المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

‌السلم

وتطبيقاته المعاصرة

إعداد نزيه كمال حماد

أستاذ الشريعة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله الذي أفاض على عباده النعمة وكتب على نفسه الرحمة، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث إلى الخلق أجمعين بالهدى والحق المبين.

وبعد، فأتقدم بهذه الدراسة الموجزة لعقد السلم (فقهه وتطبيقاته المعاصرة) نظرا لأهمية هذه المعاملة ودورها البارز في النشاط الاقتصادي في الحاضر والماضي، وباعتبارها لونا من التمويل (الائتمان) في ضمن عقد معاوضة، غرضه الاسترباح والاكتساب من جانب المشتري (رب السلم) ، وباعثه الحاجة إلى الحصول على المال المعجل ثمنا للمبيع الموصوف في الذمة من جانب البائع (المسلم إليه) ليتسنى له استعماله والتصرف فيه في وقت حاجته إليه، وبذلك ينتفع كل من البائع والمشتري به، ويرتفع عنهما الحرج بالإقدام عليه.

وقد عبر الكمال بن الهمام عن هذا المعنى بقوله: "ووجب المصير إليه بالنص والإجماع للحاجة من كل من البائع والمشتري، فإن المشتري يحتاج إلى الاسترباح لنفقة عياله، وهو بالسلم أسهل، إذ لا بد من كون المبيع نازلا عن القيمة، فيربحه المشتري، والبائع قد يكون له حاجة في الحال إلى السلم، وقدرة في المآل على المبيع بسهولة، فتندفع به حاجته الحالية إلى قدرته المآلية، فلهذه المصالح شرع"(1) . ونبه ابن قيم الجوزية إلى قصد رب السلم من التمويل بقوله: "فإن المستسلف يبيع السلعة في الحال بدون ما تساوي نقدا، والمسلف يرى أن يشتريها إلى أجل بأرخص مما تكون عند حصولها، وإلا فلو علم أنها عند حلول الأجل تباع بمثل رأس مال السلم لم يسلم فيها، فيذهب نفع ماله بلا فائدة، وإذا قصد الأجر أقرضه ذلك قرضا، ولا يجعل ذلك سلما إلا إذا ظن أنه في الحال أرخص منه وقت حلول الأجل". (زاد المعاد 5/815) .

هذا، ولما كان تطبيق هذا العقد وممارسته في هذا العصر بالصورة الصحيحة المقبولة شرعا لا يمكن أن تتم إلا في ظل الشروط الشرعية المتعلقة به – كيلا تستغل هذه المعاقدة فتتخذ ذريعة إلى التمويل بالفائدة الربوية – بدت الحاجة الماسة لصياغة بحث فقهي موثق لهذا الموضوع الحيوي الخطير، وذلك ما حاولت تقديمه في الفصل الأول من هذه الدراسة. أما في الفصل الثاني منها فقد خصصته لعرض جملة من التطبيقات الاجتهادية المعاصرة لعقد السلم في إطار الاقتصاد الإسلامي بشكل عام وفي مجال المصارف الإسلامية بصورة خاصة.

والله خير مسؤول أن يهب النفع لقارئ هذه العجالة والأجر لكاتبها، عليه توكلت، وعليه أنبت، وإليه المصير.

نزيه كمال حماد

(1)(فتح القدير 6/206)

ص: 396

الفصل الأول

فقه عقد السلم

المبحث الأول

حقيقة السلم ومشروعيته

السلم في اللغة:

1-

السلم في لغة العرب يعني الإعطاء والترك والتسليف (1) . يقال: أسلم الثوب إلى الخياط، أي أعطاه. قال المطرزي:(وأسلم في البر؛ أي أسلف. من السلم. وأصله: أسلم الثمن فيه، فحذف)(2) .أي المفعول به وهو الثمن.

السلم في الاصطلاح الفقهي:

2-

أما السلم في مصطلح الفقهاء فهو عبارة عن " بيع موصوف في الذمة ببدل يعطي عاجلا". وقد اختلف الفقهاء في تعريفه تبعا لاختلافهم في الشروط المعتبرة فيه.

* فالحنفية والحنابلة الذين شرطوا في صحته قبض رأس المال في مجلس العقد، وتأجيل المسلم فيه – احترازا من السلم الحال – عرفوه بما يتضمن ذلك، فقال ابن عابدين:(هو شراء آجل بعاجل)(3) . وجاء في "الإقناع" أنه "عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد"(4) .

* والشافعية الذين شرطوا لصحة السلم قبض رأس المال في المجلس، وأجازوا كون المسلم حالا ومؤجلا عرفوه بأنه "عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلا"(5) .فلم يقيدوا المسلم فيه الموصوف في الذمة بكونه مؤجلا، لجواز السلم الحال عندهم.

(1) ابن منظور، لسان العرب، ط. دار صادر ببيروت (بدون) 12/295؛ المغراوي، غرر المقالة في شرح غريب الرسالة. ط. دار الغرب الإسلامي ببيروت 1406هـ ص216؛ القونوي، أنيس الفقهاء، دار الوفاء بجدة سنة 1406هـ ص218

(2)

المطرزي، المغرب، ط. حلب سنة 1402 هـ 1/412

(3)

ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، 4/203 ط بولاق سنة 1272هـ

(4)

البهوتي، كشاف القناع شرح الإقناع، 3/276 مط. الحكومة بمكة سنة 1394هـ

(5)

الرافعي، فتح العزيز، 9/ 207 مط. التضامن الأخوي بمصر سنة 1347هـ

ص: 397

* أما المالكية الذي منعوا السلم الحال، لكنهم لم يشترطوا تسليم رأس المال في مجلس العقد، وأجازوا تأجيله اليومين والثلاثة لخفة الأمر، فقد عرفوه بأنه "بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم "(1) .

فتعبيرهم: "أو ما هو في حكمها" يشير إلى جواز تأخير رأس مال السلم تأخيرا يسيرا، حيث إنه يعتبر في حكم التعجيل بناء على أن ما قارب الشيء يعطى حكمه في النظر الفقهي (2) .وقولهم في التعريف:" إلى أجل معلوم" يبين وجوب كون المسلم فيه مؤجلا، احتراز من السلم الحال.

3-

ويسمي الفقهاء المشتري في هذا العقد "رب السلم" أو "المسلم"، والبائع "المسلم إليه"، والمبيع "المسلم فيه"، والثمن "رأس مال السلم"(3) .

العلاقة بين المعنيين:

4-

لا يخفى وجود الصلة بين المعنى اللغوي والمعني الاصطلاحي للسلم، وذلك لأن السلم في اللغة معناه الدفع والإعطاء والتسليم، وفي اصطلاح الفقهاء هو عقد يقتضي إعطاء المشتري رأس المال وتسليمه للبائع – وهو المسلم إليه – معجلا، مقابل التزام البائع بأداء عين موصوفة في الذمة مؤجلة. وعلى هذا فالسلم بمعناه الاصطلاحي مستفاد من المعنى اللغوي وهو الدفع والتسليم (4) . قال ابن فارس في "حلية الفقهاء": يقال: السلم، وهو أيضا من أسلمت الشيء، ولذلك لم يجز أن يتفرقا إلا عن قبض، لأنهما إن افترقا عن غير قبض الثمن لم يكن ذلك سلما، لأنه لم يسلم إليه شيئا" (5) .

وذكر بعض المحققين وجها آخر للعلاقة بين المعنيين، فجاء في "أنيس الفقهاء" للقونوي:

" السلم: وهو لغة السلف. فإنه أخذ عاجل بآجل، سمي به هذا العقد لكونه معجلا على وقته، فإن وقت البيع بعد وجود المبيع في ملك البائع، والسلم عادة يكون بما ليس بموجود في ملكه، فيكون العقد معجلا. كذا في الدرر"(6) .

(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ص1186 ط. دار الشعب بالقاهرة (بدون)

(2)

الونشريسي، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، ص173 ط. الرباط سنة 1400هـ

(3)

القونوي، أنيس الفقهاء، ص220 مرجع سابق

(4)

القاضي عياض، مشارق الأنوار، 2/217 ط. المغرب سنة 1333هـ

(5)

ابن فارس، حلية الفقهاء، ص140 ط. بيروت سنة 1403هـ

(6)

القونوي، أنيس الفقهاء، ص218- 219 مرجع سابق

ص: 398

مشروعية السلم:

5-

لقد ثبتت مشروعية عقد السلم بالكتاب والسنة والإجماع.

أ- فأما الكتاب:

ففي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] . قال ابن عباس: "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه"، ثم قرأ هذه الآية (1) .

ووجه الدلالة في الآية: أنها أباحت الدين، والسلم نوع منه. قال القاضي ابن العربي:(الدين هو عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا، والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والدين ما كان غائبا)(2) . فدلت الآية على حل المداينات بعمومها، وشملت السلم باعتباره من أفرادها، إذ المسلم فيه ثابت في ذمة المسلم إليه إلى أجله.

ب_ وأما السنة:

* فما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة والناس يسلفون في التمر السنتين والثلاث، فقال عليه الصلاة والسلام:((من أسلف في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) (3) .فدل الحديث على إباحة السلم وبين الشروط المعتبرة فيه.

* وروى البخاري عن محمد بن أبي المجالد قال: أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الرحمن بن أبي أوفى، فسألتها عن السلف؟ فقالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتينا أنباط من الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب، فقلت: أكان لهم زرع أم لم يكن لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. (4) .

ج- وأما الإجماع:

فقال ابن المنذر: أجمع كل ما نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز (5) .

(1) أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني وعبد الرزاق وابن أبي شيبة. (ابن حجر العسقلاني، الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 2/159 مط. الفجالة الجديدة بمصر سنة 1384هـ)

(2)

ابن العربي، أحكام القرآن، 1/247 ط. عيسى البابي الحلبي بمصر سنة 1376هـ

(3)

ابن حجر العسقلاني، الدراية، 2/159 مرجع سابق

(4)

البخاري، صحيح البخاري، 3/111 ط. كتاب الشعب (بدون)

(5)

ابن قدامة، المغني، 4/ 304 ط. مكتبة الرياض الحديثة سنة 1401 هـ

ص: 399

حكمة مشروعيته:

4-

إن عقد السلم مما تدعو إليه الحاجة لتوفير التسهيلات الائتمانية للإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري، ومن هنا كان في إباحته رفع للحرج عن الناس، والإرفاق بطرفيه واضح بين؛ بالمنتج الذي يحتاج إلى تمويل موسمي لأجل قصير أو متوسط، حيث يستفيد من تعجيل رأس المال، وبالدائن الذي يحتاج إلى البضاعة التي تعاقد عليها لاستهلاكه أو لتجارته أو لصناعته، حيث يستفيد من رخص ثمنها المقدم.

وقد أشار إلى هذا المعنى ابن قدامة بقوله: (ولأن بالناس حاجة إليه، لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكمل، وقد تعوزهم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص)(1) .

مدى موافقته للقياس:

7-

بعد ما ثبت مشروعية السلم بالكتاب والسنة والإجماع اختلف الفقهاء في كون تلك المشروعية جارية على وفق القياس ومقتضى القواعد العامة في الشريعة، أما أنها جاءت استثناء على خلاف ذلك لحاجة الناس إلى هذه المعاقدة، وذلك على قولين:

(أحدهما) لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة: وهو أن السلم عقد جائز على خلاف القياس (2) .

وعلى ذلك قال ابن نجيم: (وهو على خلاف القياس، إذ هو بيع المعدوم، ووجب المصير إليه بالنص والإجماع للحاجة)(3) . وقال الشيخ زكريا الأنصاري: (السلم عقد غرر جوز للحاجة)(4) . وفي "منح الجليل": (صرح في المدونة بأن السلم رخصة مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه)(5) .

وقد بين العلامة ابن خطيب الدهشة الشافعي أن عقد السلم وإن كانت مشروعيته في الأصل على خلاف الدليل للحاجة إلى بيع المعدوم، فقد صار أصلا مستقلا، فجوز مطلقا عند الحاجة وعدمها، وفي المعدوم والموجود والحال (6) .

(1) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق، 4/305، وانظر ابن الهمام، فتح القدير، 6/206 مط. الميمنية بمصر سنة 1319هـ

(2)

الكاساني، بدائع الصنائع، 5/201 مط. الجمالية بمصر سنة 1328هـ؛ ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد، 2/228 ط. دار الكتاب الحديث بمصر (بدون) ؛ البهوتى، شرح منتهى الإرادات، 2/218- 221ط. مصر (بدون)

(3)

ابن نجيم، البحر الرائق، 6/169 ط. دار الكتب العربية الكبرى بمصر سنة 1333هـ

(4)

زكريا الأنصاري، أسنى المطالب شرح روض الطالب، 2/122 مط. الميمنية بمصر سنة 1313هـ

(5)

محمد عليش: منح الجليل شرح مختصر خليل، 3/2 ط. بولاق سنة 1294هـ

(6)

ابن خطيب الدهشة، مختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي، 1/293 ط. بغداد سنة 1984م

ص: 400

(والثاني) لابن حزم وتقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: وهو أن السلم عقد مشروع على وفق القياس، وليس فيه مخالفة للقواعد الشرعية (1) .

قال ابن تيمية: "وأما قولهم: "السلم على خلاف القياس" فقولهم هذا من جنس ما رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (2) . وأرخص في السلم. وهذا ما لم يرو في الحديث، وإنما هو من كلام بعض الفقهاء؛ وذلك لأنهم قالوا: السلم بيع الإنسان ما ليس عنده، فيكون مخالفا للقياس.

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده: إما أن يراد به بيع عين معينة، فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه، وفيه نظر. وإما أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه، وإن كان في الذمة، وهذا أشبه. فيكون قد ضمن له شيئا لا يُدْرَى هل يحصُل أو لا يحصل؟ وهذا في السلم الحال إذا لم يكن عنده ما يوفيه، والمناسبة فيه ظاهرة.

فأما السلم المؤجل، فإنه دين من الديون، وهو كالابتياع بثمن مؤجل. فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة، وكون العوض الآخر مؤجلا في الذمة، وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] . قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله، وقرأ هذه الآية.

فإباحة هذا على وفق القياس لا على خلافه" (3) .

وقال ابن القيم: (والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيع مضمون في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبا، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، وقد تقدم أنه على وفق القياس.

وقياس السلم على بيع العين المعدومة التي لا يُدْرَى أيقدر على تحصيلها أم لا؟ والبائع والمشتري منها على غرر، من أفسد القياس صورة ومعنى، وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه. فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى، والربا والبيع) (4) .

ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج من نظر وجيه وتأويل حسن.

(1) جاء في المحلى: "فإن قيل: السلم بيع استثني من جملة بيع ما ليس عندك، قلنا: هذا باطل؛ لأنه دعوى بلا دليل ". (ابن حزم، المحلى، 9/107 مط. المنيرية بمصر سنة 1350هـ

(2)

رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وغيرهم. (ابن الملقن، تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج، 2/206 ط. مكتبة حراء بمكة)

(3)

ابن تيمية، مجموع الفتاوي، 20/529 ط. الرياض (بدون)

(4)

ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، 2/19 ط. دار الجيل ببيروت (بدون)

ص: 401

المبحث الثاني

أركان السلم وشروط صحته

8-

لكل عقد من العقود أركان يقوم عليها، وشروط يتوقف ثبوت أحكامه على توفرها، ومن ذلك السلم، فله أركان لا ينشأ العقد بدونها، وشروط يتوقف وجوده الشرعي على تحققها، وقد ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أن أركان السلم ثلاثة:

1-

الصيغة (وهي الإيجاب والقبول) .

2-

والعاقدان (وهما المسلم، والمسلم إليه) .

3-

والمحل (وهو رأس المال، والمسلم فيه) .

وذكروا لكل ركن شرائطه التي لا بد منها لصحة العقد وترتيب أحكامه عليه.

وخالفهم في ذلك التقسيم الحنفية، إذ اعتبروا ركن السلم الصيغة المؤلفة من الإيجاب والقبول الدالين على التراضي، أي على اتفاق الإرادتين وتوافقهما على إنشاء هذا العقد. أما بقية الأركان التي ذكرها الجمهور، فقد اعتبرها الحنفية شرائط للركن – أي شروطا لازمة للصيغة – وليست أركانا.

ومنشأ الخلاف بينهما أن جمهور الفقهاء يرون أن كل ما يقوم به الشيء فهو ركنه، سواء أكان داخلا في الماهية أم خارجا عنها، والأمور الثلاثة – الصيغة والعاقدان والمحل – لا يتصور قيام العقد ولا ترتب أحكامه إلا بتوفرها، ولهذا كانت أركانا عندهم. بينما يرى الحنفية أن ركن الشيء ما يتوقف عليه وجود الشيء، بحيث يكون داخلا في ماهيته، بخلاف الشرط، فإنه مع توقف الوجود عليه، يكون خارجا عن الحقيقة والماهية. (1) ، ومن أجل ذلك اعتبروا الإيجاب والقبول ركن العقد فقط؛ لتوقف الوجود عليه مع دخوله في الماهية

أما العاقدان والمحل فجعلوهما شرطين للركن، لا ركنين؛ لأنهما أمران خارجان عن الماهية، وإن كان العقد لا يصح بدونهما. وعلى ذلك فالخلاف لفظي، والحقيقة واحدة، ولا مشاحة في الاصطلاح.

وقد آثرت السير على منهج الجمهور في هذا البحث، لأنه أكثر ملاءمة لغرض تنسيق مسائله، وترتيب جزئياته، وتنظيم عرض أفكاره، وربط فروعه بأصولها.

(1) انظر الشريف الجرجاني، التعريفات ص59،67 ط. الدار التونسية عام 1971م

ص: 402

الركن الأول

الصيغة (الإيجاب والقبول)

9-

لما كان السلم عقدا يتم بين طرفين، فإن وجوده يتوف على صيغة تفصح عن رغبة المتعاقدين على إنشائه، وتعبر بجلاء عن اتفاقهما على تكوينه؛ لأن النية – أو الرغبة – أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه، فلا بد من تعبير يدل عليه ويكشف عنه، وهو الإيجاب والقبول المتصلين المتوافقين.

وقد اتفق الفقهاء على صحة إيقاع الإيجاب بلفظ السلم أو السلف، وكل ما اشتق منهما، كأسلمتك وأسلفتك، وأعطيتك كذا سلما أو سلفا في كذا.. لأنهما لفظان بمعنى واحد، وكلاهما اسم لهذا العقد. وكذا على صحة القبول بكل لفظ يدل على الرضا بما أوجبه الأول، مثل: قبلت ورضيت ونحو ذلك (1) .

10-

غير أن الفقهاء اختلفوا في صحة انعقاد السلم بلفظ البيع على قولين:

(أحدهما) لأبي حنيفة وصاحبيه والمالكية والحنابلة والشافعية في وجه: وهو أن ينعقد السلم بلفظ البيع إذا بين فيه إرادة السلم وتحققت شروطه، كأن يقول رب السلم: اشتريت منك خمسين رطلا زيتا صفته كذا إلى أجل كذا بعشرة دنانير حالة، وقبل المسلم إليه. ونحو ذلك. وحجتهم النظر إلى المعنى والتعويل على القصد، مع كون اللفظ لا يعارضه، إذ كل سلم بيع، كما أن كل صرف بيع، فإطلاق البيع على السلم إطلاق للفظ على ما يتناوله (2) .

(والثاني) لزفر من الحنفية والشافعية في وجه صححه الشيخان النووي والرافعي: وهو أن السلم لا ينعقد بلفظ البيع (3) . وحجة زفر (أن القياس أن لا ينعقد أصلا؛ لأنه بيع ما ليس عند الإنسان، وإنه منهي عنه، إلا أن الشرع ورد بجوازه بلفظ السلم بقوله: ورخص في السلم)(4) فوجب الاقتصار عليه، لعدم إجزاء ما سواه. أما حجة أصحاب هذا الرأي من الشافعية فهو التعويل على اللفظ واعتباره، وعلى ذلك ينعقد بيعا نظرا للفظ، ولا يشترط فيه قبص رأس المال في المجلس؛ لأن السلم غير البيع، فلا ينعقد بلفظه.

(1) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/201؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/214؛ عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/2؛ الرملي، نهاية المحتاج، 4/178 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1357هـ وحاشية الرشيدي عليه؛ الشيرازي، المهذب، 1/304ط. مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1379هـ

(2)

البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/214؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/201؛ والشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/034؛ النووي، روضة الطالبين، 4/6 ط. المكتب الإسلامي بدمشق 1388هـ؛ عليش منح الجليل، مرجع سابق 3/36؛ الحطاب، مواهب الجليل، 4/538 مط. السعادة بمصر سنة 1329هـ

(3)

المراجع السابقة

(4)

الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/201

ص: 403

11-

وقد انتصر الإمام تقي الدين ابن تيمية لمذهب المعولين على القصد والمعنى دون اللفظ بحجة بليغة وبرهان ساطع فقال: "والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت، فأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما انعقد به العقد. وهذا عام في جميع العقود، فإن الشارع لم يحد ألفاظ العقود حدا، بل ذكرها مطلقة. فكما تنعقد بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية وغيرهما من الألسنة الأعجمية، فهي تنعقد بما يدل عليها من الألفاظ العربية. ولهذا وقع الطلاق والعتاق بكل لفظ يدل عليه، وكذلك البيع وغيره"(1) .

16-

بعد هذا تجدر الإشارة إلى أن جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة اشترطوا في صيغة السلم أن تكون باتة لا خيار فيها لأي من العاقدين، وذلك لأنه عقد لا يقبل خيار الشرط، إذ يشرط لصحته تمليك رأس المال وإقباضه للمسلم إليه قبل التفرق، ووجوب تحققهما مناف لخيار الشرط (2) .

وخالفهم في ذلك المالكية، وقالوا بجواز خيار الشرط في السلم للعاقدين أو لأحدهما أو لأجنبي ثلاثة أيام فما دون ذلك، بشرط أن لا يتم نقد رأس المال في زمن الخيار، فإن نقد فسد العقد مع شرط الخيار، لتردد رأس المال بين السلفية والثمنية (3) . وهذا هو الرأي المعتمد في مذهبهم، وهو مبني على جواز تأخير قبض رأس مال السلم ثلاثة أيام فما دونها، لأن هذا التأخير اليسير في حكم التعجيل، فيكون معفوا عنه ومتسامحا فيه، إذ القاعدة الفقهية تنص على "أن ما قارب الشيء يعطي حكمه"(4) .

(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق 20/ 533؛ وانظر ابن القيم، وإعلام الموقعين، مرجع سابق 2/23

(2)

الشافعي، الأم، 3/133 ط: دار المعرفة ببيروت سنة 1393هـ؛ الكاساني، بدائع الصنائع، مرجع سابق 5/ 201؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/169

(3)

الخرشي، شرح مختصر خليل، ومعه حاشية العدوي عليه، 5/ 203 ط. بولاق سنة 1318هـ 5/ 203؛ عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/5؛ الزرقاني، شرح خليل، 5/205 مط. محمد مصطفى بمصر سنة 1307هـ.

(4)

الونشريسي، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، ص 173 ط. الرباط سنة 1400هـ؛ الخرشي، مرجع سابق 5/202؛ وانظر الزركشي، المنثور في القواعد، 3/144 ط. الكويت سنة 1402هـ؛ أحمد الجكني الشنقيطي، إعداد المهج للاستفادة من المنهج، ص43 ط. قطر سنة 1403هـ

ص: 404

الركن الثاني

العاقدان

17-

لما كان السلم عقدا من عقود المعاوضات المالية التي تنشأ بين متعاقدين بإرادتهما، اشترط الفقهاء في كل واحد من عاقديه أن يكون أهلا لصدوره عنه، وأن يكون له ولاية إذا كان يعقد لغيره.

• أما الأهلية المشترطة: فهي أهلية الأداء التي تعني صلاحية الشخص لصدور الأقوال منه على وجه يعتد به شرعا، وتتحقق هذه الأهلية في الإنسان البالغ العاقل الرشيد غير المحجور عليه بأي سبب من أسباب الحجر.

• أما الولاية المطلوبة فيمن يعقد السلم عن غيره: فهي كونه مخولا شرعا في ذلك بأحد الطريقين:

- إما بالنيابة الاختيارية التي تثبت بالوكالة. ولا بد فيها أن يكون كل من الوكيل والموكل أهلا لإنشاء عقود المعاوضات المالية.

- وإما بالنيابة الإجبارية التي تثبت بتولية الشارع، وتكون لمن يلي مال المحجور عليهم من الأولياء والأوصياء الذين جعلت لهم سلطة شرعية على إبرام العقود وإنشاء التصرفات المالية لمصلحة من يلونهم.

الركن الثالث

المعقود عليه

14-

وهو في السلم: رأس المال، والمسلم فيه. ولهذا الركن شروط عديدة، منها ما هو مشترك بين البيع والسلم، وسنشير إليها دون إطالة، ومنها ما هو خاص بالسلم، وسنعرضها بالبيان والتفصيل.

وهذه الشروط بإجمال يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات:

الأولى: شروط تعود على البديلين معا.

والثانية: شروط تعود على رأس المال.

والثالثة: شروط تعود على المسلم فيه.

ص: 405

أ - الشروط التي ترجع إلى البدلين معا:

15-

لا خلاف بين الفقهاء أنه يشترط لصحة عقد السلم أن يكون كل من رأس المال والمسلم فيه مالا متقوما، فلا يجوز أن يكون أحدهما خمرا أو خنزيرا أو غير ذلك مما لا يعد مالا منتفعا به شرعا.

16-

كما أنه لا يشترط لصحته ألا يكون البدلان مالين يتحقق في سلم أحدهما بالآخر ربا النسيئة، وذلك بألا يجمع البدلين أحد وصفي علة ربا الفضل، حيث إن المسلم فيه مؤجل في الذمة، فإذا جمعه مع رأس المال أحد وصفي علة ربا الفضل، تحقق ربا النساء فيه، وكان فاسدا باتفاق الفقهاء (1) . وذلك لما روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (2) .

17-

هذا، وقد اتجه الحنفية إلى أنه لا يجوز كون أي من البديلين في السلم منفعة، لأن المنافع لا تعتبر أموالا في مذهبهم، إذ المال عندهم:"ما يميل إليه طبع الإنسان، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة"(م 121 من المجلة العدلية) ، والمنافع غير قابلة للإحراز والادخار، إذ هي أعراض تحدث شيئا فشيئا، وآنا فآنا، وتنتهي بانتهاء وقتها، وما يحدث منها غير الذي ينتهي. وعلى ذلك فلا يصح جعل المنافع بدلا في عقد السلم عندهم.

وخالفهم في ذلك جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة الذين اعتبروا المنافع أموالا بحد ذاتها، وأنها تحاز بحيازة أصولها ومصادرها، وهي الأعيان المنتفع بها. ومن ثم أجازوا كونها رأس مال ومسلما فيه في عقد السلم

وعلى ذلك لو قال رب السلم: أسلمت إليك سكنى داري هذه سنة، أو خدمتي شهرا في كذا إلى أجل كذا صح ذلك السلم

ولو قال له: أسلمت إليك عشرين دينارا في منفعة موصوفة في ذمتك إلى أجل كذا صح السلم (3) .

(1) ابن جزي المالكي، القوانين الفقهية، ص 273 ط. الدار العربية للكتاب بتونس سنة 1982م، ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/ 227؛ الخرشي، شرح مختصر خليل، مرجع سابق 5/ 206

(2)

ابن حجر العسقلاني، الدراية في تخريج أحاديث الهداية، مرجع سابق 2/ 156

(3)

الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/ 210؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/ 203؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/310؛ زكريا الأنصاري، أسنى المطالب شرح روض الطالب، مرجع سابق 2/ 123؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/ 181؛ القاري، مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد، م 539 ط. تهامة بجدة سنة 1401هـ

ص: 406

ب - شروط رأس مال السلم:

يشترط الفقهاء في رأس مال السلم شرطين:

(أحدهما) أن يكون معلوما:

18-

لا خلاف بين الفقهاء في أنه يشترط في رأس المال أن يكون معلوما، وذلك لأنه بدل في عقد معاوضة مالية، فلا بد من كونه معلوما، كسائر عقود المعاوضات.

ورأس المال إما أن يوصف في الذمة، ثم يعين في مجلس العقد، وإما أن يكون معينا عند العقد، كأن يكون حاضرا مشاهدا، ثم يقع العقد على عينه.

ب - فإن كان موصوفا، فيجب أن ينص في عقد السلم على جنسه ونوعه وقدره وصفته، كأن يقول رب السلم: أسلمت إليك ألف ريال سعودي أو ألف دولار أمريكي، أو أردب قمح استرالي أو كندي، من نوع جيد أو وسط أو رديء، كبير الحب أو صغيره.. الخ، وذلك لأن قبول الطرف الآخر مبني على العلم بالبدل الذي يلتزم الطرف الأول بأدائه، ولا يتم هذا العلم إلا ببيان الجنس والنوع والقدر والصفة، مما يرفع الجهالة عن رأس المال. ثم إنه إذا كان رأس المال نقودا، وكان في البلد نقد غالب، انصرف الإطلاق إليه، ولا يحتاج إلى التصريح بالنوع. فلو كان العقد في مصر، وقال رب السلم: أسلمتك ألف جنيه في كذا

انصرف ذلك إلى الجنيه المصري دون السوداني أو الإسترليني؛ لأن التعامل الغالب والدارج إنما هو فيه، فيكون هو المراد عند الإطلاق.

وعلى هذا، فإن قبل الطرف الآخر، وجب تعيين رأس المال وتسليمه إليه وفاء بالعقد (1) .

(1) ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/ 206؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/ 307؛ ابن جزي الغرناطي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص274؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/ 330؛ زكريا الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/ 123

ص: 407

ت - أما إذا كان رأس المال معينا مشاهدا في مجلس العقد، فهل يصح إسلامه جزافا دون بيان قدره وصفاته؟ كأن يقول رب السلم: أسلمتك هذه الدنانير في كذا إلى أجل كذا، دون أن يبين عددها. أو أسلمتك هذه الصبرة من القمح في كذا دون بيان قدرها

وبعبارة أخرى: هل تعتبر الإشارة إلى رأس المال الحاضر كافية في رفع الجهالة عنه، واعتباره معلوما، أم لا بد من بيان القدر والصفات بالإضافة إلى ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:

(القول الأول) لأبي حنيفة والثوري والقاضي عبد الوهاب البغدادي من المالكية: وهو أنه لا يشترط ذكر صفات رأس مال السلم، سواء أكان مثليا أو قيميا، حيث إن المشاهدة تكفي في رفع الجهالة عن الأوصاف.

أما قدره، فهناك فرق بين كون رأس المال مثليا يتعلق العقد بمقداره وبين كونه قيميا. فإن كان مثليا – المكيلات والموزونات والذرعيات والعدديات المتقاربة – فإنه يجب بيان القدر، ولا تكفي المشاهدة. أما إذا كان قيميا، فلا يشترط بيان قدره، وتكفي الإشارة إليه (1) .

(والقول الثاني) للمالكية والصاحبين من الحنفية والشافعية في الأظهر وظاهر كلام الخرقي من الحنابلة: وهو أنه تكفي المعاينة إذا كان رأس مال السلم معينا، ولا يشترط ذكر قدره أو صفاته؛ وذلك لأنه عوض في عقد لا يقتضي رد المثل، فوجب أن تغني المشاهدة عن ذكر صفاته ومقداره، كالمهر والثمن في البيع (2) .

(1) ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/221، ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/ 207؛ القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/ 280؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/ 202

(2)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/ 331؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/ 201؛ زكريا الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/ 124؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/ 207؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/ 183؛ الحطاب، مواهب الجليل شرح مختصر خليل، 4/ 516 مط. السعادة بمصر سنة 1329هـ؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/307

ص: 408

(والقول الثالث) للحنابلة على المعتمد عندهم والشافعي في قول: وهو أنه يجب ذكر مقداره وصفاته، ولا يصح السلم إلا ببيانها. وذلك لأنه لا يؤمن أن ينفسخ السلم بانقطاع المسلم فيه، فإذا لم يعرف مقداره وصفته لم يعرف ما يرده (1) .

(الشرط الثاني) تسليم رأس المال في مجلس العقد:

19-

لقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية إلى أن من شروط صحة السلم تسليم رأس ماله في مجلس العقد، فلو تفرقا (2) قبله بطل العقد (3) .

واستدلوا على ذلك:

(أولا) بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) . إذ التسليف في اللغة التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإعطاء، فيكون معنى كلامه عليه الصلاة والسلام (فليعط) لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارق من أسلفه، فإن لم يدفع إليه رأس المال فإنه يكون غير مسلف شيئا، بل واعدا بأن يسلف. قال الرملي:(ولأن السلم مشتق من استلام رأس المال، أي تعجيله، وأسماء العقود المشتقة من المعاني لا بد من تحقق تلك المعاني فيها)(4) .

(ثانيا) بأن الافتراق قبل قبض رأس المال يكون افتراقا عن كالئ بكالئ، أي نسيئة بنسيئة، وهو منهي عنه بالإجماع (5) .

(1) البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/ 221؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/ 330؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/ 307؛ الرملي، حاشيته على أسنى المطالب، مرجع سابق 2/124

(2)

وتجدر الإشارة ههنا إلى أن المراد بالتفرق في هذا المقام هو افتراق العاقدين بأبدانهما، فلو قاما عن المجلس مصطحبين قليلا أو كثيرا فليسا بمفترقين، وكل ما يصدر منهما قبل الافتراق بأبدانهما له حكم مجلس العقد. (الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/ 203؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/ 270

(3)

الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/ 202؛ ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/ 109؛ الشافعي، الأم، مرجع سابق 3/ 95؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/ 328؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/ 1209، البهوتي، كشاف القناع، 3/ 291 مط. الحكومة بمكة سنة 1394هـ، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/ 220

(4)

الرملي، حاشيته على أسنى المطالب، مرجع سابق 2/122

(5)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/ 54؛ السبكي، تكملة المجموع، 10/ 107 مط. التضامن الأخوي بمصر سنة 1347 هـ؛ ابن تيمية، نظرية العقد، ص 235 مط. السنة المحمدية بمصر سنة 1368هـ؛ والشوكاني، نيل الأوطار، 5/ 255 مط. مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1380 هـ

ص: 409

(ثالثا) بأن في السلم غررا احتمل للحاجة، فجبر ذلك بتعجيل قبض العوض الآخر، وهو الثمن، كيلا يعظم الغرر في الطرفين. (1)

(رابعا) بأن الغاية الشرعية المقصودة من إبرام العقود ترتب آثارها عليها بمجرد انعقادها، فإذا تأخر البدلان كان العقد عديم الفائدة للطرفين خلافا لحكمه الأصلي ومقتضاه وغايته. ومن هنا قال ابن تيمية عن تأخير رأس المال في السلم:"فإن ذلك منع منه لئلا تبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة حصلت لا له ولا للآخر، والمقصود من العقود القبض، فهو عقد لم يحصل به مقصود أصلا، بل هو التزام بلا فائدة". (2)

(خامسا) وبأن مطلوب الشارع صلاح ذات البين وحسم مادة الفساد والفتن، وإذا اشتملت المعاملة على شغل الذمتين، توجهت المطالبة من الجهتين، فكان ذلك سببا لكثرة الخصومات والعداوات، فمنع الشرع ما يفضي إلى ذلك باشتراط تعجيل قبض رأس المال. (3)

20-

ولا يخفى أن اشتراط قبض رأس مال السلم قبل التفرق عند جمهور الفقهاء، إنما هو شرط لبقاء العقد على الصحة، وليس شرط صحة؛ لأن السلم ينعقد صحيحا بدون قبض رأس المال، ثم يفسد بالافتراق قبل القبض. وبقاء العقد صحيحا يعقب العقد ولا يتقدمه، فيصلح القبض شرطا له. (4) وقد جاء في م (387) من المجلة العدلية:(يشترط لبقاء صحة السلم تسليم الثمن في مجلس العقد، فإذا تفرق العاقدان قبل تسليم رأس مال السلم انفسخ العقد) .

21-

وقد خالف المالكية –في المشهور عندهم- جمهور الفقهاء في اشتراط تعجيل رأس مال السلم في مجلس العقد، وقالوا: يجوز تأخيره اليومين والثلاثة بشرط وبغير شرط، تعويلا على القاعدة الفقهية (ما قارب الشيء يعطى حكمه)، حيث إنهم اعتبروا هذا التأخير اليسير معفوا عنه؛ لأنه في حكم التعجيل. (5) ومن هنا قال القاضي عبد الوهاب البغدادي في كتابه (الإشراف) في تعليل جواز ذلك التأخير اليسير:(فأشبه التأخير للتشاغل بالقبض) . (6) .

(1) الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/209

(2)

ابن تيمية، نظرية العقد، مرجع سابق ص235.

(3)

القرافي، الفروق، 3/290 مط. دار إحياء الكتب العربية بمصر سنة 1344هـ.

(4)

الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/203؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/208؛ ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/177.

(5)

الخرشي، شرح مختصر خليل، مرجع سابق 5/202؛ ابن رشد الجد، المقدمات الممهدات، ص 516 مط. السعادة بمصر سنة 1325هـ؛ الحطاب، مواهب الجليل، مرجع سابق 4/514 وما بعدها؛ الونشريسي إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، مرجع سابق ص 173.

(6)

القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/280

ص: 410

قال ابن رشد: (وأما تأخيره فوق الثلاث بشرط، فذلك لا يجوز باتفاق، سواء كان رأس المال عينا أو عرضا. فإن تأخر فوق الثلاث بغير شرط لم يفسخ إن كان عرضا، واختلف فيه إن كان عينا: فعلى ما في (المدونة) من السلم، يفسد بذلك ويفسخ. وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب: أنه لا يفسخ إلا أن يتأخر فوق الثلاث بشرط) . (1)

على أن المالكية أنفسهم يصرحون بأن العزيمة في السلم إنما تتحقق بتعجيل رأس المال في مجلس العقد. يقول ابن عبد السلام: لم أعلم خلافا في كون تعجيل رأس المال عزيمة، وأن الأصل التعجيل، وإنما الخلاف: هل يرخص في تأخيره؟. (2)

22-

بقي بعد هذا مسألة مهمة، وهي ما لو عجل رب السلم بعض رأس المال في المجلس، وأجل البعض الآخر، فما هو الحكم في هذه الحالة؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

(أحدهما) للحنفية والشافعية والحنابلة: وهو أنه يبطل السلم فيما لم يقبض، ويسقط بحصته من المسلم فيه، ويصح في الباقي بقسطه. (3) قال ابن نجيم:(وصح في حصته النقد لوجود قبض رأس المال بقدره، ولا يشيع الفساد لأنه طارئ، إذ السلم وقع صحيحا في الكل، ولذا لو نقد الكل قبل الافتراق صح) . (4)

وعلل المالكية قولهم هذا بأنه (متى قبض البعض وأخر البعض فسد، لأنه دين بدين) . (5)

واستدل الظاهرية على ذلك بأن السلم عقد واحد وصفقة واحدة، وكل عقد جمع فاسدا وجائزا، كان كله فاسدا؛ لأن العقد الواحد لا يتبعض، والتراضي منهما لم يقع حين العقد إلا على الجميع، لا على البعض دون البعض، فلا يحل إلزامهما بما لم يتراضيا جميعا عليه، لأنه أكل مال بالباطل لا عن تراض. (6)

ومستند ابن أبي ليلى: أن الأصل عنده في أبواب المعاملات أن العقد إذا ورد الفسخ على بعضه انفسخ كله. (7)

(1) ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص 516؛ وانظر عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/4.

(2)

عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/3.

(3)

النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق 4/3؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/210؛ البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/291؛ ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق، 6/178؛ الخطيب الشربيني، مغني المحتاج شرح المنهاج، 2/102 مط مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1377هـ.

(4)

ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/178.

(5)

أبو الحسن المالكي، كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، مع حاشية العدوي عليه، 2/163 ط. مصطفى الحلبي بمصر سنة 1357هـ.

(6)

ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/109 وما بعدها.

(7)

الدبوسي، تأسيس النظر، ص95 ط. دار الفكر ببيروت سنة 1399هـ.

ص: 411

23-

ولو أراد رب السلم أن يجعل الدين الذي في ذمة المسلم إليه رأس مال السلم، فإن ذلك غير جائز عند جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة ومالك والأوزاعي والثوري وغيرهم؛ وذاك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل الثمن دينا، كان بيع دين بدين، وهو غير جائز بالإجماع. (1)

وخالفهم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وذلك لعدم تحقق المنهي عنه –وهو بيع الكالئ بالكالئ، أي الدين المؤخر بالدين المؤخر- في هذه المسألة إذا كان الدين المجعول رأس مال السلم غير مؤجل في ذمة المدين (2) ، لأنها تكون من قبيل بيع الدين المؤخر بالدين المعجل، ولوجود القبض الحكمي لرأس مال السلم من قبل المسلم إليه في مجلس العقد، لكونه حالا في ذمته، فكأن المسلم –إذ جعل ماله في ذمته معجلا رأس مال السلم- قبضه منه ورده إليه، فصار دينا معجلا مقبوضا حكما، فارتفع المانع الشرعي؛ ولأن دعوى الإجماع على هذا المنع غير مسلمة.

جاء في (إعلام الموقعين) لابن القيم: (وأما بيع الواجب بالساقط، فكما لو أسلم إليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته، فقد وجب له عليه دين، وسقط له عنه دين غيره. وقد حكي الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه. قاله شيخنا، واختار جوازه، وهو الصواب. إذ لا محذور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ، فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى، فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة)(3) .

(1) ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/209؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/180؛ البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/221؛ الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، وحاشية الشلبي عليه، 4/140ط. بولاق سنة 1314هـ؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/212؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/329.

(2)

أما إذا كان الدين المجعول رأس مال السلم مؤجلا في ذمة المدين، فلا خلاف لأحد من الفقهاء في منع ذلك شرعا، وأنه من بيع الكالئ بالكالئ المحظور، لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة.

(3)

ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق 2/9

ص: 412

24-

أما إذا جعل رب السلم ماله الموجود في يد المسلم إليه رأس مال المسلم، فهل يصح ذلك، وينوب القبض السابق للعقد مناب القبض المستحق في مجلسه، أم لا يصح ذلك، ويحتاج إلى قبض جديد؟

للفقهاء في المسألة قولان:

(أحدهما) للحنابلة: وهو أن قبض المسلم إليه السابق للعين المجعولة رأس مال السلم ينوب عن القبض المستحق بالعقد، ويقوم مقامه، سواء أكانت العين في يده أمانة أم مضمونة، ولا يحتاج إلى تجديد القبض. (1)

(والثاني) للحنفية: وهو أنه ينوب القبض السابق لرأس مال السلم عن القبض المستحق في مجلس العقد إذا كانت يد المسلم إليه عليه يد ضمان لا يد أمانة. أما إذا كان في يده أمانة –كيد الوكيل والوديع والشريك ونحوهم- فإن القبض السابق لا يقوم مقامه، ويحتاج إلى تجديد في المجلس ليصح عقد السلم. (2)

وقد أوضح الكاساني قاعدة الحنفية في نيابة القبض السابق مناب القبض المستحق اللاحق بعبارة وجيزة جامعة حيث قال: فالأصل فيه أن الموجود وقت العقد إن كان مثل المستحق بالعقد ينوب منابه. وإن لم يكن مثله: فإن كان أقوى من المستحق ناب عنه. وان كان دونه لا ينوب؛ لأنه إذا كان مثله أمكن تحقيق التناوب، لأن المتماثلين غيران ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسده، وإن كان أقوى منه يوجد فيه المستحق وزيادة، وإن كان دونه لا يوجد فيه إلا بعض المستحق، فلا ينوب عنه كله. (3)

(1) البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/221؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/291.

(2)

البغدادي، مجمع الضمانات، ص 217 مط. الخيرية بمصر سنة 1308هـ؛ الطرسوسي، أنفع الوسائل إلى تحرير المسائل، ص253 مط. الشرق بالقاهرة سنة 1344هـ.

(3)

الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/248.

ص: 413

ج- شروط المسلم فيه:

لقد اشترط الفقهاء في المسلم فيه شروطا عديدة، وجعلوا تحققها لازما لصحة عقد السلم، وإن كانت آراؤهم واجتهاداتهم غير متوافقة في جميع الأحكام وسائر المسائل، وإليك بيان ذلك:

الشرط الأول: أن يكون دينا موصوفا في الذمة.

25-

لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط كون المسلم فيه دينا موصوفا في ذمة المسلم إليه، وأنه لا يصح السلم إذا جعل المسلم فيه شيئا معينا بذاته. (1) لأن ذلك مناقض للغرض المقصود منه، إذ هو موضوع لبيع شيء في الذمة بثمن معجل، ومقتضاه ثبوت المسلم فيه دينا في ذمة المسلم إليه، ومحله ذمة المسلم إليه. فإذا كان المسلم فيه معينا تعلق حق رب السلم بذاته، وكان محل الالتزام ذلك الشيء المعين، لا ذمة المسلم إليه. ومن هنا كان تعيين المسلم فيه مخالفا لمقتضى العقد.

يضاف إلى ذلك أن تعيينه يجعل السلم من عقود الغرر، إذ ينشأ عنه غرر عدم القدرة على تنفيذ العقد، فلا يدرى، أيتم هذا العقد أم ينفسخ، حيث إن من المحتمل أن يهلك ذلك الشيء المعين قبل حلول وقت أدائه، فيستحيل تنفيذه، والغرر مفسد لعقود المعاوضات المالية كما هو معلوم ومقرر.

وهذا بخلاف ما لو كان المسلم فيه دينا موصوفا في الذمة، إذ الوفاء يكون بأداء أية عين مثلية تتحقق فيها الأوصاف المتفق عليها، ولا يتعذر تنفيذ العقد لو تلف المسلم فيه قبل تسليمه، إذ يسعه الانتقال عنه إلى غيره من أمثاله. (2)

(1) ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/105؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/183؛ ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/219؛ ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 274.

(2)

البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/292؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/124، 130؛ مواهب الجليل، مرجع سابق 4/534.

ص: 414

وقد رتب بعض الفقهاء على تضمن السلم غررا إذا عين المسلم فيه أيلولة العقد إلى السلف الذي يجر نفعا، فقال ابن رشد:(وإنما لم يجز السلم في الدور والأرضين. لأن السلم لا يجوز إلا بصفة، ولا بد في صفة الدور والأرضين من ذكر موضعها، وإذا ذكر موضعها تعينت فصار السلم فيها كمن ابتاع من رجل دار فلان على أن يتخلصها له منه، وذلك من الغرر الذي لا يحل ولا يجوز؛ لأنه لا يدرى بكم يتخلصها منه، وربما لم يقدر على أن يتخلصها منه، ومتى لم يقدر على أن يتخلصها منه رد إليه رأس ماله، فصار مرة بيعا ومرة سلفا وذلك سلف جر نفعا)(1)

كما بنى بعض الفقهاء منع كون المسلم فيه معينا على أساس أن السلم إنما جاز شرعا على خلاف القياس للحاجة إليه، فإذا عين المسلم فيه، فيمكن عندئذ بيعه في الحال، ولا يكون هناك ثمة حاجة إلى المسلم، فينسحب عليه الحكم الأصلي وهو عدم المشروعية. (2)

26-

ولعل المستند النصي لوجوب كون المسلم فيه دينا موصوفا في الذمة، وعدم جواز السلم إذا تعين ما روى ابن ماجه عن عبد الله بن سلام، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني فلان أسلموا (لقوم من اليهود) وإنهم قد جاعوا، فأخاف أن يرتدوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :((من عنده؟)) فقال رجل من اليهود: عندي كذا وكذا (لشيء قد سماه) أراه قال: ثلاثمائة دينار بسعر كذا وكذا من حائط بني فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :((بسعر كذا وكذا، إلى أجل كذا وكذا، وليس من حائط بني فلان)) . (3)

27-

وبناء على اشتراط كون المسلم فيه دينا في الذمة، ذكر جماهير الفقهاء أن ما يصح أن يكون مسلما فيه من الأموال: المثليات كالمكيلات والموزونات والمذروعات والعدديات المتقاربة، وكذا القيميات التي تقبل الانضباط بالوصف. (4)

(1) ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص 516.

(2)

البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/292؛ شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/221.

(3)

ابن ماجه، السنن، 2/766 ط. عيسي البابي الحلبي بمصر سنة 1373هـ.

(4)

ابن الهمام، الهداية، مرجع سابق 6/206؛ ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/196؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/214، 215؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/128؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/212؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/203؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/318، 320؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/268.

ص: 415

قال الشيرازي: (ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه وتضبط صفاته، كالأثمان والحبوب والثمار والثياب والدواب والعبيد والجواري والأصواف والأشعار والأخشاب والأحجار والطين والفخار والحديد والرصاص والبلور والزجاج وغير ذلك من الأموال التي تباع وتضبط بالصفات)(1)

أما ما لا يمكن ضبط صفاته من الأموال فلا يصح السلم فيه، لإفضاء العقد للمنازعة والمشاقة، وعدمها مطلوب شرعا. (2)

28-

وعلى هذا فقد نص جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية على جواز السلم في النقود، على أن يكون رأس المال من غيرها لئلا يفضي ذلك إلى ربا النساء. (3) قال ابن قدامة:(لأنها تثبت في الذمة صداقا، فتثبت سلما كالعروض؛ ولأنه لا ربا بينهما من حيث التفاضل ولا النساء (4) فصح إسلام أحدهما كالعرض في العرض) . (5)

وخالفهم في ذلك الحنفية، وقالوا بعدم جواز كون المسلم فيه نقدا؛ لأن المسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا، والنقود أثمان، فلا يصح أن تكون مسلما فيها. (6) قال الكاساني:(لأن المسلم فيه مبيع، لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم. سمى السلم بيعا، فكان المسلم فيه مبيعا، والمبيع مما يتعين بالتعيين، والدراهم والدنانير لا يتعين في عقود المعاوضات، فلم تكن مبيعة، فلا يجوز السلم فيها) . (7)

(1) الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/304.

(2)

الكاساني، البدائع مرجع سابق 5/208، الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/130؛ البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/276؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/195.

(3)

البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/215؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/287؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/137؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/206؛ عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/11؛ ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص 519؛ ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/100.

(4)

لكون رأس المال عرضا غير نقد.

(5)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/332.

(6)

ابن عابدين/ رد المحتار، مرجع سابق 4/203؛ ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/206.

(7)

الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/212.

ص: 416

وقد رد القاضي عبد الوهاب البغدادي مذهب الإمام أبي حنيفة مستندا في تجويز السلم في النقود على قوله صلى الله عليه وسلم : ((من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم)) وهي من الموزونات، وبأن كل ما جاز أن يكون في الذمة ثمنا جاز أن يكون مسلما فيه؛ ولأن ضبطها بالصفة ممكن بذكر فضتها أو ذهبها وسكتها ووزنها، (1) فانتفى كل مانع، وتوفر مناط الجواز. أما احتجاجهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم)) فغير مسلم؛ لأن الحديث الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام إنما هو النهي عن بيع ما ليس عندك، أما تتمة (ورخص في السلم) فلم تُرْوَ في الحديث، وإنما هي من كلام بعض الفقهاء (2)

29-

هذا، ومع أن جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة يعدون المذروعات المتماثلة الآحاد والعدديات المتساوية أو المتقاربة من جملة المثليات التي تقبل الثبوت في الذمة دينا في عقد السلم، ويصح كونها مسلما فيه قياسا على المكيلات والموزونات التي نص الحديث على جواز السلم فيها، للعلة الجامعة بينهما وهي رفع الجهالة بالمقدار؛ لأن القصد من التقدير هو رفع الجهالة وإمكان التسليم بلا منازعة، وهذا حاصل بالعدّ والذرع فيما يقدر بالوحدات القياسية الطويلة أو بالعدد كما هو حاصل بالوزن أو بالحجم فيما يقدر بالوزن أو الكيل. قال الخطيب الشربيني: فإن قيل: لم خص في الحديث الكيل والوزن؟ أجيب بأن ذلك لغلبتهما وللتنبيه على غيرهما. (3)

فقد خالف ابن حزم في ذلك، ومنع صحة السلم في غير المكيلات والموزونات، فقال:(ولا يجوز السلم إلا في مكيل أو موزون فقط، ولا يجوز في حيوان ولا مذروع ولا معدود ولا في شيء غير ما ذكرنا) . (4) واحتج على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم ووزن معلوم)) قال: (فهذا منع السلف وتحريمه البتة إلا أن في مكيل موزون) . (5)

(1) القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/281.

(2)

ابن حجر العسقلاني، الدراية في تخريج أحاديث الهداية، مرجع سابق 2/159؛ ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق 20/529.

(3)

الشربيني، مغني المحتاج، مرجع سابق 1/108.

(4)

ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/105

(5)

ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/106.

ص: 417

الشرط الثاني: أن يكون معلوما.

30-

لا خلاف بين الفقهاء في أنه يشترط لصحة السلم أن يكون المسلم فيه معلوم مُبَيَّنًا بما يرفع الجهالة عنه ويسد الأبواب إلى المنازعة بين العاقدين عند تسليمه؛ وذلك لأنه بدل في عقد معاوضة مالية، فاشترط فيه أن يكون معلوما كما هو الشأن في سائر عقود المبادلات المالية.

ولما كان السلم فيه ثابتا في الذمة غير مشخص بذاته اشترط الفقهاء أن ينص في عقد السلم على جنس المسلم فيه، بأن يبين أنه حنطة أو شعير أو تمر أو زيت

ونوعه إن كان الجنس الواحد أكثر من نوع، بأن يبين أن الرز مثلا من النوع الأمريكي أو الاسترالي أو البشاوري ونحو ذلك. فإن كان للجنس نوع واحد فقط، فلا يشترط ذكر النوع. (1)

كما اشترطوا بيان قدره لقوله صلى الله عليه وسلم : ((من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم)) . وبيان القدر يتحقق بكل وسيلة ترفع الجهالة عن المقدار الواجب تسليمه، وتضبط الكمية الثابتة في الذمة بصورة لا تدع مجالا للمنازعة عند الوفاء. (2)

31-

ويستنتج من نصوص الفقهاء التي بينت طرق التقدير الأربعة (الكيل والوزن والذرع والعدّ في كل شيء بحسبه) وهي الوسائل العرفية المعلومة في عصورهم أن معلومية المقدار في أيامنا الحاضرة يمكن أن تكون بأية وحدة من الوحدات القياسية العرفية المحدودة الشائعة.. وذلك مثل التحديد بالمتر أو بالقدم أو بالميل في الطول، وبالغرام أو بالأونصة أو الباوند في الوزن، وبالليتر أو الجالون في الحجم ونحو ذلك.

وفي هذا المقام نصّ الفقهاء على وجوب كون أداة التقدير العرفية معلومة العيار، وإلا فسد السلم لجهالة قدر المسلم فيه وإفضاء ذلك إلى الخصومة والمنازعة. (3)

(1) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/207؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/216.

(2)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/318؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/190؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/218.

(3)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/318؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/207؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/193؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/218

ص: 418

32-

ومما يجدر بيانه أن جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية وأحمد في رواية عنه رجحها كثير من الحنابلة (1) لا يرون بأسا في اتفاق العاقدين على تحديد المسلم فيه بأية وحدة قياسية عرفية تضبطه، ولو كانت غير المستعملة لتحديد قدره في زمن النبوة، وذاك لأن الغرض معرفة قدره بما ينفي عنه الجهالة والغرر. وإمكان تسليمه من غير تنازع، والعلم بالقدر يمكن حصوله بأية وحدة قياسية عرفية منضبطة، وعلى هذا فلو قدره بأي قدر جاز (2) ، (ويغاير ذلك بيع الربويات، فإن التماثل فيها في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا شرط، ولا يعلم تحقق هذا الشرط إذا قدرها بغير مقدارها الأصلي)(3)

وخالف في ذلك الحنابلة على المعتمد في مذهبهم، وقالوا:(لا يصح سلم في مكيل وزنا، ولا في موزون كيلا؛ لأنه مبيع يشترط معرفة قدره، فلم يجز بغير ما هو مقدر به في الأصل، كبيع الربويات، بعضها ببعض، ولأنه قدّره بغير ما هو مقدر به في الأصل، فلم يجز، كما لو أسلم في مذروعات وزنا) . (4)

وقال المالكية: العبرة بعرف أهل البلد الذي جرى فيه السلم. فلا بد أن يضبط المسلم فيه بالوحدة القياسية التي تعارف أهل البلد وقت العقد على تقديره بها، قطعا لدابر المنازعة بين العاقدين في تقديره عند الوفاء. (5)

33-

وبيان مقدار السلم فيه بهذه الصورة إنما يجزي في المثليات التي تخضع أنواعها للوحدات القياسية العرفية (الوزن أو الحجم أو الطول أو العد) .

أما إذا كان المسلم فيه من القيمات التي تختلف آحادها وتتفاوت أفرادها بحيث لا تقبل التقدير بتلك الوحدات القياسية، وإن كانت صفاتها قابلة للانضباط، فعندئذ يجوز السلم فيها بشرط بيان صفاتها التي تتفاوت فيها الرغبات، ويختلف الثمن بتفاوتها اختلافا ظاهرا.

ولا يجب استقصاء كل الصفات؛ لأن ذلك يتعذر، وقد ينتهي الأمر لو طلب فيها الاستقصاء إلى حال يتعذر معها تسليم المسلم فيه، إذ يبعد وجود المسلم فيه عند المحل بتلك الصفات كلها. ولهذا يكتفى بالأوصاف الظاهرة التي يختلف الثمن بها غالبا أو تختلف الأغراض بسببها عادة. (6)

(1) اختار هذه الرواية منهم موفق الدين ابن قدامة في المغني وابن عبدوس في تذكرته وجزم بها في الوجيز والمنور ومنتخب الأزجي. (البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/285؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/318.

(2)

الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/191؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/208؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/318؛ الشيرازي/ المهذب، مرجع سابق 1/306.

(3)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/319.

(4)

البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/218؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/285.

(5)

المواق، التاج والإكليل، 4/530 مط. السعادة بمصر سنة 1329هـ؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/212.

(6)

الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/213؛ الحطاب، مواهب الجليل، مرجع سابق 4/531؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/311؛ ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/230.

ص: 419

الشرط الثالث: أن يكون مؤجلا.

34-

لقد اشترط جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والظاهرية لصحة السلم أن يكون المسلم فيه مؤجلا، وقرروا عدم صحة السلم الحال (1)، ودليلهم على ذلك:

أ – قوله صلى الله عليه وسلم : ((من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) . حيث أمر عليه الصلاة والسلام بالأجل في السلم، وأمره يقتضي الوجوب، فيكون الأجل من جملة شروط صحة السلم، فلا يصح بدونه.

ب – أن السلم جوز رخصة للرفق، ولا يحصل إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفي الرفق، وذلك (لأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى) . (2)

ج- قال القاضي عبد الوهاب: (ولأن السلم مشتق من اسمه الذي هو السلف، وهو أن يتقدم رأس المال ويتأخر المسلم فيه، فوجب منع ما أخرجه عن ذلك) . (3)

د- ولأن السلم الحال يفضي إلى المنازعة، إذ هو أصلا بيع المفاليس، فالظاهر أن يكون المسلم إليه عاجزا عن تسليم المسلم فيه حالا، ورب السلم يطالب بالتسليم، فيتنازعان على وجه تقع الحاجة إلى الفسخ. كما أنه قد يكون فيه إلحاق الضرر برب السلم، لأنه أعطى رأس المال إلى المسلم إليه وصرفه في حاجته، فلا يصل المسلم فيه ولا إلى رأس المال، بخلاف الأمر عند اشتراط الأجل، حيث لا يملك المطالبة إلا بعد حل الأجل، وعند ذلك يقدر المسلم إليه على التسليم ظاهرا، فلا يؤدي إلى المنازعة المفضية إلى الفسخ والإضرار برب السلم. (4)

35-

وخالف في ذلك الشافعية وقالوا بجواز السلم الحال كما هو جائز مؤجلا. وحجتهم القياس الأولوي على السلم المؤجل، حيث إن في الأجل ضربا من الغرر، إذ ربما يقدر المسلم إليه على تسليمه في الحال، ويعجز عند حلول الأجل، فإذا جاز مؤجلا، فهو حالا أحرى بالجواز؛ لأنه أبعد عن الغرر. (5)

(1) ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص274؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/212؛ ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص 515؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/321؛ ابن حزم، المحلى/ مرجع سابق 9/105؛ أبو الحسن المالكي، كفاية الطالب الرباني، مرجع سابق2/163؛ ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/174؛ البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/218؛ ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/217؛ الباجي؛ المنتقى شرح الموطأ، 4/297 مط. السعادة بمصر سنة 1332هـ.

(2)

ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/228.

(3)

القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/280

(4)

الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/212.

(5)

الشيرازي، المهذب مرجع سابق 1/304؛ الشافعي، الأم، مرجع سابق 3/95؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/185؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/124؛ النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق 4/7؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/226.

ص: 420

36-

ومع أن جمهور الفقهاء –عدا الشافعية- اتفقوا على وجوب كون المسلم فيه مؤجلا لصحة العقد، فقد اختلفوا في تحديد الأجل الأدنى الذي لا يصح بأقل منه، وذلك على جملة أقوال:

أ- فذهب الظاهرية إلى أن الحد الأدنى للأجل أقل ما ينطبق عليه اسم الأجل لغة، ساعة فما فوقها. (1)

ب- وقال الحنابلة: من شرط الأجل أن يكون مدة لها وقع في الثمن عادة، كالشهر وما قاربه؛ لأن الأجل إنما اعتبر لتحقيق الرفق الذي من أجله شرع السلم، ولا يحصل ذلك بالمدة التي لا أثر لها في رخص الثمن. (2)

ج- واختلف فقهاء الحنفية في تحديده، فقال الكرخي: إنه موكول لتراضي العاقدين، حتى لو قدّرا نصف يوم جاز. وقيل: أقله ثلاثة أيام قياسا على خيار الشرط. قال الكاساني: (وروي عن محمد أنه قدره بالشهر وهو الصحيح؛ لأن الأجل إنما شرط في السلم ترفيها وتيسيرا عن المسلم إليه، ليتمكن من الاكتساب في المدة. والشهر مدة معتبرة يتمكن فيها من الاكتساب، فيتحقق معنى الترفيه. فأما ما دونه ففي حد القلة، فكان له حكم الحلول) . (3)

د- وذهب المالكية في المشهور عندهم إلى أن أقله ما تختلف فيه الأسواق، كالخمسة عشر يوما ونحوها. وهو قول ابن القاسم (4) . وروى ابن وهب عن مالك: أنه يجوز اليومين والثلاثة. وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد. (5)

قال الباجي –بعد عرض تلك الأقوال-: (إذا ثبت ما قلناه، فالذي قاله القاضي أبو محمد أن تغير الأسواق في ذلك لا يختص بمدة من الزمان، وإنما هو على حسب عرف البلاد. ومن قدر ذلك بخمسة عشر يوما أو أكثر فإنما قدر على عرف بلده، وتقدر ابن القاسم ذلك بخمسة عشر يوما أو عشرين أظهر؛ لأن هذا عرف البلاد، ومقتضى ما علم من أسواقها، فإنه يغلب تغيرها في مثل هذه المدة) . (6)

(1) ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/109

(2)

البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/218؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/285؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 3/285.

(3)

الكاساني، البدائع/ مرجع سابق 5/213؛ وانظر ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/219

(4)

الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/210؛ ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص274؛ ابن رشد بداية المجتهد، مرجع سابق 2/228.

(5)

ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/228، الباجي، المنتقى، مرجع سابق 4/297. وقد ذكر الباجي وابن رشد أن محل هذا الخلاف عند المالكية فيما إذا كان قضاء المسلم فيه في البلد الذي عقد فيه المسلم. أما إذا كان المسلم فيه يقتضي بغير بلد السلم، فإن أدنى الأجل عندهم هو مدة قطع المسافة التي بين البلدين قلَّت أو كثرت.

(6)

الباجي، المنتقى، مرجع سابق 4/298.

ص: 421

الشرط الرابع: أن يكون الأجل معلوما.

37-

اتفق الفقهاء على أن معلومية الأجل الذي يوفى فيه المسلم فيه شرط لصحة السلم، لقوله صلى الله عليه وسلم :((من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) ، حيث أوجب معلومية الأجل. (1)

وعلى ذلك نص العلماء على أنه (إن كان الأجل مجهولا فالسلم فاسد، سواء أكانت الجهالة متفاحشة أو متقاربة؛ لأن كل ذلك يفضي إلى المنازعة، وإنها مفسدة للعقد، كجهالة القدر) . (2)

ويتم العلم بالأجل بتقدير مدته بالأهلة نحو أول شهر رجب أو أوسط محرم أو يوم معلوم منه، أو بتحديده بالشهور الشمسية المعروفة عند المسلمين والمشهورة بينهم مثل أول شباط وآخر آذار أو يوم معلوم منه. أو بتحديد وقت محل المسلم فيه بأن يقال: بعد ستة أشهر أو شهرين أو سنة ونحو ذلك. (3)

(1) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/321؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/210؛ البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/218؛ ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص515؛ ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص274؛ ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/218؛ النووي، الروضة، مرجع سابق 4/7.

(2)

الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/213.

(3)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/324؛ النووي، الروضة، مرجع سابق 4/8؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/87

ص: 422

الشرط الخامس: أن يكون مقدور التسليم عند محله.

38-

وذلك بأن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل، وهذا شرط متفق على وجوب تحقيقه لصحة السلم بين الفقهاء. واحتجوا على ذلك بأن المسلم فيه واجب التسليم عند الأجل، فلا بد أن يكون تسليمه مقدورا عليه حينذاك، وإلا كان من الغرر الممنوع. (1)

وعلى هذا، فلا يجوز أن يسلم في ثمر إلى أجل لا يعلم وجود ذلك الثمر فيه، أو لا يوجد فيه إلا نادرا، كما أنه يسلم في ثمار نخلة معينة أو ثمار بستان بعينه. وذلك لما روى ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلف إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى، فقال اليهودي: من حائط بني فلان. فقال عليه الصلاة والسلام: ((أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى)) . (2) وذلك لأن ثمر البستان المعين أو النخل المعين لا يؤمن تلفه وانقطاعه.

39-

أما وجود المسلم فيه عند العقد فليس شرطا لصحة السلم عند جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية، فيجوز السلم في المعدوم وقت العقد وفيما ينقطع من أيدي الناس قبل حلول الأجل. (3) وحجتهم على ذلك ما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، والناس يسلفون في الثمر العام والعامين، فقال:((من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) . فلم يشترط عليه الصلاة والسلام وجود المسلم فيه عند العقد، ولو كان شرطا لذكره ولنهاهم عن السنتين والثلاث؛ لأن من المعلوم أن الثمر لا يبقى طوال هذه المدة. وأيضا: فإن التسليم قبل حلول الأجل غير مستحق، فلا يلزم وجود المسلم فيه بتلك الفترة، إذ لا فائدة لوجوده حينئذ.

(1) الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/243؛ البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/290؛ ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/114؛ النووي، الروضة، مرجع سابق 4/11؛الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/218؛ ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/213؛ الباجي، المنتقى، مرجع سابق 4/300؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/325؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/211.

(2)

ابن ماجه، السنن، مرجع سابق 2/766.

(3)

القاضي عبد الوهاب، الإشراف، مرجع سابق 1/279؛ ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص274؛ ابن رشد بداية المجتهد، مرجع سابق 2/229؛ الباجي، المنتقى، مرجع سابق 4/300؛ ابن حزم، المحلى، مصدر سابق 9/114؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/245؛ البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/220؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/326؛ ابن رشد الجد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص513.

ص: 423

وخالفهم في ذلك الحنفية والثوري والأوزاعي الذين قالوا بعدم السلم إلا فيما هو موجود في الأسواق من وقت العقد إلى محل الأجل دون انقطاع.

واستدل الحنفية على ذلك بأن الأجل يبطل بموت المسلم إليه، ويجب أخذ المسلم فيه من تركته، فاشترط لذلك دوام وجود المسلم فيه لتدوم القدرة على تسليمه؛ إذ لو لم يشترط هذا الشرط، ومات المسلم إليه قبل أن يحل الأجل فربما يتعذر تسليم المسلم فيه، فيؤول ذلك إلى الغرر. (1)

وقد أجاب ابن قدامة على حجة الحنفية هذه بقوله: (ولا نسلم أن الدين يحل بالموت، وإن سلمنا فلا يلزم أن يشترط ذلك الوجود، إذ لو لزم لأفضى إلى أن تكون آجال السلم مجهولة، والمحل ما جعله العاقدان محلا، وههنا لم يجعلاه) . (2) وقال القاضي عبد الوهاب البغدادي: (ولأن كل وقت لم يجعل وقتا لقبض المسلم فيه لم يكن وجوده شرطا في صحة العقد، أصله ما بعد المحل؛ ولأنه يضبط بالصفة ويوجد عند المحل، فجاز السلم فيه) . (3)

(1) ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/213؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/326؛ ابن النجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/172؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/211؛ ابن عابدين، رد المحتار، مصدر سابق 4/206.

(2)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/326؛ وانظر ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص 513.

(3)

القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/279.

ص: 424

الشرط السادس: تعيين مكان الإيفاء.

40-

لقد اختلف الفقهاء في مدى اشتراط تعيين مكان إيفاء المسلم فيه لصحة العقد، وذلك على خمسة أقوال:

أ- فذهب الشافعية في المعتمد إلى أنه يشترط لصحة السلم بيان مكان تسليم المسلم فيه إذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم كالصحراء، أو كان لحمله مؤنة. فإن كان العقد بمكان يصلح للتسليم أو لم يكن لحمله مؤنة فلا يشترط ذلك، ويتعين مكان العقد للتسليم بدلالة العرف. وهذا كان المسلم فيه مؤجلا. أما الحال فلا يشترط فيه تعيين مكان الوفاء ويتعين موضع العقد للتسليم. (1)

قالوا: ووجه اشتراط تعيينه في المؤجل إذا كان المكان لا يصلح للتسليم اختلاف الأغراض وتفاوتها في الأمكنة، فوجب بيانه كما هو الأمر في الأوصاف. وأما إذا كان لحمله مؤنة فلأنه يختلف الثمن باختلاف المكان الذي سيسلم فيه، كالصفات التي يختلف باختلافها. بخلاف ما ليس لحمله مؤنة؛ فإنه لا يجب بيانه؛ لأنه لا يختلف باختلافه فلم يجب بيانه كالصفات التي لا يختلف الثمن باختلافها. (2)

ب- وقال المالكية: لا يشترط تعيين مكان الإيفاء، ولكنه يفضل، (3) . قال ابن جزي:(الأحسن اشتراط مكان الدفع.. فإن لم يعينا في العقد مكانا، فمكان العقد، وإن عيناه، ولا يجوز أن يقبضه بغير المكان ويأخذ كراء مسافة ما بين المكانين؛ لأنهما بمنزلة الأجلين) . (4)

(1) الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/128؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/307؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/251؛ النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق 4/12، 13

(2)

الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/307؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/127.

(3)

ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/229.

(4)

ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق 275.

ص: 425

ج- وذهب الحنابلة إلى أنه لا يشترط ذكر مكان الإيفاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره، فدل على أنه لا يشترط فيه. ولأنه عقد معاوضة، فلا فيه ذكر مكان الإيفاء، كبيوع الأعيان، إلا أن يكون موضع العقد لا يمكن الوفاء فيه كصحراء وبحر وجبل ونحو ذلك، فعند ذلك يشترط بيانه لتعذر الوفاء في موضع العقد، فيكون محل التسليم مجهولا، فاشترط تعيينه بالقول كالأجل. (1)

د- وقال ابن حزم: لا يجوز أن يشترطا في السلم دفعه في مكانه بعينه، فإن فعلا فالصفقة كلها فاسدة لكن حق المسلم قبل المسلم إليه أنه حيث ما لقيه عند محل الأجل فله أخذه بدفع حقه إليه، فإن غاب أنصفه الحاكم من ماله –أي المسلم إليه- إن وجد له، لقوله تعالي:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] فهو مأمور بأداء أمانته حيث وجبت عليه ويسألها. (2)

هـ -قال الحنفية: لا يشترط مكان الإيفاء إذا لم يكن للمسلم فيه حمل ومؤنة، بحيث لا يحتاج نقله إلى كلفة وسيلة نقل وأجرة حمال (3) . أما إذا كان له حمل ومؤنة، فقد اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في اشتراط تعيين مكان الإيفاء.

- فقال أبو حنيفة: يشترط بيان مكان إيفاء المسلم فيه؛ لأن التسليم غير واجب في الحال، فلا يتعين مكان العقد موضعا للتسليم، وإذا لم يتعين بقي مجهولا جهالة مفضية إلى المنازعة لاختلاف القيم باختلاف الأماكن، فلا بد من البيان دفعا للمنازعة، إذ صار كجهالة الصفة.

وقال أبو يوسف ومحمد: لا يحتاج إلى تعيينه، ويسلمه في موضع العقد؛ لأن مكانه موضع الالتزام، فيتعين لإيفاء ما التزمه في ذمته، كموضع الاستقراض والاستهلاك وكبيع الحنطة بعينها. (4)

(1) البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/221؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/292.

(2)

ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/110.

(3)

وهذا الحكم لا خلاف فيه بين الإمام وصاحبيه، وفي هذه الحالة يكون للمسلم فيه أن يوفيه حيث شاء كما صحح صاحب الدر المختار، وصحح ابن كمال أن الوفاء يكون في مكان العقد. (ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/207)

(4)

ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/176؛ الكاساني، البدائع مرجع سابق 5/213؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/207؛ ابن همام، فتح القدير، مرجع سابق 6/221 وما بعدها

ص: 426

المبحث الثالث

الأحكام المترتبة على السلم والمتعلقة به

ويندرج تحت هذا المبحث سبع وسائل:

المسألة الأولي

انتقال الملك في البدلين

41-

لا خلاف بين الفقهاء في أن عقد السلم إذا أبرم بين عاقدين مستجمعا أركانه وشروط صحته فإنه يقتضي انتقال ملكية رأس المال إلى المسلم إليه وانتقال ملكية المسلم فيه إلى رب السلم.

وعلى ذلك، فإذا قبض المسلم إليه رأس المال كان له أن يتصرف فيه بكل التصرفات السائغة شرعاً؛ لأنه ملكه وتحت يده. أما المسلم فيه، فمع صيرورته ملكًا للمسلم بمقتضى العقد، إلا أن ملكيته له غير مستقرة. قال السيوطي:(وجميع الديون التي في الذمة بعد لزومها وقبض المقابل لها مستقرة إلا دينًا واحدًا هو دين السلم؛ فإنه وإن كان لازما فهو غير مستقر. وإنما كان غير مستقر؛ لأنه بصدد أن يطرأ انقطاع المسلم فيه، فينفسخ العقد) . (1)

(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص326 ط. مصطفي البابي الحلبي بمصر سنة 1378 هـ.

ص: 427

المسألة الثانية

بيع دين السلم قبل قبضه

42-

وبناء على كون دين السلم غير مستقر فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يصح بيع المسلم فيه لمن هو في ذمته، أي استبداله قبل قبضه بأن يأخذ رب السلم مكانه من غير جنسه (وهو ما يعبر عنه الفقهاء بالاعتياض عن المسلم فيه أو استبداله) كما أنه لا يصح بيعه مِنْ غير مَنْ هو في ذمته؛ لأنه لا يؤمن من فسخ العقد بسبب انقطاع المسلم فيه، فكان كالمبيع قبل القبض. ولقوله صلى الله عليه وسلم :((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) . (1)

قالوا: وهذا يقتضي إلا يبيع رب السلم دين السلم لا من صاحبه ولا من غيره. (2)

43-

وخالفهم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، حيث أجاز بيع المسلم فيه قبل قبضه من غير مَنْ عليه الدين، وهذا القول رواية عن أحمد ووجه عند الشافعية. (3)

جاء في (الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية) : (ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره، ولا فرق بين دين السلم وغيره، وهو رواية عن أحمد) . (4)

(1) أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي والدارقطني عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. (ابن حجر العسقلاني، الدراية في تخريج أحاديث الهداية، مرجع سابق 2/160

(2)

النووي، المجموع شرح المهذب،9/273 مط. التضامن الأخوي بمصر سنة 1347هـ؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/214؛ البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/293؛ شرح المنتهى، مرجع سابق 2/222؛ الشافعي، الأم، مرجع سابق 3/133؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/209،166؛ الزيلعي، تبيين الحقائق، مرجع سابق 4/118؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/270؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/334.

(3)

ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق 29/506؛ ابن مفلح، المبدع شرح المقنع، 4/199 ط. المكتب الإسلامي بدمشق سنة 1400هـ؛ الزركشي، المنثور في القواعد، مرجع سابق 2/161.

(4)

البعلي، الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية. ص131 مط. أنصار السنة المحمدية بمصر.

ص: 428

وقال ابن القيم في (أعلام الموقعين) : (والدين في الذمة يقوم مقام العين، ولهذا تصح المعاوضة عليه من الغريم وغيره) . (1)

كذلك أجاز ابن تيمية وابن القيم الاعتياض عن المسلم فيه (أي بيعه لمن هو في ذمته) قبل قبضه بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه حالاً، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه ورواية الإمام أحمد. (2)

قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضًا أنقص منه، ولا تربح مرتين) . (3)

وحجتهم على جواز بيعه من المدين (أو الاعتياض عنه) إذا كان ذلك بسعر المثل أو دونه هو عدم المانع الشرعي، حيث إن حديث ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ضعيف لا تقوم به حجة. (4)

وحتى لو ثبت فمعنى (فلا يصرفه إلى غيره) أي لا يصرفه إلى سلم آخر، أو لا يبعه بمعين مؤجل، وذلك خارج عن محل النزاع.قال ابن القيم (فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة) . (5)

(1) ابن القيم، إعلام الموقعين، 4/3 مط. السعادة بمصر سنة 1374هـ.

(2)

ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق 29/503، 518؛ البعلي، مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص345 ط. باكستان سنة 1397هـ؛ ابن القيم، تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، 5/113 وما بعدها مط. السنة المحمدية بمصر سنة 1369هـ.

(3)

ابن القيم، تهذيب سنن أبي داود، مرجع سابق 5/113.

(4)

قال الحافظ ابن حجر: (وفيه عطية بن سعد العوفي، وهو ضعيف، وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان بالضعف والاضطراب) . (ابن حجر، التلخيص الحبير 3/25، ط. شركة الطباعة الفنية بمصر سنة 1384هـ) .

(5)

ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، مرجع سابق 5/117.

ص: 429

أما دليلهم على عدم جواز الاعتياض عنه ببدل يساوي أكثر من قيمته؛ فلأن دين السلم مضمون على البائع، ولم ينتقل إلى ضمان المشتري، فلو باعه المشتري من المسلم إليه بزيادة، فيكون رب السلم قد ربح فيما لم يضمن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ((نهي عن ربح ما لم يضمن)) . (1)

44-

ونهج المالكية في المسألة نهجًا وسطاً؛ إذ أجازوا بيع المسلم فيه لغير المسلم إليه إذا لم يكن طعاما بمثل ثمنه وبأقل وأكثر حالًا غير مؤجل كيلا يؤول إلى بيع الكالئ بالكالئ. (2)

قال ابن رشد الحفيد: (وأما بيع دين السلم من غير المسلم إليه فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع، ما لم يكن طعاماً؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل قضبه) . (3)

أما الاعتياض عنه، أي بيعه من المسلم إليه ببدل حال فقد أجازوه بشروط ثلاثة بينها الخرشي بقوله: (يجوز للمسلم إليه أن يقضي السلم من غير جنس المسلم فيه، سواء حل الأجل أم لا بشروط ثلاثة:

الأول: أن يكون المسلم فيه مما يباع قبل قبضه (وهو ما سوى الطعام) . كما لو أسلم ثوبا في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان دراهم، إذ يجوز بيع الحيوان قبل قضبه.

الثاني: أن يكون المأخوذ مما يباع بالمسلم فيه يدا بيد كما لو أسلم دراهم في ثوب مثلا، فأخذ عنه طشت نحاس، إذ يجوز بيع الطشت بالثوب يدا بيد.

الثالث: أن يكون المأخوذ مما يجوز أن يجوز أن يسلم فيه رأس المال. كما لو أسلم دراهم في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان ثوباً، فإن ذلك جائز، إذ يجوز أن يسلم الدراهم في الثوب) . (4)

وجاء في (القوانين الفقهية) لابن جزي: (يجوز بيع العرض المسلم فيه قبل قبضه من بائعه بمثل أو أقل لا أكثر؛ لأنه يتهم في الأكثر بسلف جر منفعة، ويجوز بيعه من غير بائعه بالمثل وأقل وأكثر يدا بيد ولا يجوز بالتأخير للغرر) . (5)

(1) أخرجه ابن ماجه والدارقطني والحاكم وعبد الرازق وأحمد والنسائي وأبي داود والترمذي والدرامي والطحاوي وغيرهم. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. (الألباني، إرواء الغليل،5/146ط. المكتب الإسلامي بدمشق سنة 1399هـ.

(2)

ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 275؛ المواق، التاج والإكليل، 4/542 مط. السعادة بمصر سنة1329هـ.

(3)

ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق2/231.

(4)

الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/227؛ وانظر ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 274.

(5)

ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 275.

ص: 430

المسألة الثالثة

إيفاء المسلم فيه

45-

اتفق الفقهاء على أنه إذا حل أجل السلم المتفق عليه في العقد وجب علي المسلم إليه إيفاء الدين المسلم فيه. فإن جاء به وفق الصفات المشروطة المبينة في العقد وجب على المسلم قبوله، (1)(لأنه أتاه بحقه في محله، فلزمه قبوله، كالمبيع المعين، وسواء كان عليه في قبضه ضرر أو لم يكن. فإن أبى قيل له: إما أن تقبض حقك، وإما أن تبرئ منه. فإن امتنع قبضه الحاكم من المسلم إليه للمسلم، وبرئت ذمته منه؛ لأن الحاكم يقوم مقام الممتنع بولايته) . (2)

46-

أما قبل حلول الأجل، فلا يخفى أنه ليس للمسلم مطالبة المسلم إليه بالدين المسلم فيه. (3) ولكن إذا أتي به المسلم إليه قبل الأجل، وامتنع المسلم من قبوله، فهل يجبر على أخذه أم لا؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

أ-فقال المالكية: (إذا دفع المسلم فيه قبل الأجل، جاز قبوله، ولم يلزم. وألزم المتأخرون قبوله في اليوم واليومين) . (4)

(1) النووي، وروضة الطالبين، مرجع سابق 4/29.

(2)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/339.

(3)

النووي، الروضة، مرجع سابق4/30.

(4)

ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 275، وانظر ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/232.

ص: 431

ب-وقال الشافعية والحنابلة: إذا أتى به المسلم إليه قبل محله، فينظر فيه: (فإن كان مما في قبضه قبل محله ضمن –على المسلم- إما لكونه مما يتغير، كالفاكهة والأطعمة كلها، أو كان قديمه دون حديثه، كالحبوب ونحوها، لم يلزم المسلم قبوله؛ لأن له غرضا في تأخيره، بأن يحتاج إلى أكله أو إطعامه في ذلك الوقت. وكذلك الحيوان؛ لأنه لا يأمن تلفه، ويحتاج إلى الإنفاق عليه إلى ذلك الوقت، ربما يحتاج إليه في ذلك الوقت دون ما قبله. وكذا إن كان مما يحتاج في حفظه إلى مؤنة، كالقطن ونحوه، أو كان الوقت مخوفًا يخشى نهب ما يقبضه، فلا يلزمه الأخذ في هذه الأحوال كلها، لأن عليه ضررا في قبضه، ولم يأت محل استحقاقه له، فجرى مجرى نقص صفة فيه.

وإن كان مما لا ضرر عليه في قبضه، بأن يكون مما لا يتغير، كالحديد والرصاص والنحاس، فإنه يستوي قديمه وحديثه. ونحو ذلك الزيت والعسل، ولا في قبضه ضرر لخوف ولا تحمل مؤنة، فعليه قبضه؛ لأن غرضه حاصل مع زيادة تعجيل المنفعة، فجرى مجرى زيادة الصفة وتعجيل الدين المعجل) . (1)

47-

ولو أحضر المسلم إليه الدين المسلم فيه على الصفة المشروطة بعد محل الأجل، فقال الحنابلة:(فحكمه حكم ما لو أحضر البائع المبيع بعد تفرقهما) . (2) وقال المالكية: اختلف في ذلك أصحاب مالك، فروي عنه أنه يلزمه قبضه، مثل أن يسلم في قطائف الشتاء، فيأتي بها في الصيف. وقال ابن وهب وجماعة: لا يلزمه ذلك. (3)

(1) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/339؛ وانظر النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق4/30.

(2)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/339

(3)

ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/232

ص: 432

وقد أوضح القاضي ابن رشد الحفيد منشأ الخلاف في المسألة بأن من لم يلزمه بقبضه بعد الأجل رأى أن المقصود من العروض إنما كان وقت الأجل لا غيره. أما من أجاز ذلك وألزمه بقبضه، فقد شبهه بالدنانير والدراهم. (1)

48-

وحيث وجب على المسلم إليه تسليم الدين المسلم فيه في مكان معين، فإن جاء به فيه لم يكن للمسلم الامتناع عن تسلمه فيه. فإن شاء المسلم إليه أداءه في غيره، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

أ-فقال المالكية: لا يلزم المسلم قبوله بغير محله، ولو خف حمله. (2) وكذلك (لا يجوز أن يقبضه بغير المكان، ويأخذ كراء مسافة ما بين المكانين؛ لأنهما بمنزلة الأجلين) . (3) وبمثل ذلك قال الحنابلة (4) وكذا الحنفية حيث جاء في (البدائع) : (ولو سلّم في غير المكان المشروط فلرب السلم أن يأبى لقوله عليه الصلاة والسلام ((: المسلمون على شروطهم.)) فإن أعطاه على ذلك أجرا لم يجز له أخذ الأجر عليه؛ لأنه لما قبض المسلم فيه فقد تعين ملكه في المقبوض، فتبين أنه أخذ الأجر على نقل ملكه، فلم يجز، فيرد الأجر. وله أن يرد المسلم فيه حتى يسلم في المكان المشروط؛ لأن حقه في التسليم فيه، ولم يرض ببطلان حقه إلا بعوض ولم يسلم له، فبقي حقه في التسليم في المكان المشروط) . (5)

ب-وقال الشافعية: (إذا أتى المسلم إليه بالمسلم فيه في غير مكان التسليم، فامتنع المستحق من أخذه، فينظر: فإن كان لنقله مؤنة، أو كان الموضع مخوفاً، لم يجبر. وإلا فوجهان بناء على القولين في التعجيل قبل المحل. فلو رضي وأخذه، لم يكن له أن يكلفه مؤنة النقل. قال النووي: قلت: أصحهما إجباره) . (6)

المسألة الرابعة

تعذر السلم فيه عند حلول الأجل

49-

إذا انقطع المسلم فيه (7) عند حلول الأجل، بحيث تعذر على المسلم إليه إيفاءه للمسلم في وقته، فقد اختلف الفقهاء فيما يترتب على ذلك من أحكام على ثلاثة مذاهب:

أـ فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية في الأظهر والمالكية والحنابلة إلى أنه يخير رب السلم بين أن يصبر غلي وجوده، فيطالب به عنده، وبين أن يفسخ السلم ويرجع برأس ماله إن وجد، أو عوضه إن عدم لتعذر رده. (8)

ب ـ وقال زفر وأشهب والشافعي في قول: ينفسخ السلم ضرورة، ويسترد رب السلم رأس المال، ولا يجوز التأخير. (9)

ج ـ وقال سحنون: ليس لرب السلم فسخ السلم، وإنما له أن يصبر إلى القابل. (10)

(1) ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/232

(2)

الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق5/228

(3)

ابن جزي، القوانين الفقهية مرجع سابق ص 275.

(4)

البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/92؛ شرح المنتهى، مرجع سابق 2/222.

(5)

الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/213

(6)

النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق 4/31

(7)

وقد حكى النووي ضابط الانقطاع بقوله: (فإذا لم يوجد فيه أصلا، بأن كان ذلك الشيء ينشأ بتلك البلدة، فأصابته جائحة، مستأصلة، فهذا انقطاع حقيقي. ولو وجد في غير ذلك البلد، لكن يفسد بنقله، أو لم يوجد إلا عند قوم امتنعوا من بيعه، فهو انقطاع. ولو كانوا يبيعونه بثمن غالٍ فليس بانقطاع، بل يجب تحصيله ولو أمكن نقله من مكان آخر وجب إن كان قريباً. وفيما يضبط به القرب خلاف، نقل فيه صاحب التهذيب وجهين آخرين، أصحهما: يجب نقله مما دون مسافة القصر.الثانى: من مسافة لو خرج إليها بكرة أمكنه الرجوع إلى أهله ليلا. وقال الإمام: لا اعتبار لمسافة القصر، فإن أمكن النقل على عسر، فالأصح أنه لاينفسخ قطعا. (النووي، الروضة، مرجع سابق 4/12))

(8)

البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/220؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/290؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/326؛ ابن الهمام / فتح القدير، مرجع سابق 6/214؛ ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/230؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/221؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق1/309؛ النووي، الروضة، مرجع سابق4/1

(9)

ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق6/214؛ ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 275؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/309؛ ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/230؛ النووي، الروضة، مرجع سابق 4/11.

(10)

ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص275؛ ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/230

ص: 433

المسألة الخامسة

الإقالة في السلم

50-

لقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلى جواز الإقالة في السلم. فإذا أقاله رب السلم وجب على المسلم إليه رد الثمن إن كان باقياً، أو مثله إن كان مثليًّا، أو قيمته إن كان قيميا إذا لم يكن باقياً. (1) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة. (2)

واستدلوا على ذلك:

أولا: بما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((: من أقال نادمًا بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة)) (3) حيث ندب النبي عليه الصلاة والسلام إلى الإقالة مطلقاً، فيدخل فيه السلم، كما يدخل فيه البيع المطلق؛ لأن السلم نوع من البيع. (4) قال الكاساني:(ولأن الإقالة في بيع العين إنما شرعت نظرا للعاقدين دفعًا لحاجة الندم، واعتراض الندم في السلم ههنا أكثر، لأنه بيع بأوكس الأثمان، فكان أدعى إلى شرع الإقالة فيه) . (5)

ثانيا: وبأن الحق لهما، فجاز لهما الرضا بإسقاطه، (6) إذ الإقالة فسخ للعقد ورفع له من أصله. (7)

51-

وخالفهم في ذلك ابن حزم فقال: (ولا تجوز الإقالة في السلم؛ لأن الإقالة بيع صحيح على ما بينا قبل، وقد صح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض، وعن بيع المجهول، لأنه غرر، لكن يبرئه مما شاء منه، فهو فعل خير)(8)

(1) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق4/336؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/309، الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/214، سحنون، المدونة، 9/69 مط. السعادة بمصر سنة 1323 هـ ابن رشد بداية المجتهد مرجع سابق 2/231.

(2)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/336.

(3)

أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه وغيرهم. (ابن حجر، الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/154

(4)

الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/214

(5)

الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/214

(6)

الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/309

(7)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/336

(8)

ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/115

ص: 434

المسألة السادسة

توثيق الدين المسلم فيه

52-

لا يخفى أن توثيق الدين المسلم فيه يون بأحد أمرين:

أ-إما بتقوية وتأكيد حق رب السلم في الدين المسلم فيه بالكتابة أو الشهادة، لمنع المسلم إليه من الإنكار، وتذكيره عند النسيان، وللحيلولة دون ادعائه أقل من الدين المسلم فيه قدرًا أو صفة ونحو ذلك أو ادعاء رب السلم أكثر منه. وهذا النوع من التوثيق لا خلاف بين الفقهاء في كونه مندوبًا إليه، بما فيه من حماية الحقوق، ومنع التلاعب بها وقطع دابر الخصومات والمنازعات بين الناس فيها. وذلك لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]

ب-وإما بتثبيت حق رب السلم في الدين المسلم فيه وإحكامه، بحيث يتمكن عند امتناع المسلم إليه عن الوفاء – لأي سبب من الأسباب- من استيفاء دينه من شخص ثالث يكفل الدين المسلم فيه بماله، أو من عين مالية يتعلق بها حق رب السلم وتكون رهينة بدينه، وذلك بالكفالة أو الرهن وتلك محل نظر بعض الفقهاء.

53-

وبيان ذلك أن الفقهاء اختلفوا في مشروعية توثيق الدين المسلم فيه بالكفالة أو الرهن على أربعة أقوال:

ص: 435

أ-فذهب الحنابلة في المعتمد عندهم إلى أنه لا يصح أخذ رهن ولا كفيل من المسلم إليه. (1) وذلك لأنه (إن أخذ برأس مال السلم الرهن والضمين، فقد أخذ بما ليس بواجب ولا مآله إلى الوجوب؛ لأن ذلك قد ملكه المسلم إليه. وإن أخذ بالمسلم فيه، فالرهن إنما يجوز بشيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن، والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من الرهن ولا من ذمة الضامن؛ ولأنه لا يأمن هلاك الرهن في يده بعدوان، فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره)) رواه أبو داود. ولأنه يقيم ما في ذمة الضامن من مقام ما في ذمة المضمون عنه، فيكون في حكم أخذ العوض والبدل عنه وهذا لا يجوز) . (2)

ب-وذهب الشافعي ومالك والحنفية وإسحاق وابن المنذر إلى جوازه. وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها ابن قدامة وجمع من الحنابلة. وهو قول عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والحكم وغيرهم من السلف. (3) جاء في (الأم) للشافعي: (السلم: السلف. وبذلك أقول: لا بأس فيه بالرهن والحميل؛ لأنه بيع من البيوع، وقد أمر الله جل ثناؤه بالرهن، فأقل أمره تبارك وتعالى أن يكون إباحة له) . (4) وقد علق برهان الدين ابن مفلح الحنبلي على استدلال المانعين بحيث: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) بقوله: (فيه نظر؛ لأن الضمير في (لا يصرفه) راجع إلى المسلم فيه، ولكن يشتري ذلك من ثمن الرهن ويسلمه، ويشتريه الضامن ويسلمه، لئلا يصرفه إلى غيره) . (5)

ج ـ وروي عن علي وابن عمر وابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والأوزاعي كراهة ذلك. (6)

د ـ وذهب ابن حزم الظاهري إلى أن (اشترط الكفيل في السلم يفسد به السلم؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل. أما اشتراط الرهن فجائز) . (7)

(1) البهوتي، شرح منتهى الإيرادات، مرجع سابق 2/222، كشاف القناع، مرجع سابق 3/298.

(2)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/342

(3)

ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص328؛ عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/252؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 5/318؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/342؛ الشافعي، الأم، مرجع سابق 3/94

(4)

الشافعي؛ الأم، مرجع سابق 3/94.

(5)

ابن مفلح، المبدع، 4/202 ط. المكتب الإسلامي بدمشق سنة 1400هـ؛ البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/298.

(6)

ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/342، البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 200/222.

(7)

ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/110.

ص: 436

المسألة السابعة

الاتفاق على تقسيط المسلم فيه على نجوم

54-

إذا أسلم شخص في شيء واحد على أن يقبضه بالتقسيط في أوقات متفرقة أجزاء معلومة، كسمن يأخذ بعضه في أول رجب وبعضه في أول رمضان وبعضه في منتصف شوال مثلا

فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على ثلاثة أقوال:

أ-فذهب المالكية والشافعية في الأظهر إلى أنه يصح ذلك؛ لأن كل ما جاز أن يكون في الذمة إلى أجل، جاز أن يكون إلى أجلين وآجال، كالأثمان في بيوع الأعيان. (1)

ب-وذهب الشافعي في قول ثان له إلى أنه لا يصح ذلك؛ (لأن ما يقابل أبعدهما أجلا أقل مما يقابل الآخر، وذلك مجهول، فلم يجز) . (2) أي أن القيمة الحالية (وقت عقد السلم) للدفعة المؤجلة إلى الأجل القريب أعلى من القيمة الحالية للدفعة المؤجلة إلى الأجل البعيد، فحيث لم يسم في العقد لكل دفعة من المسلم فيه قدرا من الثمن (رأس المال) على حدته، فلا تعرف حصة كل قسط من الثمن، وتلك هي الجهالة المفضية إلى فساد العقد.

ج-وذهب الحنابلة في المعتمد عليه إلى التفصيل، حيث قالوا:(يصح أن يسلم في جنس واحد في أجلين) كسمن يأخذ بعضه في رجب، وبعضه في رمضان؛ لأن كل بيع جاز إلى أجل جاز إلى أجلين وآجال إن بين كل قسط أجل وثمنه؛ لأن الأجل الأبعد له زيادة وقع على الأقرب، فما يقابله أقل. فاعتبر معرفة قسطه وثمنه. فإن لم يبينهما لم يصح

ويصح أن يسلم في شيء كلحم وخبز وعسل يأخذه كل يوم جزءا معلومًا مطلقا، أي سواء بين ثمن كل قسط أو لا، لدعاء لحاجة إليه) . (3)

(فإن قبض البعض مما أسلم فيه ليأخذ منه كل يوم قدرا معلوما، وتعذر قبض الباقي، رجع بقسطه من الثمن، ولا يجعل الباقي فضلا على المقبوض، لأنه مبيع واحد متماثل الأجزاء، فقسط الثمن على أجزائه بالسوية كما لو اتحد أجله) . (4)

(1) النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق 4/11؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/126؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/307؛ القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/280.

(2)

الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/307

(3)

البهوتي، شرح المنتهى الإرادات، مرجع سابق 2/218؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/287.

(4)

البهوتي، كشاف القناع مرجع سابق 3/286؛ وانظر: شرح المنتهى له، مرجع سابق، 2/219؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/338.

ص: 437

الفصل الثاني

التطبيقات المعاصرة لعقد السلم

55-

إن السلم كما كان بالغ الأهمية كباب من المداينات في العصور التي خلت والأزمان التي سلفت، فإنه يعد من عصرنا الحاضر أداة تمويل (ائتمان) ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية من حيث مرونتها واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة، سواء أكان تمويلا قصير الأجل أو متوسطه أو طويله، واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة ومتعددة من العملاء، سواء كانوا من المنتجين الزراعيين أو الصناعيين أو المقاولين من التجار، واستجابتها لتمويل نفقات التشغيل والنفقات الرأسمالية الأخرى.

وعلى هذا فمجالات تطبيق هذا العقد متعددة:

أ - فهو يصلح للقيام بتمويل عمليات زراعية مختلفة حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقع أن تتوفر لهم السلعة في الموسم من محاصيلهم أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم، فيقدم لهم بهذا التمويل نفعا بالغاً ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم.

ب - كما أنه يمكن استخدامه في تمويل النشاط التجاري والصناعي، ولا سيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة، وذلك بشرائها سلما، وإعادة تسويقها بأسعار مجزية.

ص: 438

ج-كذلك يمكن تطبيقه في تمويل الحرفيين وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين عن طرق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات أو مواد أولية كرأس مال سلم مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها. (1)

د) كذلك يمكن استخدامه في تمويل التجارة الخارجية ، وذلك بقيام المصرف الإسلامي بشراء المواد الأولية من المنتجين سلما، ثم إعادة تسويقها عالميًا بأسعار مجزية، إما نقدا، أو بجعل هذه الصادرات رأسمال سلم من أجل الحصول في مقابلها على سلع صناعية أو غير ذلك.

هـ -ويمكن أيضا اللجوء إليه في تمويل الأصول الثابتة – كبديل للتأجير التمويلي – حيث يقوم المصرف بتمويل الأصول الثابتة اللازمة لقيام المصانع الحديثة أو لإحلالها في المصانع القديمة القائمة، وتقديم تلك الأصول كرأس مال سلم مقابل الحصول على جزء من منتجات تلك المصانع على دفعات وفقا لآجال تسليم مناسبة. (2)

56-

ولا يخفى أن خاصية عقد السلم- وهي كونها عقدًا على موصوف في الذمة (منضبط بمواصفات محددة طبقًا لمقاييس دقيقة معروفة) - تجعل نطاقه شاملًا للمنتجات الزراعية كالحبوب والزيوت والألبان والمنتجات الصناعية كالحديد والإسمنت والسيارات والطائرات ومنتجات المواد

الخام أو نصف المصنعة كانفط والكلنكر وغيرها.

ويمكن للمسلم (المشتري) فيما بين تاريخ عقد السلم وتاريخ قبض المُسَلَم فيه أن يكون مسلمًا إليه (بائعًا) في سلعة مماثلة وبشروط مماثلة بشروط عقد السلم الأول الذي أبرمه أو بشروط معدلة وهو ما يعبر عنه بالسلم الموازي.

* أما عن الأمثلة والصيغ التطبيقية المعاصرة، فإليك الصور التالية:

(1) عز الدين خوجة، أدوات الاستثمار الإسلامية، ص48 جدة سنة 1413هـ.

(2)

د/محمد عبد الحليم عمر، الإطار الشرعي والاقتصادي والمحاسبي لبيع السلم. ص66،67 ط البنك الإسلامي للتنمية بجدة 1412هـ.

ص: 439

الصورة الأولي:

57-

يوجد مصنع ياباني لسحب وتشكيل قضبان الحديد يحتاج إلى تمويل لشراء كتل الحديد اللازمة، ويحصل عادة على التمويل اللازم من البنك بفائدة بأجل يمتد حتى تاريخ تسويق منتجاته. ففي مثل هذه الحال يقوم المصرف الإسلامي بعرض التمويل اللازم على أساس عقد السلم، فيأخذ مقابل التمويل المنتجات المصنعة من منتجات الحديد، وتبرمج مواعيد وأمكنة التسليم، ويتفق مثلا أن يكون التسليم في ميناء التصدير أو سيف ميناء الاستيراد.

وفيما بين تاريخ إبرام العقد وتاريخ التسليم يمكن للمصرف الإسلامي أن يجري عقدا أو عقود سلم مع مستثمرين آخرين، يكون المصرف فيها في موقف المسلم إليه (البائع) ، حيث يلتزم بتوريد قضبان حديد مماثلة لقضبان الحديد التي أبرم عقد السلم عليها من المصنع، وذلك بشروط مماثلة لعقده مع مصنع أو بشروط معدلة. كما يمكن للمصرف بدلا عن ذلك أن ينتظر حتى يتسلم القضبان، فيبيعها للموردين في البلد المستورد أو لتجار التجزئة بثمن حال أو مؤجل.

وعلى العكس من الصورة السابقة يمكن أن يسبق زمنيا عقد السلم الذي يبرمه المصرف مع المستثمرين، ويكون مسلما إليه ملتزما بقضبان الحديد عقد السلم الذي أبرمه المصرف مع المصنع الياباني، وكان المصرف فيه في موقف المسلم (المشتري) . ويمكن للمصرف التوغل لمرحلة سابقة بأن يقوم بإبرام عقد سلم مع مصنع للصلب ينتج كتل الحديد ويحتاج لتمويل شراء خام الحديد، حيث يقوم المصرف بالتمويل النقدي في مقابل الحصول على كمية مناسبة من كتل الحديد يتم بيعها لمصنع القضبان.

ص: 440

الصورة الثانية:

58-

يحتاج مصنع إسْمَنْت الجنوب (مثلا) إلى تمويل لنفقات التشغيل، فيتقدم المصرف الإسلامي بعرض التمويل في نظير أخذ كمية مناسبة من الأسمنت يتفق على تسليمها في موعد واحد أو مواعيد مختلفة، في مكان المصنع أو في مواضع أخري.

فإذا احتيج إلى تدرج التدفق النقدي بالنسبة للمصنع، فيمكن بدلا إبرام عقد واحد إبرام عقود متعددة لهذا الغرض. وفي الوقت نفسه – بين تاريخ تقديم التمويل وتاريخ التسليم – يمكن للمصرف الإسلامي إبرام عقود سلم مع المقاولين مباشرة أو مع مستثمر وسيط، يكون محلها إسمنتا مصنعا بمواصفات الإسمنت الذي تعاقد المصرف مع المصنع على شرائه بعقد السلم، كما يمكن للمصرف الانتظار حتى يتسلم من المصنع الأسمنت الذي التزم به، فيبيعه للمقاولين بثمن ناجز أو مؤجل.

وعلى العكس من الصورة السابقة يمكن أن يسبق زمنيا عقد السلم الذي يكون المصرف فيه مسلم إليه (بائعا للإسمنت) عقد السلم الذي يبرمه المصرف مع المصنع، ويكون المصرف فيه مسلما (مشتريا) .

وهناك تفصيلات أخرى حول هذه الطريقة الثانية لاستخدام عقد السلم نفصل بيانها في الصورة الثالثة الآتية.

الصورة الثالثة:

59-

يمكن تطبيق عقد السلم لتمويل شراء المصرف للسلع التي تنتجها المصانع المحلية، ثم قيامه ببيعها من خلال الوسطاء الذين يتولون أمر توزيعها حاليا وفي السوق الداخلية. ويقتضي تطبيق هذا الاقتراح أن يختار المصرف بعناية السلع التي سيتعامل بها، بحيث تكون مما يقبل التخزين مدة ملائمة، مع تحديد سعر شراء البنك لها على نحو يأخذ بالحسبان الدورة الزمنية المعتادة لتصريفها، وكذلك نفقات التخزين ونحوها من التكاليف، وكذا تقلبات الأسعار المعتادة في تلك السلع.

وفي الوقت الذي يدخل فيه المصرف بعقد سلم لشراء السلع يدخل بعقود مع الوسطاء الموزعين لتلقي السلع نيابة عن المصرف وتخزينها لديهم، ثم بيعها لحساب المصرف. ويمكن للمصرف أن يتفق مع أولئك الوسطاء على أن يبيعوا السلع لأجل مع أخذ الضمانات اللازمة للدين. وبذلك يكون المصرف قد استخدم أمواله في تمويل شراء السلع سلما بأسعار منخفضة نسبيا، ثم بيعها بعد قبضها لأجل بأسعار مرتفعة نسبيا.

وهذا التمويل يحيط بالسلعة من الجانبين (عقد سلم للشراء، ثم عقد بيع لأجل للتسويق) ويتيح المصرف مجالا واسعا لاستثمار موارده.

ص: 441

الصورة الرابعة:

60-

يمكن للمصرف الإسلامي أن يعقد سلما مع شركة منتجة للنفط (أرامكو السعودية مثلا) تلتزم بموجبه تلك الشركة بتسليم كمية محددة من النفط الموصوف في الذمة بتاريخ معين على الناقلة الراسية في ميناء التصدير برأس تنورة.

ويمكن للمصرف بين تاريخ إبرام عقد السلم مع دفعه الثمن حالا والتاريخ المتفق عليه لتسليم النفط أن يبرم عقود سلم موازية مع المستهلكين مباشرة أو مع مستثمر وسيط، يكون محل التزام المصرف في تلك العقود نفطا مماثلا في مواصفات وبشروط مماثلة أو معدلة. ويمكن للمصرف الانتظار، حتى يتسم النفط (المسلم فيه) ثم يبيعه للمستهلكين أو لمن يشاء بثمن ناجز أو مؤجل.

الصورة الخامسة:

61-

يشتري المصرف الإسلامي كمية من الأسمنت (مثلا) على أساس عقد سلم كما بيناه، ويتضمن العقد أن يضع المصنع كمية الإسمنت بعد إنتاجها في مستودعاته باسم المصرف بصورة متميزة، ويوكله المصرف ببيعها لحساب المصرف بسعر ناجز أو مؤجل لا يقل عن المقدار الذي يحدده المصرف، ويمكن للمصرف أن يجعل للمصنع أجرة على البيع مبلغا محددا أو نسبة من ثمن البيع. ويمكن أن يكون للبيع المشار إليه نقدا، كما يمكن للمصرف أن يأذن للمصنع بأن يبيع لأجل بشروط يرتضيها المصرف، ومنها أخذ ضمانات كافية للوفاء بالثمن. (1)

(1) الصور الخمس مستفادة من فتوى غير منشورة للهيئة الشرعية بشركة الراجحي المصرفية للاستثمار.

ص: 442

ملاحظة (حول توثيق دين السلم بالرهن أو الكفالة)

62-

ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن من حق المسلم في الصور السابقة كلها حتى يطمئن إلى وفاء دين السلم (المسلم فيه) عند حلول أجله أخذ رهن أو كفالة به وفقا لقول جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية وبعض محققي الحنابلة وغيرهم كما هو مبين في (ف53 من البحث) .

63-

وليس بخاف أنه حيثما ذكر عقد السلم فإنه مأخوذ في الاعتبار التقيد بالشروط الشرعية للعقد ومن أهمها فورية دفع الثمن (تسليم رأس مال السلم) حيث إنه يحول عمليا دون استغلال عقد السلم لاتخاذه حيلة للتوصل للتمويل بالفائدة الربوية.

الصورة السادسة:

64-

وهي إحدى الوسائل المقترحة لتمويل العجز في ميزانية الدولة، وذلك بأن تبيع الدولة المنتجة للنفط (مثلا) كميات موصوفة في الذمة إلى آجال عديدة بأثمان معجلة، بحيث يكون للمسلم (المشتري) في الفترة ما بين تاريخ عقد السلم وتاريخ قبض المسلم فيه:

أ-أن يعقد سلما موازيا، فيصير مسلما إليه، وذلك بأن يبيع سلما كمية مماثلة للنفط الذي أسلم فيه القدر والزمن وسائر الأوصاف لطرف ثالث بثمن معجل يزيد على ما اشترى به في السلم الأول، وبذلك يحقق ربحا من مجموع العمليتين، ثم تتم تسوية الصفقتين دون ربط بينهما عن طريق التوافق في الكميات والأوصاف والمواعيد.

وهذا السلم الموازي لا خلاف بين الفقهاء في جوازه ومشروعيته.

ب – أن يبيع المسلم فيه نفسه إلى غير المسلم إليه (طرف ثالث) بثمن حال غير مؤجل يحقق فيه هامش ربح مناسب بحسب سعر السوق.

وقد اقترح الأستاذ عبد اللطيف الجناحي أن تتم هذه العملية من خلال إصدار سندات سلم نفطية بالشكل التالي:

ص: 443

(أولا) تتولى الدولة من خلال جهاز تختاره (البنك المركزي مثلا) إصدار سندات ذات قيمة مالية محددة، ويقابلها كمية محددة من النفط الموصوف في الذمة، تبين في موعد محدد مبين في السند.

(ثانيا) تقوم الجهة الموكول إليها إصدار السندات ببيعها إلى المؤسسات المالية والأفراد بثمن معجل.

(ثالثا) يتضمن السند توكيلا من صاحبه لوزارة النفط (مثلا) باستلام المسلم فيه (النفط) وبيعه بالسعر الجاري بحسب العرف التجاري على أن تدفع القيمة لحساب صاحب السند خلال 48 ساعة عقب البيع.

(رابعا) تتنوع سندات السلم حسب مواعيد مختلفة (قصيرة-متوسطة-طويلة الأجل) بحيث تلبي حاجة المتعاملين وظروفهم ورغباتهم. (1)

وهذه العملية عبارة عن تطبيق معاصر لبيع دين السلم من غير المسلم إليه قبل قبضة بزمن معجل، وهو صحيح جائز في رواية عن الإمام أحمد اختارها وأفتى بها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية، وكذا عند المالكية في المعتمد من مذهبهم إذا كان دين السلم غير طعام، خلافا لما ذهب إليه الحنفية والشافعية والحنابلة من عدم جواز بيع دين السلم قبل قبضة من المسلم إليه وغيره مطلقا.

(انظر في الكتاب ص42،43،44 من البحث)

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

نزيه كمال حماد

(1) اقتراح الأستاذ الجناحي المقدم لحلقة النقاش الأولى للجنة الاقتصادية التابعة للديوان الأميري للكويت في الفترة ما بين 6-8 فبراير عام 1993م (تهيئة الأجواء لاستكمال تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي)

ص: 444

المناقشة

بسم الله الرحمن الرحيم

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين،

موضوعنا هذه الجلسة المسائية المباركة – إن شاء الله – هو السلم وتطبيقاته المعاصرة، والعارض هو فضيلة الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير، والمقرر هو محمد عطا السيد سيد أحمد.

ص: 445

الشيخ الصديق الضرير:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد:

قد قدم في هذا الموضوع ثمانية بحوث لم أتمكن من قراءة ثلاثة منها لأني تسلمتها اليوم، وسأعرض ما اتفقت عليه البحوث الخمسة وهو كثير، وأعرض ما انفردت به في بحثي وأترك للإخوة أن يعرض كل منهم بحثه؛ لأن هذا في رأيي أعدل ولأن صاحب البحث أقدر على بيان رأيه وتوضيحه، وبهذا يكون عرض البحوث كلها قد اكتمل من غير تكرار، ويبقى بعد ذلك التعليق والتعقيب والمناقشة، وأرجو أن يكون في هذا بعض الاستجابة لتوجيهات الرئاسة في هذا الصباح. وسأسير في البحث على حسب الخطة الموضوعة من المجمع.

أولا ـ تعريف السلم:

السلم والسلف بمعنى واحد، الأول لغة أهل الحجاز والثاني لغة أهل العراق. والسلم في الاصطلاح هو: بيع آجل بعاجل. وهذا التعريف الذي اتفق عليه في الجملة الحنفية والمالكية والحنابلة، وإن كان ابن عابدين يرى الأفضل أن يقال: شراء آجل بعاجل وليس بيع آجل بعاجل. الشافعية تعريفهم يختلف عن تعريف الجمهور، يقولون: هو بيع موصوف في الذمة. وهذا راجع إلى أنهم يرون أن السلم يكون حالا كما يكون مؤجلا، فلم يلتزموا كلمة: آجل، بيع موصوف في الذمة المالية قد يكون آجلا وقد يكون حالًّا.

والسلم نوع من البيع، هذا في رأي جمهور الفقهاء وهو عكس البيع بثمن مؤجل. ابن حزم يرى أن السلم ليس نوعا من البيع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه سلما وسماه سلفا ولم يسميه بيعا. فلا يعترف بأنه بيع.

مشروعية السلم ثابتة في القرآن والسنة والإجماع وهذا معروف. وحكي الإجماع في جواز السلم ولكن حكي عن ابن المسيب أنه لا يجيزه متمسكا بحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، جاء هذا عنه في البحر الزخار وفي نيل الأوطار.

ص: 446

هل مشروعية السلم على خلاف القياس أم هي على القياس؟

جمهور الفقهاء يرون أن السلم جاء على خلاف القياس. القياس المنع ولكنه جاز لورود النص به وللحاجة إليه، بل بعضهم يرى أنه عقد غرر جوز للحاجة. هذا الرأي القائل بأن جواز السلم جاء على خلاف القياس مبني على أن السلم من بيع المعدوم ومن بيع ما ليس عندك ومن بيع الغرر. وكل هذه البيوع منهي عنها، فالقياس ألا يجوز السلم ولكن النص ورد بجوازه فعلمنا أنه مستثنى من هذه البيوع، هذه وجهة نظر جمهور الفقهاء، والصواب عندي ما ذهب إليه ابن تيمية وابن القيم من أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد، إما أن يكون القياس فاسدا أو أن يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص لكونه من.... وينبني على هذه القاعدة أن السلم مشروع وفق القياس؛ لأن مشروعيته ثابتة بالنص، وينبني عليها أيضًا أن القياس الذي قال بعض الفقهاء: إن السلم جاء على خلافه، قياس فاسد. وقد أثبت فساد هذه الأقيسة الثلاثة في البحث في كلام طويل أتركه لتقرءوه. قياس السلم على بيع المعدوم قياس غير صحيح، قياس السلم على بيع ما ليس عندك قياس غير سليم أيضا، وقياس السلم على بيع الغرر أيضا قياس غير سليم.

شروط صحة عقد السلم: يشترط في السلم ما يشترط في البيع، قلنا: إن السلم هو نوع من البيع فيشترط فيه ما يشترط في البيع، غير أن جمهور الفقهاء على حسب رأيهم يستثنون من قاعدة (يشترط في السلم ما يشترط في البيع) شرط وجود المحل عند العقد، وذلك لأنهم يرون أن بيع المعدوم منهي عنه. وستجدون الكلام هذا فيما تقدم. وهناك شروط خاصة ينفرد بها عقد السلم عن عقد البيع، وقد ركزت على ثلاثة من هذه الشروط.

الشرط الأول: أن يكون المسلم فيه مؤجلا – وقبل أن أدخل في هذا أود أن أقول: إن ما تقدم ليس فيه خلاف يذكر بالنسبة للبحوث التي قرأتها – وهذا شرط اشترطه جمهور الفقهاء لصحة عقد السلم على اختلاف بينهم في مدة الأجل، فالسلم الحال لا يجوز عند جمهور الفقهاء.

ص: 447

وقال الشافعية: يجوز السلم حالا مؤجلا، وممن قال بالجواز: أبو ثور وابن المنذر، واحتج الجمهور بأدلة ذكرتها في البحث واحتج الشافعية أيضا بأدلة أوردتها وفندتها، ورأي الجمهور أولى بالقبول عندي لقوة دليله وضعف دليل الشافعية. ويتفرع على هذا الشرط الحديث عن مدة الأجل، فقد اختلف جمهور القائلون باشتراط الأجل في السلم في أقل مدة الأجل اختلافا كبيرا، والمفتى به عند الحنفية أن أقله شهر، وهو المعتمد في المذهب، وقيل ثلاثة، وأقوال كثيرة في كل مذهب من المذاهب. ويشترط عند الحنابلة أن يكون الأجل مدة لها وقع في الثمن، كالشهر وما قاربه. وللمالكية تفصيل في هذا.

والذي أراه ألا نجعل حدا لأقل الأجل، كما أنه لا حد لأكثره، ويترك تحديد مدة الأجل لاتفاق المتعاقدين؛ لأن النص الذي أوجب الأجل في السلم لم يحدد مدة لأكثره كما لم يحدد مدة لأقله، وإنما اشترط أن يكون الأجل معلوما، فيجب الوقوف عند ما أمر به النص. يتفرع –أيضا-عن هذا الشرط العلم بالأجل، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء في أن العلم بالأجل في السلم شرط لصحة العقد.

خلاصة آراء الفقهاء في هذا الموضوع، يعني الفقهاء بعد أن اتفقوا على أنه لا بد من العلم بالأجل اختلفوا في بعض أنواع الجهالة على نحو اختلافهم في جهالة الأجل في الثمن، لا خلاف في هذا، والثمن في الدين الذي يفسد البيع.

ص: 448

خلاصة الآراء في الموضوعين – البيع وفي السلم – وهي أن الجهالة التي ترجع إلى وجود الأجل تفسد العقد باتفاق، وذلك مثل التأجيل إلى حبل الحبلة أو إلى قدوم حاج معين، أما الجهالة التي ترجع إلى وقت حصول الأجل أي التي يكون فيها الأجل محقق الحصول لكن الوقت الذي سيحصل فيه غير محدد مثل البيع أو السلم إلى الحصاد أو إلى قدوم الحاج، فقد اختلفوا في إفسادها للعقد، فقال الحنفية، والشافعية، والحنابلة في رواية، والظاهرية، والشيعة الإمامية: هي مفسدة للعقد –الجمهور-كالجهالة التي ترجع إلى وجود الأجل، وقال المالكية والحنابلة في رواية: لا تفسده. وإني أرجح رأي المالكية في أن الجهالة التي ترجع إلى وقت حصول الأجل لا تفسد العقد، لأن الأجل سيجيء حتماً، وقد يكون للعاقد غرض صحيح من هذا التأجيل، كما في التأجيل إلى الحصاد وكون الحصاد يتقدم أو يتأخر بعض الشيء هذا لا يؤثر. هذا وقد اشترط بعض الفقهاء أن يكون الأجل معلوما بالأهلية، وقد شدد الشافعي في هذا حتى أبطل العقود التي يكون فيها مؤجلًا إلى أجل غير محدد بالأهلية، واستدل بالآيات التي وردت في هذا الشأن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] إلى آخر الآيات التي من هذا القبيل.

هذا ولا نزاع في أن الأجدر بالمسلمين أن يعلموا آجالهم بالأهلة ما أمكن، لأن الله ذكرها في كتابه العزيز، وأخبر أنها مواقيت للناس، ولكني لا أرى ذلك أمرا لازما يترتب عليه على عدمه فساد عقود المسلمين كما يرى الإمام الشافعي؛ لأنه ليس ثمة دليل نقلي ولا عقلي على إلزام المسلمين بذلك، والأدلة التي ساقها الإمام الشافعي تدل على أن الأهلية مواقيت للناس، ولكنها لا تدل على أن المواقيت لا تكون بغيرها، ومن أجل هذا خالف فقهاء الشافعية إمامهم في هذه المسألة، فاعتبروا الأهلة وغيرها مما يعرفه الناس أجلا معلوما.

ص: 449

الشرط الثاني: أن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل.وهذا شرط متفق عليه بين جميع الفقهاء؛ لأن المسلم فيه واجب التسليم عند حلول الأجل فلا بد أن يكون تسليمه ممكنا حينذاك وإلا كان من الغرر الممنوع، وعلى هذا فلا يجوز أن يسلم في ثمر إلى أجل لا يعلم وجود ذلك الثمر فيه أو لا يوجد فيه إلا نادراً، كما لا يجوز أن يسلم في ثمار نخلة معينة أو ثمار بستان بعينه، وقد كان أهل الجاهلية حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون في ثمار نخيل بأعيانها فنهاهم عن ذلك، وقصة اليهودي معروفة.

يترتب على هذا الشرط عند جمهور الفقهاء أن وجود المسلم فيه عند العقد ليس شرطًا عند الجمهور، فلا يشترطون وجود المسلم فيه عند العقد ولا بعده قبل حلول الأجل. الشرط هو (وجوده عند حلول الأجل) فلا يضر عندهم عدم وجوده عند العقد، كما لا يضر انقطاعه بين العقد والأجل، واستدلوا لهذا ببعض الأدلة وخالفهم الحنفية فقالوا: يشترط وجود المسلم فيه في الأسواق من حين العقد إلى حين حلول الأجل، ولو لم يكن موجودا عند المسلم إليه، لكن وجوده في الأسواق لا بد منه فالسلم عند الحنفية لا بد أن يكون في إبان وجود المسلم فيه، فلو كان المسلم فيه موجودا عند العقد وغير موجود عند حلول الأجل لا يجوز السلم، وهذا محل اتفاق، وكذلك لا يجوز السلم عند الحنفية إذا كان المسلم فيه موجودا عند حلول الأجل، ولكنه غير موجود عند العقد، أو كان موجودًا عند العقد وعند حلول الأجل، لكنه انعدم فيما بين ذلك. كل هذه عندهم تفسد العقد. وينبني على هذا الشرط أن السلم عند الحنفية ليس من بيع المعدوم، وإنما هو من بيع ما ليس مملوكا للبائع. عند الجمهور قد يكون من بيع المعلوم وقد يكون من بيع ما ليس مملوكا للبائع، أما عند الحنفية فهو من بيع ما ليس عند البائع وليس من بيع المعدوم.

ص: 450

الشرط الثالث: قبض رأس مال السلم في مجلس العقد.

يشترط في السلم رأس ماله في مجلس العقد، فلو تفرق المتعاقدان قبل التسليم بطل العقد، وهذا رأي جمهور الفقهاء.

المالكية يجوزون تأخير قبض رأس مال السلم إلى ثلاثة أيام. ويرى الغزالي أن الغرض من الشرط جبر الغرر في الجانب الآخر، ويريد من ذلك كما يقول الرافعي: أن الغرر في المسلم فيه احتمل للحاجة فجبر ذلك بتأكيد العوض الثاني بالتعجيل لئلا يعظم الغرر في الطرفين. وجهة نظر الشافعية في هذا، هذا الكلام متمش مع الرأي القائل: إن السلم عقد غرر جوز للحاجة. ويبدو لي أن هذا الشرط ليس الغرض منه تخفيف الغرر لأنه غرر في مجرد التأجيل، وإنما هو شرط يتفق مع طبيعة عقد السلم والحاجة التي شرع من أجلها، وهي احتياج المسلم إلى المسلم إليه إلى المال قبل حصوله على المسلم فيه. ولهذا فإني لا أرى ما يمنع تأجيل رأس المال إلى أجل قريب أو بعيد بشرط أن يكون أقل من أجل المسلم فيه وهذا الرأي له سند من المذهب المالكي؛ لأن المالكية كما قلنا يرون أن التأخير إلى ثلاثة أيام لا يضر ولو كلن مشروطا في العقد ما لم يكن السلم قريبا كيومين.

يتفرع على هذا الشرط بعض المسائل منها:

قبض رأس المال وتأخير بعضه. هل يصح هذا لا؟

إذا قبض المسلم إليه بعض رأس مال السلم ثم تفرقا، صح العقد في المقبوض، وبطل فيما لم يقبض عند الحنفية والشافعية وعلى الصحيح في مذهب الحنابلة، ويبطل في الجميع في رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب المالكية، والأولى إتباع مذهب الحنفية في هذا لأنه لا وجه لبطلان الجزء الذي قبض.

ص: 451

يتفرع أيضا على هذا الشرط: جعل الدين رأس مال السلم.

فإذا كان لرجل في ذمة آخر دين، فجعله رأس مال سلم، لم يصح. وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ من أهل العلم، منهم مالك والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي.

ولو كان رأس مال السلم بعضه نقدا وبعضه دينا فالسلم في حصة الدين باطل لفوات القبض، ويجوز في حصة النقد.

ويرى ابن تيمية وابن القيم جواز هذه المسألة التي حكى ابن المنذر الإجماع على منعها، على أصل مذهبهما في بيع الدين بالدين، ونقلت لكم كلام ابن القيم في هذا. ورأيي بالنسبة لبيع الدين بالدين هو جوازه مطلقا، أعني سواء بيع للمدين أو لغيره بنقد أو بدين ما دام خاليا من الربا أو شبهة الربا، وأن الصورة المجمع على منعها –التي حكاها الفقهاء-هي ما اشتملت على ربا أو شبهة ربا، ومسألتنا هذه تدخل في بيع الدين بالدين لمن عليه دين، ولا تخلو عندي من الربا أو شبهته، لأن الإقدام على مثل هذا العقد يكون غالبا عندما يكون المدين غير قادر على أداء الدين في موعده أو راغبا في تأجيله، فيعمد إلى جعل الدين رأس مال السلم، ويقبل الدائن لأنه سيحصل في الغالب على أكثر من دينه فيدخل هذا في (أخرني وأزيدك) . لهذا فإني أرى منع هذه المعاملة وبخاصة في تحويل القروض التي تمنحها المصارف الإسلامية إلى عقود سلم ولقد وقفت على فتوى لمؤسسة من المؤسسات بجواز هذه المعاملة بناء على رأي ابن تيمية.

ص: 452

يتفرع على هذا الشرط أيضا: اشتراط الخيار في عقد السلم هل يصح أم لا؟ عند الشافعية والحنفية والحنابلة لا يجوز اشتراط الخيار. المالكية لأنهم يجوزون التأجيل أجازوا اشتراط الخيار إلى مدة ثلاثة أيام، واشترطوا فيها بعض الشروط ليس مطلقا هذا. هذه هي الشروط التي يختص بها السلم ورأيت أن أركز عليها، وتجدون في البحوث الأخرى سردا لشروط، بعض البحوث سردتها وبعضها توسع وذكر كل الشروط حتى ما يشترط في السلم وفي غيره لكن رأيت أن أقتصر على هذه الشروط.

الموضوع الذي بعد هذا هو: السلع التي يجري فيها السلم.

وهذه كلها عناوين جاءت من المجمع.

الأصل في السلم أن يكون في الثمار؛ لأنها هي التي جاء ذكرها في الأحاديث الصحيحة، ولكن الفقهاء توسعوا في السلع التي يجوز فيها السلم، والضابط لهذا الموضوع هو: كل مال يجوز بيعه، ويمكن ضبط صفاته، ويثبت دينا في الذمة، يجوز السلم فيه، وكل مال لا يجوز بيعه، أو لا يمكن ضبط صفاته، أو لا يثبت دينا في الذمة، لا يجوز السلم فيه. وقد استخلصت هذه القاعدة من أقوال كثيرة للفقهاء وهم توسعوا في هذا الموضوع وذكروا أصنافا كثيرة ولكل صنف ذكروا ضوابط إلخ. لكن كلها ترجع إلى هذه القاعدة. فالخلاف بينهم يرجع إلى هل: هذه السلعة يمكن ضبطها، أو لا يمكن؟

والواقع مما ذكره الفقهاء أن الأوصاف التي يجب ذكرها في المسلم فيه تختلف باختلاف نوع السلعة، وما نص عليها الفقهاء من الأوصاف التي يجب ذكرها في كل نوع المقصود منه تعيين السلعة المسلم فيها تعيينا يمنع النزاع فيها، بحسب المعروف في زمنهم، فلا يجب علينا الالتزام به في زمننا، ما دامت السلعة قد وصفت بصفة معروفة تميزها عن غيرها، ومن الأمثلة على هذا التي اتفق عليها الفقهاء أن الدور لا يجوز السلم فيها، لكن هذا قد لا يقبل في زماننا، فيمكن للمنازل المصنعة أن تباع سلما؛ لأنه يمكن وصفها مع أن هذا كان مجمعا على فساده في الماضي. وبناء على هذه القاعدة التي ذكرتها فإن السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية (الماركات) المتعددة تعتبر أصنافا متعددة – هذا سؤال ورد في الورقة الخاصة بالسلم – ويشترط فيها ذكر الماركة؛ لأن الماركة هي التي تميزها عن غيرها وهو وصف يترتب عليه اختلاف الثمن والغرض فيجب ذكره.

ص: 453

والموضوع الذي بعده هو: اشتراط قبض بضاعة السلم قبل بيعها، والتي هي بيع المسلم فيه قبل القبض، وهي مسألة الخلاف فيها واسع.

قال ابن قدامة تعليقا على المنع: (أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن؛ ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه.)

قلت: الخلاف في تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه موجود، فقد منع المالكية بيع المسلم فيه قبل قبضه إذا كان طعاما، وجوزوا بيعه قبل قبضه إذا لم يكن طعاما سواء باعه من المسلم إليه أو من غيره، إلا أنه إذا باعه من المسلم إليه قبل الأجل فلا يجوز أن يبيعه بأكثر من الثمن الذي اشتراه به، وإنما يبيعه بمثل الثمن أو بأقل، ويقبض الثمن، وأما إذا باعه من غير المسلم إليه فيجوز بيعه بأكثر من الثمن أو بأقل منه أو بمثله إذا قبض الثمن. ونقلت لكم عبارة عن المدونة تؤدي هذا الكلام، هذا هو مذهب الإمام مالك، وما ذكره ابن قدامة من تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه هو رأي الجمهور وليس إجماعا، وهو الراجح عندي الذي ينبغي العمل به بالنسبة لبيع المسلم فيه من غير بائعه؛ لأنه هو الذي تدل عليه الأحاديث الواردة في بيع ما لم يقبض. والبيع من غير بائعه أما بيعه من بائعه فسيجيء الكلام عنه.

والعلة في تحريم بيع السلعة قبل قبضها هي:

الربا، والغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، والعلة الثالثة أن المسلم فيه قبل قبضه من ضمان البائع ولا يدخل في ضمان المشتري إلا بالقبض، فبيعه قبل قبضه يدخل في النهي عن ربح ما لم يضمن، وقد أشار المغني إلى هذه العلل الثلاث.

بعد هذا الكلام عن المراد بالقبض ولا بد من ذكره لأنه انبنى عليه جواب عن سؤال.

اختلف الفقهاء في المراد بالقبض فيما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر (المنقول) وهذا السلم لا يكون إلا في المنقول، والذي أرجحه هو أن المنقول إذا كان مقدرا فقبضه يكون باستيفاء قدره، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، وإذا كان جزافا فقبضه بنقله من مكانه، وهو مذهب الحنابلة ورواية عند المالكية، وفيما عدا المقدر والجزاف يكون القبض بما يعتبره العرف قبضا، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وذلك عملا بالأحاديث المصرحة بالأمر بالكيل فيما بيع بالكيل، والأحاديث المصرحة عن بيع الجزاف حتى ينقل، وعملا بالعرف فيما لم يرد فيه نص.

ص: 454

ويتضح من هذا أنه لا يغني عن القبض التحقق من قدرة المسلم إليه على توفير السلعة عند حلول الأجل، ولا التأمين على السلعة المسلم فيها، ولا في وجودها في مخازن عمومية منظمة؛ لأن قدرة المسلم إليه على تسليم السلعة عند حلول الأجل شرط لصحة عقد السلم، فلو كان المسلم إليه غير قادر على التسليم أو شاكا فيه لا يجوز العقد من الأصل. ووجود السلعة في مخازن عمومية منتظمة محقق للقدرة على التسليم ولكنه ليس قبضا.

والتأمين على السلعة ضرب من الضمان وليس قبضا، ثم إن علة منع بيع المسلم فيه قبل قبضه ليست هي احتمال عدم القدرة على تسليمه وحدها، حتى يقال: إذا انتفت العلة بتحقق القدرة على التسليم ينتفي المانع ويصح البيع، فهناك علة الربا وعلة عدم دخول السلعة في ضمان المشتري.

مسألة أخرى هي: الاستبدال بالمسلم فيه، أو بيع المسلم فيه إلى المسلم.

لا يجوز عند الحنفية والشافعية والحنابلة ويأخذ المسلم غير ما أسلم فيه بدلا عنه قبل أن يقبضه. ونقلت في هذا نقولا هي بين أيديكم وهي عن السمرقندي وابن قدامة والنووي كل هؤلاء يمنعون. ويجوز عند المالكية قضاء المسلم فيه بغير جنسه، سواء أكان القضاء قبل الأجل أو بعده بشروط ثلاثة هي:

الشرط الأول: أن يعجل البدل المدفوع لئلا يكون من فسخ الدين في الدين، وهم يمنعون هذا.

الشرط الثاني: ألا يكون المسلم فيه طعاما، ليسلم من بيع الطعام قبل قبضه، وهذا يمنعه المالكية أيضا.

الشرط الثالث: أن يكون سلم رأس المال في الموضوع من غير الجنس صحيحا.

يتضح من هذا أن المانعين للاستبدال، وهم الحنفية والشافعية والحنابلة، اعتمد بعضهم على حديث:((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ، وهذا مما استدلوا به، واعتمدوا جميعا على أن الاستبدال بيع للمبيع قبل قبضه، وبيع المبيع قبل قبضه لا يجوز، ولا فرق عندهم بين بيعه من بائعه أو من غيره.

والمالكية المجوزون للاستبدال ساروا فيه على رأيهم في بيع المبيع قبل القبض، فأجازوه في غير الطعام بشرط تعجيل البدل، وصلاحيته لأن يكون مسلما فيه لرأس مال السلم. وأرى جواز الاستبدال، سواء أكان المسلم فيه طعاما، أم غير طعام، بشرطين:

ص: 455

الشرط الأول: أن يكون البدل صالحا لأن يجعل مسلما فيه لرأس مال السلم، لأن البدل سيحل محل المسلم فيه، فيشترط فيه ما يشترط في المسلم فيه.

الشرط الثاني: ألا يكون البدل أكثر من المسلم فيه لئلا يربح المسلم مرتين كما يقول ابن عباس. وهذا الرأي متفق مع رأي ابن عباس ومع رأي المالكية في غير الطعام مع إسقاط شرط تعجيل البدل، لأني لا أرى مانعا من التأجيل ما دام المسلم لن يأخذ أكثر من المسلم فيه. ولكنه مخالف لرأي الجمهور مخالفة واضحة، وسبب اختلافي مع الجمهور هو أن الدليلين اللذين اعتمد عليهما الجمهور غير مقبولين عندي.

فالدليل الأول – وهو الحديث الذي أورده الحنابلة لم تثبت صحته، فلا يحتج به.

والدليل الثاني، وهو كون الاستبدال بيعا للمبيع قبل قبضه المنهي عنه، غير مسلم به؛ لأن استبدال غير المسلم فيه بالمسلم فيه ليس بيعا، ولو سلمنا بأنه بيع، فلا نسلم بأنه بيع للمبيع قبل قبض المنهي عنه، لأن بيع المبيع قبل قبضه المنهي عنه هو بيعه من غير بائعه، لأن هذا هو الشأن في البيع، والاستبدال، على تسليم أنه بيع، هو بيع للمسلم فيه من بائعه. إن العلل الثلاثة التي ذكرها الفقهاء للمنع من بيع المسلم فيه قبل قبضه لا تتحقق في الاستبدال الذي أجزته، فعلة الربا، وعلة ربح ما لم يضمن لا تتحقق إلا في البيع بأكثر من الثمن الأول، وهذا هو الشأن في بيع المبيع من غير بائعه، ومع هذا فقد اشترطت في الاستبدال ألا يكون البدل لكثير من المبدل –المسلم فيه-وأما علة الغرر فغير متصورة في الاستبدال.

وزيادة على هذا فإنه قد تكون هناك حاجة إلى هذا الاستبدال، وبخاصة بالنسبة للمزارعين، فقد يصعب على المزارع الحصول على ما تعاقد عليه، ويكون عنده غيره، وقد حدث هذا مرارا عندنا في السودان، بين بعض المزارعين والبنوك التي تتعامل بعقد السلم، واستفتيت فيه، فأفتيت بجواز الاستبدال.

ص: 456

السلم المتوازي:

هذا اصطلاح حادث المراد به –كما جاء في مخطط المجمع-استخدام صفقتي سلم متوافقتين دون ربط بينهما.

وواضح من المصطلح أنه لا يوجد ربط لفظي في العقد بين السلمين، ولكن الربط حاصل في الواقع؛ لأن رب السلم الأول يبيع سلعة لرب السلم الثاني بنفس المواصفات والمقدار، وإلى نفس الأجل الذي سيتسلم فيه السلعة التي أسلم فيها، وفي نيته أنه سيتسلمها من المسلم إليه، ويسلمها إلى من تعاقد معه، ولكنه لا يصرح بهذه النية، ويبرم عقد سلم ظاهره الاستقلال عن العقد الأول، وباطنه الربط بينهما.

وفي رأيي أن هذا السلم المتوازي هو حيلة لبيع المسلم فيه قبل قبضه، فهل هذه الحيلة مقبولة شرعا؟

هذه الحيلة لا تتحقق فيها علتان من ثلاث العلل التي ذكرها الفقهاء لمنع بيع المسلم فيه قبل قبضه:

أولا:

لا تتحقق فيه علة دخول بيع المسلم فيه قبل قبضه في ربح ما لم يضمن المنهي عنه؛ لأن المسلم فيه دين في ذمة المسلم إليه فهو في ضمانه. ولا يؤثر في هذا نية المسلم إليه في أن يؤدي هذا الدين من السلم الأول، وهذا شبيه بالمزارع الذي يبيع سلما في ذمته من غير أن يربطه بمحصول أرضه، وفي نيته أن يوفى من محصوله. هذا لا يضر.

ثانيا:

ولا يتحقق فيه –أيضا-علة الغرر، لأن المسلم إليه لا يبيع عين السلعة التي اشتراها من المسلم إليه الأول، وإنما يبيع سلعة موصوفة في الذمة تتوافر فيها شروط المسلم فيه.

ولكنها لا تخلو من علة الربا التي أشار إليها ابن عباس بقوله: ((ذاك بدراهم والطعام مرجأ)) ، وبخاصة إذا اتخذ هذا الأسلوب من السلم المتوازي بقصد التجارة والربح. وتكرر السلم المتوازي للمعاملة الأولى، ويدخله مانع آخر هو الضرر الذي يصيب المستهلك من ارتفاع سعر السلعة قبل أن تصل إليه بسبب انتقالها لأكثر من تاجر.

ولهذا فإني أرجح منع هذه المعاملة، إلا إذا احتاج رب السلم الأول إلى نقود قبل أن يحل أجل السلم، ولم يجد من يقرضه فيجوز له في هذه الحالة أن يلجأ إلى السلم المتوازي، بل يجوز له إذا كان المسلم فيه غير الطعام أن يبيعه قبل قبضه ليقضي حاجته عملا بمذهب المالكية. الذي رجحته رأي الجمهور.

ص: 457

إصدار سندات سلم قابلة للتداول:

لا يجوز عندي إصدار سندات سلم قابله للتداول؛ لأن هذا سيؤدي حتما إلى بيع المسلم فيه قبل قبضه، سواء أكان المسلم فيه طعاما، أم غير طعاما، غير أنه إذا كان المسلم فيه طعاما، فالمنع يكون بإجماع الفقهاء، للأحاديث الصحيحة الواردة في منع بيع الطعام قبل قبضه، وإذا كان المسلم فيه غير طعام فقد رأينا أن الجمهور يمنعون بيعه قبل قبضه، ولو كان لمرة واحدة فكيف إذا تداولته الأيدي؟ أما المالكية فإنهم يجوزون للمسلم أن يبيع المسلم فيه قبل قبضه إذ لم يكن طعام مرة واحدة ولكنهم لا يجوزون لمن اشتري منه أن يبيع ما اشتراه قبل قبضه، وهذا لم يقل به أحد. فإصدار سندات سلم قابله للتداول لا يجوز عند جميع الفقهاء في رأيي.

عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم ومشروعية الشرط الجزائي من تأخير تسليم البضاعة:

إذا عجز البائع (المسلم إليه) عن تسليم البضاعة (المسلم فيه) عند حلول الأجل، فإن كان عجزه عن التسليم سببه عدم وجود المسلم فيه عند حلول الأجل، فإن المشتري (المسلم) يخير بين الانتظار إلى أن يوجد المسلم فيه، وفسخ العقد وأخذ الثمن (رأس مال السلم) .

هذا هو مذهب الحنفية، وقول ابن القاسم من المالكية وقول عند الشافعية وهناك أقوال في هذا لا داعي لها. المسلم إليه فالواجب انتظاره إلى الميسرة، والخير في التصدق عليه. وأما إن كان عدم التسليم سببه امتناع المسلم إليه عن التسليم مع يساره فإن حكمه هو حكم المدين المماطل الذي أصدر فيه مجمع الفقه الإسلامي القرار التالي:

يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعا اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.

وإذا كان اشتراط التعويض لا يجوز، فإن الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم البضاعة (المسلم فيه) في بيع السلم، لا يجوز من باب أولى. وقد أجاز هذا بعض الإخوة الذين قدموا بحوثهم في هذا.

ص: 458

ننتقل إلى النقطة الأخيرة وهي:

تطبيقات السلم المعاصرة:

وهذه المسألة لم أجد من كتب فيها ممن اطلعت على بحوثهم.

عقد السلم يمكن أن يطبق في مجالات عديدة، ويكون بديلا شرعيا للتمويل بالقرض بالفائدة في كل المجالات التي يحتاج فيها إلى التمويل في المجال الزراعي، والصناعي، والتجاري، ويحقق مصلحة الممول – المسلم إليه – بإمداده بالمال اللازم له في زراعته، وصناعته، وتجارته، ويحقق مصلحة الممول – المسلم – في الحصول على المنتجات الزراعية والصناعية والتجارية بأثمان رخيصة ومشروعة، تمكن من الربح الحلال، وفي تحقيق مصلحة الممول. وللممول تحقيق لمصلحة المجتمع بتشجيع الزراعة والصناعة والتجارة التي تعود على الناس جميعا بالنفع، وتخليص المجتمع من الأضرار التي تصيبه من التعامل بالربا، وسد حاجة الناس جميعا لهذا التعامل، وهذه هي الحكمة من مشروعية عقد السلم: يقول ابن قدامة في هذا المعنى (ولا بالناس حاجة إليه – السلم – لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكتمل، وقد تعوزهم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا، ويرتفق المسلم بالاسترخاص) .

هذا وتستطيع البنوك الإسلامية أن تتعامل بعقد السلم في مجال الزراعة والصناعة والتجارة وجميع المجالات التي يحتاج فيها المتعامل معها إلى تمويل، ولكن الواقع أن البنوك الإسلامية لم تطبق صيغة السلم في استثماراتها – وبخاصة عندنا في السودان – إلا في المجال الزراعي، ولهذا سيكون حديثي عن هذه المسألة خاصا بتطبيق البنوك الإسلامية لعقد السلم في مجال الزراعة.

تعامل السودانيون بعقد السلم في مجال الزراعة قبل وجود البنوك، وكان يسمى عندنا (الشيل) فكان التجار يشترون من المزارعين المحتاجين إلى المال قبل الزراعة، ويدفعون ثمن ما يشترونه مقدما، ولما قامت البنوك أخذت تمول المزارعين بطريق القرض بفائدة، فتعامل معها بعض المزارعين وامتنع البعض، واستمروا في التعامل مع التجار وكانت معاملة بعض التجار للمزارعين لا تخلو من استغلال لحاجتهم، فتدخلت الدولة، وسنت قانونا يجيز للمزارع رفع الأمر إلى القضاء لتعديل السعر في حالة الاستغلال.

وعندما منعت البنوك التعامل بالفائدة، وكان من بين تلك البنوك البنك الزراعي، وهو بنك حكومي متخصص، وهو الممول الأول للمزارعين، طلب من هيئة الرقابة الشرعية البديل فقدمت له عقد السلم التالي: الذي أصبح نموذجا لسائر البنوك، نموذج العقد موجود في بحثي.

النقطة الأخيرة وهي:

ص: 459

المشاكل التي تصاحب التعامل بعقد السلم:

لعل أهم مشكلة تعترض التعامل بعقد السلم هى تحديد الثمن، ففي التعامل بين التاجر والمزارع يوجد احتمال استغلال التاجر لحاجة المزارع، وهذا الاحتمال غير وارد في حالة تعامل البنك الإسلامي مع المزارع، لأن السعر تحدده لجنة من اتحاد المصارف واتحاد المزارعين، ولكن مع هذا قد يرتفع السعر عند حلول الأجل، فيقع نزاع بين الطرفين، وقد حدث هذا بالفعل أكثر من مرة، فعالجته هيئة الرقابة الشرعية بإدخال البند الثامن في عقد السلم –بند إزالة الغبن-الذي وافق عليه المزارعون والبنوك.

والمشكلة الثانية هي مشكلة عدم تمكن المزارع من الوفاء بالتزاماته بسبب شح المحصول وقد وضع علاج لهذا البند السابع في عقد السلم لحلها.

والمشكلة الثالثة هي عدم وفاء المزارع بالتزاماته مع يساره، ومقدرته على الوفاء، ولكنه يتعلل بعلل غير شرعية، مثل قلة محصول مزرعته، وقد وضعت الهيئة البند الخامس والسادس في العقد مثل هذه الحالات، ولكن البنوك لا تستطيع في كثير من الحالات العمل بهذين البندين لأن المزارع لا يكون عنده رهن ولا ضامن.

وعلى أي حال التجربة مستمرة في السودان على الرغم من شكاوى بعض البنوك من مماطلة بعض المزارعين.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 460

الرئيس:

شكرا، والشيخ نزيه حماد في دراسته تعرض للتطبيقات المعاصرة لبيع السلم، فلعله يتفضل.

الشيخ نزيه كمال حماد:

بسم الله الرحمن الرحيم،

لن أتعرض للجانب الفقهي الذي تكلم عنه باستفاضة فضيلة الشيخ الصديق الضرير وسأقتصر على الكلام عن التطبيقات المعاصرة لعقد السلم، ولكن باعتبار أن هناك أمرا جوهريا بنيت عليه بعض التطبيقات وأخالف فيه فضيلة الشيخ بصورة جذرية لا بد أن أنوه إلى مخالفته في رأيه في عدم جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه والاعتياض عنه، وذلك أني أرى جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه بغير المدين وهو رأي الإمام ابن تيمية وابن القيم، حيث إنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس كما يقول ابن القيم، بل إن النص والقياس يقتضيان الإباحة.

والأمر الثاني، قضية السلم الموازي فلست أرى أي مستند شرعي يعول عليه في منع تحريم السلم الموازي كما قال فضيلة الشيخ الضرير.

أما قضية التطبيقات المعاصرة لعقد السلم فمن المعلوم أن هذا العقد كما كان بالغ الأهمية كباب من المداينات في العصور التي خلت والأزمان التي سلفت، فإنه يعد في عصرنا الحاضر أداة تمويل (ائتمان) ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية من حيث مرونتها، واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة سواء أكان تمويلا قصير الأجل أو متوسطة أو طويلة واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة من العملاء، سواء أكانوا من المنتجين الزراعيين أو الصناعيين أو المقاولين أو من التجار، واستجابتها إلى تمويل نفقات التشغيل والنفقات الرأسمالية الأخرى.

وعلى هذا فمجالات تطبيق العقد متعددة، فهو يصلح للقيام بتمويل عمليات زراعية مختلفة، حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقعون أن تتوفر لهم السعادة في الموسم من محاصيلهم أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم، فيقدم لهم بهذا التمويل نفعا بالغا ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم.

كما أنه يمكن استخدامه في تمويل النشاط التجاري والصناعي، ولا سيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة، وذلك بشرائها سلما وإعادة تسويقها بأسعار مجزية.

ص: 461

وكذلك يمكن تطبيقه في تمويل الحرفيين وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين عن طريق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات، أو مواد أولية كرأس مال سلم مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها.

كذلك يمكن استخدامه في تمويل تجارة خارجية، وذلك بقيام المصرف الإسلامي بشراء المواد الأولية من المنتجين سلما، ثم إعادة تسويقها عالميا بأسعار مجزية إما نقدا أو بجعل هذه الصادرات رأس مال سلم من أجل الحصول في مقابلها على سلع صناعية أو غير ذلك.

ويمكن أيضا اللجوء إليه في تمويل الأصول الثابتة كبديل للتأجير التمويلي، حيث يقوم المصرف بتمويل الأصول الثابتة اللازمة لقيام المصانع الحديثة أو لإحلالها في المصانع القديمة القائمة وتقديم تلك الأصول كرأس مال سلم مقابل الحصول على جزء من منتجات تلك المصانع على دفعات وفقا لآجال تسليم مناسبة. ولا يخفى أن خاصية عقد السلم وهي كونه عقد على موصوف في الذمة منضبطا بالمواصفات المحددة طبقا لمقاييس دقيقة معروفة تجعل نطاقه شاملا للمنتجات الزراعية كالحبوب والزيوت والآليات، والمنتجات الصناعية كالحديد والإسمنت والسيارات والطائرات، ومنتجات المواد الخام أو نصف المصنعة كالنفط والكلينكر وغيرها.

ويمكن للمسلم –أي المشتري-فيما بين تاريخ عقد السلم وتاريخ قبض المسلم فيه أن يكون مسلما إليه –أي بائعا-في سلعة مماثلة وبشروط مماثلة لشرط عقد السلم الأول الذي أبرمه أو بشروط معدلة وهو ما يعبر عنه بالسلم الموازي.

أما عن الأمثلة والصيغ التطبيقية المعاصرة فإليكم الصور التالية:

ص: 462

الصورة الأولى:

يوجد مصنع ياباني لسحب وتشكيل قضبان الحديد يحتاج إلى تمويل لشراء كتل الحديد اللازمة ويحصل عادة على التمويل اللازم من البنك بفائدة بأجل يمتد حتى تاريخ تسويق منتجاته. ففي مثل هذه الحال يقوم المصرف الإسلامي بعرض التمويل اللازم على أساس عقد السلم، فيأخذ مقابل التمويل المنتجات المصنعة من منتجات الحديد، ويتبرمج مواعيد وأمكنة التسليم، ويتفق مثلا أن يكون التسليم في ميناء التصدير أو ميناء الاستيراد، وفيما بين تاريخ إبرام العقد وتاريخ التسليم يمكن للمصرف الإسلامي أن يجري عقدا أو عقود سلم مع مستثمرين آخرين يكون المصرف فيها في موقف المسلم إليه (أي البائع) حيث يلتزم بتوريد قضبان حديد مماثلة لقضبان الحديد التي أبرم عقد السلم عليها من المصنع، وذلك بشروط مماثلة لعقده مع مصنع أو بشروط معدلة. كما يمكن للمصرف بدلا عن ذلك أن ينتظر حتى يتسلم القضبان، فيبيعها للموردين في البلد المستورد أو لتجار التجزئة بثمن حال أو مؤجل.

وعلى العكس من الصورة السابقة يمكن أن يسبق زمنيا عقد السلم الذي يبرمه المصرف مع المستثمرين ويكون فيه مسلما إليه ملتزما بعقد السلم الذي أبرمه المصرف مع المصنع الياباني وكان المصرف فيه في موقف المسلم –أي المشتري-ويمكن للمصرف التوغل إلى مرحلة سابقة بأن يقوم بإبرام عقد سلم مع مصنع للصلب ينتج كتل الحديد يحتاج لتمويل شراء خام الحديد حيث يقوم المصرف بالتمويل النقدي في مقابل الحصول على كمية مناسبة من كتل الحديد يتم بيعها لمصنع القضبان.

ص: 463

الصورة الثانية:

يحتاج مصنع إسمنت الجنوب –مثلا-إلى تمويل نفقات التشغيل فيتقدم المصرف الإسلامي بعرض التمويل في نظير أخذ كمية مناسبة من الإسمنت يتفق على تسليمها في موعد واحد أو مواعيد مختلفة في مكان المصنع أو في مواضع أخري، فإذا احتيج إلى تدرج التدفق النقدي بالنسبة للمصنع فيمكن بدلا من إبرام عقد واحد إبرام عقود متعددة لهذا الغرض، وفي الوقت نفسه بين تاريخ تقديم التمويل وتاريخ التسليم يمكن للمصرف الإسلامي إبرام عقود سلم مع المقاولين مباشرة، أو مع مستثمر وسيط، يكون محلها إسمنتا مصنعا بمواصفات الإسمنت الذي تعاقد المصرف مع المصنع على شرائه بعقد السلم، كما يمكن للمصرف الانتظار حتى يتسلم من المصنع الإسمنت الذي التزم به فيبيعه للمقاولين بثمن ناجز أو مؤجل.

وعلى العكس من الصورة السابقة يمكن أن يسبق زمنيا عقد السلم الذي يكون المصرف فيه مسلم إليه-أي بائعا للإسمنت-عقد السلم الذي يبرمه المصرف مع المصنع ويكون المصرف فيه مسلما، أي مشتريا.

وهناك تفصيلات أخرى حول هذه الطريقة الثانية في استخدام عقد السلم نفصل بيانها في الصورة الثالثة الآتية:

ص: 464

الصورة الثالثة:

يمكن تطبيق عقد السلم بتمويل شراء المصرف للسلع التي تنتجها المصانع المحلية ثم قيامه ببيعها من خلال الوسطاء الذين يتولون أمر توزيعها حاليا وفي السوق الداخلية،ويقتضي تطبيق هذا الاقتراح أن يختار المصرف بعناية السلع التي سيتعامل بها بحيث تكون مما يقبل التخزين مدة ملائمة مع تحديد سعر شراء البنك لها على نحو يأخذ بالحسبان الدورة الزمنية المعتادة لتصريفها، وكذلك نفقات التخزين ونحوها من التكاليف، وكذا تقلبات الأسعار المعتادة في تلك السلع. وفي الوقت الذي يدخل فيه المصرف بعقد سلم لشراء السلع يدخل بعقود مع الوسطاء الموزعين لتلقي السلع نيابة عن المصرف وتخزينها لديهم ثم بيعها لحساب المصرف، ويمكن للمصرف أن يتفق مع أولئك الوسطاء على أن يبيعوا السلع لأجل مع أخذ الضمانات اللازمة للدين، وبذلك يكون المصرف قد استخدم أمواله في تمويل شراء السلع سلما بأسعار منخفضة نسبيا ثم بيعها بعد قبضها لأجل بأسعار مرتفعة نسبيا، وهذا التمويل يحيط بالسلعة من الجانبين، عقد سلم للشراء ثم عقد بيع لأجل للتسويق، ويتيح المصرف مجالا واسعا لاستثمار موارده.

الصورة الرابعة:

يمكن للمصرف الإسلامي أن يعقد سلما مع شركة منتجة للنفط -ولنفرض أرامكو السعودية مثلا-تلتزم بموجبه تلك الشركة بتسليم كمية محددة من النفط الموصوف في الذمة بتاريخ معين على الناقلة الراسية في ميناء التصدير برأس تنورة، ويمكن للمصرف بين تاريخ إبرام عقد السلم مع دفعه الثمن حالا والتاريخ المتفق عليه لتسليم النفط أن يبرم عقود سلم موازية مع المستهلكين مباشرة أو مع مستثمر وسيط، يكون محل التزام المصرف في تلك العقود نفطا مماثلا في مواصفات وبشروط مماثلة أو معدلة. ويمكن للمصرف الانتظار حتى يتسلم النفط –أي المسلم فيه-ثم يبيعه للمستهلكين أو لمن يشاء بثمن ناجز أو مؤجل.

ص: 465

الصورة الخامسة:

يشتري المصرف الإسلامي كمية من الإسمنت –مثلا-على أساس عقد سلم -كما بيناه-ويتضمن العقد أن يضع المصنع كمية الإسمنت بعد إنتاجها بسعر ناجز أو مؤجل لا يقل عن المقدار الذي يحدده المصرف، ويمكن للمصرف أن يجعل للمصنع أجرة على البيع مبلغا محددا أو نسبة من ثمن المبيع، ويمكن أن يكون للبيع المشار إليه نقدا، كما يمكن للمصرف أن يأخذ للمصنع بأن يبيع لأجل بشروط يرتضيها المصرف ومنها أخذ ضمانات كافية للوفاء بالثمن. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن من حق المسلم في الصور السابقة كلها، حتى يطمئن إلى وفاء دين السلم المسلم فيه عند حلول أجله، أخذ رهن أو كفالة به وفقا لقول جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية وبعض محققي الحنابلة وغيرهم كما هو مبين في بحثي الذي هو بين أيديكم.

وليس بخاف أنه حيثما ذكر عقد السلم فإنه مأخوذ في الاعتبار التقيد بالشروط الشرعية للعقد، ومن أهمها فورية دفع الثمن حيث تسليم رأس المال، حيث إنه يحول عمليا دون استغلال عقد السلم لاتخاذه حيلة للتوصل للتمويل بالفائدة الربوية.

أما الصورة السادسة والأخيرة:

وهي إحدى الوسائل المقترحة لتمويل العجز في ميزانية الدولة، وذلك بأن تبيع الدولة المنتجة للنفط مثلا كميات موصوفة في الذمة إلى آجال عديدة بأثمان معجلة بحيث يكون للمسلم –المشتري-في الفترة ما بين تاريخ عقد السلم وتاريخ قبض المسلم فيه:

أن يعقد سلما موازيا فيصير مسلما إليه، وذلك بأن يبيع سلما كمية مماثلة للنفط الذي أسلم فيه القدر والزمن وسائر الأوصاف لطرف ثالث بثمن معجل يزيد على ما اشترى به في السلم الأول، وبذلك يحقق ربحا من مجموع العمليتين ثم تتم تسوية الصفقتين دون ربط بينهما عن طريق التوافق في الكميات والأوصاف والمواعيد. وشكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 466

الدكتور/ عطا السيد:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك، أشكر فضيلة الصديق الضرير على هذا العرض الضافي الجامع للآراء.

تكلمت في بحثي عن الاستفادة من عقد السلم في وقتنا الحاضر وقلت:

أولا: اشتهر عالمنا اليوم بالصناعات والتطور الهائل في التكنولوجيا، فمعظم الشركات تصنع أشياء وتعرضها للبيع في الأسواق ولكن في كثير من الأحيان تطلب بعض الدول أو بعض المؤسسات الكبيرة أشياء معينة بمواصفات معينة لأغراض معينة، وكثير من الشركات قد تطلب الثمن مقدما لتستعين به في إتمام ما طلب عمله فيدفع الثمن على أن يصنع الشيء كما وصف تماما، هذا هو السلف في الصناعات، ويصح ويلزم إذا انطبقت عليه الشروط التي ذكرتها في بحثي.

وفائدة عقد السلم في الصناعات إذا خلا من الشروط الفاسدة تعظم جدا إذا علمنا أن الخلاف بين الفقهاء كبير في لزوم عقد الاستصناع أو عدم لزومه، وعقد السلم في الصناعات لازم بغير خلاف

في الأسواق والمخازن أو التأكد من قدرة المسلم إليه من تسليمها أو التأمين عليها.

ومن الوسائل التي اختلف فيها –أيضا-أخذ المسلم رهنا، ولم أجد نصا يمنع ذلك بل لعل في قوله تعالى في آية الدين التي ذكرت تأكيدا لهذه المسألة. فكمقرر أرجو من الإخوة العلماء أن يولوا هذه المسائل المختلفة بالذات:(السلم الموازي) الجهد اللازم لهذه المسألة حتى تستبين الصورة في أذهاننا وأن يقعدوها التقعيد اللازم حتى نستطيع أن نصدر فيها قرارا سليما، وأراه من المسائل المعاصرة التي تحتاج إلى قرار من مجمعنا هذا إن شاء الله. وبالله التوفيق والهداية.

ص: 467

الدكتور سعود الثبيتي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

عدة نقاط سريعة سوف أتكلم فيها مما أثاره فضيلة الشيخ الصديق (العارض) .

أولى هذه المسائل أو النقاط هي السلم في الحال. حيث ذكر أن السلم في الحال يصح عند الشافعية ولا يصح عند غيرهم. وفي الحقيقة هذه مسألة مبنية على قاعدة معروفة ومعلومة هي: (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني وليست للألفاظ والمباني) .

الأمر الثاني: تأجيل رأس المال إلى أجل أقل من أجل المسلم فيه هذه مسألة –في الحقيقة-مهمة ويمكن التريث فيها خصوصا في المسائل التي لا استصناع فيها، مسائل السلم الخاصة والبحتة، أما مسائل الاستصناع فهذه ينبغي التمييز بينها وبين مسائل السلم. فإن تأجيل رأس المال إلى أجل أقل من أجل المسلم فيه وما ذكر عن المالكية بأنهم يجيزون تأخير رأس مال السلم إلى ثلاثة أيام، هذا في الحقيقة مخالف للدليل الصحيح وهو النهي عن بيع الدين بالدين، وهذا نهي عام لا تخصيص فيه لهذه الصورة خاصة؛ لأن الثمن أصبح مؤجلا والمبيع مؤجلا وهذه من صور الدين التي يظهر لي أنها متفق عليها.

الأمر الثالث: جواز الاستبدال للمسلم فيه بغيره. النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) . وكذلك نهي عن بيعتين في بيعة، وإذا استبدل المسلم فيه بشيء آخر فقد صرف إلى غيره وقد حصل بيعتان في بيعة وكلا الأمرين ممنوع.

الأمر الرابع: السلم الموازي، يقول فضيلة الشيخ الضرير:(إنه إذا احتاج المسلم إلى نقود يجوز له بيع المسلم فيه قبل قبضه.) وفي الحقيقة يعتبر هذا من بيع ما لم يضمن، والربح فيما لم يضمن، وكذلك هو من بيع الدين قبل قبضه. أمر مهم في الحقيقة ينبغي علينا ونحن في هذا المقام وهو التفريق بين مسائل الاستصناع ومسائل السلم. والمجمع الموقر في دورته السابعة قد ميز بين الأمرين وأجاز في أمور الاستصناع أو ما تدخله الصنعة مما يحتاجه المشتري أو يحتاجه التاجر وليس في السوق ما يسد حاجته أو يحقق رغبته إذا كانت تدخله الصناعة أجاز فيه أو أفتى فيه بأنه يجوز الاستصناع سواء دفع رأس المال السلم كله أو جزؤه أو أجل إلى حين التسليم أو على أقساط أو غير ذلك مما أفتى فيه الجمع في تلك الدورة.

الأمر الخامس: مسألة ما إذا كان الدين على المسلم إليه. فضيلة الشيخ ذكر أنه لا يصح جعله رأس مال للسلم، وفي الحقيقة هذه صورة ينبغي أن نحقق وندقق فيها، لأن رأس مال السلم أصبح مقبوضا والنهي إنما هو عن بيع الدين بالدين والنسيئة بالنسيئة، وهذه ليست فها نسيئة وإنما فيها رأس مال للسلم قد أصبح مقبوضا أو هو مقبوض من وقت سابق. فينبغي علينا أن نميز بين هذه الصورة وبين غيرها من الصور التي فيها بيع دين بدين.

وأشكركم على إتاحة الفرصة.

ص: 468

الشيخ آدم شيخ عبد الله علي:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده حبيبنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين، أما بعد.

فإن بحثي المتواضع لا يخرج عن ما ذكره الشيخ الفاضل في عرضه سواء كان من حيث التعريف والشروط، وهل السلم على القياس أو على خلاف القياس، وقد ذهبت إلى ما ذهب إليه من أن قول غير الجمهور هو الراجح وقلت أنا بعد التأمل: أميل إلى ترجيح القول الثاني من أن السلم على وفق القياس وليس مستثنى من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم المنهي عنه.

وتكلمت أيضا عن حكم التصرف في بضاعة السلم قبل قبضها، وذكرت أنه لا يجوز لمسلم إليه أن يتصرف في رأس مال السلم ببيع أو غيره قبل قبضه، كما لا يجوز للمسلم أن يتصرف في المسلم فيه قبل قبضه؛ لأنه بيع منقول، والتصرف في بيع المنقول من بائعه قبل القبض لا يصح. وأما من حيث أخذ البدل منه

وقد ذهب الجمهور كما ذكر الشيخ الفاضل العارض إلى عدم جواز أخذ البدل منه لورود النهي عن ذلك، ولكن أجاز ذلك المالكية، قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا منه ولا تربح مرتين) رواه شعبة. وأما الحديث: ((من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ففيه عطية بن سعد وهو لا يحتج بحديثه، ورجح رأي المالكية ابن القيم، فقال بعد أن ناقش أدلة كل من الفريقين فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة، وذلك إذا كان عقد السلم قائما، وأما إذا انفسخ عقد السلم بإقالة ونحوها فذهب المذهب الشافعي إلى أخذ العوض عن دين السلم من غير جنسه، واختاره أبو يعلى وابن تيمية وقال ابن القيم: وهو صحيح لأن هذا العوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة كسائر الديون من القرض ونحوه.

وذكرت جوابا عن سؤال ورد في موضوع السلم من موضوعات الدورة، هل يغني عن القبض التحقق

في مخازن عمومية منظمة؟ فذكرت –والله أعلم-أنه لا يغني عن القبض التحقق من قدرة المسلم على توفير السلعة عند حلول الأجل أو التأمين على السلعة المسلم فيها أو وجودها في مخازن عمومية منظمة؛ لأن المراد من القبض القبض الشرعي الذي يفيد التملك بالشيء المقبوض، وأما وجود شيء أو ضمان وجوده فليس قبضا في الشرع، لكن يمكن أن يحصل به شرط من شروط صحة السلم للمسلم فيه الذي هو عموم وجود المسلم فيه من وقت العقد إلى المحل عند الحنفية، أو إمكان وجوده غالبا عند الشافعية. وذكرت بعض السلع التي يجوز فيها السلم ثم أخيرا قلت:(ويجوز السلم في تلك السلع المذكورة وغيرها من أصناف المال إذا اجتمعت فيه شرائط السلم، ووصف كل صنف منها بما يليق من أوصافها مما ينفي الجهالة عنها) . ويقول الشيرازي في المهذب تكملة المجموع: (ويجوز السلم في مال يجوز بيعه) . والله أعلم.

ص: 469

الشيخ حسن الجواهري:

بسم الله الرحمن الرحيم، والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين،

وقد نقل الخلاف في صحة بيع الكل الموصوف حالا بين الجمهور والشافعية.

أقول: إن هذا الخلاف إذا كان في خصوص بيع الكل الموصوف حالا على أن يكون سلما، ويوصف بأنه بيع سلم فليس من البعيد أن تكون حجة الجمهور صحيحة في أن عقد السلم لا يصدق إلا إذا كان الثمن مؤجلا، ولكن قد يكون الذي صححه الشافعية وصححه الإمامية –أيضا-هو بيع كل الموصوف حالا وإن لم يسم سلما لأنه بيع؛ وذلك لأن شرط تأجيل الثمن في السلم هو شرط لتحقيق الموضوع والمفهوم. أما إذا لم يكن المثمن مؤجلا فهو بيع مستقل يدخل تحت قوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} و {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} .يبقى ما ذكر في قصة حديث: ((لا تبع ما ليس عندك)) ، فقد روي أن حكيم بن حزام كان يبيع الناس أشياء لا يملكها ويأخذ الثمن منهم ثم يدخل السوق فيشتري الأشياء ويسلمها لهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((لا تبع ما ليس عندك)) .وهذه القصة وإن ثبتت لا بد من تخصيصها في المبيع الشخصي، بمعنى أن حكيم بن حزام كان يبيع أشياء شخصية كانت مملوكة لآخرين فيستلم الثمن ثم يدخل السوق ليشتريها ويسلمها إلى المشتري.

ص: 470

والدليل على التخصيص هو ورود الأدلة الكثيرة الدالة على جواز بيع الكل الموصوف المقدور على تسليمه، سواء أكان موجودا عند البائع أو لم يكن موجودا وإن لم يسم سلما، العمومات التي ذكرتها وأدلة خاصة، بالإضافة إلى وجود رواية صحيحة ينقلها ابن الحجاج تكشف عن هذا الخلاف الذي كان موجودا في ذلك الوقت ينقلها عن الإمام الصادق عليه السلام يقوم عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده فيشتريه منه حالا، قال عليه السلام : ليس به بأس. قلت –أي الراوي-:إنهم يفسدونه عندنا. قال عليه السلام : فأي شيء يقولون في السلم؟ قلت –أي الراوي-:لا يرون فيه بأسا يقولون: هذا إلى أجل فإذا كان إلى غير أجل وليس هو عند صاحبه فلا يصلح. قال الإمام الصادق عليه السلام : إذا لم يكن أجل كان أحق به، ثم قال: لا بأس أن يشتري الطعام وليس هو عند صاحبه إلى أجل وحالا لا يسمى له أجلا إلا أن يكون بيعا لا يوجد مثل العنب والبطيخ في غير زمانه، فلا ينبغي شراء ذلك حالا. طبعا هذه الرواية ينقلها الراوي عن الإمام الصادق، والصادق يقول: إنما نقوله عن آبائنا عن رسول الله. ثم إننا إذا لم نشترط مدة معينة لبيع السلم. كما ذهب إليه الصديق الضرير وتركنا تعيين المدة إلى المتعاقدين؛ لأن النص الذي أوجب الأجل في السلم لم يحدد مدة لا من ناحية الكثرة ولا من ناحية القلة بل اشترط أن يكون الأجل معلوما، وحينئذ يصح أن تكون المدة يوما واحدا، وحينئذ يصح أن يبيع البائع ويقبض الثمن ثم يدخل السوق ليشتري السلعة الكلية ليسلمها إلى المشتري، وإذا صح هذا فما هو الفرق بينه وبين من يبيع الكل الموصوف حالا، ورضي أن يسلمه غدا؟ ثم يدخل السوق ليشتريه، لا، ويقدمه إليه. نعم، الفرق في التسمية إذ يسمى الأول بيع سلم والثاني بيعا حالا. إذن بيع الكل الموصوف حالا صحيح على أنه بيع مستقل تشهد له العمومات، عمومات الكتاب، ولا دليل على بطلانه. نعم، ليس سلما ولكن لا دليل على بطلانه على أنه عقد مستقل لأنه النهي عن بيع ما ليس عندك قد خصص للعين الشخصية التي هي ملك الغير، وأبيعها على أن يكون الثمن لي، فإن هذا البيع هو الذي لم يتحقق فيه معنى المعاوضة. سلعة الغير أبيعها لي، لم يتحقق معنى المعاوضة ومفهومها فيكون البيع باطلا.

ص: 471

بالنسبة إلى منع اشتراط الخيار في عقد السلم كما ذهب إليه الحنفية والشافعية والحنابلة، منعوا من اشتراط الخيار في عقد السلم، وقد ذكر لهذا الحكم هذه الجملة كدليل: إن إثبات خيار الشرط يؤدي إلى أن يتفرقا قبل تمام قبض العوض. أقول: إن قبول عقد السلم لخيار الشرط لا يؤدي إلى التفرق قبل قبض العوض؛ لأن معنى الخيار هو وجود حق الفسخ للمشروط له، فقد يحصل الفسخ بإعمال هذا الحق، وحينئذ لا يوجد عقد سلم بعد الفسخ، وقد لا يحصل الفسخ نتيجة عدم إعمال هذا الحق، وحينئذ يبقى عقد السلم الذي حصل فيه قبض الثمن بحاله وهو عقد صحيح رغم وجود خيار الشرط، وحينئذ لا ارتباط بين حصول التفرق بعد قبض الثمن وتمامية العقد وكون أن أحد المتعاملين أو كليهما له حق الفسخ. فليس منع خيار الشرط مبنيا على اشتراط قبض رأس مال السلم في مجلس العقد إلا على القول بأن العقد إذا كان فيه خيار لم يكن تاما كما ذهب إليه الشيخ الطوسي من الإمامية ولم يحصل النقل والانتقال وهو أمر ثبت بطلانه، حيث إن الخيار في العقد يجعل العقد جائزا بدل اللزوم، لا أنه لم يحصل فيه النقل والانتقال كما هو واضح، ولعل المؤيد لصحة وجود خيار الشرط مع تمامية عقد السلم حصول القبض قبل التفرق هو وجود خيار الغبن في عقد السلم.

ذكر بعض من الفقهاء حرمة بيع مال السلم قبل قبضه، أو حرمة بيع الطعام قبل قبضه لوجود النهي من قبل النبي صلى الله عليه وسلم .

أقول: إن مسألة اشتراط قبض بضاعة السلم قبل قبضها أو اشتراط قبض الطعام قبل بيعه معناه بطلان البيع قبل القبض، وهو حكم وضعي، وصحة البيع بعد القبض أيضا هو حكم وضعي. هذا لا ارتباط له بالحرمة التكليفية حيث إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع قبل القبض إرشاد إلى شرطية القبض في البيع، ومع عدم القبض يكون العقد باطلا فقط، لا حرمة تكليفية. وحينئذ إذا بطل العقد يأتي الحكم التكليفي بوجوب إرجاع الثمن إلى صاحبه، فإن لم يرجعه فهو عمل محرم مترتب على بطلان العقد وعدم إرجاع الثمن إلى صاحبه وهذا أمر آخر غير حرمة نفس البيع قبل القبض.

ص: 472

بالنسبة لفكرة السلم الموازي، فليست هذه الفكرة هي فكرة حادثة واصطلاح حادث لأننا وجدنا الآثار المروية عن الإمام الصادق عليه السلام وهو المتقدم على أئمة المذاهب الأربعة يجيز فكرة السلم الموازي بطريق الحوالة والوكالة في القبض، كما ذكرت ذلك مفصلا في البحث. وفكرة السلم الموازي فكرة صائبة للفرار من بطلان بيع الطعام أو المكيل والموزون أو بضاعة السلم قبل القبض أو قبل الأجل إلى طريقة أخرى جديدة لها أحكامها الخاصة وهي بعيدة عن بيع مال السلم قبل قبضه أو قبل أجله، كما أنها بعيدة عن ربح ما لم يضمن على تقدير القول به، وبعيدة عن الربا الذي نسب القول به إلى ابن عباس القائل: إن هذا عبارة عن بيع دراهم بدراهم، فإننا لا نجد شبهة الربا في السلم الموازي حتى إذا قلنا به في بيع مال السلم قبل قبضه، وبهذا ستكون فكرة السلم الموازي خير طريق لإيجاد أدوات التجارة الرابحة المحللة.

بالنسبة للشرط الجزائي في صورة تأخير البائع في تسليم البضاعة السليمة. كنا قد رأينا في البحث المقدم للمجمع الموقر عدم الفرق بين صحة الشرط الجزائي في الأعمال والبيوع، ولكن نعلن هنا استثناء بيع السلم الذي يكون المثمن فيه كليا في الذمة ومؤجلا إلى أجل لما ثبت من أن تأجيل الثمن في بيع النسيئة في مقابل المال يكون ربا محرماً، فكذا تأجيل المثمن في بيع السلَم في مقابل المال يكون محرمًا لأنه من مصاديق (انظرني أزدك) ، فإن بيع السلَم وإن كان بيعًا لكن المثمن فيه مؤجل فهو دين في ذمة البائع فيكون تأجيله أو تأخيره في مقابل المال ربا محرماً، وإن كنا نقول بصحة الشرط الجزائي في الإجارة وفي البيوع التي ليس فيها الثمن أو الثمن مؤجلاُ. نعم، الطريق لضبط البائع في التزامه بالعقد هو شرط المشتري عليه كمية من المال في صورة تخلفه عن تنفيذ العقد، وهذا هو العربون الذي أجازه المجمع في دورة سابقة، ولكن هذا ليس بديلًا للشرط الجزائي في صورة تأخر البائع عن تسليم البضاعة.

بقي شيء أخير بالنسبة لبيع البضاعة السليمة قبل قبضها. فقد منع منها مشهور العلماء الإمامية في خصوص المكيل والموزون لورود روايات كثيرة وصحيحة تمنع هذا فقط، وعلى هذا الرأي. ورأي من يقول: إن الممنوع من البيع قبل القبض هو في الطعام، يتبين أن العلة في المنع ليست هي ربح ما لم يضمن، ليست هي الربا، إذا كانت العلة هي هاتين فلم أجيز بيع ما لم يكن طعاما عند بعض الفقهاء، أو غير مكيل أو غير موزون عند الإمامية؟ كما لم تكن العلة هي الغرر لما ذكر أيضاً. إذن، إذا امتنعت هذه العلل الثلاث من كونها هي العلل الحقيقية للمنع عن بيع الطعام أو بيع المكيل والموزون قبل قبضه. وطبعًا إذا ثبتت هاتان تتقيد الروايات التي تمنع من بيع بضاعة السلَم قبل قبضها بهاتين الطائفتين من الروايات. ينفتح لدينا القول بأن النهي عن بيع ما لم يقبض هو نهي تعبدي فيقتصر فيه على مورده ويسوغ تجويز السلَم الموازي الذي يكون على سبيل الحوالة والوكالة في القبض.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 473

الدكتور محمد علي القري بن عيد:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد، فإننا بعد الاستماع إلى هذا العرض المميز الذي قدمه لنا الشيخ الضرير-أحسن الله إليه ووفقه لكل خير-أظن أننا نخلص بنتيجة ألا جديد في فقه السلَم، ولكن، إن مجرد التأكيد على ما هو معلوم من أركان السلَم وشروط صحته والانتهاء من ذلك بترجيح الراجح منها لا يفيد، إذ إنه لا يعد إنجازًا ذا بال بالنسبة لهذا المجمع الموقر، كما لا يفيدنا بعث الخلافات القديمة بين المذاهب والفقهاء مما لا طائل من ورائه إذ لا علاقة مباشرة لكثير من تلك الخلافات بالحياة المعاصرة.

الأولى – في نظري، والله أعلم-أن ننظر إلى المسائل المستجدة وإلى أنواع المعاملات التي يتعامل بها الناس وإلى العقود التي يقوم عليها النشاط التجاري في معاملات الناس اليوم، فهم يدخلون في ما يشبه السَلم ولكن مع اختلاف في الشروط مثل تأجيل البدلين، وهذه هي صيغة بيع البترول الذي يقوم عليه اقتصاد كثير من بلاد المسلمين، وصيغة بيع أنواع كثيرة من السَلم والمواد، أو يقومون بدفع جزء يسير من رأس المال في مجلس العقد وتأجيل ما بقي، وهذا ما ينتشر في العمل به في أسواق السلع وفيها استثمارات البنوك الإسلامية وكثير من أموال المسلمين، أو أنهم يبيعون المسَلم فيه قبل قبضه، وهذا قوام النشاط التجاري في الأسواق الدولية لتبادل المواد الأولية.

إن صرف الجهود والوقت لمناقشة هذه أظن أنها أولى وأنفع، ولست أقول: إننا يجب أن نستعجل التوصل إلى النتائج؛ لأن في ذلك خطرًا لا يخفى، بل يجب أن نتأنى وأن ننظر في المآلات في جوانبها الشرعية والاقتصادية. مثلًا إن القول بجواز بيع بضاعة السَلم قبل القبض يثير سؤالًا مهما هو: لماذا جاز ذلك في السلم ولم يجز في غيره من العقود؟ كما أن القول بجواز إصدار سندات للسَلم قابلة للتداول يؤول إلى توليد نظام اقتصادي معتمد في فاعليته على الديون ولذلك آثاره الاقتصادية المدمرة. ثم إن هذه السندات تتداول في أيدي الناس لأغراض المقامرة كما يحصل في أسواق المال في العالم ولا يخفى ما في ذلك من مفاسد. الذي أريد أن ألفت النظر إليه هو الحاجة إلى مناقشة المسائل العملية سواء تلك التي يتعامل الناس بها أو التي تتولد عندما نصمم صيغًا جديدة للسلَم. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 474

الدكتور عجيل جاسم النشمي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين

نشكر للإخوة الباحثين أبحاثهم القيمة، ولي بعض الملاحظات والتأكيدات على بعض القضايا التي اختلف الباحثون.

المسألة الأولى: حول مشروعية السلم، هل هو على خلاف القياس: الذي يرجح أن السلم شرع على وفق القياس وعلى وفق المصلحة وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها كما قال ابن القيم.

المسألة الثانية: التي نود التعليق عليها هي: مدة الأجل، وهذه أعتقد أنها مهمة للتيسير على البنوك والمصارف الإسلامية. وهي مدة مختلف فيها بين الفقهاء القدامى أرباب المذاهب، الذي نراه مناسبا نجد ما يمنعه هو ما انتهى إليه فضيلة الشيخ الصديق الضرير، أنه لا حد لأقل الأجل وأكثره لإطلاق الحديث اللفظ في هذا الموضوع فيرجع التحديد إلى اتفاق الطرفين، والحنفية أذكر أنهم قالوا: لو قدرا-أي المتعاقدان-نصف يوم جاز.

المسألة الثالثة: بيع المسلم البضاعة بمجرد وصولها المخازن. هذه في الحقيقة مما ينبغي التنبيه عليه للمصارف والبنوك الإسلامية؛ لأنه مما قد يكون واقعا عند البعض، هذا باطل لأنه من بيع ما لم يقبض كما أشارت بعض الأبحاث لهذا. فينبغي النص على ذلك مطلقا سواء أكان بيع المسلم فيه لمن هو في ذمته أو لغيره. هذا هو رأي الجمهور الذين منعوه مطلقا، سواء كان المسلم فيه موجودا أيضا أو معدوما، وسواء كان العوض مثله في القيمة أو أقل أو أكثر. طبعا هذا بخلاف رأي المالكية الذين جوزوا بيع المسلم فيه قبل قبضه إذا لم يكن طعاما، والتفصيل في ذلك ذكره فضيلة الشيخ صديق الضرير.

ص: 475

المسألة الرابعة: وهي أيضا ينبغي التنبيه عليها وهي: فيما يجوز السلم فيه. بعض الأبحاث ضيقت في هذا وبعضها وسع في هذا، وينبغي هنا أن نوسع في الحقيقة على البنوك والمصارف الإسلامية، فكل ما يمكن ضبطه بالوصف-وصفا ينفي الجهالة ويرفع الغرر واحتمال النزاع- جائز؛ لأن السلع تختلف وكذلك تختلف أوصافها في كل زمان وفي كل مكان، ولا يجب ذكر كل الأوصاف، فيكفي ذكر بعض الصفات المميزة مثل ما هو معروف الآن بالعلامات التجارية. نضيف هنا بالمناسبة الرأي في السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية المتعددة، هذه تعتبر أصنافا متعددة في زمننا هذا وإن كانت سلعة واحدة ويجب الوفاء بناء على هذا بما تم الاتفاق عليه لأن تحديد ماركة معينة مقصود لذاته ووصف مرغوب فيه وله قيمة، لكن لو لم يتم الاتفاق على تحديد علامة تجارية محددة ففي هذه الحال أي سلعة حازت المواصفات تفي إذا تعددت العلامات التجارية.

المسألة الخامسة: قضية جعل الدين الذي على العملاء رأس مال سلم. هذا مما ينبغي النص على منعه والتحرز منه وتنبيه البنوك والمصارف الإسلامية عليه، لأن هذا –كما لا يخفى-يدخل في بيع الدين بالدين لمن عليه الدين؛ لأن الدائن في الحقيقة سيحصل على أكثر من دينه فكأنه أخذ زيادة على دينه مقابل تأجيل المدين الذي عجز عن أداء الدين أو الذي احتاج إلى السيولة أو احتاج إلى النقد ورغب في تأجيل السداد.

المسألة السادسة: قضية الشرط الجزائي. لا تحتاج إلى التأكيد على منعه لأن المجمع اتخذ قرار في الدورة السادسة بمنعه.

المسألة السابعة: من المسائل التي ينبغي النص عليها أيضا في التوصيات هي قضية إصدار سندات سلم قابلة للتداول. هذا لا يجوز لأنه يؤدي قطعا إلى بيع المسلم فيه قبل قبضه. وشكرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 476

الدكتور عبد الستار أبو غدة:

بسم الله الرحمن الرحيم،

بعض النقاط طرقها بعض الإخوان ولكن أريد أن أتناولها من جوانب أخرى فنبدأ بالمسألة التي انتهى بها الدكتور عجيل والتي بدأ بها الشيخ الصديق وهي: تحويل المديونية في ذمة المدين إلى رأس مال السلم. هذه المسألة ليس فيها ربا، وليس فيها بيع بدين لغير من عليه الدين، وإنما هي عبارة عن عملية مقاصة بين مقبوض في الذمة وبين ما يجب قبضه. فالمدين ذمته مشغولة بمبلغ، فإذا اتفق الدائن على شراء سلعة بالسلم من هذا المدين فإنه يجب عليه أن يعجل رأس مال السلم. فالمقبوض في الذمة مقبوض، وهذا يطبق في الصرف في الذمة، إذا كان هناك شخص مدين واتفق مع الدائن على أن يسدد هذا الدين بعملة أخرى فإنه يجب على الآخر أن يسلم، وأما المدين فإن المبلغ هو في الذمة والمقبوض في الذمة كأنه مقبوض في اليد. قد يقال بأن هذا يتخذ حيلة ولكن لماذا نفترض سوء الظن في هؤلاء ولا سيما أن هذه العملية تتم بالتراضي، ليس فيها اشتراط من البداية وإلا يكون اشتراط عقد في عقد؟ فهذا المدين لو كلفناه أن يعيد هذا الدين إلى المسلم فهذا ممكن أن يأخذ مالا من شخص آخر ويعيد هذا الدين إلى المسلم ثم يأتي المسلم ويعيده إليه، وهذا فيه شيء من العبث، ولا عبث في التشريع. فهذا أمر لا يعتبر لأنه ليس فيه ربا؛ لأن عقد السلم ضماناته الشرعية موجودة فيه. تعجيل رأس مال السلم يمنع الربا وهذه عملية تعالج فيها المديونية وينبغي أن تكون بعيدة عن الزيادة الضمنية.

ص: 477

المسألة الثانية: هي مسألة السلم المتوازي. هذا السلم ليس جديدا وقد أشار إليه ابن قدامة في المغني حينما منع أن يبيع الإنسان السلعة التي اشتراها بالسلم، فأشار بأنه لو باع سلعة أخرى غيرها وأخذ ما اشتراه وسدد به التزامه فهذا جائز، وهذا السلم المتوازي –أيضا-لا يصلح حيلة لأن ضماناته الشرعية فيه وهي تعجيل رأس السلم، قد يقول قائل: ما دام أن السلم الأول يجب فيه تعجيل رأس مال السلم والثاني يجب فيه التعجيل فلماذا لا يأتي المشتري الثاني ويتصل مباشرة بالمنتج الأول ويلغي هذا الوسيط ما دام هناك تعجيل؟ هناك مآرب كثيرة وأغراض يتوصل إليها الناس عن طريق هذا السلم الموازي، فقد تكون الصفقة الأولى بالجملة بمبالغ كبيرة والصفقات الأخرى الموازية صغيرة لا يقوى المشتري الأخير على أن يتفق مع المنتج الأول، وهذا يحدث في صفقات البترول، وقد يكون هناك استعداد لتحمل المخاطرة من الوسيط، فالمشتري الأخير لا يثق بالمنتج الأول ويعطيه هذا رأس مال السلم معجلا وينتظر، ولكن يأتي وسيط ويقبل هذه المخاطرة ويأخذ هذا رأس مال السلم ثم يسلم هو إلى الطرف الآخر، فإذن كان هناك مآرب كثيرة، وأيضا هذا ليس فيه حيلة والبنوك الإسلامية قد تحتاج إليه، ثم هذا السلم الموازي ليس بالضرورة أن يكون سلما موازيا فقد تكون العملية الأولى سلما والعملية لثانية استصناعا، وبهذا تستطيع المصارف الإسلامية أن تستخدم هذا وسيلة للتمويل فهي تدخل في شراء سلم وتعجل رأس المال للمنتج الأول ثم تبيع هذا إذا كان فيه صنعة، وكما تعلمون أن كل ما يجوز سلما يجوز استصناعا، فيستفاد من هذه الطريقة بأن تكون العملية الأولى سلما والعملية الثانية استصناعا.

هناك فائدة نبه إليها أحد المصرفيين الفنيين للسلم، بأنه يفيد في عملية الميزانيات السنوية للشركات والمؤسسات، لأنه لا يدخل في المطلوبات لأن هذا المبلغ الذي تأخذه الشركة رأس مال للسلم لو أنه كان قرضا فإنه يعتبر مديونية ويثقل ميزانيتها ويؤثر على تصرفاتها تجاه الرقابة من البنك المركزي، ولكن حينما يأخذ رأس مال بالسلم فإنه يعتبر مدفوعات مقدمة عن تصنيع وعن مبيعات، وهذا يفيد الشركات في ميزانياتها لأنه كما هو في العرف يكون خارج القائمة (قائمة المطلوبات) .

هذا الذي أردت أن أنبه إليه، والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 478

الدكتور علي محيي الدين القره داغي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

أولا: أقدم شكرنا الجزيل للأستاذ العارض فضيلة الشيخ الصديق ولجميع الإخوة الكرام الذين قدموا بحوثهم القيمة في هذا الموضوع، ولي بعض الملاحظات قد يكون بعضها تأكيدا لما قاله بعض الإخوة ولا يوجد مانع من التأكيد في هذا المجال.

قبل أن أدخل في هذه الملاحظات الخاصة هناك بعض الملاحظات العامة منها التعريف الذي ذكره فضيلة الشيخ الصديق بأن السلم هو بيع آجل بعاجل، ورجح هذا التعريف بينما جمهور العلماء (المالكية والحنابلة والشافعية) اشترطوا أن يكون في الذمة لأن هذا التعريف ليس مانعا بيع آجل بعاجل. ملحوظة عامة أخرى على معظم هذه البحوث أنها لا تخرج الأحاديث من مصادرها الأصلية والأمانة العامة دائما تؤكد على هذا الموضوع؛ لأنه إذا ثبت أن هذا الحديث ضعيف انتهى الاحتجاج به، أو إذا كان موضوعا أو كان لا ينهض حجة فحينئذ لماذا نتعب أنفسنا؟ وهناك فعلا بعض الأحاديث اعتمد عليها وهي ضعيفة جدا أو تكاد لا تستطيع أن تنهض حجة على الموضوع. من الملاحظات العامة أن معظم هذه الصور التي ذكرت من الصور المعاصرة ومعظم هذه المشاكل التي ذكرت يحلها موضوع الاستصناع، وعقد الاستصناع خاصة حسبما أقره المجمع عقد واسع جدا حيث لا يشترط فيه تقديم الثمن ويجوز فيه التقسيط والتأجيل والتعجيل. فباب الاستصناع باب واسع يسع كل هذه المشاكل التي نحن بصددها. فلذلك نحن إذا أردنا أن نحل المشاكل ليس بالضرورة أن نحل هذه المشاكل عن طريق عقد السلم الذي نقع في إشكالات لا داعي لها، ما دام لدينا بديل آخر، وأنا أعتقد أن هذه العقود الأربعة (عقد البيع العادي وبيع الآجل وعقد السلم وعقد الاستصناع) هذه العقود الأربعة تحل لنا كل المشاكل التي يمكن أن تحدث في خلال المبايعات.

فلذلك إذا ما وجدنا سعة في عقد نجد هذه السعة في العقد الآخر، فلا داعي ما دمنا نبحث عن السلم أن نأتي بصور هي في واقعها غير منطبقة عليه في الحقيقة الصور المعاصرة التي ذكرت أغلبها للاستصناع أو تصلح لعقد الاستصناع، نأتي بها ونقحمها في عقد السلم.

ص: 479

أما الملاحظات الخاصة نعود إليها وهي: الاستشهاد بحديث ((لا تبع ما ليس عندك)) . حقق هذا الحديث فوجدنا أن المعنى المطلوب من هذا الحديث هو بيع شيء معين، وهذا ليس من باب التخصيص كما قال بعض الإخوة الكرام؛ لأن التخصيص أن يكون هناك عام وهناك دليل آخر يخصصه، المقصود بالحديث ومعناه هو أن يعين الإنسان شيئا معينا، أما ما هو في الذمة فلا يدخل في ((لا تبع ما ليس عندك)) ، فلذلك لا يعتبر السلم استثناء من هذا العقد، ولذلك نحن لسنا مع أستاذنا الجليل فضيلة الشيخ الصديق حينما قال: إن المراد به ما ليس مملوكا للبائع سواء كان –هذا نص عبارته-معينا أم في ذمة لا، ما في الذمة لا يدخل في هذا الحديث أبدا.

جعل الدين رأس مال السلم، ما دمنا نحن نبحث عن المسائل الفقهية فلا مانع، خاصة في هذه المرحلة التي نعيشها، نحن لا نعيش الآن عصر تطبيق الإسلام بحذافيره وإنما نحن نعيش عصرا لا بد أن نأخذ ببعض الآراء الفقهية ما دامت تحقق المصلحة لهذه الأمة، فرأي ابن تيمية ورأي ابن القيم في جعل الدين رأس مال للسلم شيء طيب وجيد، ويصلح أن نستفيد منه في هذا المجال فلماذا؟! وطبعا معروف شيخ الإسلام بحججه وكذلك ابن القيم فلا مانع أن نأخذ بهذا حتى إذا ما أخذنا به لا مانع من أن يشار كما أشار فضيلة رئيس المجمع في موضوع هيئة كبار العلماء، يعني إذا نحن ما وجدنا المسألة هناك أو ما أجزنا رأي ابن تيمية فلا نقطع الطريق، فأنا رأيي أن يكون أمام لجنة التوصية هذا الموضوع الذي أشار إليه فضيلة الدكتور بكر في هذا الموضوع بأننا لا نقطع الطريق أمام هؤلاء وإنما نبقي المجال المتفق عليه والمختلف فيه نترك هذا المجال للاجتهادات الفقهية ولا سيما في هذا العصر إلى أن يشاء الله رب العالمين يسهل لنا ونصل إلى تطبيق نظام إسلامي متكامل وحينئذ لا أعتقد أننا نحتاج إلى الرخص والحيل. ولذلك دعوى الإجماع في هذه المسألة غير مسلم به كما بينه فضيلة الشيخ الصديق الضرير بنفسه. وحقيقة أنا تابعت هذه المسألة فوجدت أن آراء الفقهاء في هذا الموضوع في عدم جواز مسألة بيع المسلم فيه ومسالة جعل الدين رأس مال سلم آخر، مدار هاتين المسألتين على حديث رواه أبو داود وبين العلماء أن هذا الحديث ضعيفا جدا.

يعني مبنى هذا الكلام في غالبه على حديث ضعيف جدا فلا ينهض حجة، وبين ذلك كل من ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية بصورة لا مجال لذكرها.

ص: 480

الشيخ الصديق جعل أن الأصل في السلم أن يكون في الثمر. يعني هذا الجعل بأن يجعل الأصل في السلم أن يكون في الثمر غير مسلم، فالعبرة بعموم اللفظ حتى لو كان اللفظ لم يكن عاما، ما دام أجيز بالإجماع أو أجيز بالقياس أصبح ذلك أيضا يعني لا نعتبر ذلك أصلا، وذلك فرعا وإنما ما دام اتفق الفقهاء على جواز السلم في غير الثمر فلماذا نحن نجعل هذا أصلا وذلك فرعا؟

بخصوص منع السلم الموازي. الإخوة الكرام أشاروا إلى ذلك، وأنا أقول: إذا منعنا السلم الموازي بضوابطه وعدم ارتباطه بالسلم الأول إذن لا بد أن نمنع السلم الأول وقضية الغش، ولذلك أحد الباحثين سابقا في كتابه منع السلم مع الأسف الشديد وقال: لا بد أن نمنع السلم، ويحرم السلم لماذا؟ لأنه يؤدي إلى التحايل، والكتاب موجود والإخوة يعرفون هذه المسألة، يعني لا يجوز أننا نمنع شيئا لوجود تحايل أو كما يسمى بالمصالح الموهومة أو بالحيل الموهومة، ولو فتحنا هذا الباب، كما ذهب إلى هذا في كتاب طبع عدة مرات مع الأسف الشديد ومعروف صاحب الكتاب.

وبالنسبة للسندات، أنا في الحقيقة لا أرى مانعا في إيجاد سندات ولكن ليس على أساس السلم وإنما على أساس عقد الاستصناع في قضية البترول وما أشبه ذلك؛ لأن الاستصناع يجوز في كل شيء دخلته الصنعة عرفا، فلذلك أنا لست مع سندات السلم وإنما مع السندات بنفس الترتيب في الاستصناع.

مسألة إزالة الغبن الموجود في بحث فضيلة الشيخ الصديق، في اعتقادي تجعل العقد غير مستقر، والمسألة في الحقيقة دائما العقود قابلة

ما دام الغبن لم يكن واقعا الآن احتمال الغبن وارد في كل عقد آجل، وإذا كان هكذا معناه العقد أو الثمن لم يكن مستقرا، والإمام الشافعي يقول:(يجب أن ينأى أو يبعد المسلم عن كل غرر) . يعني إذا كان هناك نوع من الأشياء يتسامح في جزء من الغرر لكن السلم لا بد أن يبعد عن الغرر، كما أن احتمال الغبن وارد كذلك احتمال الخسارة وارد، فهذا البند في نظري يعني دائما أستاذنا الشيخ الضرير متشدد لكنه في هذا البند تساهل ونحن لسنا مع تساهله، ويجوز أننا أول مرة نختلف معه في التساهل. وقد أحضرت نصا لابن القيم يقول:(ثبت أنه لا نص في تحريم بيع السلم والمسلم فيه، عفوا، لا بنص ولا بإجماع ولا قياس وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة.)

والله أعلم.

ص: 481

الدكتور وهبة الزحيلي:

بسم الله الرحمن الرحيم،

لا شك أن البحوث المقدمة في موضوع السلم وتطبيقاته المعاصرة تشتمل على أمرين، الأمور التقليدية عند الفقهاء والشروط المقررة في هذا الجانب والتي أحصاها الحنفية أن السلم يشترط فيه سبعة عشر شرطا، وكل ذلك خروج من المحاذير والمخالفات الشرعية المتعلقة بأمرين: أمر الربا، وأمر الغرر، فالقضايا التقليدية التي ذكروها ورجح بعض الإخوة الكرام بعض هذه الآراء فنحن قد نخالفهم في هذه الترجيحات، ولكن المهم في الموضوع هو التطبيقات المعاصرة لهذا العقد، والذي ينبغي أن يحتل المكانة الملائمة له خصوصا في ميدان مجالات أنشطة البنوك الإسلامية التي بفضلها تحرك الفقه الإسلامي وأصبح يتفاعل مع السوق بعد أن كان مجمدا حيث عطل هذا الفقه عن التطبيق في كثير من الدول العربية والإسلامية. فلذلك إذا أردنا إنجاح هذه التجربة البنكية الإسلامية فينبغي أن نكون على قدر من التفاهم والتفاعل مع مقتضيات السوق وحوائج الناس حتى لا يقعوا في الربا الصريح. كل هذه التجربة هي هروب من الوقوع في الربا الصريح. فإذا أجاز بعض العلماء هذه الآراء فلا مانع من الأخذ بها. هذه مقدمة. أما الأمور التقليدية فنحن سمعنا أن الأخ فضيلة الشيخ الصديق يضعف مذهب الشافعية في القول بالسلم أن السلم الحال عند الشافعية هو طريقة لتسويغهم بيع العين أو الغائبة أو العين الموصوفة في الذمة، كما أشار الأخ الشيخ حسن. فإذن هو طريقة، فهم لا يجيزون بيع العين الغائبة، لكنهم من جانب آخر أجازوها عن طريق بيع السلم الحال. والحديث الوارد في السلم ((من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) قالوا: الحديث لا يشترط وجود الأجل وإنما يشترط العلم بالأجل.

وهذه نقطة دقيقة تبين دقة المذهب الشافعي في هذا الموضوع وأن القياس يقضي بذلك إذا كان البيع جائزا والسلم الحال هو صورة أخرى من صور البيع، فلماذا لا يكون جائزا أيضا؟ حتى التأجيل يمكن –حتى على رأي الشيخ الصديق-يمكن أن يكون التأجيل بحسب اتفاق الطرفين ويمكن أن يتم التأجيل لساعات، ويسمى تأجيلا فلماذا نمنع هذا ونقول: إن المذهب ضعيف في بنيته وفي أدلته مع أن الدليل في الواقع يؤيد مذهب الشافعية؟ وأما آية {تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ،واستشهاد ابن عباس أن هذا دليل على مشروعية السلم نوقش هذا الكلام أيضا وأن الآية لا تدل صراحة على هذا النوع من العقد ولا حاجة للاستدلال الضمني لمشروعية السلم ما دام الحديث صحيحا وجائزا، هذه ناحية. فإذن أنا أريد القول ببقاء مشروعية السلم الحال بالإضافة إلى السلم المؤجل وتبدو تسويغاته –كما ذكر الشيخ حسن-سليمة وقوية وهو رأي الشافعية والإمامية.

ص: 482

أما الموضوعات الأخرى، قضية السلم الموازي، في الحقيقة بالرغم من أن الإخوة الكرام تحدثوا عن هذا الجانب فأنا مع القائلين بجواز مشروعية السلم الموازي؛ لأنه يحقق فتحا جديدا للشركات الإسلامية في هذا الموضوع، وليس السلم الموازي من قبيل أنه ينصب على المسلم فيه بذاته الأول، وإنما التزم رب السلم في السلم الموازي أن يسلم شيئا موصوفا في الذمة، كما أن المسلم إليه في أصل العقد يمكن أن يسلم هذا من إنتاجه، وإذا لم يكن من إنتاجه فيمكن أن يسلمه مما هو موجود في السوق وفي البلد التي هو فيها. فإذن هو لا ينصب على ذات المسلم فيه في العقد الأول. وكذلك ليس السلم الموازي من قبيل بيع الشيء قبل قبضه لأنه لا ينصب عليه، كذلك هو بعيد عن قضية الاستبدال برأس مال السلم وقد أجاد الأخ الدكتور الصديق في بيان الفروق بين هذين الأمرين بدقة. قضية استبدال المسلم فيه وقضية السلم الموازي. هذه ناحية أشبعت بحثا وخصوصا حديث الدكتور عبد الستار أبو غدة أفاد بأن هذا مما ينبغي القول بجوازه وخصوصا أن صاحب المغني أقر ذلك بشكل صريح.

أما قضية إصدار سندات سلم للتداول فهذه محل نظر صحيح كما ذكر الأخ الدكتور القره داغي، ابن تيمية وابن القيم أجازا جعل الدين رأس مال السلم كما أنهما أجازا بيع الشيء قبل قبضه، فهذه رخصة لا ينبغي أن نسد الباب أمامها ونقول: إن كل شيء ممنوع، وإن هذا غير جائز. فإذن قضية الاتفاق على عدم جواز استبدال المسلم فيه قبل قبضه محل نظر فليس هناك اتفاق ولا إجماع وإنما القضية مختلف فيها.

أما قضية الشرط الجزائي –أيضا-أؤيد ما ذكره الأخ الشيخ حسن بأن هذه القضية ينبغي ألا نتورط في الشرط الجزائي إذا كان ذلك من قبيل العقوبة على عدم تسديد دين مؤجل في المستقبل وإلا وقعنا بما يسمى قانونا في الغرامات التهديدية، وهذا في الحقيقة غير جائز. الشرط الجزائي بالرغم من أن بعض الجهات لا تجيزه لكن –في الحقيقة-هو مقر به لدى طائفة من العلماء، فنحن نجيزه في المقاولات والإيجارات وفي كثير من عقود الحياة الجارية ولكننا لا نجيزه كعقاب على عدم قيام المدين أو مماطلته بسداد ديونه للبنك الإسلامي.

ص: 483

يشترط لجوازه أن يكون الرهن معلوما والكفيل معلوما، أما إذا قال: أقدم لك رهنا أو كفيلا وكانا مجهولين هذا الذي لا يجوز، أما هذا من قبيل التوثيق إذا أراد رب السلم أن يوثق عقده مع المسلم إليه وأنه يريد أن يصل إلى قبض المسلم فيه في الوقت المحدد، فما المانع من اشتراط الرهن المعلوم والكفيل المعلوم فما السلم إلا صورة من صور البيع والبيع يجوز فيه ذلك ولا إشكال في هذا الموضوع؟

أما قضية تأجيل رأس مال السلم عند المالكية لثلاثة أيام، هذا لا يتنافى يا إخواننا مع القول المقرر بأنه يجب تعجيل رأس مال السلم. المالكية أيضا بدقة قالوا: التأجيل إلى يوم أو يومين وإلى ما دون الثلاثة أيام يعتبر في حكم العاجل. وهذه نظرة عظيمة من المالكية، في حكم العاجل، هذا كلام سليم ودقيق فالتأجيل يوما أو يومين لا يعد تأجيلا إنما هو في حكم المعجل. فإذن هذا ليس غضاضة على المذهب. أما قضية الخيار والتي استمعنا إليها أن عقد السلم لا يجوز فيه اشتراط الخيار، هو الأدق لأن هذا يتنافى مع شرط تعجيل رأس مال السلم، فإذا شرط الخيار في عقد السلم فأين الشرط المطلوب في الحديث ((لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك؟)) فإذن وجود الخيار يتنافى مع طبيعة هذا العقد ويختلف عن خيار الغبن؛ لأن خيار الغبن ما هم إلا صورة قريبة من خيار العيب. وهذا متفق على جوازه، لا نستطيع أن نقر الغش في المعاملات ولا أن نقر الغبن ولا نقر الاستغلال لكن قضية وجود خيار الشرط مع عقد السلم في الحقيقة يتنافى مع طبيعة هذا العقد. لا شك أنني أجل كل هذه التطبيقات المعاصرة التي ذكرها فضيلة الدكتور الضرير في أن عقد السلم يصلح أمام البنوك الإسلامية؛ لأن يعمل به في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة وفي كل ما يحتاج فيه إلى التمويل ونستغني بذلك عن قضية القروض الربوية لأننا نريد أن نجنب تعامل المسلمين مثل هذه الشبهات أو المقطوع بحرمتها ولا نضيق على الناس في هذا الموضوع. والسلام عليكم.

ص: 484

الدكتور جاسم على سالم:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،

تحدث كثير من المتقدمين والمتأخرين والمحدثين عن السلم أو السلف واستفاضوا في بحثه، وجزاهم الله خيرا، ولكن لكثرة الحوادث والتغير في الظروف الحاضرة وتبادل السلع وغيرها من عروض التجارة المختلفة، والتعامل بين الشرق والغرب، أرى أننا لا نقول: إنه من الأجدى بحث موضوع بيع الأشياء أو التصرف في الأشياء المستقبلة إذا انتفى الغرر كما أفتى به ابن تيمية وابن القيم الجوزية، وأخذ به كذلك عندنا الآن قانون المعاملات المدنية في دولة الإمارات، وهذا النوع من البيع من الممكن أن يستوعب السلم وغيره مع وجوب تحديد معنى الغرر تحديدا واضحا والاستعانة في ذلك بكتابات كثيرة مثل كتاب أستاذنا الدكتور الصديق الضرير في الغرر. ولكم جزيل الشكر والتقدير.

ص: 485

الشيخ عبد الله بن بيّه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه،

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

أخرج قليلا عن جو الفقه هذا صعب. يبدو أننا لم نعرف الدار.

سيادة الرئيس: اسمح لي أن أتقدم بمقدمات بين يدي الملاحظات التي سألاحظها على بحث الدكتور الصديق الضرير.

المقدمة الأولى: لقد قلتم بالأمس وبحق إن هذا المجمع لم يضغط على النصوص لتنطبق على الواقع، وهي مفخرة –أعتقد-لهذا المجمع وسبب لصدقية هذا المجمع عند الناس، وهو أمر مهم جدا. فالبحث عن الإتيان بجديد يجب ألا يؤدي إلى الضغط على النصوص.

المقدمة الثانية: هي أن السلم رخصة، والرخصة لا يتجاوز بها محلها، والعلماء الذين اشترطوا شروطا اشترطوها على أساس أنهم نظروا إلى السلم نظرة خاصة وهو أنه معدول به عن نظائره وهذا ما يسمى بالاستحسان بالنص، وهي المسألة التي عدل بها عن نظائرها لوجود دليل قوي، وهنا الدليل القوي وهو الحديث الذي ورد في السلم.

هنا بادئ ذي بدء أريد أن أبعد وهما. الكلام عن السلم هل هو مخالف للقياس أو ليس هو مخالف للقياس؟ إذ كان مخالفا للقياس فليس عيبا. وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى فإن الأمر حينئذ هو أمر جديد يخرج المسألة عن كونها معيبة. معنى مخالفته القياس معناه عند الجمهور هو وجود قاعدة لو لم يرد نص بإباحة السلم لكان داخلا فيها، لا تبع ما ليس عندك، فلولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز بيع السلم لكان داخلا في هذه القاعدة، هذا هو معنى مخالفة القياس وهو أمر واضح جدا

لكل عقد له سنته، كما نقول: قراض، من سنة القرض ألا يضمن، فالعقود لها سنن والسلم من هذه العقود التي لها سنن، فإذا لم يعجل رأس المال قد خالفنا سنة السلم، وحينئذ لا يسمى سلما لأننا خالفنا سنة السلم.

ص: 486

هذه هي المقدمات وسأصل إلى الملاحظات.

الملاحظة الأولى-هي: إلغاء الدكتور الضرير لتحديد الأجل، معناه أنه لا يوجد حل مع أن جميع من اشترطوا ألا يكون السلم حالا حددوا بأجل، والحديث لا يشهد لما ذكره. الحديث عندما يقول: إلى أجل معلوم ، معناه أنه يوجد أجل لا بد من تحديده، والفقهاء اتفقوا جميعا على التحديد، والتحديد فائدته هي معقولية النص. معناه الذين حددوا أجلا قالوا: إن المراد من السلم أن توجد حوالة الأسواق بمعنى أن يؤجل بأجل، هذا الأجل يسمح بحوالة الأسواق. وحوالة الأسواق لا تتحقق إلا بأجل محدد إما أن يسلم له في مكان آخر وهنا ينقص الأجل عند المالكية وإما ألا يكون كذلك فلا بد أن يكون إلى خمسة عشر يوما.

فأعتقد أن قوله: إنه لا يحدد أجلا هو قوله غير مسبوق، وبالتالي لو قلت: خالف الإجماع ، إذا لم أقلها فأقول: إنه قول غير مسبوق. إما أن يقول: إنه سلم حال أو يقول بالأجل فيحدد أجلا، يقول: العلماء اختلفوا في تحديد الأجل إلا أنهم جميعا اتفقوا على أنه يوجد حد.

الملاحظة الثانية: تأجيل رأس المال ، وهذه هي الطامة الكبرى، رأس المال يقال للثمن الذي يدفع يسمى بـ (رأس المال) ، يعني العين الحالة إذا كنت سوف تسلم في قمح أو أرز لفترة معينة في العين التي تدفعها تسمى برأس المال، على الأقل عند المالكية يسمونها برأس المال. تأجيله بشرط –وبشرط هذه زادها بقوة، أن يؤجل رأس المال بشرط - وهو اختيار له غير مسبوق أيضا. القول الضعيف الذي في المذهب ، أولا: متابعة الضعيف هي من المخالفات الكبيرة؛ لأن العلماء قالوا: إنه لا يجوز القول بالضعيف كما قال في مراقي السعود:

وذكر الضعيف ليس للعمل

ذلك عن وفاقهم قد انحول

بل الترقي في مداره السنا

ولحفظ الندرة من له اعتنا

على قوله يوجد تهافت، فالمالكية إذا كانوا يجيزون التأخير إلى ثلاثة أيام؛ لأنها في حكم المعجل لازم هذا القول: إنه سيؤجل رأس المال ويؤجل السلم وسيبيع – لأنه أجاز البيع –هذا لشخص آخر بحيث لا يوجد موضوع لعقد السلم إلا الكلام، هذا قال: إنه عقد سلما والآخر قال: إنه وافق ثم بعد ذلك يجوز البيع لأنه هو أجاز البيع قبل القبض، فحينئذ نجد أنفسنا أمام تهافت واضح. وأعتقد أنه قد وقع في لبس وهي مسألة جواز بيع الغائب بالوصف التي لا يجوز أن يشترط فيها النقد؛ لأننا نحن هنا نتكلم عن السلم ولا نتكلم عن بيع غائب بالوصف. بيع الغائب بالوصف عند المالكية ليس كالسلم، هذا لا يجوز النقد فيه بشرط ويجوز النقد فيه إلا إذا كان قريبا كاليومين أو كان عقارا لا يخشى تغيره.

ص: 487

المسألة الثالثة: طبعا هذه مسألة طفيفة وهي مسألة الدار، قال: إنه يجوز السلم في الدار. المصنع الآن ليس دورا، هي مكان له عرصة وله مكان قائم عليه، وهو لا يجوز أبدا لا يمكن أن يكون سلما لأنه معين، إما أن تقول الدر الفلانية أبيعها لك فهذا بيع لك وليس سلما، وإما أن يكون شيء منشأ كدار فهذا ليس دارا، وبالتالي هنا أعتقد أنك لم تأت بشيء يخرج إذا كان الدار من هذا النوع.

المسألة الرابعة: جواز الاستبدال. وهذه أيضا من مسائله التي خالف فيها الناس. جواز الاستبدال ولو كان طعاما. وهو قلد المالكية في جزء وخالفهم في جزء لم يوافق المالكية ولا غيرهم، كيف يجوز الاستبدال ولو كان طعاما؟ إذا كان المالكية لا يجيزونه في الطعام وغيرهم لا يجيزون الاستبدال مطلقا فمن أين لك هذا القول؟ ! هو ضعف الحديث الذي فيه عدم جواز صرف السلم وأتى بالأثر، هل الأثر صحيح أيضا؟ المسألة هي مسألة من سنن السلم. وأعتقد أن العقود لها سنن فيجب أن نهتم بهذه السنن.

خلاصة القول مع تقديري البالغ للدكتور الضرير وهذا شي أقوله بحقه لتقديري لبحوثه ودراساته واجتهاداته

فإني أقول: إن الأقيسة التي تقدم بها ضعيفة وغير ناضجة وإبطال لعلل الجمهور بطرق غير أصولية. ذكر العلماء على أن السلم رخصة، الرخصة لا يتجاوز بها محلها، والحال أن هذا العقد بيع أقره النبي صلى الله عليه وسلم كان على صورة معينة في المدينة ، فيجب الرجوع إليها وإلا فنحن لا نناقش سلما وإنما نناقش شيئًا آخر.

وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 488

الدكتور منذر قحف:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد.

الذي يبدو لي أن السلَم أداة كما تحدث عنها الفقهاء أنها عقد المحاويج وليست عقدًا للأغنياء-ليست عقد البنك الإسلامي فهو خلافا لما ظن أنه أداة تصلح للتمويل يستعملها البنك الإسلامي. أنا أقول: إنها أبعد ما يكون أو ما تكون عن الصلاح للبنك الإسلامي أداة للتمويل. والأدلة على ذلك:

أولا: واقع الحال أن البنوك الإسلامية لم تستعملها خلال عشرين سنة رغم وجودها.

ثانيا: عندما استعملتها في بلد من البلدان وقعت بطامات كبيرة لم تخرج منها حتى الآن، وفي السودان بلد الشيخ الضرير وتحت أعين الشيخ الضرير وهو يعلم كل المشكلات التي نشأت عن استعمال السلم من قبل البنوك الإسلامية والسبب هو أن السلم بطبيعته متاجرة مباشرة يجعلك في آخر مدة العقد أمام بضاعة لا تعرف كيف تتصرف بها، وأنت أيها البنك الإسلامي تعمل بأموال المودعين لا تعمل برأس مالك بحيث تأخذ من المخاطرة ما أنت حر فيه. لا ينبغي للبنك الإسلامي أو لأي وسيط مالي يعمل بأموال الآخرين، أن يأخذ ذلك القدر الكبير من المخاطرة لأن هذا القدر أكبر مما يتحمله وسيط مالي. الدول الأخرى تقيد الوسيط المالي باستعمالات كثيرة فلا تسمح له أبدا أن يدخل بأعمال فيها مخاطرة أكثر مما ينبغي لمثله، والسلم فيه تلك المخاطرة. لنقارن السلم في هذا مع المرابحة ومع الشركة. عندما يدخل البنك في شركة هو في ذلك يعطي الأمر لأهله وهنا يتدخل هو بالمتاجرة المباشرة مع وجود أهلها.

النقطة الثالثة في السلم: قلة في الكفاءة الاقتصادية للمجتمع بكامله، لأن البنك متخصص بالوساطة المالية، فإذا تعدى هذا الاختصاص إلى غيره ينبغي له أن يكسب أدوات المتاجرة المباشرة، والتجار أقدر عليه من هذا، والتجار بأموالهم أقدر من موظفي البنك على المتاجرة؛ لأن لديهم الدافع الذاتي الذي هو أقوى.

ص: 489

النقطة الرابعة: لنأخذ الأمثلة التي حدثنا عنها، من تطبيقات مقترحة. هذه الأمثلة أربعة منها فيها سلم موازي. السلم الموازي – الحقيقة - كيف نسمي السلم الموازي تمويلا وهو ليس تمويلا أصلا؟ السلم الموازي معناه أن يدفع البنك للتاجر أو للمزارع ويعقد معه سلما فيدفع مالا حالا، ثم يأتي من طرف آخر إلى تاجر فيقبض منه نفس المال. ولو كنا بنفس اليوم لنفرض أن العملية صارت سلمين في آن واحد بوقت واحد لكان السعر واحدا، وإذا كان في السعر فرق فإنما هو سوء في إدارة السوق. يعني السوق ستكون فيها احتكار أو فيها بعض العوامل غير التنافسية حتى اختلف السعر، فما التمويل الذي قام به البنك في هذه الحالة؟ هو دفع هنا وقبض من هنا. هذا هو السلم الموازي بأحسن أمثلته، إذا قام به البنك الإسلامي فلم يقم بتمويله. البنك الإسلامي مهمته التمويل، مهمته أن يبقى المال مع الآخرين، ويتكسب بذلك للمودعين الذين لديه.

أقول: إن عقدي السلم والسلم الموازي يصلحان للتاجر العادي، يصلحان تماما لتاجر الجملة. أقول: لو كنت فقيها لقلت: إنه ينبغي على هذا المجمع الكريم أن ينظر عندما يصدر فتواه إلى مصالح الأمة ومجموعاتها وزمرها ولا ينظر إلى النص، فيقول مثلا: عناية بمصلحة المودعين في المصارف الإسلامية فإنه لا يصح للمصرف الإسلامي كوسيط مالي أن يقوم بسلم ولا بسلم موازي؛ لأن في كليهما مخاطرة تجارية، وفي كليهما أيضا قلة في الكفاءة الاقتصادية للعملية.

بقيت النقطة التي أثارها نص عقد السلم الذي وضعه الدكتور الصديق الضرير. يقول في المادة السابعة: أظن أنه لو زاد السعر فوق الثلث فيتحمله الطرف الآخر. الثلث كثير بل هو كثير جدا، كيف يكون السعر؟ البنوك الإسلامية تعطي مالها سنة بكاملها لتتكسب عشرة أو إحدى عشرة بالمائة؟ فكيف نقول لها: أكسبي فوق ذلك ثلث الثمن ولا بأس بذلك؟ يعني الثلث يخرب بيت الطرف الآخر، كيف نقول: إن الثلث مما يتسامح به وهو انتظار لموسم وليس انتظارا لسنة بكاملها؟ هم ينتظرون سنة ومستعدون لذلك من أجل العشرة بالمائة، فكيف ينتظرون بلك المدة؟

والحمد لله رب العالمين.

ص: 490

الرئيس:

لعلنا بهذا القدر نكتفي ونختم هذه الجلسة لأن الذين بقوا من الذين طلبوا الكلمات هم ضعف الذين سبق حديثهم، ولعل ما مضى فيه البركة والكفاية.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

أما السلم في أحكامه المقررة لدى الفقهاء وهي غير المقصودة في الأصل في هذه الجلسة فقد أخذت النصيب الوافر من المداولات والمناقشات من أصحاب الفضيلة الأعضاء، سواء من حيث التعريف، أو أنه على وفق القياس، ومن حيث شروطه والسلم الموازي، وما إلى ذلك من أحكامه الفقهية. أما الموضوع الذي طرح هذا الموضوع من أجله وهو في تطبيقات السلم وفي تطبيقاته المعاصرة، فلم أستطع أن أقيد ما اتجهت إليه في أي قضية من قضاياه المعاصرة، ولكن قد ترون مناسبا تأليف لجنة من فضيلة العارض الشيخ الصديق الضرير والمقرر الشيخ عطا السيد وأصحاب الفضيلة وهبة الزحيلي والشيخ عجيل النشيمي والشيخ علي محيي الدين القره داغي والشيخ القري ابن عيد.

وهذه اللجنة تنظر في الموضوع ولها أن تستعين ببقية إخواننا الاقتصاديين الموجودين كالأستاذ الجناحي والأستاذ سامي ومن إليهم، ويجعلوا الخطوط الرئيسية التي ينبغي أن يركز عليها في البحث وأن ينظر فيها المجمع في دورة لاحقة –إن شاء الله-ولا نضيع في متاهات الأحكام الأخرى التي هضمها العلماء بحثا ودرسا. مناسب؟

وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 491

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه

قرار رقم:89/2/د9

بشأن (السلم وتطبيقاته المعاصرة)

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ الموافق 1-6 أبريل 1995م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (السلم وتطبيقاته المعاصرة)

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،

قرر أولا بشأن (السلم) ما يلي:

أ - السلع التي يجري فيها عقد السلم تشمل كل ما يجوز بيعه ويمكن ضبط صفاته ويثبت دينا في الذمة، سواء أكانت من المواد الخام أم من المزروعات أم المصنوعات.

ب - يجب أن يحدد لعقد السلم أجل معلوم، إما بتاريخ معين، أو بالربط بأمر مؤكد الوقوع ولو كان ميعاد وقوعه يختلف اختلافا يسيرا لا يؤدي للتنازع كموسم الحصاد.

ج-الأصل تعجيل قبض رأسمال السلم في مجلس العقد ويجوز تأخيره ليومين أو ثلاثة ولو بشرط، على أن لا تكون مدة التأخير مساوية أو زائدة عن الأجل المحدد للسلم.

د-لا مانع شرعا من أخذ المسلم (المشتري) رهنا أو كفيلا من المسلم إليه (البائع) .

هـ -يجوز للمسلم (المشتري) مبادلة المسلم فيه بشيء آخر –غير النقد-بعد حلول الأجل، سواء كان الاستبدال بجنسه أم بغير جنسه. حيث إنه لم يرد في منع ذلك نص ثابت ولا إجماع، وذلك بشرط أن يكون البدل صالحا لأن يجعل مسلما فيه برأس مال السلم.

ص: 492

وإذا عجز المسلم إليه عن تسليم المسلم فيه عند حلول الأجل فإن المسلم (المشتري) يخير إلى أن يوجد المسلم فيه وفسخ العقد وأخذ رأس ماله، وإذا كان عجزه عن إعسار فنظرة إلى ميسرة.

ز-لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه؛ لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير.

ح-لا يجوز جعل الدين رأس مال للسلم لأنه من بيع الدين بالدين.

قرّر ثانيا بشأن (التطبيقات المعاصرة للسلم) :

يعد السلم في عصرنا الحاضر أداة تمويل ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية، من حيث مرونتها واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة، سواء أكان تمويلا قصير الأجل أم متوسطه أم طويله، واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة ومتعددة من العملاء، سواء أكانوا من المنتجين الزراعيين أم الصناعيين أم المقاولين أم من التجار، واستجابتها لتمويل نفقات التشغيل والنفقات الرأسمالية الأخرى.

ولهذا تعددت مجالات تطبيق عقد السلم، ومنها ما يلي:

أ - يصلح عقد السلم لتمويل عمليات زراعية مختلفة، حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقع أن توجد لديهم السلعة في الموسم من محاصيلهم أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم، فيقدم لهم بهذا التمويل نفعا بالغا ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم.

ب - يمكن استخدام عقد السلم في تمويل النشاط الزراعي والصناعي، ولا سيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة، وذلك بشرائها سلما وإعادة تسويقها بأسعار مجزية.

ج-يمكن تطبيق عقد السلم في تمويل الحرفيين وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين عن طريق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات أو مواد أولية كرأس مال سلم مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها.

ويوصي المجلس باستكمال صور التطبيقات المعاصرة للسلم بعد إعداد البحوث المتخصصة.

ص: 493