المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

‌مبدأ التحكيم

في الفقه الإسلامي

إعداد

المستشار محمد بدر يوسف المنياوي

عضو مجمع البحوث الإسلامية للأزهر

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

1-

فقد عرفت البشرية نظام التحكيم في عهودها البدائية، ثم عزفت عنه ردحًا من الزمن، لتعود إليه بخطوات ثابتة سريعة ملتمسة لديه علاج منازعاتها المعقدة، كما سعدت به في علاج منازعاتها البدائية.

فالتاريخ يشهد بتطبيقات عديدة للتحكيم في الأيام الموغلة في القدم، وفي عصر قدماء المصريين وعصر الإغريق والرومان، وأيام العرب في الجاهلية، ثم يروي التاريخ كيف أفل نجم التحكيم مع نشأة الدولة بمفهومها الحديث، وأن ذلك كان تحت زعم أنه يتعارض مع سيادتها، وينتقص من سلطان قضائها الذي له الولاية الكاملة في حسم المنازعات بجميع أنواعها، ثم يعود التاريخ ليروي كيف كشفت المدنيات الحديثة الغطاء عن نظام التحكيم، لتجده أقوى مما كان، متلائمًا مع سيادة الدولة غير متنافر معها، داخلًا تحت عباءة القضاء غير منفلت منها، وأنها بعد أن دفعت به إلى طريق التطبيق من جديد، تصدي ليحمل عن القضاء أثقالًا بعد أثقال، في كفاءة، تحقق للخصوم ما يفتقدونه أمام القضاء من سرعة في الفصل، وخبرة في الحسم، مع الحفاظ على الأسرار والسرعة في التنفيذ.

ص: 1703

وما كان القضاء لينمو بنفس النسبة التي تتكاثر بها المنازعات وتتعقد وتتشابك، فهو مقيد في عدد قضاته بقواعد منضبطة، تكفل لهم الدربة الكافية، وهو ملتزم في ضماناته بضوابط شكلية تسعى به إلى العدالة التقليدية في روية وأناة، تسمح بكشف ما يطمسه المتنازعون من معالم الحقيقة، ومن ثم فقد سمحت الفرصة للتحكيم أن يصول في الميدان بما حباه نظامه من قدرة على أن يزيد في عدد الحكام بقدر الحاجة، ومن عدم التقيد بالضوابط الشكلية سعيًا إلى العدالة على أسس تختلف عن المفهوم التقليدي لها أمام محاكم السلطة القضائية في الدولة، هذا إلى جانب أن التسليم بحق الخصوم في اختيار قضاتهم، يسمح لهم بانتقاء محكمين على مستوى عال من الخبرة والتخصص في النزاع المعروض، فيوفر لهم ذلك ما لا يستطيع النظام القضائي العادي توفيره من قضاة متخصصين تخصصًا دقيقًا في جميع المجالات، فإذا أضيف إلى ذلك ما يحققه التحكيم للخصوم من تحديد جلسات نظر المنازعة في الأوقات التي تناسبهم، وفقًا لظروف العمل القضائي في المحاكم، وما يكفله من الانتهاء من الحسم في وقت محدد يعد قصيرًا جدًّا إذا قورن بما يستغرقه الفصل في النزاع أمام محاكم السلطة القضائية، فإنه لذلك يكون قد وضح أن التحكيم جدير بأن يكسف الجولة أمام القضاء في هذا المضمار.

على أنه بجانب ما تقدم فقد كان هناك أمران هامان كان لهما الأثر الفعال في هذا الشأن أولهما: ما يحققه التحكيم من حفاظ على أسرار المتخاصمين بقدر أوفى كثيرًا مما تفضحه علانية الجلسات وسائر تطبيقات مبدأ العلانية في المحاكمات القضائية. وثانيهما: ما يوفره التحكيم من السرعة في تنفيذ الحكم الذي يصدر منه، بما يقطع دابر الأضرار التي تنشأ عن عجز المحكوم لهم عن تنفيذ الأحكام الصادرة لصالحهم بسبب تعدد درجات التقاضي وقابلية الحكم للطعون العادية وغير العادية وإشكالات التنفيذ، وما قد يقع من خطأ في الإجراءات الشكلية فيهدم في لحظة ما بناه القضاء في سنين عديدة، إلى غير ذلك من المعوقات التي يستطيع الخصوم في التحكيم أن يتحاشوها كلها أو معظمها، بقواعد محددة يتفقون عليها قبل صدور الحكم الفاصل في الخصومة.

ص: 1704

ومن أجل ذلك وجد خصوم المنازعات الحديثة غايتهم في نظام التحكيم، وتبينت الدول أن ما ظنته عدوانًا على سيادتها أو نيلًا من قضائها لا يمثل الواقع، فسيادة الدولة ما تزال في قمتها، ما دام أن نظام التحكيم نفسه لا يقوم إلا برضائها، وفي حدود ما تسمح به، وقضاؤها لا ينزل عن شموخه إذا سمح للتحكيم أن يشاركه في حسم المنازعات، فالمرجع والمآل إليه، وهو الذي يسبغ على التحكيم من قوته ما يقيله من عثرته إذا ما تعثر في الإجراءات، أو يدفع بالحكم الذي يصدر منه في طريق التنفيذ إذا ما وضعت أمامه العراقيل والعقبات التي تأباها العدالة، وذلك كله دون أن ينتحى القضاء عن أن يكون صمام الأمان في تطبيق العدالة بل وفي احتكار هذا التطبيق وقصره على نفسه في الحالات التي ترى الدولة ألا تتخلى عن تحقيقها العدل بنفسها.

والمتبع للتحكيم في العصر الحاضر يجد أنه في نماء مستمر، فلم يقنع بالمنازعات بين الأفراد، وإنما امتد ليشمل المنازعات بين الأفراد والدول، وبين الدول بعضها والبعض الآخر، ولم يقف عند حد التحكيم الحر الذي يطلق فيه للأفراد العنان في اختيار قواعد التحكيم ومكانه ومدته وأشخاص المتحكم إليهم وإنما شمل كذلك التحكيم الذي يلجأ فيه الخصوم إلى هيئات دائمة انتشرت في أنحاء العالم تحت اسم محاكم التحكيم، أو مراكزه أو غرفه أو جمعياته، وهي هيئات تسعى إلى خدمة أطراف التحكيم وتهيئة الظروف لإجرائه بما توفره من فنيين دائمين (سكرتارية) وما تسنه من لوائح، أو تضعه من قوائم بأسماء المحكمين المؤهلين في مختلف فروع التخصصات (1)

2-

وقد رحب الإسلام بالتحكيم كنظام لفض المنازعات بين الأفراد، وبين أمة الإسلام وغيرها، وأقر الأطراف المتنازعة على حقهم في اختيار المحكمين، وفي انتقاء القيود التي تقيد حكومتهم، ولكنه لم يطلق العنان لإرادة الأطراف، وإنما وضعها في إطار محدد، كان من أهم معالمه أنه احتجز بعض الموضوعات للقضاء المولى من جانب ولي الأمر، وألزم المتحاكمين بعدم الخروج على شريعة الله عند تحديد القواعد الموضوعية الواجبة التطبيق على المنازعة.

(1) الدكتور أبو زيد رضوان: الأسس العامة في التحكيم التجاري الدولي، ص 21، دار الفكر العربي

ص: 1705

3-

وقد اهتمت البلاد الإسلامية والعربية على اختلافها بالتحكيم فأفردت له بابًا خاصًّا في قوانينها المنظمة للتقاضي وهي قوانين المرافعات المدنية والتجارية أو قوانين أصول المحاكمات المدنية، بل إن بعض هذه البلاد أولى التحكيم أهمية خاصة، فخصه بنظام مستقل جمع فيه شتى أحكامه، ومن ذلك ما فعلته المملكة العربية السعودية فيما أصدرته بالمرسوم رقم 26 وتاريخ 12 / 7 / 1403هـ الصادر بناء على قرار مجلس الوزراء رقم 164 وتاريخ 21 / 6 / 1403 هـ والذي ألغى من نظام المحكمة التجارية المواد التي كانت تنظم التحكيم (1) وقد تميز هذا النظام الجديد بمسايرته للتطورات التشريعية الحديثة في مجال التحكيم بصفة عامة مع انفراده في ذات الوقت بقواعد أضفت عليه صبغة التمييز في مجال التحكيم (2) .

على أن اهتمام البلاد الإسلامية والعربية بالتحكيم لم يقف عند حد إسباغ المشروعية عليه وتنظيمه، وإنما امتد – في الكثير منها – ليشمل التصديق على اتفاقيات دولية صدرت بشأنه، منها اتفاقية نيويورك سنة 1958 في شأن الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، وهي التي انضمت إليها دول كثيرة، من بينها مصر في 7 مارس سنة 1959، كما أعلن في بداية عام 1993 عن موافقة الحكومة السعودية على الانضمام لهذه الاتفاقية في إطار سياسة تأمين الاستثمارات المشتركة والأجنبية.

بل إن الاهتمام قد امتد أكثر من ذلك فحفز بعض البلدان على إنشاء مراكز دائمة للتحكيم على إقليمها، فكان من ذلك المركز الإقليمي للتحكيم بالقاهرة (3) وهيئة التحكيم بالمحكمة الكلية بالكويت، وغرفة تجارة وصناعة البحرين، وغرفة صناعة عمان، وغرفة تجارة وصناعة دبي، والأمانة العامة لاتحاد الغرف الخليجية.

(1) الدكتور محمود محمد هاشم: النظرية العامة للتحكيم في المواد المدنية والتجارية، ص 24، دار الفكر العربي، سنة: 1990

(2)

الدكتورة آمال أحمد الغزايري: دور قضاء الدولة في تحقيق فاعلية التحكيم، ص 14، منشأة المعارف، سنة 1993.

(3)

أنشئ هذا المركز بقرار من اللجنة القانونية الاستشارية لدول آسيا وإفريقيا الصادر في دورتها التي عقدت بالدوحة في يناير سنة 1978، وقد وافق عليه رئيس جمهورية مصر بالقرار رقم 104 لسنة 1984.

ص: 1706

ومن الجدير بالذكر أن بعض هذه المراكز المنشأة للتحكيم داخل الدول الإسلامية والعربية قد نص في نظامه صراحة على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية وحدها في حسم المنازعات التي يجري عرضها فيه، ومن ذلك – فضلًا عن نظام التحكيم السعودي – مركز التحكيم الإسلامي بجامعة الأزهر الذي كان صاحب الفضل فيه ودعمه الشيخ صالح كامل وقد بدأ يباشر نشاطه الفعلي من نحو عام، ونصت المادة 23 من لائحته على أن:(تطبق هيئة التحكيم على النزاعات المعروضة أمامها، مبادئ الشريعة الإسلامية، وتختار ما تراه مناسبًا من الآراء وفقا لاجتهادها، إلا إذا ألزمها الطرفان بتطبيق مذهب فقهي معين دون غيره) .

4-

وقد تدفعنا تجربة الالتزام بالاحتكام إلى الشريعة الإسلامية فيما يعرض على التحكيم من منازعات إلى التفكير في اتخاذه وسيلة لاستكمال تطبيق هذه الشريعة الغراء في حدود ما يجوز التحكيم فيه وفقًا للنظم الوطنية وفي نطاق ما يمكن أن يقره القضاء الرسمي في الدولة، سواء في ذلك المنازعات الوطنية البحتة أو ذات العنصر الأجنبي أو المنازعات بين الدول الإسلامية أو العربية.

وقد يزكي فينا الأمل ما أقرته القمة الإسلامية الخامسة في الكويت في يناير سنة 1987 من مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية للدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي وما تنتظره الدول العربية من إقرار مشروع محكمة العدل العربية.

فإذا ما تحققت هذه الآمال بشأن المنازعات الدولية، فإن المنازعات الفردية بين الأشخاص الطبيعية أو المعنوية تظل متطلعة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية بشأنها (1) لا عن طريق الحكومات، وإنما عن طريق الأفراد والجماعات وبمحض اختيار من الطرفين المتنازعين، يصرحون به في تعاقداتهم، أو يقبلونه بعد نشوء المنازعات، ويراعون في كل حال تحقيق التوافق بين إرادتهم وبين النظم السارية في البلاد التي يجري فيها التحكيم والبلاد التي سوف تنفذ فيها أحكامه، واضعين نصب أعينهم – في المرحلة الحالية – ألا يفقدوا نصرة القضاء الوطني حين تنشأ الحاجة إليه لدعم حكم التحكيم وتأييده أو لإصدار الأمر بتنفيذه جبرًا.

(1) الدكتور محمد رأفت عثمان: القضاء في الفقه الإسلامي سنة: 1992، ص 35.

ص: 1707

ولا ريب أن ذلك كله يتطلب دراسة مستفيضة لا يسعها هذا البحث المحدود، ولكن حسبنا أن الميدان مهيأ لهذه الدراسة بما ساد في العالم كله من إقبال على التحكيم وإيمان به ورغبة ملحة في إعطائه قوة فعالة في حسم المنازعات في حدود ما يريده المتنازعون، وبما لا يخرج على القواعد الآمرة في الدولة، ولا يمس سلطان القضاء فيها.

وبذلك نرد كيد الكائدين للشريعة الإسلامية إلى نحورهم، فلا نسمع مثل ما قيل في بعض التحكيمات الدولية من استبعاد قانون إحدى دول الخليج بزعم أنه قانون متخلف لا يمكن استخدامه لتفسير أو حكم العلاقات التجارية الحديثة (1)، أو ما قيل في سبب رفض نظام آخر مأخوذ من الشريعة الإسلامية من ادعاء جاهل بأنه:(لا يحتوي أي حل للمشكلة المطروحة)(2) .

5-

وقد اشتمل هذا البحث، الذي أتشرف بعرضه فيما يلي على ستة فصول:

- خصص الفصل الأول: للتعريف بالتحكيم والتفرقة بينه وبين ما يشتبه به ودليل مشروعيته.

- وخصص الفصل الثاني: لطبيعة التحكيم وآثاره.

- وخصص الفصل الثالث: للمحتكم إليه.

- وخصص الفصل الرابع: لحكم التحكيم.

- وخصص الفصل الخامس: للتحكيم عند الاختلاف في الدين أو الدار.

- وخصص الفصل السادس: للكلام عن الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي.

وقد حاولت جهدي أن لا أبتعد كثيرًا عن دنيا الواقع، فاستعنت بالأفكار القانونية السائدة في محاولة لإثراء البحث، كما استعنت بالتطبيقات الإسلامية الحديثة، وعلى الأخص نظام التحكيم السعودي الجديد، في محاولة لإثبات مرونة الفقه الإسلامي وقدرته على مجابهة مختلف الظروف والأوضاع، والله ولي التوفيق.

المستشار محمد بدر يوسف المنياوي

(1) الدكتور أبو زيد رضوان، المرجع السابق، ص 146 – 147

(2)

نفس المصدر، ص 146 – 147

ص: 1708

الفصل الأول

التعريف بالتحكيم

والتفرقة بينه وبين ما يشتبه به ودليل مشروعية

6-

في تنظيم الإسلام للمجتمع الإيماني، يبرز أمران رئيسيان هما: الاتحاد الإيجابي والرقابة الذاتية.

ويتمثل الاتحاد الإيجابي في الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، وفي التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.

أما الرقابة الذاتية للأفراد، فتقوم على أساس أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأن عليهم أن يتناهوا عن كل ما هو منكر، حتى لا تلحقهم اللعنة كما:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) } [المائدة: 78 – 79] .

على أن الإسلام إذا كان يسعى إلى تأليف القلوب والتناهي عن المنكر، فإنه لا يقر أخذ الشخص حقه بيده عند المنازعة، لما يؤدي إليه ذلك من اضطراب وجاهلية (1) ، بل إنه يدعو – عند ثبوت الحق – إلى السماحة في الاستيفاء؛ لأن العفو أقرب للتقوى، ولأن المسلمين يجب أن لا ينسوا الفضل بينهم، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان.

(1) في تفصيل ذلك: الدكتور محمد نعيم ياسين، نظرية الدعوى بين الشرعية الإسلامية وقانون المرافعات المدنية والتجارية، رسالة دكتوراه مقدمة لجامعة الأزهر سنة 1970، الصفحات من 94 إلى 132.

ص: 1709

7-

غير أن الدعوة إلى المعروف قد لا يستجاب لها، والعفو عن الحق أو التسامح فيه قد لا يقبل، فيستحكم النزاع، ويتطلب الأمر حسمًا عاجلًا حتى لا تتفاقم الأخطار، وفي ذلك يأمر الإسلام بالسعي إلى الصلح بين الطرفين المتخاصمين، فالله تعالى يقول:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، ويقوله سبحانه:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يسعى إلى الإصلاح بين المتخاصمين إذا تنازعا إليه، فقد روي أنه حين تنازع إليه كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، في دين كان على ابن أبي حدرد، أصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بأن استوضع من دين كعب الشطر، وأوجب على غريمه قضاء الشطر الباقي (1) . كما روي أيضًا أنه عندما تنازع عنده صلى الله عليه وسلم رجلان في مواريث لهما، قال عليه الصلاة والسلام:((اذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه)) . . . . (2)

8-

فالمصلح بين المتنازعين هو أول درجات الوفاق بينهم، وهو وإن كان من شأنه أن يحسم الخصومة، إلا أنه قائم على الاتفاق بينهم أنفسهم، أو بين من يمثلونهم، ويتم عن طريق نزول كل منهم عن بعض ما يتمسك به، ولا يقبل التنفيذ بذاته بحسب الأصل، ما لم يرتض الطرفان تنفيذه اختيارًا، وهو غير صالح لحسم بعض الخصومات كالحدود والكفارات ونحوها من حقوق الله تعالى، وذلك كله – من شأنه – ألا يجعل من الصلح أداة طيعة في حسم الخصومات، فضلًا عن أنه إذا وضح الحق أمام الساعين للتوفيق، وكان في جانب أحد المتخاصمين وحده، فإن الصلح لا يكون له محل؛ لأنه لن ينطوي على تنازل كل خصم عن بعض حقه، وإنما سيتمخض في تنازل خصم واحد دون الآخر.

ومن ثم فإنه يجب أن تكون هناك بدائل لها الصلح يستعان بها إذا عز الالتجاء إليه، أو تبين أنه غير صالح لإنهاء الخصومة الناشبة بين الطرفين.

وقد يكون من أوائل هذه البدائل، أن يتم الكشف عن حكم الله في موضوع المنازعة، لعل الباغي أن يرعوي ويعود إلى جادة الصواب، على ضوء حكم الله الذي يبينه له من يثق فيه، فإذا لم يكن مفر من حمل الباغي على التنفيذ جبرًا، فليس هناك سوى الاتفاق على حكم يختاره الطرفان للفصل بينهما بحكم ملزم، أو الالتجاء إلى القاضي المولى من جهة الدولة، ليقضي بينهما فيما اختلفا قضاء يمكن تنفيذه جبرًا.

(1) صحيح مسلم بشرح النووي: ج 10،ص 220؛ سنن النسائي: ج 8، ص 239، سنن ابن ماجه: ص177.

(2)

سنن الدارقطني، ج 4، ص 239؛ نيل الأوطار: ج 5، ص 67، 269؛ سنن أبي داود: ج 3، ص238.

ص: 1710

فالبدائل – إذن – ثلاثة:

أولها: الكشف عن حكم الله من ثقة، دون حمل لأي من المتنازعين على اتباع هذا الحكم، وهذا طريق الإفتاء.

ثانيهما: الكشف عن حكم الله على يد من يختاره الطرفان للفصل بينهما ويقبلان أن يكون حكمه ملزمًا، وهذا طريق التحكيم.

ثالثها: الكشف عن حكم الله على يد القاضي الذي عينه ولي الأمر، وعهد إليه بالفصل في منازعات الناس التي ترفع إليه، وهذا هو طريق القضاء.

فالإفتاء، والقضاء، والتحكيم، جميعًا وسائل شرعت لإنهاء المنازعات التي لم تنته صلحًا، ويمتاز التحكيم بينها بأنه قائم على الرضا بين الطرفين وأنه – في ذات الوقت – ملزم لهما – فلا يملكان – حسب الأصل – فكاكًا من تنفيذ ما ينتهي إليه، أما الإفتاء فهو غير ملزم، وأما القضاء فإنه وإن كان ملزمًا إلا أنه قائم على ولاية شرعية، يمنحها ولي الأمر، ولا شأن لرضا الطرفين بسلطتها.

9-

وللتحكيم من اسمه في اللغة والشرع نصيب:

فهو في اللغة إطلاق اليد في الشيء، أو تفويض الأمر للغير يقال: حكمت فلانًا في مالي تحكيمًا إذا فوضت إليه الحكم فيه، ويقال: حكموه فيما بينهم إذا أمروه أن يحكم في الأمر، أو جعلوه حكمًا بينهم، والمحكم، والحكم، والمحتكم إليه، هو من يفوض إليه الحكم في الشيء (1)

أما معناه في الشرع فيدور حول اتفاق أطراف الخصومة، على تولية من يفصل في منازعة بينهما، بحكم ملزم، يطبق فيه شرع الله (2) .

وبذلك يمتاز التحكيم عن الفتيا وعن القضاء، فيتفق مع كل منهما في أمور، ويختلف عنهما في أمور أخرى.

10-

- ومما يتفق فيه التحكيم والفتاوى -: أن كلا منهما يبحث عن حكم الله في المسألة المعروضة، فالمحكم يكيف الواقعة، ثم ينزل عليها حكم الله، ويحكم بمقتضاه بين الخصمين المتحاكمين إليه، والمفتي يستجلي أركان الواقعة التي يستفتى فيها، ثم يبحث عن حكمها في القرآن الكريم والسنة المطهرة وفي الأدلة الشرعية الأخرى، ويخبر من يستفتيه بالحكم الذي ينتهي إليه اجتهاده (3) .

(1) ترتيب القاموس المحيط، جزء أول، ص 685، ومختار الصحاح ص 148؛ وأساس البلاغة للزمخشري ص 190

(2)

جرى كثير من الفقهاء الإسلاميين عند الكلام على التحكيم على الاكتفاء بشرح معناه، ومن ذلك ما قاله المغني:(إذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما ورضياه، وكان مما يصلح للقضاء فحكم بينهما جاز) ج 11، ص 483. وقال ابن فرحون:(إن الخصمين إذا حكما بينهما رجلًا من الرعية ليقضي بينهما جاز) تبصرة الحكام ج 1، ص 43، وقال الباجي:(ولو حكم رجلان بينهما رجلًا فقضى بينهما فقضاؤه جائز) المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، الجزء الخامس ص 226.

(3)

الإفتاء في اللغة الإبانة والإظهار – وفي الاصطلاح – وفق ما اختاره الدكتور – محمد سليمان الأشقر – ونؤيده فيه هو: (الإخبار بحكم الله تعالى باجتهاد عن دليل شرعي لمن سأل عنه، في أمر نازل) . ص 13 من كتابه (الفتيا ومناهج الإفتاء) ، دار النفائس للنشر والتوزيع بالأردن

ص: 1711

وقيام عمل كل من المحتكم إليه والمفتي على البحث عن حكم الله تعالى، يجعل لهما منزلة رفيعة عالية مهيبة الجانب، فالعمل عظيم الأجر، خطير الأثر في ذات الوقت؛ وذلك لأن في إدراك الحكم الواجب والإرشاد إليه بالغ المثوبة في الدنيا والآخرة، لما فيه من كشف عن الطريق الحق الذي أوجب الحكيم العليم اتباعه، وعاقب على تجنبه؛ ولأن الخطأ في التعرف على هذا الحكم خطير الأثر، إذ سيدفع المحتكم إليه أو المستفتى إلى غير الطريق القويم، بما قد يؤدي إلى هدم بيوت أذن الله أن ترفع، أو سلب أموال بالباطل أو تعريض الأنفس والأعراض للإيذاء والهتك على غير مقتضى العقل والشرع.

على أنه مادام المستهدف في التحكيم والإفتاء هو حكم الله، فإنه يفترض – إذا ما صدرا في موضوع واحد – أن لا يتعارضا، فإن تعارضا وكانت الفتوى هي التي تبنت الطريق الصحيح فلا مشكلة في الأمر، إذ إنها بطبيعتها غير ملزمة، أما إذا كان العيب في الحكم الصادر عن التحكيم، بأن كان مخالفًا لنص في القرآن الكريم أو السنة النبوية أو لإجماع أو لقياس جلي، فإنه يجب نقضه، وتكون الفتوى الصحيحة هي سند هذا النقض، وينبغي للمفتي – في هذه الحالة – أن يبين لصاحب الشأن أن العبرة بحكم الله لا بما قضى به حكم التحكيم، وذلك على نحو ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم:((إنكم تختصمون إلى رسول الله، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ويأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة)) . . . . (1) .

أما إذا كان مصدر الخلاف بين حكم التحكيم والفتوى هو الاجتهاد، فإن حكم التحكيم هو الذي ينفذ، إذ لا ينقض الاجتهاد بمثله (2) .

(1) لهذا الحديث روايات متقاربة واللفظ لأبي داود. سنن أبي داود: ج 3 ص 41، البخاري مع فتح الباري: ج 13 ص 134؛ مسند الإمام أحمد: ج 15 ص 214

(2)

في تفصيلات الآثار على تغير الحكم – الدكتور محمد سليمان الأشقر – الفتيا ومناهج الإفتاء- ص 137 – 142 – مرجع سابق – الدكتور محمد نعيم ياسين: حجية الحكم القضائي بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، ص 28 – 29 – مرجع سابق – المستصفى من علوم الأصول للإمام أبي حامد الغزالي: المجلد الثاني ص 382، الطبعة الأولى

ص: 1712

ويشترك التحكيم والإفتاء – كذلك – في أن كلًّا منهما لا يتطلب ولاية من الإمام؛ لأن التحكيم يستمد قوته من رضاء المحتكمين، كما أن الإفتاء يستند إلى طلب المستفتي، ومن ثم فلا يحتاج أي منهما إلى ولاية عامة، وإن كان ذلك لا يقف دون حق الإمام في مراقبة سير الأمور في الدولة، بما في ذلك تفقد حال من يتصدون للإفتاء أو يحتكم الناس إليهم في منازعاتهم، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عاد، وطريق الإمام في ذلك أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم: أما أحوال المحتكم إليهم، فإن له عليهم ما له على القضاة الأعلى منهم منزلة، من تفقد حالهم وسؤال أهل الصلاح والفضل عنهم (1)

ويشترك التحكيم مع الفتوى – أيضًا في حق كل من الحكم والمفتي في أن يرد من يطلبه، فالتحكيم لا يثمر التفويض فيه إلا برضاء المحتكم إليه، ولا ضير على المحتكم إليه إن لم يقبل، إذ إن وضعه يختلف عن وضع القاضي المولى، فهذا الأخير لا يستطيع أن يرد طالب القضاء ولا أن يحيله إلى غيره دون مبرر، وإلا عزر لارتكابه إثمًا، وكذلك المفتي لا يجب عليه أن يجيب السائل إلى الفتيا إلا إذا تعين للإفتاء، فإذا كان هناك أكثر من واحد، صارت الفتوى بينهم ندبًا لا وجوبًا (2) .

ومع اتفاق كل من التحكيم والإفتاء فيما سبق، فإن طبيعة كل منهما تختلف عن طبيعة الآخر، فالمحتكم إليه عليه أن يمحص واقعات الدعوى وأن ينقيها بتتبع الحجج التي يلقى بها كل خصم، فإذا ما وضحت لديه حقيقة الواقعة، أنزل عليها الحكم الذي يستقيه من القرآن الكريم أو يأخذه من السنة المطهرة، أو يستنبطه من سائر الأدلة الشرعية، حتى إذا اطمأن وجدانه، قضى بين الخصمين بالحكم الذي يرى أنه تطبيق لشرع الله، أما المفتي فلا شأن له – بحسب الأصل – بالحجج الواقعية، فهو يأخذ الواقعة كما يرويها المستفتي، وينزل عليها حكم الله، دون أن يجهده في ذلك تمحيص تلك الواقعة، أو تنقيتها مما قد يخالطها من زيف أو مغالطة، على نحو ما قد يفعله المتخاصمون في التحكيم من لجج في الخصومة أو دهاء في العرض أو إلباس الحق بالباطل (3) .

(1) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام – لابن فرحون طبعة مصطفى الحلبي - ج1 ص 77 – الدكتور محمد عبد الرحمن البكر – السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي ص 97 – 106 رسالة دكتوراه، الزهراء للإعلام العربي.

(2)

الدكتور محمد عبد الرحمن البكر – المرجع السابق – ص 101 – 106 المراجع المشار إليها منه تفصيلًا

(3)

الدكتور محمد عبد الرحمن البكر – المرجع السابق ص: 101، 106 – المراجع المشار إليه منه تفصيلًا

ص: 1713

ويرتبط بما تقدم أن التحكيم لا يكون إلا في خصومة حقيقية بين أكثر من خصم، فإذا لم تكن هناك خصومة في الواقع، فلا مجال للتحكيم، أما الإفتاء فلا يستلزم توافر مثل هذه الخصومة، فقد يستفتي الشخص في أمر يرى أهمية أن يعرف حكم الله فيه، دون خصومة قائمة أو محتملة، كمن يرى – مثلًا أهمية أن يعرف حكم الله في إيداع النقود في البنوك على هيئة وديعة مصرفية.

وما دام التحكيم لا يكون إلا في خصومة، فإنه من الطبيعي أن يكون ملزمًا، إذ إن المتخاصمين لم يلجأ إليه إلا بقصد حسم ما شجر بينهما من نزاع، وقد ظلّا على تفويضهما للمحتكم إليه حتى صدر منه الحكم، مما ينطوي ضمنًا على إعلان بقبول ما ينتهي إليه الحكم المفوض، وذلك بخلاف الحال في الفتوى، إذ إن المستفتي لم يعلن – صراحة أو ضمنًا – قبوله مقدمًا للفتوى، ولا تعهده بتنفيذها، وليس في مجرد توافر ثقته في قدرة المفتي ما يستتبع حتمًا موافقته على تنفيذ ما يصدر عنه، وإن كان ذلك لا يعني أنه غير مطالب بتنفيذ هذه الفتوى ديانة ما دام قد اطمأن إليها (1) .

ونتيجة لما تقدم جميعه، فإن التحكيم يصبح أضيق دائرة من الفتيا، فلا تحكيم في المكروهات، أو المستحبات؛ لأنه لا إلزام فيهما، وإنما الإلزام في الواجبات والمحرمات والمباحات، أما الإفتاء فإنه يجوز في ذلك كله.

ومن ناحية أخرى فإن التحكيم لا يكون في العبادات ونحوها، فلا تحكيم في صلاة – مثلًا – ليصدر فيها حكم بأنها صحيحة أو باطلة، وتحكيم في المسائل العلمية الكلية، كمعنى آية أو تفسير حديث شريف، وإنما قد تكون الفتوى في ذلك؛ لأن بيان حكم الله يتناوله جميعًا ويتناول غيره، كما أن الشبهات التي قد تسعى الفتيا إلى إزالتها لا تنحصر في أمر دون آخر من العبادات أو المعاملات أو الآداب أو العادات أو الأحكام الاعتقادية أو غيرها من أمور الدين والدنيا، ثم هي لا ينصب أثرها على المستفتي وحده، وإنما يتعلق بالناس كافة، ولا ينطبق حكمها على الواقعة المعروضة وحدها، وإنما ينطبق على كل واقعة مماثلة، ولذلك تردد في الفقه الإسلامي أن الفتوى – في حقيقتها – عامة غير ملزمة أما التحكيم فهو جزئي ملزم.

(1) ومثل التحكيم في ذلك القضاء، وذلك فإن ما يصدر عن القاضي دون أن يسبقه دعوى صحيحة من خصم على خصم لا يعد حكمًا، وإنما هو:(إفتاء كما صرح به البحر وغيره، وتسجيل ذلك بسجل المحكمة لا يغير حقيقة هذا القول الشرعية، وهي أنه إفتاء) فتوى الشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق المنشورة في المجلد السادس من الفتاوى ص 1997.

ص: 1714

11-

وإذا كان التحكيم يختلف عن الفتيا على نحو ما سبقت الإشارة إليه، فإنه يختلف – كذلك – عن القضاء وإن اشتبه به في أمور كثيرة.

ومواطن اشتباه التحكيم بالقضاء تجمل في أن كلًّا منهما يطبق شرع الله على خصومة مرفوعة إليه للفصل فيها بحكم ملزم لطرفيها المتناضلين أمامه فيها.

فلا محل في أي منهما للحكم بالهوى والتشهي، فقد أمر الله بالاحتكام إلى شريعته عند التنازع، دون تفرقة بين تحكيم وقضاء، فقال سبحانه:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] .

ويتفرع عن ذلك كلًّا من القاضي والحَكَم لا يتقيد بآراء من اختاره لهذا العمل، فالقاضي يقضي بما يراه حقًّا ولو جانب رأي الوالي الذي عينه، والحكم يحكم بما يعتقد صحته ولو خالف رأي أحد الخصمين أو كليهما.

والتحكيم يشبه القضاء في أنه يفصل في خصومة من نوع الخصومات التي يختص بها القضاء وفق وظيفته الطبيعية، فحكم المحكمة كحكم القاضي، لا يصدر إلا في دعوى صحيحة، وشرط هذه أن تكون في خصومة حقيقية.

وهو كالقضاء لا يتصدى لمنازعات الناس من تلقاء نفسه، وإنما يجب أن ترفع إليه، فليس بتحكيم ولا قضاء ضبط وقائع ولا فصل في خصومة لم ترفع من ذوي الشأن، وإنما قد يكون ذلك من أعمال الولاية العامة التي يمارسها الوالي بحكم إشرافه ورقابته على الرعية، أو من أعمال ناظر المظالم التي ينظرها متى علمها دون أن ينتظر تظلم متظلم، أو من أعمال الحسبة التي تتعلق بمنكر ظاهر، كدعاوى تطفيف الكيل وبخسه، ودعاوى الغش والتدليس في المبيع أو الثمن.

والتحكيم في فصله للخصومة المعروضة يصدر حكمًا ملزمًا لطرفي الخصومة المحتكمين إليه مثله في ذلك مثل القضاء، فحكم كل منهما جزئي خاص لا يتعدى المحكوم عليه ولا يجاوز محله إلى ما يماثله (1) .

(1) الدكتور محمد عبد الرحمن البكر، السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي – المرجع السابق- وقد نقل عن ابن القيم وعن الخرشي بعض النصوص المؤيدة لطبيعة القضاء، كما ذكر مراجع عدة في هذا الشأن (ص 191، 194، 195) وراجع الدكتور محمد نعيم ياسين في نظرية الدعوى بين الشريعة الإسلامية وقانون المرافعات ص 7، 9؛الدكتور حامد محمد أبو طالب – التنظيم القضائي الإسلامي ص 17 وما بعدها.

ص: 1715

غير أن التحكيم مع اشتباهه بالقضاء في كل ما تقدم، فإنه يفترق عنه في أمور كثيرة، وسبب الاختلاف بنيهما يرجع إلى أن مصدر السلطة في كل منهما يختلف عن مصدرها في الآخر، فالتحكيم يستمد سلطته – بصفة عامة – من رضاء آحاد من الناس بحسم الخصومة بنيهم على يد حكم يرضونه، أما القضاء فيستند في سلطته إلى ولاية عامة يخلعها عليه من يملك ذلك، حين ينصبه قاضيًا يحكم بين الناس، فيما يرفعه إلى أي منهم، ويكون قضاؤه بحكم، يلزم به من يرى أنه أحق بإلزام، رضي به أم لم يرض، طالما أنه مكن من إبداء ما قد يكون لديه من دفاع.

فاستناد التحكيم إلى رضاء من يلجئون إليه، يضع في يد هؤلاء الحق في رسم نطاق محدد، لايحق للمحتكم إليه أن يتعداه، ويجعل ناصية الأمر بأيديهم كذلك، فيستطيعون – بحسب الأصل – أن يعدلوا عن التحكم أيًّا كان موقعهم من الخصومة، مدعين أو مدعى عليهم، وذلك طالما لم يصدر الحكم أو لم يشرع الحكم في أصدراه، على خلاف في ذلك بين العلماء، أما القضاء فإن استناده إلى الولاية العامة، يحرم المتقاضيين من رسم نطاق التقاضي إلا في حدود محصورة (1) كما يحرم الخصوم من إنهاء الخصومة دون حكم إلا في حالات محددة ولا يقتضي التقاضي ضرورة حضورهم، فيجوز الحكم على الغائب منهم، إذا تخلف عن الحضور دون عذر شرعي مقبول.

ومن ناحية أخرى، فإنه ما دامت سلطة المحتكم إليه تستند إلى رضا المحتكمين به، فإن لهؤلاء الحق في عزله، بحسب الرضاء منه، أما في القضاء فلا محل لتخويل المتقاضين حق عزل القاضي؛ لأنه لا يستمد سلطته منهم، بل إن القاضي نفسه على خلاف المحتكم إليه لا يملك التنحي عن الفصل في الخصومة دون مبرر شرعي؛ لأن قضاءه فيها واجب عليه، وليس حقًّا له يخضع لقبوله ورضاه.

(1) إرادة الخصوم ليست معدومة الأثر أمام القضاء فمن مظاهر هذه الإرادة أمام المحاكم أنه وإن كان أحد طرفي الخصومة هو الذي يقيمها، فالطرف الآخر قد يكون له مصلحة في الإبقاء عليها أما القضاء رغم أنه ليس هو الذي أقامها، وقد يكون من مظهر هذا في بعض النظم الوضعية عدم إجازة النزول عن الخصومة للمدعي، إلا إذا قبل الخصم هذا التنازل، وهي قاعدة مطلقة في بعض هذه النظم ومقيدة بقيام مصلحة فعلية للمدعى عليه في الإبقاء على الخصومة، في نظم أخرى. وقد يتفق الخصمان على إقامة النزاع أمام محكمة ما، دون المحكمة المختصة أصلًا بنظر النزاع، أو أمام محاكم دولة معينة دون محاكم دولة أخرى تكون هي المختصة في الأصل بنظر النزاع، أو قد يتفقان على النزول عن الخصومة. (وتمكن إرادة الخصوم في الاتفاقات، وفي العقود، وعند الإتيان بفعل ضار، أو عند مخالفة القانون على وجه العموم، تكمن هذه الإرادة في الالتجاء إلى القضاء عند الحاجة لحماية الحقوق وإن كانت لا تبدو صريحة في العقود، فإرادة الخصوم التي ترمي إلى إنشاء حقوق أو التزامات تقدر مقدمًا أن جزاء الإخلال بهذه أو تلك هو التجاء إلى القضاء) – الدكتور أحمد أبو الوفا – التحكيم الاختياري والإجباري، ص 17 وهامش: 1 من ذات الصفحة

ص: 1716

وإذا كان كل من حكم التحكيم وحكم القضاء يلزم الخصوم، فإن شرط ذلك في التحكيم عند تعدد المحكمين كقاعدة عامة، أن تجتمع كلمتهم على الحكم، ما دام الأطراف لم يأذنوا لهم بالحكم بالأغلبية في الحالات التي يجوز فيها ذلك؛ ذلك لأن الرضا كان رضاء برأيهم لا برأي بعضهم ولو كانوا الأكثرية، أما في القضاء فليس بلازم – عند التعدد – أن يكون الحكم صادرًا بالإجماع ويكفي فيه أن يكون بأغلبية القضاة.

وقد تكشف المقارنة بين حكم المحكمين وحكم القضاء عن ضعف الحكم الأول إذا قيست قوته بالحكم القضائي، كما يتضح ذلك في النقاط التالية عند توحيد مصدر الحكم فيها بالاقتصار على الرأي الراجح في مذهب واحد، ولكن هو المذهب الحنفي:

أ- فحكم المحكم إذا رفع للقاضي في محل مجتهد فيه ولم يوافق رأيه نقضه، أما إذا كان حكمًا قضائيًّا فإنه لا يملك ذلك.

ب- وحكم المحكم بالوقف لا يلزم؛ لأن حكمه لا يرفع الخلاف على الصحيح عند الحنفية، ويلزم بحكم القاضي؛ لأن حكمه يرفع الخلاف.

ج – وحكم المحكم علي وصي الصغير بما هو ضرر على الصغير لا يصح؛ لأن تحكيم الوصي بمنزلة الصلح، أما حكم القاضي بذلك فصحيح إذا استجمع شرائطه.

د- وحكم المحكم إذا أسلم بعد ردته غير صحيح، إلا بتحكيم جديد؛ لأنه ينعزل بالردة، فينتهي أثر الاحتكام السابق عليها، أما القاضي فإنه إذا أسلم بعد ردته لم يحتج إلى تولية جديدة، ولذلك يصح حكمه.

هـ – وحكم المحكوم برد الشهادة للتهمة لا يلزم غيره كما لايلزم القاضي إذا عرض عليه الأمر وشهدت البينة بعدالة الشاهد؛ لأن رد الشهادة عند الحنفية حكم، وحكم المحكم لا ينفذ إلا في مواجهة من رضي به، أما إذا رد الشهادة قاض للتهمة، فإنه لايحق لقاض آخر أن يقبلها؛ لأن القضاء بالرد ينفذ على الكافة. (1) .

(1) البحر الرائق: ج 7 ص 27، فتح القدير للكمال بن الهمام: ج 6 ص 410، الفتاوى الهندية: ج 3 ص400 الدكتور أحمد المليجي، النظام القضائي الإسلامي، ص 65، 66 الدكتور إسماعيل إبراهيم البدوي، نظام القضاء الإسلامي، ص 145،146 الدكتور محمد سلام مدكور، القضاء في الإسلام، ص 135، 136 الدكتور محمد عبد الرحمن البكر، السلطة القضائية، ص 553، 554 مراجع سابقة

ص: 1717

وهكذا تكشف النماذج السابقة عن ضعف حكم التحكيم إذا قورن بالحكم القضائي، كما تكشف الطبيعة الرضائية للتحكيم عن أن نطاقه أضيق من نطاق ولاية القضاء، فهو لا يتعدى النازلة التي حكم فيها، ولا الأشخاص الذين ارتضوه، وهو غير لازم قبل الشروع فيه، ولا يستطيل إلى بعض المنازعات والخصومات التي يستأثر القضاء المولى بها وحده.

على أنه ومع ذلك كله، فقد يكون التحكيم مطمعًا، دون القضاء، وذلك كما إذا منع ولي الأمر القضاء من سماع الدعوى في منازعات معينة، كتلك التي تقادم عليها العهد، وقبل الأطراف ذوو الشأن أن يحتكموا في أمرها إلى محكم، كما قد يكون التحكيم بالغ الخطورة إذا صدر الاحتكام ممن له ولاية عامة بصفته في أمور تتصل بالنفع العام، كالتحكيم لإنهاء الحرب، أو التحكيم لإنهاء نزاع يتصل بمصلحة عليا للدولة أو باختيار الخليفة أو الوالي أو نحو ذلك.

هذا إلى جانب أن التحكيم قد يعد مخرجًا من كثير من المشاكل التي تقف في وجه تطبيق الشريعة الإسلامية، إذا ما أحسن وضع القواعد المنظمة له، بما يكفل تطويع القواعد الوضعية للحكم بشريعة الله.

12-

ومع ما هو مسلم به من أن التحكيم الرضائي يمكن، يؤدي دورًا هامًّا في المجتمع الإسلامي، فإن قيامه على الرضائية لا يكفي – وحده – لإسباغ المشروعية عليه، ذلك أن هذا التحكيم يصطدم مع واجب الدولة الإسلامية في أن توفر – هي – العدل والأمن لكل الرعايا، ويتعارض مع حقها في أن تنفرد بفرض سيطرتها عليهم في هذا الشأن، دون أن يكون من حق أي منهم أن يتحرر من هذه السيطرة.

فالعدل وظيفة رئيسية للدولة الإسلامية، ألزمها به القرآن الكريم وفق ما تشير إليه آيات عدة، منها قوله تعالى:{وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] وقوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، بل إن الكتاب المحكم أشار إلى أن ذلك من لوازم الرسالات السماوية جمعاء، فقال:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] .

ص: 1718

وإقرار الأمن بين الرعية هو – أيضًا – من أهم واجبات الدولة الإسلامية، وبدونه لا يتحقق التكريم الذي أنعم الله به على بني آدم، ولا يكون هناك جدوى من أن يسخر لهم ما في السموات وما في الأرض؛ ذلك لأن افتقاد الإنسان للشعور بالأمن والأمان ينتقص من تكريمه، ويحرمه من الاستماع الحقيقي بما سخر له.

ولذلك فقد أمر الإسلام بأن لا يؤاخذ أحد دون تثبيت أو تحقيق، كما يدل على ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] ، كما أمر الإسلام كذلك بوجوب التعمق في الفهم وتحميص الوقائع التي تعرض، وصولًا إلى الحكم الصحيح عليها، ومن ذلك ما يشير إليه قوله سبحانه:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء 78 – 79] .

وفرض العدالة وإشاعة الأمن، يتطلبان دائمًا الاستناد إلى سلطة الدولة وسيادتها، ويمثلها في هذا الشأن القضاء الذي تقيمه وتختاره قضاته ونظمه الشكلية والموضوعية، ومن ثم فتأمر برفع الخصومات إليه، والالتزام بما يقضي به، وتنفيذه تنفيذًا كاملًا، على نحو مما تشير إليه الآية الكريمة:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، كما تأمر الدولة أيضًا – بوجوب المثول بين يديه والاستجابة لطلب الحضور لإجراء المحاكمة، كما يدل على ذلك قوله سبحانه:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) } [النور 48 – 52] .

ومن ثم فإنه إذا كان التحكيم – في حقيقته – اختصاصًا ببعض المنازعات التي يختص بها القضاء بحسب الأصل، وإبعادًا لها عنه، بالسماح للمتخاصمين بأن يأتمروا بأمر من لا تنبثق سلطته من سلطة القضاء، ولا تتفرع ولايته عن أي ولاية أخرى من ولايات الدولة، فإن ذلك العدوان على القضاء، والانتقاص من سلطانه لا يملك الأفراد بإرادتهم – وحدها – أن يصلوا إليه، حتى ولو كان انتقاصًا غير حاسم، بمعنى أنه إذا لم ينفذ التحكيم، أو لم تتكامل إجراءاته، تعود إلى القضاء سلطة الحكم في المنازعة ويجبر الخصم على المثول أمامه والرضوخ) لأحكامه، أو كان انتقاصًا مؤقتًا، لا يحرم القضاء في النهاية من سيطرته، إذ ستكون له اليد العليا على الحكم الذي يصدره التحكيم فيلغيه، أو يمنع تنفيذه إذا رأى أنه خرج على القواعد الواجبة الاتباع سواء أكانت موضوعية أم إجرائية، فهذا الانتقاص من سلطان القضاء – مهما كان – لا يملكه الأفراد بإرادتهم، وإنما يتعين أن يكون هناك بيان من المشرع الحكيم، يمنح إرادتهم هذا الحق، ويحدد لها مداه، وبالتالي فإن الأخذ بنظام التحكيم الرضائي يستلزم – حتمًا – أن يكون هناك من الأدلة الشرعية ما يسمح بتطبيقه.

ص: 1719

13 – ولعل من أبرز الأدلة على مشروعية التحكيم هو ما زخرت به السنة المطهرة من آثار قولية وفعلية تشهد بذلك (1) .

فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد قال: (حدثنا أحمد بن يعقوب، قال: حدثنا يزيد بن المقدام بن شريح بن هانئ الحارثي، عن أبيه المقدام، عن شريح بن هانئ قال: حدثني هانئ بن زيد أنه لما وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه، فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنيت بأبي الحكم، فلم تكنيت بأبي الحكم؟)) . . . . قال: لا، ولكن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين. قال صلى الله عليه وسلم:((ما أحسن هذا!)) . . . . ثم قال: ((ما لك من ولد؟)) . . . .قلت: شريح وعبد الله ومسلم وهانئ، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال:((فأنت أبو شريح. ودعا له ولولده)) .

فالحديث واضح الدلالة على أن القوم كانوا يختارون أبا شريح حكمًا بينهم فيما يتنازعون فيه، وكانوا يرضون حكمه فيهم، وبالتالي فإن استحسان النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يحمل معنى مشروعية التحكيم الرضائي (2) .

وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري ما مؤداه ((أن يهود بني قريظة طلبوا الاحتكام إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقبل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرسل إليه فحضر، وقضى بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم)) .

وفي الروايات التي نقلت عن هذه الحادثة ما يؤكد أن بني قريظة اقترحت على سعد بن معاذ حكمًا بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن سعدًا حين حضرا استوثق من رضاء الطرفين بحكمه، كما استوثق من قبولهم تنفيذه، وكان مما فعله في هذا الصدد أنه توجه إلى بني قريظة قائلًا:((عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيكم ما حكمت؟)) فقالوا: نعم، ثم قصد الناحية التي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عنه بوجهه إجلالًا له صلى الله عليه وسلم، وقال: وعلي من ههنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) .

ووجه الدلالة من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم سعدًا وأمضى حكمه. وأن سعدًا حرص على الاستيثاق – جهارًا – من رضاء الطرفين لتحكيمه بينهم، وقبولهم تنفيذ ما يحكم به (3) .

(1) ورد في بعض الآيات القرآنية إشارة إلى التحكيم، مما قد يستدل به على مشروعيته غير أننا لم نشأ أن نذكرها تفصيلًا، لأننا نرى أن دلالتها على نوع التحكيم الرضائي الذي نتحدث عنه دلالة يتطرق إليها الاحتمال، ومن ذلك قوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وقوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] .

(2)

أخرج الحديث أيضًا النسائي في كتاب آداب القضاة ج 8 ص 199؛ وعون المعبود شرح سنن أبي داود ج 13 ص 296 كتاب الأدب.

(3)

وردت هذه الحادثة بروايات متقاربة ثبت بعضها في فتح الباري ج 7 ص 411؛ وفي مسند أحمد ج 3 ص 22؛ وصحيح مسلم بشرح النووي ج 12 ص 92؛ ونيل الأوطار للشوكاني ج 8 ص 62؛ وأشار إليه فتح القدير للكمال بن الهمام ج 5 ص 498؛ والكاساني في بدائع الصنائع ج 7 ص 107.

ص: 1720

(وروى ابن شاهين بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني العنبر حين انتهبوا مال الزكاة: ((اجعلوا بيني وبينكم حكمًا)) . . . .، فقالوا: يا رسول الله، الأعور بن بشامة، فقال:((بل أسيدكم ابن عمرو)) . . . .، فقالوا: يا رسول الله الأعور بن بشامة، فحكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم بأن يفدى شطر ويعتق شطر (1) .

ووجه الدلالة في هذا الحديث أن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم للتحكيم وقبوله من ارتضاه الخصم وأصر عليه، دليل على مشروعية التحكيم الرضائي في فض المنازعات.

14 – وإلى جانب هذه الأحاديث الشريفة التي تشهد بمشروعية نظام التحكيم المبني على التراضي، فإن العمل قد جرى بين الصحابة في صدر الإسلام على الأخذ به.

فقد تحاكم عمر بن الخطاب وأبي بن كعب، إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عمر مع رجل اشترى منه فرسًا إلى شريح، وتحاكم عثمان بن عفان وطلحة إلى جبير بن مطعم، وتحاكم عبد الله بن عمر ووالدة أرملة ابنه إلى زيد بن ثابت (2) ، وكان احتكام هؤلاء الصحابة جميعًا – رضوان الله عليهم – بناء على تراض منهم في خصومات نشبت بينهم، وقد تم اختيارهم للمحتكم إليه برضائهم، كما أن من اختاروه قبل الحكومة، وقضى بينهم فنفذوا ما حكم به، ولم يكن من القضاة الذين خصم ولي الأمر بالحكم بين الناس (3) .

(1) الإصابة لابن حجر العسقلاني ج 1 ص 55 – وفي إسناده جهالة – الموسوعة الفقهية ج 10 ص 235 هامش؟

(2)

في تفصيلات الوقائع المشار إليها: كشاف القناع ج 6 ص 303؛ أسنى المطالب ج 4 ص 67؛ تاريخ ابن كثير ج 9 ص 25؛ المبسوط للسرخسي ج 11 ص 53

(3)

هناك وقائع أخرى وردت عن الصحابة رضوان الله عليهم، واستدل بها البعض على مشروعية التحكيم، ومن ذلك ما ورد من نزاع بين أعرابي وعثمان بن عفان بسبب عدوان بني عم عثمان علي إبل للأعرابي، وأنهم احتكموا إلى عبد الله بن مسعود، وما أوصى به عمر بن الخطاب من أن يختار الرهط الذين ذكر أسماءهم، خليفته بعد موته، وتحكيمه رضي الله عنه خمسة من الأوس ومثلهم من الخزرج في قسمة سواد العراق، وغير ذلك مما قد لا يكون له دلالة – في نظرنا – على مشروعية نوع التحكيم الرضائي الذي يتناوله البحث

ص: 1721

15-

على أن من أبرز الوقائع التي تشهد للتحكيم، ولا يماري أحد في وقوعها ولا في طرحها على بساط البحث العلمي بين الصحابة أجمعين، ما جرى من تحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وحزبيهما، فقد اتفقوا على ذلك في خلال عام 37 هجرية، حسمًا للحرب التي دارت رحاها بينهم، وكانت تفاصيل هذا التحكيم من وضوح الدلالة ووضوح الثبوت ما يجعله عظيم الأهمية فيما نحن بصدده، مما يقتضي أن نخصه ببعض التفصيلات التي لا تتجاوز موضوع البحث.

فحين احتدم النزاع بين الحزبين، وبدا لجيش معاوية أنه مقبل على الهزيمة رفع جنوده المصاحف على أسنة الرماح طالبين اللجوء إلى التحكيم، فرفض على كرم الله وجهه الاستجابة لذلك أول الأمر، ثم عاد فنزل على قبوله، فعقدت معاهدة كان طرفاها علي بن أبي طالب وشيعته، الشاهد منهم والغائب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعته، الشاهد منهم والغائب، وتراضى الطرفان على أن يقفا عند حكم القرآن، فيما يحكم به من فاتحته إلى خاتمته، واختار كل منهما حكمًا رضي به، وحددا مكان التحكيم بمنزل وسط بين أهل العراق وأهل الشام (دومة الجندل) ، ووقَّتا أجله بانقضاء شهر رمضان من ذات السنة، ونصَّا في المعاهدة على أنه إذا انتهى الأجل دون أن يحكم الحكمان، فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب، وقد أخذ الحكمان على المحتكمين، عهد الله وميثاقه بالرضا بما يحكمان به، وأن ليس لهما نقضه أو مخالفته إلى غيره، ثم أعلنا حكمهما في خلال الأجل المتفق عليه.

وإذا تدارس المسلمون معاهدة التحكيم هذه، انتهوا جميعًا أهل سنة ومعتزلة وشيعة – إلى شرعية ما اتفق عليه المحتكمون من تحكيم، وإلى تصويب علي كرم الله وجهه في قتاله مع معاوية، وفي قبوله التحكيم في خصومته ولم يشذ عن ذلك سوى طائفة محدودة، خرجوا على الإجماع وانتهوا إلى تخطئة علي رضي الله عنه في قبوله للتحكيم، بعد أن كانوا هم الذين دفعوه إلى الموافقة عليه، وكان من أهم ما تساندوا إليه في لجاجهم مع الصحابة ما قالوه من أن تحكيم الرجال يجب أن يقتصر على ما ورد به النص القرآني، كالصيد في الحرم، والشقاق بين الزوجين، ولا يتعداه إلى غيره كدماء المسلمين، وأنه لا مجال للأخذ بالتحكيم في محل النزاع؛ لأن الله قضى في أمر معاوية وحزبه بحكم لا يجب التوقف فيه، فقتالهم كان واجبًا؛ لأن الله يقول:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وحين جنحوا للسلم كان واجب الخليفة أن يجنح معهم له، إن هم قبلوا أن يدخلوا تحت لوائه، فإن أبوا وجب استئناف قتلاهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، وبالتالي فلم يكن هناك مجال للاحتكام إلى الرجال الذين احتكم إليهم على معاوية.

ص: 1722

وقد أجاب فقهاء الصحابة عن شبهة الخوارج هذه بشقيها، فقالوا: إنه لا صحة لدعوى عدم جواز التحكيم في غير ما ورد به النص، كالشقاق بين الزوجين والصيد؛ ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل التحكيم في بني قريظة، وهو من قبيل التحكيم في الدماء، ولم يرد به نص في الكتاب الكريم، وفيما يختص بالإدعاء بأن القرآن حكم في معاوية وحزبه بما لا محل معه للاحتكام للرجال. قالوا: إن كتاب الله الكريم لا يحكم في الوقائع بنفسه، ولكن لابد من الرجال للتحقق من مناط الحكم والتثبت من شروط تطبيق أمر الله (1) .

وأيا ما كان الرأي فيما تساند إليه هؤلاء النفر من الخوارج، فإن الواضح في مناقشاتهم وجدالهم أنهم لا يقرون التحكيم في المحل الذي وقع فيه، أما التحكيم من حيث المبدأ فإنهم يصرحون بشرعيته فيما نزل به القرآن الكريم مثل الشقاق والصيد.

وبذلك تكون واقعة التحكيم بين علي ومعاوية قد كشفت، فيما يشبه الإجماع من الصحابة في العصر الذي وقعت فيه، عن مشروعية التحكيم من حيث المبدأ على أقل القليل (2)

ونتيجة لهذا، ولما تقدم جميعه، فإن جمهور فقهاء المسلمين قد انتهوا إلى مشروعية التحكيم المبني على التراضي، فكان هذه هو مذهب الحنابلة، والأصح لدى الحنفية والشافعية وعند المالكية (3) .

على أن القول بجواز التحكيم لا يحول بين ولي الأمر وبين إيجابه على الناس في بعض الحالات أو تحريمه عليهم في حالات أخرى، طالما بقي أصل التحكيم سائغًا؛ وذلك لأن له أن يجعل المباح واجبًا أو محظورًا (4) ، كما أنه يملك تنظيم القضاء وتخصيصه من حيث الزمان أو المكان أو بالحادثة وبالتالي فهو يملك ذلك بالنسبة للتحكيم الذي هو أدنى مرتبة من القضاء

(1) جاء في مناقشة علي رضي الله عنه للخوارج قوله: نشدتكم الله، أتعلمون حين رفعوا المصاحف قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم فقلتم: لا، بل تقبل، فقلت لكم: احفظوا نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي. وجاء في مناقشة ابن عباس رضي الله عنه لهم أنه قال لهم: ما نقمتم من الحكمين والله سبحانه وتعالى يقول في الشقاق بين الزوجين: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، فقالوا: أما ما جعله الله حكمه إلى الناس، وأمروا بالنظر فيه والإصلاح له، فهو لهم كما أمر، وأما ما حكم ما معناه فليس للعباد أن ينظروا فيه. في تفصيلات ذلك: تاريخ الطبري ج 5 ص 66 وما بعدها؛ البداية والنهاية لابن كثير ج 7 ص 274.

(2)

تناول موضوع التحكيم بين علي ومعاوية عشرات من الكتب منها العواصم من القواصم لابن العربي؛ والفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي، وآثار الحرب للدكتور وهبة الزحيلي؛ والنظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس؛ وفجر الإسلام لأحمد أمين، فضلًا عن كثير من كتب الفقه والحديث والسيرة.

(3)

الموسوعة الفقهية – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت – الجزء العاشر، ص 236 والمراجع المشار إليها فيها

(4)

الدكتور سلام مدكور، الإباحة عند الأصوليين ص 340

ص: 1723

الفصل الثاني

طبيعة التحكيم وآثاره

16 – يقوم التحكيم – كما سلف البيان – على رضائية يقرها الشرع، ويمنحها ولاية شرعية، تسمح لها بترتيب الآثار التي يتغياها الأطراف ما دامت في الحدود التي ترضاها الشريعة الإسلامية، ومن ثم فإنه حتى يتضح النطاق الذي يستهدفه الأطراف فإنه يجب أن تحدد صيغة الاتفاق الأطراف المحتكمين، والخصومة التي يحتكمون بشأنها، وشخصية الحكم الذي يحتكمون إليه، وما قد يكون هناك من قيود تحدد سلطته من حيث الزمان أو المكان أو غيرها، ومدى التزامهم بالحكم الذي يصدره، ومن ناحية أخرى، فإن غايات الأطراف التي ترسمها صيغة اتفاقهم في وضوح، يجب أن تكون في نطاق القواعد الملزمة التي وضعها الفقه الإسلامي.

واشتراط وقوع الصيغة – لفظية كانت أو غير لفظية – في التعبير عن رضاء الطرفين وضوحًا لا يخالطه شك، مصدره أن التحكيم طريق استثنائي لفض الخصومات، قوامه الخروج عن طرق التقاضي العادية وما تكفله من ضمانات، ومن ثم فلا يحق أن يحرم أحد من الطريق الطبيعي للتقاضي إلا إذا كان ذلك بناء على رضاء واضح منه، لا تشوبه شائبة، ولا تضعفه شبهة، وإلا وجب تفسير الصيغة تفسيرًا ضيقًا، إعمالا؛ لأن الأصل هو الالتجاء إلى القضاء (1) .

أما إذا توافر هذا الوضوح في الكشف عن الإرادة، فإن التراضي على التحكيم يكون قد وجد، وحق لذلك إعمال آثاره أيا كان الطريق الذي وضحت به هذه الرغبة، وسواء أكان إبداؤها شفاهة أم بالكتابة أم بالإشارة أم بتبادل الرسائل أم بإيجاب من أحد المتخاصمين وقبول فعلي من الطرف الآخر (كأن يترافع أمام المحكم الذي اختاره الخصم دون أن يحتفظ في ذلك) أم باتخاذ أي مسلك آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على التراضي، وذلك كله وفق ما يراه الجمهور، وعلى الأخص ما صرح به المالكية والحنابلة (2) .

(1) يصرح فقهاء القانون بأن الرضا بالتحكيم لا يفترض، وأن عبارات عقد التحكيم يجب أن تفسر تفسيرًا ضيقًا. (الدكتور أحمد أبو الوفا – التحكيم الاختياري والإجباري – مرجع سابق ص 28) .

(2)

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 3 ص 3. ويقول الحطاب في الاستدلال على مذهب المالكية: (إن الأفعال وإن انتفت فيها الدلالة الوضعية، ففيها دلالة عرفية وهي كافية) (ج 4 ص 228) . ويقول المغني في الاستدلال على رأي الحنابلة: (

ولأن الإيجاب والقبول إنما يرادان للدلالة على التراضي، فإذا وجد ما يدل على المساومة والتعاطي، قام مقامها وأجزأ عنهما، لعدم التعبد فيه) (ج 4 ص 4) .

ص: 1724

والمرجع في الوضوح وعدمه إلى اللغة والعرف، فإذا استعمل المتحاكمان اللفظ – مثلًا – بيانًا لإرادتهما، إن كان بصيغة الماضي دل على التراضي باتفاق الأئمة الأربعة؛ ذلك لأن هذه الصيغة وإن كانت للماضي وضعًا، فإنها جعلت إيجابًا في الحال في عرف أهل اللغة والشرع والعرف قاض على الوضع، وإن كان بصيغة الأمر، فإن الحنفية يرون أن هذه الصيغة تفيد طلب الإيجاب والقبول وليست إيجابًا وقبولًا، فلا بد من إيجاب وقبول بلفظ آخر يدل عليهما، أما عند المالكية والشافعية، فإن صيغة الأمر، وإن كانت تدل – لغة – على الطلب، مما يحتمل الرضاء وعدمه، فإنها عرفًا تدل على الرضا، وبذلك تستوي صيغة الأمر في دلالتها مع صيغة الماضي في هذا الشأن.

أما صيغة المضارع فإنها – في رأي الجمهور – تحتمل الحال والاستقبال، وبالتالي فهي لا تكفي – وحدها – للدلالة على التراضي، ويجب أن تساند بدليل آخر، إن أريد الاستدلال بها عليه، ومثل ذلك استعمال صيغة الاستفهام (1) .

أما تعليق قبول التحكيم على شرط أو إضافته للمستقبل، فيرى الإمام محمد من الحنفية جواز ذلك؛ لأن التحكيم – عنده – تولية وتفويض كالوكالة والقضاء، فيجوز فيه التعليق والإضافة كما جاز فيهما، ويرى الإمام أبو يوسف – وهو ما عليه الفتوى – عدم جواز ذلك؛ لأن التحكيم عنده من عقود التمليكات لما فيه من تمليك الولاية، وعقود التمليكات لا يجوز تعليقها أو إضافتها للمستقبل، لما في ذلك من منافاة لما قصده الشارع فيها من ترتيب حكمها فور انعقادها، هذا إلى جانب أن التحكيم وإن كان تولية صورة، فإنه صلح معنى، والصلح لا يصلح معلقًا ولا مضافًا، فكذلك يجب أن يكون التحكيم (2) .

(1) البدائع للكاساني ج 5 ص133، 134؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 3 ص 3، 4؛ المذهب للشيرازي جزء أول ص 257

(2)

الفتاوى الهندية ج 3 ص 217، 570؛ جامع الفصوليين ج 2 ص 2؛ فتح القدير ج 5 ص 502؛ البحر الرائق ج 7 ص 24، 29

ص: 1725

17-

وإذا كان الرضاء يجب أن يكون واضحًا، فإنه يجب كذلك أن تتطابق فيه الإرادتان على المحل، فيتفق الإيجاب والقبول اتفاقًا كاملًا، أو كما عبر به الكاساني في البدائع بأن يقبل أحدهما ما أوجبه الآخر، وبما أوجبه، فإن خالفه، بأن قيل غير ما أوجبه، أو ببعض ما أوجبه، لا ينعقد، من غير إيجاب مبتدأ موافق (1) .

على أنه فيما يختص بقبول بعض ما أوجبه الخصم الأول فإن شرطه أن يكون ما أوجبه قابلًا للتفرق (أي التجزئة) ، فإذا كان لا يقبل التفرق، سواء بحسب طبيعته، أو وفق ما هو موضح في إيجاب الخصم الأول، فإن قبول البعض دون البعض، يعد رفضًا للإيجاب الأول، قياسًا على ما صرح به الفقهاء في حكم تفرق الصفقة المبيعة (2) .

18-

وإذا كان الرضا بالتحكيم لا يشترط أن يتم في شكل معين، وإنما يكفي فيه التقاء الإيجاب مع القبول وتطابق الإرادتين، فإنه لا يشترط فيه – كذلك – أن يكون سابقًا على المنازعة أو لاحقًا عليها، فيجوز أن يتفق على التحكيم بعد أن تنشب الخصومة، كما يجوز أن يتفق عليه مسبقًا، كأن يضمن الطرفان العقد الذي بينهما، اتفاقًا على أنه يتولى التحكيم حسم ما قد ينشأ – مستقبلًا – من منازعات في تنفيذ هذا العقد (3)

وإذا كان الفقه الإسلامي لم يتضمن – بصورة واضحة – تقسيم صور الاتفاق على التحكيم إلى ما يسبق نشوء المنازعة، وما يلحق بها، فإن عباراته تسع ذلك (4) . ولا تتأبى أن يستعمل معها ما اصطلح عليه رجال القانون من إطلاق كلمة (شرط التحكيم) على ما يكون منصوصًا عليه في العقود من قبول الالتجاء إلى التحكيم فيما قد ينشأ مستقبلًا من منازعات في هذه العقود، وإطلاق اسم اتفاق التحكيم (أو مشارطة التحكيم أو وثيقة التحكيم (على الاتفاق اللاحق على نشوء المنازعة (5) .

(1) البدائع للكاساني ج 5 ص 136

(2)

فتح القدير ج 5 ص 77، ص 82؛ البدائع ج 5 ص 136

(3)

البحر الرائق ج 7 ص 25؛ فتح القدير ج 5 ص 499 وما بعدها.

(4)

. جرى نص المادة الأولى من نظام التحكيم السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم م / 46 وتاريخ 12 / 7 / 1403 هـ على أنه: (يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين قائم، كما يجوز الاتفاق مسبقًا على التحكيم في أي نزاع يقوم نتيجة لتنفيذ عقد معين) . وفي إمارة أبو ظبي نص قانون إجراءات المحاكم المدنية رقم 3 لسنة 1970 على صورة ثالثة، قوامها أن تكون الدعوى مرفوعة فعلًا أمام المحكمة، ويطلب الخصوم – كتابة – إحالة النزاع، كليًّا أو جزئيًّا، على التحكيم (المادتان 82، 94) .

(5)

اختار نظام التحكيم السعودي اصطلاح (وثيقة التحكيم واختار القانون الكويتي اصطلاح)(اتفاق التحكيم) وهو الاصطلاح الذي انتهى إليه المجمع اللغوي المصري (الدكتور محمد محمود هاشم، النظرية العامة للتحكيم) ، الجزء الأول ص 72 إلى 76.

ص: 1726

19-

على أنه أيا كان وقت التراضي على التحكيم، فإنه يجب أن يكون في خصومة بالمعنى الشرعي؛ لأن حكم المحكم كحكم القاضي المولى يشترط لصحته سبق الدعوى الصحيحة، وهذه يشترط لصحتها أن تكون في خصومة حقيقية، فإذا لم يكن هناك تخاصم حقيقي فلا تحكيم كما إذا ملك شخص تجارة في مكانين مختلفين، وأقام الدعوى من نفسه، بوصفه صاحب أحد المحلين، على عامله في المحل الآخر، بغية إثبات مدينوية معينة، فذلك غير مقبول، لا سيما والفقه الإسلامي لا يعرف الشخصية الاعتبارية في مثل هذه الحالة، وإن أقر بها ضمنًا لبعض الشركات التجارية في حالات أخرى.

كما أنه لا تحكيم كذلك إذا افتعلت خصومة صورية بين شخصين ابتغاء الحصول على حكم من المحكم، توصلًا لأمر خارج، عن موضوع الدعوى، كما في دعوى ملكية العقار ملكا مطلقًا، إذا كان المدعى عليه ليس هو واضع اليد، وتواضع الطرفان على الاحتكام إلى المحكم، على أن يصادق المدعى عليه – بغير حق – على وضع يده ليقيم البينة على الملك، فيحكم به الحكم، تمهيدًا لنزع العين من يد صاحبها، فالتحكيم في مثل هذه الحالة غير سائغ ولا مقبول؛ لأن المدعى عليه ليس خصمًا حقيقيًّا في المنازعة، والحكم عليه – في حقيقة الأمر – ليس إلا ضربًا من العبث؛ لأنه لا يلزم في وقاع الأمر بشيء، لانعدام صلته بالمدعى به، وفي اتخاذ التحكيم وسيلة للإضرار بالخصم الحقيقي انحراف به عما شرع من أجله (1) .

(1) الشيخ علي قراعة، الأصول القضائية في المرافعات الشرعية ص 10، ص 13، بند 6، 7، 16؛ والدكتور أحمد أبو الوفا، التحكيم الاختياري والإجباري ص 48، ص 75، ص 76، وقد أشار إلى أن القانونيين – كالفقه الإسلامي – يرون وجوب أن تكون هناك خصومة حتى يكون تحكيم رضائي، كما يرون كذلك ضرورة توافر الصفة للمحتكمين.

ص: 1727

20 – وبجانب اشتراط الخصومة الحقيقية وتوافر الصفة في خصوم دعوى التحكيم، فإنه يجب أن تتوافر للمحتكمين أهلية التعاقد على التحكيم، وهي أهلية التصرف في الحقوق، وليست أهلية الإدارة أو أهلية التبرع (1) ، فإذا كان الراضي بالاحتكام صغيرًا مميزًا مأذونًا له بالتجارة، فإن له أن يقبل في أعمال الإدارة دون أعمال التصرف، فإذا كان من شأن التحكيم أن يمس رأس المال أو يرتب حقًّا عينيًّا على مال الصغير، فإنه لا يحق له أن يقبل، ولابد له من إذن وليه في ذلك (2) فإذا لم يعلن الولي إذنه أو إجازته حتى بلغ الصبي وأصبح عاقلًا، فإنه يجوز له أن يجيز الاتفاق على التحكيم؛ لأنه لما بلغ، ملك الإنشاء، فأولى أن يملك الإجازة (3) .

وإذا كان التصرف الذي يحتكم فيه يعد ضررًا محضًا للصغير، فإنه لا يملك هو ولا وليه الرضا بالتحكيم فيه، وإذا قضى المحتكم إليه بما يضر الصغير فلا يصح حكمه. (4) .

وفي تطبيقات الوكالة، لا يجوز للوكيل أن يتعاقد على التحكيم من غير إذن موكله؛ لأن سلطة الوكيل في الوكالة العامة مقصورة – بحسب الأصل – على الإدارة، ولأن الوكيل – في الوكالة الخاصة – لا صفة له إلا في مباشرة ما وكل فيه، وبالتالي فإنه – حتى يحق له الاتفاق على التحكيم – إيجابًا أو قبولًا يجب أن يكون الموكل قد صرح له بذلك.

(1) الشيخ علي قراعة، الأصول القضائية في المرافعات الشرعية ص 10، ص 13، بند 6، 7، 16؛ والدكتور أحمد أبو الوفا، التحكيم الاختياري والإجباري ص 48، ص 75، ص 76، وقد أشار إلى أن القانونيين – كالفقه الإسلامي – يرون وجوب أن تكون هناك خصومة حتى يكون تحكيم رضائي، كما يرون كذلك ضرورة توافر الصفة للمحتكمين

(2)

ويرى الشيخ علي قراعة أن الصبي المأذون له بالتجارة يصلح للخصومة وحده في كل حق يتعلق بالتجارة سواء أكان مدعيًا أو مدعى عليه بلا حاجة إلى حضور وصيه أو وليه الذي له التصرف في ماله (الأصول القضائية في المرافعات الشرعية – المرجع السابق – ص 48)

(3)

البدائع ج 5 ص 149، 150

(4)

الفتاوى الهندية ج 3 ص 271؛ ابن عابدين ج 5 ص 430؛ مغني المحتاج ج 4 ص 379 ح نهاية المحتاج ج 8 ص 230؛ الموسوعة الفقهية (الكويت) ص 237

ص: 1728

وترتيبًا على ما سبق إيضاحه بشأن رضائية التحكيم، فإن الاتفاق على التحكيم في منازعة معينة لا يتعدى إلى منازعة أخرى، والاتفاق على المنازعات الناشئة عن تنفيذ عقد معين، لا يستطيل إلى المنازعات الناشئة عن تنفيذ عقد آخر، والاتفاق على الاحتكام في تفسير عقد بعينه، لا ينصرف إلى ما ينشأ عن تنفيذ هذا العقد من منازعات؛ ذلك لأنه يجب أن يكون التحكيم مقصورًا على ما انصرفت إرادة المحتكمين إلى عرضه على المحتكم إليه، فإذا طرأت على النزاع الأصلي منازعات أخرى لم يتضمنها الاتفاق على التحكيم بصورة مباشرة أو ضمنية، فإنه لا يجوز للمحكم أن يحكم فيها، إلا إذا صدرت له بشأنها موافقة جديدة من الخصمين، حتى ولو كانت هذه المسائل الأولولية التي يتعين حلها قبل الفصل في النزاع، فالاتفاق على التحكيم بين الورثة في قسمة المال الموروث فمثلًا لا يمنح المحكم الحق في الفصل في نزاع ينشأ بين بعض الورثة المتحاكمين على ملكية بعض هذه الأموال، ولا يعطيه الحق في الحكم باعتبار هذه الأموال من المال الموروث أو عدم اعتبارها كذلك (1) .

ومن ناحية أخرى، فإن الرضا بالتحكيم لا ينتج أثره إلا في مواجهة من رضي به، أما غيره فلا أثر له عليه؛ لأنه لم يرض، ولأن من رضي لا ولاية له عليه، وذلك فإنه – على مذهب الحنفية – لا يحق للحكم أن يحكم على العاقلة بالدية (2) ، وإذا تراضى على التحكيم دائن للمورث مع أحد الورثة، فلا أثر لذلك الرضا على باقي الورثة، ،إذا توفي أحد المحتكمين – قبل الشروع في التحكيم – فلا يلزم التحكيم الورثة إلا برضائهم، أما إذا حدثت الوفاة بعد الحكم، فإنه ينفذ في مواجهة الورثة في حدود تركة من كان قد رضي به، وإذا وجد عيب في المبيع الذي بيع عدة مرات، فتحاكم البائع الأخير والمشتري منه، وحكم المحتكم إليه بالرد، فلا أثر لذلك على البائع الأول الذي لم يرتض التحكيم، وإذا غاب أحد الخصمين، فلا يتعدى الحكم إليه، ولو كان ما يدعي به عليه سببًا لما يدعي به على الحاضر، فإذا تحاكم الكفيل والدائن، فلا أثر لاحتكامها على الأصيل الذي لم يحضر ولم يرض بالتحكيم، وذلك ما لم يشهد العرف بأن الغائب يعد راضيًا بالتحكيم، إذ يجوز في هذه الحالة الحكم عليه، وذلك على نحو ما طبقه فقهاء الأحناف على الشريك الغائب عند احتكام شريكه مع غريمهما؛ فقد قالوا: إن العرف بين التجار جرى على جعل التحكيم من أحد الشركاء كأنه تحكيم من سائرهم (3) .

(1) البحر الرائق ج 7 ص 27 – الدكتور شوكت عليان – السلطة القضائية في الإسلام ص 398

(2)

فتح القدير ج 5 ص 499؛ حاشية ابن عابدين ج 5 ص431 ويرى الشافعية في الراجح من مذهبهم أن الدية لا تجب على العاقلة لعدم حصول الرضا فيها بالتحكيم، يقول الإمام محمد الخطيب الشربيني:(فلا يكفي رضا قاتل بحكمه على ضرب دية على عاقلته، بل لابد من رضا العاقلة؛ لأنهم لا يؤاخذون بإقرار الجاني، فكيف يؤاخذون برضاه)(مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ج 4 ص 379) .

(3)

نفس المصادر

ص: 1729

تلك هي الرضائية، وهذا أثرها في بناء حدود التحكيم ورسم نطاقه، وهي كما هو واضح، سلطة مطلقة اليد فيما سبقت الإشارة إليه، تتحكم في رسم النطاق كما يبدو لها، ما دامت لا تصطدم بقواعد الشريعة الغراء وأحكامها الملزمة، أما إذا اصطدمت بها فالغلبة للشريعة، تلوي عنقها، لتظل إرادة الطرفين على بر الأمان فلا تقترب من حدود الله، ولا تتعداها {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] .

ولعل من أبرز النقاط التي تتدخل فيها الشريعة لتحدد مسار إرادة الطرفين في التحكيم، ما يتصل بموضوع التحكيم، أو أهلية المحتكم إليه (1) ، أو القانون الواجب التطبيق.

21-

فموضوع التحكيم لا يسمح المشرع لإرادة الطرفين أن تصول وتجول فيه على النحو الذي يتراءى لها، فهناك من الموضوعات ما لا يحق للتحكيم أن يلج ميدانها؛ لأنه يجب أن يتولاها القاضي الذي يعينه ولي الأمر، وذلك إما استجابة لطبيعة هذه الموضوعات التي لا ترقى إرادة الطرفين إلى المساس بها، أو لتعلق حق غيرهما بها مما يحول بينهما وبين الانفراد بالنيل منها، أو لأن ولي الأمر رأى أن من الصالح العام أن لا يحكم فيها غير من يرى فيه – هو – الأهلية الخاصة لذلك.

فبإرادة الطرفين – وفق مشيئة المشرع – لا تقوى في الحالات السابقة جميعها على تعيين حكم يفصل في هذه المنازعات؛ لأنها لا تملك ترك الحق فيها، ولا يصح تراضي الأفراد بشأنها، والتحكيم – كما يقول الفقيه المالكي ابن عرفة – هو ما يصح لأحدهما ترك حقه فيه (2) .

(1) آثرنا أن يكون الكلام عن تدخل الشريعة الإسلامية في اختيار المحتكم إليه، مع الكلام عن المحتكم إليه الذي أفردنا له فصلًا خاصًّا.

(2)

التاج والإكليل لمختصر خليل – للمواق – ج 6 ص 112

ص: 1730

وتطبيقًا لذلك، فإن حقوق الله تعالى لا يصح فيها التحكيم سواء أكانت حقوقًا خالصة كالحد في السرقة أو الزنى أو الشرب، أما كانت تجمع بين الحقين، وحق الله غالب كحد القذف؛ وذلك لأن هذه الحقوق ليس لها مطالب معين من الأفراد، ولا مدخل للصلح فيها بينهم، وهي لا تسقط بإسقاطهم ولا تقبل المعاوضة عليها بالمال (1) ومن ثم فإن المتعين لاستيفائها هو الإمام أو نائبه ممن له ولاية عامة، وإذا كان الأفراد محرومين من هذه الولاية، فإنهم لا يملكون تفويض المحتكم إليه فيها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

ومثل حقوق الله في ذلك، حقوق المحتكمين إذا تعلق بها حق لغيرهم، كاللعان فإنه يتعلق به حق الولد في نفي النسب، وهو غير المحتكمين، ولا ولاية للحكم عليه.

وكذلك الحكم إذا حضر ولي الأمر التحكيم في شأن من الشؤون، فإنه لا يصح التحكيم فيه؛ لأن حظر ولي الأمر داخل في سلطته، إذ هو نوع من تنظيم التحكيم،الذي يملكه ما دام لم يحظر نظر المنازعة حظرًا مطلقًا، وإنما حظرها على التحكيم لينظرها القضاء بما يتمتع به من ضمانات أوفى (2) .

هذا ما تمليه القواعد الكلية في تحديد ما يصح أن يكون موضوعًا للتحكيم الرضائي، وهو لا يكاد يختلف كثيرًا عما خلص إليه رأي جمهور العلماء في الفقه الإسلامي: فهؤلاء يمنعون التحكيم في الحدود والقصاص واللعان.

يقول السرخسي من الحنفية: (وليس ينبغي للمحكم أن يقضي في إقامة حد أو تلاعن بين زوجين؛ لأن اصطلاح الخصمين على ذلك غير معتبر، وما يحكم به بمنزلة اصطلاح الخصمين عليه. (3) .

ويقول ابن نجيم (وهو من الحنفية أيضًا) عن القصاص: (وما في الكتاب من منعه هو قول الخصاف وهو الصحيح كما في فتح القدير)(4) .

ويقول الإمام الدردير من المالكية: (وجاز للخصمين تحكيم رجل عدل

لا في حد من الحدود كقصاص أو جلد أو رجم

ولا في لعان

) (5) .

(1) الدكتور سلام مدكور، نظرية الإباحة، نظرية الإباحة عند الأصوليين ص 337

(2)

الدكتور سلام مدكور، نظرية الإباحة عند الأصوليين ص 337

(3)

المبسوط للسرخسي ج 16 ص 111

(4)

البحر الرائق شرح كنز الدقائق ج 7 ص 26

(5)

الشرح الصغير للدردير ج 4 ص 198 / 199

ص: 1731

ويقول ابن قدامة – من الحنابلة – في المغني: (قال القاضي (أبو يعلى) ينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا في أربعة أشياء: النكاح واللعان وحد القذف والقصاص؛ لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها، ونائبه يقوم مقامه) (1) .

وقد لخص الماوردي رأي الشافعية في موضوع التحكيم فقسم آراءهم إلى ثلاثة أقسام قسم يجوز فيه التحكيم وهو حقوق الأموال وعقود المعاوضات وما يصح فيه العفو والإبراء، وقسم لا يجوز فيه التحكيم، وهو ما اختص القضاء بالإجبار عليه من حقوق الله تعالى، والولايات على الأيتام، وإيقاع الحجر على مستحقيه. وقسم مختلف فيه وهي أربعة أحكام هي: النكاح، واللعان، والقذف، والقصاص، وذكر أن في هذه الأحكام الأربعة وجهين، أحدهما: جواز التحكيم لوقوفها على رضا المختصمين، والثاني: عدم جوازه فيها؛ لأنها حقوق وحدود يختص بها الولاة. (2) .

هذا مجمل ما انتهى إليه جمهور العلماء، وقد زاد عليهم المالكية أمورًا لا يجوز عندهم أن تكون موضوعًا للتحكيم، وهي القتل، إذا كان عقوبة للارتداد ولقطع الطريق (وذلك بجانب القتل قصاصًا) والولاء، والنسب والحبس (الوقف) المعقب، والطلاق والعتق، كما زاد بعضهم أيضًا فسخ الزواج، وإثبات الرشد وضده (السفه) وأمر الغائب، أما الحنابلة فقد صرح منهم صاحب كشاف القناع بأن حكم التحكيم ينفذ في كل الأمور من مال أو قصاص أو حد أو زواج أو لعان أو غيرها، ونقل بعضهم عن الإمام أحمد أنه يرى جواز التحكيم في كل ما يجوز للقاضي المولى أن يحكم فيه (3) ، ورجح هذا الرأي بعض علماء الشافعية، ومنهم الشربيني الخطيب إذ قال في مغنى المحتاج:(والصحيح عدم الاختصاص؛ لأن من صح حكمه في مال صح في غيره، كالمولى من جهة الإمام)(4) .

وقد نخلص مما تقدم أن ما رآه الجمهور من منع التحكيم في الحدود جميعها وفي القصاص واللعان قد قام على أسس قوية، وأن ما قاله المالكية من معيار المنع جدير بالتبني لمنطقه العقلي، ولعدم معارضة الكثير من الفقهاء الآخرين له صراحة، وهو يحمل في منع التحكيم في كل ما هو حق لله تعالى، وما استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه من غير المتحاكمين ممن لا ولاية للحكم عليهم، أو ما اقتضى عظم قدره وخطره أن يعهد به إلى القضاء المولى دون غيره (5) .

(1) المغني لابن قدامة ج 10 ص 95

(2)

أدب القاضي للماوردي ج 2 ص 381

(3)

كشاف القناع للبهوتي ج 3 ص 303 ح الكافي في الفقه ج 3 ص 446

(4)

مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ج 4 ص 379

(5)

الشرح الصغير للدردير ج 4 ص 148 وما بعدها؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 4 ص 136؛ المنتقى شرح موطأ مالك للباجي ج 5 ص 229؛ مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب ج 6 ص 113.

ص: 1732

22-

على أنه إذا طرق الحكم والمحتكمون موضوعًا لا يجوز التحكيم فيه، فقضى الحكم فيما ليس من شأنه، فإن حكمه لا ينفذ في رأي الجمهور، بينما يرى المالكية أنه إذا قضى فيما لا يجوز له الحكم فيه، فإن حكمه يمضي إن كان صوابًا، وليس لأحد الخصمين أو الحاكم نقضه، وإن خالف رأيه؛ لأن حكم المحتكم إليه يرفع الخلاف عندهم، وإن كان حكمه خطأ وترتب عليه إتلاف عضو فالدية على عاقلته، وإن ترتب على إتلاف مال كان الضمان عليه في ماله (1)، وفي ذلك يقول ابن فرحون في التبصرة:(وحيث قلنا لا يحكم في هذه المسائل، فلو حكم فيها بغير الجور نفذ حكمه، وينهى عن العود لمثله، ولو أقام ذلك بنفسه فقتل أو اقتص أو ضرب الحد، أدب وزجر، ومضى ما كان صوابًا من حكمه، وصار المحدود بالقذف محدودًا، والتلاعن ماضيًا)(2) .

ولا ريب أن رأي الجمهور في عدم نفاذ الحكم الصادر في موضوع محظور على التحكيم هو الرأي الأولى بالاتباع لقوة سنده، وهو ما اختارته أغلب نظم التحكيم الإسلامية، أما عن معيار المنع، فقد اختار كثير منها في أنظمتها الحديثة أن يجعل هذا المعيار هو: أن يكون الموضوع من المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، ومن ذلك نظام التحكيم الكويتي (المادة 173 / 3 من قانون المرافعات الكويتي) ونظام التحكيم السعودي (المادة الثانية) ، وقد مثلت المادة الأولى من اللائحة التنفيذية لهذا النظام الأخير لما لا يجوز فيه الصلح بالحدود واللعان بين الزوجين وكل ما هو متعلق بالنظام العام.

وهناك بلاد إسلامية أخرى آثرت أن تعدد صراحة ما هو محظور على التحكيم من موضوعات ومن ذلك ما جنحت إليه بعض نظم التحكيم في دول المغرب العربي، مثل تونس والمغرب والجزائر (3) .

(1) مغنى المحتاج ج 4 ص 379؛ أدب القضاء لابن أبي الدم ج 1 ص 428 ح الفتاوى الكبرى لابن حجر ج 4 ص 290؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 4 ص 136.

(2)

التبصرة ج 1 ص 44.

(3)

راجع المادة (260) من مجلة الأحكام المدنية والتجارية (التونسية) عدد 130 لسنة 1959 في 5 / 10 / 1959، والمادة (308) من قانون المسطرة المدنية (المغربي 9 ظهير شريف بمثابة قانون – م 447 – 74 – 1 بتاريخ 18 / 9 / 1974، والمادة (442) من قانون الإجراءات المدنية (الجزائري) رقم 66 – 154 في 8 يونيو سنة 1966

ص: 1733

23 – أما فيما يتعلق بتدخل الشريعة في تحديد القانون الواجب التطبيق على التحكيم فمرجعه إلى أن الرضاء لا أثر له في ذلك – بحسب الأصل – فالقانون هنا هو شرع الله، رضي المتحاكمان أم لم يرضيا، طلبا ذلك أم لم يطلباه، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية:(فإذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما، فصل بينهما كما أمر الله ورسوله، وألزم المحكوم عليه بما حكم به، وليس له أن يقول: أنت حكمت علي بالقول الذي لا أختاره)(1) .

وليس في ذلك مجال للخلاف بين العلماء، فقد وردت بحكمه آيات كثيرة من كتاب الله الكريم منها قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) } [النساء: 60 – 61]، وقوله سبحانه:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26] .

غير أنه، ومع ذلك، وفي نطاق أحكام الشريعة الإسلامية – أيضًا – فإنه يجوز للمحتكمين أن يشترطا على الحكم أن يحكم بينهما على مقتضى مذهب معين، وذلك بشرط أن لا يكون المحتكم إليه – في ذاته – مجتهدًا اجتهادًا مطلقًا إذ لو كان كذلك، فإنه لا يجوز إلزامه بأن يحكم على خلاف ما يراه، أما إذا كان مجتهدًا في نطاق مذهب المالكية واشتراطا عليه ألا يخرج عن مذهب المالكية فإنه يجب عليه أن يتقيد بهذا الشرط فإن خرج لم يلزم حكمه، هذا وقد غلب على الزمن المتأخر الإلزام بمذهب معين – حتى للقاضي المولى – وذلك علاجًا لكثرة الخلاف وفساد الزمان، فضلًا عما فيه من توحيد الأحكام (2) .

ولا يقتصر وجوب الاحتكام لشرع الله على الالتزام بالقواعد الموضوعية، بل إنه يتناول – كذلك – قواعد الإثبات التي يفرضها الفقه الإسلامي من بينة، وإقرار، ونكول عند حلف اليمين، فالخروج على هذا أو ذاك، يضم حكم المحكم بالبطلان، كما يضم حكم القاضي المولى بذلك إن هو خرج عليه (3) .

(1) الفتاوى لابن تيمية ج 35 ص 360

(2)

البحر الرائق ج 7 ص 27، التبصرة لابن فرحون ج 1 ص 22 وما بعدها، وفي تفصيل ذلك الدكتور محمد نعيم ياسين، حجية الحكم القضائي بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية ص 66 وما بعدها، والمراجع المشار إليها فيه.

(3)

الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، الجزء العاشر ص 243 والمراجع المشار إليها فيه.

ص: 1734

24-

فإذا تم الاتفاق على التحكيم اتفاقا واضحًا حدد نطاقه وأوضح شروطه، بما يتفق مع شريعة الله ، ولا يخرج عليها، فإنه يرتب آثاره المنشودة، التي تتركز في أثرين رئيسيين، أحدهما سلبي والآخر إيجابي.

25-

فأما الأثر السلبي فيتمثل في تنازل الخصمين عن الالتجاء إلى القضاء العادي للفصل في المنازعة وذلك هو مقتضى اتفاقهما على حل منازعتهما عن طريق التحكيم، ولكن هل يشترط لتحقق هذا الأثر أن يكون تنفيذ التحكيم ممكنًا؟ على نحو ما هو مطبق فعلًا في أغلب نظم التحكيم دون نص، كما إذا توفي المحتكم إليه أو زالت صفته قبل إتمام مهمته، ولم يتفق الخصوم على غيره ، ولا يسمح النظام للقضاء بأن يعين حكمًا بالنيابة عن الخصوم (1) .

الواقع أن هذا الشرط جدير بالتطبيق في النظام الإسلامي لأنه نابع من طبيعة نظام التحكيم ذاته، فالخصوم إنما منعوا أنفسهم عن القضاء رغبة في سلوك طريق آخر، فإذا انغلق باب هذا الطريق رجعت الأمور إلى نصابها، وعاد للقضاء حقه في الفصل في المنازعة، بصفته صاحب الولاية العامة والأصلية في هذا الشأن.

26 – ومن ناحية أخرى فإن الاتفاق على التحكيم نفسه اتفاق غير لازم؛ لأنه يرتبط بإرادة الطرفين التي قام عليها، وهي معتبرة في لزومه كما هي معتبرة في أصله، ومن ثم فإن الإرادة التي أنشأته تملك – بصفة عامة – أن تعدل عنه.

وليس في تطبيق هذه القاعدة خلاف يذكر بين الفقهاء في حالة رجوع الطرفين عن التحكيم قبل الشروع فيه؛ لأن المحتكم إليه مقلد من قبلهما، فأشبه الوكيل الذي يجوز للموكل أن يرجع عن توكيله، ما دام لم يشرع في مباشرة التصرف الموكول إليه.

أما إذا كان الرجوع منها بعد صدور الحكم، فإن الجمهور لا يعتد به، إذ الحكم قد صدر من المحكم عن ولاية شرعية كاملة، فأشبه الصلح الذي لا يجوز الرجوع فيه بعد تمامه، كما أشبه حكم القاضي الذي لا يتأثر بمجرد عزله بعد إصداره.

فإذا كان الحكم قد شرع في التحكيم، ولما يصدر حكمه بعد، فقد قال المالكية وفريق من الحنابلة: لا يجوز للمتحاكمين الرجوع في التحكيم؛ لأن الرضا لا يشترط دوامه حتى الحكم، فإذا أقاما البينة عند الحكم، ثم بدا لهما الرجوع عن التحكيم فلا يقبل منهما ذلك وإلا بطل المقصود من التحكيم.

(1) الدكتور أحمد أبو الوفا، التحكيم الاختياري والإجباري ص 129 مرجع سابق، وأحكام النقض المصرية المشار إليها فيه

ص: 1735

وقالت الشافعية - فيما صح من مذهبهم – وبعض الحنفية والحنابلة: يجوز الرجوع ولو بعد إقامة البينة، ذلك أن الرضا هو المثبت للولاية، فإذا زال زالت الولاية، كالقاضي إذا عزله الوالي، امتنع عليه الحكم لعدم الولاية.

هذا كله عن رجوع الخصمين، كليهما عن التحكيم، أما رجوع أحدهما وحده مع بقاء الثاني على الاحتكام للحكم الذي اختاره من قبل، فيرى فريق من العلماء، منهم العلامة ابن الماجشون من المالكية، أنه لا يجوز؛ لأن التحكيم من باب الولاية، وهي تختص بالحكم على الخصمين بخلاف ما يرضيانه، هذا إلى جانب ما قاله بعض المالكية من أن الخصم أوجب لخصمه – في قبوله التحكيم – حقًّا في الفصل في المنازعة عن هذا الطريق، وبالتالي لا يجوز له الرجوع إلا برضا هذا الخصم (1)

27-

ذلك عن الأثر السلبي للاتفاق على التحكيم أما الأثر الإيجابي فيتمثل في فض الخصومة على يد المحكم الذي اختاره الطرفان، وفي النطاق الذي اتفقا عليه، وفي حدود ما أوجبته الشريعة الإسلامية من قواعد موضوعية وإجرائية، فإذا ما انحرف التحكيم عن هذا الاتجاه، بعناصره السابقة، فإن القضاء يكون له بالمرصاد، إذا ما ترافع إليه أي من الطرفين للنقض أو التنفيذ.

أما إذا التزم التحكيم جادة الطريق، فإنه لا ينقض حتى يؤتي ثمرته وهي الحكم الفاصل في الخصومة، وذلك ما لم تنقض المدة المحددة دون حكم، أو يتفق الخصوم على العدول عنه في الحالات التي يجوز فيها ذلك، أو يعزل المحتكم إليه نفسه، بإعلان رغبته في عدم المضي في التحكيم، أو يفقد أهلية.

(1) حاشية الرهوني علي الزرقاني ج 7 ص 301؛ والبحر الرائق ج 7 ص 26؛ وفتح القدير ج 5 ص 500 ومما قاله المالكية: (قال ابن القاسم في المجموعة: إذا حكماه وأقاما البينة عنده ثم بدا لأحدهما، قبل أن يحكم، قال: أرى أن يقضى بينهما، ويجوز حكمه. قال مطرف: له النزوع قبل نظر الحاكم بينهما في شيء، فأما بعد أن ينشبا في الخصومة عنده، ونظره في شيء من أمرهما، فلا نزوع لواحد منهما ويلزمهما التمادي. وقال ابن الماجشون: ليس لأحدهما أن يبدو له، كان ذلك قبل أن يفاتحه صاحبه أو بعد ما ناشبه الخصومة، وحكمه لازم. وقال سحنون في المجموعة وكتاب ابنه: لكل واحد فيهما أن يرجع في ذلك ما لم يمض الحكم فيه، فإذا أمضاه بينهما فليس لأحدهما أن يرجع فيه)(المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، الجزء الخامس ص 227) . ومما قاله الحنابلة: ولكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم؛ لأنه لا يلزم حكمه إلا برضا الخصمين، أشبه رجوع الموكل عن التوكيل قبل التصرف فيما وكل فيه، ولا يصح رجوع أحدهما بعد الشروع في الحكم وقبل تمامه، كرجوع الموكل بعد صدور ما وكل فيه من وكيله (كشاف القناع عن متن الإقناع، ج 6 ص 309) ومما قال الشافعية: (وإن رجع أحدهما قبل الحكم ولو بعد استيفاء شروط البينة، امتنع الحكم لعدم استمرار الرضا)(نهاية المحتاج شرح المنهاج الجزء الثامن ص 243)

ص: 1736

الفصل الثالث

المحتكم إليه

28-

تعتبر شخصية المحتكم إليه عنصرًا رئيسيًّا في التحكيم، فقد قبل المحتكمون حكمه من قبل أن يصدره، ثقة منهم في حسن تقديره وعدالته، ولذلك فإنه يجب أن يكون اختياره بإرادتهما، أو على الأقل بناء على هذه الإرادة، وأن يقبل هو أداء المهمة الموكولة إليه، إذ لا يملك المحتكمون ولاية إجباره على القيام بما عهدوا إليه به، وأن يكون – هو – أهلًا لذلك، حتى يمكن أن يكون لحكمه من الاحترام ما يسمح للقضاء بأن يقره ولا ينقضه، أن ينفذه ولا يهدره، في الحالات التي تسهم فيها سلطة الدولة في تنفيذ حكم صدر عن شخص لم تختره، وليست له ولاية عامة تساند ما قضى به.

وإذا كانت نقاط البحث التي تدور حول المحتكم إليه من أهميتها، تلتقي في كثير من عناصرها ما أفاض فيه علماؤنا الأفاضل بشأن القاضي المولى، فإنه قد يحسن الاقتصار – في هذا البحث – علي أهم ما يتميز به المحتكم إليه، وعلى الأخص ما يترتب على تغلغل الرضائية في توليته، وانعكاس ذلك على أهليته وعلى سلطته من ناحية، ومدى تدخل الشريعة الإسلامية – من ناحية أخرى – لتصحيح مسار الإرادة في هذا الشأن.

29 – ومن أبرز الآثار المترتبة على الرضائية والمتصلة بشخصية المحتكم إليه، أنه يجب أن يكون معينًا، إذ إن المتحكمين – كما سبق القول – إنما يحتكمان إلى من يثقان في تقديره وعدالته، ومن ثم فلو كان مجهولًا فإنه لا يتصور تحقق هذه الثقة، كما إذا اتفقا على شخص معين، ثم تبين أنه غير الذي قصداه.

وإذا كان الأصل أن يكون تعيين المحتكم إليه بالاسم، فإن تحديده بالصفة لا يحول دون صحة التحكيم، طالما أنه يكشف عن اختيار المحتكمين لشخص محدد لا تنطبق أوصافه على غيره، كما لو اختارا إمام المسجد أو مفتي المدينة، وكان الإمام أو المفتي واحدًا، بل إنه يجوز لهما أن يختارا قاضي البلدة حَكَمًا، وفي هذه الحالة يستمد ولايته منهما، لا من الإمام، فلو عزله الإمام عن القضاء لا يؤثر ذلك على سلطته في التحكيم (1)

(1) تبيين الحقائق للزيلعي ج 4 ص 194

ص: 1737

وليس للاتفاق على الشخص المحتكم إليه شكل معين، فيجوز أن يكون بالكتابة أو غيرها، وينطبق على ذلك القواعد التي سبق إيرادها بشأن الاتفاق على التحكيم ذاته، فإذا ترافع الطرفان – مثلًا – لمحتكم معين فإن ذلك يعد تعيينًا له، كما إذا ارتضيا التحكيم، واختارا أحدهما محكمًا، فترافع أمامه الثاني دون تحفظ، أو اتفقا على اثنين، ليفصل أحدهما في المنازعة ولم يحدداه في الاتفاق، وترافعا لأحدهما فعلًا.

فإذا لم يتفق الطرفان على شخصية الحكم، مع اتفاقهما على التحكيم، فإنه يجوز لأي منهما أن يرفع الأمر إلى القاضي ليختار شخصية المحتكم إليه، إذ ذلك لا يعدو أن يكون منازعة من المنازعات التي يختص بها القاضي بحكم ولايته العامة، وهو يملك وضعه الحل المناسب لها ما بقى الطرفان مصرين على التحكيم، وذلك بتعيين الحكم الذي يتفق مع إرادتهما المشتركة، وفق ما يكشف عنه اتفاقهما صراحة أو ضمنًا وطالما أن هذا الاتفاق لا يدل على أن الطرفين لم يجعلا من تحديد شخصية المحتكم إليه بأنفسهما شرطًا لصحة التحكيم.

ولا يقال: إن تدخل القضاء في هذه الحالة ينزع عن التحكيم طابعه الرضائي ويتعارض مع الفكرة الأساسية في نظام التحكيم ذاته، وهي تحقيق ثقة الخصوم في المحكمين (1) ، بفرض شخصية المحتكم إليه فرضًا من القضاء، لا يقل تعقيبًا؛ ذلك لأن في استطاعة المحتكمين – إذا لم يريدا ذلك – أن يجعلا من تعيين المحكمين في شرط التحكيم أو في مشارطته، شرطًا لصحته بحيث يبطل إذا انتقى هذا الشرط، أما وقد سكتا، وظلا على رغبتهما في التحكيم، فإنه لا مفر من تدخل القضاء إذا ترافع إليه أحدهما، فذلك واجبه، وتلك وظيفته (2) ، وهو هنا يسعى إلى تدعيم التحكيم برفع عقبه، وأثبت العمل أنها تؤدي إلى فشله في أحيان كثيرة، وليس في عمله اعتداء على إرادة الطرفين أو كليهما، إلا بالقدر الذي يعتبر وفاء بالتحكيم الذي تعاقدا عليه، لا سيما إذا كان النظام الذي يستظلان به ينص على حق القضاء في ذلك، كما يفعل نظام التحكيم السعودي حين ينص في المادة العاشرة منه على أنه: (إذا لم يعين الخصوم المحكمين أو امتنع أحد الطرفين عن تعيين المحكم أو المحكمين الذين ينفردون باختيارهم أو امتنع واحد أو أكثر من المحكمين عن العمل، أو اعتزله أو قام به مانع من مباشرة التحكيم أو عزل عنه، ولم يكن من بين الخصوم شرط خاص، عينت الجهة المختصة أصلًا بنظر النزاع من يلزم من المحكمين، وذلك بناء على طلب من يهمه التعجيل من الخصوم

) .

(1) يرى بعض الشافعية أن تعيين القاضي للحكم يدخل في باب الإنابة ولا يأخذ حكم المحتكم إليه المختار مباشرة من الطرفين (روضة الطالبين ج 11 ص 121)

(2)

الدكتور محمود محمد هاشم، النظرية العامة للتحكيم في المواد المدنية والتجارية، مرجع سابق ص 171 – 172، والدكتورة آمال أحمد العزايري، دور قضاء الدولة في تحقيق فاعلية التحكيم،، منشأة المعارف سنة 1993 ص 218 وما بعدها

ص: 1738

30-

ولا بأس من تعدد الحكام، استرشادًا بما نص عليه الكتاب الكريم في شأن النزاع بين الزوجين أو صيد الحرم، غير أنه لا يشترط في هذه الحالة ما تشترطه أغلب النظم الوضعية من أن يكون العدد وترًا، فيجوز أن يكون شفعًا، كأن يختار كل من الخصمين حكمًا أو اثنين أو أربعة، أو يختار كل منهما واحدًا، ويعين المختاران ثالثًا (وهو ما يطلق عليه اسم: الحكم المرجح في النظم الوضعية) ، على أنه في حالة التعدد، فإنه يجب أن يكون الحكم صادرًا بالإجماع؛ لأن المحتكمين إنما رضوا بحكم المحكمين لا بحكم واحد منهم أو بعضهم، وذلك ما لم يأذنوا للحكام بأن يقضوا بالأغلبية، أو كان النظام الذي يحتكمون في ظله يجيز ذلك، وفي هذه الحالة يتطلب النظام عادة أن يكون العدد وترًا حتى يتسنى صدور الحكم دون حاجة إلى وجود حكم مرجح. (1) .

31-

على أن الحكم، فردًا كان أو متعددًا، لا يجبر على قبول التحكيم، إذ لا يملك الأفراد إجباره عليه، وإنما مصدر التزامه به هو التقاء إرادته مع إرادة الطرفين المتخاصمين، بكل ما حوته هذه الإرادة الأخيرة من تفصيلات تتصل بموضوع التحكيم أو زمانه أو مكانه، أو ما قد يكون عليه من قيود أخرى لا تتعارض مع القواعد الواجبة التطبيق في الشريعة الإسلامية.

وإذا كان التحكيم عقدًا غير لازم بالنسبة لطرفيه، في الحدود التي سبق إيضاحها فإنه – أيضًا – غير لازم بالنسبة للمحتكم إليه، فيستطيع أن يعزل نفسه عنه في أي وقت، طالما لم يصدر حكمه بعد، ولا يستطيع المحتكم – بحسب الأصل – أن يحول بينه وبين ذلك بدعوى أن له حقًّا مكتسبًا تولد بقبوله التحكيم؛ وذلك لأن انعزال الحكم – كقاعدة عامة – لا يضر بالمحتكم، إذ هو يرده إلى الطريق العادي لفض الخصومات، وهو طريق القضاء، وذلك إذا لم يتراض الخصمان على حكم آخر، غير أن الانعزال – مع ذلك – لا يؤتي ثماره إلا بعلم المحتكم، مثله في ذلك مثل عزل الوكيل نفسه، فإنه لا ينعزل حتى يعلم الموكل بالعزل.

(1) ينص عجز المادة الرابعة من نظام التحكيم السعودي على أنه: (إذا تعدد المحكمون وجب أن يكون عددهم وترًا)، كما تنص المادة 16 منه على أن:(يصدر حكم المحكمين بأغلبية الآراء، وإذا كانوا مفوضين بالصلح وجب صدور الحكم بالإجماع) .

ص: 1739

ولا يعد تراخي الحكم في أداء المهمة المعهود بها إليه عزلًا لنفسه، بعد قبوله، ما دام في حدود المهلة المحددة له، إذا كانت هناك مدة لذلك يحددها الاتفاق أو العرف أو النظام الذي يستظل به التحكيم، ولا يعد مجرد سفر المحتكم إليه، أو حبسه أو غيابه عن البلدة، عدولًا ضمنيًّا، عن قبوله التحكيم فإذا عاد من سفره أو خرج من حبسه أو آب من غيبته، فإنه يكون على حكومته

ولا يجوز للمحتكم إليه، يستخلف غيره في نظر النزاع؛ لأن رضاء المحتكمين إنما انصب عليه دون غيره، فإذا استخلف – على خلاف ذلك – وحكم الحكم المستخلف، لا ينفذ حكمه إلا إذا أجازه الطرفان؛ لأن الإجازة بمنزلة الإنشاء، فتصح حكومة المستخلف، ما لم يعتورها عيب آخر، كأن يكون غريمًا للصبي الذي احتكم وليه، فإن حكمه لا ينفذ في هذه الحالة حفاظًا على مصلحة الصغير.

32-

وإذا كان من المقرر في الفقه الإسلامي أن الأصل العام أنه يشترط في المحتكم إليه ما يشترط في القاضي المولى (1) إلا أن اختيار المحتكم إليه بإرادة الطرفين، وبناء على ثقتهما فيه، وذلك ليحكم في أمور حدداها سلفًا، ولا يكون لحكمه أثر يتعدى إلى غيرهما، كل ذلك من شأنه أن يترك بصماته على الشروط التي يجب توافرها في المحتكم إليه، فيخفف من بعضها، إعلاء لعوامل الثقة على عوامل الكفاءة، فيجبر رضاء الطرفين عن المحتكم إليه بعض ما قد يلحقه من نقص، وتصبح حكومته مع ما يعتورها من مثالب لو تحققت في القاضي المولى لم يصح معها قضاؤه.

هذا إلى جانب أن بعض الفقهاء الإسلاميين – بالقياس إلى ما يراه غيرهم – يترخصون في شروط القاضي، وبالتالي فإنهم من باب أولى –يترخصون في شروط المحتكم إليه؛ لأنه أدنى منه درجة، وقد حاز رضا الطرفين وثقتهم كما أن بعضًا من هؤلاء الأفاضل يغلبون جانب المصلحة على جانب الشكل في بعض الحالات، فيرون إمضاء حكم المحتكم إليه، الذي يفتقد بعض الشروط، ما دام قد حكم فعلًا، استجابة لرضا الطرفين به، وهو غير صالح – في الأصل – للحكومة.

(1) يقول في روضة الطالب – مثلًا -: (فإذا جوزنا التحكيم اشترط في المحكم صفات القاضي) ج 11 ص 122.

ص: 1740

ولا ريب أن ما سبقت الإشارة إليه لا يتناول إلا بعضًا من شروط المحتكم إليه؛ ذلك لأن هناك من الشروط ما لا يقبل الخلاف، وذلك كشرط الإسلام في الحكومة بين المسلمين، فلم يقل أحد يعتد برأيه بأنه يجوز تحكيم غير المسلم في المنازعات بين المسلمين، أما ما عدا ذلك من الشروط فإن معظمها قد اختلف فيه العلماء، بما يبسط أمام الطرفين مجال التطبيق، ويمنح ولي الأمر سعة في اختيار الرأي الذي يستلزمه المصلحة، ما دام قد ارتاح إلى دليله، وذلك إذا تبنى ما تطبقه أغلب البلاد الإسلامية - حاليًا – من عدم الالتزام – التزامًا مطلقًا – بمذهب معين من مذاهب الفقه الإسلامي.

وعلى هدي ما تقدم، فإنه يمكن – على الرأي السائد في الفقه الحنفي – أن يرتضي الطرفان تحكيم الفاسق أو الجاهل أو تحكيم المرأة؛ لأن كلًّا من هؤلاء تجوز توليته القضاء، فيصبح – من باب أولى – أن يكون حكمًا، فإذا حاز الفاسق ثقة المتحاكمين، وهما يعلمان سبب فسقه، فإن حكومته صحيحة؛ لأنه أهل للشهادة من ناحية، ولأن العدالة شرط كمال، وليست شرط تولية (1) ، مثلها في ذلك مثل العلم بفقه المسألة، فالجاهل إذا تولى التحكيم واسترشد بالعلماء صحت حكومته.

وإذا احتكم المحتكمان إلى امرأة فيما تجوز شهادتها فيه كغير الحدود والقصاص، وحكمت، نفذ حكمها؛ لأن قضاءها في ذلك ينفذ، مع خلاف في جواز توليتها – في الأصل – أو عدم جواز ذلك (2)

ومن زاوية أخرى فإنه على الرأي السائد في مذهب المالكية، فإنه لا يشترط لصحة تولية المحتكم أن يكون سليم الحواس، فتصح حكومة الأعمى، والأخرس، والأصم وينفذ قضاؤه (3) .

(1) تنص المادة 11 من نظام التحكيم السعودي في عجزها على أنه لا يجوز رد المحكم إلا لأسباب تحدث أو تظهر بعد إيداع وثيقة التحكيم، ومعنى ذلك أنه لا يصلح سببًا للرد، الأسباب التي تكون قد حدثت وظهرت لذوي الشأن قبل إيداع وثيقة التحكيم. (في تفصيل ذلك: بحث الأستاذ عبد العزيز المحيمد، المقدم إلى مجمع تحكيم الشرق الأوسط والبحر المتوسط، عن تطوير التحكيم في المملكة العربية السعودية، في الندوة المقدمة في القاهرة في الفترة من 7 – 12 يناير سنة 1989، والمنشور ضمن أبحاث هذه الندوة)

(2)

في تحكيم الفاسق والجاهل والمرأة في المذهب الحنفي، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج 5 ص 440؛ فتح القدير لكمال بن الهمام ج 7 ص 224 وما بعدها؛ بدائع الصنائع ج 7 ص 3، وقد تولى الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان شرح ذلك باستفاضة في كتابه القضاء في الفقه الإسلامي ص 46 وما بعدها، وقد استدل فضيلته بأدلة قوية على ما رآه من أن الحنفية لا يجيزون تولية المرأة القضاء، فإذا وليت، مع إثم من ولاها، فحكمت في الأمور التي تصح فيها شهادتها، وهي ما عدا الحدود والدماء، فإنه ينفذ حكمها إذا وافق كتاب الله وسنة رسوله، ص 46 وما بعدها.

(3)

الشرح الصغير للدردير ج 4 ص 191؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 4. ص 130؛ المنتقى للباجي ج 5 ص 228

ص: 1741

ويرى المالكية – كذلك – أنه لو حكم أحد الخصمين خصمه فحكم لنفسه أو عليها مضى حكمه، ما لم يكن جورًا، وذلك على خلاف الحكم بالنسبة للقاضي المولى الذي يقوم التحاكم إليه على نوع من الإجبار، فلا تزول التهمة، وبالتالي لا يصح حكمه لنفسه (1) .

ففي الحالات السابقة وأمثالها يسوغ احترام إرادة المتحاكمين؛ لأنها لا تصطدم بالنص ولا بالعقل، في رأي من سمح بهذا من الفقهاء، أما حين تصطدم بالنص كافتقاد المحتكم إليه شرط الإسلام في حكومة من المسلمين فإنه لا يصح تحكيمه لمخالفة هذا لقوله تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وكذلك حين تصطدم بالعقل، كما إذا حكما مجنونًا أو صبيًا غير مميز؛ لأن كلا منهما لا ولاية له على نفسه، حتى تكون له ولاية على غيره، فتحكيمهما نوع من العبث لعدم استطاعتهما فهم خطاب الشارع الذي يتعين عليهما تطبيقه على المنازعة المعروضة.

33 – ذلك هو جانب من أثر الرضائية على شروط المتحكم إليه، أما أثره على سلطته، فإنه وإن كان من المسلم به أن رضاء الطرفين بالتحكيم وبالمحتكم إليه هو مصدر سلطة هذا الأخير، بصفة رئيسية، إلا أنه كما سبق القول، ليس هو مصدرها وحده، فالشرع هو الذي سمح لهذه الإرادة بأعمال أثرها، بما جاء فيه من أدلة على مشروعية التحكيم، وهو في الوقت نفسه الذي حدد أثر هذه الإرادة، فلم يسمح لها أن تستطيل إلى تحديد حكم الله، أو تتعدى في تطبيقه على الواقعة المعروضة، وفي ذلك ينبه القرآن الكريم من يحكم في منازعات الناس بقوله سبحانه:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة 49 – 50] .

(1) التبصرة لابن فرحون ج 1 ص 44؛ الدسوقي على الشرح الكبير ج 4 ص 135

ص: 1742

فالمحتكم إليه يبحث عن حكم الله دون النظر إلى صالح الطرفين ولا إرادتهما،؛ لأن عمله في هذا الشأن هو عمل القاضي، فكما أن القاضي لا يتقيد في حكمه برأي من ولاه فكذلك المحتكم إليه لا يسعى إلى إرضاء الطرفين بتتبع إرادتهما والحكم على مقتضاها، والقول بغير هذا، ينأى بالتحكيم عن غرضه، وهو الحكم بما أنزل الله، ويجعله وسيلة لاتباع الهوى غير جدير بالاعتبار ويجرده مما اقتضى أن تتدخل الدولة، فتلزم المحكوم عليه بالتنفيذ جبرًا، كما تلزم المحكوم عليه بقضاء القاضي وفي الحدود التي يحق فيها ذلك.

ولا يطعن على ذلك بأن إرادة الطرفين هي أساس التحكيم وأساس ولاية المحتكم إليه، فقد فسر ذلك الحنفية بما قالوه من أن تحكيم الحكم في الخصومة يشبه الوكالة من وجه، ويشبه حكم القاضي من وجه آخر، في المرحلة السابقة على إصدار الحكم، يكون المحتكم إليه في موقف الوكيل، فهو لا ينظر إلا النزاع الذي قبل المحتكمان نظره، وفي النطاق الذي حدداه، ولهما حق عزله، كما أن الوكيل لا يباشر من العمل إلا ما وكله فيه الموكل، وفي حدود ما وكله، وطالما لم يعزله قبل مباشرة العمل الموكول إليه.

فإذا تجاوز المحتكم إليه هذه المرحلة إلى مرحلة إصدار الحكم، اختلف وضعه، فلم يصبح في موقف الوكيل، وإلا ما جاز له أن يحكم بحكم ملزم للطرفين؛ لأن التوكيل لا يجوز إلا فيما يملكه الموكل، والخصم لا يملك إلزام خصمه بما يراه فيما يتنازعان فيه، فكذلك لا يملك تفويض غيره في ذلك وإنما موقف المتحكم إليه في هذه المرحلة هو موقف القاضي الذي ينزل حكم الله على الواقعة، ولا يكاد يختلف عنه إلا في الحدود التي يحق للطرفين تفويض المحتكم إليه فيها بشأن من الشؤون التي يملكان التنازل عنه، كتفويضه في الصلح فيما يجوز فيه، إذ مقتضى ذلك أنه يجوز للمحتكم إليه أن يلزم كلًّا من الخصمين بالتنازل عن بعض حقه، تنسيقًا لحقوقهما والتزاماتهما المتقابلة التي فوضاه في الصلح بشأنها (1)

(1) في الفرق بين التحكيم بالصلح والتحكيم بالقانون: الدكتور أحمد أبو الوفا، التحكيم بالقضاء وبالصلح، منشأة المعارف سنة: 1965 ص 162 وما بعدها

ص: 1743

الفصل الرابع

حكم التحكيم

34 – حكم التحكيم هو النتيجة المستهدفة من نظامه وفق المجريات العادية للأمور، فإذا اتفق الخصمان على التحكيم، وارتضيا محكمًا تتوافر فيه الأهلية المطلوبة، وكانت منازعتهما من الموضوعات التي يجوز فيها التحكيم، وأنزل عليه الحكم شرع الله، فقد أشرف التحكيم على غايته، بل وانقضى بصدور الحكم الذي كانت تلك الإجراءات من أجله، فانتهت بذلك مهمة الحكم وأصبح كآحاد الناس لا ولاية له على الموضوع، وبالتالي فلا يملك الرجوع عما قضى به، بإلغائه أو بحكم للخصم الآخر؛ لأن الحكومة قد تمت بالقضاء الأول، فكان قضاؤه الثاني باطلًا (1)

على أن انقضاء التحكيم بصدور الحكم، لا يمنع ولي الأمر – في تنظيمه للتحكيم – أن يمنح المحتكم إليه حق تصحيح ما وقع في حكمه من أخطاء مادية بحتة، كتابية أو حسابية، أو يقر له بسلطة إصدار تفسير لما وقع في منطوق حكمه من غموض أو إبهام، وذلك على نحو ما انتهجه نظام التحكيم السعودي الجديد ونص عليه في المادتين 42،43 من اللائحة التنفيذية.

وما دام التحكيم قد اتخذ وسيلة لإنهاء النزاع الذي عجز الطرفان عن حسمه رضاء بأنفسهما، فإن صدور الحكم يستتبع التزام الطرفين به، وإلا ففيم كانت هذه المعاناة؟ وقد كان في وسع الطرفين لو أرادا معرفة حكم الله دون التزام بالتنفيذ، أن يلجأ إلى طريق الفتوى، فالمستفتي إذا لم يعمل بما أفتي به، وسعه أن يستفتي مفتيًا آخر ويعمل بما يفتيه (2) .

(1) الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ج 10 ص 244 والمراجع المشار إليها فيها

(2)

فتوى المرحوم الشيخ محمد حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق المنشورة في المجلد السادس من الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية ص 1997 والمرجع المشار إليه فيها.

ص: 1744

وعلى ذلك استقر جمهور الفقهاء (1) ، فقالوا بلزوم حكم التحكيم دون حاجة إلى رضاء جديد ممن حكم عليه، وذلك استنادًا إلى أن الحكم صدر عن ولاية شرعية، ولم يخرج عن نطاقها، ومن ثم فقد تعين الالتزام به؛ لأن من جاز حكمه لزم حكمه كالقاضي المولى (2) ؛ ولأن المحتكم إليه كالوكيل، إذا تضرر في حدود وكالته، فإن تصرفه يلزم الموكل دون حاجة إلى رضاء جديد منه، هذا إلى جانب أن القول بغير هذا، يفرغ التحكيم من مضمونه، ويؤدي إلى فوات الحكمة من مشروعيته، فلن يكون وسيلة لسرعة الحسم، وإنما طريقًا إلى المماطلة بالحق، وإطالة أمد الخصومات دون مبرر، إذ سيكون على الطرفين – بعد أن حسم التحكيم نزاعهما – أن يترافعا إلى القاضي المولى – ويطرحا عليه منازعتهما ويتجادلا أمامه فيها، وكأن شيئًا لم يكن، وهذا بالإضافة إلى أن عدم الالتزام بحكم التحكيم لم يكن طريق السلف، فقد روى الشعبي أن امرأة نشزت على زوجها، فاختصما إلى شريح، فقال: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فنظر الحكمان في أمرهما، فرأيا أن يفرقا بينهما، فكره الرجل ذلك، فقال شريح: ففيم كان اليوم وأقر رأي الحكمين بالتفريق دون أن يجعل لعدم رضا الزوج أثرًا على لزوم حكم المحكمين (3)

35-

فحكم التحكيم – إذن – ملزم وفقًا لرأي الجمهور – المدعم بأسانيدهم العقلية القوية، فإذا قبل المحكوم عليه تنفيذه باختياره فقد أوفى بعهده ونفذ عقده، امتثالًا لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وإن لم يقبل تنفيذ ما قضى به عليه، فلا وسيلة لإجباره غير الالتجاء إلى القضاء؛ ذلك لأن المحتكم إليه لا يملك الأمر بالتنفيذ لخروجه عن نطاق التحكيم، ولأن الإجبار على التنفيذ لابد وأن يستند إلى ولاية عامة، وذلك ما يفتقده المحتكم إليه.

واختصاص القاضي المولى بمنازعة حكم التحكيم نابع من اختصاص بجميع المنازعات دون استثناء، ما دام ولي الأمر لم يخصصه بزمان أو مكان أو بحادثة محددة، فإن خصصه وأدى هذا التخصيص إلى خروج منازعة التنفيذ هذه من اختصاصه، كان علي ولي الأمر أن يولي قاضيًا آخر لهذه المنازعة، إذ لا يعرف الفقه الإسلامي منازعة لا قاضي لها.

(1) يرى بعض الشافعية أنه لابد من رضاء المحكوم عليه بعد الحكم؛ لأن حكمه إنما يلزم بالرضا، فلا يكون الرضا إلا بعد المعرفة بحكمه، ولكن هذا الرأي ليس هو الأظهر في مذهبهم، يقول النووي صاحب متن المنهاج:(ولا يشترط الرضا بعد الحكم على الأظهر) مغني المحتاج على متن المنهاج الجزء الرابع ص 379

(2)

الكافي في فقه الإمام أحمد ج 3 ص 446

(3)

جامع البيان في أحكام القرآن للطبري ج 5 ص 74.

ص: 1745

وإذا كان القاضي المولى ليس له أن ينظر أي دعوى إلا إذا حضر إليه خصم فيها يستعديه، ويطلب منه الحكم في قضيته، فإنه لذلك يجب أن يلجأ إليه أحد الخصوم في دعوى التحكيم يستعديه على خصمه، ويطلب من القاضي أن يقضي له بتنفيذ حكم التحكيم، إذا كان قد صدر الحكم لصالحه، أو يطلب منه الحكم بعدم صحة هذا الحكم إذا كان قد صدر ضده، وذلك حتى لا يظل سيفًا مصلتا على رقبته، والقاضي في كلا الحالتين، عليه أن يتحقق من صحة حكم التحكيم، في إجراءاته وموضوعه، فيثبت من رضا الطرفين بالتحكيم، وبالحكم، ومن أن المحتكم إليه يتمتع بالأهلية الواجبة، ولم يخرج عما فوض إليه الحكم فيه، كما لم يخالف شرع الله فيما حكم فيه.

وليست هناك شكلية محددة تلزم القاضي لكي يتحقق من تراضي الطرفين على التحكيم، ومن صدور الحكم، ومن تفصيلات ما قضي به، فليست الكتابة مطلوبة لشيء مما ذكره، كما أن الإشهاد ليس واجبًا، غير أن الإثبات قد يعز في بعض الحالات، فينكر أحد الطرفين أنه كان قد رضي بالتحكيم أو بالحكم، أو ينكر صدور الحكم كله أو جزئية من جزئياته، ولذلك فقد يكون الإشهاد مفيدًا في إثبات التحكيم وإثبات الحكم، لا سيما وقول المحتكم إليه لا يقبل في إثبات رضاء الطرفين من تحكيمه بينهما؛ لأن قوله في هذه الحالة ينطوي على إدعاء ولاية لنفسه على المحتكمين، فإذا أنكراها أو أنكرها أحدهما، فلا يكفي قول المحتكم إليه في إثباتها، أما إجراءات التحكيم، أو ما ثبت لديه قبل إصداره الحكم، أو صدور الحكم ذاته، فإنه وإن كان قول المحتكم إليه مصدقًا في ذلك، إلا أن شرطه يصدر عنه هذا القول قبل انتهاء ولايته بإصدار الحكم، فإن انقضى التحكيم فلا ولاية له، ولا بد من الإثبات بالطرق المقررة شرعًا، ولا يكفي مجرد إجباره؛ لأنه لا يملك إنشاء ما يقربه بعد انتهاء ولايته، فلا يملك الإقرار به، وإخباره يعتبر شهادة على فعل نفسه لا يبرأ من التهمة. (1)

(1) المبسوط للسرخسي ج 11 ص 63 وحاشية السدوقي على الشرح الكبير ج 3 ص 135

ص: 1746

36 – والأصل أن سلطة القاضي على حكم التحكيم من الناحية الموضوعية لا تختلف عن سلطته على قضاء القاضي المولى إذا رفع إليه، وذلك على رأي الجمهور، فالحكم إذا خالف نصًّا من الكتاب أو السنة، أو إجماعًا، أو قاعدة واجبة الإعمال فإنه ينقض، سواء أكان حكمًا صادرًا من قاض مولى أو من محتكم إليه، إذ لا حجية في مخالفة الشرع، ولا اجتهاد فيما لا يجوز الاجتهاد فيه (1)

أما إذا كان الحكم صادرًا فيما يجوز فيه الاجتهاد، ففي رأي الجمهور لا يجوز نقضه، سواء أكان حكمًا لقاض أم لمحتكم إليه، وسواء أوافق اجتهاد القاضي الذي ينظره أم خالفه (2) ؛ ذلك لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله وإلا لتوالى نقض الأحكام وعز الاستقرار وغلبت الفوضى، على نحو ما يشرحه الإمام الغزالي في كتابه (المستصفى)(3)

ويرى الحنفية أن حكم المحتكم إليه يختلف في حجيته عن حكم القاضي إذا صدر في المواضع التي يجوز فيه الاجتهاد؛ ذلك لأن حكم التحكيم إذا صدر في ذلك ورفع أمره إلى القاضي، فإن وافق اجتهاده أمضاه، لا لأنه واجب الإمضاء لذاته وإنما لأنه لا فائدة من نقضه، ثم إبرامه على نفس الوجه، أما إذا كان يخالف رأي القاضي فإن له أن يفسخه فلا ينفذ، وقالوا في تعليل ذلك، إن حكم التحكيم بمثابة العقد الموقوف على إجازة القاضي، فيملك القاضي فسخه، كما أن التحكيم لا ينفذ إلا في مواجهة من رضي به، ولذلك صح تنفيذه بين الخصوم، أما القاضي فلأنه لم يرض به، فإنه لا يلزمه ورضاهما بحكمه لا يكون حجة الإلزام في حق القاضي (4) ، وهذا كله لا يتحقق في قضاء القاضي المولى، فإن الرضا به ليس شرطًا لتنفيذه، لاستناده إلى ولاية عامة تشمل القاضي الذي عرض عليه الحكم، فلا ينقض إلا إذا خالف النص أو الإجماع أو كان قولًا لم يقل، من يعتد به من المجتهدين.

(1) الدكتور محمد نعيم ياسين، حجية الحكم القضائي بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، الطبعة الأولى ص 57 وما بعدها والمراجع المشار إليها فيه، والدكتور عبد الحكم أحمد شرف، بحث في حجية الأحكام في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية الطبعة الأولى ص 87 ما بعدها والمراجع المشار إليها فيه.

(2)

المنتقى شرح موطأ مالك، الجزء الخامس ص 226 (دار الفكر العربي)

(3)

يقول الإمام الغزالي في المستصفى: (المجتهد إذا أداه اجتهاد إلى أن الخلع فسخ، فنكح امرأة خالعها ثلاثًا، ثم تغير اجتهادًا، لزمه تسريحها، ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده، ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد أن خالع الزوج ثلاثًا، ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين ولم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم فإنه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لنقض النقض أيضًا ولتسلسل، فاضطربت الأحكام ولم يوثق بها)(المستصفى، الجزء الثاني، ص 382 الطبعة الأولى) ويعلل الإمام القرافي لعدم النقض بتعليل آخر فيقول ما مضمنونه: إن الله سبحانه وتعالى جعل للحكام أن يحكموا في مسائل الاجتهاد بأحد القولين، فإذا حكموا بأحدهما كان ذلك من الله حكما في تلك الواقعة. وإخبار الحاكم بأنه حكم فيها كنص من الله خاص بتلك الواقعة، معارض للدليل المخالف لما حكم به الحاكم في تلك الواقعة، أي أن القرافي يرى أنه عند الاجتهاد يوجد عام وخاص، فأما الخاص فهو الحكم الذي صدر عن القاضي أولا، وأما العام فهو الدليل الذي يستند إليه القاضي الذي رفع إليه الحكم، وأداه اجتهاده المبني على هذا الدليل إلى رأي مخالف للحكم القضائي المرفوع إليه، وإذا كان الخاص يقدم على العام عن التعارض فإنه يجب تقديم المال الذي صدر أولا (في تفصيل رأي الإمام القرافي، كتاب الفروق ج2 ص105، وكتاب الأحكام ص15)

(4)

المبسوط للسرخسي ج 16 ص 111

ص: 1747

ولا ريب أن ما يسند إليه الحنفية لا يحمل رأيهم المناقض لرأي الجمهور؛ ذلك لأن اعتبار الحكم بمثابة العقد الموقوف على إجازة القاضي، يوجب رفعه إليه دائمًا، ولا يستساغ القول بأنه نافذ في علاقة الطرفين دون حاجة إلى عرضه على القاضي لإجازته، أما اشتراط رضاء القاضي بالتحكيم حتى يجب عليه أن ينفذ الحكم، فغير مقبول؛ لأن الرضا مطلوب من أطراف الخصومة، والقاضي ليس طرفًا فيها.

على أنه إذا كان الأصل – لدى الجمهور – أن سلطة القاضي المولى على حكم المحكمين لا تختلف عن سلطته على حكم قاض آخر، فإن الأمر في التحكيم قد يتطلب بعض التأمل؛ ذلك لأنه – خروج على الأصل العام – فإن للطرفين أن يختارا للتحكيم في منازعتهما من يفتقد بعض الشروط التي يراها جمهور الفقهاء ضرورية للقاضي المولى، كالمحكم الفاسق أو الجاهل الذي يستشير، أو غير سليم الحواس، وعلى التفصيل السابق بيانه في الكلام عن المحتكم إليه، هذا السماح – إن أخذ به كليًّا أو جزئيًّا – يقتضي – في نظرنا – أن يخول القاضي حق تصفح أحكام المحكمين للتحقق من أنه لا يشوبها خطأ مؤثر، ولو لم يبلغ درجة الجور البين، وذلك بجانب ما هو مطالب به من التحقق من أنها لا تخالف نصًّا قطعيًّا في الكتاب أو السنة، كما لا تخالف إجماعًا ولا قياسًا جليًّا، وليس في هذا افتئات على إرادة الطرفين، فهي على احترامها وتقديرها، ما دام الأمر لا يتعدى أمر التنفيذ الاختياري، أما إذا أريد استعمال سلطة الدولة في التنفيذ جبرًا، فإن من حق الدولة أن تتحقق من أنها لا تجبر أحد على تنفيذ أمر مشوب بخطأ بين إذ الإعانة على الظلم، ظلم.

غير أن ذلك لا يجوز أن يخرج قضاء التنفيذ عن ظاهر الأمور، فالأصل حمل القضاء على المصلحة ما لم يثبت الجور (1) . ومقتضى هذا أنه يفترض – بحسب الأصل – أن المحتكم إليه قد استوفى الشروط المطلوبة، فإذا ادعى أحد طرفي التحكيم أن المحتكم إليه يشوبه فسق لم يكن يعلمه، أو أنه موصوم بجهل لم يتداركه بمشاورة أهل العلم، وفق ما كان متفقًا عليه واكتفى بالحدس والتخمين، فإن على من يدعي ذلك أن يقدم الدليل عليه، وإلا حق الالتفات عن مطاعنه إذا لم تظاهرها ظروف الدعوى وملابساتها.

(1) تبصرة الحكام لابن فرحون ج 1 ص 74؛ والدكتور محمد نعيم ياسين، المرجع السابق ص 11

ص: 1748

وإذا كان تصفح أحكام القاضي المولى في نظر شق غير قليل من رجالات الفقه الإسلامي واجبًا، إذا كان جاهلًا أو فاسقًا أو نحو ذلك (1) ، فإن الأخذ بهذا – في شأن التحكيم – أولى عند إضفاء ولاية الإجبار على الحكم.

37-

وفيما عدا ما سلفت الإشارة إليه، فإن حجية حكم التحكيم – لدى الجمهور – هي كحجية حكم القاضي، لا تكاد تختلف عنها إلا في أمرين اثنين:

أولهما: أن جمهور الفقهاء يرون أن حكم القاضي المولى يسري على الكافة في بعض الدعاوى وهي دعاوى الحرية والنسب والنكاح والولاء، على خلاف في تفصيلات ذلك، وهذا لا ينطبق على حكم التحكيم لقصور ولايته على من رضي به، ولعدم استناده إلى ولاية عامة تسمح بتعدية الحكم إلى غير الخصوم في الحالات التي تقتضي ذلك، هذا إلى جانب أن معظم الفروع التي تنبثق عن الدعاوى الأربع السابقة لا تصلح أن تكون موضوعًا للتحكيم وفقًا لرأي الغالبية العظمى من فقهاء الشريعة الإسلامية.

ثانيهما: أنه إذا اشتمل حكم القاضي المولى على قضاء ضمني، فإنه يحوز الحجية كالقضاء القصدي، فالقضاء على الكفيل بالدين هو – بصفة عامة- قضاء على الأصل به – والقضاء بالدية على القاتل – هو قضاء على العاقلة عند من يرى وجوب القضاء بالدية أولًا على القائل ثم تتحملها العاقلة.

أما بالنسبة لحكم التحكيم فإن حجية القضاء الضمني فيه مقصورة على الخصوم الماثلين في الدعوى، ولا تتعدى إلا غائب – بحسب الأصل – فإذا لم يرض المدين الأصيل بالتحكيم، فالحكم الذي يصدر على الكفيل لا حجية له عليه، وإذا صدر حكم التحكيم على القاتل فلا حجية له على العاقلة التي غابت عن التحكيم ولم تختصم فيه، حتى في الحالات التي يجب فيها الحكم على القاتل أولًا.

(1) الدكتور محمد نعيم ياسين، المرجع السابق، ص 42 وما بعدها؛ والدكتور عبد الحكيم أحمد شرف، المرجع السابق، ص 59 وما بعدها

ص: 1749

الفصل الخامس

التحكيم عند اختلاف الدين أو الدار

أ- التحكيم في منازعات غير المسلمين في الدولة الإسلامية:

38-

في داخل الدولة الإسلامي، ينشر الإسلام سلامه على أفراد الدولة جميعهم، من آمن منهم ومن كفر، لا يفرق بين أحد منهم، فالجميع متساوون في الحقوق وفي الواجبات سواء أكانوا من المؤمنين الذين آمنوا بالله وبرسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أم كانوا من الذميين الذين سمح لهم بممارسة شعائر دينهم تحت حماية الدولة، وكان لهم حقوق المسلمين وعليهم واجباتهم، أم كانوا من المستأمنين الذين يقيمون في الدولة بصفة مؤقتة ويستظلون بأمانها، فيكونون بمنزلة أهل الذمة في ديارنا طوال فترة إقامتهم (1) .

غير أن هذه المساواة تهدر الآثار التي قد تنشأ عن طبيعة الطائفة التي ينتمي إليها الرعية، فمن ينتسب إلى المسلمين مكلف – وحده – بالزكاة مثلًا، ومن يتمني إلى الذميين مطالب دون غيره بالجزية، ومن هم من المستأمنين يجب عليه تنفيذ ما التزمه في عقد الأمان، ولا شأن لغيره في ذلك.

ومن ناحية أخرى، فإن هذه المساواة لا تتعارض مع ما قد تتطلبه بعض الوظائف أو الأعمال من اشتراطات خاصة، فإذا استلزمت بعض هذه أو تلك، شروطًا معينة لا تتوافر إلا في طائفة من هذه الطوائف أو في بعض من الطائفة، فإن تخصيصها بذلك لا يعد إهدارًا للمساواة أو افتئاتًا على حقوق الآخرين.

فوظيفة القضاء مثلًا، تستلزم فيمن يعهد به إليه صفات خاصة تحمل على الثقة به، إلى القدر الذي يجعل له ولاية على غيره، فينفذ قوله على رقاب العباد وأموالهم.

(1) شرح السير الكبير للسرخسي ج 12 ص 226

ص: 1750

والتحكيم صنو القضاء، أو هو فرع منه ذلك لأنه إذا كان عقدًا في البداية فهو حكم في النهاية، وكذلك فإنه يشترط في المحتكم إليه – بحسب الأصل ما يشترط في القاضي المولى، ومن ذلك شرط الإسلام، فغير المسلم لا يصح تقليده القضاء على المسلمين؛ لأنه ممنوع من القيام على شؤون المسلمين بمثل قوله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 41]، ولأن في توليه عزة له على المسلمين ونفوذًا عليهم والله سبحانه يقول:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، وليس في هذا تمييز لطائفة المسلمين، بدليل أن الفاسق منهم ممنوع من توليه القضاء مع أنه أحسن حالًا من الكافر، إذ تجري عليه أحكام الإسلام (1) .

39 – وعلى هذا الرأي استقر جمهور فقهاء المسلمين من شافعية ومالكية وحنابلة فقالوا بعدم جواز تولية غير المسلم للفصل في منازعات المسلمين مع بعضهم البعض، أو في منازعاتهم مع غيرهم، فإذا ألجأت الضرورة المسلم إلى الترافع لقاض غير مسلم، فإن قضاء هذا القاضي ينفذ حتى لا تتعطل مصالح الناس (2)

ويرى الحنفية أن الإسلام ليس شرطًا في القاضي الذي يفصل في المنازعة التي تنشب بين غير المسلمين، وإنما الشرط أن لا يكون الحاكم أدنى درجة من الذين يحكم بينهم، فإذا كانوا من المستأمنين جاز أن يفصل في خصومتهم قاض مستأمن يتحد معهم في الدار، أو قاض ذمي، وإذا كانوا ذميين، أو كان بعضهم ذميًّا والآخرون مستأمنين، جاز أن يحكم بينهم قاض ذمي؛ وذلك لأن مناط أهلية الحكم – عند الحنفية – هو أهلية الشهادة، فمن صلح شاهدًا صح أن يكن قاضيًا على من يشهد عليه، وأهل الذمة تصح شهادتهم على بعض وإن اختلفت مللهم، والمستأمنون تقبل شهادتهم على بعض إذا كانوا أهل دار واحدة وإلا انقطعت الولاية عليهم، والذمي تقبل شهادته على المستأمن؛ لأنه بعقد الذمة صار أقرب منهم إلى الإسلام. (3)

(1) أدب القاضي للماوردي ج 1 ص 632

(2)

الدكتور إسماعيل إبراهيم البدوي، نظام القضاء الإسلامي، الطبعة الأولى، ص 176، 177.

(3)

جاء في بعض الكتب الحنفية أنه يجوز أن يقلد الذمي القضاء في المنازعات بين المسلمين وغيرهم، على أن لا ينفذ حكمه إلا إذا قضى ضد غير المسلم، وقد كان هذا الرأي محل اعتراض كثير من الفقهاء، لمخالفته للأدلة العديدة التي تمنع ولاية غير المسلم على المسلم؛ ولأن الأمر يوقع في اضطراب، إذ كيف يكون الحكم نافذا وغير نافذ في وقت واحد، (المستشار جمال المرصفاوي، نظام القضاء في الإسلام، القسم الأول من البحوث المقدمة لمؤتمر الققه الإسلامي الذي عقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في سنة 1396هـ، طبعة إدارة الثقافة والنشر بالجامعة، رد المحتار على الدر المختار، الطبعة الثانية ج5 ص 355؛ تبيين الحقائق للزيلعي ج 4 ص 193؛ الفتاوى الهندية ج 3 ص397، 398، والدكتور بدران أبو العينين بدران، العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين، طبعة 1984 ص 211 إلى ص 229) .

ص: 1751

ويستشهد الحنفية على صحة رأيهم – فيما يشهدون به – بأن معاملات غير المسلمين لا يحضرها المسلمون عادة، فإذا لم يكن لبعضهم شهادة على بعض، تعرضت حقوقهم للضياع عند الجحود والإنكار؛ ولأن القرآن الكريم أثبت ولاية الكفار بعضهم لبعض، كما جاء في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] ؛ ولأن غير المسلمين من ذميين ومستأمنين لهم ما لنا وعليهما علينا، وبالتالي فكما أن للمسلمين الشهادة بعضهم على بعض فكذلك يجب أن يكون لغيرهم من رعايا الدول الإسلامية (1)

40-

ومع أن جمهور الفقهاء قد ردوا على النصوص التي استشهد بها الحنفية ردودًا مقنعة، فإن منطق الأدلة العقلية التي استشهدوا بها وارتباطها بالمصلحة التي يقرها الشرع، وما جرى عليه العمل في عهد الخلفاء الراشدين من عدم انتزاع سلطة الفصل في منازعات غير المسلمين من أيديهم، كل ذلك جعل بعض علماء العصر الحاضر يؤيدون وجهة نظر الأحناف بجواز تولية غير المسلمين القضاء في المنازعات التي تنشب بين أمثالهم، مع إطلاق ذلك الحكم حتى يشمل قضاء الكفار بعضهم على بعض، دون تفرقة بين ذميين ومستأمنين، فالكفر كله ملة واحدة، وبغير اشتراط أن يكون المستأمنون متحدي الدار (2) .

على أن الأمر الجدير بأن يعطى حقه في الترجيح بين رأي الحنفية ورأي الجمهور، هو تحديد الشريعة التي سيحكم بها القاضي غير المسلم فيما يفصل فيه من منازعات غير المسلمين؛ ذلك لأن الجمهور لا يترددون في القول بوجوب الحكم بالشريعة الإسلامية في هذه المنازعات، ولا يكاد يختلف معهم الحنفية إلا في بعض تفصيلات قليلة استثنوها من الحكم بالشريعة الإسلامية تصل بالأنكحة والمهر والخمر والخنزير، وفيها يطبقون شريعتهم، وإن كان ذلك في حقيقته تطبيق لما أمرت به شريعة الإسلام.

(1) جاء في بعض الكتب الحنفية أنه يجوز أن يقلد الذمي القضاء في المنازعات بين المسلمين وغيرهم، على أن لا ينفذ حكمه إلا إذا قضى ضد غير المسلم، وقد كان هذا الرأي محل اعتراض كثير من الفقهاء، لمخالفته للأدلة العديدة التي تمنع ولاية غير المسلم على المسلم؛ ولأن الأمر يوقع في اضطراب، إذ كيف يكون الحكم نافذا وغير نافذ في وقت واحد، (المستشار جمال المرصفاوي، نظام القضاء في الإسلام، القسم الأول من البحوث المقدمة لمؤتمر الققه الإسلامي الذي عقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في سنة 1396هـ، طبعة إدارة الثقافة والنشر بالجامعة، رد المحتار على الدر المختار، الطبعة الثانية ج5 ص 355؛ تبيين الحقائق للزيلعي ج 4 ص 193؛ الفتاوى الهندية ج 3 ص397، 398، والدكتور بدران أبو العينين بدران، العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين، طبعة 1984 ص 211 إلى ص 229) .

(2)

من ذلك المرحوم الدكتور محمد سلام مدكور في كتابه (المدخل للفقه الإسلامي والنهضة العربية) الطبعة الثامنة ص 357، وكتابه (القضاء في الإسلام) المطبعة العالمية ص 125

ص: 1752

وفيما عدا الاستثناءات المشار إليها، فإن الفقهاء يتفقون جميعًا – بما في ذلك الأحناف – على وجوب الرجوع إلى الشريعة الإسلامية، تطبيق أحكامها على هذه المنازعات فإذا قيل: إن القاضي سيكون غير مسلس فكيف يستساغ أن يطلب منه أن يحكم بما لا يؤمن به؟ ولا يقال: إن ذلك سوف ينطبق على الحالة التي يحكم فيها القاضي المسلم بين غير المسلمين في المسائل المستثناة؛ ذلك لأن فقهاء المسلمين عالجوا قضايا الذميين والمستأمنين التي يختلفون فيها مع المسلمين، بوضع قواعد موضوعية مستمدة من الشريعة الإسلامية، تحكم هذه القضايا، ولم يضعوا قواعد إسناد تحيل إلى قانون آخر غير الشريعة الإسلامية (1) ، كما أنه لا يغير من ذلك ما هو مسلم به من وجوب أن نتركهم وما يدينون؛ لأن معنى ذلك أن لا نتعرض لهم فيما يدينون، لا أن نحكم بينهم بما يدينون، إن خالفوا الإسلام (2) .

41-

على أن التحكيم قد يقتضي نظرة خاصة تتفق مع طبيعته، وما يحكمه من قواعد شرعية، تختلف عن القضاء من عدة وجوه:

أولها: أن غير المسلمين إذا تحاكموا إلى حكام من أهل دينهم، فإنه يلتزمون بما يحكمون به، لالتزامهم له، وليس لأنه لازم لهم من الأصل (3) .

وثانيها: أن حكم التحكيم مرجعه إلى القضاء حين يراد التنفيذ به جبرًا، وعلى القضاء أن يتحقق من مطابقة الحكم لأحكام الشريعة الغراء، فإذا لم يلتق هذا الحكم مع النصوص أو الإجماع وخرج على مجموع ما استنبطه المجتهدون – في نطاق صلاحيتهم – كان على القاضي أن يهدر هذا الحكم ولا يأمر بتنفيذه.

(1) الدكتور عبد الكريم زيدان، أحكام الذميين والمستأمنين ص 489

(2)

حكم محكمة مصر الابتدائية الشرعية في 20 يناير سنة 1942 المنشور في مجلة المحاماة الشرعية سنة 15 ص 49 وما بعدها.

(3)

الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي ص 65.

ص: 1753

ثالثها: أنها طبقًا لرأي المالكية ومن سار في اتجاههم، فإن القاضي المولى له أن يعرض عن غير المسلمين إذا لجئوا إليه للفصل في خصوماتهم، وذلك أخذًا بقوله تعالى:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [المائدة: 42] ، وأنه طبقًا لرأي الشافعية، فإن له أن يعرض عنهم إذا كانوا من المعاهدين، أما الذميون فإنه يجب عليه الحكم في خصوماتهم عملًا بقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، وأنه طبقًا لرأي أبي حنيفة، فإن القاضي المسلم لا يجب عليه القضاء في أنكحة غير المسلمين إلا إذا ترافع إليه الخصمان كلاهما، ففي هذه الحالات وأمثالها، كيف يتسنى الفصل في خصومات غير المسلمين التي أعرض عنها القاضي المولى؟ ألا يكون في إلقاء عبئها على المتنازعين أنفسهم ليختاروا هم من يرضى بالحكم بينهم ممن يثقون به، ولو كان غير مسلم، ألا يكون في ذلك جمع بين عدم إجبار القاضي المولى على حكومة لا يرضاها، وبين الفصل في المنازعة، مع الاطمئنان إلى أنها سوف تمر في صمام الشريعة الإسلامية في الوقت المناسب؟ وبذلك يكون قد وضح سرًّا آخر لاحتفاظ الشريعة الإسلامية – بجانب قضاء الدولة الرسمي – بنظام التحكيم القائم على التراضي بين الخصوم، وعلى قبول المحتكم إليه – بمحض اختياره – الفصل في المنازعة التي رشحه الأفراد لها (1) .

إن منح غير المسلمين في دار الإسلام الحق في الالتجاء إلى التحكيم بينهم – في الأمور التي أمرها فيها بتركهم وما يدينون - تطبيق لمبادئ الإسلام نصًّا وروحًا، كما هو تطبيق لقاعدة عدم وجود خصومة بلا قاض في الدولة الإسلامية.

(1) يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري في الصحيفة 17 من بحث قدمه، وصية غير المسلم طبع في سنة 1942:(إن القضاء بمعناه الصحيح لا يليه في الشرع إلا مسلم، فلا يجوز تقليد الذمي القضاء حتى على ذمي مثله، وإذا حكم الذمي في أقضية الذميين، فإنما يكون هذا تحكيمًا) (نقلًا عن الدكتور عبد الكريم زيدان، المرجع السابق ص 482

ص: 1754

ب- التحكيم في منازعات المسلمين خارج الدولة الإسلامية:

42 – ذلك كله عن الاحتكام داخل الدولة الإسلامية (في دار الإسلام) ، أما الاحتكام خارجها (في دار الحرب) حيث لا سيطرة للمسلمين على الإقليم، ولا تظهر فيه أحكام الإسلام، فإن الأمر يحتاج إلى تفصيل آخر.

ذلك لأنه من المقرر – كقاعدة عامة – أن اغتراب المسلم عن دار الإسلام وإقامته في دولة غير إسلامية، لا يمنحه مبررًا لعدم الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، فإن كان وجوده في غير الدولة الإسلامية مما يخشى معه الفتنة في دينه له أو لأسرته، فإن عليه أن يهاجر منها تطبيقًا لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 – 99] .

أما إذا كان بقاء المسلم في دار الحرب لا يشكل خشية على نفسه أو دينه أو دين أسرته، فلا محل لإلزامه بالهجرة، بل قد يكون في بقائه حيث هو فائدة ترجى، إذا ما حرص على أن يكون نموذجًا للمسلم الصالح، إذ سيكون آنذاك داعية للإسلام، حتى قال الإمام الماوردي: أنه إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفار، فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها، لما يترجى من دخول غيره في الإسلام، وبمثل ذلك أفتى الإمام محمد عبده بالنسبة للمسلمين المقيمين في بعض البلاد الأوروبية (1) .

فإذا أقام أحد رعايا الدولة الإسلامية في دار الحرب، وتعامل مع غيره مدنيًّا أو جنائيًّا، فالأصل عند الحنفية أن ما يقع في دار الحرب لا ولاية لنا عليه ولا شأن للقضاء الإسلامي به، أما عند الحنابلة والشافعية ومن جرى مجراهما، فإن معاملات دار الحرب معتبرة، ويقضى بموجبها في دار الإسلام، سواء أكانت بين حربيين أو حربي ومسلم أو كانت بين من هم من أهل دار الإسلام من مسلمين أو ذميين، دخلوا دار الحرب بأمان، وذلك لأن وجوب الوفاء بالعهد الذي أمر به الله سبحانه وتعالى هو عام لا يقتصر على ما يقع في دار الإسلام وحدها بل يتعداها إلى غيرها مما يقع في دار الحرب (2) .

(1) الدكتور إسماعيل لطفي قطاني، اختلاف الدارين وأثره في أحكام المناكحات والمعاملات – رسالة دكتوراه – مطبعة دار السلام ص 96 إلى ص 107 والمراجع المشار إليها فيها

(2)

الدكتور عبد الكريم زيدان، المرجع السابق ص 453 وما بعدها والمراجع المشار إليها فيه، وقارن الدكتور أحمد محمد مليجي، النظام القضائي في الإسلام، مكتبة وهبة ص 115.

ص: 1755

43 – على أن اختصاص المحاكم الإسلامية في دار الإسلام، بما يقع في دار الحرب لا يحجب اختصاص المحاكم الأجنبية بذات الوقائع، وقد يجد الرعية الإسلامية ضرورة تلجئه إلى تلك المحاكم كمدع أو مدعى عليه، فيكون في هذه الحالة في وضع أشبه بالخضوع إلى قاضي الضرورة في دار الإسلام، فإذا قضى القاضي نفذ حكمه، وإن كان هذا لا يبيح للمحكوم له أن يقتضي ما ليس حقًّا له، أو يأخذ ما يستند إلى قاعدة تتعارض مع أحكام الشريعة الغراء.

غير أن الأمر قد لا يكون بهذه البساطة، فقد يؤدي تطبيق القانون الأجنبي على موضوع الدعوى إلى نتائج وخيمة، كما إذا اتصلت هذه الدعوى بمسألة من مسائل الأحوال الشخصية وكان الطرفان المسلمان يتمتعان بجنسية دولة لا تطبق الشريعة أو تأخذ بأحكام تختلف معها، كنظام التبني، أو نظام توريث مختلف، أو لا تجيز الطلاق، وكانت قواعد الإسناد الواجبة التطبيق لا تسمح بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية، ففي هذه الحالات وأمثالها قد لا يستطاع إصلاح الآثار التي تترتب على أحكام القضاء الأجنبي.

44-

ولعل أفضل طريق لتفادي هذه الآثار السيئة، هو الالتجاء إلى نظام التحكيم الإسلامي، باختيار محكم مسلم، والاتفاق على تطبيق الشريعة الإسلامية على موضوع النزاع.

وقد يرشح لذلك أن أغلب دول العالم – حاليًّا – تسمح بقيام التحكيم فيها، وتمنح أحكامه قوة تنفيذية، سواء أكان تحكيمًا حرًّا (وهو ما يسمى بتحكيم الحالات الخاصة) أو كان تحكيم مؤسسات وهيئات، كما هو النوع الشائع الذي يحظى بتسهيلات أكثر، وفيه يلجأ المحتكمون إلى هيئة أو جمعية أو مركز، ليعاونهم في إجراءات التحكيم، ويقدم لهم – إذا أرادوا – محكمين متخصصين يختارون من بنيهم من يحوز ثقتهم، وهي وسيلة تسمح للجاليات الإسلامية أن تنشئ جمعية أو نحوها، تيسر على المسلمين إجراءات التحكيم، وتضع أمامهم قائمة بمن تفقهوا في الدين، ودرسوا الفقه الإسلامي، والتزموا بأن يحكموا بين الناس بحكم الله الذي حملته النصوص أو كشف عنه بالإجماع أو استنبطه المجتهدون.

ص: 1756

45-

على أن إنشاء مثل هذه الجمعية التحكيمية يقتضي الإلمام بنظام البلد الذي ستقوم فيه، والبلد الذي يحتمل أن ينفذ فيه الحكم، وذلك حتى يمكن الاستعانة بقضاء هذين البلدين، أو أحدهما لتنفيذ الأحكام التي تصدر عن التحكيم في الدولة غير الإسلامية، وسوف يجد القائمون على إنشاء هذه الجمعية في الفقه الإسلامي، من المرونة ما يسمح بأن تتوافق مع أحكامه كثير من الأوضاع التي تستلزمها نظم التحكيم في العالم، وذلك كالتزام المحتكم إليه بالضمانات الأساسية للتقاضي، ووجوب أن يكون عدد الحكام وترا، وجواز تدخل القاضي لاختيار المحكم إذا قامت صعوبات دون ذلك، ووجوب عرض مشارطة التحكيم على القضاء لاعتمادها، إلى غير ذلك من القواعد والأحكام التي أثبت نظام التحكيم السعودي الإسلامي – مثلًا، مرونة الفقه الإسلامي – إثباتًا عمليًّا – بتضمينها نظامه الإسلامي الجديد.

ومن ناحية أخرى فإنه يمكن تحاشي الاصطدام ببعض الأنظمة العنصرية التي لا تقبل اشتراط أن يكون المحكم مسلمًا، وذلك بعدم النص على ذلك في النظام الأساسي، مع مراعاة أن لا تحوي قائمة المحكمين إلا من هو على علم بالفقه الإسلامي، ويملك القدرة على حسن التطبيق والأمر – بعد ذلك كله – للمحتكمين الذين يستطيعون اختيار الحكم المسلم من القائمة التي تجمعه مع غيره.

كما يمكن تحاشي ما قد تثيره بعض الاتجاهات الحقودة من اعتراض على النص على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، وذلك باختيار نظام التحكيم بالصلح، إذ فيه لا يتقيد المحكمون بصورة عامة بقواعد القانون الموضوعي، على أن أهم الأمور التي يجب على مثل هذه الجمعية أن تراعيها، هو عدم الاصطدام بالنظام العام في البلد الذي سوف تنشأ فيه أو التي يحتمل أن تنفيذ أحكامها على أرضه، وليس ذلك بالأمر العسير، إذ إن قواعد النظام العام، التي تحقق المصلحة الأعلى للمجتمع وتعود على مصالح الأفراد، هي قواعد مرنة تضيق وتتسع حسبما يعتبر – في حضارة معينة – مصلحة عامة لا يجوز للأفراد أن يناهضوها باتفاقات بينهم، حتى لو حققت هذه الاتفاقات لهم مصالح فردية، ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد النظام العام تحديدًا مطلقًا، يتمشى مع كل زمان ومكان. (1) .

(1) الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري، الجزء الأول ص 399 بند 228، من الطبعة الأولى.

ص: 1757

وقد جرت أغلب بلاد العالم على إجازة التحكيم فيما يجوز فيه الصلح، ففي مسائل الأحوال الشخصية – مثلًا – لا يجوز التحكيم في خصومة تتصل بالأحوال الشخصية البحتة، ويجوز فيما يتصل بالمصالح المالية المتعلقة بها، وبذلك لا يجوز التحكيم في خصومة تتصل بما إذا كان الولد شرعيًّا أو بالتبني، وما إذا كان عقد الزواج صحيحًا أو باطلًا، وما إذا كان الشخص وارثًا أو غير وارث، أو في خصومة تتعلق بالحجر على الأشخاص، ويجوز التحكيم في منازعة على التعويض عن الأضرار التي نتجت عن فسخ الخطبة، أو فيما يترتب على عقد الزواج الباطل، أو في تحديد مقدار النفقة الواجبة للزوج أو لأحد الأقارب أو للصغير أو الزوجة، أو في الخصومة المتعلقة بقسمة التركة أو إدارتها قبل التقسيم، وكذلك لا يجوز التحكيم في مسائل الأحوال الشخصية التي لا يقبل نظرها أمام قضاء الدولة لسبب يتعلق بالنظام العام، كما إذا كان الزواج في غير الشكل الواجب أو كان أحد الزوجين لم يبلغ السن القانونية (1) .

وإذا أمكن تنفيذ ما يتطلبه نظام البلاد المتصلة بالتحكيم – مكانًا أو تنفيذًا – فإننا بذلك نطبق نظامًا مؤتمنًا في دار الحرب، يحرص على إنزال حكم الله، على يد من يوثق في دينه وعلمه، وبما لا يتعارض مع أنظمة الدول غير الإسلامية، ويسمح باستمرار إقامة المسلم في غير البلاد الإسلامية، ناشرًا على العالم المحايد نظامًا سماويًّا فريدًا، شرعه أحكم الحاكمين.

أما إذا قامت العقبات أمام إنشاء مؤسسة التحكيم، فإن في التحكيم الحر سعة للمسلمين، يختارون فيه عناصر التحكيم كاملة، ويراعون أن يكون التنفيذ بالاستعانة ببلد إسلامي، يسمح نظامه بهذه المعاونة بالنسبة للتحكيم الأجنبي، وسوف تيسر لهم الأمور، موافقة دول إسلامية كثيرة على معظم اتفاقيات التحكيم الدولية، وهي في تزايد مستمر، ومن هذا القبيل ما أعلنته المملكة العربية السعودية عام 1993 عقب انتهاء الدورة الرابعة عشرة لقادة دول مجلس التعاون الخليجي من موافقتها على الانضمام إلى اتفاقية الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية التي أقرها مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في نيويورك في الفترة من 20 مايو إلى 10 يونيو سنة 1958.

(1) الدكتور أحمد أبو الوفا، التحكيم الاختياري والإجباري، الطبعة الرابعة ص 70، 75.

ص: 1758

الفصل السادس

الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي

46 – قالت المادة (27) من اتفاق لاهاي رقم 1 لسنة 1907 الخاص بالحل السلمي للمنازعات الدولية، تعريفًا بالتحكيم الدولي، أنه يهدف إلى حل المنازعات بين الدول، بوساطة قضاة يختارونهم على أساس احترام القانون (1) .

ويشير هذا التعريف إلى أن التحكيم الدولي هو كالتحكيم في المنازعات الخاصة بين الأفراد يقوم على الرضا الذي يحدد – بحسب الأصل – موضوع التحكيم، وزمانه، ومكانه، وشخصية المحكمين، والقواعد التي يجب تطبيقها، أو يعلن الموافقة على التحكيم في موضوع محدد، أمام جهة معينة، يخضع التحكيم فيها لإجراءات وقواعد معلومة سلفًا، وقد يجري بواسطة أشخاص يختارون من بين أسماء يتضمنها جدول معلن من قبل.

وما يميز التحكيم الدولي الذي نحن بصدد عن غيره، هو أنه تحكيم بين الدول لا بين الأفراد، فلا يجوز لغير الدول – بحسب الأصل – أن يكونوا أطرافًا فيه، إلا إذا نص على ذلك في الاتفاق الخاص، كما حدث في معاهدة فرساي حين تضمنت المادتان 304، 305 منها، ما يسمح بإنشاء محاكم تحكيم مختلطة يتقاضى أمامها الدول والأفراد (2) .

ومن ناحية أخرى، فإن التحكيم الدولي لا ينال – في ظاهره – من سلطان القضاء في الدول فحسب، وإنما هو قد يمس سيادة الدولة كاملة، وذلك لخطورة الموضوع المعروض فيه، واتصاله في كثير من الأحوال بمصالح الدولة العليا، مما قد يقتضي التريث قبل الإقدام عليه حتى لا تجد الدولة نفسها ملزمة بما لا يمكنها التحلل منه مستقبلًا بعد صدور حكم التحكيم فيه.

(1) الدكتور عبد العزيز محمد سرحان، القانون الدولي العام، القاهرة سنة 1991 ص 90

(2)

الدكتور عبد العزيز محمد سرحان، نفس المصدر ص 93

ص: 1759

47 – وعلى ضوء ما سبقت الإشارة إليه من أن التحكيم الدولي يتفق مع ما سواه من أنواع التحكيم الأخرى التي أثبتنا فيما مضى من البحث، أن الشريعة الإسلامية تقرها؛ ولأن ما يتميز به عنها ليس من شأنه أن يغير من مشروعيته، وإن اقتضى حرصًا أكبر في تطبيقه، فإنه لذلك يمكن القول بأن الشريعة الغراء لا تأبى هذا النوع من التحكيم أيضًا، طالما أن الإقدام عليه سيكون محكومًا بمصلحة الدولة الإسلامية، وفي نطاق أحكام الشريعة ومبادئها السمحة.

48 – وقد حمل لنا التاريخ الإسلامي نماذج مما ارتضته الدول الإسلامية من تحكيمات تتناول علاقتها كأمة، بغيرها من الأمم الأخرى.

(ومن ذلك ما رواه مسلم عن بريدة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: ((إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل على حكم الله، فلا تنزل لهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا)) . . . . وفي رواية أخرى: ((وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله)) . . . . (1) .

ومن ذلك أيضًا، ما تشير إليه المعاهدة التي أبرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين كأمة وبين اليهود كأمة، غداة الهجرة إلى المدينة، وفي بداية تنظيم علاقات المسلمين بالأمم حولهم، وقد تضمنت هذه المعاهدة الإشارة إلى قبول الطرفين للتحكيم فيما قد يحدث من منازعات، وإلى اتفاقهما على اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمًا بينهما فيما سيقع، وكان من العبارات التي وردت في هذا الشأن قول المعاهدة:(وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما فيه هذه الصحيفة وأبره. . . .)(2)

(1) روى الحديث بروايات متقاربة في أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي، راجع صحيح مسلم بشرح النووي ج12 ص 39؛ ونيل الأوطار ج 7 ص 261.

(2)

سيرة ابن هشام ج 2 ص 121؛ عيون الأثر لابن سيد الناس ج 1 ص 239 ح مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي الخلافة الراشدة، محمد حميد الله ص 12، دكتور جعفر عبد السلام؛ وثيقة إنشاء الدولة الإسلامية، مقالة في المجلة المصرية للقانون الدولي، المجلد الواحد والأربعون سنة 1985 ص 43 وما بعدها وعلى الأخص ص 49 بند 42.

ص: 1760

49 – وانطلاقًا من الطبيعة الرضائية للتحكيم الدولي، فإن أمة الإسلام لا تجبر على تحكيم لا ترتضيه، ولا على حكم لم تختره، كما أن الحكم نفسه لا يجوز له أن يقضي في المنازعة المعروضة إلا إذا استوثق من رضاء الطرفين به وقبولهما – مقدمًا – تنفيذ ما يقضي به، وذلك على نحو ما فعله سعد بن معاذ رضي الله عنه، في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تحقق من رضاء المسلمين ورضاء يهود بني قريظة قبل أن يحكم فيما حكم فيه.

فإذا حاصر المسلمون قلعة أو حصنًا من حصون الكفار ونزل هؤلاء على حكم رجل منا حكموه فيهم، فإن عينوه فقد قال الجمهور جاز حكمه، وفي ذلك قول الشافعية أنه لو حاصرنا قلعة فنزل أهلها على حكم الإمام أو حكم رجل عدل في الشهادة عارف بمصالح الحرب قد اختاروه، جاز (1) .

ويقول المالكية: إن المشركين إذا نزلوا على حكم رجل مسلم عدل قد عرف المصلحة للمسلمين فإن العدو يجبر على حكمه، فإن لم يكن هذا المؤمن عدلًا، ولو عرف المصلحة، أو لم يعرف المصلحة ولو كان عدلًا، أو انتفيا جميعًا، فإن أمير المؤمنين ينظر فيما أمن فيه فإن كان صوابًا أبقاه، وما كان غير صواب رده (2) .

أما إذا لم يعين الكفار الحكم الذي يرضونه من جيش المسلمين، فإن الأمير يعين من يصلح، إذا قبلوه مضى وإلا فليس لنا أن نجبرهم على حكم رجل لم يرضوه.

والمروي عن الجمهور أن الحكم الذي يحق له أن يحكم بين المسلمين وأعدائهم يجب أن يكون مسلمًا؛ لأن أحد الطرفين المتحاكمين مسلم، والحكم نوع من الولاية، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم.

ومع ذلك فقد أجاز بعض المالكية كالإمام الخرشي – اشتراط الكفار – في عقد المهادنة أن يحكموا بين المسلم وغير المسلم إذا دعت لذلك ضرورة فيقول في شرحه لمتن خليل عند استعراضه لشروط المهادنة: ويجب أن يخلو عقدها من شرط فاسد، وإلا لم يجز، كشرط بقاء مسلم أسيرًا بأيديهم، أو بقاء قرية للمسلمين خالية منهم، وأن يحكموا بين مسلم وكافر، وأن يأخذوا منا مالًا، إلا لخوف، فيجوز كل ما منع (3) .

(1) روضة الطالبين ج 10 ص 93.

(2)

حاشية المواق، هامش مواهب الجليل للحطاب ج 3 ص 360.

(3)

الخرشي على متن خليل ج 2 ص 448، 449

ص: 1761

وإعمالًا لما يراه الحنفية من جواز شهادة غير المسلم على غير المسلم، فإنهم قالوا: إنه يصح إشراك غير المسلم مع المسلم في الحكم بين المسلمين وغيرهم، وينفذ ما يحكم به على غير المسلمين وحدهم (1) . وقد يشير مجموع ما تقدم إلى أن الأصل أنه لا يجوز قبول اشتراك غير المسلمين في التحكيم بين المسلمين وقومهم من غير المسلمين، فإذا دعت لذلك مصلحة شرعية، أو دفع إلى ذلك خوف، جاز إشراكهم، فإذا قضى الحكم بما جرى به الشرع فليس للإمام أن يخالف حكمه، وإن كان يجوز له أن يخفف الحكم أو يعفو إذا رأي في ذلك مصلحة (2) .

وقد يدعو إلى ذلك أن حكم الحظر الذي هو الأصل، لا يستند إلى النص وحده وإنما يلابس سنده المصلحة، وتبرر تفرده الظروف التي كانت سائدة في العصر الأول للإسلام، حيث كانت تتوافر القوة الإسلامية ماديًّا ومعنويًّا – إلا فيما استثني – وكانت علاقة المسلمين بغيرهم من الدول تنحصر في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عن الدولة الإسلامية بالحق، وبالسيف إن اقتضى الأمر.

فإذا ما تغيرت الظروف وتعقدت العلاقات، وأصبح النزاع بين الدول الإسلامية وغيرها لا يأخذ دائمًا شكل الحرب، وقد يتطلب جهادًا كبيرًا من التفاوض أو الجدال في الحق بأساليب وطرق مختلفة، وقد لا تكون الدولة الإسلامية دائمًا هي الطرف الأقوى الذي يستطيع أن يملي إرادته على خصومه، وقد تحتم الظروف المحيطة سرعة حسم المنازعة حتى لا يتسلل إليها أطراف آخرون يشدون من عضد خصوم الإسلام، كل هذه العوامل وأمثالها قد تجعل من صالح المسلمين قبول تحكيم يشارك فيه غير المسلم مع المسلم، دون أن تخشى مغبة ذلك، ما دام قد اشترط المسلمون أن لا يجبروا على ما يخالف شريعتهم بوصفها النظام العام الذي لا يملكون مخالفته.

(1) الفتاوى الهندية ج 2 ص 201

(2)

حاشية محمد بن بطال ج 4 ص 254؛ سيرة ابن هشام ج 2 ص 542؛ المغني ج 9 ص 313 وما بعدها.

ص: 1762

وقد يحمل قول الجمهور من فقهائنا الأفاضل في منع المسلم أن يكون حكمًا على حالة ما إذا كانت الغلبة للمسلمين حقيقة أو ظاهرًا، أو حالة ما إذا أريد جعل غير المسلم حكمًا بمفرده، أما إذا كانت الغلبة لغير المسلمين حقيقة أو كان البادئ أن الغلبة سوف تكون لهم، فإن النفع الذي يجلبه التحكيم – في هذه الحالة أو تلك – قد يدعو إلى الاستجابة إليه، رعاية صالح المسلمين والحفاظ على دولتهم وإسلامهم، أما المخاطر التي قد يجلبها التحكيم، فليست أكثر سوءًا من إلزام المسلمين بدفع مال للكفار مقابل الصلح معهم، وهو ما نص الفقهاء على جوازه للضرورة (1) .

ومن ثم فقد نادى بعض من علمائنا المعاصرين بأن المصلحة قد تكون في أن يقبل المسلمون مبدأ التحكيم لإيقاف القتال لأسباب أخرى كالمحافظة على السلم ونشر الإسلام بالطرق السليمة أو لدفع ضرر عام، وأن اشتراك غير المسلم في هيئة التحكيم أصبح اليوم أمرًا لا بد منه، أن ذلك هو طبيعة التحكيم بالمعنى الصحيح، وذلك حتى يتبين كل فريق وجهات نظر الطرف الآخر، ويدافع عن قومه بكل ما أوتي من قوة وسعة عرفان، وبذلك نضمن قبول قرار التحكيم. (2) .

ومن ناحية أخرى، فإنه إذا كان من الجائز في شريعة الإسلام أن تتصالح الدولة الإسلامية مع غيرها، وتضع يدها في يد غير المسلم، وتبرم معه معاهدة تلتزم بالوفاء بها، بما ينطوي عليه ذلك من تنازل عن بعض الحقوق استجابة لطبيعة الصلح، فإن الالتجاء إلى التحكيم مع إشراف غير المسلم فيه مقيد للطرف الآخر، لا يجوز أن يمنع منعًا باتًّا، وإنما يترك أمر تقديره لولي الأمر – أو من ينيبه – يقبله أو يرفضه على ضوء مصلحة المسلمين ووضعهم الحربي والاجتماعي في العالم، ومدى ما لهم من قوة تمكنهم من فرض القيود التي تكبح جماح التحكيم حتى لا يأتي بما يضر المسلمين أو يتناقض مع الأحكام الآمرة في شريعتهم السماوية الغراء.

(1) بدائع الصنائع للكاساني ج 9 رقم 2325؛ المبسوط للسرخسي ج 10 ص 87 ح الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج 2 ص 206؛ مواهب الجليل ج 3 ص 286؛ المهذب ج 2 ص 277

(2)

الدكتور وهبة الزحيلي، آثار الحرب، ص 744

ص: 1763

وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية كيف نتعامل مع أعدائنا، فحين اعترض المشركون في كتابة عقد الصلح على وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام:(اللهم إنك تعلم أني رسولك، اكتب يا علي: محمد بن عبد الله) . . . ومثل ذلك فعل علي كرم الله وجهه في عقد التحكيم مع معاوية فجعل التحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية ولم يصف نفسه بما ينازعه فيه خصومه من أنه أمير المؤمنين.

51 – ثم إن اختلاف صور المنازعات الدولية، وتباين مظاهر الصراعات بين الدول في العصر الحديث، مع تعقد المصالح وتشابكها، يقتضي أن تكون الدولة واثقة كل الثقة في شخص ممثلها، وبالتالي فلا يتصور إلزامها بأن تختاره من أعدائها المسلمين، لا سيما وأن مجابهة الأحداث الدولية تستلزم خوض معارك شتى، قد تكون حربية أو سياسية دبلوماسية أو قانونية، ولكل معركة أساليبها، ومتطلباتها وفرسانها، والدول وإن كانت تنأى عادة عن الأساليب الحربية لعظم مخاطرها، وتفضل الوسائل السياسية والدبلوماسية، لمرونتها وإمكان السيطرة عليها وعلى نتائجها، فإنها كثيرًا ما تجد أن المخرج المناسب ينحصر في المجابهة القانونية التي تكون عادة عن طريق التحكيم الدولي أو القضاء الدولي، وهي تختار بينهما وفق ما تكشف عنه الموازنة – لديها – بين نتائجهما المحتملة في كل قضية، فحكم التحكيم الدولي أو حكم القضاء الدولي كلاهما ملزم لأطراف الخصومة، وكلاهما نهائي بحسب الأصل، ولكن حكم التحكيم لا وسيلة لتنفيذه إلا برضاء الدولة المحكوم عليها، وهي عادة تفعل ذلك، غير أنها إذا لم تفعل، فلا وسيلة لتنفيذ الحكم جبرًا لعدم وجود سلطة عليا تملك الاختصاص بتنفيذ الحكم بالقوة، وذلك بخلاف حكم القضاء الدولي الذي يوضع له – عن طريق المجتمع الدولي وتنظيماته التي ينتمي إليها فرع القضاء – من الجزاءات والضغوط ما يحمل الدول على تنفيذه.

52 – ومع ذلك فقد يكون للتحكيم فوائده التي تدفع إلى الالتجاء إليه دون القضاء الدولي؛ وذلك لأن التحكيم قد يلعب دورًا رئيسيًّا في حل المنازعات الدولية التي يكون من المناسب تسويتها بقرار تحكيم، يضع في اعتباره عناصر الواقع ولا يستند إلى الاعتبارات القانونية البحتة (1) .

(1) الدكتور مفيد محمود شهاب، المنظمات الدولية، الطبعة التاسعة سنة 1989، ص 339، 340.

ص: 1764

ولذلك فإن المجتمع الدولي – حاليًا – مع أخذه بنظام القضاء الدولي، فإنه يصر على بقاء التحكيم الدولي كوسيلة لإنهاء النزاع سلميًّا، وقد يبدو هنا المعنى جليًّا في إبقائه على اتفاقية التحكيم الدولي التي أبرمت عام 1899 وأنشأت ما أطلق عليه اسم (المحكمة الدائمة للتحكيم) والتي يمثلها مكتب في لاهاي به قلم كتاب وقائمة بأسماء عدد من الأعضاء الذين يمكن أن يختار من بينهم المحكمون الذين يعهد إليهم بالفصل في المنازعات التي يطلب من هذه الهيئة الإسهام في حسمها.

وقد سنحت فرصة التعرف على آراء المجتمع الدولي في أهمية التحكيم الدولي بصورة أكثر وضوحًا، حين اقترحت دولة الأرجنتين (1) عند إنشاء محكمة العدل الدولية أن تلغي محكمة التحكيم الدولية اكتفاء بمحكمة العدل، فقد أبى المجتمع الموافقة على هذا الاقتراح وتمسك ببقاء نظام التحكيم ونظام القضاء معًا، لتختار كل دولة ما تراه موائمًا للمنازعة الناشبة، دون أن تجبر على سلوك طريق منهما بعينه.

ذلك لأن السمة البارزة في المجتمع الدولي المعاصر هو عدم إلزام الدولة بطريق محدد تحسم به منازعاتها مع الآخرين سلميًّا، فهي حتى لو اختارت القضاء الدولي فإن اختيارها يجب أن ينبع من إراداتها، فليس في القضاء الدولي – في واقع الأمر – إجبار للدول على الالتجاء إليه، وما قد يقال في هذا الشأن من أن الالتجاء إلى القضاء الدولي قد يتصف بالإلزام، هو في حقيقته قائم على أساس قاعدة خلقها اتفاق سابق مؤسس على تقابل إرادة أطرافه، أعلنت به الدولة قبولها حسم المنازعات المحتملة أو القائمة قضاء، وبذلك يتميز القضاء الدولي عن القضاء الداخلي؛ إذ إن هذا القضاء الأخير لا يقوم فيه الاختصاص على الاتفاق، فالدولة هي التي تنظم العدالة وتفرض سلطة قضائية دائمة وملزمة، تتولى ترتيبها ووضع القواعد الكفيلة بتنفيذ ما تصدره من أحكام (2) .

(1) الدكتور مفيد محمود شهاب، المنظمات الدولية، الطبعة التاسعة سنة 1989 ص 339 – 340

(2)

الدكتور مفيد محمود شهاب، المنظمات الدولية، الطبعة التاسعة سنة 1989، ص 339، 340

ص: 1765

53-

وقد نتج الفرق بين القضاءين الداخلي والدولي في هذا الشأن بسبب التطورات العديدة التي لاحقت النظام القضائي الداخلي، بينما النظام القضائي الدولي ظل جامدًا في مكانه، ولم يتح له الوقت الكافي للتطور، فهو لم يظهر إلى الوجود بشكل واضح إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تنفيذها للمادة 14 من عهد عصبة الأمم، التي تضمنت النص على تكليف مجلس العصبة بإعداد مشروع محكمة دائمة للعدل الدولي، أعده، وعرضه على الجمعية العامة في 13 ديسمبر 1920 فوافقت عليه، وظل مطبقًا إلى أن تعثر إبان الحرب العالمية الثانية، حتى إذا ما انتهت هذه الحب بويلاتها وأوزارها، واجتمعت الدولة تحت علم الأمم المتحدة، استقر رأيها على وجوب استمرار القضاء الدولي، على أن تنشأ له محكمة جديدة تخلف المحكمة الدولية الدائمة للعدل، وتسمى محكمة العدل الدولية، ويكون نظامها الأساسي ملحقًا بميثاق الأمم المتحدة، وجزءًا لا يتجزأ منه، حتى تمتاز المحكمة الجديدة عن سابقتها التي لم تكن فرعًا من عصبة الأمم، وكان نظامها مستقلًا عن العصبة، وقد تم ذلك فعلًا في 19 إبريل سنة 1945.

وقد حافظ ميثاق الأمم المتحدة، كما حرص النظام الأساسي للمحكمة على بقاء الخصائص الرئيسية للقضاء الدولي – وفق ما كان يراه المجتمع الدولي وقتذاك – وهي الخصائص المتمثلة في أنه – بحسب الأصل – قضاء بين الدول، ذو ولاية اختيارية، وأحكامه ملزمة، يجوز تنفيذها جبرًا، بالطرق التي تتفق مع طبيعة العلاقات الدولية، وأن وجود هذه المحكمة الدولية لا يحول دون إنشاء محاكم دولية أخرى (المواد 93، 94، 95 من ميثاق الأمم المتحدة، والمادة 35 من النظام الأساسي)

ص: 1766

54 – وعند إنشاء جامعة الدول العربية كان المأمول أن يتضمن ميثاقها النص على إنشاء محكمة دولية عربية، تسهم في حل المنازعات التي تنشأ بين الدول العربية؛ ذلك لأنه وإن كان هذا الميثاق قد أعلن في 22 مارس سنة 1945، أي قبل ميثاق الأمم المتحدة، إلا أن المجتمع الدولي كان مستقرًّا وقتذاك على الترحيب بالقضاء الدولي، والقضاء الإقليمي لحل المنازعات الدولية.

ومع ذلك فقد اكتفى ميثاق الجامعة بأن عهد إلى مجلسها – في المادة الخامسة منه – بحل المنازعات سلميًّا، عن طريق الوساطة أو طريق التحكيم الذي يمكن أن ينتهي بحكم ملزم للطرفين إذا تم بناء على طلبهما، أما المحكمة العربية الدولية، فقد قنع الميثاق بالنص في المادة 19 منه علي أن قيام محكمة عدل عربية مسألة لها الأولوية عند بحث تعديل الميثاق.

وقد شرعت جامعة الدول العربية منذ الخمسينيات في دراسة أمر إنشاء محكمة دولية عربية، وأعدت مشروعًا بهذا الشأن ما زال يتردد بين أروقتها حتى الآن، وإن أعلن في شهر يناير من هذه السنة أن المنتظر أن يعرض المشروع في الاجتماع المقرر عقده في شهر مارس من هذا العام – (سنة 1994) – وقد عقد هذا الاجتماع وانفض ولم يقر المشروع.

55-

على أن الخطى إذا كان قد تعثرت في أروقة جامعة الدول العربية، فلم تصل إلى إنشاء محكمة دولية عربية، فإن الله سبحانه وتعالى بفضله، قد وفق منظمة المؤتمر الإسلامي في أن تدفع إلى الوجود بمشروع محكمة العدل الإسلامية الدولية، وكان ذلك ثقة من المؤتمر في أن وجود هيئة إسلامية قضائية في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي، من شأنه أن يعزز دور المنظمة ومكانتها، ويسهم في تحقيق أهدافها، وإيمانًا منه بأن تنقية الأجواء بين الدول الأعضاء في المنظمة هو ضرورة ملحة من أجل تمكينها من المواجهة المشتركة لكافة الأخطار والتحديات التي يواجهها العالم الإسلامي. (1) .

وقد حملت دولة الكويت مشكورة أمانة الدعوة إلى إنشاء هذه المحكمة الإسلامية، فاقترحت ذلك في القمة الإسلامية الثالثة التي انعقدت في مكة المكرمة والطائف عام 1981، حتى إذا كانت القمة الخامسة التي انعقدت في الكويت في يناير عام 1987، كان مشروع النظام الأساسي للمحكمة قد اكتمل إعداده، فوافق عليه المؤتمر، وعدل في المادة الثالثة من الميثاق بما يقضي باعتبار محكمة العدل الإسلامية الدولية من بين أجهزة منظمة المؤتمر الإسلامي وأن نظامها جزء لا يتجزأ من ميثاق هذه المنظمة.

(1) من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالثة رقم 11 / 2 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح دولة الكويت إنشاء المحكمة.

ص: 1767

56 – وقد احتفظ النظام الأساسي للمحكمة بالأصول التي استقر عليها المجتمع الدولي في تنظيم المحاكم الدولية، وإن كان ذلك لم يمنعه من تبني بعض القواعد التي تضفي على المحكمة الإسلامية طابعها الخاص.

فالمحكمة الإسلامية لا يتقاضى فيها غير الدول، وولايتها اختيارية، وأحكامها ملزمة لأطرافها، ويجوز تنفيذها جبرًا، مثلها في ذلك كله مثل محكمة العدل الدولية، لا تكاد تختلف عنها إلا في بعض التفصيلات، فهي مثلًا، لا تسمح لغير أعضاء المؤتمر بالتقاضي أو التدخل، إلا وفق شروط معينة، ينص النظام الأساسي على بعضها، ويكل فرض بعضها الآخر إلى مؤتمر وزراء الخارجية، ويجعل تطبيق ذلك وفق تقدير المحكمة (المادتان 21 / 23 من النظام الأساسي) ، وهذا بخلاف الأمر أمام محكمة العدل الدولية التي أجيز فيها لبعض الدول أن تكون أطرافًا في نظام المحكمة دون أن يكونوا أعضاء في الأمم المتحدة، هذا إلى جانب السماح لغير أعضاء الأمم المتحدة وأعضاء النظام الأساسي للمحكمة بأن يتقاضوا وفق شروط معينة (المادة 93، 94 من ميثاق الأمم المتحدة، والمادة 35 من النظام الأساسي للمحكمة)(1) . ومن ناحية أخرى فإن ولاية التنفيذ جبرًا عهد بها إلى مؤتمر وزراء الخارجية بدلًا من مجلس الأمن الذي يتولى ذلك بالنسبة لمحكمة العدل الدولية (المادة 38 / ج من النظام الأساسي للمحكمة الإسلامية، والمادة 94 / 2 من ميثاق الأمم المتحدة) .

أما عن الأمور التي تكشف عن الطابع المميز للمحكمة الإسلامية فيمكن إجمال أهمها فيما يأتي:

أولًا: إن المحكمة تقوم على أساس الشريعة الإسلامية (م1) ، وبذلك تختلف عن محكمة العدل الدولية التي تفصل في منازعاتها وفقًا لأحكام القانون الدولي (م 38 من النظام الأساسي) ، وإن أوجب نظامها هذا تمثيل المدنيات الكبرى والنظم القانونية الرئيسية، بما في ذلك الشريعة الإسلامية، كما تختلف عما ورد في مشروع المحكمة العربية من وجوب الحكم وفقًا لمبادئ ميثاق الجامعة العربية والقانون الدولي، وإن كان المشروع يعتمد أحكام الشريعة الإسلامية، ضمن ما يعتمده من قواعد (م 17) .

ثم إن المحكمة الإسلامية تشترط في قاضيها أن يكون مسلمًا، وهو شطر تنفرد به عن المحكمة الدولية والمحكمة العربية كلتيهما.

(1) في مشروع محكمة العدل العربية يقتصر حق التقاضي على الدول الأطراف في النظام الأساسي، ولا يسمح المشروع لغير أعضاء الجامعة بالتدخل (م 26 من المشروع) . راجع الدكتور عبد الله الأشعل، محكمة العدل الإسلامية الدولية، دار المعارف، ص 76 وما بعدها. وقد تضمن الكتاب دراسة ممتعة وإن كانت موجزة عن محكمة العدل الإسلامية الدولية مقارنة بأحكام مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية

ص: 1768

ولا تكفي المحكمة الإسلامية بأن يكون القاضي مسلمًا، وإنما تشترط أيضًا أن يكون ذا خبرة في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، فلا يجزئ عن خبرته في الشريعة أن يكون من الحائزين على المؤهلات المطلوبة للتعيين في أعلى المناصب القضائية، أو من المشهود لهم بالكفاءة في القانون الدولي، كما قنع بذلك نظام محكمة العدل الدولية (م 2) ومشروع محكمة العدل العربية (م 2 / 1) .

بل لقد بلغ حرص نظام المحكمة الإسلامية على تطبيق الشريعة الإسلامية، أن جعل قسم القاضي متضمنًا ذلك، فنص على أن القسم هو:(أقسم بالله العظيم أن أتقي الله وحده في أداء واجباتي، وأن أعمل بما تقتضي الشريعة الإسلامية وقواعد الدين الإسلامي الحنيف، دون محاباة، وأن التزم بأحكام هذا النظام وأحكام ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي)(م 9) بينما مشروع المحكمة العربية يقنع بأن يكون القسم هو: (أقسم بالله العظيم أن أؤدي واجبات وظيفتي بصدق وأمانة ونزاهة)(م7) .

ثانيًا: إن اللغة العربية – لغة القرآن المبين (كما أطلق عليها النظام الأساسي) - هي لغة المحكمة الأولى، وتشكل مع اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية اللغات الرسمية المعتمدة (م 28) ، على أن تعتبر هي المرجع عند الخلاف قياسًا على المادة الخمسين من نظام المحكمة.

ثالثًا: إن نظام المحكمة الإسلامية وإن كان قد منحها الحق في الإفتاء وإبداء الرأي الاستشاري بما لا يكاد يختلف عن نظام محكمة العدل الدولية (1) ، فإنه يلاحظ أن النظام الإسلامي منح محكمته الحق في ممارسة الوظائف الدبلوماسية والتحكيمية بصورة أكثر وضوحًا، فأجاز أن تقوم عن طريق لجنة من الشخصيات المرموقة أو عن طريق كبار المسؤولين في جهازها، بالوساطة أو التوفيق أو التحكيم في الخلافات التي تنشب بين عضوين أو أكثر من أعضاء المؤتمر الإسلامي، إذا أبدت الأطراف المتنازعة رغبتها في ذلك، أو طلب ذلك مؤتمر القمة الإسلامي أو المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية بتوافق الآراء (م 46) .

(1) من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالثة رقم 11 / 3 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح الكويت إنشاء المحكمة

ص: 1769

57 – هذه هي أهم العناصر التي تشكل الطابع المميز لمحكمة العدل الإسلامية الدولية، وهي وإن كانت تحتاج إلى تعزيز وتدعيم وتعميق، حتى تؤتي ثمارها المرجوة، فإنها – حتى بحالتها هذه – تمثل حافزًا قويًّا للدول الإسلامية يدفعها إلى الاستعانة بالمحكمة في حل المنازعات التي تثور بينهم، فهي بلا ريب تحقق – لدولتنا الإسلامية - طمأنينة أكبر مما تحققه محكمة العدل الدولية، لما يعتور تكوين هذه المحكمة الأخيرة من عيب عدم تمثيل مصالح دول العالم الثالث، ولما ران على بعض أحكامها من مناصرة للاتجاهات الاستعمارية، على نحو ما كشفت عنه بعض مراحل قضية جنوب غرب أفريقيا (1) .

هذا إلى جانب أن من يحمل راية العدل في المحكمة الإسلامية هم من شيوخ الأمة الإسلامية الذين تفقهوا في الشريعة، وعركوا قواعد القانون الدولي، ويتم انتقاؤهم، كما يتم عملهم، تحت بصر وزراء خارجية الدول أعضاء المنظمة جميعًا، سواء منهم من شارك في المحكمة أم لم يشارك فيها، ولهم من الضمانات ما يكفل لهم الاستقلال الكامل، والحيدة الخالصة، وما يوفر لهم من عناصر القوة والمنعة ما يجعلهم في المرتبة التي أرادها المؤتمر للمحكمة:(حكمًا وقاضيًا وفيصلًا فيما ينشأ بين الدول الإسلامية من خلافات)(2) .

ولا ريب أن ما توافر للمحكمة الإسلامية من عوامل، جدير بأن يسهم في دفعها إلى الطريق السوي، وأن يوفر مناخًا ملائمًا لازدهارها والإقبال عليها، بما لم يتوافر لمحكمة العدل الدولية، وكان لعدم توافره أثره في انصراف بعض الدول عنها، أو عزوفها عن قبول الاختصاص الإلزامي، أو ترددها في طلب رأيها الاستشاري، ولعل من أهم هذه العوامل ما يأتي:

أولًا: إن الأحكام الدولية في الشريعة الإسلامية تمتاز بالمرونة التي تسمح للاجتهاد أن يستنبط منها ما يوائم الأعراف الدولية الحالية، أو يقوم اعوجاجها على هدي قواعد المصالح المرسلة، أو العرف، وبذلك لا تتقيد يد المحكمة الإسلامية بالإسار الذي قيد محكمة العدل الدولية، بسبب جمود نظامها الذي نقل حرفيًّا من النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل الذي وضع عام 1920، والذي كان قد نقل – بدوره – من مشروع إنشاء محكمة تحكيم قضائية، قدم إلى مؤتمر لاهاي الثاني عام 1907، مما كان له أثره في تجاهل التطورات العديدة التي لحقت بالمجتمع الدولي منذ أوائل القرن الحالي (3) .

(1) الدكتور جعفر عبد السلام، المنظمات الدولية، الطبعة السادسة، الصفحات من 455 إلى 462

(2)

من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالث رقم 11 / 3 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح الكويت إنشاء المحكمة

(3)

من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالث رقم 11 / 3 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح الكويت إنشاء المحكمة

ص: 1770

ثانيًا: إن وجود الرابطة الوثيقة التي تربط دول وشعوب المؤتمر الإسلامي الذي شمل أهم الدول الإسلامية إن لم يكن الغالب الأعم منها، يدفع عن المحكمة الإسلامية ما حاق بمحكمة العدل الدولية، بسبب عدم تمثيل كثير من الدول في محكمتها، مما أدى – بالتالي – إلى نزوع هذه الدول إلى عدم عرض منازعاتها على المحكمة الدولية أو قبول الاختصاص الإلزامي لها (1) .

ثالثًا: إن تدعيم نظام المحكمة الإسلامية لوظائفها المتصلة بإنهاء المنازعات عن طريق التحكيم أو الوساطة، من شأنه أن يشجع الأطراف على الالتجاء إلى المحكمة، لما تتمتع به القرارات السياسية من مرونة، ولما قد تسمح به قرارات التحكيم من وقت أطول قبل التنفيذ، كل ذلك مع الاطمئنان إلى عدالة القرار بوصفه مستنبطًا من الشريعة الإسلامية التي تسيطر على المحكمة كلها، وتلتزم بها حتى ولو لم يوجد نص صريح يلزمها بذلك في التحكيم أو الوساطة.

رابعًا: إن لدى الشعوب غصة تنتابها عند التجاء دولها الإسلامية إلى محاكم دولية خشية تستغل الدول الأقوى نفوذها، أو تقضي المحكمة بما يخالف الشريعة الإسلامية.

58 – وإذا كان الالتجاء إلى المحاكم الدولية قد تدفع إلى الظروف القاسية، أو يجد من يبرره إذا كان النزاع بين المسلمين وغيرهم، فإن النزاع بين المسلمين بعضهم البعض لا يجد أي مبرر مقبول للاحتكام إلى غير المسلمين في المحاكم الدولية، وليس فيما قرأنا من الفقه الإسلامي ما يعصم مثل هذا التقاضي من البطلان، ولا فيما يضعه في وصف الأحكام الواجبة الاحترام.

ومن ثم فإن إنشاء محكمة إسلامية يتوافر لها القضاة المسلمون الثقات العدول الخبراء بالشريعة، والخبراء كذلك بالقانون الدولي، من شأنه أن يرضى عنه الله العلي القدير، وأن تسعد به الشعوب المسلمة، دون أن يفتأت على أحد، حتى من غير المسلمين حين يرضون بالاحتكام إليها؛ ذلك لأن شريعة الله ليس فيها ما يخالف قواعد العدالة والإنصاف التي نص نظام محكمة العدل الدولية على جواز الفصل في النزاع على هديها، بما يتيح لهذه المحكمة أن تستبعد قاعدة قانونية وضعية لتطبق – بدلًا منها – ما تقضي به الأصول المنطقية التي تتفق مع العدالة (2) .

(1) من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالث رقم 11 / 3 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح الكويت إنشاء المحكمة

(2)

من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالث رقم 11 / 3 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح الكويت إنشاء المحكمة

ص: 1771

ولذلك فإنه لم يكن غريبًا أن ينص النظام الأساسي للمحكمة الإسلامية – بجانب الاعتراف للشريعة الإسلامية بأنها هي المصدر الأساسي الذي تستند إليه المحكمة في أحكامها، على أن تسترشد المحكمة – مع ذلك – بالقانون الدولي والاتفاقات الدولية الثنائية أو متعددة الأطراف أو العرف الدولي المعمول به أو المبادئ العامة للقانون أو الأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية أو مذاهب كبار فقهاء القانون الدولي في مختلف الدول (م21) .

فدخول هذه المصادر القانونية بوتقة المصدر الأساسي – وهو الشريعة – سوف يفرز قواعد عادلة ملائمة تتطور مع تطور الحياة الدولية وتتمشى مع محدثات العلاقات الدولية المتجددة.

59-

على أن إنصاف الشريعة الإسلامية لتأخذ مكانها المرموق على قمة القواعد الدولية التي تحكم القضاء والتحكيم الدوليين، يقتضي من الدول الإسلامية، ومن منظمة المؤتمر الإسلامي – على وجه الخصوص – أن تسعى إلى بلورة قواعد الشريعة الغراء لتكشف عن جوهرها، وتبين قدرتها على تنظيم المجتمعات على اختلاف ظروفها وتنوع تطورها.

وقد يدفعنا هذا إلى أن نناشد مجمع الفقه الإسلامي، أن يضع في خططه القريبة الاهتمام بصورة أوسع بأسلمة قواعد القانون الدولي، بدراسات فقهية متخصصة، تضبط هذه القواعد على الوجهة الشرعية، وتنزل حكم الله على ما أحدثته المجتمعات الدولية من علاقات، وما نشأ بينها من منازعات لم تعرض لفقهائنا الأوائل، وتحتاج إلى اجتهاد جماعي، يعززه العلم، بمختلف فروعه، وتظلله التقوى، ويحيط به الإيمان بأن الخالق أدرى بصالح خلقه، وأقدر على بيان ما ينفعه، وصدق الله العلي القدير حيث يقول:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] .

والله من وراء القصد وهو نعم المولى ونعم النصير

والحمد لله رب العالمين

ص: 1772

خلاصة البحث

يرجع تزايد الاهتمام البالغ بالتحكيم، إلى أنه يحقق ما لا يستطيع القضاء الرسمي أن يحققه، من حسم سريع، وخبرة متخصصة، مع الحفاظ على أسرار المتخاصمين، والعمل على سرعة تنفيذ ما يحكم به.

وقد رحب الإسلام بالتحكيم ونظمه، بما يعتبر بحق تنظيمًا رائدًا للبشرية، كما اهتمت به الدول الإسلامية في العصر الحديث وأولته عناية خاصة ، وأفردته بتنظيم مستقل، وصدقت على معظم المعاهدات والاتفاقيات الدولية المتعلقة به، فضلًا عن إنشاء مراكز إقليمية دائمة على أرضها، اشترط – في بعضها – أن تكون الشريعة الإسلامية – وحدها – هي القانون الواجب التطبيق.

وللتحكيم من اسمه نصيب في معناه شرعًا، فهو في الاصطلاح: اتفاق بين أطراف الخصومة، على تولية من يفصل في منازعة بينهما، بحكم ملزم، يطبق شرع الله، ومن ثم فهو يختلف عن الصلح الذي يتولاه الخصوم بأنفسهم أو بمن يمثلونهم، ويتم عن طريق نزول كل منهم عن بعض ما يتمسك به، كما يختلف عن الفتيا في أنه يقوم على تمحيص الواقعة، ولا يكون إلا في خصومة وأنه ملزم للطرفين، ويختلف عن القضاء في أن المصدر المباشر للسلطة فيه هو رضاء الطرفين لا تولية ولي الأمر، وإن هذا الرضاء هو الذي يمنح الأطراف الحق في تحديد نطاق الخصومة، وفي تقييدها بما يشاؤون من حيث الزمان أو المكان أو غير ذلك، كما يمنحهم الحق في عزل المتحكم إليه، ومنعه من مباشرة التحكيم، إذا كان لم يشرع فيه بعد.

والاعتراف لإرادة الطرفين بالسلطة المشار إليها في نطاق التحكيم، يجب أن يستند إلى دليل شرعي، إذ أن هذه السلطة – في حقيقة الأمر – تنتقص من ولاية القضاء، بعزل بعض لخصومات عن اختصاصه، وإلزام الدولة بالإسهام في التنفيذ جبرًا لأحكام صادرة عمن لا تنبثق سلطته من سلطتها، ولا تتفرع ولايته من أي ولاية عامة من ولاياتها.

ص: 1773

وما سبق في الفقه الإسلامي من أدلة على مشروعية التحكيم كثير، إلا أن بعضه يتطرق الاحتمال إلى دلالته، وبعضه الآخر قد يتصرف إلى نوع من التحكيم غير التحكيم الرضائي الذي نعنيه بالدراسة، ومع ذلك فهناك من الأحاديث الشريفة، القولية والفعلية ما يكفي للبرهنة على هذه المشروعية، ومن ذلك حديث أبي شريح الذي استحسن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم نظام التحكيم الرضائي، وحديث تحكيم سعد بن معاذ في يهود بني قريظة، وحديث تحكيم الأعور بن بشامة في بني العنبر حين انتهبوا مال الزكاة، ففي كلتا الواقعتين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم النزول على التحكيم، ونفذ ما قضى به المتحكم إليه، هذا إلى جانب الوقائع العديدة التي نقلت إلينا بطرق موثوقة، وتقطع بتطبيق الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، لنظام التحكيم الرضائي في عهد الخلفاء الراشدين، ومن ذلك واقعة التحكيم بين شيعة علي وشيعة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، والتي حملت إلينا ما يشبه إجماع الصحابة في العصر الذي وقعت فيه على مشروعية التحكيم من حيث المبدأ على أقل القليل.

وقيام التحكيم على الرضائية يستلزم أن تكون إرادة الطرفين واضحة الدلالة عليه طبقًا للقواعد العامة في الفقه الإسلامي التي تحكم الإيجاب والقبول وتطابق الإرادتين، وليس- بعد ذلك- بذي أثر أن يكون الاتفاق سابقًا على قيام المنازعة أو لاحقًا عليه، فالفقه يسع هذا وذلك، ولا يتجافى مع التسميات التي يطلقها رجال القانون على كل منها، وإنما يجب أن يكون التحكيم في خصومة شرعية لا صورية، وأن يتوافر للمحتكمين أهلية التعاقد على التحكيم، وهي أهلية التصرف، وذلك كله حتى يجري التحكيم في النطاق الذي حدداه، فلا يتجاوزه، ولو إلى مسألة أولية لازمة للفصل، ويجري في مواجهة من رضي به، فلا يسري على غائب لم يرض به، ولو كان ما يدعى به عليه سببًا لما يدعى به على الحاضر، وهذا ما لم يشهد العرف بأن الغائب يعد راضيًا بالتحكيم وذلك في النطاق الضيق الذي طبقه الأحناف على الشريك الغائب عن احتكام شريكه مع غريمهما.

ص: 1774

وقد وضع المشرع حدودًا لإرادة الطرفين، فلم يجز لها- مثلًا- أن تتدخل في تحديد القانون الواجب التطبيق، وإن أجاز لها في حدود معينة – أن تلزم المحتكم إليه بأن يقضي بينهما على مقتضى مذهب معين يحددانه.

وفيما يختص بموضوع التحكيم، فلم يجز المشرع- في رأي الجمهور- التحكيم في الحدود والقصاص واللعان، أما فيما عدا ذلك فقد اختلف فيه الفقهاء، ووضع له المالكية معيارًا مقبولًا قوامه منع التحكيم في كل ما هو حق الله تعالى، وما استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه من غير المتحاكمين ممن لا ولاية للحكم عليهم، وما اقتضى عظم قدره وخطره أن يعهد به إلى القضاء المولى دون غيره.

وقد اختار بنظام التحكيم السعودي- في هذا الشأن – أن يمنع التحكيم فيما لا يجوز الصلح فيه، كالحدود واللعان وكل ما يتعلق بالنظام العام، بينما اختارت النظم في بعض البلاد الإسلامية الأخرى (كالمغرب، والجزائر، وتونس) أن تنص على الموضوعات المحظورة على سبيل الحصر.

فإذا قضى المحتكم إليه في موضوع لا يجوز التحكيم فيه، فالجمهور يرون عدم تنفيذ حكمه، بينما يرى المالكية أن حكمه يمضي إن كان صوابًا، أما إذا كان خطأ وترتب عليها إتلاف عضو، فالدية على عاقلته، وإن ترتب عليه إتلاف مال كان الضمان عليه في ماله.

وفيما عدا ما أقامه المشرع من حدود لإرادة المتحاكمين، فإن التحكيم يولد آثاره على النحو الذي ارتضياه، ومن ذلك أثره السلبي المتمثل في قبول عدم الاحتكام إلى القضاء، وذلك من وجهة نظرنا إذا كان التحكيم ممكنًا وأثره الإيجابي في فض الخصومة على يد المحتكم إليه بما يصدره من حكم ملزم لهما، وذلك ما لم يرجع المحتكمون عن التحكيم، فذلك حق لهما اتفق الأئمة على جوازه ما دام المحتكم إليه لم يشرع في التحكيم بعد، واختلفوا فيما عدا ذلك، ورأي الجمهور أنه لا يجوز لهما الرجوع إذا شرع في التحكيم أو أصدر حكمه فعلًا.

ص: 1775

ولتحديد شخصية المحتكم إليه أهمية كبرى في التحكيم الرضائي، إذ ذلك هو مبنى الثقة فيه وفي قدرته، ولذلك فإنه يجب أن يعينه أطراف الخصومة باسمه أو بصفته، فإذا لم يعيناه وأصرا على التحكيم، جاز لأيهما رفع الأمر إلى القاضي المولى، ليقوم بهذا التعيين على ضوء ما اتفاق عليه أو على هدي ما ينص عليه نظام التحكيم الذي يستظلان به، وليس في هذا افتئات على إرادة الطرفين، وإنما هو من باب الوفاء بالعقود، وإعمال لوظيفة القضاء في حسم ما ينشأ بين الناس من منازعات دون تقييد بأنواع معينة منها، وقد أخذ بهذا نظام التحكيم السعودي في المادة العاشرة منه.

وليس في الفقه الإسلامي ما يوجب أن يكون الحكم فردًا، أو متعددًا، ولا ما يوجب في حالة التعدد أن يكون العدد وترًا، وإنما الأصل فيه أن يكون الحكم – في حالة التعدد – بالإجماع؛ لأن المتحكمين إنما رضوا برأي الحكام جميعهم، لا برأي أغلبهم، فإذا أريد اعتماد رأي الأغلبية فلا بد من إذنهم بذلك، أو وجود نص في نظام التحكيم الذي يظلهم على نحو ما جنح إليه التحكيم السعودي.

واختيار المحتكم إليه بإرادة الطرفين وبناء على ثقتهما فيه ليحكم بينهما، من شأنه أن يعلي عوامل الثقة على عوامل الكفاءة، فيؤدي ذلك إلى الترخص في شروطه بالمقارنة بشروط القاضي المولى، وذلك ما لم يصطدم هذا الترخص بالنص كشرط الإسلام، أو يتعارض مع العقل كشرط العقل والتمييز، إذ لا ولاية للمجنون ولا للصبي غير المميز على أنفسهما، حتى تكون لهما ولاية على غيرهما، أما ما عدا ذلك من الشروط التي تشترط في القاضي المولى، فإن في خلاف الفقهاء سعة في التطبيق، فيجوز مثلًا اعتماد حكومة الفاسق، أو الجاهل الذي يستشير، أو المرأة، أو الأعمى، ونحو ذلك، ما دام الطرفان يعلمان هذا العوار ويرضيان بالتحكيم مع وجوده، وتطبيقًا لهذا فقد اختار النظام السعودي عدم جواز رد المحكم إلا لأسباب تحدث أو تظهر بعد إيداع وثيقة التحكيم.

ص: 1776

وإذا كان التحكيم عقدًا غير لازم بالنسبة لطرفيه فإنه – أيضًا – غير لازم بالنسبة للمحتكم إليه، فيجوز له أن لا يقبله، وإذا قبله يجوز له أن يعزل نفسه عنه، ولكن لا يجوز له أن يستخلف غيره إلا إذا أذن له بذلك؛ لأن الرضاء منصب على شخصه.

ذلكم هو التحكيم في الفقه الإسلامي، بإطلاقاته وقيوده، وعلينا أن نتأمل فيه، وأن نتدبر فيما وراءه، فقد علمنا الإسلام ذلك وعاب على من يمر بآياته مرور الكرام فقال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] .

فالتحكيم – في نظرنا – ليس مجرد وسيلة لحل المنازعات سلميًّا، وإنما هو منفذ هائل للاستجابة إلى حاجات غير المسلمين في دار السلام، وحاجات المسلمين خارجها، وحاجات الدولة ذاتها في علاقاتها مع الأمم والشعوب، وذلك كله بما لا يخرج على أحكام الشريعة الإسلامية، بل وبما يسهم – بجدية فريدة – في تطبيق شرع الله حين تقف العقبات المصطنعة في طريقه.

فأولًا: بالنسبة لغير المسلمين في داخل الدولة الإسلامية، فإن نظام التحكيم يسمح لهم بالاحتكام إلى غير المسلمين في الأمور التي أمرنا أن نتركهم وما يدينون، ويؤيد ذلك ما يراه الأحناف في هذا الشأن، وما استدلوا به من أدلة عقلية مقبولة، وما تمليه طبيعة التحكيم من خصائص أهمها: أن غير المسلمين إذ تحاكموا إلى حكام من أهل دينهم، فإنهم يلتزمون بما يحكمون به لالتزامهم له، وليس لأنه لازم من الأصل، ولأن القضاء المولى يمثل صمام الأمان الذي يحول دون الإجبار على تنفيذ حكم تحكيم لا يتفق مع الشرع؛ ولأن في السماح لمحكم غير مسلم بمن يتولى منازعات غير المسلمين، جمع بين مقتضى قاعدة عدم ترك خصومة بلا قاض في الإسلام، وبين حق القاضي في الإعراض عن خصومة غير المسلمين في الحالات التي يراها المالكية وغيرهم من فقهاء المذاهب.

ص: 1777

وثانيًا: بالنسبة لمنازعات المسلمين خارج دولة الإسلام، فإن أغلب دول العالم تسمح حاليًا بقيام التحكيم في مثلها، فإذا تنبه المسلمون إلى الاستفادة من ذلك، فإنهم قد يتجنبون مغبة تطبيق القانون الوطني عليهم فيما يتعارض مع أحكام الشريعة الغراء، كالإلزام بنتائج الأخذ بنظام التبني، أو بعض القواعد المتصلة بالزواج والطلاق التي تخالف شرع الله.

وليس في الأمر صعوبة تستعصي، فأغلب بلاد العالم لا يتطلب سوى احترام النظام العام – في بلدها – والتقيد بالنسبة للتحكيم ببعض الشروط، كاشتراط الكتابة للانعقاد أو للإثبات، وضرورة اعتماد شرط التحكيم أو مشارطته، ووجوب أن يكون الموضوع هو ما يجوز فيه الصلح، وألا يكون مما احتجره القانون الوطني ليحكم فيه القضاء الرسمي دون غيره، ونحو ذلك من الشروط التي تسمح مرونة الشريعة بكثير منها.

فإذا كانت الدول من تلك الأنظمة العنصرية التي لا تقبل اشتراط أن يكون المحتكم إليه مسلمًا، فيمكن – مثلًا – الاستغناء عن النص على ذلك في النظام الأساسي للمؤسسة التحكيمية التي تنشأ، بالاكتفاء بمراعاة أن لا تحوي قائمة المحكمين إلا من هو عالم بالفقه الإسلامي، فإذا اضطر القائمون على هذه المؤسسة إلى عدم التقيد بذلك، فإن في استطاعة المحتكمين – وهم مسلمون – أن يختاروا من يصلح لتطبيق دينهم من أفراد القائمة التي تحوي مسلمين وغير مسلمين، كما أنه قد يكون في اختيار نظام (التحكيم بالصلح) مهرب في البلاد التي تحقد على المسلمين وعلى شريعتهم، وتأبى أن ينص في النظام الأساسي لمؤسسة التحكيم الخاصة بهم على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية دون غيرها، فإذا ضاقت الأمور أكثر، فقد يتاح للمسلمين الالتجاء إلى نظام التحكيم الحر، واختيار بلد إسلامي يسمح النظام المطبق فيه باعتماد التحكيم الأجنبي الذي يجري على غير إقليمه، وقد يساعد في ذلك أن أغلب الدول الإسلامية قد صادقت على الاتفاقيات والمواثيق الدولية الخاصة بالتحكيم الأجنبي، ومنها اتفاقية الاعتراف بأحكام المحكمين الأجنبية وتنفيذها التي أقرتها الأمم المتحدة في سنة 1958.

ص: 1778

وثالثًا: بالنسبة للمنازعات الدولية، فإنه مع ترحيب الإسلام بالتحكيم الرضائي فيها، فإنه قد يسهم في تدعيم هذا الترحيب واستثماره، أن نأخذ برأي من يسمح بأن يمثل الجانب غير المسلم، ممثل غير المسلم، تقديرًا للمصالح التي تقتضي ذلك، والتي يقرها الشرع في مواضع أخرى، وتلابس الحكم على هذا التحكيم، وذلك كله على نحو ما ينادي به بعض فقهائنا المعاصرين من أن اشتراك غير المسلم في هيئة التحكيم بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول أصبح أمرًا لا مفر منه، حتى يطمئن كل طرف إلى أن ممثله سوف ينقل وجهة نظره ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة في البيان والبرهان.

وجدير بالذكر أنه لا يقلل من الأهمية الدولية لنظام التحكيم الدولي، ما نشأ خلال القرن الحالي من نظام للقضاء الدولي تمثل – أساسًا – في (المحكمة الدائمة للعدل الدولي) إبان عصبة الأمم، (ومحكمة العدل الدولية) في عصر الأمم المتحدة، فكلا النظامين له دوره بما لا يغني عن الآخر، وقد تشبث بهما – معًا – المجتمع الدولي في مناسبات متعددة.

وقد حاولت جامعة الدول العربية أن تنشئ محكمة دولية عربية ووضعت لذلك مشروعًا تداولته في أروقتها، إلا أن لم يكتب له الاعتماد حتى الآن، أما المؤتمر الإسلامي فقد حالفه توفيق الله، وأنشأ محكمة عدل إسلامية دولية، حملت دولة الكويت مشكورة أمانة الدعوة إليها، فاقترحت ذلك في القمة الإسلامية الثالثة التي انعقدت في مكة المكرمة والطائف عام 1981، حتى إذا كانت القمة الخامسة التي انعقدت في الكويت في يناير سنة 1987، كان مشروع النظام الأساسي للمحكمة قد اكتمل إعداده، فوافق عليه المؤتمر، وعدل المادة الثالثة من الميثاق بما يقتضي اعتبار (محكمة العدل الإسلامية الدولية) من أجهزة منظمة المؤتمر، ونظامها جزء لا يتجزأ من ميثاقه.

ص: 1779

ومع احتفاظ النظام الأساسي للمحكمة بالأصول التي استقر عليها المجتمع الدولي في تنظيم المحاكم الدولية، فإنه خص المحكمة الإسلامية – في الوقت ذاته – بأمور تكشف عن طابعها المميز، كقيامها على الشريعة الإسلامية نصًّا وروحًا، واعتبارها اللغة العربية هي اللغة الأولى، وتعزيز سلطتها في الوظيفة الدبلوماسية والتحكيمية؛ ليجوز لها أن تقوم – عن طريق لجنة من الشخصيات المرموقة أو عن طريق كبار المسؤولين في جهازها – بالوساطة أو التوفيق أو التحكيم في الخلافات التي تنشب بين عضوين أو أكثر من أعضاء المؤتمر الإسلامي، إذا أبدت الأطراف المتنازعة رغبتها في ذلك أو طلب ذلك مؤتمر القمة الإسلامي أو المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية بتوافق الآراء.

ولا ريب أن ما توافر للمحكمة الإسلامية الدولية وما سوف يتوافر لها بعون الله من عوامل، جدير بأن يسهم في دفعها إلى الطريق السوي، وأن يوفر لها مناخًا ملائمًا لازدهارها والإقبال عليها، بما لم يتوافر لمحكمة العدل الدولية، وبما يقطع كل الحجج التي تساق لتبرير الاحتكام إلى محاكم غير إسلامية في منازعات الدول الإسلامية، لا سيما ونظام هذه المحكمة يستلزم انتقاء شيوخ ثقات خبراء في الشريعة وفي القانون الدولي، لهم من صفاتهم الشخصية والعلمية والإيمانية ما يسمح للطمأنينة أن تسكن جنباتنا، وقد طالبهم النظام أن يضعوا في بوقتة الشريعة الإسلامية، أحكام القانون الدولي، والاتفاقيات الدولية الثنائية والمتعددة الأطراف والعرف الدولي المعمول به والمبادئ العامة للقانون والأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية ومذاهب كبار فقهاء القانون الدولي في مختلف الدول.

على أن إنصاف الشريعة الإسلامية لتأخذ مكانها على قمة القواعد الدولية التي تحكم القضاء والتحكيم الدوليين، يقتضي من الدول الإسلامية ومن منظمة المؤتمر الإسلامي - على وجه الخصوص – أن تسعى إلى بلورة قواعد الشريعة الغراء لتكشف عن جوهرها الأصيل، وتجلو قدرتها على تنظيم المجتمعات على اختلاف ظروفها وتنوع تطورها.

وقد يدفعنا هذا إلى أن نناشد مجمع الفقه الإسلامي أن يضع في خططه القريبة الاهتمام – بصورة أوسع – بأسلمة قواعد القانون الدولي، بدراسات فقهية متخصصة تضبط هذه القواعد على الوجهة الشرعية، وتنزل حكم الله على ما أحدثته المجتمعات الدولية من علاقات وما نشأ بينها من منازعات لم تعرض لفقهائنا الأوائل ويحتاج إلى اجتهاد جماعي يعززه العلم وتظلله التقوى ويحيط به الإيمان، كسائر عهدنا بما يقوم به هذا المجمع، وما يقدمه من ثراء فقهي مرموق.

والله ولي التوفيق

المستشار محمد بدر يوسف المنياوي

ص: 1780

مبدأ التحيكم

في الفقه الإسلامي

إعداد الدكتور عبد الله محمد عبد الله

المستشار بوزارة العدل – الكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم أجمعين، وبعد

فإن موضوع التحكيم في الفقه الإسلامي موضوع جدير بالدراسة إن الكتابة فيه قليلة وإن الباحثين من الفقهاء الشرعيين لم يولوه الاهتمام الذي يستحقه مع شدة الحاجة إليه، فقد صار التحكيم اليوم هو السبيل الفعال والقوي الذي يلجأ إليه المتعاقدون كلما حزبهم أمر في شأن تفسير نصوص العقود التي يعقدونها بينهم أو في تنفيذ هذه العقود، بحيث لا يكاد يخلو عقد من اتفاق ينص عليه، ولم يقف الأمر عند الاتفاقات التي يعقدها مواطنون من بلد واحد، بل أخذ الاهتمام به يتزايد في مجال العلاقات التجارية الدولية، فقد تشابكت المصالح وبات العالم يشكل كيانًا واحدًا متصلًا بعضه ببعض، وأمام التقدم الكبير في عناصر الإنتاج ووسائل النقل والاتصال وارتباط المصالح والمعاملات، فقد اهتمت المنظمات الدولية بشأن التجارة الدولية ورأوا وضع قانون شامل أو ميثاق لأصول التجارة الدولية يحقق احترام مبدأ الحرية التجارية.

ويقود العلاقات الاقتصادية الدولية الآن تيار قوي يدعو إلى جعل التحكيم الوسيلة المثلى في حل المنازعات التي تنجم عن روابطها وعقودها، خاصة تلك التي تتعلق ببيع البضائع وتسليمها، وعقود الترخيص بصنع منتجات واستغلال براءات الاختراع ومقاولات وإنشاء المصانع في بلاد أخرى، ومقاولات الأشغال الكبرى كإقامة الموانئ والمطارات والطرق وغيرها – ولهذا نادرًا ما يخلو عقد من هذه العقود على شرط التحكيم – ولهذا يقولون: إن التحكيم أضحى الطريق المعتاد لنظر منازعات التجارة الدولية (1)

ولا أدل على أهمية التحكيم من هذه القضايا التي رفعتها بعض الدول العربية والإسلامية التي ارتبطت بعقود مع بعض الدول الأجنبية ولجوئها إلى التحكيم في حل نزاعاتها معها وهذا غيض من فيض من هذه النزاعات:

1-

قضية الهيئة العربية للتصنيع، وأطرافها: بريطانيا – مصر، السعودية، الإمارات، قطر.

2 – قضية بين فرنسا وتونس وموضوعها: اتفقت شركة تونسية مع شركة فرنسية على إقامة مصنع للطوب في تونس بمعدات توردها الشركة الفرنسية وقد أدخلت عدة تعديلات إلى أن اتفق على شرط التحكيم ينص على تسوية ودية في المنازعات بين الطرفين.

(1) دراسة في قانون التجارة الدولية د. ثروت حبيب؛ منصة التحكيم التجارية الدولية د. محيي الدين؛ علم الدين أحكام المحكمين وتنفيذها. يعقوب صرخوة.

ص: 1781

3-

صفقات من السجاد الشرقي بين بلجيكا وباكستان.

4-

عقد تشييد وإدارة مصنع بين إنجلترا وسلطنة عمان.

5-

قضية بين نيجيريا وسويسرا بشأن أسس تحديد أتعاب المحاماة.

6-

توقيع عقد بين فرنسا والمملكة العربية السعودية بشأن وكيل لتوزيع منتجات الشركات الفرنسية في السعودية.

7-

إنشاء محطة أرضية للأقمار الصناعية بين الكاميرون والولايات المتحدة الأمريكية.

8-

تحكيم بين ألمانيا واليمن حول تحريم الفوائد في الشريعة الإسلامية وقد تم اتفاق في صنعاء بين إحدى الجهات الحكومية في اليمن وبين شركة ألمانية غربية لإدارة وتقديم خدمات مشروع لتربية الماشية.

9-

إنشاء مستشفى تعليمي للطب بين ألمانيا وبلجيكا ودولة خليجية (1) .

هذا قليل من كثير من الروابط والعلاقات التجارية وعقود المعاملات التي تم عرضها على التحكيم والتي أحد أطراف النزاع فيها دولة عربية أو إسلامية مع دولة أو دول أجنبية غير إسلامية.

ولعلنا ندرك من ذلك أهمية موضوع التحكيم، وقد أحسن المجمع الفقهي صنعًا بطرحه هذا الموضوع للكتابة والمناقشة توصلًا إلى قرار بشأنه.

ولا شك أن الموضوع المطروح من القائمين على أمر المجمع أوسع من هذا الذي تكلمنا عنه، بل يعتبر هذا جزءًا من الموضوع يتعلق بشقه الخاص بالمعاملات، أما الشق الآخر والذي يمس جوهر العلاقات الدولية على مستوى السلم والحرب فإن بحثه من أهم ما ينبغي أن توجه نحوه الجهود والبحوث.

وقد حاولت استيفاء الكلام على العناصر التي طلب الكلام عليها، وبذلت جهدي في استنباط الحل من الوقائع والحوادث التي قد تعين على استجلاء حكم منها يمكن تطبيقه على مستجدات العصر، حيث تتشابه عناصرها ولا تتباين إلا فيما لا يمس جوهر المسألة، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب وتلك محاولتي فإذا كنت قد أصبت فذلك الفضل من الله وإن كانت الأخرى فإنما هي نفسي القاصرة وأستغفر الله.

(1) منصة التحكيم التجاري الدولي

ص: 1782

أولًا – معنى التحكيم

التعريف:

مادة حكم وردت في القرآن الحكيم بمعنى: يقضي ويفصل في الأمر قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] ضمنت معنى يفعل (1) .

وقد تكررت هذه اللفظة بصيغ مختلفة ووردت بصيغة يحكموك في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] .

وجاء في سبب نزولها ما ذكره القرطبي عن مجاهد وغيره أن المراد من هذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60]، قال القرطبي:روي يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ودعا المنافق اليهودي إلى حاكمهم؛ لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم، فلما اختلفا اجتمعا على أن يحكما كاهنًا في جهينة فأنزل الله الآية، وذهبت جماعة إلى أنها نزلت في الزبير مع الأنصاري وكانت الخصومة في سقي بستان والقصة ذكرها القرطبي بطولها وسندها حديث ثابت صحيح رواه البخاري (2) كما وردت بصيغة يحكمونك في قوله تعالى:{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43] .

وجاء في أساس البلاغة: حكموه جعلوه حكمًا، وفي الحديث (إن الجنة للمحكمين) وهم الذين حكموا في القتل والإسلام فاختاروا الثبات على الإسلام (3) .

وحاكمته إلى القاضي رافعته، وتحاكمتا إليه واحتكمتا.

وهو يتولى الحكومات والخصومات.

(1) معجم ألفاظ القرآن الكريم المجلد الأول مادة حكم، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ط 2 1390 هـ 1970 م.

(2)

الجامع لأحكام القرآن ج 5 / 262.

(3)

الحديث في النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ج 1 / 418، 419

ص: 1783

والحكم والحكيم هما بمعنى الحاكم وهو القاضي، والحكيم فعيل بمعنى فاعل أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو بمعنى مفعل.

ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم (1) .

ومن المجاز: حكمت السفيه تحكيمًا وأحكمته إحكامًا إذا أخذت على يده، وبه سمى الحاكم؛ لأنه يمنع الظالم.

وعن النخعي: حكم اليتيم كما تحكم ولدك أي: امنعه من الفساد كما تمنع ولدك، أو بمعنى: حكمه في ماله إذا صلح كما تحكم ولدك (2) .

قال الماوردي: وفيما أخذ منه الحكم وجهان: أحدهما أنه مأخوذ من الحكمة التي توجب وضع الشيء في موضعه. والثاني: أنه مأخوذ من إحكام الشيء لما فيه من الإلزام (3) .

وأما في الاصطلاح: فهو لا يخرج عن المعنى اللغوي.

قال ابن نجيم الحنفي: التحكيم له معنيان لغوي واصطلاحي.

أما الأول يقال: حكمت الرجل تحكيمًا إذا منعته مما أراد. ويقال أيضًا: حكمته في مالي إذا جعلت إليه الحكم فيه فاحتكم على ذلك.

واحتكموا إلى الحاكم وتحاكموا بمعنى والمحاكمة المخاصمة إلى الحاكم والمراد الثاني.

فهو في اللغة جعل الحكم في مالك إلى غيرك، وفي المحيط تخير التحكيم تصير غيره حاكمًا.

وعرفه غيره بأنه تولية الخصمين حاكمًا يحكم بينهما (4) .

وقال ابن فرحون: التحكيم ومعناه: أن الخصمين إذا حكما رجلًا وارتضياه لأن يحكم بينهما فإن ذلك جائز (5) .

وعرفته مجلة الأحكام العدلية في المادة / 1790 ونصها: (التحكيم هو عبارة عن اتخاذ الخصمين آخر حاكمًا برضاهما لفصل خصومتهما ودعواهما) .

(1) الحديث في النهاية في غريب الحدث والأثر لابن الأثير ج 1 / 418، 419

(2)

الحديث في النهاية في غريب الحدث والأثر لابن الأثير ج 1 / 418، 419

(3)

أدب القاضي للماوردي ج ـ 1 / 118.

(4)

البحر الرائق شرح كنز الدقائق ج 7 / 24؛ حاشية رد المحتار ج 4 / 428

(5)

تبصرة الحكام بحاشية فتح العلي المالك ج 1 / 55

ص: 1784

الفرق بين التحكيم والقضاء والإفتاء

أولًا – الفرق بين القضاء والتحكيم:

يشترك الاثنان في أن كلا منهما وسيلة لفض النزاع بين الناس وتحقيق العدل ورفع الحيف والظلم ولهذا كانت الشروط المطلوبة في المحكم هي ذات الشروط المطلوبة تحققها في القاضي. قال في معين الحكام: وأما ولاية التحكيم بين الخصمين فهي ولاية مستفادة من آحاد الناس وهي شعبة من القضاء متعلقة بالأموال دون الحدود والقصاص (1) . إلا أن ذلك لا يمنع أن تكون ثمة فروقًا بينهما وقد وصلها ابن نجيم إلى سبعة عشر فرقًا (2) ، ومعظم ما ذكره من مسائل الخلاف ولهذا نقتصر على أهم هذه الفروق التي يقول بها جمهور الفقهاء أيضًا؛ لأن مسائل الخلاف سيأتي الكلام عليها في ثنايا البحث.

وأهم هذه الفروق:

إن القاضي صاحب ولاية عامة بمعنى أن حكم القاضي يتعدى إلى غير المتخاصمين كما في صورة القتل الخطأ وليس كذلك المحكم فإن حكمه لا يتعدى إلى العاقلة؛ لأن العاقلة لأن العاقلة لم ترض بحكمه (3) .

كذلك لا يتعدى حكمه على وارث إلى الباقي فإن حكم بدين على ميت في مواجهة أحد الورثة لم يتعد حكمه إلى بقية الورثة ولا على الميت لعدم رضاهم بحكمه وانطلاقًا من هذا المبدأ قالوا: إن المحكم لا يقيم حدًا ولا يلاعن بين الزوجين ولا يحكم في قصاص أو قذف أو طلاق أو نسب أو ولاء وإنما استثنيت هذه المسائل لاستلزامها إثبات حكم أو نفيه من غير المتحاكمين فاللعان يتعلق به حق الولد في نفي نسبه من أبيه وكذلك النسب والولاء يسري ذلك إلى غير المحكمين ومن يسري ذلك إليه لم يرض بحكم المحكم وكذلك الطلاق فإن فيه حق الله تعالى إذ لا يجوز أن تبقى المطلقة البائن في العصمة (4) .

(1) معين الحكام للنابلسي ص 11

(2)

البحر الرائق جـ 7 / 27؛ شرح مجلة الأحكام للشيخ خالد الأتاسي جـ 6 / 24

(3)

شرح أدب القاضي للخصاف جـ 4 / 64؛ البحر الرائق جـ 7 / 27 وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 179. واختلف فقهاء الشافعية في وجوب الدية على العاقلة الراجح لا تجب الدية على العاقلة بحكمه لعدم رضاها بحكمه والثاني تجب ومبنى الخلاف عندهم هو أن الدية تجب ابتداء على القاتل ثم تتحملها العاقلة أو تجب على العاقلة ابتداء وعلى الاحتمال الأول تجب على العاقلة هنا، وعلى الثاني لا يتعدى حكم المحكم لعدم رضا العاقلة بحكمه

(4)

تبصرة الحاكم لابن فرحون جـ 2/ 55

ص: 1785

وهذه المسائل هي محل خلاف بين الفقهاء فقد قال الحنفية: إنه وإن جاز التحكيم في هذه الأمور إلا أنه لا يفتى به دفعًا لتجاسر العوام (1)

واختلفت أقوال الشافعية في هذه المسائل والراجح عدم جواز التحكيم فيها (2) .

وأنه لا بد من تراضي المحكمين على تعيين المحكم لفض النزاع بينهما بخلاف القاضي ولا تجوز كتابة المحكمة إلى القاضي ولا العكس وإن المحكم إذا رد شهادة الشاهد بتهمة ثم اختصما إلى آخر أو إلى قاض فزكيت البينة يقضي لها؛ لأن المحكم لم يكن قاضيًا في حق غير الخصمين ولم يتصل بهذه الشهادة رد قاض.

ثانيًا – الفرق بين المحكم والمفتي:

بينا في الفرق بين التحكيم والقضاء أن كلًّا من المحكم والقاضي فيما يتعلق بالنظر في المنازعات المالية يقتربان من بعضهما حتى تكاد تتلاشى الفروق بينهما إلا ما كان متصلًا بطبيعة الولاية فإن القاضي يتلقى ولايته من السلطان أما المحكم فإنه يتلقى ولايته من المتخاصمين، ولما كانت ثمة فروق جوهرية بين طبيعة عمل القاضي والمفتي فإننا نستطيع القول بأن التحكيم وإن كان ذا طبيعة قضائية فهو يتفق مع مهمة الإفتاء في جوانب ولهذا من المناسب أن نذكر الفروق التي ذكرها القرافي بين القاضي والمفتي؛ لأن هذه الفروق تنسحب أيضًا على عمل المحكم.

فقد ذكر القرافي في الفرق الرابع والعشرين والمائتين من كتاب الفروق الفرق بين قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم، فقال: إن العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم بل الفتيا فقط إلى أن قال: إن الأحكام الشرعية قسمان:

منها ما يقبل حكم الحاكم من الفتاوى فيجتمع الحكمان، ومنها ما لا يقبل إلا الفتوى. وذكر جملة مسائل قال: إنها من قبيل الفتوى وبعضها من قبيل الحكم والفتوى فمن الأول إخبار الحاكم عن نصاب اختلف فيه إنه يوجب الزكاة ومن الثاني أخذه الزكاة في مواطن الخلاف (3)

(1) شرح فتح القدير ج 7 / 318.

(2)

أدب القاضي للماوردي ج 1 / 381

(3)

الفروق جـ 4 / 52.

ص: 1786

وقال: إن حكمه بنجاسة ماء أو طعام أو تحريم بيع أو نكاح أو إجارة فهو فتوى. وليس حكمًا ومع هذه الفوارق بين الفتوى والحكم إلا أن الجامع بينهما أن الحكم والفتوى كلاهما إخبار عن حكم الله تعالى ويجب على السامع اعتقادهما وكلاهما يلزم المكلف من حيث الجملة لكن الفتوى إخبار عن الله تعالى فيه إلزام أو إباحة والحكم معناه الإنشاء والإلزام من قبل الله تعالى (1) .

وقال ابن فرحون: لا فرق بين المفتي والحاكم إلا أن المفتي مخبر والحاكم ملزم (2) . وقال في مغني المحتاج: الحكم الذي يستفيده القاضي بالولاية هو إظهار حكم الشرع في الواقعة فيمن يجب عليه إمضاؤه فيه بخلاف المفتي فإنه لا يجب عليه إمضاؤه (3) . ويتفق المحكم مع المفتي في هذا فالمحكم لا يقوم بتنفيذ ما يحكم به وليس له أن يحبس بل غايته الإثبات والحكم ونقل عن الرافعي نقلًا عن الغزالي وإذا حكم بشيء من العقوبات كالقصاص وحد القذف لم يستوفه؛ لأن ذلك يحرم أبهة الولاية. وإذا ثبت الحق عنده وحكم به أو لم يحكم فله أن يشهد على نفسه في المجلس خاصة إذ لا يقبل قوله بعد الافتراق كالقاضي بعد العزل (4) .

وقال الخطيب البغدادي إن المفتي كالحاكم لا يأخذه أجرة من أعيان من يفتيه كما أن الحاكم لا يجوز له أن يأخذ الرزق من أعيان من يحكم له وعليه وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف والتكسب ويجعل ذلك في بيت مال المسلمين فإن لم يكن هناك بيت مال أو لم يفرض الإمام للمفتي شيئًا واجتمع أهل محلة على أن يجعلوا له من أموالهم رزقًا ليتفرغ لفتاويهم وكتابات نوازلهم ساغ ذلك. وذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا فأعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي فإن الخير أعجله والسلام عليك. قال: فكان عمرو بن قيس وأسد بن وداعة فيمن أخذها.

(1) الفروق جـ 4 / 52.

(2)

التبصرة جـ 1 / 65

(3)

مغني المحتاج ج 4 / 372

(4)

مغني المحتاج جـ 4 / 372

ص: 1787

ونقل عن ابن أبي غيلان: قال بعث عمر بن عبد العزيز يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس من البدو وأجرى عليهما رزقًا فأما يزيد فقبل وأما الحارث فأبى أن يقبل فكتب إلى عمر بن عبد العزيز بذلك فكتب عمر: أنا لا نعلم بما صنع يزيد بأسًا وأكثر الله فينا مثل الحارث بن يمجد (1) ومنع الحاكم في أخذ الأجرة من المتخاصمين محله إذا كان له رزق من بيت المال أما إذا لم يكن له رزق من بيت المال وكان ذلك الحكم مما يصح الاستئجار عليه كان له طلب أجرة مثل عمله (2) .

وإنه بتطبيق تلك القواعد على المحكم فإن المحكم لا يشغل وظيفة عامة حتى يكون له رزق من بيت المال وليس لحكمه إلزام فيجوز له أخذ الأجرة على عمله ويكون حكمه حكم القاضي، والمفتي إذا لم يكن لهما رزق من بيت المال (3) فيجوز للمحكم أن يأخذ أجرًا على عمله من المتخاصمين.

ثالثًا – قواعد وشروط التحكيم في الخلاف:

يمكن استخلاص مجموعة من القواعد والضوابط من خلال ما كتبه الفقهاء في مباحث التحكيم وهذه طائفة منها:

القاعدة الأولى: يشترط اتفاق الطرفين المتخاصمين على التحكيم بلفظ يدل على التحكيم فليس المراد خصوص لفظ التحكيم فلو قال: احكم بيننا أو جعلناك حكمًا أو حكمناك في كذا انعقد (4)

(1) كتاب الفقيه والمتفقه جـ 2 / 164، 165، دار بيروت، دار الكتب العلمية.

(2)

نهاية المحتاج جـ 8 / 243

(3)

ذات المصدر

(4)

حاشية رد المحتار جـ 5 / 428.

ص: 1788

القاعدة الثانية: لا يحكم لأبويه وولده وزوجته ولا على عدوه للتهمة كالقاضي (1)، قال الماوردي: وإن كان التحكيم من المتنازعين لمن لا يجوز أن يشهد لهما ولا عليهما والذي لا يجوز له أن يشهد لهما هو والد وولد والذي لا يجوز أن يشهد عليه عدو فينظر فإن حكم على من لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد ولمن يجوز أن يشهد له من الأجانب جاز، وإن حكم لمن لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد وعلى من يجوز أن يشهد له من الأجانب ففي جوازه وجهان:

أحدهما: لا يجوز حكمه له كما لا يجوز أن يحكم له بولاية القضاء.

الثاني: يجوز أن يحكم له بولاية التحكيم وإن لم يجز أن يحكم له بولاية القضاء؛ لأن ولاية التحكيم منعقدة باختيارهما فصار المحكوم عليه راضيًا بحكمه.

وإن حكم لعدوه نفذ حكمه وإن حكم على عدوه ففي نفوذ حكمه عليه ثلاثة أوجه:

أحدهما: لا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء ولا بولاية التحكيم كما لا يجوز أن يشهد عليه.

والوجه الثاني: يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء وولاية التحكيم بخلاف الشهادة لوقوع الفرق بينهما، بأن أسباب الشهادة خافية وأسباب الحكم ظاهرة.

والوجه الثالث: أنه يجوز أن يحكم عليه بولاية التحكيم لانعقادها عن اختياره ولا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء لانعقادها بغير اختياره (2) .

وقال ابن فرحون: فإذا حكم أحد الخصمين صاحبه فحكم لنفسه أو عليها جاز ومضى ما لم يكن جورًا بينًا وليس تحكيم الخصم خصيمه كتحكيم خصم القاضي. قال أصبغ: لا أحب ذلك فإن وقع مضى وليذكر في حكمه رضاه بالتحاكم إليه، وقيل: لا يجوز حكم القاضي لنفسه وقيل: يجوز (3) .

(1) كشف الحقائق ج 2 / 69.

(2)

أدب القاضي ج 2 / 385، 386

(3)

تبصرة الحكام ج 1 / 56

ص: 1789

القاعدة الثالثة: لو حكم بين متخاصمين قبل أن يحكماه ثم رضيا بحكمه فإنه جائز؛ لأن الإجازة اللاحقة هي في حكم الوكالة السابقة (1) .

وذهب الشافعية إلى ضرورة تحقق الرضا قبل الحكم؛ لأن رضا الخصمين هو المثبت للولاية فلا بد من تقدمه (2) .

القاعدة الرابعة: إذا حكم المحكم بغير القانون أو المذهب المتبع في البلد ولم يكن فيه مخالفة لأحكام الشريعة فهو لازم لهما (3) .

وقال الأحناف: إذا لم يوافق حكم المحكم مذهب المجتهد الذي يقلده قاضي البلد ينقضه القاضي (4) .

القاعدة الخامسة: إذا حكم المحكم في مسائل منع من التحكيم فيها استحق التأديب لافتياته على الإمام (5) .

القاعدة السادسة: إذا كان المحكمون مأذونين بالتحكيم جاز لهم تحكيم آخر أما إذا لم يكونوا مأذونين فليس لهم أن يحكموا غيرهم (6) .

القاعدة السابعة: يجوز نصب حكمين أو ثلاثة أو أكثر بحسب الحاجة، ولكن يتعين في هذه الحالة اتفاق رأيهم كلهم. (7) .

وقال الأتاسي: إلا يكون المحكمون مأذونين من قبل من حكمهم أن يحكموا بكثرة الآراء فالظاهر أنه يجوز (8) .

(1) المادة 1851 من مجلة الأحكام العدلية؛ وحاشية رد المحتار جـ 5 / 429

(2)

مغنى المحتاج جـ 4 / 379.

(3)

مواهب الجليل جـ 6 / 113

(4)

حاشية رد المحتار جـ 5 / 431

(5)

مواهب الجليل جـ 6 / 113.

(6)

المادة 1845 من مجلة الأحكام العدلية

(7)

المادة 1844 من مجلة الأحكام العدلية.

(8)

شرح الأتاسي على المجلة جـ 6 / 178

ص: 1790

ثانيًا – شروط التحكيم

تتنوع شروط التحكيم إلى عدة أنواع، الأول: شروط من جهة المحكم بكسر الكاف، والثاني: شروط من جهة المحكم بفتح الكاف، والثالث: شروط من جهة المحكوم به، الرابع: شروط من جهة الحكم.

أولًا – شروط المحكم:

أن يكون لهما ولاية على أنفسهم وذلك يتحقق بالبلوغ والعمل فلا يجوز تحكيم الصبي أو المجنون (1) ولا يشترط في المحكم غير ذلك، فلا يشترط إسلام المحكم ولا كونه حرًّا فيجوز من كل من تحققت فيه أهلية الخصومة.

ثانيًا – شروط المحكم:

أما شروط المحكم فقد ذهب جمهور الفقهاء على أنه يشترط فيه صلاحيته للقضاء ويشترط هذه الصلاحية وقت التحكيم ووقت الحكم (2) لأن المحكم بمنزلة القاضي فيما بين الطرفين (3) لكن خفف بعض الحنابلة من بعض تلك الشروط، جاء في كشاف القناع: العشر صفات التي ذكرها في المحرر في القاضي لا تشترط فيمن يحكمه الخصمان (4) ونقل الباجي عن أشهب في كتاب ابن إسحاق إن حكما بينهما امرأة فحكمها ماض أما إذا كان مما يختلف الناس فيه وكذلك العبد والمسخوط.

كما نقل أيضًا عن عدد من أئمة المالكية جواز تحكيم بعض من لا يصلح للقضاء فنقل ابن الماجشون من رواية ابن حبيب إن كان العبد والمرأة بصيرين عارفين مأمونين فإن تحكيمهما وحكمهما جائز إلا في خطأ بين وقاله أصبغ وأشهب. قال ابن حبيب: وبه آخذ وقد ولى عمر الشفاء وهي أم سليمان ابن أبي حثمة سوق المدينة، ولابد لوالي السوق من الحكم بين الناس ولو في صغار الأمور ونقل عن أصبغ قوله: إن حكما مسخوطًا فحكم فأصاب جاز وكذلك المحدود والصبي إذا كان عقل وعرف وعلم، فرب غلام لم يبلغ له علم بالسنة والقضاء، ثم عقب الباجي بعد ذلك على تلك الأقوال فقال: وأصلها على أن من جعل التحكيم من باب الوكالة لم يراع شيئًا من ذلك إذا لم يكن ذاهب العقل ومن جعله من باب الولاية في حكم خاص لم يجز فيه إلا من قدمنا وصفه ممن اجتمعت فيه صفات الحكم (5)، وقال الخرشي: إن الصبي المميز والعبد والمرأة والفاسق إذا حكموا في المال والجرح ففي ذلك أربعة أقوال: الصحة مطلقًا لأصبغ وعدم الصحة مطلقا لمطرف والثالث الصحة إلا في تحكيم الصبي؛ لأنه غير مكلف ولا إثم عليه إن جار وهو لأشهب والرابع الصحة إلا في تحكيم الصبي والفاسق وهو لعبد الملك (6) .

(1) شرح فتح القدير جـ 7 / 316؛ شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي جـ 6 / 172؛ وشرح مجلة الأحكام المسمى درر الحكام لعلي حيدر جـ 4 / 640.

(2)

حاشية رد المحتار جـ 5 / 428.

(3)

شرح فتح القدير جـ 7 / 316؛ مواهب الجليل ج ـ 6 / 112؛ مغنى المحتاج جـ 4 / 378؛ المغنى لابن قدامة جـ 10 / 190

(4)

كشاف القناع جـ 6 / 309

(5)

المنتقى للباجي ج 5 / 228

(6)

شرح الخرشي على خليل ج 7 / 146

ص: 1791

ولما كان بعض شروط القضاء محل خلاف بين الأئمة ككون من يولى القضاء ذكرًا فقد انسحب هذا الخلاف على المحكم؛ لأن المحكم فرع عن القضاء كما أسلفنا فنخص هذه الشروط التي ورد فيها الخلاف بموجز من القول، وأول هذه الشروط اختلافهم في كون من يولى القضاء ذكرًا فقد اشترط الجمهور هذا الشرط.

وقال ابن جرير: إنه لا يشترط الذكورية؛ لأن المرأة يجوز أن تكون فقيهة فيجوز أن تكون قاضية.

وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود؛ لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه (1) ولهذا أجاز الأحناف تحكيم المرأة لصلاحيتها للقضاء (2) .

وثاني هذه الشروط العدالة فقد أجاز الحنفية تولي الفاسق القضاء وبالتالي قالوا بجواز كونه حكمًا (3) ومع تولية الفاسق القضاء والحنابلة (4) .

وقد بينا موقف المالكية فلا نعيده.

وثالث هذه الشروط الاجتهاد وقال صاحب المغني: الشرط الثالث أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك والشافعية وبعض الحنفية، وقال بعضهم: يجوز أن يكون عامِّيًّا فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض منه فصل الخصائم؛ فإذا أمكنه بالتقليد جاز كما يحكم بقول المقدمين (5) .

(1) المغني لابن قدامة جـ 10 / 127

(2)

حاشية رد المحتار جـ 5 / 408

(3)

حاشية رد المحتار جـ 5 / 408

(4)

كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم ص 78؛ المغني لابن قدامة ج 10 / 127

(5)

المغني جـ 7 / 128

ص: 1792

النوع الثالث في الشروط من جهة المحكوم به

المحكوم به لا يخلو الأمر إما أن يكون في مسائل الأحوال الشخصية أو في مسائل المعاملات المالية أو في مسائل الحدود والقصاص أو في مسائل أحكام السياسات الشرعية.

أ- التحكيم في مسائل الشقاق بين الزوجين

أما عن الأمر الأول وهو التحكيم في مسائل الأحوال الشخصية فقد جاء في كتاب الله قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] .

قال ابن العربي في أحكامه: هي من الآيات الأصول في الشريعة (1)، وقال: هذا نص من الله سبحانه وتعالى في إنهما قاضيان لا وكيلان

وينظران فيما عند الزوجين بالتثبت فإن رأيا للجمع وجها جمعا وإن وجداهما قد أثابا تركاهما وهذا مذهب مالك، وقال أبو حنيفة وأحمد: إنهما وكيلان عنهما فلا يفرقان بينهما إلا برضاهما وهو الأصح من قولي الشافعي (2) والقول الثاني يتفق وقول مالك.

وعلى هذا فالتحكيم في هذه الشعبة من شعب الفقه متفق عليه وإن كان ثمة خلاف فإنما هو في مدى اختصاص الحكمين بالتفريق وهل تشترط موافقة الزوجين أم ينفردان دونهما بالتفريق، كما اختلفوا في المخاطبين بهذا الخطاب (فابعثوا)، قال سعيد بن جبير: إنه السلطان الذي يترافعان إليه. السدي: الرجل والمرأة، وقال مالك: قد يكون السلطان وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين (3) .

اختلف في بعض مسائل الأحوال الشخصية هل يجوز فيها التحكيم أم لا؟ ومن هذه المسائل: اللعان والنسب والطلاق وفسخ النكاح والرشد والسفه وكذلك بالنسبة للغائب مما يتعلق بماله وزوجته وحياته وموته، فقد نص المالكية على عدم جواز التحكيم في هذه المسائل؛ لأن هذه الأمور إنما يحكم فيها القضاة، ولأن الحق فيها يتعلق بغير الخصمين إما لله كالطلاق وإما لآدمي كاللعان والولاء والنسب، ففي اللعان حق الولد بقطع نسبه وفي الولاء والنسب ترتيب أحكامها من نكاح وعدمه وإرث وعدمه وغير ذلك على الذرية التي ستوجد (4) . وقال الشافعية لا يجوز التحكيم في الولاية على الأيتام وإيقاع الحجر على مستحقيه (5) وهناك مسائل هي محل خلاف بين الفقهاء كمسألة اللعان فقد نقل الماوردي فيها وجهين (6) وقال الحنابلة يجوز التحكيم في اللعان.

بل الحنابلة أطلقوا الجواز جاء في كشاف القناع: نفذ حكمه في المال والقصاص والحد والنكاح واللعان وغيرها حتى مع وجود قاض فهو كحاكم الإمام (7) .

(1) أحكام القرآن جـ 1 / 421

(2)

أحكام القرآن للكيا الهراسي جـ 2 / 368؛ وأحكام القرآن للجصاص جـ 3 / 152

(3)

أحكام القرآن للكيا الهراسي جـ 2 / 368؛ وأحكام القرآن الجصاص جـ 3 / 152

(4)

الشرح الصغير جـ 4 / 199

(5)

أدب القاضي للماوردي جـ 2 / 381

(6)

أدب القاضي للماوردي جـ 2 / 381

(7)

كشاف القناع جـ 6 / 308

ص: 1793

ب- التحكيم في المعاملات المالية

التحكيم في المنازعات المالية هو الأصل (1) ولهذا كان أول تقنين لمسائل التحكيم طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية النصوص التي اشتملت عليها مجلة الأحكام العدلية مأخوذة من المذهب الحنفي.

فقد نصت المادة 1841: (يجوز التحكيم في دعاوى المال المتعلقة بحقوق الناس) وجاءت بقية المواد لتنظيم أحكامه التفصيلية ثم أخذت التشريعات الوضعية تخصص للتحكيم نصوصًا خاصة في قوانين المرافعات وبات التحكيم يأخذ مكانة مرموقة على مستوى دول العالم ومختلف نظمه وهيئاته فالتحكيم في مسائل المعاملات كالكفالة بالنفس والمال والشفعة والديون والبيوع صحيحة وجائزة (2) وقال في التبصرة: إن الخصمين إذا حكما بينهما رجلًا وارتضياه لأن يحكم بينهما فإن ذلك جائز في الأموال وما في معناها (3) وجاء في الشرح الصغير: وجاز تحكيم

في مال من دين وبيع وشراء فله الحكم بثبوت ما ذكر أو عدم ثبوته ولزومه وعدم لزومه وجوازه وعدمه (4) .

وقد ورد قول ضعيف لبعض الفقهاء أنه لا يجوز لما فيه من الافتيات على الإمام ونوابه وقد رد هذا القول على قائله بأنه ليس للمحاكم حبس ولا استيفاء عقوبته فلا افتيات ولا خرق لهيبة السلطان (5) وشرط بعضهم لجواز التحكيم أن لا يكون قاض بالبلد وهذا القول أيضًا مردود (6) بأن الحكم بين الناس إنما هو حق للناس لا حق الحاكم ولكن لما كان الاسترسال على التحكيم خرقًا لقاعدة الولاية ومؤديا إلى تهارج الناس فأمر الشارع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج وأذن في التحكيم تخفيفًا عنه وعنهم في مشقة الترافع؛ لتتم المصلحتان، وتحصل الفائدتان (7) .

(1) أدب القاضي للماوردي جـ 2 / 381؛ مغني المحتاج جـ 4 / 378

(2)

حاشية رد المحتار جـ 5 / 430؛ وشرح فتح القدير جـ 7 / 318

(3)

تبصرة الحكام لابن فرحون جـ 2 / 55

(4)

الشرح الصغير جـ 4 / 198.

(5)

نهاية المحتاج جـ 8 / 220

(6)

مغني المحتاج جـ 4 / 309

(7)

أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 619.

ص: 1794

ج. التحكيم في مسائل الحدود والقصاص:

اختلف الفقهاء في جواز التحكيم في الحدود والقصاص فذهب الحنابلة وطائفة من الشافعية إلى جواز التحكيم في الحدود والقصاص بل إن الحنابلة توسعوا في الأخذ بالتحكيم فلم يقيدوه بشيء مما قيده به غيرهم فينفذ عندهم التحكيم في المال والقصاص والحد والنكاح واللعان وغيرها (1)، وقال في المهذب: واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم فمنهم من قال: يجوز في كل ما تحاكم فيه الخصمان كما يجوز حكم من ولاه الإمام (2) .

وذهب فريق إلى أنه لا يجوز التحكيم في الحدود التي لله تعالى حق فيها هو قول الحنفية والشافعية (3) جاء في بداية المبتدي: ولا يجوز التحكيم في الحدود والقصاص، قال البابرتي في شرحه على الهداية: لا يجوز التحكيم في الحدود الواجبة حقًّا لله تعالى باتفاق الروايات؛ لأن الإمام هو المتعين لاستيفائها وأما في حد القذف والقصاص فقد اختلف المشايخ، قال شمس الأئمة من أصحابنا من قال بالتحكيم في حد القذف والقصاص جائز (4) .

وقال الخصاف: ولو أن رجلين حكما بينهما رجلًا في حد أو قصاص فحكم بينهما لم يجز ذلك، ومن أصحابنا من قال: إنما لا يجوز هذا في الحدود الواجبة لله تعالى أما في القذف والقصاص فإنه يجوز (5) .

وقال الماوردي: والأحكام تنقسم في التحكيم إلى ثلاثة أقسام: قسم يجوز فيه التحكيم وهو حقوق الأموال وعقود المعاوضات وما يصح فيه العقد والإبراء.

وقسم لا يجوز فيه التحكيم وهو ما اختص القضاة بالإجبار عليه من حقوق الله تعالى والولايات على الأيتام وإيقاع الحجر على مستحقيه، وقسم مختلف فيه وهو أربعة أحكام: النكاح، واللعان، والقذف، والقصاص (6) وكذلك منع المالكية جريان التحكيم في الحدود والقصاص.

قال الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: والحاصل أنه يحكم في الأموال والجراحات عمدها وخطئها لا في الحدود ومنها قطع اليد في السرقة ولا في النفوس؛ لأن الحدود المقصود منها الزجر وهو حق الله وكذلك القتل؛ لأنه إما لردة أو حرابة، وكله حق لله لتعدي حرماته (7) .

(1) كشاف القناع جـ 6 / 308.

(2)

المهذب جـ 2 / 291

(3)

المهذب جـ 2 / 291

(4)

شرح العناية على الهداية – فتح القدير جـ 7 / 38.

(5)

شرح أدب القاضي للخصاف جـ 4 / 62.

(6)

أدب القاضي جـ 2 / 380، 381.

(7)

الشرح الصغير جـ 4 / 199

ص: 1795

د- التحكيم في مسائل السياسة الشرعية:

1-

التحكيم في وقف الحرب:

توصلت دول العالم أخيرًا إلى فكرة فض المنازعات بالطرق الودية كوسيلة لمنع الحروب فقررت عرض كل نزاع يقوم بين الدول على التحكيم أو القضاء وحظرت الالتجاء إلى الحرب قبل استنفاذ هذه الوسائل العلمية هذا ما نص عليه قانون عصبة الأمم ثم ميثاق الأمم المتحدة (1) ، وقد عالج الفقه الإسلامي هذا الجانب فنص على أنه لا يقاتل المسلمون غيرهم إلا بعد، يدعوهم إلى الله ورسوله ويبينوا لهم أحكام الإسلام وشرائعه (2) .

قال الماوردي: والقسم الثاني من أحكام هذه الإمارة في تدبير الحرب. والمشركون في دار الحرب صنفان:

الصنف الثاني: لم تبلغهم دعوة الإسلام

فيحرم علينا الإقدام على قتالهم غرة وبياتًا أو أن نبدأهم بالقتل قبل إظهار دعوة الإسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوة وإظهار الحجة بما يقودهم إلى الإجابة (3) مستدلًا بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .

وإذا عرضوا الصلح أو التحكيم أجيبوا إليه.

وقال أبو يوسف: وإذا حاصر المسلمون حصنًا لأهل الحرب فصالحوهم على أن ينزلوا على حكم سموه فحكم فقد يكون الحكم بالقتل أو بوضع الجزية أو بغير ذلك فكل ذلك جائز.

وكان أول تحكيم في الإسلام هو التحكيم الذي جرى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال أبو يوسف: حدثني محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فنزلوا على أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وكان جريحًا من سهم أصابه يوم الخندق وكان في خيمة رفيدة، فأتاه قومه فحملوه على حماره ثم قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك الحكم في بني قريظة وهم حلفاؤك.

(1) القانون الدولي العام لعلي أبي هيف ص 625، 650

(2)

مفتاح الرتاج المرصد على خزانة كتاب الخراج، أو فقه الملوك جـ 2 / 472

(3)

الأحكام السلطانية ص 37

ص: 1796

فقال: قد آن لسعد أن لا يخاف في الله لومة لائم، فخرج ومن كان معه ممن سمع مقالته إلى دار قومه يبغي رجال بني قريظة، فلما وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباله من ذلك المكان قال:(عليكم العهد والميثاق: أن الحكم فيهم ما حكمت؟) . . . . وهو غاض طرفه عن موضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون: نعم: فقال: حكمت فيهم أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات)) (1) .

ومن المسائل التي تناولها الفقهاء في هذا الجانب لو نزل العدو على حكم رجل ثم تبين بعد الحكم أنه لم يكن مستجمعًا لشروط الحكم نص المالكية على أن الإمام ينظر في حكمه؛ فما كان صوابًا أمضاه، وما كان غير صواب رده، وتولى الحكم بنفسه فيما يراه مصلحة (2) .

وذهب آخرون إلى أن لا يعمل بهذا الحكم ويبقون على ما كانوا عليه قبل الحكم فإن كانوا في حصن ونزلوا منه ردوا إليه. (3) .

2-

التحكيم في المسائل الدستورية:

يذكر الماوردي في معرض الاستدلال على جواز التحكيم تحكيم الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الإمامة، وتحكيم أهل الشورى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في اختيار الخليفة من بين أهل الشورى الذين اختارهم عمر رضي الله عنه قبل موته (4) .

(1) المصدر السابق وينظر فتح الباري جـ 7 / 411 كتاب المغازي باب يرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب؛ وصحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب جواز قتال من نقض العهد شرح النووي جـ 12 / 92؛ والخرشي على خليل وحاشية العدوي عليه جـ 3 / 122.

(2)

شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه جـ 3 / 122.

(3)

الرتاج شرح أحكام الخراج جـ 2 / 485؛ المذهب جـ 2 / 238، 239

(4)

أدب القاضي جـ 2 / 379، 380.

ص: 1797

والتحكيم في المسألة الأولى تغني شهرتها في كتب السير والتاريخ عن ذكرها، أما تحكيم أهل الشورى عبد الرحمن بن عوف فقد أخرجه العلامة علاء الدين البرهان فوري من حديث عمرو بن ميمون وغيره (1) .

وأورد الخبر بطوله ابن سعد في الطبقات عند الكلام على ترجمة عمر رضي الله عنه وخبر مقتله واستخلافه عليًّا وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن: وسعدًا، قال: فلما اجتمعوا قال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة نفر منكم فجعل الزبير أمره إلى علي، وجعل طلحة أمره إلى عثمان وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن فاتمروا أولئك الثلاثة حين جعل الأمر إليهم، فقال عبد الرحمن: أيكم يبرأ من الأمر ويجعل الأمر إلي على ألا آلوكم عن أفضلكم وخيركم للمسلمين فسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: تجعلانه إلي وأنا أخرج منها، فوالله لا آلوكم عن أفضلكم وخيركم للمسلمين قالوا: نعم إلى آخر القصة (2) .

ومن المسائل المتعلقة بالإمامة والتي تصدى لها فريق من الباحثين المعاصرين الاختلاف بين الإمام ومجلس الشورى.

وهذا الموضوع يحتاج إلى تأصيل وبيان هل مجلس الشورى هذا هو عين المجالس النيابية أو غيرها؟ فإذا كان مجلس الشورى هو المجلس النيابي أو السلطة التشريعية كما يقولون فإن الحلول المطروحة طبقًا للدساتير المتعارف عليها، وهي قيام رئيس الدولة بحل المجلس التشريعي وإجراء انتخابات جديدة أو قيام السلطة التشريعية بنزع ثقتها من الوزارة وإرغامها على الاستقالة (3)

هي الحلول العملية لمثل هذا النزاع.

(1) كنز العمال جـ 5 / 727، 731

(2)

الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 / 245.

(3)

الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي رسالة دكتوراه في الحقوق جامعة القاهرة للدكتور فتحي عبد الكريم ص 385.

ص: 1798

ويرى الدكتور محمد عبد الله العربي إنشاء محكمة عليا تختص بالفصل في قضايا النزاع بين رئيس الدولة والسلطة التشريعية والتي تحال إليها من أي من الطرفين لتفصل فيها ويكون لحكم هذه المحكمة السلطة في إبطال أي قانون وضعي أقره المجلس أو أي قرار إداري أصدره رئيس الدولة إذا رأت في أي منهما مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنة (1) .

ويرى الدكتور فتحي عبد الكريم أنه مجلس الشورى هذا غير المجلس النيابي المتعارف عليه فإن المجالس النيابية تختص بوضع التشريعات والقوانين أما مجلس الشورى فيتعلق بالمجال التنفيذي فالخليفة أو رئيس الدولة له اختصاصات تنفيذية وفي نطاق هذه الاختصاصات التنفيذية فإنه يتعين عليه إذا عرضت مسألة هامة تتعلق بمصلحة عامة للأمة أن يستشير الأمة فيها مثل إعلان الحرب ويستدل على هذا الفرق بين المجلسين بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالاستشارة وكان يستشير فعلًا ولا يمكن أن يكون ذلك بقصد التشريع؛ لأن في عهده كان هو المشرع وإن الفقهاء يختلفون في نطاق الشورى كما اختلفوا في حكم الشورى هل الأمر به للوجوب أو الندب (2) .

ويتساءل الدكتور قحطان الدوري في كتابه التحكيم إذا بقي الاختلاف بين مجلس الشورى والإمام هل يؤخذ برأي الأغلبية أو يؤخذ بالتحكيم أو يؤخذ برأي الإمام ويلتقى مع الرأي السابق وهو إنشاء محكمة عليا تكون مهمتها الفصل في الخلاف بين الإمام ومجلس الشورى ويكون رأيها ملزمًا (3) .

ونرى أن مجال التحكيم واسع في الفقه الإسلامي فهو يتسع لكل المسائل والوقائع سواء ما كان متعلقًا منها بفروع القانون الداخلي أو الدولي وبعبارة أخرى بأحكام السياسة الشرعية أو فروع الفقه الأخرى إلا ما اتفق على عدم خضوعه للتحكيم.

(1) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي رسالة دكتوراه في الحقوق جامعة القاهرة للدكتور فتحي عبد الكريم ص 358

(2)

المرجع السابق ص 366 – 368.

(3)

عقد التحكيم ص 588، 589

ص: 1799

الرابع: شروط الحكم وهل يملك الحكم

أو من حكمه الرجوع عن الحكم؟

إذا تحققت الشروط المعتبرة في التحكيم وهي التي سبق بيانها فإن الحكم الصادر فيه يكون لازمًا لطرفيه واجب النفاذ.

قال الماوردي: وإذا جاز التحكيم في الأحكام فنفاذ حكمه مقيد بأربعة شروط (1)، وقال: فيما يصير الحكم به لازمًا لها وفيه قولان للشافعي:

أحدهما: أنه لا يلزمهما الحكم إلا بالتزامه بعد الحكم كالفتيا؛ لأنه لما وقف على خيارهما في الابتداء وجب أني يقف على خيارهما في الانتهاء وهو قول المزني.

والقول الثاني: وهو قول الكوفيين وأكثر أصحابنا أنه يكون بحكم المحكم لازمًا لهما ولا يقف بعد الحكم على خيارهما لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: ((من حكم بين اثنين تراضيًا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله)) (2) فكان الوعيد دليلًا على لزوم حكمه كما قال في الشهادة: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ولحديث: ((إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدًا)) (3) فصار بتأميرهم له نافذ الحكم عليهم كنفوذه لو كان واليًا عليهم، وذلك انعقدت الإمامة للإمام باختيار أهل الاختيار (4) .

وذكر في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار: فإن حكم لزمهما ولا يبطل حكمه بعزلهما لصدوره عن ولاية شرعية (5) وكذلك نص المالكية فقد جاء في التبصرة: ولا يشترط دوام الرضا إلى حين نفوذ الحكم بل لو أقاما البينة عنده ثم بدا لأحدهما قبل أن يحكم فليقض بينهما ويجوز حكمه، وقال أصبغ: لكل واحد منهما الرجوع ما لم ينشبا في الخصومة عنده فيلزمهما التمادي فيها كما ليس لأحدهما إذا ترافعا الخصومة عند القاضي أن يوكل وكيلًا أو بعزله.

وقال سحنون في كتاب ابنه: لكل واحد منهما الرجوع ما لم يفصل الحكم بينهما وقال ابن الماجشون: ليس لأحدهما الرجوع كان ذلك قبل أن يتقاعد صاحبه أو بعده ما ناشبه الخصومة وحكم لازم لهما (6) .

(1) أدب القاضي جـ 2 / 380

(2)

الحديث

(3)

كشف الخفاء ومزيل الإلباس جـ 1 / والحديث برقم 267

(4)

أدب القاضي جـ 2 / 382، 383

(5)

حاشية رد المحتار جـ 5 / 429.

(6)

تبصرة الحكام لابن فرحون جـ 2 / 55، 56.

ص: 1800

ليس للمحكم كذلك أن يرجع عن الحكم:

وليس للحكم أن يرجع عن حكمه، وليس له بعد أن حكم لأحدهما أن يرجع ويقضي للآخر؛ لأن الحكومة قد تمت بالقضاء الأول فكان القضاء الثاني باطلًا (1) .

عزل المحكمين:

التحكيم من العقود الجائزة فلكل واحد من المحكمين الرجوع عنه، ولكن هذا الرجوع مقيد بأن يتم قبل الحكم قال في البحر الرائق: ولكل واحد من المحكمين، أن يرجع قبل حكمه؛ لأنه تقلد من جهتهما فكان لكل منهما عزله وهو من الأمور الجائزة فينفرد أحدهما بنقضه كالمضاربة والشركة الوكالة (2) .

وقال ابن أبي الدم: ومهما رضيا به ثم رجع أحدهما قبل أن يحكم لم ينفذ حكمه وفاقًا، وإنما الخلاف فيه إذا استمر على الرضا حتى حكم ولم يجددا رضا (3) وذكر وجها بعيدًا أن رجوع أحدهما بعد الخوض في التحكيم لم يؤثر الرجوع وينفذ الحكم (4) وقد سبق بيان أقوال المالكية في الرجوع عن التحكيم بعد شروع الحكم في نظر النزاع فلا نعيده.

انتهاء مهمة الحكم:

ونص الفقهاء على أن مهمة الحكم تنتهي بأحد أمور ثلاثة:

بالعزل أو بانتهاء الحكومة نهائيًّا بأن كان مؤقتًا فمضى الوقت أو بخروجه من أن يكون صالحًا لنظرها وبفقده شرطًا من الشروط المؤثرة على سلامة الحكم أو سيره في نظر التحكيم وكذلك بالفصل في الدعوى موضوع التحكيم. (5) .

(1) البحر الرائق جـ 7 / 27

(2)

المصدر السابق ص 26

(3)

أدب القضاء ص 177

(4)

أدب القضاء ص 177

(5)

البحر الرائق جـ 7 / 28؛ مجلة الأحكام العدلية المواد 1846 – 1847 – الموسوعة الفقهية مادة التحكيم

ص: 1801

تنفيذ حكم المحكمين أو باتصاله بالقضاء:

الأصل أن يتم تنفيذ حكم المحكمين طواعية واختيارًا؛ لأن التحكيم كان بإرادة المحكمين واختيارهم وطوعهم، ولكن لما كان حكم المحكم عرضة للخطأ والصواب وقد يبدو للطرفين فيه أو لأحدهما التأكد والاستيثاق منه من حيث صدوره موافقة لأحكام الشريعة ونظم البلاد أو ربما يتم تنفيذه في بلد آخر أو لدى قاض قد يختلف نظره في هذا الحكم لاختلاف مذهبه أو نظم البلد الذي يحكم فيه فقد عالجت مجلة الأحكام العدلية ذلك في مادتين متتاليتين نصت المادة 1848 من مجلة الأحكام العدلية على أنه (كما أن حكم القضاة لازم الإجراء في حق جميع الأهالي الذين في داخل قضائهم كذلك حكم المحكمين لازم الإجراء على الوجه المذكور في حق من حكمهم وفي الخصوص الذي حكموا به، فلذلك ليس لأي واحد من الطرفين الامتناع عن قبول حكم المحكمين بعد حكم المحكمين حكمًا موافقًا لأصوله المشروعة) .

ونصت المادة 1849 منها على أنه (إذا عرض حكم للمحكم على القاضي المنصوب من قبل السلطان فإذا كان موافقًا للأصول صدقه وإلا نقضه) .

وجاء في شرح هذه المادة أن فائدة تصديق حكم المحكم من قبل القاضي هو أنه لو عرض هذا الحكم على أنه قاض آخر يخالف رأيه واجتهاده رأى المحكم فليس له نقضه؛ لأن إمضاءه وقبول القاضي لحكم المحكم هو بمنزلة الحكم ابتداء من القاضي، أما إذا لم يصدق القاضي على حكم المحكم فيكون من الممكن للقاضي الآخر أن ينقض حكم المحكم، فإذا حكم المحكم حكمًا غير موافق للأصول بنقضه القاضي والمحكم الثاني (1)

وقالوا: إن عدم موافقة حكم المحكم للأصول يكون لوجهين.

الأول: أن يكون حكم المحكم خطأ لا يوافق أي مذهب من المذاهب، وبما أن الحكم على هذا الوجه خطأ بين واجب رفعه ويقضي القاضي في النزاع على وجه الحق.

الثاني: أن يكون حكم المحكم موافقًا لمذهب أحد المجتهدين إلا أن يكون غير موافق لمذهب المجتهد الذي يقلده القاضي الذي عرض عليه حكم المحكم. قالوا: لأن حكم المحكم لا يرفع المسائل الخلافية فالحكم لازم لطرفي التحكيم، ولكن لا يلزم القاضي بخلاف الحكم الصادر عن القضاء (2) .

ونصوص المالكية تتفق على ما سبق فقد قال الباجي: ولو حكم رجلان بينهما رجلًا فقضى بينهما فقضاؤه جائز قاله مالك في المجموعة قال ابن القاسم: وإن قضى بما يختلف فيه ويرى القاضي خلافه فحكمه ماض إلا في جَوْرٍ بَيِّنٍ (3) .

(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر ج ـ 4 / 645، 646

(2)

درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر جـ 4 / 645، 646

(3)

المنتقى جـ 5 / 226

ص: 1802

نظرات سريعة في قواعد التحكيم في التشريعات الوضعية:

هذه القواعد التي أسلفنا الكلام عليها في التحكيم أخذت به التشريعات والنظم القانونية الحديثة ولما كانت هذه النظم لا خلاف بينها سيما في المسائل الجوهرية فنكتفي بعرض أهم هذه الأحكام العامة مستشهدين ببعض نصوص القانون الكويتي.

أولًا – الاتفاق على التحكيم:

لا يعرض النزاع على المحكمين إلا باتفاق ذوي الشأن وهذا الاتفاق يتخذ إحدى صورتين (254) فهو قد يرد في نفس العقد سواء كان عقدًا مدنيًّا أو عقدًا تجاريًّا بأن يتفق الطرفان على شراء وتوريد أو بناء منزل أو شراء عمارة مثلا فينصان في عقد الشراء أو عقد البناء أو عقد التوريد على أنه في حال نشوب أي نزاع بينهما بشأن تغير هذه العقد أو تنفيذه يعرض على محكمين وقد لا ينصان في العقد الأصلي ولكن بعد نشوب النزاع يتفقان على عرضه على محكمين ويطلق عليه في هذه الحالة وثيقة التحكيم أو مشاركة التحكيم.

ثانيًا – شروط التحكيم:

وأهم هذه الشروط:

أ- توافر الأهلية (255مرافعات) وتطبيقا لهذه الشروط لا يجوز للمحجور عليه إبرام عقد التحكيم.

ب- أن يصلح الحق المتنازع عليه كمحل للتحكيم ولا يكون المحل صالحًا للتحكيم إذا كان مما لا تجوز المصالحة عليه إن كان متعلقا بالحالة الشخصية أو بالنظام العام فلا يجوز التحكيم على حق الزوج في الطلاق.

ج- تحديد محل النزاع ويترتب على الاتفاق على التحكيم أنه لا يجوز عرض النزاع على القضاء، فإذا رفعت أمام القضاء كان للمدعى عليه الحق في رفعها بعدم القبول.

ص: 1803

ثالثًا- يجوز أن يكون المحكم واحدا ويمكن أن يكونوا متعددين (256) ولكن بشرط أن يكون العدد فردا ثلاثة أو خمسة وإلا كان باطلا. وإذا كان المحكمون مفوضين بالصلح يجب تعيين أسمائهم أما إذا لم يكونوا مفوضين بالصلح فلا يشترط التعيين بالاسم.

رابعًا – شروط المحكمين:

يشترط القانون فيمن يكون محكما أن يكون له الأهلية المدنية الكاملة وإلا يكون ممنوعا من التحكيم (كتعيين رجال القضاء بدون موافقة مجلس القضاء الأعلى) وألا تكون له مصلحة في النزاع.

خامسًا – رد المحكم وتنحيته وعزله؛ لأن المحكم في حكم القاضي.

سادسًا – حكم المحكمين إذا كانوا متعددين يصدر بأغلبية الآراء ويجب كتابة حكم المحكمين (المادة 267مرافعات) .

ويكون لحكم المحكمين حجية الآراء المقضى بمجرد صدوره يكون هذا الحكم ورقة رسمية وحتى تكون له القوة التنفيذية فإنه لا بد من عرضه على القضاء لإعطائه القوة وهو صدور أمر تنفيذه المادة (263مرافعات) ويجوز الطعن عليه بالاستئناف إلا إذا كان المحكمون مخولين بالصلح أو تنازل المحكوم عليه عن حقه في الطعن صراحة أو كانت قيمة الدعوة غير قابلة للطعن عليه بالاستئناف. (1)

هذه أهم القواعد التي تنص عليها القوانين الوضعية في التحكيم وهي بمجملها تتفق مع الأحكام التي سبق بيانها في الفقه الإسلامي وأن بعض الأحكام التي فيها مخالفة لأحكام الفقه ككون الحكم صادرًا من الأغلبية في حالة تعدد المحكمين تقتضيها مصلحة الخصوم في إنهاء الخصومة فيما بينهم وغالبًا ما تكون في مسائل جانبية لا تمس جوهر القانون.

(1) قانون القضاء المدني الكويتي د. فتحي والي ص:444، 458؛ التحكيم أحكامه ومصادره د. عبد الحميد الأحدب في أربع مجلدات استعرض فيه قوانين التحكيم في فرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي والبلاد العربية.

ص: 1804

احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية في دولة إسلامية

للعلماء في هذه المسألة خلاف بين وأصله قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] .

الكلام في الآية في موضعين:

الأول: في بقاء التخيير وعدمه.

والثاني: في موضع الحقوق.

أما عن الأمر الأول:

فقد تباينت الآراء في بقاء التخيير بين الفصل في أنزعتهم إذا لجئوا إلى قضاتنا أو عدم الفصل فيها وتركها وشأنهم في اللجوء إلى رؤسائهم ومحاكمهم الخاصة بهم فذهب فريق إلى بقاء التخيير وذهب آخرون إلى أن التخيير قد نسخ وأنه يجب الفصل إذا لجئوا إلينا وذهب فريق ثالث إلى بقاء التخيير في المعاهدين والمستأمنين ولزوم الفصل في حق أهل الذمة ويفرق ابن العربي بين جرائم القتل والغصب فيلزم الحكم في هذه الجرائم يخير فيما سواهما، وهذه تفاصيل أقوالهم:

قال الجصاص: ظاهر ذلك يقتضي معنيين:

أحدهما: تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم.

الثاني: التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا.

وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم:

فقال قائلون: إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم. وقال آخرون: التخيير منسوخ فمتى ارتفعوا إلينا حكمنا بينهم من غير تخيير.

وقد قال بالتخيير الحسن والشعبي وإبراهيم وذهب ابن عباس إلى أن آية التخيير منسوخة بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] .

ص: 1805

وروى النسخ سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد وروى سفيان عن السعدي عن عكرمة مثله.

ورجح الجصاص النسخ وعلق عليه بقوله: ومعلوم أن ذلك لا يقال عن طريق الرأي؛ لأن العلم بتواريخ نزول الآية لا يدرك من طريق الرأي والاجتهاد وإنما طريقه التوقيف ولم يقل من أثبت التخيير أن آية التخيير نزلت بعد قوله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وأن التخيير نسخه، وإنما حكى عن مذاهبهم في التخيير من غير النسخ فثبت نسخ التخيير بقوله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] كرواية من ذكر نسخ التخيير، ويدل على نسخ التخيير قوله {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] الآيات (1) .

وذكر القرطبي أن القول بالنسخ هو قول عمر بن عبد العزيز وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه.

ونقل عن النحاس في (الناسخ والمنسوخ) له قوله تعالى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] منسوخ؛ لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي.

ثم رجح قول القائلين بالنسخ فقال: فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس. ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة؛ لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة وإلا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركًا فرضًا فاعلًا ما لا يحل له ولا يسعه (2) .

ووفق فريق بين الرأيين السابقين فقال: إن التخيير في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يجر عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم، وإيجاب الحكم بما أنزل الله في أهل الذمة الذين يجري عليهم أحكام المسلمين.

قال الجصاص: وقد روى ابن عباس ما يدل على ذلك روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قوله الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبين بني النضير وذلك أن بني النضير كان لهم شرف بدون دية كاملة وأن بني قريظة بدون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء ومعلوم أن بني قريظة وبني النضير لم تكن لهم ذمة قط وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير وقتل بني قريظة ولو كان لهم ذمة لما أجلاهم ولا قتلهم، وإنما كان بينهم وبينه عهد وهدنة فنقضوها.

(1) أحكام القرآن للجصاص جـ 4 / 87، 88

(2)

الجامع لأحكام القرآن جـ 6 / 185، 186

ص: 1806

فجائز أن يكون حكمها باقيًا في أهل الحرب من أهل العهد وحكم الآية الأخرى في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ثابتًا في أهل الذمة فلا يكون فيها نسخ وهذا تأويل سائغ (1) ويستدل لهذا الرأي بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] نقل القرطبي عن النحاس قوله: وهذا من أصح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كان معنى قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] أن تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردا إلى أحكامهم، فإذا وجب هذا فالآية منسوخة (2) .

ولابن العربي وجهة أخرى، ولعله قول رابع في المسألة فهو يفرق بني جرائم القتل والغصب التي لا تحل في شريعة من الشرائع فيوجب الحكم فيها وبين ما تختلف فيه الشرائع فيكون التخيير، فهو يقول: وجملة الأمر أن أهل الكتاب مصالحون، وعمدة الصلح ألا يعرض لهم بشيء وإن تعرضوا لنا ورفعوا أمرهم إلينا فلا يخلو أن يكون ما رفعوه ظلمًا لا يجوز في شريعة أو مما تختلف فيه الشريعة، فإن كان مما لا تختلف فيه الشرائع كالغصب والقتل وشبهه لم يمكن بعضهم من بعض فيه.

وإذا كان مما تختلف فيه الشرائع ويحكموننا فيه وتراضوا بحكمنا عليهم فيه فإن الإمام مخير إن شاء أن يحكم بينهم حكم وإن شاء أن يعرض عنهم أعرض قال ابن القاسم: والأفضل أن يعرض عنهم (3) .

والتفريق بين أهل العهد وأهل الذمة هو مذهب الشافعية قال في المهذب:

وإن تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين نظرت فإن كانا معاهدين فهو بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين ألا يحكم لقوله عز وجل {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ولا يختلف أهل العلم أن هذه الآية نزلت فيمن وادعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة قبل فرض الجزية.

وإن كان ذميين نظرت فإن كانا على دين واحد ففيه قولان:

(1) أحكام القرآن للجصاص جـ 4 / 88

(2)

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ 6 / 186.

(3)

أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 617

ص: 1807

أحدهما: أنه بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين ألا يحكم؛ لأنهما كافران فلا يلزمه الحكم بينهما كالمعاهدين.

والقول الثاني: أنه يلزمه الحكم بينهما وهو اختيار المزني لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولأنه يلزمه دفع ما قصد كل واحد منهما بغير حق فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين.

وإن كانا على دينين كاليهودي والنصراني ففيه طريقان:

أحدهما: أنه على القولين كالقسم قبله؛ لأنهما كافران فصارا كما لو كانا على دين واحد.

والثاني: قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه يجب الحكم بينهما قولًا واحدًا؛ لأنهما إذا كانا على دين واحد فلم يحكم بينهما تحاكما إلى رئيسهما فيحكم بينهما، وإذا كانا على دينين لم يرض كل واحد منهما برئيس الآخر فيضيع الحق (1) .

وإذا تحاكم ذمي ومعاهد ففيه قولان كالذميين، وإن تحاكم إليه مسلم وذمي أو مسلم ومعاهد لزمه الحكم بينهما قولًا واحدًا؛ لأنه يلزمه دفع كل واحد منهما على ظلم الآخر فلزمه الحكم بينهما، ولا يحكم بينهما إلا بحكم الإسلام لقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولقوله تعالى {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (2)[المائدة: 42] .

وأما عن الأمر الثاني وهو موضوع الحقوق فيقول صاحب المهذب في بيان موضع القولين موضحًا أقوال أئمة المذهب، قال: فمنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وفي حقوق الله تعالى، ومنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وأما حقوق الله تعالى فإنه يجب الحكم بينهما قولًا واحدًا؛ لأنه إذا لم يحكم بينهما ضاعت.

ومنهم من قال القولان في حقوق الله تعالى؛ فأما حقوق الآدميين فإنه يجب الحكم بينهما قولًا واحدًا؛ لأنه إذا لم يحكم بينهما في حقوق الآدميين ضاع حقه واستضر ولا يوجد ذلك في حقوق الله تعالى (3) .

(1) المهذب للشيرازي جـ 2 / 256

(2)

المهذب للشيرازي جـ 2 / 256.

(3)

المهذب للشيرازي جـ 2 / 256

ص: 1808

وقال القرطبي: فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام، فإن كان ما رفعوه ظلمًا كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم ومنعهم منه بلا خلاف، وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي غير أن مالكًا رأى الإعراض عنهم أولى، فإن حكم حكم بينهم بحكم الإسلام (1)، وقال الجصاص: وقال أصحابنا أهل الذمة محمولون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام كالمسلمين إلا في بيع الخمر والخنزير فإن ذلك جائز فيما بينهم؛ لأنهم مقرون على أن تكون مالًا لهم ولو لم يجز مبايعتهم وتصرفهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالًا لهم ولما وجب على مستهلكها عليهم ضمان ولا نعلم خلافًا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرًا أن عليه قيمتها. وقد روى أنهم كانوا يأخذون الخمر من أهل الذمة في العشور فكتب إليهم عمر أن ولوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيها وما عدا ذلك فهو محمول على أحكامنا لقول الله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كتب إلى أهل نجران: ((إما إذا تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله)) فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في خطر الربا ومنعهم منه كالمسلمين إلى أن قال: فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات وحدود أهل الذمة والمسلمون فيها سواء (2) .

احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة:

يجيز الإسلام للمسلم الانتقال إلى البلاد غير الإسلامية للتجارة والعمل وغيره (3) ولا شك أن البيع والشراء والإجارة ونحوها مظنة لوقوع الخلاف بين المتعاملين ومظنة لوقوع التباعد والتناكر بينهما فلا بد من سبيل إلى دفع الظلم الحيف ورفع التجاحد والتناكر بين الناس والسبيل إلى ذلك إما أن يعمد كل إنسان إلى تخليص حقه بيده فيكون الأقوى بدنًا أو عشيرة هو المستفيد وإما أن يلجأ إلى هيئة تضعها الجماعة أو السلطة المتواضع عليها تنظر في مظالم الناس وتعطي كل ذي حق حقه، والعدل والظلم لا يخضعان دائمًا لقوة الدين وسلطانه فكم من دولة كافرة تنشر العدل بين رعاياها وتنصف المظلوم من الظالم فينفعها ذلك في استتاب الأمن فيها وبقائها، يقول ابن تيمية: وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة إن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام (4) .

(1) الجامع لأحكام القرآن جـ 6 / 179

(2)

أحكام القرآن لجصاص جـ 2 / 89.

(3)

المدونة الكبرى من رواية الإمام سحنون عن عبد الرحمن بن القاسم جـ 4 / 270؛ حاشية رد المحتارجـ 4 / 166 وما بعدها.

(4)

الحسبة في الإسلام لابن تيمية تحقيق عبد العزيز رباح ص 94.

ص: 1809

ويقول: إن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصحابها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة (1) .

ولهذا لما اشتد البلاء على المسلمين في صدر الإسلام قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكًا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم مخرجًا مما أنتم فيه)) وكان الذين خرجوا اثنى عشر رجلًا وأربع نسوة قالوا: قدمنا أرض الحبشة فجاورنا بها خير جار، أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع شيئًا نكرهه (2) ومفاد قوله عليه الصلاة والسلام:((لا يظلم أحد عنده)) . . . .، أنه لو تعرض لهم أحد من رعاياه أو غيرهم ورفعوا أمره إليه لرفع عنهم الظلم بل هذا ما حدث بالفعل فإن قريشًا أرسلت وفدًا منها إلى الحبشة في طلب رد المهاجرين إليها، جاء في سيرة ابن هشام، وشرحه للسهيلي فيما يرويه عن ابن إسحاق وقصة المهاجرين متواترة عند العلماء قال ابن تيمية في الجواب الصحيح جـ 1 / 81 ط المدني – وقد ذكر قصتهم جماعة من العلماء كأحمد بن حنبل في المسند وابن سعد في الطبقات وأبي نعيم في الحلية وغيرهم وذكرها أهل التفسير والحديث والفقه.

(1) الحسبة في الإسلام لابن تيمية تحقيق عبد العزيز رباح ص 94

(2)

كتاب محمد صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد رضا ص 97، 98 ط بيروت 1395 هـ، 1975

ص: 1810

قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ثم بعثوهما إليه فيهم، وتحدث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار: النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى، لا تؤذي ولا نسمع شيئًا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع كله وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدمًا كثيرًا ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ثم قدما إلى النجاشي هداياه ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم قالت: فخرجا حتى قدما النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهم نعم

قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبى ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي

إلا أن النجاشي لما سمع ذلك منهم ومن بطارقته غضب ثم قال: لاها الله، إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسالهم عما يقول هذان في أمرهم – قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله وسألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتهم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل قالت: فكان كلمة جعفر بن أبي طالب (1) .

(1) الروض الأنف جـ 3 / 242 / 246.

ص: 1811

والقصة كلها في روض الأنف ولم يكن النجاشي قد أسلم يومئذ وقد تكررت المقابلة في اليوم التالي بعد أن عزم عمرو بن العاص على أن يوقع بهم قال عمرو: والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به حُظراءهم

قال والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فهي ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائنًا في ذلك ما هو كائن ....

وتعليقنا على هذا نقول: إنها قضية كأقوى ما تكون عليه قضية في عصرنا، ومرافعة لم يشهد التاريخ لها مثيلًا ودفاع لم يأت بمثله غير جعفر بن أبي طالب ثم كان الحكم العدل. قالت: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودًا ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال، فقال: وإن نخرتم والله: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي – والشيوم: الآمنون – من سبكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم، ما أحب أن لي ديرًا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم (1) .

ونجد في السير الكبير لمحمد بن حسن الشيباني يذكر صورًا للمسلم يدخل دار الحرب فيتعرض للغصب من مسلم أو غيره فيرفع الأمر إلى سلطان تلك البلاد الكافرة فيقضي بينهما فيترتب على حكمه كما لو قضى به حاكم مسلم في دار الإسلام.

يقول في المسألة 2679 – ولو أن رجلين أسلما في دار الحرب ثم غصب أحدهما صاحبه شيئًا وجحده فاختصما إلى سلطان تلك البلاد فسلمه للغاصب لكونه في يده ثم أسلم أهل الدار والرجلان مسلمان على حالهما فالمغصوب مردود على المغصوب منه.

قال في الشرح: لأن رد العين مستحق على الغاصب بحكم اعتقاده بسلام أهل الدار لا يزيده إلا وكادة وبقوة سلطان أهل الحرب.

المسلم لا يصير محرزًا مال المسلم ولا متملكًا؛ لأنهما في دار الإسلام لمن يكن هو متملكًا بحكم سلطان المسلمين فكيف يصير متملكًا بحكم سلطان أهل الحرب.

(1) الروض الأنف جـ 3 / 247 / 248

ص: 1812

ويفهم من هذه المسألة أن الاحتكام إلى سلطان أهل الحرب غير ممنوع منه وأنه لو قضى برد المغصوب لكان حكمه صائبًا أما أنه قضى بإبقاء المغصوب في يد الغاصب فهو كما لو حكم قاض مسلم في دار الإسلام بذلك لا يصير الغاصب مالكًا للمغصوب بل يتعين عليه رده.

ويذكر في المسألة 2675 – ولو استودع مسلم مسلمًا شيئًا وأذن له إن غاب أن يخرجه معه فارتد المودع ولحق بدار الحرب، فلحقه صاحب وطلبه منه فمنعه، واختصما إلى سلطان تلك البلاد فقصر يد المسلم عنه ثم أسلم أهل الدار فالوديعة للمودع لا سبيل لصاحبها عليها.

قال في الشرح: لأنه ما كان ضامنًا لها في دار الإسلام، وحين منعها في دار الحرب كان هو حربيًّا لو استهلكها لم يضمن فكذلك إذا منعها؛ ولأنه بهذا المنع يصير في حكم الغاصب فكأنه غصبه منه ابتداء، فيتم إحرازه بقوة السلطان.

ويذكر في المسألة 2677 – وإن كان حين طلبه في دار الحرب من الغاصب أعطاه إياه ثم وثب فأخذ منه ثانية وقصر السلطان يد المغصوب معه عن الاسترداد ثم أسلم أهل الدار فهو سالم للغاصب.

ويظهر من هذه المسائل أن المسلم لما لم يمنع من رفع خصومته إلى السلطان الكافر في بلاد الكفر فدل على جواز ذلك، وعندي أن المسألة لها وجه آخر وهي تدخل في باب الاستعانة بالكافر على تحصيل الحق ورفع الظلم سواء في ذلك الفرد والدولة وسيأتي ذلك مفصلًا في المبحث المخصص لاحتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية.

ويدخل في هذه مسألة ما لو حكم الزوجان المسلمان حكمين مسلمين ثم يرفعان ما انتهى إليه الحكمان إلى المحاكم الأجنبية لوضع الصيغة التنفيذية فإن ذلك من قبيل تحصيل الحقوق والاستعانة على تحصيلها وليس من قبيل فصل القضاء في أمور دينية بين المسلمين.

وقريب مما ذكرنا لو تغلب الكفار على المسلمين واضطر ولي أمر المسلمين إلى مهادنتهم على شرط فيها حط من شأن المسلمين كبقاء أسرى مسلمين بأيديهم أو سكانهم في قرية للمسلمين أو فصلهم في خصومة بين كافر ومسلم أو دفع مال إليهم فيجوز إذا كان في كل ما تقدم يحقق مصلحة (1) لأن الهدنة تعتريها الأحكام الخمسة (2) .

(1) شرح الخرشي على خليل جـ 3 / 150، 151

(2)

حاشية العدوي على الخرشي جـ 3 / 150، 151

ص: 1813

مبدأ التحكيم في الخلاف وموقف الفرق الإسلامية في مشروعيته

بينا فيما سبق مذاهب الفقهاء من أهل السنة والجماعة في التحكيم وذكرنا استدلال الماوردي على صحة التحكيم بجملة أمور منها قوله: إن علي بن أبي طالب لما حكم في الإمامة كان التحكيم فيما عداها أولى واستدل أيضًا بتحكيم أهل الشورى فيها عبد الرحمن بن عوف وذكرنا تفصيلات هذه الواقعة ولهذا اتفق أهل الفقه والدين من أئمة المسلمين على جواز التحكيم مستدلين بقوله تعالى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42] .

- وحكوا في سبب نزولها ثلاثة أقوال -:

الأول: أنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فخانه.

الثاني: نزلت في شأن بني قريظة والنضير، وذلك أنهم شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إن النضير يجعلون خراجنا على النصف من خراجهم ويقتلون منا من قتل منهم، وإن قتل أحد منهم أحدًا منا ودوه أربعين وسقا من تمر.

الثالث: أنها نزلت في اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إن رجلًا منا وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون.))

قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة، فأتوا بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يديك فرفع يده فإذا آية الرجم تلوح فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما (1)

(1) أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 616.

ص: 1814

وعلق ابن العربي على هذه الأقوال فضعف الأول وقال: لا أصل له، وقال عن الثاني: وأما من قال: إنها نزلت في شأن بني قريظة والنضير، ما تشكوه من التفضيل بينهم فضعيف؛ لأن الله تعالى أخبر أنه كان تحكيمًا منهم للنبي صلى الله عليه وسلم لا شكوى والصحيح ما رواه الجماعة عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله كلاهما في وصف القصة كما تقدم أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحكموه، فكان ما ذكره في الأمر (1)، ثم قال: وجملة الأمر أن أهل الكتاب مصالحون، وعمدة الصلح ألا يعرض لهم في شيء وإن تعرضوا لنا ورفعوا أمرهم إلينا فلا يخلو أن يكون ما رفعوه ظلمًا لا يجوز في شريعة أو مما تختلف فيه الشريعة فإن كان مما لا يختلف فيه الشرائع كالغصب والقتل وشبهه لم يمكن بعضهم من بعض فيه، وإذا كان ما تختلف فيه الشرائع ويحكموننا فيه بحكمنا عليهم فيه فإن الإمام مخير إن شاء أن يحكم بينهم حكم، وإن شاء أن يعرض عنهم أعرض (2) .

وقال في المسألة السادسة من مسائل الآية السابقة – لما حكموا النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ عليهم الحكم ولم يكن لهم الرجوع. وكل من حكم رجلًا في الدين فأصله هذه الآية، قال مالك: إذا حكم رجل رجلًا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه إلا أن يكون جورًا بينًا وقال سحنون: يمضيه إن رآه (3) .

وقد سبق بيان مذاهب العلماء هذا تفصيلًا فلا نعيده.

(1) أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 616

(2)

أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 616

(3)

أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 616

ص: 1815

لكن ذهبت الخوارج إلى عدم جواز التحكيم وأنكروا على علي التحكيم، وقالوا: أخطأ علي في التحكيم إذ حكم الرجال لا حكم إلا لله تعالى (1) .

وذكر الطبري في تاريخ واقعة التحكيم هذه ومحاجة ابن عباس رضي الله عنهما لهم (2) ثم ما كان من علي رضي الله عنه في بيان زيفهم وزيغهم وأخذ علي رضي الله عنه يبين لهم في أكثر من موقف خطأهم وقام يخطبهم ذات يوم فقال رجل من جانب المسجد: لا حَكَمَ إلا الله، فقام آخر فقال مثل ذلك، ثم توالى عدة رجال يحكمون، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق يلتمس بها باطل، أما إن لكم عندنا ثلاثًا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه من خطبته (3)، ومن هنا كانت واقعة التحكيم التي حصلت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من أخطر قضايا التحكيم في التاريخ الإسلامي وكانت آثارها سلبية على المسلمين إلى أن إلتأم شملهم من جديد عام الجماعة بتنازل الحسن لمعاوية وقال قولته المشهورة: يا أهل العراق، إنه سخّى بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي (4) والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

والذي نميل إليه هو قول جمهور العلماء من أن التحكيم جائز على النحو الذي أسلفنا الكلام عليه.

الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي:

الإسلام يرجح السلام على الحرب ويجنح إليه ما وجد إلى ذلك سبيلًا ولا يميل إلى الحرب إلا إذا فرضت عليه دفاعًا عن العقيدة وعن النفس والوطن وقد جاءت آيات القرآن الواردة في القتال صريحة في تحديد سبب الحرب قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) } [الحج: 39 – 41] .

(1) الملل والنحل للشهرستاني جـ 2 / 26، 27؛ مقالات الإسلاميين للأشعري جـ 1 / 191 تحقيق محيي الدين عبد الحميد؛ الفرق بين الفرق للبغدادي ص 74 تحقيق الشيخ محيي الدين عبد الحميد

(2)

تاريخ الطبري جـ 5 / 64 / 65

(3)

تاريخ الطبري جـ 5 / 64 / 65

(4)

تاريخ الطبري جـ 5 / 159

ص: 1816

يقول الشيخ شلتوت: جاء الإذن في الآية الكريمة ولم تعلله بنشر الإسلام أو إلجاء الناس إليه، وإنما عللته بما وقع على المسلمين من ظلم، وما أكرهوا عليه من الهجرة والخروج من ديارهم من غير حق إلا أن يقولوا كلمة الحق (1) ويؤكد هذا المعنى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (إن الإسلام بدئ بدعوة رجل أرسله الله تعالى بالدين فدعا الناس إليه فآمن به أول الأمر خديجة وأبو بكر وعلي وسعد بن أبي وقاص قال سعد: لقد مكثت سبعة أيام وأنا ثلث الإسلام فاستخف بهم المشركون، فلما أخذ المسلمون يكثرون تنمر لهم المشركون وناصبوهم العداء فصار المسلمون عرضة لأذى المشركين بمختلف الأذى على نسبة استضعافهم من يؤذونه حتى اضطر جمع من المسلمين إلى الهجرة إلى الحبشة ثم هاجر بقية المسلمين إلى المدينة ولم يبق بمكة إلا المستضعفون من الرجال والنساء والصبيان، فنزل قوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} [الحج: 39 – 40] وقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (2)[النساء: 75] .

بل إن السلام هو من سمات الإسلام البارزة وصفة من صفات أهل الإيمان لذلك يدعوهم ربهم جل وعلا إلى ذلك في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] ويبين لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أعداءه وإن كانوا غير صادقين في دعوتهم له بالسلم وإن كانوا يضمرون كيدًا وخداعًا فعليه أن يقبل منهم السلام إذا طلبوه منه وليفوض أمره إلى الله ولا يخاف من كيدهم ومكرهم وتوسلهم بالصلح إلى الغدر، فقال {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] .

والإسلام يؤكد على عقد المعاهدات والوفاء بها فيقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ويقول {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72] .

(1) تفسير القرآن الكريم ص 528

(2)

أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ص 216

ص: 1817

وقد تتنوع المعاهدات إلى أنواع فمنها ما يمكن إطلاق معاهدات حسن الجوار عليها كالمعاهدات التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هجرته إلى المدينة مع اليهود وقد جاء في بنود هذه المعاهدة ((

وأن من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم)) ومنها ما يصح أن يطلق عليها معاهدات وعقود الأمان وهناك الصلح وهو غالبًا ما يكون عند نشوب الحروب وهذه المعاهدة تخضع لظروف الدول وتلبية حاجاتها ومتطلباتها والإسلام يؤكد على احترام المعاهدات بمختلف أنواعها.

وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه على التعاون في سبيل القضاء على الخصومات وإزالة أسبابها فيقول: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدْعَى به في الإسلام لأحببت)) (1) .

ويذكر السهيلي عن حلف المطيبين أن سببه ما حدث من خلاف بشأن الحجابة والساقية والرفادة وكاد أن تنشب بينهم حرب بسببها فيقول: (فبينا الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذا تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة. وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لنبي عبد الدار كما كانت ففعلوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك، وتحاجز الناس عن الحرب وثبت كل قوم مع من حالفوا فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الله بالإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا قوة)) (2) .

ومن هذا المنطلق الأساسي التي نهجته الشريعة الإسلامية والمواقف الثابتة للمسلمين منذ صدر الإسلام نستطيع القول بأن التعاون الدولي في سبيل القضاء على أسباب الخلافات التي تنشب بين الدول أمر يقره الإسلام ويحث عليه ولهذا وجدناه الدول الإسلامي من أوائل الدول التي سارعت إلى إقرار ميثاق الأمم المتحدة والتعاون في مختلف نشاطاتها وهيئاتها بما في ذلك محكمة العدل الدولية وكان الدافع لإنشاء هذه المحكمة هي حرص الدول على حل منازعاتها بعيدًا عن قعقعة السلاح وما تخلفه من دمار شامل وإهلاك للحرث والنسل فأخذ المشتغلون بالقانون الدولي أفرادًا وهيئات على تهيئة الظروف وتوجيه الرأي العام نحو فكرة إنشاء محكمة قضائية دولية تفصل في المنازعات القانونية التي تنشأ بين الدول وكان هناك وسائل مختلفة وهذه فكرة موجزة عن تطور ومراحل هيئات التوفيق والتحكيم إلى إنشاء محكمة العدل الدولية وكان أولى هذه الوسائل هي إنشاء لجان التحقيق الدولي وقد تناولت اتفاقية لاهاي (1899 – 1907) موضوع التحقيق ضمن الوسائل السلمية التي ذكرتها لتسوية المنازعات الدولية والقواعد والإجراءات المتصلة بها.

(1) الروض الأنف جـ 2 / 63

(2)

الروض الأنف جـ 2 / 63

ص: 1818

وثانيها: إنشاء لجان التوفيق وهي نوع من أنواع الوساطة نبهت إليه عصبة الأمم في بدء تكوينها ولاقت رواجًا لدى الدول ونصت عليه في كثير من المعاهدات الثنائية كما أبرمت بشأنها بعض المعاهدات العامة وتتولى التوفيق لجان خاصة أطلق عليها اسم لجان التوفيق وتناولت ميثاق التحكيم العام الذي وضعته عصبة الأمم في 26 سبتمبر 1928 والمعروف باسم ميثاق جنيف العام موضوع التوفيق في الفصل الأول منه ونص على الإجراءات والأحكام المتصلة به وتشبه قرارات هذه اللجنة ومهمتها هيئات التحكيم أو القضاء وتختلف عنها من حيث إنه ليس لقراراتها صفة إلزامية بخلاف قرار التحكيم أو حكم القضاء التي له صفة إلزامية في حق الدول.

ثالثها – التحكيم والقضاء:

أولًا: التحكيم هو النظر في نزاع بمعرفة شخص أو هيئة يلجأ إليه المتنازعون مع التزامهم بتنفيذ القرار الصادر في النزاع. وبهذا الالتزام بتميز التحكيم عن الوساطة والتوفيق وقد كان التحكيم في مقدمة المسائل التي اهتمت بها مؤتمرات لاهاي سنتي (1899 و 1907) وتضمنت الاتفاقية الخاصة بتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية ووضعت الأحكام العامة للتحكيم وإجراءاته كما تقرر فيها تكوين هيئة دائمة للتحكيم يمكن للدول إذا شاءت أن تستعين بها بدلًا من هيئات التحكيم الخاصة التي تختارها بمناسبة كل نزاع وأطلق على هذه الهيئة اسم محكمة التحكيم الدولي الدائمة.

ثانيًا: محكمة العدل الدولي وقد أنشئت في ظل عصبة الأمم وفي شهر ديسمبر 1920 أقرت مشروع هذه المحكمة وأبرم بذلك بروتكول خاص تضمن النظام الأساسي للمحكمة وبلغ عدد الدول التي وقعت عليه وانضمت إليه إحدى وخمسين دولة.

ص: 1819

وأخيرًا – وبعد أن صفيت أعمال عصبة الأمم بعد الحرب الأخيرة وأنشئت الأمم المتحدة أعيد تكوين المحكمة باسم محكمة العدل الدولية وقد نصت المادة 92 من ميثاق الأمم المتحدة على إنشاء هذه المحكمة ونصها – محكمة العدل الدولية هي الأداء القضائية الرئيسية للأمم المتحدة وتقوم بعملها وفق نظامها الأساسي الملحق بهذا الميثاق، وهو مبني على النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل الدولي وجزء لا يتجزأ من هذا الميثاق.

وهذه خلاصة عن النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.

اشتمل النظام الأساسي لهذه المحكمة على أربعة فصول في سبعين مادة تضمن الفصل الأول تنظيم المحكمة من حيث تكوينها – الشروط المطلوب توفرها فيمن يعين قاضيًا بها وعددهم، وأن الجمعية العامة ومجلس الأمن ينتخبونهم من قائمة الأسماء الذين رشحتهم الشعب الأهلية في محكمة التحكيم كما يبين واجبات القضاة وبعض نظم العمل بالمحكمة.

ويتضمن الفصل الثاني اختصاص المحكمة وولايتها ويتضمن الفصل الثالث في الإجراءات وتنص على أن اللغة الفرنسية والإنجليزية هما اللغة الرسمية وطريقة رفع الدعوى أمامها، ويتضمن الفصل الرابع مجالًا آخر للمحكمة وهو الإفتاء في المسائل القانونية ويتضمن الفصل الخامس إجراءات التعديل على النظام الأساسي (1) .

أما مشروع محكمة العدل الإسلامية فهي تتفق في مجملها مع المبادئ التي نص عليها النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وأهدافها قريبة من أهداف المحكمة الدولية كما أن نظام ميثاق الأمم المتحدة تشجع مثل هذه الهيئات الإقليمية للتغلب على المشاكل التي تقوم بين دول المنطقة وهي من قبل ومن بعد تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية الغراء في قوله تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ويقول ابن العربي: هذه الآية هي الأصل في قتال المسلمين والعمدة في حرب المتأولين وعليها عول الصحابة وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((يقتل عمارًا الفئة الباغية)) وقوله في شأن الخوارج ((: ((يخرجون على خير فرقة من الناس)) )) (2) .

(1) القانون الدولي العام لعلي صادق أبو هيف، بتلخيص وتصرف ص 736 وما بعدها إلى 767 و 924 وما بعدها.

(2)

أحكام القرآن لابن العربي جـ 4 / 1705.

ص: 1820

احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعاتهم فيما بينهم،

وحكم ما إذا كان النزاع فيما بينهم المسلمين وغيرهم

النزاعات التي تقوم بين الدول أما أن تكون بشأن مسائل تجارية ومعاملات مالية وإما أن تكون بشأن خلافات تتطور إلى صدام مسلح كالنزاعات بشأن الحدود وما شابهها وفي كلتا الصورتين قد تكون هذه الخلافات بين دول إسلامية أو بين دولة إسلامية وأخرى غير إسلامية وإن كان الاستقراء العقلي يقتضي صورة أخرى وهي الصدامات والخلافات التي تقوم بين دول غير إسلامية بعضها مع بعض ولكن هذه الصورة ليست متعلقة بموضوعنا فنقصر الكلام على الصور السابقة: فتكون الصور والحالة هذه هي:

أولًا – خلاف مالي بين دولتين إسلاميتين.

ثانيًا – خلاف ذو طابع حربي بين دولتين إسلاميتين.

ثالثًا – خلاف مالي بين دولة إسلامية وأخرى غير إسلامية.

رابعًا – خلاف ذو طابع حربي بين دولة إسلامية وأخرى غير إسلامية.

وقبل أن نخوض في تفصيلات المسائل وجزئياتها لا بد من الإشارة إلى جملة أمور تصلح أن تكون أصولًا لتلك المسائل:

أولها: أن دول العالم بأسرها ترتبط مع بعضها اليوم بمعاهدات صداقة وتعاون وحسن جوار فليست هناك دول حربية بالمفهوم السابق اللهم إلا في فترات محددة سرعان ما تنتهي وتعود إلى حالتها السلمية ولا أدل على ذلك من الديباجة الرائعة التي افتتحت بها ميثاق الأمم المتحدة وهي:

نحن شعوب الأمم المتحدة

وقد آلينا على أنفسنا

أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانًا يعجز عنها الوصف.

ص: 1821

وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية.

وأن نبين الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي.

وأن نرفع بالرقي الاجتماعي قدمًا، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح.

وفي سبيل هذه الغايات: أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معًا في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة، وأن نستخدم الدولية في ترقية الشئون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها.

قد قررنا

أن نوحد جهودنا لتحقيق هذه الأعراض، ولهذا فإن حكوماتنا المختلفة على يد مندوبيها المجتمعين في مدينة سان فرانسيسكو الذين قدموا وثائق التفويض المستوفية للشرائط، وقد ارتضت ميثاق الأمم المتحدة هذا وأنشأت بمقتضاها هيئة دولية تسمى (الأمم المتحدة) .

ثانيها: إن هذا التعاهد الدولي على التعاون أمر يقره الإسلام ويتبناه بل سبق العالم إلى وضعه موضع التنفيذ قولًا وعملًا، ولا أدل على ذلك من الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة بين المهاجرين والأنصار وبين اليهود أيضًا وقد افتتح بديباجة ((بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:

بأنهم أمة واحدة من دون الناس.

وبعد ما بين ما ينبغي أن يكون عليه التعاون بين قبائل العرب من المهاجرين والأنصار،)) قال في شأن اليهود:

((وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، ثم بين: أن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم والمسلمين دينه من مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوقع إلا نفسه وأهل بيته)) .

ص: 1822

وينظم هذه العلاقة فيقول:

((وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأن من فتك فبنفسه فتك وبأهل بيته إلا من ظلم، وأن الله على أيد هذا (أي على الرضا به) وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم)) .

((وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لا يأثم أمره بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)) .

((وأن يثرب حرام صد لأهل هذه الصحيفة)) (1)

وتمضى هذه الصحيفة على هذا النحو إلى نهايتها.

إن من يقارن من جاء في صحيفة النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة لا بد أن ينتهي إلى أن هذا الميثاق متفرع عن ذلك الأصل وأنه حذا حذوه واهتدى بمبادئه واسترشد بنور النبوة ومشكاة الهداية {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] .

ثالثها: أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم بارك أي عمل يحفظ للإنسانية كرامتها وصون أمنها وسلامتها من غير نظر إلى من قام به ولهذا أبدى رضاه عن الأحلاف التي تعاقدها العرب في جاهليتهم قبل الإسلام؛ لأن فيها خيرًا لبني البشر ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأحببت)) .

وقوله (ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا قوة)، وكذلك ما قاله لأصحابه حين هاجروا إلى الحبشة: إن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد. فمن هذه المبادئ المسلمة في الإسلام نقول: إن ما اتفقت عليه الأمم بمحض اختيارها في منع الحروب ونشوب الخصومات والاتفاق على إيجاد حلول لها أمر لا يأباه الإسلام بل يحث عليه ويجعله من مبادئه ومسلماته.

(1) خاتم النبيين للشيخ أبو زهرة جـ 2 / 33، 34

ص: 1823

ومع هذه المنارات الشامخة من عمل الرسول وهديه لا بد من النظر فيما كتبه الفقهاء في هذا الشأن في مسألة الاحتكام إلى المحكمة الدولية:

أولًا: إذا كان النزاع خاصًّا بالمسلمين فإن كانت بشأن معاملات مالية وخلافات على عقود تجارية فهذا النوع أمره هين ولا يثير معضلة؛ لأن أثره وإن كان سلبيًّا فهو محدود، وأما إن كان بشأن خلافات ذات طابع حربي كتلك الخلافات التي تنشب بين دولتين متجاورتين على الحدود أو بعض المقاطعات (كالخلاف الحاصل بين البحرين وقطر) فإن طرحها على المحكمة الدولية باعتبارهما عضوين في الأمم المتحدة مما لا تأباه الشريعة ولا يصطدم مع مبدأ من مبادئها باعتباره أحد بنود العقد وإن كان الأولى حلها عن طريق جماعة المسلمين والمنظمات الإقليمية كمنظمة المؤتمر الإسلامي أو جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون، لأن هذه الأمور تلتقي مع أهداف المنظمة الدولية في إنشاء منظمات إقليمية تسهم في إقرار السلام والمحافظة على الأمن في المناطق التي توجد فيها وقد أفرد ميثاق الأمم المتحدة (الفصل الثامن) لهذه المنظمات جاء فيه (ليس في هذا الميثاق ما يحول دون قيام منظمات أو وكالات إقليمية تعالج من الأمور المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدولي ما يكون العمل الإقليمي صالحًا فيها ومناسبًا ما دامت هذه المنظمات أو الوكالات الإقليمية ونشاطها متلائمة مع مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها (1) ومن المنظمات الإقليمية القائمة الآن: اتحاد الدول الأمريكية – جامعة الدول العربية، منظمة الوحدة الأفريقية (2) منظمة المؤتمر الإسلامي.

أما إذا استعصى على الحل أو عجزت هذه المنظمات عن إيجاد حلول يقبل بها الطرفان المتنازعان فلا حرج في هذه الحالة إن هي التجأت إلى المنظمات الدولية الأعلى شأنًا مثل المحكمة الدولية؛ لأن هذا إضافة إلى ما سبق بشأن جواز التعاقد فإنه أيضًا من قبيل الاستعانة بغير المسلم.

والاستعانة بغير المسلم إما تكون على مسلمين ظالمين باغين أو على غير مسلمين.

أما الانتصار بهم على الباغين الظالمين ففيها ثلاثة أقوال:

القول الأول: لا يجوز، وهو قول جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة (3) .

(1) القانون الدولي العام لعلي أبو هيف ص 700

(2)

القانون الدولي العام لعلي أبو هيف ص 700

(3)

قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص 393؛ نهاية المحتاج جـ 7 / 387؛ المغني ج ـ 10 / 57، 58.

ص: 1824

القول الثاني: جواز الاستعانة بشرط ألا يكون حكم أهل الشرك هو الظاهر (1) قال في المبسوط: (وإن ظهر أهل البغي على أهل العدل حتى ألجئوهم إلى دار الشرك فلا يحل لهم أن يقاتلوا مع المشركين أهل البغي؛ لأن حكم أهل الشرك ظاهر عليهم ولا يحل لهم أن يستعينوا بأهل الشرك على أهل البغي من المسلمين إذا كان حكم أهل الشرك هو الظاهر) .

ثم قال: (ولا بأس أن يستعين أهل العدل بقوم من أهل البغي وأهل الذمة على الخوارج إذا كان حكم أهل العدل ظاهرًا) .

ومفاد هذا النص أن يتعين لجواز الاستعانة ظهور حكم أهل العدل.

القول الثالث: وهو لطائفة من الزيدية جاء في شرح الأزهار (مما يجوز للإمام فعله هو الاستعانة بالكفار والفساق على جهاد البغاة من المسلمين)(2) .

ثانيًا – وإن كان النزاع مع دول غير إسلامية فإن الاستعانة بغير المسلمين على غير المسلمين جائزة ومن الفقهاء من يقيده بقيود واستدلوا على جواز الاستعانة بالكفار بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فقد استعان بيهود بني قينقاع على بني قريظة (3)، وقال الطحاوي: لا بأس بالاستعانة بأهل الكتاب في قتال من سواهم إذا كان حكمنا هو الغالب ويكرهون ذلك إذا كانت أحكامنا بخلاف ذلك (4) .

وجاء عن الإمام الشافعي رضي الله عنه في الأم (ثم استعان أي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بدر بسنتين في غزاة خيبر بعدد من يهود بني قينقاع كانوا أشداء، واستعان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك. ويرى أن رد بعض المشركين إما أن له الخيار في الاستعانة وعدمها أو يرده لمعنى يخافه منه كما يكون له رد مسلم، أو أنه كان ممنوعًا من الاستعانة ثم نسخ فاستعان بعده بمشركين ثم قال: فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعًا ويرضخ لهم)(5) .

(1) المبسوط للسرخسي جـ 10 / 133، 134

(2)

شرح الأزهار جـ 4 / 532، 533

(3)

المبسوط جـ 10 / 23، 24

(4)

مشكل الآثار جـ 3 / 236

(5)

الأم جـ 4 / 261

ص: 1825

ووفق النووي بين حديث عائشة بعدم الاستعانة بمشرك في غزوة بدر والحديث الآخر الذي استعان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية قبل إسلامه كما قال الشافعي وآخرون بأن الكافر إذا كان حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به وإلا فيكره وحمل الحديثين على هذين الحالين (1) .

وقيد المالكية الاستعانة بهم لخدمة كنوتيٍّ أو خياط أو هدم حصن (2) ويقيده بعض الشافعية بأن تؤمن خيانتهم ويكونون بحيث لو انضمت فرقتا الكفر قدروا على مقاومتهم (3) .

وللحنابلة رايتان: الجواز وعدمها، قال في المغني:(ولا يستعان بمشرك، وبهذا قال ابن المنذر والجورجاني وجماعة من أهل العلم وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به وكلام الخرقي يدل عليه أيضًا عند الحاجة وهو مذهب الشافعي لحديث الزهري الذي ذكرناه وخبر صفوان بن أمية ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به، لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى)(4)

وبعد فإن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية ليس فيها استعانة بالمعنى السابق وهو استعداء الكفار على المسلمين ومقاتلتهم بالسلاح فإن قضاء المحكمة إنما هو استجلاء للحقيقة ومعرفة من هو صاحب الحق ومن هو المعتدى عليه فإن امتنع عن رد الحق إلى صاحبه بعد ذلك كان في حكم الباغي من كل وجه ومن ثم تكون الاستعانة هي الخيار الحقيقي للمبغي عليه والسبيل الوحيد للظفر بحقه.

والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدكتور عبد الله محمد عبد الله

(1) شرح النووي جـ 2 /

(2)

الشرح الكبيرجـ 2 / 178.

(3)

منهاج الطالبين جـ 4 / 221

(4)

المغنى جـ 9 / 243

ص: 1826