) ، والشهيد الأول (8) ، والثاني (9) ، والعلامة (10) ، بل لم أجد خلافًا فيه عندنا، وبه قال أيضًا أبو حنيفة (11) ، وابن قدامة (12) ، وهو أحد قولي الشافعي (13) .
أدلة القول الأول:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حكم بين اثنين تراضيًا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله)) (14)
(1) الجواهر، ج 40، ص 24
(2)
الدروس، ج 2، ص 67
(3)
الينابيع الفقهية، ج 11، ص 394
(4)
الروضة، ج 1،ص 9، 278
(5)
كشف اللثام، ج 2، ص 140
(6)
الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء، المسألة،40، ص 602
(7)
الشرائع، ص 314
(8)
الدروس، ج 2، ص 68
(9)
الروضة، ج 1، ص 279؛ والمسالك، ج 2، ص 351
(10)
القواعد (الينابيع الفقهية، ج 11، ص 393)
(11)
المغني، ج 10، ص 137
(12)
المغني، ج 10، ص 137
(13)
الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء، المسألة 40، ص 602، ج10، ص 137.
(14)
الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء، المسألة 40، ص 602 ح والمغني، ج 10، ص 137، فيه ((فهو ملعون))
تقريب الدلالة: لولا أن حكمه بينهما لازم لما تواعده باللعن (1) .
أقول: لا دلالة فيه على لزوم الحكم من دون رضا الخصمين، إذ يمكن أن يكون اللعن لأجل الحكم بغير العدل ولو لم يكن حكمه نافذًا بدون رضاهما، فالموجب للعن هو الحكم بغير العدل سواء كان لازمًا أو غير لازم.
لو كان الحكم لا يلزم بنفس الإلزام لما كان للترافع إليه معنى (2) .
قد يقال: تقييد لزوم الحكم برضا الخصمين به لا يوجب اللغوية، إذ يكفي فيه لزومه بعد رضاهما به إلا أنه جواب غير تام.
علي بن الحسين بإسناده عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) : انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئًا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيًا، فتحاكموا إليه (3) ..
تقريب الدلالة: أن الرواية ناظرة إلى قاضي التحكيم؛ لأن قوله: (فإني قد جعلته قاضيًا) متفرع على قوله: (فاجعلوه بينكم) وهو القاضي المجعول من قبل المتخاصمين، فإذا تحاكما إليه فهو قاض، لقوله (ع) :(قد جعلته قاضيًا) وحكم القاضي لازم ونافذ، فلا يشترط فيه رضا الخصمين.
والرواية معتبرة من حيث السند، فهذه المعتبرة تدل على عدم اشتراط تراضي الخصمين بالحكم في لزوم حكم قاضي التحكيم بعد حكمه.
ويدل على عدم اعتبار رضا الخصمين في لزوم الحكم مقبولة عمر بن حنظلة الآتية في أدلة مشروعية التحكيم، فإن قوله (ع) :(فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله) ظاهر في لزوم الحكم من دون رضا الخصمين، بل ولا يجوز للخصمين رده فإنه استخفاف بحكم الله.
دليل القول الثاني: لا يلزم الخصمين حكم قاضي التحكيم إلا بتراضيهما؛ لأن حكمه إنما يلزم بالرضا به، ولا يكون الرضا إلا بعد المعرفة بالحكم (4) .
ويرده أنه مصادرة على المطلوب؛ إذ قوله: (لأن حكمه إنما يلزم بالرضا به) عين المدعى، وهو أول الكلام، وما الدليل على ذلك؟ فالدليل عين المدعى، ولا يثبت المطلوب.
(1) الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء 7، المسألة 40، ص 602؛ المغني، ج 10، ص 137.
(2)
الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء، المسألة 40، ص 602
(3)
الوسائل، ج 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ج 5، ص 4
(4)
المغني، ج 10، ص 137
ما يجري فيه التحكيم
اختلف الفقهاء فيما يجري فيه التحكيم على أقوال:
1-
جواز التحكيم في كل الأحكام:
قال به المحقق (1) ، والعلامة (2) والشهيد الأول (3) ، وكاشف اللثام (4) ، وهو المحكي عن ظاهر كلام أحمد (5) ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي (6) ، واختاره صاحب الجواهر (7) ، على القول بالمشروعية.
2-
جواز التحكيم في جميع ما يقع فيه التداعي، وعدم جوازه في حقوق الله المحضة التي ليس لها خصم معين، ولا يقع التداعي فيها..
اختاره الشهيد الثاني (8) .
3-
جواز التحكيم في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء: النكاح: واللعان والقذف والقصاص. وهو المحكي عن القاضي (9) وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي (10) .
4-
جواز التحكيم في الأموال فقط.
نقله صاحب الجواهر (11) عن الروضة عن بعض الفقهاء.
والمختار من هذه الأقوال هو القول الثاني والدليل على ذلك إطلاق الأدلة، إذ قوله صلى الله عليه وسلم:((فتحاكموا إليه)) مطلق يشمل جميع ما يقع فيه التحاكم والتداعي، نعم يختص بما يقع فيه التحاكم والتداعي، وأما ما لا تداعي فيه ولا تحاكم كحقوق الله تعالى فلا دليل على نفوذ حكمه فيه.
أما ما يمكن أن يستدل على القول الأول بأنه داخل في عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيرده أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يغاير الحكم والقضاء، ولو سلم فلا دليل على جواز التحكيم فما ليس له خصم معين من قبل المحكمين حتى يقال بجواز حكم من باب النهي عن المنكر.
وأما سائر الأدلة فلا عموم لها بالنسبة إلا ما لا يقع فيه التداعي.
واستدل على القول الثالث بأن لهذه الأحكام (النكاح واللعان والقذف والقصاص) مزية على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ونائبه يقوم مقامه ((12) .
ويرده: أولًا: لو قلنا باشتراط جواز التحكيم بعدم وجود الإمام أو القاضي المنصوب من قبله يلزم أن تعطل هذه الأحكام.
وثانيًا: ورود الدليل على جواز التحكيم يكشف عن الإذن العام في النظر في هذه الأحكام لقاضي التحكيم.
وثالثًا: نحن ننكر وجود مزية فيها على غيرها، بل يمكن أن يقال: إن في بعض الأحكام غير هذه الأربعة مزية على هذه الأربعة كالطلاق، والسرقة.
والقول الرابع: قول بلا دليل، ويرده عمومات الأدلة.
(1) الشرائع، ص 314
(2)
القواعد (الينابيع الفقهية، ج 11، ص 393
(3)
الدروس، ج 2، ص 68
(4)
كشف اللثام، ج 2، ص 140
(5)
المغني، ج 10، ص 137
(6)
المغني، ج 10، ص 137
(7)
الجواهر، ج 40، ص 37
(8)
المسالك، ج 2، ص 352
(9)
المغني، ج 10، ص 137
(10)
المغني، ج 10، ص 137
(11)
الجواهر، ج 40، ص 24
(12)
المغني، ج 10، 3 137
الرجوع عن التحكيم
هل يجوز للخصمين الرجوع عن التحكيم قبل الحكم أم لا؟
لم أجد خلافًا بين الفقهاء في جواز رجوع كل واحد من الخصمين عن تحكيمه قبل شروع الحكم في حكمه. واستدل بأنه لا يثبت إلا برضاه فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف (1) .
ويرده بأن الرضا بأصل التحكيم موجود، وأما استمرار رضاهما فهو أول الكلام، والدليل عين المدعي، وأما القياس بالتوكيل فباطل؛ لأنه يغاير التوكيل..
والذي يقوى في النفس وإن لم نجد موافقًا هو أنه لا يجوز الرجوع عن التحكيم ولو قبل شروع الحكم، والدليل على ذلك قوله:(فاجعلوه بينكم فإني جعلته قاضيًا) فبمجرد التحكيم صار المحكم قاضيًا، وعزله عن التحكيم يحتاج إلى دليل، وهو مفقود، نعم للخصمين، أن ينصرفا عن التنازع والتداعي، وأما عزل الحكم فلا.
رجوع الحكم عن حكمه
إذا حكم القاضي بعد تحكيمه لا يجوز له الرجوع عن حكمه الذي حكم بالحق والعدل؛ لأنه بعد التحكيم يطلق عليه القاضي، وحكم القاضي لا يجوز نقضه سواء كان النقض من قبله أو من قبل آخر، ويدل عليه مقبولة عمر بن حنظلة حيث قال:(فإنما استخف بحكم الله) ، فإن هذا التعليل يجري في رجوعه عن حكم أيضًا، وأما إذا عم ببطلان حكمه، وأنه حكم بغير الحق فيجب عليها الرجوع عن حكمه، إذ ورد النهي عن الحكم بغير الحق.
رجوع الحكم عن الحكم لأحدهما بمحل النزاع والحكم الآخر:
ظهر في المسألة السابقة حكم هذه المسألة، بأنه لو حكم بالحق فلا يجوز الرجوع، ولو رجع وحكم للآخر صار ممن حكم بغير الحق والعدل وبغير ما أنزل الله، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون، وأما لو تبين له أن حكمه الأول حكم بغير الحق فيجب عليه الرجوع والحكم الآخر بالحق والعدل وإلا فهو ممن لم يحكم بما أنزل الله، وحكمه الأول كلا حكم، ويدل عليه ما ورد في تحاكم النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي.
(1) المغني، ج 10، ص 137
تنفيذ حكم المحكمة مباشرة أو باتصال القضاء به:
يستفاد من الأدلة الدالة على جواز التحكيم أن قاضي التحكيم يجوز له تنفيذ الحكم وإجراؤه بالمباشرة سيما ما ورد في تحاكم النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي، ولا يحتاج إلى تنفيذ القاضي المنصوب، نعم للقاضي المنصوب تنفيذه وإجراؤه لو لم يكن لقاضي التحكيم سلطة عليه؛ لأنه حكم صدر من أهله، ولا يجوز تعطيله، إذ يلزم الاستخفاف بحكم الله، ومع ذلك كله قال العلامة (1) :(وهل له الحبس واستيفاء العقوبة إشكال) والظاهر أن التنفيذ إذا كان يعني تدخلًا في شأن حكومي لزم اتصال القضاء به.
مشروعية التحاكم إلى الاثنين
هل يجوز التحاكم إلى اثنين من الرعية ليكونا ناظرين معًا في قضية واحدة أم لا؟
لم أجد من تعرض لهذه المسألة من الفقهاء، إلا أن مقتضى مقبولة عمر بن حنظلة، ومعتبرة داود بن الحصين المتقدمتين في مشروعية التحكيم جوازه، فعلى هذا يجتمعان وينظران في القضية وإذا اتفقا حكما معًا، وحكمهما لازم ونافذ على المتخاصمين.
ثم إن التحاكم إلى الاثنين يتصور تارة بأن يختار الخصمان معًا كلاهما، وأخرى أن يختار كل واحد من الخصمين رجلًا ليكونا ناظرين في حقهما، وما ورد في المقبولة هو الثاني، وفي معتبرة داود بن الحصين هو الأول.
إذا حكم الخصمان رجلين في واقعة، واختلف في الحكم حكم أيهما يمضي؟
مقتضى مقبولة عمر بن حنظلة ومعتبرة داود بن الحصين صحة حكم أعدلهما وافقههما وأصدقهما وأورعهما وعدم نفوذ حكم الآخر.
(1) القواعد (الينابيع الفقهية، ج 11، ص 394) .
احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية
احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية في دولة إسلامية:
المسألة ذات صور:
1-
لو تحاكم ذميان من أهل ملة واحدة كأهل التوراة مثلًا إلى محاكم إسلامية من دون التحاكم إلى حكام أهل ملتهما: لا خلاف عندنا كما في الجواهر (1)، بل عليه الإجماع كما في السرائر (2) بأن الحاكم بالخيار في ذلك: إن شاء حكم، وإن شاء ترك، وحكي عن الشافعي في أحد قوليه (3) وبه قال ابن قدامة (4)
وحكي عن الشافعي (5) ، وأبي حنيفة (6) ، والمزني (7) وجوب الحكم على الحاكم، وقال به البيضاوي (8) .
استدل على القول الأول بوجهين:
أولًا: قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] .
وأورد عليه البيضاوي (9) بأن الآية ليست في أهل الذمة.
أقول: وإن لم تكن الآية في أهل الذمة فليست مختصة بغيرهم، بل هي مطلقة تشمل أهل التوراة سواء كانوا ذميين أم لا.
نعم يرد عليه أولًا: أن الآية مختصة ظاهرًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإسراء حكمها إلى سائر الحكام يحتاج إلى دليل.
وثانيًا: مختصة بأهل التوراة، فلا تشمل سائر أهل الكتاب، والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ} [المائدة: 43] .
وحكي عن الحسن (10) أنه قال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] فنسخ الاختيار، وأوجب الحكم بينهم..
ويرد عليه على أن النسخ يحتاج إلى دليل، وهو مفقود، والجمع بين الآيتين ممكن عرفًا بأن الآية الأولى وردت في مورد أصل الحكم بينهم، وهذه الآية وردت في مورد أنه يجب الحكم بما أنزل الله لا في مورد أصل الحكم أي إذا أردت أن تحكم فاحكم بينهم بما أنزل الله.
(1) الجواهر، ج 21، ص 318
(2)
السرائر، ج 2، ص 197
(3)
تفسير البيضاوي، ج 1، ص 267
(4)
المغني، ج 9، ص 289
(5)
الجواهر، ج 21، ص 319؛ تفسير الفخر الرازي، ج 11، ص 242
(6)
تفسير البيضاوي، ج 1، ص 267
(7)
الجواهر، ج 21، ص 319
(8)
تفسير البيضاوي، ج 1، ص 267.
(9)
تفسير البيضاوي، ج 1، ص 267
(10)
فقه القرآن للراوندي (الينابيع الفقهية، ج11، ص: 152)
ب- ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن سويد بن سعيد القلا عن أيوب عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) : (أن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة وأهل الإنجيل تحاكمون إليه كان ذلك إليه: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء تركهم)(1) .
تقريب الدلالة: قوله (ع) : (إذا أتاه أهل التوراة وأهل الإنجيل
…
) مطلق سواء كانوا ذميين أم لا، وقوله (ع) : (كان ذلك إليه
…
) يدل على التخيير.
قال ابن إدريس (2) : هذا الخبر صحيح.
ولكن لم يثبت لنا صحة سنده، لتردد أبي بصير بين الثقة والمجهول اللهم إلا أن يقال بجبره لعمل الأصحاب، ومشهورية الحكم عنده.
ج- الأصل: مقتضى الأصل عدم وجوب الحكم على الحاكم، إذن فيتخير بين الحكم والترك وهذا على المناقشة في الوجهين، ،وإلا لم تصل النوبة؛ لأنه في مقام الشك في الحكم، على أننا لو تصورنا المسألة في دولة إسلامية يلتزم فيها أهل الذمة بشروطها أمكننا القول بالوجوب من باب الحسبة.
واستدل على القول الثاني بوجهين:
أ- قال البيضاوي (3) : والأصح وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميًّا؛ لأنا التزمنا الذب عنهم، ودفع الظلم منهم.
ب- حكي عن الشافعي (4) أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه؛ لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارًا لهم.
يرد عليه أنه ليس كل صغار مما يجب أن يجري عليهم، بل إما الصغار الذي يحصل من إعطاء الجزية، وإما الصغار الذي يرى الإمام إجراءاه عليهم، والصغار الحال من الحكم عليه بحكم الإسلام لا دليل على وجوب إجرائه عليهم، هذا أولًا.
(1) الوسائل، ج 18، الباب 27 من أبواب كيفية الحكم، ج 1، ص 218.
(2)
السرائر، ج 2، ص 197
(3)
تفسير البيضاوي، ج 1، ص 267
(4)
تفسير الفخر الرازي، ج 11، ص 242
وثانيًا: أنه يتوقف على وجوب الحكم بمقتضى شريعة الإسلام، والكلام فيه يأتي.
وثالثًا: وإن كان الحكم بمقتضى الشريعة صغارًا على المحكوم عليه، ولكنه ليس كذلك بالنسبة إلى المحكوم له، بل عزة له.
ورابعًا: لو كان إجراء الصغار واجبًا عليهم مطلقًا فلم كان رسول الله صلى الله علبه وسلم مخيرًا في الحكم بينهم.
هذا كله في أصل الحكم بينهم من التخيير أو الوجوب والثاني هو الظاهر في حالة قيام دولة إسلامية.
وأما إذا حكم الحاكم بينهم إما وجوبًا وإما تخييرًا فبمقتضى أي شريعة يحكم بينهم؟
الظاهر أنه لا خلاف بيننا في أنه إن حكم فلا يجوز له أن يحكم إلا بما تقتضه شريعة الإسلام وعدله، ولا يجوز له أن يحكم إلا بالحق.
قال العلامة (1) : ولو ترافعوا إلينا في خصوماتهم تخير الحاكم بين الحكم بشرع الإسلام وردهم إلى أهل نحلتهم ليحكموا بمقتضى شرعهم.
قال صاحب الجواهر (2) : لو تحاكم إلينا ذميان مثلًا كان الحاكم مخيرًا بين الحكم عليهما بحكم الإسلام، وبين الإعراض عنهم بلا خلاف أجده فيه بيننا.
وحكي ذلك عن أبي حنيفة (3) ، وبه قال الماوردي (4) وأبو يعلى (5) ، وابن قدامة (6) .
واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] .
ولكن لا دلالة فيها على وجوب الحكم بمقتضى شريعة الإسلام، إذ ليست في مقام بيان مستند الحكم، بل وردت في مورد لزوم الحكم بالعدل، فلو دل دليل على جواز الحكم بمقتضى شريعتهم فلا ينافي كونه حكمًا بالقسط.
وبقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] .
وهذه أيضا لاتدل على المدعى إذ الحكم بمقتضى شريعة التوراة والإنجيل حكم بما أنزل الله وليس في الآية ما يعين المراد مما أنزل الله بأنه ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم فالآية مطلقة.
وبقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] .
هي كالآية التي قبلها في الدلالة فلا نعيدها.
(1) القواعد (جامع المقاصد، ج 3، ص 459) .
(2)
الجواهر، ج 21، ص 318.
(3)
تفسير الكشاف، ج 1، ص 614
(4)
الأحكام السلطانية، ص 145 – 146.
(5)
الأحكام السلطانية
(6)
المغني، ج9، ص 289
إن قيل: إن قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]، وقوله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]
قرينتان على حمل ما أنزل الله على ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
قلنا: لا قرينة فيهما؛ إذ يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] أي: لا تتبع أهواءهم في الحكم بغير ما أنزل الله عما جاءك من الحق أي من الحكم بما أنزل الله، ومن قوله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] أي ما أنزل الله إليك من الحكم بما أنزل الله فالآيتان مطلقتان.
نعم يمكن أن يقال: إنهما محفوفتان بما يتحمل القرينة، فتكونان مجملتين، والقدر المتيقن هو الحكم بمقتضى شريعة الإسلام.
2-
لو تحاكم ذميان من أهل ملة واحدة إلى محاكم إسلامية بعد أن تحاكما إلى حكامهم فقضوا عليهما بالجور أو بالعدل في مذهبهم.
قال محمد بن إدريس (1) : إن كان قد قضى عليه بما هو صحيح مذهبهم فقد أمرنا أن نقرهم على أحكامهم، فلا يجوز لنا أن نفسخ حكمهم عليهم، ولا نرده عليهم، ولا نجيبه إلى ما دفعه عن نفسه، وإن كان قد قضى عليه بجور على مذهبهم فنرده؛ لأنا أمرنا أن نقرهم على أحكامهم وما يجوز عندهم دون ما لا يجوز.
قال المحقق الثاني (2) : لو تحاكموا إلى حكامهم فقضوا عليهم بالجور فترافعوا إلينا وجب الحكم بشرع الإسلام.
وقال صاحب الجواهر (3) : الظاهر أنه يجوز له أيضًا نقض حكمهم الباطل إذا استعداه أحد الخصمين.
يدل على ذلك ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن ابن قولويه عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه عن محمد بن الحسين عن يزيد بن إسحاق عن هارون بن حمزة عن أبي عبد الله (ع) قالت: قلت: رجلان من أهل الكتاب نصرانيان أو يهوديان كان بينهما خصومة، فقضى بينهما حاكم من حكامهما بجور فأبى الذي قضى عليه أن يقبل وسأل أن يرد إلى حكم المسلمين، قال: يرد إلى حكم المسلمين (4) .
(1) السرائر، ج 2، ص198
(2)
جامع المقاصد، ج 3، ص 459
(3)
الجواهر، ج 21، ص319
(4)
الوسائل، ج 18، الباب 47 من أبواب كيفية الحكم، ج 2، ص 218
تقريب الدلالة: قوله: (ع) : (يرد إلى حكم المسلمين) يدل على جواز نقض حكم حاكمهم إذا حكم بالجور لو ترافعوا إلى حكام المسلمين إلا أنه لم يثبت صحة سنده لأجل يزيد بن إسحاق.
واستدل أيضًا (1) بعمومات جواز نقض الحكم بتقريب أنه لما كان هذا الحكم حكم جور فيجوز نقضه، بل هو باطل من أصله، فكأنه تحاكم ابتدائي، فيشمله ما دل على جواز الحكم بينهم.
3-
لو تحاكم ذميان من أهل ملتين كاليهودي والنصراني:
حكم هذه المسألة ظهر مما ذكرنا في المسألة الأولى، وقد قال المحقق الثاني (2) : لو كان المتحاكمان من أهل ملتين ولم يتراضيا بحاكم من إحدى الملتين (وجب الحكم) حذرًا من وقوع الفتنة، فإن الدفاع عنهم واجب علينا.
4-
لو تحاكم مستأمنان حربيان من غير أهل الذمة سواء كانا من أهل الكتاب أم من غير أهل الكتاب إلى محاكم إسلامية:
قال العلامة على ما حكي عنه (3) : لا يجب على الحاكم الحكم بينهما إجماعًا؛ لأنه لا يجب على الإمام دفع بعضهم عن بعض بخلاف أهل الذمة؛ ولأن أهل الذمة فإنهم يسكنون دار الإسلام على التأبيد.
5-
لو تحاكم ذمي ومستأمن حربي إلى محاكم إسلامية:
قال البيضاوي (4) الأصح وجوب الحكم إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميًّا؛ لأنا التزمنا الذب عنهم ودفع الظلم منهم.
6-
لو تحاكم مسلم مع ذمي أو مستأمن إلى محاكم إسلامية:
قال صاحب الجواهر (5) : وجب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل الله.
وقال المحقق الثاني (6) الأول (من مواضع وجوب الحكم) إذا كان أحد الخصمين مسلمًا، فإنه لا يجوز إجراء حكم الكافر على المسلم.
أقول: والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وغير ذلك من أدلة حرمة التحاكم إلى الكفار إذا كان المتحاكم مسلمًا، فيتعين التحاكم إلى محاكم إسلامية، فيجب على الحاكم الحكم بينهما بحكم الإسلام.
(1) الجواهر، ج 21، ص 319
(2)
جامع المقاصد، ج 3، ص 460
(3)
الجواهر، ج 21، ص 319
(4)
تفسير البيضاوي، ج 1، ص 276
(5)
الجواهر، ج21، ص 319
(6)
جامع المقاصد، ج 3، ص 459
احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة
هل يجوز للمسلم أن يتحاكم إلى محاكم غير إسلامية أم لا؟
الظاهر عدم جواز التحاكم للمسلم إلى محاكم غير إسلامية، بل يمكن أن يعد من الضروريات، وتدل على الآيات والروايات:
1-
قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] .
تقريب الدلالة: الاحتكام ركون، والكافر ظالم، فالاحتكام إلى الظالم، وهو منهي عنه.
2-
قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]
تقريب الدلالة: الاحتكام إلى الكافر وحكمه على المسلم سبيل للكافر على المسلم، ولم يجعل الله للكافر على المؤمن سبيلًا، فالاحتكام إليه حرام.
3-
تقريب الدلالة: قال في المفردات (1) : والطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] فعبارة عن كل متعد.
فالاحتكام إلى الكافر تحاكم إلى الطاغوت وقد أمرنا أن نكفر به فلا يجوز الاحتكام إلى محاكم غير إسلامية.
4-
قوله (ع) : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه (2) .
تقريب الدلالة: إن الاحتكام إلى الكافر يوجب علو الكفر على الإسلام، مع أنه قال (ع) :((لا يعلى عليه)) ، هذا كله لو لم يلزم من عدم الاحتكام إلى محاكم غير إسلامية حرج أو ضرر، وإلا فيدل على جواز الاحتكام مع الحرج أو الضرر:
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
حيث تدل على أن كل حكم يلزم منه الحرج فليس بمجعول، فإطلاق عدم جواز الاحتكام إلى محاكم غير إسلامية بالنسبة إلى حالة الحرج يقيد بالآية، بل الآية حاكمة على أدلة عدم الجواز فتضيق دائرتها.
وما رواه محمد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمر به إلى نخله ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة، فلما تأبى، جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للأنصاري:((اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار)) (3) .
(1) المفردات، ص 305
(2)
الوسائل، ج 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، ج 11، ص 376
(3)
الوسائل، ج 17، الباب 12 من أبواب إحياء الموات، ج3، ص341.
وروي هذا الخبر بطرق مختلفة وعبارات متفاوتة، وروي قوله صلى الله عليه وسلم:((لا ضرر ولا ضرار)) بدون صدر الحديث أيضًا، وتفصيله موكول إلى محله.
هذا الخبر وأمثاله تعطي قاعدة كلية وهي قاعدة (لا ضرر) ، وهذه القاعدة حاكمة على أحكام الإسلام، فكلما لزم من حكم ضرر فهو مرتفع، فعلى هذا إذا لزم من عدم الاحتكام إلى الكفار ضرر نفسي أو مالي أو نحوهما فبحكم هذه القاعدة يجوز الاحتكام.
وما رواه محمد بن علي بن الحسين عن محمد بن أحمد بن يحيى العطار عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمته تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الخلق ما لم ينطق بشفة)) (1) .
تقريب الدلالة: هذه الصحيحة تدل على جواز الاحتكام في حال الاضطرار والضرورة، إذ كل حكم من الوجوب والحرمة مرفوع عند الاضطرار.
(1) الخصال للصدوق، باب التسعة، ج 9، ص 417
احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية
هل يجوز احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعاتهم أو فيما بين المسلمين وغيرهم أم لا؟ ظهر مما قدمنا في المسألة السابقة بأن احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية لا يجوز سواء كان بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم والأدلة على حرمة الاحتكام في المسألة السابقة تجري هنا.
نعم كما يجوز للمسلم أن يحتكم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة عند الحرج أو الضرر، أو الاضطرار فكذلك يجوز للمسلمين أن يحتكموا إلى المحكمة الدولية عند الحرج أو الضرر أو الاضطرار، فلا نعيدها.
هل يجوز أن يحكم المسلمون في غير البلاد الإسلامية رجلًا منهم، ثم يرفعون نتيجة ذلك إلى المحاكم المحلية غير إسلامية لتكتسي صبغة التنفيذ أم لا؟
حكم هذه المسألة أيضًا ظهر مما تقدم بأنه وإن لم يكن تحاكمًا إلى محاكم غير إسلامية إلا أنه ركون إلى الظالم، وأنه مما يوجب السبيل للكافر على المؤمن، وعلو الكفر على الإسلام، فلا يجوز.
نعم ولو لزم من عدم الرفع حرج أو ضرر جاز رفع النتيجة للتنفيذ.
الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي
نبذة عن تأسيس المحكمتين الدولية والإسلامية:
قلنا في مطلع البحث: إن التحكيم قد يشكل ظاهرة بشرية عامة فعرفت الوساطة والتحكيم منذ كانت الأمم وكانت الحروب وقد وضعتا كطريقتين سلميتين لأجل تسوية المنازعات الدولية في اتفاقات مؤتمري لاهاي سنة 1899 م وسنة 1907 م، وقد أنشئت محكمة التحكيم الدائمة، ومحكمة العدل الدولية بعدها حيث نظمت مجددًا بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة عبر ميثاق خاص بها تمت المصادقة عليه في مؤتمر الأمم المتحدة في سان فرانسيكسو بتاريخ 26 حزيران 1945 م وهي تشكل الهيئة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة وتتألف من خمسة عشر قاضيًا تنتخبهم الجمعية العمومية ومجلس الأمن من لائحة مرشحين لمدة تسع سنوات على أن يتغير ثلثهم كل ثلاث سنوات، وقد عينت مدينة لاهاي (هولندا) مركز للمحكمة ولها حق الاختصاص بإعطاء الفتاوى الاستشارية حسب شروط نظامها، والاختصاص للحكم في بعض القضايا المحالة إليها بصورة قضائية لكن اختصاصها القضائي اختياري مبدئيًّا؛ لأن بعض الدول الكبرى رفضت الاختصاص الإلزامي محافظة على حريتها في العمل (1) .
(1) القانون والعلاقات الدولية في الإسلام للدكتور محمصاني ص 160 ما بعدها
هذا وقد عملت منظمة المؤتمر الإسلامي على إنشاء محكمة العدل الإسلامية عبر اجتماعات متكررة (1) وقد أعلنت الكويت مقرًّا لها إلا أنها – ومع الأسف – لم ترق إلى مستوى الموافقة المطلوبة من قبل الدول الإسلامية، فإننا لا نستطيع التقويم هنا.
إلا أن الملاحظ في المحكمة الدولية أنها قامت على أسس غير قوية خصوصًا بعد ما لاحظناه من فقدان الاختصاص الإلزامي نتيجة سعي الدول الكبرى المؤثرة في الأمم المتحدة كيلا يتم تقييد حريتها في العمل على تحقيق مصالحها الاستعمارية والسلطوية.
وهناك بعض النداءات التي تدعو لإعادة بنائها على أسس حقوقية دولية أكثر متانة وأقرب إلزامًا.
والذي يبدو لنا أيضًا أن النظام الأساسي للمحكمة الإسلامية فيه بعض الثغرات التي لا مجال لاستعراضها هنا والتي لا تمكنها من القيام بدورها التحكيمي المطلوب.
أما بالنسبة للنظرة الإسلامية للموضوع:
فقد رأينا – من قبل – أن النصوص الإسلامية – تمنع – مبدئيًّا – من التحاكم إلى غير المسلمين باعتبار ذلك ركونًا إلى الظلم، إلا إذا اقتضت الضرورة ولتكن هنا ضرورة دولية تعاونية باعتبار أنه لا يمكن أن تنفرد دولة إسلامية ما بمسيرة خاصة بها في مجال العلاقات الدولية.
إلا أنه يجب أن يبقى عند حد الضرورة والحرج.
والله العالم.
الشيخ محمد علي التسخيري
(1) كان لنا شرف الاشتراك في بعضها