المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

‌التضخم والكساد

في ميزان الفقه الإسلامي

إعداد

الدكتور علي أحمد السالوس

أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة

جامعة قطر

التضخم والكساد

في ميزان الفقه الإسلامي

تقديم:

المبحث الأول: الاستقرار النسبي للنقود السلعية.

المبحث الثاني: بيان السنة المطهرة.

المبحث الثالث: أثر انخفاض قيمة النقود والكساد عند الفقهاء:

المطلب الأول: أقوال المالكية.

المطلب الثاني: أقوال الشافعية.

المطلب الثالث: أقوال الحنابلة.

المطلب الرابع: أقوال الحنفية.

المبحث الرابع: التضخم وأنواعه.

المطلب الأول: تعريف التضخم.

المطلب الثاني: أنواع التضخم.

أولاً: التضخم في ظل قاعدة الذهب.

ثانياً: التضخم الدائم.

ثالثاً: التضخم الجامح.

المبحث الخامس: قياس التضخم.

المبحث السادس: التضخم والكساد.

المطلب الأول: مفهوم الكساد.

المطلب الثاني: نوع التضخم الذي يعتبر كساداً.

خاتمة: من المسؤول عن علاج التضخم؟

ص: 924

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم:

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا برهم يعدلون. والحمد لله الذي لا يؤدي شكر نعمة من نعمه إلا بنعمةٍ منه، توجب على مؤدى ما مضى نعمه بأدائها: نعمة حادثة يجب عليه شكره بها. ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه. أحمده حمداً كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. وأستعينه استعانة من لا حول ولا قوة إلا به. وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه. وأستغفره لما أزلفت وأخرت، استغفار من يقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. (1) أما بعد،

فبخصوص أحكام العملات الورقية انتهى المجمع الموقر في دورته الثالثة إلى أنها نقود اعتبارية، فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة، من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها.

وبشأن تغير قيمة العملة قرر المجمع في دورته الخامسة أن العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة، لأن الديون تقضى بأمثالها. فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة –أياً كان مصدرها- بمستوى الأسعار.

وبعد القرارين، وبحث الموضوع في أكثر من ندوة علمية، خرج منها المشاركون بما يتفق مع القرارين المذكورين، ظننت أن أحكام العملة الورقية لم تعد مجالا للبحث مرة أخرى، فقد حظي هذا الموضوع بالبحث والدراسة والمناقشة بما لم يحظ غيره من جميع الموضوعات. ولكني فوجئت بدعوة كريمة للكتابة عن مفهوم كساد النقود الورقية في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة، وحدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقوداً كاسدة.

(1) نقلت هذا من مقدمة الإمام الشافعي لرسالته في أصول الفقه.

ص: 925

ولما كنت قد اعتذرت من قبل عن عدم الكتابة لظروف خاصة، وتكررت الدعوة من أخ نجله ونحبه ونقدره، أمين –ونعم الأمين- لمجمع موقر له أثره في العالم الإسلامي، رأيت ألا مناص من الاستجابة لهذه الدعوة. ومستعيناً مستهدياً بالله عز وجل بدأت الكتابة فقسمت الموضوع إلى ستة مباحث وخاتمة:

في المبحث الأول تحدثت عن الاستقرار النسبي للنقود السلعية لأقارن بينه وبين التضخم في عصرنا.

والمبحث الثاني خصصته لبيان السنة المطهرة، ليكون معلوماً منذ البداية أن الموضوع له أصل في السنة.

والمبحث الثالث كان عن أثر انخفاض قيمة النقود والكساد عند الفقهاء، وذلك لبيان الرأي الفقهي عند مناقشة التضخم.

وانتقلت بعد ذلك لتعريف التضخم وبيان أنواعه في المبحث الرابع. ثم لقياس التضخم في المبحث الخامس وبيان أن هذا ينبني على افتراضات جزافية لا يمكن أن تكون أساساً لحكم شرعي.

وفي المبحث السادس بينت مفهوم الكساد في اللغة وعند الفقهاء، ونوع التضخم الذي يتفق مع هذا المفهوم، وهو التضخم الجامح في مراحله الأخيرة فقط.

وجعلت الخاتمة لبيان أن الدولة هي المسؤولة أولاً عن مرض التضخم، وعليها تبعة العلاج، فلا يجوز أن يتحمل الأفراد مسؤولية غيرهم.

وأسأل الله –عز وجل أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وهو المستعان، وله الحمد في الأولى والآخرة.

ص: 926

المبحث الأول

الاستقرار النسبي للنقود السلعية

في عصر التشريع كان الغالب في سعر الصرف الدينار بعشرة دراهم، ولذا كان نصاب الزكاة عشرين ديناراً أو مئتي درهم. وبالبحث في النصاب، ووزن كل من الدينار والدرهم نجد أن قيمة الذهب كانت سبعة أضعاف قيمة الفضة. ومع أن الذهب والفضة يتميزان بالاستقرار النسبي غير أن العلاقة بينهما لم تظل ثابتة، فيتغير سعر الصرف من وقت لآخر، بل وجدنا –في عصرنا- الفضة تهبط إلى ما يقرب من واحد في المئة (1?) من قيمة الذهب.

كما أن العلاقة بينهما وبين باقي الأشياء لم تظل ثابتة، مثال هذا عندما غلت الإبل في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فزاد مقدار الدية من النقدين.

إن هذه الزيادة تعني أن النقود انخفضت قيمتها بالنسبة للإبل. ولكن الأمر لم يكن قاصراً على الإبل، فغيرها قد يرتفع ثمنه وقد ينخفض، وارتفاع الثمن يعني انخفاض قيمة النقود، وانخفاض ثمن السلع يعني ارتفاع النقود.

غير أن الزيادة أو النقصان لم تكن بالصورة التي شهدها عصرنا، عصر النقود الورقية، وعلى الأخص بعد التخلي عن الغطاء الذهبي، ولجوء بعض الدول أو اضطرارها إلى خفض قيمة ورقها النقدي.

والغلاء الفاحش الذي ساد في عصرنا لم يكن سائداً في الدول الإسلامية من قبل لالتزامها بمنهج الإسلام أو قربها منه. فالاقتصاد الإسلامي يعني زيادة الإنتاج، وعدالة التوزيع، وترشيد الاستهلاك. والإسلام يمنع الوسائل التي تؤدي إلى غلاء الأسعار كما هو معلوم لمن يدرس البيوع المنهي عنها، وينهى عن ظلم المسلمين بكسر سكتهم وإفساد أموالهم.

جاء في البيان والتحصيل (6/474) ما يأتي: قال محمد بن رشد: (الدنانير التي قطعها من الفساد في الأرض هي الدنانير القائمة التي تجوز عدداً بغير وزن، فإذا قطعت فردت ناقصة غش بها الناس فكان ذلك من الفساد في الأرض، وقد جاء في تفسير قوله عز وجل قال:{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] .

إنهم أرادوا بذلك قطع الدنانير والدراهم؛ لأنه كان نهاهم عن ذلك، وقيل: إنهم أرادوا بذلك تراضيهم فيما بينهم بالربا الذي كان نهاهم عنه، وقيل: إنهم أرادوا بذلك منعهم للزكاة وأولى ما قيل في ذلك أنهم أرادوا بذلك جميع ذلك. وأما قطع الدنانير المقطوعة فليس قطعها من الفساد في الأرض، وإنما هو مكروه) .

ص: 927

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم. ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلاً، بأن يشتري نحاساً فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل، فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضاً، وضرب لهم فلوساً أخرى: أفسد ما عندهم من الأموال ينقص أسعارها، فيظلمهم فيها، ولظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.

وأيضاً فإذا اختلفت مقادير الفلوس: صارت ذريعة إلى أنا الظلمة يأخذون صغاراً فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها، فتفسد أموال الناس، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم، إلا من بأس" فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس، ولم يشتر ولي الأمر النحاس، والفلوس الكاسدة ليضربها فلوساً، ويتجر بذلك: حصل بها المقصود من الثمنية) . (1)

وقال ابن القيم: (فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع، ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم، والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم، ولو جعلت ثمناً واحداً لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يعطي صحاحاً، ويأخذ مكسرة أو خفافاً ويأخذ ثقالاً أكثر منها، لصارت متجراً. أو جر ذلك ربا النسيئة فيها ولا بد. فالأثمان لا تقصد لأعيانها. بل يقصد التوصل بها إلى السلع. فإذا صارت في أنفسها سلعة تقصد لأعيانها فسد أمر الناس. وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات) . (2)

وفي المعيار المعوب لأبي العباس الونشريسي (6/407) تحت عنوان: (ما يجب على الوالي أن يفعله إزاء مرتكبي التزوير في النقود) نجد ما يأتي:

(ولا يغفل النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة مخلوطة بالنحاس، بأن يشتد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر به أناله من شدة العقوبة، وأمر أن يطاف به الأسواق لينكله ويشرد به من خلفه لعلهم يتقون عظيم ما نزل به من العقوبة ويحبسه بعد، على قدر ما يرى، ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق، حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم. فإن هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه يعمهم نفعه في دينهم ودنياهم، ويرتجي لهم الزلفى عند ربهم والقربة إليه إن شاء الله، المكيال والميزان الأمداد والأقفزة والأرطال والأواقي) .

(1) الفتاوى: 29/469.

(2)

إعلام الموقعين: 2/123.

ص: 928

المبحث الثاني

بيان السنة المطهرة

مما يعد أصلاً في موضوعنا ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم (1)

عن ابن عمر –رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) .

وفي لفظ بعضهم: (أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير) .

فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو بالدراهم، وقد يقبض الثمن في الحال، وقد يبيع بيعاً آجلاً، وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم، وقد يجد من اشترى بدراهم ليس معه إلا دنانير، أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟

مثلاً إذا باع بمئة دينار، وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم، أي أن له ما قيمته ألف درهم، وتغير سعر الصرف يوم الأداء فأصبح الدينار مثلاً بأحد عشر درهما، أفيأخذ الألف ألفاً ومئة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط، أفيأخذ تسعمئة درهم يمكن صرفها بمئة دينار يوم الأداء، أم يأخذ ألف درهم قيمة مئة دينار يوم البيع؟

بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء

وابن عمر، الذي عرف الحكم من الرسول الكريم –سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كري لهما، عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير، فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق.

فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته، حيث يؤدى عند تعذر المثل بما يقوم مقامه، وهو سعر الصرف يوم الأداء، يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين.

(1) وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي: 2/44. وبين الشيخ أحمد شاكر صحته مرفوعاً وموقوفاً انظر المسند: 7/50 رواية: 4883. والشيخ الألباني ضعفه مرفوعاً وقوّى وقفه (إرواء الغليل: 5/173) ، ولكن تضعيفه ليس بحجة؛ لأنه يعني تضعيف من احتج به الإمام مسلم، ولا يتسع المجال هنا للمزيد. وانظر في فقه الحديث على سبيل المثال: مشكل الآثار للطحاوي: 2/95-97، وفتاوى ابن تيمية: 29/519، وإعلام الموقعين لابن القيم: 4/408.

ص: 929

ومن السنة المطهرة ما يبين أن الأموال الربوية ينظر فيها إلى المثل قدراً، ولا عبرة بالقيمة؛ ويوضح هذا حديث تمر خيبر المشهور، حيث قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: إنا نبتاع الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم:((لا تفعل)) –وفي رواية-: ((إنه عين الربا بيع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) .

ومما يعد أصلاً في موضوعنا كذلك ما رواه أبو داود في سننه عن المستورد بن شداد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً)) . وما رواه أحمد في مسنده عن المستورد أيضاً فقال: ((من ولي لنا عملاً فلم يكن له زوجة فليتزوج، أو خادم فليتخذ خادماً، أو مسكن فليتخذ مسكناً، أو دابة فليتخذ دابة)) . (1)

قال الخطابي في معالم السنن: هذا يتأول على وجهين:

أحدهما: أنه إنما أباح اكتساب الخادم والمسكن من عمالته التي هي أجرة مثله.

والوجه الآخر: أن للعامل السكنى والخدمة، فإن لم يكن له مسكن ولا خادم استؤجر له من يخدمه فيكفيه مهنة مثله، ويكترى له مسكن يسكنه مدة مقامه في عمله.

وفي عون المعبود (8/161) جاء في شرح الحديث: "يحل له أن يأخذ مما في تصرفه من مال بيت المال قدر مهر زوجة ونفقتها وكسوتها، وكذلك ما لا بد منه من غير إسراف وتنعم". وذكر بعد هذا قول الخطابي.

يؤخذ من هذا الحديث الشريف أن أجر العامل مرتبط بتوفير تمام الكفاية، ومعنى هذا أن الأجر يجب أن يتغير تبعاً لتغير قيمة العملة، وهذا يختلف عن الالتزام بالدين كما بينه حديث ابن عمر.

(1) انظر كتاب الخراج والفيء والإمارة في سننه –باب في أرزاق العمال- وانظر مسند أحمد: 4/229- 230. والحديث سكت عنه هو المنذري، ولكن السيوطي –مع تساهله في التصحيح- ذكره في الجامع الصغير ورمز له بعلامة الضعف! فلم يوافقه المناوي، وذكر في فيض القدير قول الهيثمي: رجاله ثقات أثبات. وراجعت الحديث، ونظرت في كتاب الرجال، فوجدت الحق مع المناوي والهيثمي، فأبو داود يرويه هكذا:"حدثنا موسى بن مروان الرقي، أخبرنا المعافى، أخبرنا الأوزاعي، عن الحارث بن يزيد، عن جبير بن نفير، عن المستورد بن شداد، قال" وهذا الإسناد متصل بغير انقطاع، ورجاله كلهم ثقات غير مجروحين. وفي المسند نجد ثلاث روايات للحديث عن عبد الرحمن بن جبير من أربعة طرق، عن المستورد فالحديث يرويه عن المستورد بن شداد، إذن جبير بن نفير عند أبي داود، وعبد الرحمن بن جبير عند أحمد.

ص: 930

المبحث الثالث

أثر انخفاض قيمة النقود والكساد عند الفقهاء

بعد الحديث عن بيان السنة المطهرة نأتي إلى الفقه الإسلامي لنرى ماذا قال السادة الفقهاء. والقول عند الحنفية يطول ذكره، وعلى الأخص بعد رسالة ابن عابدين في النقود ولهذا أبدأ بغيرهم ثم أنتهي إليهم.

المطلب الأول

أقوال المالكية

في المدونة الكبرى: (4/25) يذكر ابن وهب قول الإمام مالك: "كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا ". ويقول بعد هذا: وأخبرني حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس بنحو ذلك، وأخبرني عقبة بن نافع، عن خالد بن يزيد، أن عطاء بن أبي رباح كان يقول بنحو ذلك أيضاً.

وفي البيان والتحصيل: (6/629) لابن رشد (الجد) نجد ما يأتي: عن مالك في رجل قال لرجلك ادفع إلى هذا نصف دينار فدفع إليه به دراهم، قال ابن القاسم: ليس عليه إلا عدة الدراهم التي دفع يومئذ؛ لأنه نصف دينار، وليس عليه أن يخرج ديناراً فيصرفه وإنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام، قال سحنون: قال ابن القاسم يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم، وأما إن كان إنما دفع إليه ديناراً فصرفه فله نصف دينار بالغاً ما بلغ.

ص: 931

قال محمد بن رشد: كذا وقع في هذه المسألة، قال ابن القاسم: وليس إلا عدة دراهم التي دفع وصوابه: قال مالك: فإن المسألة في قوله بدليل تفسير ابن القاسم بقوله: يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم: (6/429) .

وفي البيان والتحصيل أيضاً (6/487-488) : وسألته (أي مالكاً) عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوب عليه من صرف عشرين بدينار أو خمسة دراهم من صرف عشرة دراهم دينار، فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك أو أكثر إذا كانت تلك العشرة دراهم أو الخمسة المكتوبة عليه من بيع باعه إياه، فأما إن كانت من سلف أسلفه فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه.

فقيل له: أرايت إن باعه ثوباً بثلاثة دراهم ولا يسمي له –صرف كذا وكذا- والصرف يومئذ تسعة دراهم بدينار.

قال: إذا لم يقل من صرف كذا وكذا أخذ بالدراهم الكبار ثلاثة دراهم، وإنما قال بثلاثة دراهم من صرف كذا وكذا بدينار فذلك جزء من الدينار ارتفع الصرف أو خفض، وقد كان بيع من بيوع أهل مصر يبيعون الثياب بكذا وكذا درهماً من صرف كذا وكذا بدينار، فيسألون عن ذلك كثيراً فهو كذا.

قال محمد بن رشد: هذا كما ذكر، وهو مما لا اختلاف فيه إذا باع كذا وكذا درهماً ولم يقل من صرف كذا فله عدد الدراهم التي سمى ارتفع الصرف أو اتضع، وإذا قال بكذا وكذا درهماً وصرف كذا وكذا فلا تكون له الدراهم التي سمى، إذا لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي أراد البيع به من لدينار، فله ذلك الجزء، وكذلك إذا قال: أبيعكم بنصف دينار من ضرب عشرين درهماً بدينار، فإنما له عشرة دراهم إذا لم يسم نصف الدينار إلا ليتبين به الدراهم التي أراد البيع بها من الدينار (6/487- 488) .

وقال الدردير: وإن بطلت معاملة من دنانير أو دراهم أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض أو بيع وتغير التعامل بها بزيادة أو نقص (فالمثل) أي الواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة (وإن عدمت) في بلد المعاملة وإن وجدت في غيرها (فالقيمة يوم الحكم) أي تعتبر يوم الحكم بأن يدفع له قيمتها عرضاً أو يقوم العرض بعين من المتجددة، ويتصدق بما يغش به الناس، أدباً للغاش فجاز للحاكم كالمكتسب أن يتصدق به على الفقراء. (1)

(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك: 2/23.

ص: 932

وقال أيضاً: (ورد) المقترض على المقرض (مثله) قدراً وصفة (أو) رد (عينه إن لم يتغير) في ذاته عنده ولا يضر بغير تغير السوق فإن تغير تعين رد مثله (وجاز أفضل) أي رد أفضل مما اقترضه صفة؛ لأنه من قضاء إذا كان بلا شرط، وإلا منع الأفضل، والعادة كالشرط، ويتعين رد مثله. (1)

وقال الصاوي في شرحه لقول الدردير: (قوله: أي فالواجب قضاء المثل) أي لو كان مئة بدرهم ثم صارت ألفاً بدرهم أو بالعكس، وكذا لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صار بمئة وسبعين وبالعكس، وكذا إذا كان المحبوب بمئة وعشرين ثم صار بمئتين أو بالعكس، وهكذا. قوله:(فالقيمة يوم الحكم) وهو متأخر عن يوم انعدامها وعن يوم الاستحقاق، والظاهر أن طلبها بمنزلة التحاكم، وحينئذ فتعتبر القيمة يوم طلبها. وظاهره ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس، وبه قال بعضهم. وقال بعضهم: هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل، وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو مما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة عن القديمة، وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله. قال الأجهوري: كمن عليه طعام امتنع ربه من أخذه حتى غلا فليس لربه إلا قيمته يوم امتناعه وتبين ظلمه. (2)

وفي المعيار المعرب تحت عنوان: (الحكم إذا بدلت سكة التعامل بأخرى) يقول المؤلف: وسئل عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف وكان ذلك على جهة، فبأيهما يقضى له؟ وعن رجل باع بالدراهم المفلسة فتأخر الثمن إلى أن تبدل، فبأيهما يقضى له؟

فأجاب: لا يجب للبائع قبل المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده، فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه. وإن لم يوجد رجع إلى القيمة ذهباً لتعذره.

ومن باع بالدراهم المفلسة الوازنة فليس له غيرها، إلا أن يتطوع المشتري، بدفع وازنة غير مفلسة بعد المفلسة فضلاً منه. (3)

وتحت عنوان: "ما الحكم فيمن أقرض غيره مالاً من سكة ألغي التعامل بها"؟ قال صاحب المعيار: سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟

فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه أشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام، ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد سكة أخرى.

(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك: 2/106

(2)

بلغة السالك: 2/23.

(3)

الكتاب المذكور: 6/461-462، والمسؤول هو أبو سعيد بن لب.

ص: 933

أفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة. وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب.

قال: وأرسل إلي ابن عتاب فنهضت إليه فذكر المسألة، وقال لي: الصواب فيها فتواي، فاحكم بها ولا تخالفها، أو نحو هذا من الكلام.

وكان محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض، فله العوض. أخبرني به الشيخ أبو عبد الله بن فرج عنه.

وكان الفقيه أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى داراً أو حماماً بدراهم، موصوفة جارية بين الناس حين العقد، ثم غيرت دراهم تلك البلد إلى أفضل منها، أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء، دون النقد الجاري حين العقد.

وقد نزل هنا ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال، ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال، فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة. وكانت حجته في ذلك، أن السلطان منع من إجرائها وحرم التعامل بها، وهو خطأ من الفتوى.

وأفتى أبو الوليد الباجي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد. (1)

ومن أقوال المالكية السابقة نرى ما يأتي:

1-

القرض يرد بمثله في كل شيء، والزيادة على المثل من الربا.

2-

تغير السعر لا يؤثر في وجوب رد القرض بمثله قدراً وصفة، وكذلك الدين الناشئ عن البيع، وإن كان التغير فاحشاً، كعشرة أضعاف مثلاً.

3-

يجوز الاتفاق وقت عقد البيع على عملة بسعر الصرف حينئذ، ولكن لا يجوز هذا في القرض.

4-

إبطال التعامل بالدنانير أو الدراهم أو الفلوس لا يمنع وجوب رد المثل ما دامت موجودة في بلد المعاملة. فإن عدمت يلجأ إلى القيمة يوم المطالبة عند التحاكم، وذلك لتعذر المثل.

وفسر الصاوي هذا بقوله: (وظاهره: ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس، وبه قال بعضهم. وقال بعضهم: هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل، وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو مما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة عن القديمة، وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله) .

وأفتى ابن عتاب بأن صاحب الدين يأخذ قيمة السكة المقطوعة من الذهب، وأفتى ابن عبد البر بأخذ السكة الأخيرة.

5-

يمكن أن تكون القيمة مقدرة بغير الذهب والفضة، وقال سحنون:(القيمة لا تكون إلا بالذهب والورق) . (راجع البيان والتحصيل: 7/214) .

(1) المرجع السابق: 6/163-164.

ص: 934

المطلب الثاني

أقوال الشافعية

قال الإمام الشافعي في كتاب الأم (3/28) : "ومن سلف فلوساً أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي أسلف أو باع بها. ومن أسلف رجلاً دراهم على أنها بدينار أو بنصف دينار فليس عليه إلا مثل دراهمه وليس له عليه دينار ولا نصف دينار، وإن استسلفه نصف دينار فأعطاه ديناراً فقال: خذ لنفسك نصفه وبع لي نصفه بدراهم ففعل ذلك كان له عليه نصف دينار ذهب، ولو كان قال له: بعه بدراهم ثم خذ لنفسك نصفه ورد علي نصفه كانت له دراهم؛ لأنه حينئذ إنما أسلفه دراهم لا نصف دينار".

وقال الشيرازي في المهذب: ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل؛ لأن مقتضى القرض رد المثل، ولهذا يقال: الدنيا قروض ومكافأة فوجب أن يرد المثل، وفيما لا مثل له وجهان (أحدهما) يجب عليه القيمة؛ لأن ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات. (والثاني) يجب عليه مثله في الخلقة والصورة. (1) وقال أيضاً: ما له مثل إذا عدم وجبت قيمته.

قال الشيخ أبو حامد: إنما وجب عليه دفع القيمة يوم المطالبة. (2)

وقال الصيمري: ولا يجوز قرض الدراهم المزيفة، ولا الزرنيخية، ولا المحمول عليها، ولو تعامل بها الناس، فلو أقرضه دراهم أو دنانير ثم حرمت لم يكن له إلا ما أقرض، وقيل: قيمتها يوم حرمت، ولا يصح القرض إلا في مال معلوم، فإن أقرضه دراهم غير معلومة الوزن أو طعاماً غير معلوم الكيل لم يصح؛ لأنه إذا لم يعلم قدر ذلك لم يمكنه القضاء. (3)

وقال النووي: ولو أقرضه نقداً، فأبطل السلطان المعاملة به، فليس له إلا النقد الذي أقرضه. (4)

وقال ابن حجر الهيثمي: ويرد وجوباً حيث لا استبدال المثل في المثلي، ولو نقداً أبطله السلطان؛ لأنه أقرب إلى حقه، وفي المتقوم، ويأتي ضابطهما في الغصب برد المثل صورة. (5)

وفي شرح الشرواني لما سبق قال: (قوله: ولو نقداً أبطله السلطان) فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زمننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد ثم إبطالها، وإخراج غيرها وإن لم تكن نقداً. (6)

وأقوال الشافعية والإمام واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان.

(1) المجموع شرح المهذب: 12/185.

(2)

المجموع شرح المهذب: 12/187

(3)

المجموع شرح المهذب: 12/181

(4)

روضة الطالبين: 4/37.

(5)

تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني: 5/44.

(6)

حاشية الشرواني: 5/44.

ص: 935

المطلب الثالث

أقوال الحنابلة

قال ابن قدامة في المغني: (4/356-358) : وإن كانت الدراهم يتعامل بها عدداً فاستقرض عدداً رد عدداً وإن استقرض وزناً رد وزناً. وهذا قول الحسن وابن سيرين والأوزاعي، واستقرض أيوب من حماد بن زيد دراهم بمكة عدداً وأعطاه بالبصرة عدداً؛ لأنه وفاه مثل ما اقترض فيما يتعامل به الناس. فأشبه ما لو كانوا يتعاملون بها وزناً فرد وزناً.

ويجب رد المثل في المكيل والموزون، لا نعلم فيه خلافاً، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من أسلف سلفاً مما يجوز أن يسلف فرد عليه مثله أن ذلك جائز، وأن للمسلف أخذ ذلك؛ ولأن المكيل الموزون يضمن في الغصب والإتلاف بمثله فكذا المكيل والموزون ففيه وجهان:

(أحدهما) : يجب رد قيمته يوم القرض؛ لأنه لا مثل له فيضمنه بقيمته كحال الإتلاف والغصب.

(الثاني) : يجب رد مثله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فرد مثله. ويخالف الإتلاف، فإنه لا مسامحة فيه، فوجبت القيمة؛ لأنها أحصر، والقرض أسهل، ولهذا جازت النسيئة فيه فيما فيه الربا. ويعتبر مثل صفاته تقريباً، فإن حقيقة المثل إنما توجد في المكيل الموزون، فإن تعذر المثل فعليه قيمته يوم تعذر المثل؛ لأن القيمة ثبتت في ذمته حينئذ، وإذا قلنا: تجب القيمة وجبت حين القرض؛ لأنها حينئذ ثبتت في ذمته.

وقال في موضع آخر (4/364-365) : ولو أقرضه تسعين ديناراً بمئة عدداً والوزن واحد وكانت لا تنفق في مكان إلا بالوزن جاز، وإن كانت تنفق برؤوسها فلا؛ وذلك لأنها إذا كانت تنفق في مكان برؤوسها كان ذلك زيادة، لأن التسعين من المئة تقوم مقام التسعين التي أقرضه إياها يستفضل عشرة، ولا يجوز اشتراط الزيادة، وإذا كانت لا تنفق إلا بالوزن فلا زيادة فيها وإن كثر عددها.

ص: 936

ثم قال: المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا، أو كان بحاله، ولو كان ما أقرضه موجوداً بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره أو لم يتغير، وإن حدث به عيب لم يلزمه قبوله، وإن كان القرض فلوساً سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها؛ لأنها تعيبت في ملكه، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة، وقال: يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيراً. قال القاضي: هذا إذا اتفق الناس على تركها، فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها، وقال مالك والليث بن سعد، والشافعي: ليس له إلا مثل ما أقرضه؛ لأن ذلك ليس بعيب حدث فجرى مجرى نقص سعرها، ولنا أن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها، وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيراً مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق، أو قليلا؛ لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت. (1)

وما ذكره ابن قدامة يوضح المذهب، ويغني عما جاء في كثير من كتب الحنابلة، وأضيف هنا ثلاث مواد جاءت في مجلة الأحكام الشرعية وهي في الفقه الحنبلي.

مادة (748) : لا يلزم المقترض رد عين مال المقرض ولو كان باقياً، لكن لو رد المثلي بعينه من غير أن يتعيب لزم المقرض قبوله ولو تغير السعر، أما المتقوم إذا رده بعينه لا يلزمه قبوله وإن لم يتغير سعره.

مادة (749) : المكيلات والموزونات يجب رد مثلها، فإن أعوز لزم رد قيمته يوم الإعواز، وكذلك الفلوس والأوراق النقدية. أما غير ذلك فيجب فيه رد القيمة فالجوهر ونحوه مما تختلف قيمته كثيراً تلزم قيمته يوم القبض.

مادة (750) : إذا كان القرض فلوساً أو دراهم مكسرة أو أوراقاً نقدية فغلت أو رخصت أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها، أما إذا حرم السلطان التعامل بها فتجب قيمتها يوم القرض ويلزمه الدفع من غير جنسها إن جرى فيها ربا الفضل، وكذا الحكم في سائر الديون وفي ثمن لم يقبض وفي أجرة وعوض خلع وعتق ومتلف وثمن مقبوض لزم البائع رده.

(1) المغني: 4/365، وانظر الشرح الكبير: 4/358، ومطالب أولي النهى: 3/241-243، المبدع: 4/207.

ص: 937

المطلب الرابع

أقوال الحنفية

قال المرغيناني في الهداية: ولو استقرض فلوساً نافقة فكسدت عند أبي حنيفة رحمه الله يجب عليه مثلها؛ لأنه إعارة وموجبه رد العين: معنى، والثمنية فضل فيه، إذ القرض لا يختص به. وعندهما تجب قيمتها؛ لأنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض فيجب رد قيمتها، كما إذا استقرض مثليًّا فانقطع. لكن عند أبي يوسف رحمه الله يوم القبض، وعند محمد رحمه الله يوم الكساد على ما مر من قبل. وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليًّا فانقطع. وقول محمد رحمه الله أنظر للجانبين، وقول أبي يوسف أيسر. (1)

وقال ابن الهمام في فتح القدير شارحاً ما سبق (2)(قوله: ولو استقرض فلوساً فكسدت عند أبي حنيفة رحمه الله يرد مثلها) عدداً، اتفقت الروايات عنه بذلك، وأما إذا استقرض دراهم غالبة الغش فقال أبو يوسف في قياس قول أبي حنيفة عليه مثلها، ولست أروي ذلك عنه، ولكن الرواية في الفلوس إذا أقرضها ثم كسدت. فقال أبو يوسف: عليه قيمتها في آخر وقت نفاقها. وجاء قوله (لأنه) أي القرض (إعارة وموجبة) أي موجب عقد الإعارة (رد العين) إذ لو كان استبدالاً حقيقة موجباً لرد المثل استلزم الربا للنسيئة، فكان موجباً رد العين، إلا أن ما تضمنه هذا العقد لما كان تمليك المنفعة بالاستهلاك لا مع بقاء العين لزم تضمنه لتمليك العين، فبالضرورة اكتفى برد العين معنى وذلك برد المثل، ولذا يجبر المغصوب منه على قبول المثل إذا أتى به الغاصب في غصب المثلي بلا انقطاع، مع أن موجب الغصب رد العين وذلك حاصل بالكاسد (والثمنية فضل في القرض) غير لازم فيه ولذا يجوز استقراضها بعد الكساد، وكذا يجوز استقراض كل مثلي وعددي متقارب ولا ثمنية. (ولهما أنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبضه فيجب رد قيمتها) وهذا لأن القرض وإن لم يقتض وصف الثمنية لا يقتضي سقوط اعتبارها إذا كان المقبوض قرضاً موصوفاً بها؛ لأن الأوصاف معتبرة في الديون لأنها تعرف بها بخلاف الأعيان المشار إليها وصفها لغو؛ لأنها تعرف بذواتها. وتأخير دليلهما بحسب عادة (المصنف) ظاهر في اختياره قولهما. (ثم أصل الاختلاف) في وقت الضمان اختلافهما (فيمن غصب مثليًّا فانقطع وجبت القيمة عند أبي يوسف يوم الغصب وعند محمد يوم القضاء) وقولهما أنظر للمقرض من قول أبي حنيفة؛ لأن في رد المثل إضراراً به، ثم قول أبي يوسف أنظر له أيضاً من قول محمد؛ لأن قيمته يوم القرض أكثر من قيمته يوم الانقطاع. (فكان قول محمد أنظر) للمستقرض من قول أبي يوسف (وقول أبي يوسف أيسر) لأن القيمة يوم القبض معلومة ظاهرة لا يختلف فيها، بخلاف ضبط وقت الانقطاع فإنه عسر، فكان قول أبي يوسف أيسر في ذلك.

(1) انظر الهداية: 6/278-279، معه شروحه: العناية وفتح القدير والكفاية.

(2)

الكتاب المذكور: 6/278-280.

ص: 938

قال صاحب الكفاية (6/279-280) : قوله: (وأصل الاختلاف) أي أصل الاختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وإنما قيدنا به؛ لأنه بني هذا الاختلاف في غصب المثلي كالرطب مثلاً، وفيه كان الاختلاف بينهما نظير الاختلاف الذي نحن فيه، كذا في النهاية. وفي فوائد الخبازي: وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليًّا فانقطع، إلا أن هناك نعتبر القيمة يوم الخصومة عند أبي حنيفة رحمه الله، وهنا لا يقول به؛ لأن إيجاب قيمتها من الفضة يوم الخصومة لا يفسد؛ لأن قيمتها كاسدة وعينها سواء. بل إيجاب العين كاسدة أعدل من قيمتها كاسدة، فأوجب مثلها كاسدة. وعندهما لما وجب اعتبار قيمتها رائجة إما يوم القبض أو آخر يوم كانت رائجة فيه فكسدت كان إيجاب قيمتها من الفضة أولى من إيجاب عينها كاسدة كما في المبسوط. وقول محمد رحمه الله أنظر في حق المقرض بالنظر إلى قول أبي حنيفة رحمه الله، وكذا في حق المستقرض بالنسبة إلى قول أبي يوسف رحمه الله، وفي فتاوى قاضيخان رحمه الله قال محمد رحمة الله عليه: قيمتها في آخر يوم كانت رائجة، وعليه التفوى. وقول أبي يوسف رحمه الله أيسر أي للمفتي أو القاضي؛ لأن قيمته يوم القبض معلومة، ويوم الانقطاع لا يعرف إلا بحرج.

وقال صاحب العناية: (6/279-280) : ولا شك أن قيمة يوم القبض أكثر من قيمة يوم الانقطاع، وهو ضرر بالمستقرض، فكان قول محمد أنظر للجانبين (وقول أبي يوسف أيسر) ؛ لأن قيمته يوم القبض معلومة للمقرض والمستقرض وسائر الناس، وقيمة يوم الانقطاع تشتبه على الناس ويختلفون فيها فكان قوله أيسر.

هذا ما جاء في الهداية، وشروحه الثلاثة. وهو يتعلق بحالة الكساد والانقطاع. غير أن العلامة ابن عابدين أغنانا عن الرجوع إلى كثير من كتب الحنفية ببحثه القيم (تنبيه الرقود على مسائل النقود) . قال في البداية: هذه الرسالة سميتها تنبيه الرقود على مسائل النقود، من رخص وغلاء وكساد وانقطاع. جمعت فيها ما وقفت عليه من كلام أئمتنا ذوي الارتقاء والارتفاع، ضامناً إلى ذلك ما يستحسنه ذوو الإصغاء والاستماع.. إلخ. ورسالة ابن عابدين تقع في عشر صفحات، والكتب التي جمع منها فيها المتفق عليه والمختلف فيه، وفي بعضها ما يعارض بعضها الآخر. ورأينا من ينقل بعض ما ذكره ابن عابدين منسوباً لأصحابه دون النظر إلى ما ذكره في موضع آخر معارضاً الرأي الأول، بل أخذ أحد الرأيين على أنه المذهب الحنفي. لذلك رأيت أن أبين خلاصة ما جاء في الرسالة كلها.

ص: 939

بعد أن انتهى ابن عابدين من التعريف برسالته بدأها بما يأتي: قال في الولواجية في الفصل الخامس من كتاب البيوع: رجل اشترى ثوباً بدراهم نقد البلدة فلم ينقدها حتى تغيرت فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلاً فسد البيع؛ لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد لأنه لم يهلك، وليس إلا ذلك. وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة هو المختار. ونظير هذا ما نص في كتاب الصرف: إذا اشترى شيئاً بالفلوس ثم كسدت قبل القبض بطل الشراء يعني فسد، ولو رجعت لا يفسد. اهـ.

وفي جواهر الفتاوى القاضي الإمام الزاهدي أبو نصر الحسين بن علي: إذا باع شيئاً بنقد معلوم ثم كسد النقد قبل قبض الثمن فإنه يفسد البيع، ثم ينتظر إن كان المبيع قائماً في يد المشتري يجب رده عليه وإن كان خرج من ملكه بوجه من الوجوه أو اتصل بزيادة بصنع من المشتري، أو أحدث فيه صنعة متقومة مثل إن كان ثوباً فخاطه، أو دخل في حيز الاستهلاك وتبدل الجنس مثل إن كان حنطة فطحنها أو سمسماً فعصره أو وسمة فضربها نيلاً (1) فإنه يجب عليه رد مثله إن كان من ذوات الأمثال كالمكيل والموزون والعددي الذي لا يتفاوت كالجوز والبيض، وإن كان من ذوات القيم كالثوب والحيوان فإنه يجب قيمة المبيع يوم القبض من نقد كان موجوداً وقت البيع لم يكسد. ولو كان مكان البيع إجارة فإنه تبطل الإجارة ويجب على المستأجر أجر المثل، وإن كان قرضاً أو مهراً يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل. وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس. قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف، وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة. (اهـ) . انتهى.

وفي الفصل الخامس من التتارخانية: إذا اشترى شيئاً بدراهم هي نقد البلد ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت فإن كانت تلك الدراهم لا تورج اليوم في السوق فسد البيع، وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع. وقال في الخانية: لم يكن له إلا ذلك. وعن أبي يوسف: أن له أن يفسخ البيع في نقصان القيمة أيضاً، وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد، وعليه الفتوى. وفي عيون المسائل عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان؛ لأنه حينئذ يصير هالكاً ويبقى المبيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط فلا يفسد البيع؛ لأنه لا يهلك ولكنه تعيب، وكان للبائع الخيار إن شاء قال أعطني مثل الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير. انتهى. وتمامه فيها. وكذلك في الفصل الرابع من الذخيرة البرهانية، والحاصل أنها إما أن لا تروج وإما أن تنقطع وإما أن تزيد قيمتها أو تنقص. فإن كانت كاسدة لا تروج يفسد البيع، وإن انقطعت فعليه قيمتها قبل الانقطاع يتخير المشتري كما سيأتي، وكذا إن انتقصت لا يفسد البيع وليس للبائع غيرها. وما ذكرناه من التفرقة بين الكساد والانقطاع هو المفهوم مما قدمناه.

(1) الوسمة: نبات عشبي زراعي للصباغ. النيل: مادة للصباغ مستخرجة من النبات. والصباغ نفسه.

ص: 940

وذكر العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد الله الغزي الترمتاشي في رسالة سماها بذل المجهود في مسألة تغير النقود: اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس وكان كل منهما نافقاً حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن ولم يسلمها المشتري للبائع ثم كسدت بطل البيع (و) الانقطاع عن أيدي الناس كالكساد (و) حكم الدراهم كذلك، فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائماً، ومثله إن كان هالكاً وكان مثليًّا، وإلا فقيمته، وإن لم يكن مقبوضاً فلا حكم لهذا البيع أصلاً، وهذا عند الإمام الأعظم، وقالا: لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد وذلك لا يوجب الفاسد لاحتمال الزوال بالرواج كما لو اشترى شيئاً بالرطبة ثم انقطع. وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف يوم البيع وعند محمد يوم الكساد وهو آخر ما تعامل الناس بها. وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف، وفي المحيط والتتمة والحقائق (على قول) محمد يفتى رفقاً بالناس (58-59) .

وبعد هذا الجزء من رسالته ذكر المراد بالكساد والانقطاع فقال: (الكساد لغة –كما في المصباح- من كسد الشيء، يكسد، من باب قتل: لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد، يتعدى بالهمزة فيقال: أكسده الله وكسدت السوق فهي كاسدة بغير هاء في الصحاح وبالهاء في التهذيب. ويقال أصل الكساد الفساد.

وعند الفقهاء: أن تترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل لكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته، وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت، وهكذا في الهداية، والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب، لكن قال في المضمرات: فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع هو المختار. ثم قال في الذخيرة: الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت، وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع، والأول أصح. انتهى. هذه عبارة الغزي في رسالته (ص59-60) .

وقال بعد هذا: (وفي الذخيرة البرهانية بعد كلام طويل: هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت فإن ازدادت قيمتها فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري، وإذا انتقصت قيمتها ورخصت فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العيار الذي كان وقت البيع) .

ص: 941

وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء، وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف وقال عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض، والذي ذكرناه من الجواب في الكساد فهو الجواب في الانقطاع انتهى. (قوله) : يوم وقع البيع أي في صورة البيع، (وقوله) : ويوم وقع القبض أي في صورة القبض كما نبه عليه في النهر. وبه علم أن في الانقطاع قولين: الأول فساد البيع كما في صورة الكساد، والثاني أنه يجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع وهو المختار كما مر عن المضمرات، وكذا في الرخص والغلاء قولان أيضاً: الأول ليس له غيرها، والثاني له قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى كما يأتي. قال العلامة الغزي عقب ما قدمناه: عند هذا إذا كسدت أو انقطعت. أما إذا غلت قيمتها أو انقطعت فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع. كذا في فتح القدير. وفي البزازية مغزيا إلى المنتقي: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولاً: ليس عليه غيرها، وقال الثاني ثانياً: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض، وعليه الفتوى، وهكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقي (ص60) .

والدراهم التي ورد ذكرها جاء الحديث عنها بعد ذلك حيث قال: " لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها. قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الذهب يوم وقع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها، يعني البخارية والطبرية واليزيدية. وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها". قال الدوري: " وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكرنا، فالدراهم البخارية فلوس على صفة مخصوصة، والطبرية واليزيدية هي التي غلب الغش عليها فتجري مجرى الفلوس، فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس"(ص62) .

وما ذكره ابن عابدين من أن الرخص والغلاء فيه قولان جاء ما يعارضه، حيث نقل عن مجمع الفتاوى قوله:(لو غلت أو رخصت فعليه رد المثل بالاتفاق)(ص61) .

وقال: قال الإمام الإسبيجابي في شرح الطحاوي: (وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد)(ص62) .

ص: 942

وأشار إلى مثل هذا في فتاوى قاضيخان. (انظر ص60) . وحاول ابن عابدين أن يزيل هذا التعارض فقال: (فإن قلت) : يشكل علي هذه ما ذكره في مجمع الفتاوى من قوله: ولو غلت أو رخصت فعليه رد المثل بالاتفاق انتهى (قلت) : لا يشكل؛ لأن أبا يوسف كان يقول أولاً بمقالة الإمام، ثم رجع عنها وقال ثانياً: الواجب عليه قيمتها كما نقلناه فيما سبق عن البزازية وصاحب الخلاصة والذخيرة، فحكاية الاتفاق بناء على موافقته للإمام أولا كما لا يخفى والله تعالى أعلم) (ص61) .

وقال في موضع آخر (ص63، 64) : بقي الكلام فيما إذا أنقصت قيمتها فهل للمستقرض رد مثلها وكذا المشتري أو قيمتها؟ لا شك أن عند أبي حنيفة يجب رد مثلها، وأما على قولهما فقياس ما ذكروا في الفلوس أنه يجب قيمتها من الذهب يوم القبض عند أبي يوسف ويوم الكساد عند محمد، والمحل محتاج إلى التحرير. اهـ.

(وفي) حمله الدراهم في كلام البحر على التي لم يغلب غشها نظر ظاهر، إذ ليس المراد إلا الغالبة الغش كما قدمناه وصرح به شراح الهداية وغيرهم (والذي) يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش أو الخالصة إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعاً، ولا يجب إلا ما وقع عليه العقد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرفا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف. على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، وأما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها (وبهذا) يحصل التوفيق بين حكاية الخلاف تارة والإجماع تارة أخرى، وهذا أحسن مما قدمناه عن الغزي، ويدل عليه عبارتهم بحيث كان الواجب ما وقع عليه العقد في الدراهم التي غلب غشها إجماعاً لما في الخلاصة ونحوها أولى، وهذا ما نقله السيد محمد أبو السعود في حاشية مثلا مسكين عن شيخه، ونص عبارته: قيد بالكساد؛ لأنها لو نقصت قيمتها قبل القبض فالبيع على حاله بالإجماع، ولا يتخير البائع وكذا لو غلت وزدات ولا يتخير المشتري.

ص: 943

وفي الخلاصة والبزازية: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولًا ليس عليه غيرها، قال الثاني ثانياً: عليه قيمتها في يوم بيع والقبض وعليه الفتوى- انتهى. أي يوم البيع في البيع ويوم القبض في القرض كذا في النهر (واعلم) أن الضمير في قوله: قيد بالكساد لأنها إلخ للدراهم التي غلب غشها وحينئذ فما ذكره مما يقتضي لزوم المثل بالإجماع بعد الغلاء والرخص حيث قال: فالبيع على حاله بالإجماع ولا يتخير البائع إلخ. لا ينافي حكاية الخلاف عن الخلاصة والبزازية فيما إذا غلت الفلوس أو رخصت هل يلزمه القيمة أو ليس عليه غيرها؟ هذا حاصل ما أشار إليه شيخنا من التوفيق. قال شيخنا: وإذا علم الحكم في الثمن الذي غلب غشه إذا نقصت قيمته قبل القبض كان الحكم معلوما بالأولى في الثمن الذي غلب جيده على غشه إذا نقصت قيمته لا يتخير البائع بالإجماع، فلا يكون له سواه، وكذا لو غلت قيمته لا يتخير المشتري بالإجماع قال: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة كالشريفي البندقي والمحمدي والكلب والريال، فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع، فإن ذلك الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس والنقود. انتهى ما في الحاشية، وهو كلام حسن وجيه لا يخفى على فقيه نبيه) . اهـ.

ص: 944

وبعد هذا أشار ابن عابدين إلى الأخذ بالفتوى عند الاختلاف في الكساد والانقطاع فقال: (وفي الذخيرة الفتوى: على قول أبي يوسف، وفي التتمة والمختار والحقائق: بقول محمد يفتي رفقاً بالناس

إلخ) . (انظر ص 64) . ثم ذكر تنبيهاً يتعلق بالشراء بنوع مطلق من الأثمان غير مسمى، ثم ختم رسالته بما يلي:

(ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطان بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معيناً، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق، أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعاً والخيار فيه للدافع كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعاً أو قرضاً بناء على ما قدمناه، وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت: فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض فيختار المشتري ما هو أكثر رخصاً وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصاً على حساب ما هو أكثر رخصاً، فقد ينقص نوع من النقود قرشاً، ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين، وإذا دفع ما نقص قرشاً للبائع يحسب عليه قرشاً آخر نظراً إلى نقص النوع الآخر، وهذا مما لا شك في عدم جوازه. وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم جزم بعد تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد، وإن امتنع البائع لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته، أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد إضراره، ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية (مخالف) لما أمر به من اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط خصوصاً والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصاً لا الأقل ولا الأكثر كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري. وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً، ولا يخفى أن فهي تخصيص الضرر بالمشتري. لا يقال ما ذكرته من أن الأولى للصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته من حاشية أبي السعود من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة؛ لأنا نقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلاً وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه. وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هناك شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص.

ص: 945

ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفاً أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشاً من الريال أو الذهب مثلاً لم يحصل البائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمناً لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضياً وقت العقد بأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان، صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضياً به، وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الإضرار كما قلنا، وفي الحديث:" لا ضرر ولا ضرار"، ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد كأن صار مثلاً ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع، أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به. وإن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقوع الصلح إلى الأوسط، والله تعالى أعلم) .

من أقوال الحنفية السابقة نرى ما يأتي:

1-

إجماع أئمتهم على أن ما ثبت في الذمة من النقود الذهبية أو الفضية يؤدي بمثله دون نظر إلى تغير القيمة.

2-

الخلاف حول الفلوس والدراهم غالبة الغش لا المغلوبة، والخلاف فيما يجب أداؤه في ثلاث حالات هي: الكساد والانقطاع وتغير القيمة:

أ- فيرى الإمام وجوب المثل في جميع الحالات.

ب- ويرى أبو يوسف وجوب القيمة يوم ثبوت الحق في جميع الحالات أيضاً بعد أن كان موافقاً لرأي الإمام في حالة تغير القيمة.

ج- ويرى محمد رأي الإمام عند تغير القيمة، وفي الحالتين الأخريين يرى وجوب القيمة لكن يوم الكساد أو الانقطاع.

3-

اختلف الحنفية في الإفتاء.

أ- فمنهم من ذكر رأي الإمام على أنه إجماع المذهب.

ب- ومنهم من أفتى برأي أحد الصاحبين.

ج- ومنهم من فرق بين الكساد والانقطاع.

د- ومنهم من أخذ برأي الإمام في بعض الحقوق، وبرأي غيره في بعضها الآخر.

4-

ما حدث في زمان ابن عابدين –المتوفى سنة 1252 هـ- يبين أن اختلاف الإفتاء كان نتيجة لتفاوت الرخص عند ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، ولذا قيل بالصلح لمنع الضرر عن كل من المتبايعين، ويرى ألا مبرر للخلاف لو تساوى الرخص، ولذلك قال:(وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الإضرار كما قلنا، وفي الحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد

إلخ) .

ص: 946

المبحث الرابع

التضخم وأنواعه

المطلب الأول

تعريف التضخم

جاء في المعجم الوسيط: التضخم (في الاقتصاد) : زيادة النقود أو وسائل الدفع الأخرى على حاجة المعاملات (مج) .

والرمز (مج) يعني أن اللفظ أقره مجمع اللغة العربية. وفي كتاب مقدمة في النقود والبنوك (ص91) يقول الدكتور محمد زكي شافعي: هنالك ثلاثة عوامل تزاول تأثيراً مباشراً على مستوى الأسعار، وهي: كمية النقود، وسرعة تداول النقود، والحجم الحقيقي للسلع والخدمات المعروضة للبيع في الأسواق.

وفي الصفحة التالية يعرف التضخم فيقول: التضخم – وصورته الغالبة ارتفاع غير متوقع في الأسعار- إنما يتولد عن زيادة حجم تيار الإنفاق النقدي بنسبة أكبر من الزيادة في عرض السلع والخدمات. فلا الزيادة في في كمية النقود وحدها، ولا الزيادة في تيار الإنفاق النقدي من حيث هي، بمؤدية بالنظام الاقتصادي لا محالة إلى التضخم، فقد يعوض انخفاض سرعة تداول النقود عن الزيادة في كمية النقود بحيث يبقى الحجم الكلي لتيار الإنفاق النقدي على حاله. كما قد تصاحب الزيادة في الإنفاق النقدي زيادة متناسبة في عرض السلع والخدمات بحيث لا تؤدي هذه الزيادة إلى التضخم، وإنما تتوفر للتضخم النقدي أسباب الوجود إذا لم تصادف الزيادة في تيار الإنفاق النقدي زيادة مقابلة في العرض الكلي للسلع والخدمات. ولهذا يعرف بعض الاقتصاديين التضخم بأنه عبارة عن (نقود كثيرة تطارد سلعاً قليلة) .

وفي كتاب مذكرات في النقود والبنوك (ص 197-201) للدكتور إسماعيل محمد هاشم يعرف المؤلف التضخم، ويبين أنواعه.

وفي تعريف التضخم يقول المؤلف: المفهوم البسيط للتضخم هو زيادة كمية النقود بدرجة تنخفض معها قيمة النقود. أي ارتفاع مستوى الأسعار. ولكن لم يعد مجرد ارتفاع أسعار السلع سبباً في التضخم ما لم يرتبط ارتفاع الأسعار بمستوى الدخل، ومن هنا كان تعريف التضخم بأنه الزيادة المستمرة في المستوى العام للأسعار لفترة طويلة نسبيًّا.

ومع ذلك ليس هناك إجماع على تحديد الدرجة التي ترتفع بها الأسعار أو الفترة اللازمة لبقاء هذا المستوى المرتفع لتبرير استخدام هذا الاصطلاح.

ص: 947

المطلب الثاني

أنواع التضخم

يقول الدكتور إسماعيل هاشم بعد تعريف التضخم:

أنواع التضخم:

إذا سلمنا بأن التضخم توسع في الدخول النقدية لعوامل الإنتاج بنسبة أكبر من إنتاج هذه العوامل، أو بعبارة أخرى زيادة كمية النقود بنسبة أكبر من زيادة الإنتاج، فإن التضخم يمكن أن يأخذ أحد الأشكال الثلاثة الآتية:

أولاً- التضخم في ظل قاعدة الذهب:

هذا النوع من التضخم يحدث عندما يحدث تدفق في الذهب إلى الداخل، فيحدث توسعاً في الائتمان. ولكن طالما أن هذا الائتمان يحدث على أساس قاعدة الذهب فإنه يكون توسعاً معتدلاً، ويمكن مراقبته. وقد انتهى هذا النوع بانتهاء قاعدة الذهب.

ثانياً- التضخم الدائم:

التضخم الدائم Persistent Inflation يعرف أحياناً بالتضخم المتسلق أو الزاحف Creeping.

ويحدث هذا النوع من التضخم عندما تزداد القوة الشرائية بصفة دائمة بنسبة أكبر من نسبة الزيادة في عرض كل من السلع وعوامل الإنتاج وخاصة خدمات العمل. وتبعاً لذلك يكون هناك اتجاه مستمر لارتفاع الأسعار والأجور. وهو يكون ناشئاً إما بسبب الطلب أو بسبب التكاليف.

1 -

التضخم الطلبي (Demand Inflation) :

هو الارتفاع الحلزوني في الأسعار بسبب زيادة الطلب عن العرض. أي أن هذا النوع من التضخم ينشأ بسبب زيادة الدخول النقدية لدى الأفراد دون أن يقابل هذه الزيادة في الدخول زيادة في الإنتاج من الأفراد الذين حصلوا على هذه الدخول مما يترتب عليه ارتفاع الأسعار لقلة الكمية المعروضة. أو بعبارة أخرى ينشأ التضخم الطلبي عندما يزيد الطلب الكلي مع ثبات العرض الكلي. وهذا يعني ضرورة وجود عمالة كاملة في المجتمع مع عدم إمكانية زيادة الإنتاج لمواجهة الزيادة في الطلب. فإذا حدث ارتفاع في الأسعار مع وجود بطالة كبيرة نسبيًّا، أو وجود طاقة إنتاجية عاطلة نسبيًّا، فإن هذا الارتفاع في الأسعار لا يمكن أن يوصف بأنه تضخم طلبي أي تضخم ناشئ بسبب الطلب. وينشأ التضخم الطلبي في حالة السلم كما ينشأ أيضاً في حالة الحرب.

ص: 948

ففي حالة السلم ينشأ تفاؤل رجال الأعمال بالمستقبل فيزيدون من الطلب على عوامل الإنتاج. فإذا كانت هذه العوامل محدودة العرض فإن أثمان خدماتها سوف ترتفع، ويكون هذا الارتفاع ناشئاً بسبب الزيادة في الطلب عن العرض.

ومن ناحية أخرى حصول عوامل الإنتاج على دخول مرتفعة يزيد من طلبهم على السلع الاستهلاكية، وطالما أننا افترضنا أن عوامل الإنتاج عرضها محدود وأن أثمان خدماتها لم ترتفع بسبب ارتفاع الكفاية الإنتاجية وإنما بسبب زيادة الطلب عن العرض فإن كمية الناتج القومي لن تزيد، أي أن عرض السلع الاستهلاكية سوف يظل ثابتاً نسبيًّا، ويترتب على زيادة الطلب عن العرض في هذه الحالة ارتفاع أثمان السلع الاستهلاكية.

وهكذا نجد أن موجة التفاؤل الاقتصادي التي سادت النشاط الاقتصادي أدت إلى زيادة طلب كل من رجال الأعمال والمستهلكين مما يؤدي في النهاية إلى ارتفاع الأسعار، ويكون التضخم في هذه الحالة ناشئاً بسبب زيادة الطلب.

كما يحدث ذلك أيضاً في الدول النامية عندما تقوم الحكومة بزيادة الإنفاق على مشروعات التنمية التي تستغرق وقتاً طويلاً نسبيًّا قبل أن تؤتي ثمارها. في هذه الحالة تقوم الدولة بخلق قوة شرائية إضافية دون أن يقابلها زيادة في الإنتاج. هذه القوة الشرائية الإضافية تمثل فائضاً في الطلب. ويطلق على التضخم في هذه الحالة التضخم الناشئ عن فائض الطلب.

أما في حالة الحرب، وبالرغم من أن رجال الأعمال يساهمون في إيجاد هذا التضخم، إلا أنه ينشأ أساساً بسبب زيادة الطلب الحكومي، الذي يتمثل في زيادة الإنفاق الحكومي وتمويل هذا الإنفاق عن طريق زيادة كمية النقود المصدرة. ونظراً لأن العرض الكلي من الناتج القومي محدود نسبيًّا فإن زيادة الطلب الحكومي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكل تضخمي.

وفي النهاية يمكن أن نخلص مما تقدم أن التضخم الناشئ بسبب الطلب إنما ينشأ بسبب: (زيادة كمية النقود المصحوبة بزيادة الميل الحدي للاستهلاك مع ثبات العرض) . أو بعبارة أخرى وجود أدوات مالية تعوق رغبات الأفراد في الادخار، وبما أن البنوك التجارية هي المؤسسات التي في إمكانها إقراض الأفراد دون قرارات سابقة بالادخار من أفراد آخرين، فإنها تكون المؤسسات المسؤولة عن هذا النوع من التضخم.

ص: 949

2 -

التضخم الناشئ عن التكلفة (التضخم التكاليفي Cost INFIATION) .

ينشأ هذا النوع من التضخم عندما يكون السبب في الارتفاع الحلزوني في الأسعار هو زيادة التكاليف، وبصفة خاصة ارتفاع الأجور، والمقصود بزيادة التكاليف في هذه الحالة، هو زيادة أثمان خدمات عوامل الإنتاج بنسبة أكبر من إنتاجيتهم الحدية مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. أو بعبارة أخرى عندما تكون التكلفة الحدية أكبر من الإيراد الحدي للإنتاجية، ونتيجة لثبات العرض يضطر المنتج لاستخدام هذا العنصر، وفي الوقت نفسه نتيجة لثبات العرض من الكمية المنتجة يقوم المنتج برفع الثمن بدرجة كبيرة.

ولكن ليس من الضروري أن تؤدي الزيادة في الأجور بصفة عامة إلى زيادة التكاليف، إذا كانت الزيادة في الأجور تقابلها زيادة في الكفاية الإنتاجية، كما أنه ليس من الضروري أيضاً أن يكون ارتفاع الأجور التي تسبب بدوره في زيادة التكاليف ناشئاً من فائض الطلب إذ يحتمل أن يكون نتيجة قوة نقابات العمال في المساومة الجماعية.

وهكذا نجد أن التضخم الطلبي ينشأ من جانب المشتري في حين ينشأ التضخم بسبب التكاليف من جانب البائعين (أي بائعي خدمات عوامل الإنتاج) .

ثالثاً- التضخم الجامح (Hlyperinflaion) :

هو أخطر أنواع التضخم، وفيه ترتفع الأسعار بمعدل كبير جدًّا بحيث تنخفض قيمة النقود إلى درجة تصبح معها زهيدة جدًّا. وفي المراحل الأخيرة من هذا النوع من التضخم تنخفض قيمة النقود بسرعة من يوم لآخر حتى تصبح عديمة القيمة حينئذ يقتضي الأمر إصدار عملة جديدة لتحل محل العملة القديمة.

ومن أمثلة التضخم الجامح:

أ- قبل الحرب العالمية الأولى: أمريكا، أثناء الحرب الأهلية.

ب- بعد الحرب العالمية الأولى: ألمانيا - استراليا – روسيا - بولندا.

ج- بعد الحرب العالمية الثانية: هنغاريا - رومانيا – اليونان - الصين.

ولكن أشهر هذه الأنواع هو ما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى في عام 1924 إذ ارتفع مستوى الأسعار ألف بليون مرة (أي تريليون مرة Trillion) .

ولكن هذا النوع من التضخم هو احتمال نادر الوقوع. وإذا كان البعض يرى إمكانية تحول التضخم المستمر إلى تضخم جامح إذا لم تحكم مراقبته جيداً، فإنه احتمال ضئيل جدًّا في الوقت الحاضر، لأنه ينشأ أصلاً من:

1-

حدوث تفكك اجتماعي وانهيار النشاط الاقتصادي.

2-

عدم مقدرة الحكومة على ضبط الأمور، أي فقد سلطتها على الشعب.

3-

تعمد الحكومة تخفيض قيمة العملة تخفيضاً كبيراً جدًّا للتخلص من التزاماتها الخارجية وخاصة إذا كانت ناشئة بسبب الحرب. اهـ. (1)

(1) راجع أيضاً موضوع التضخم في كتاب اقتصادات النقد والمصارف للدكتور عبد المنعم السيد علي، الباب الثاني والعشرين 1/413 وما بعدها؛ وكتاب التضخم المالي للدكتور غازي حسين عناية.

ص: 950

المبحث الخامس

قياس التضخم

هذا هو التضخم بأنواعه المختلفة، فما الوسائل التي يستخدمها رجال الاقتصاد لمعرفة قدر التضخم؟ وكيف يقيسون نسبة تضخم هذا العام مقارناً بالعام الماضي، أو بعشر سنوات مضت؟ إنهم ينظرون إلى أسعار عدد كبير جدًّا من السلع والخدمات هذا العام، وأسعارها من قبل، وأهمية كل سلعة أو خدمة تقدم، وهو ما يعرفونه باسم الوزن.

فإذا فرضنا أن أسعار هذا العام بالنسبة لأسعار العام الذي يتخذونه كأساس للقياس هي كما يأتي:

القمح 120?، والأرز 150?، والسكر 200?، والزيت 220?.

وإذا فرضنا أيضاً أن السكر أهم من الزيت تسع مرات، وأن الأرز أهم من الزيت 30 مرة، وأن القمح أهم من الزيت 50 مرة، فيكون ما يعرف عندهم باسم الوزن هو ما يأتي:

السكر = 9، والأرز = 30، والقمح = 50، والزيت =1، عندئذ نقوم بضرب نسبة سعر كل سلعة في وزنها، ويجمع حاصل الضرب لمجموع السلع، ويقسم على مجموع وزنها كما يأتي:

القمح 120×50= 6000

الأرز 150×30= 4500

السكر 200×9= 1800

الزيت 220×1= 220

= 12520

مجموع الأوزان = 50 + 30 + 9 + 1 = 90

وبالقسمة 12520 ÷ 90 = 139.1

إذن أسعار هذا العام بالنسبة لعام الأساس هي 139.1? أي أن الأسعار زادت بنسبة 39.1? وزيادة الأسعار تعني انخفاض قيمة النقود، حيث أصبحت هنا تساوي 100 على 139.1.

ص: 951

هذا هو بيان طريقة الاقتصاديين لحساب التضخم بإيجاز شديد، أفيمكن لمثل هذه الطريقة أن يبنى عليها حكم شرعي؟ فكيف تختار السلع والخدمات؟ وكيف يقدر ما يعرف بالوزن؟ وكيف ينطبق هذا على كل من يشملهم الحكم الشرعي مع اختلاف طبقاتهم ورغباتهم وميولهم وثرواتهم وعاداتهم ودياناتهم وغيرها؟! لقد وجدنا من الاقتصاديين من يرى أن استعمال الأرقام القياسية لنفقات المعيشة هي أنسب وسيلة لقياس تقلبات القوة الشرائية للنقود، ومع ذلك يذكرون عدم دقتها حيث قالوا:

أولاً: ليست الأرقام القياسية للأسعار سوى متوسط إحصائي لمجموعة مختارة من المفردات، ولذلك يرد عليها ما يرد على تركيب المتوسطات واستعمالها من قيود. ومن المعلوم أن متوسط أية مجموعة إحصائية ليس سوى نموذج للمجموعة محل الاعتبار، يتاح لنا باستعماله أن نستدل برقم واحد على الاتجاه العام لمفردات المجموعة التي استخرج منها. ومن ثم، لا دلالة للأرقام القياسية للأسعار على السلوك الفردي لسعر أية سلعة بالذات –شأنها في ذلك سائر المتوسطات- كما لا يعني ثبات الأرقام القياسية للأسعار ثبات مختلف الأسعار الفردية التي تشتق منها. فقد يعوض الارتفاع النسبي في أسعار بعض السلع عن الانخفاض النسبي في أسعار البعض الآخر بحيث يظل الرقم القياسي ثابتاً في النهاية بالرغم من طروء هذه التغيرات.

ثانياً: لا تدلي الأرقام القياسية للأسعار (أيًّا كانت طريقة تركيبها) بغير نتائج تقريبية عن التغيير النسبي في مستوى الأسعار محل القياس. ولا اعتراض لأحد على هذه الصفة التقريبية بأي حال. فقد رأينا أن جماع ما يتطلبه الباحث في الأرقام القياسية للأسعار هو أن تعبر لنا بعدالة وصدق عن الاتجاه العام لمجموعات الأسعار المتباينة التي تستخدم في تركيبها.

ص: 952

ثالثاً: لا يجوز أن ننسى أن الأرقام القياسية لنفقات المعيشة أدق ما تكون في التعبير عن تقلبات نفقات المعيشة بالنسبة لجمهور طبقة معينة من طبقات المستهلكين. إذ يقوم اختيار أصناف السلع والخدمات التي تشتق هذه الأرقام من أسعارها، كما ينبني ترجيح هذه الأصناف طبقاً لأهميتها النسبية في الإنفاق، على أساس ميزانية الأسرة النموذجية (أو الأسرة العادية) في هذه الطبقة المعينة من طبقات المستهلكين. وبناء على هذا، لا تتعدى دلالة الأرقام القياسية لنفقات المعيشة مجرد الإشارة إلى التغيير النسبي في نفقات المعيشة لو أن الأسرة النموذجية من هذه الطبقة المعينة قد استمرت على شراء الكميات النسبية نفسها من السلع والخدمات التي افترضنا شراءها لها في سنة الأساس. لا صعوبة بعد ذلك في أن يفطن القارئ إلى الاعتبارات الآتية:

1-

لما كانت الأسر المختلفة –وإن انتمت إلى الطبقة نفسها- تختلف اختلافاً ملحوظاً في عادات الاستهلاك سواء أكان ذلك بالنسبة لأصناف السلع المستهلكة أم بالنسبة لأهميتها النسبية في الإنفاق، فلا دلالة للرقم القياسي لنفقات المعيشة عن تقلبات نفقات المعيشة بالنسبة لكل أسرة ولأية أسرة بالذات. (1) وإنما يستدل بهذا الرقم على تقلبات نفقات المعيشة بالنسبة لجمهور المستهلكين المنتمين إلى هذه الطبقة على العموم.

2-

ولما كانت الطبقات المختلفة اختلافاً جوهريًّا في عادات الاستهلاك وفي نسب توزع دخولها على شتى وجوه الإنفاق، فإنه لا استدلال، من باب أولى، بأرقام نفقات المعيشة التي ينظر في تركيبها إلى نماذج الاستهلاك الخاصة بالطبقة العاملة أو بطبقة صغار الموظفين فعلى تقلب نفقات المعيشة بالنسبة لكبار الملاك مثلاً.

3-

كما أنه حيث يطول العهد بين سنة الأساس والسنة المقارنة يضعف الاحتجاج بهذه الأرقام على العموم، نظراً لما يدخله الزمن على عادات الاستهلاك وعلى نسب توزيع الدخل على مختلف وجوه الإنفاق من تغيير وتبديل سواء أكان ذلك راجعاً لتغير تكوين الأسرة أم لظهور سلع جديدة أم لالتزام الدولة بتقديم كثير من الخدمات المجانية للأفراد أم لتغير الأذواق والأهواء فضلاً عما يطرأ على مختلف الحاجات عبر الأيام من اختلاف في الجودة لا يدخله الرقم القياسي في الحسبان.

4-

وللسبب نفسه يكون من الصعب الاستدلال بالأرقام القياسية لنفقات المعيشة في مقارنة التغيير النسبي في تكاليف المعيشية في عدة بلدان مختلفة نظراً لاختلاف عادات الاستهلاك واختلاف نسب توزيع الدخل على مختلف وجوه الإنفاق من بلد إلى آخر.

(1) د. شافعي: مذكرة في النقود ص 75-77. وانظر في قياس التضخم كتاب الدكتور إسماعيل هاشم ص 214-223.

ص: 953

المبحث السادس

التضخم والكساد

المطلب الأول

مفهوم الكساد

التضخم تبعاً للتعريف العام لا يعني الكساد الذي تحدث عنه الفقهاء وإنما يدل فقط على انخفاض قيمة النقود، ولكن إذا نظرنا في أنواع التضخم وجدنا ما يبين حالة الكساد. وننظر في مفهوم الكساد لنرى متى يمكن الربط بينه وبين التضخم.

وجاء في لسان العرب تحت مادة "كسد" قول ابن منظور: الكساد: خلاف النفاق ونقيضه، والفعل يكسد. وسوق كاسدة بائرة. وكسد الشيء كساداً، فهو كاسد وكسيد، وسلعة كاسدة. وكسدت السوق تكسد كساداً: لم تنفق، وسوق كاسد، إلا هاء. (ملحظ: لعل فيه لغتين؛ لأنه ذكر من قبل بإثبات الهاء، وستأتي إشارة إلى هذا) .

وفي مادة نفق قال ابن منظور: نفق البيع نفاقاً: راج. ونفقت السلعة تنفق نفاقاً، بالفتح. غلت ورغب فيها. وفي الحديث:"المنفق سلعته بالحلف الكاذب"، المنفق بالتشديد من النفاق، وهو ضد الكساد. ومنه الحديث "اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للبركة"، أي هي مظنة لنفاقها وموضع له.

وفي الحديث عن ابن عباس: "لا ينفق بعضكم بعضاً"، أي لا يقصد أن ينفق سلعته على جهة النجش، فإنه بزيادة فيها يرغب السامع فيكون قوله شبباً لابتياعها ومنفقا لها، ونفق الدرهم ينفق نفاقاً: كذلك، كأن الدرهم قل فرغب فيه. وفي حديث عمر: من حظ المرء نفاق أيمه، أي من سعادته أن تخطب نساؤه من بناته وأخواته، ولا يكسدن كساد السلع التي لا تنفق.

وبين ابن عابدين في رسالته (ص59-60) مفهوم الكساد في اللغة وعند الفقهاء فقال: (الكساد لغة –كما في المصباح- من كسد الشيء، يكسد، من باب قتل: لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد، يتعدى بالهمزة فيقال: أكسده الله وكسدت السوق فهي كاسدة بغير هاء في الصحاح وبالهاء في التهذيب. ويقال أصل الكساد الفساد.

ص: 954

وعند الفقهاء: أن تترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل لكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته، وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت، وهكذا في الهداية. والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب، لكن قال في المضمرات: فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع وهو المختار. ثم قال في الذخيرة: الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت، وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع، والأول أصح. انتهى. هذه عبارة الغزي في رسالته) اهـ.

فالكساد إذن –عند الفقهاء- أن تترك المعاملة بها في جميع البلاد كما قال ابن عابدين، ولكن متى يترك رد المثل في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة، ويلجأ إلى القيمة؟

من بيان السنة المطهرة لا نجد معنى الكساد في النقدين، ولا خلاف في أن الدين يؤدي بمثله لا بقيمته، غير أن أجر العامل المرتبط بتوفير تمام الكفاية، ومعنى هذا أن الأجر يجب أن يتغير تبعاً لتغير قيمة العملة.

ص: 955

ومن أقوال المذاهب الأربعة نجد ما يأتي: اعتبر الحنفية أن النقود لا تكون إلا من الذهب أو الفضة، وفرقوا بينها وبين الفلوس، غير أنهم ألحقوا بالفلوس الدراهم غالبة الغش لا المغلوبة.

وتبعاً لهذه التفرقة أجمع أئمتهم على أن ما ثبت في الذمة من النقود، أي من الذهب أو الفضة، يؤدى بمثله لا بقيمته في جميع الحالات. واختلفوا في الفلوس والدراهم غالبة الغش في حالة الكساد.

فيرى الإمام أبو حنيفة وجوب المثل لا القيمة، ويرى أبو يوسف وجوب القيمة يوم ثبوت الحق، ويرى محمد وجوب القيمة لكن يوم الكساد.

واختلف الحنفية في الإفتاء كما بينت من قبل.

والمذاهب الثلاثة لم تفرق بين النقدين والفلوس: فرأى المالكية والشافعية وجوب رد المثل عند إبطال التعامل بالدنانير أو الدراهم أو الفلوس إن كانت موجودة، فإذا عدم المثل رجع إلى القيمة.

ورأي الحنابلة أن وجودها لا يوجب رد المثل إذا حرمها السلطان، واتفق الناس على تركها، فعندئذ يجب رد القيمة لا المثل وإن كانت موجودة.

ص: 956

المطلب الثاني

نوع التضخم الذي يعتبر كساداً

إذا نظرنا في أنواع التضخم التي ذكرناها ومن قبل نجد نوعين لا يدخلان في مفهوم الكساد عند جميع الفقهاء، والنوع الثالث فقط هو الذي يعد كساداً في مراحله الأخيرة.

فالتضخم في ظل قاعدة الذهب يعتبر انخفاضاً في قيمة النقود وليس كساداً. وقول الاقتصاديين هنا: إن التوسع في الائتمان الذي يؤدي إلى هذا التضخم، يكون توسعاً معتدلاً، ويمكن مراقبته، هذا القول يذكرنا بما ذكرناه من قبل في الاستقرار النسبي للنقود السلعية. فالنقود الورقية، وإن كانت نقوداً ائتمانية، غير أنها عندما كانت في ظل قاعدة الذهب كانت أشبه بالنقود السلعية بصفة عامة، والذهبية بصفة خاصة، وهي أعلى مرتبة في النقود.

والنوع الثاني من التضخم وهو الدائم (أو المتسلق أو الزاحف) لا يعد كساداً وإنما هو انخفاض في قيمة نقود لم يبطل التعامل بها، فلم يبطلها السلطان، ولم يترك الناس التعامل بها، ولذلك لا ينطبق عليها مفهوم الكساد عند جميع الفقهاء.

ومفهوم التضخم هنا يختلف عن مفهوم انخفاض قيمة الفلوس والدراهم غالبة الغش عند أبي يوسف الذي قال بوجوب القيمة خلافاً للجمهور: ويظهر الاختلاف واضحاً جليًّا إذا نظرنا إلى قياس التضخم عند الاقتصاديين وتقدير القيمة عند أبي يوسف.

فقد رأينا الطريقة الجزافية التي يتبعها الاقتصاديون لقياس التضخم، ومعرفة مدى انخفاض قيمة النقود بالنسبة للسلع، أما أبو يوسف فهو كباقي الحنفية ينظر إلى انخفاض قيمة الفلوس والدراهم غالبة الغش بالنسبة للنقود من الذهب والفضة وليس بالنسبة للسلع، كأن يكون الدرهم ثلاثين فلساً فأصبح خمسين، دون نظر إلى القوة الشرائية للدرهم نفسه، وهذا يشبه النقود المساعدة في عصرنا، كالقرش بالنسبة للجنيه المصري، والفلس بالنسبة للدينار الكويتي، والهللة بالنسبة للريال السعودي، وهكذا فإذا انخفضت قيمة النقود المساعدة بالنسبة للعملة الرئيسية، وأخذنا برأي أبي يوسف، وجب دفع عملة مساعدة تعادل العملة الرئيسية، فالثلاثون فلساً في المثال السابق تدفع خمسين لتعادل درهماً بعد أن أصبح خمسين، أما رجال الاقتصاد فإنهم ينظرون إلى القوة الشرائية للدرهم نفسه.

أما النوع الثالث، وهو التضخم الجامح فإنه يعتبر كساداً في مراحله الأخيرة عندما تصبح النقود عديمة القيمة، وحينئذ يقتضي الأمر إصدار عملة جديدة لتحل محل العملة القديمة.

ومعنى هذا أن التضخم مهما زادت نسبته فلا يعد كساداً ما دام الناس يقبلون النقود التي انخفضت قيمتها، ولم يتركوا التعامل بها.

ص: 957

الخاتمة

من المسؤول عن علاج التضخم؟

التضخم عرض لمرض يجب علاجه، ونتيجة حتمية لمساوئ النظام النقدي في عصرنا، فمن المسؤول عن العلاج؟

لا شك أن الدولة هي المسؤولة أولاً عن هذا العلاج، وعليها أن تتخذ من الوسائل الممكنة ما يحد من خطر هذا المرض:

فالدولة هي المسؤولة عن إصدار النقود، وهي التي تضع السياسة النقدية وهي المسئولة عن أعمال البنوك الربوية، التي أصبح من وظائفها خلق النقود أو خلق الائتمان. وهي المسؤولة عن سياسة الإنتاج، والاستهلاك، والأجور

إلخ، أي أنها المسؤولة عن أهم الوسائل التي ترتبط بالتضخم سلباً أو إيجاباً، والمسؤولة عن معظم مسببات التضخم.

فكيف اتجه بعض الباحثين الكرام إلى أن المقترض وحده يتحمل مساوئ هذا النظام، وآلام هذا المرض؟!

إن الدعوة إلى إزالة آثار التضخم، وتعويض من يقع عليهم الضرر: كالدائن للأفراد والمصارف والشركات، والبائع بيعاً آجلاً قد يمتد عدة سنوات، والآجر الذي يجبر على استمرار عقد الإجارة، وصاحب رأس المال في عقد المضاربة مع المصارف الإسلامية، والعاملين في الدولة، وأصحاب الدخل النقدي وغيرهم، إن هذه الدعوة يجب أن توجه إلى الدولة مصدرة النقود لا إلى الأفراد، وبقدر تعويض الدولة يعوض الأفراد بعضهم بعضاً. فمن الظلم أن يعاقب الإنسان بجريرة غيره، وبما لم تجن يداه.

هذا ما بدا لي، والله عز وجل هو الأعلم بالصواب، والهادي إلى سواء السبيل.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين.

والحمد لله رب العالمين

الدكتور علي أحمد السالوس

ص: 958