الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحكام الودائع المصرفية
تأليف
القاضي محمد تقي العثماني
قاضي محكمة النقض بباكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإن الودائع المصرفية أصبحت اليوم من أعظم ما يحتاج إليه الإنسان في تصرفاته المالية في كل بلد وقطر، ويتعلق بها كثير من الأحكام الشرعية التي لا بد من دراستها والبت فيها. وإنها وإن كانت ظاهرة جديدة من الظواهر التي أحدثها العالم المعاصر، ولكن الأحكام الشرعية المتعلقة بها يمكن استخراجها في ضوء المبادئ التي قررها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والتي فصلها فقهاء الأمة في كتبهم الفقهية. فنريد في هذا البحث أن نوضح الأحكام الشرعية المتعلقة بالودائع المصرفية، والله سبحانه هو الموفق والمعين.
معنى الوديعة المصرفية:
إن كلمة (الوديعة المصرفية) مترجمة من الكلمة الإنكليزية:Deposite Bank والمقصود منها (المال الذي أودعه صاحبه في مصرف من المصارف المالية، إما لمدة محددة، أو بتعاهد من الفريقين بأن للمالك أن يستعيده كله أو جزءا منه متى شاء) .
والمعمول به في المصارف المعاصرة أن هذه الودائع لا تبقى عند المصرف كما هي، وإنما يختلط بعضها ببعض، ويستثمرها المصرف في تمويلات يقدمها إلى عملائه، ويطالبهم على ذلك بفائدة أو ربح، وإنها تكون مضمونة على المصرف، يلتزم المصرف بإعادتها إلى المالك في كل حال حسب الشروط المتفق عليها.
وبهذا يتضح أن كلمة (الوديعة) المستعملة لهذا النوع من الأموال ليست في معناها الفقهي المصطلح، فإن الوديعة تبقى عند المودع كما هي، ولا تكون مضمونة عليه إلا عند التعدي. ولكن هذه الكلمة إنما استعملت لها في معناها اللغوي، فإنها فعلية من (ودع يدع) بمعنى أنها متروكة عند المودع. (1) وهو المصرف ههنا بغض النظر عن كونها أمانة أو مضمونة.
(1) راجع المغني لابن قدامة 7/280 دار الكتاب العربي، بيروت 1392هـ.
أنواع الودائع المصرفية:
وإن هذه الودائع المصرفية تنقسم –في عرف البنوك اليوم- إلى أنواع أربعة:
1-
ودائع الحساب الجاري (Current Account) :
وهي المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك بشرط أن يردها عليهم البنك كلما أرادوا. فيسحب أصحاب هذه الودائع ما شاؤوا من كمية النقود متى شاؤوا، ويلتزم البنك بأدائها إليهم فور الطلب، ولا يتوقف الأداء على إخطار سابق من قبل صاحب الوديعة. وإن هذا النوع من الودائع لا يدفع البنك إلى أصحابها شيئا من الفوائد. بل المعمول به في بعض البلاد أن البنك يطالب صاحب الوديعة برسوم على القيام بخدمة الإبقاء عليها. ولكن هذه الودائع تبقى عند البنك مختلطة لا تتميز وديعة شخص من وديعة الآخر. وكذلك يحق للبنك أن يستخدمها لصالحه، وإن كان المعمول به في البنوك أنهم يحتفظون بنسبة منها احتفاظا بالسيولة الكافية لمجاوبة طلبات السحب.
2-
الودائع الثابتة (fixed Deposite) :
وهي الودائع المؤجلة إلى أجل معلوم.
ولا يحق لصاحب الوديعة في هذا النوع أن يسحب شيئا منها إلا بعد فترة متفق عليها. وتتراوح هذه الفترة بين خمسة عشر يوما وسنة كاملة في عامة الأحوال.
وإن البنك يستثمر هذه الودائع، ويدفع على ذلك فوائد إلى أصحابها بنسبة تختلف من حين إلى آخر حسب ظروف السوق.
3-
ودائع التوفير (Saving Account) :
وهي الودائع التي ليست مؤجلة إلى أجل معلوم، ولكن حقوق السحب منها تخضع منها لضوابط لا يمكن معها لصاحب الوديعة أن يسحب كامل رصيده دفعة واحدة، وإنما يفرض البنك حدودا للسحب اليومي، أو شرط الإخطار السابق في بعض الأحيان. وإن هذا النوع من الودائع يشبه الحساب الجاري من حيث إنه يمكن لصاحب الوديعة أن يسحب قدرا منها متى شاء دون انتظار أجل معلوم. ويشبه الودائع الثابتة من حيث إنه لا يمكن سحب كاملها دفعة واحدة. وإن البنك يدفع على هذا النوع فوائد، ولكن نسبتها أقل من نسبة الفوائد في الودائع الثابتة.
4-
الخزانات المقفولة (lockers) :
وهي الودائع التي تودع في مخازن معينة يستأجرها المودع من البنك، ويودع فيها أمواله بنفسه، ولا علاقة للبنك بهذه الأموال، بل ولا يعرف موظفو (البنك) ما أودع فيها، وأكثر ما يودع فيها المودعون حلي الذهب والفضة والأحجار الثمينة والمستندات ذات القيمة الكبرى، وقد توضع فيها النقود أيضا.
التكييف الفقهي للودائع المصرفية
ولنتكلم على التكييف الفقهي لكل نوع من هذه الأنواع الأربعة قبل أن نتقدم إلى بيان أحكامها؛ لأن الأحكام كلها تنبني على هذا التكييف.
فأما النوع الرابع من هذه الودائع، وهي الخزانات المقفولة، فإن تكييفه لا خفاء فيه، فإنه استئجار من البنك لمخزن معلوم، وإن هذا المخزن يبقى بعد الاستئجار بيد المصرف، وتجري عليه أحكام الأمانة.
أما الأنواع الثلاثة الأخرى، فيختلف تكييفها في البنوك التقليدية عن تكييفها في المصارف الإسلامية، فلنتكلم عن كل منها على حدتها.
ودائع البنوك التقليدية:
أما ودائع البنوك التقليدية، فقد خرجها معظم فقهاء عصرنا على أنها قروض يقدمها البنك، سواء كانت باسم الوديعة؛ لأن العبرة في العقود للمعاني، لا للألفاظ. وإن هذا التكييف يشمل عندهم كل واحد من الأنواع الثلاثة المذكورة؛ لأن المال المودع في كل نوع من هذه الأنواع مضمون على البنك، سواء كان مودعا في الودائع الثابتة، أو في الحساب الجاري، أو في صندوق التوفير، وكونه مضمونا على البنك يخرجه عن طبيعة عقد الوديعة الاصطلاحية في الفقه الإسلامي، لكونها أمانة في يد المودع، غير مضمونة عليها.
ولكن ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى التفريق بين الودائع الثابتة، وبين الحساب الجاري، فقالوا: إن الودائع الثابتة قروض في التكييف الفقهي؛ لأن صاحبها لا يملك سحب رصيده متى شاء، وهذا يخرجها عن طبيعة الوديعة ويجعلها قرضا، وكذلك المال المودع في حساب التوفير ليس وديعة، وإنما هو قرض؛ لأن صاحبه لا يتمكن من سحب كامل الرصيد في وقت واحد. ولكن المال المودع في الحساب الجاري عندهم يختلف عن هذين النوعين، ويزعمون أنه داخل في الوديعة رغم كونه مضمونا. وذلك لأن صاحب هذه الوديعة يملك سحب كامل رصيده متى شاء، دون أن يتوقف ذلك على شيء من الشروط؛ ولأن المودع في هذا النوع من الحساب لا يقصد أبدا أن يقرض ماله للبنك، ولا أن يشاركه في الربح أو الفائدة الحاصلة للبنك بعد استثماره، وإنما يريد إيداعه عند البنك لحفظه. وحيث لم يقصد المودع الإقراض، فلا يمكن أن نسمي فعله إقراضا، ونفسر القول بما يرضى به القائل.
أما تصرف البنك في هذا المال بخلطه مع الأموال الأخرى أو استخدامه لصالحه، فإن ذلك لا يخرجه عن كونه وديعة؛ لأنه تصرف بإذن المالك عرفا، فلا يخرج من كونه وديعة.
ولكن هذا التكييف غير صحيح عندنا. وذلك لأن عامة المودعين لا يعرفون الفرق بين مصطلحات الوديعة والقرض والدين، ولا تهمهم المصطلحات، وإنما تهمهم النتائج العملية، فالمودع – في عامة الأحوال- لا يرضى بإيداع نقوده في البنك إلا إذا ضمن البنك بردها إليه. ولو علم المودع أن هذا المال يبقى أمانة بيد أصحاب البنك بحيث إذا سرقت منه أو ضاعت بدون تعد منه فإن البنك لا يردها إليه، فإنه لا يرضى بإيداعه في البنك، ولولا أن البنك قد أعلم صراحة، أو بحكم العرف السائد في البنوك، أنه يضمن للمودعين ما أودعوا عنده من أموال، لما تقدم معظم المودعين إليه لإيداع أموالهم عنده. وهذا دليل على أن المودعين يقصدون أن تبقى أموالهم عند البنك بصفة مضمونة، وأن يكون للبنك عليها يد ضمان، دون يد أمانة. ويد الضمان لا تثبت بالوديعة، وإنما تثبت بالقرض، فثبت أنهم يقصدون الإقراض دون الإيداع بمعناه الفقهي الدقيق، غير أن مقصودهم الأساسي من وراء هذا الإقراض هو حفظ أموالهم بطريق مضمون، لا التبرع على البنك لمساعدته في مهماته، وإن هذا القصد لا يخرج العقد من كونه قرضا؛ لأن عقد القرض يعتمد على أمرين:
الأمر الأول: أن يعطي المال إلى أحد ويؤذن له بصرفه لصالحه، بشرط أن يرد مثله إلى المقرض متى طلب منه ذلك.
والأمر الثاني: أن يكون المال المدفوع مضمونا على المستقرض.
وهذان العنصران متوفران في الودائع المصرفية. أما أن يقصد المقرض التبرع على المستقرض لمساعدته في مهمته، فليس داخلا في صلب معنى القرض، فقد يتوفر هذا المعنى في بعض القروض، وقد لا يتوفر.
فهذا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه، كان يأتي إليه الناس ليودعوا أموالهم عنده، ولا يقصدون بذلك مساعدة الزبير رضي الله عنه وإنما يقصدون كانوا حفظ أموالهم، ولكن لم يرض الزبير رضي الله عنه بقبول هذه الودائع إلا إذا أذنوا له بالتصرف في هذه الأموال على أن تكون مضمونة عنده، فكان يقول لهم:(لا، لكن هو سلف)(1) . فسمى العقد سلفا، وهو القرض، بالرغم من أن دائنيه لم يقصدوا إقراضه لمساعدته، وإنما قصدوا أموالهم لا غير.
(1) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب بركة الغازي في ماله، مع فتح الباري 6/175؛ وطبقات ابن سعد3.
فظهر بهذا أن قصد حفظ المال لا ينافي كون العقد قرضا. والحق أن عقد القرض وإن كان عقد تبرع من حيث إن المقرض لا يستحق شيئا فوق مقدار ما أقرضه، ولكنه عقد مالي يعتمد على مصلحة الجانبين، فقد تكون مصلحة المقرض أن يؤجر على قرضه في الآخرة فقط (وذلك في القروض التي تقدم إلى المحتاجين بقصد مساعدتهم) وقد تكون مصلحته أن يصير ماله دينا مضمونا على المستقرض، وهذه هي المصلحة التي تدعو الناس إلى إيداع أموالهم في البنوك، ولولا هذه المصلحة لما رجعوا إلى البنوك لحفظ أموالهم. فتبين أنهم يقصدون الإقراض، غير أنهم في عامة الأحوال لا يعرفون أن ما يقصدونه يسمى إقراضا في الاصطلاح الفقهي، فلا يطلقون عليه كلمة الإقراض.
وقد يقال: إن الودائع المصرفية من الحساب الجاري ليست قروضا، وإنما هي وديعة فقهية، غير أن أصحابها قد أذنوا للبنك بخلطها بالأموال الأخرى، واستخدامها لصالحهم، وإن مجرد هذا الإذن لا يخرجها من كونها وديعة، ولكن هذا التكييف لا يصح فقها. وذلك لأن صاحب المال إذا أذن للمودع بخلط الوديعة بماله، فإن العقد ينقلب إلى شركة الملك، ويصير المال المخلوط مشتركا بينهما، كما صرح به الفقهاء. (1) .ومعلوم أن يد الشريك على مال شريكه يد أمانة، فينبغي أن لا يكون ضامنا لما هلك بغير تعد منه.
ولكن أصحاب الأموال الذين يودعون أموالهم في البنك لا يرضون أبدا بأن تكون يد البنك على أموالهم يد أمانة، وإنما يقصدون أن تكون هذه الأموال مضمونة عليه. فتبين أنهم لا يقصدون عقد الوديعة إطلاقا، وإنما يقصدون الإقراض.
فثبت بهذا أن الودائع المصرفية في البنوك التقليدية، بأنواعها الثلاثة، كلها قروض يقدمها أصحاب الأموال إلى البنك، فتجري عليها جميع أحكام القرض.
(1) راجع الدر المختار مع رد المحتار لابن عابدين 6/669 طبع كراتشي.
هل يجوز إيداع الأموال في البنوك التقليدية؟
وبعد وضوح حقيقة هذه الودائع، وثبوت كونها قروضا، ننتقل إلى السؤال الثاني، وهو هل يجوز للمسلمين أن يودعوا أموالهم في البنوك التقليدية التي تعمل في إطار ربوي؟
أما الودائع الثابتة، وودائع التوفير، فإن البنك يدفع فائدة مضمونة لأصحابها. وبما أن هذه الودائع قروض بلا خلاف، فما تدفعه البنوك زيادة على رأس المال، فإنه ربا صراح لا سبيل إلى جوازه. وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي في ذلك قرارا في دورته الثانية، فمن يتقدم إلى البنك لإيداع أمواله في هذين النوعين فإنه يعقد معه عقد قرض ربوي، وذلك حرام، فلا يجوز لمسلم أن يودع ماله في أحد من هذين النوعين.
وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أنه يجوز للمسلم أن يودع أمواله في هذين النوعين، ولكن لا يجوز له أن يستعمل الفوائد الحاصلة منها لصالحه بل يتصدق بها على الفقراء، أو يصرفها في وجوه الخير.
ولسنا نؤيد هذا الرأي، وذلك لأن الإيداع في البنوك من أجل الحصول على الفوائد، ولو كان بنية صرفها في وجوه البر، دخول في معاملة ربوية، وهو حرام بالنص. وإن الصرف في وجوه البر طريق يلجأ إليه التائب من الذنب لاستخلاص رقبته من الكسب الخبيث الذي اكتسبه بطريق غير مشروع، إما لكونه جاهلا عن كونه غير مشروع، أو لكونه لا يهتم بالتزام الشريعة في معاملاته التجارية أو المالية. إما أن يختار رجل ملتزم بالشريعة هذا الطريق المحظور لصرف كسبه الخبيث إلى وجوه البر، فإنه مثل أن يقترف الإنسان إثما بنية أن يتوب منه، وإن المفروض من المسلم أن لا يقارف ذنبا حتى يحتاج كفارته.
هذا بالنسبة للبنوك التقليدية الموجودة في البلاد المسلمة. أما البنوك التي يملكها غير المسلمين في البلاد غير المسلمة فقد ذهب العلماء المعاصرين إلى جواز الإيداع فيها والانتفاع بالفوائد الحاصلة منها على أساس قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله من أنه يجوز أخذ مال الحربي برضاه وأنه لا ربا بين المسلم والحربي.
وإن هذا القول لم يقبله جمهور الفقهاء حتى إنه لم يفت به الفقهاء المتأخرون منهم الحنفية. وبما أن حرمة الربا منصوص عليها بنص قطعي يؤذن بحرب من الله ورسوله لمن لا يتركه، فلا ينبغي في عموم الأحوال أن يدخل المسلم في معاملة الربا، وإن كانت مع الحربيين.
ولكن هناك نقطة جديرة بالتأمل. وهي أن البلاد الغربية قد سيطرت اليوم على عامة بلاد المسلمين، وإن من أهم عوامل غلبتهم ما غصبوا من الأموال الجمة من بلاد المسلمين، أو أخذوها عن طريق الربا على القروض التي استقرضها منهم تلك البلاد. وفي جانب آخر، إن هذه البلاد تحوز كميات هائلة من أموال المسلمين التي أودعها المسلمين في بنوكهم، ينتفعون بها لصالحهم، بل يستخدمونها لإنجاز خططهم السياسية والحربية ضد المسلمين، فلو ترك المسلمون فوائد أموالهم في تلك البنوك، فإن ذلك تقوية لهم. وإن هذه الظروف قد تجعلني أميل إلى القول بأن المسلمين يجوز لهم أن يأخذوا فوائد ودائعهم، ولكن لا ينبغي أن يصرفوا مبالغ الفائدة في حاجاتهم، بل ينبغي أن يصرفوها في وجوه البر، فإن ذلك يقلل من الأضرار التي يعانيها المسلمون بإيداع أموالهم عندهم. والمسألة مطروحة لدى العلماء للبت فيها.
الإيداع في الحساب الجاري من البنوك الربوية
أما الإيداع في الحساب الجاري من البنوك الربوية، فقد أسلفنا أن البنوك لا تدفع للمودعين في هذا الحساب أية فائدة، فالإيداع فيه لا يستلزم الدخول في عقد قرض ربوي. فينبغي أن يجوز من هذه الجهة، ولكن قد يستشكله بعض العلماء المعاصرين بأنه وإن لم يكن قرضا ربويا، ولكن فيه إعانة للبنك في المعاملات الربوية؛ لأن من المعلوم أن البنك الربوي لا يمسك هذه الودائع جامدة، وإنما يستثمرها في القروض الربوية، فيصير المودع للبنك في ممارسته الربوية.
ولكن هذا الإشكال يمكن أن يزال بوجوه:
1-
إن المعمول به في جميع المصارف أن البنك لا يصرف جميع ودائع الحساب الجاري في إنجاز أعماله، وإنما يمسك منها نسبة كبيرة ليمكن له تجاوب متطلبات المودعين كل يوم، وبما أن الودائع كلها مختلطة بعضها ببعض، فلا يمكن الجزم لمودع واحد أن ودائعه مصروفة في معاملة ربوية.
2-
إن للبنك مصاريف كثيرة، وليست جميع هذه المصاريف محظورة شرعا، فمنها ما لا حرمة فيها، ولا يمكن الجزم لمودع ما أن وديعته تستخدم لمصروف لا يحل.
3-
إن القرض اللاربوي عقد جائز شرعا، وإن النقود لا تتعين بالتعيين في العقود الصحيحة، كما تقرر في محله، وإن النقود التي أودعها أحد في الحساب الجاري للبنك لم تعد ملكا له، وإنما صارت ملكا للبنك بحكم الإقراض، فتصرف البنك في تلك النقود ليس تصرفا في ملك المودع، وإنما هو تصرف في ملكه، فلا ينسب هذا التصرف إلى المودع.
4-
إن الإعانة على المعصية، وإن كانت حراما، ولكن لها ضوابط ذكرها الفقهاء، وليس هذا موضع بسطها (1) ، ولوالدى العلامة المفتي محمد شفيع رحمه الله تعالى في ذلك رسالة مستقلة جمع فيها النصوص الفقهية الواردة في مسألة الإعانة، ثم توصل إلى تنقيح الضابط فيها بما يلي:
(1) وليرجع عند الحاجة الدر المختار مع رد المحتار 5/272 وما بعدها؛ وتكملة فتح القدير 8/127 لمذهب الحنفية؛ وراجع شرح المهذب 9/391 ونهاية المحتاج 3/454 وما بعده، وحواشي الشرواني على تحفة المحتاج 4/317 لمذهب الشافعية؛ والمبدع لابن مفلح 4/42 لمذهب الحنابلة؛ والفرق للقرافي 2/33 لمذهب المالكية؛ وراجع أيضا نيل الأوطار للشوكاني5/154
(إن الإعانة على المعصية حرام مطلقا بنص القرآن، أعني قوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقوله تعالى: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] ولكن الإعانة حقيقة هي ما قامت المعصية بعين فعل المعين، ولا يتحقق إلا بنية الإعانة أو التصريح بها، أو تعينها في استعمال هذا الشيء، بحيث لا يحتمل غير المعصية، وما لم تقم المعصية بعينه لم يكن من الإعانة حقيقة، بل من التسبب. ومن أطلق عليه لفظ الإعانة فقد تجوز، لكونه صورة إعانة، كما مر من السير الكبير.
ثم السبب إن كان سببا محركا وداعيا إلى المعصية، فالتسبب فيه حرام، كالإعانة على المعصية بنص القرآن كقوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] وقوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب: 32] وقوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ} [الأحزاب:33] . وإن لم يكن محركا وداعيا، بل موصلا محضا، وهو مع ذلك سبب قريب بحيث لا يحتاج في إقامة المعصية به إلى إحداث صنعة من الفاعل، كبيع السلاح من أهل الفتنة، وبيع العصير ممن يتخذه خمرا، وبيع الأمرد ممن يعصي به، وإجارة البيت ممن يبيع فيه الخمر، أو يتخذها كنيسة أو بيت نار وأمثالها، فكله مكروه تحريما، بشرط أن يعلم به البائع والآجر من دون تصريح به باللسان، فإنه إن لم يعلم كان معذورا، وإن علم وصرح كان داخلا في الإعانة المحرمة.
وإن كان سببا بعيدا، بحيث لا يفضي إلى المعصية على حالته الموجودة، بل يحتاج إلى إحداث صنعة فيه، كبيع الحديد من أهل الفتنة وأمثالها، فتكره تنزيها) . (1)
وقد تحدث رحمه الله تعالى عن هذه المسألة في مقالة أردية له بأوضح مما ههنا، وإليكم ترجمته مع تلخيص من عندي:
(إن أخذنا التسبب بمعناه العام، فلن يبقى عمل مباح على وجه الأرض. فإن زراعة الحبوب الغذائية والثمار يسبب النفع لأعداء الله، وكذلك من ينسج الثياب، فإنه يهيئ لباسا للبر والفاجر، وربما يستعمله الفاجر في فجوره
…
فلا بد إذن من الفرق بين السبب القريب والبعيد. فالسبب البعيد لا حرمة فيه.
(1) أحكام القرآن، للشيخ المفتي محمد شفيع رحمه الله 3:74؛ وجواهر الفقه 2:453.
أما السبب القريب، فهو أيضا على قسمين: القسم الأول ما كان باعثا للإثم بمعنى كونه محركا له، بحيث لولا هذا السبب، لما صدرت المعصية. وإن إحداث مثل هذا السبب حرام كارتكاب المعصية سواء بسواء، وإن هذا القسم من السبب قال فيه الشاطبي في الموافقات: إن إيقاع السبب إيقاع للمسبب
…
وبما أن إحداث مثل هذا السبب في حكم ارتكاب المعصية بالذات، فتنسب المعصية إلى المسبب، ولا تنقطع هذه النسبة عنه بتخلل فعل فاعل مختار.
والقسم الثاني من السبب القريب، ما ليس بمحرك للمعصية في نفسه، بل تصدر المعصية بفعل فاعل مختار، مثل بيع ممن يتخذه خمرا، أو إجارة الدار لمن يتعبد فيها للأصنام، فإن هذا البيع أو الإجارة وإن كان سببا قريبا للمعصية، ولكنه ليس جالبا أو محركا للمعصية في نفسه
…
وحكم هذا النوع من السبب القريب أن البائع أو المؤجر إن قصد بذلك إعانة المشتري أو المستأجر على معصيته، فهو حرام قطعا.
أما إذا لم ينو بذلك المعصية، فله حالتان: الحالة الأولى أنه لا يعلم أن المشتري يتخذ من العصير خمرا. وفي هذه الحالة يجوز البيع بلا كراهة.
أما إذا علم أنه يتخذه خمرا، فإن البيع مكروه
…
فإن كان المبيع يستعمل للمعصية بعينه، من غير احتياج إلى تغيره، فالكراهة تحريمية، وإلا فهي تنزيهية) . (1)
وإذا نظرنا في الودائع المصرفية على هذا الأساس وجدنا أن إيداع رجل أمواله في الحساب الجاري ليس سببا محركا أو داعيا للمعاملات الربوية، بحيث لو لم يودع هذا الرجل ماله، لم يقع البنك في معصية، فدخل في القسم الثاني، ولا يقصد المودع في عامة الأحوال أن يعين البنك في ممارساته الربوية، وإنما يقصد به حفظ ماله. ثم إن المودع لا يعلم بيقين أن ماله سوف يستخدم في معاملة ربوية، بل يحتمل أن يبقى عند البنك، أو يستخدم في معاملة مشروعة، ولو استخدمه البنك في معاملة ربوية، فإن النقود لا تتعين بالتعيين في عقود المعاوضة المشروعة، فلا تنسب هذه المعاملة إلى النقود التي أودعها، وإنما تنسب إلى النقود التي صارت ملكا للبنك. وغاية ما في الباب أن يكون هذا الإيداع مكروها كراهة تنزيه، ولا شك أن كثيرا من المعاملات المشروعة اليوم أصبحت مرتبطة بالبنوك، ويحتاج الإنسان لإنجازها أن يكون له حساب مفتوح في إحدى البنوك، فالحاجة ظاهرة مشاهدة، وترتفع مثل هذه الكراهة التنزيهية بمثل هذه الحاجة إن شاء الله تعالى.
(1) جواهر الفقه 2/460-462.
تكييف الودائع في المصارف الإسلامية:
أما الأموال المودعة في المصارف الإسلامية، فإن ما أودع في حساباتها الجارية، فإنه ينطبق عليه ما ذكرنا في الحسابات الجارية للبنوك التقليدية سواء بسواء، فهي قروض قدمها أصحابها إلى البنك، وهي مضمونة عليه، وتجري عليها جميع أحكام القرض:
ولكن يختلف تكييف الودائع الثابتة وحسابات التوفير في البنوك الإسلامية من تكييفها في البنوك التقليدية، فإن هذه الودائع قروض أيضا في البنوك التقليدية قدمت إليها على أساس الفائدة الربوية، ولكن البنوك الإسلامية لا تعمل على أساس الفائدة الربوية، بل إنما تقبل هذه الودائع على أن يشاركها أصحابها في ربحها إن كان هناك ربح، فليست هذه الودائع في البنوك الإسلامية قروضا، وإنما هي رأس مال في المضاربة، وإنها تستحق حصة مشاعة من ربح البنك، وتحتمل حصة مشاعة من الخسران إن كان هناك خسران، وليست مضمونة على البنك، فلا يضمن البنك أصلها ولا ربحها، إلا إذا حصل هناك تعد من قبل البنك، فإنه يضمن بقدر التعدي.
والفرق بين ودائع المودعين وأسهم المساهمين –على ما يظهر لي- أن العقد بين المودعين والبنك عقد مضاربة، وإنه فيما بين المساهمين أنفسهم عقد شركة. وذلك لأن المساهمين لهم حق التصويت في المجلس العام للبنك، فكأنهم قدموا المال والعمل جميعا إلى البنك، وهذا شأن الشركاء.
وأما المودعون فليس لهم حق التصويت في المجلس العام، فليس لهم أي تصرف في تخطيط أعمال البنك وتسييرها، وإنما يقدمون الأموال إلى البنك فحسب، شأن رب المال في المضاربة، ثم إن المساهمين بمجموعهم مضاربون للمودعين بالنسبة إلى رصيد الودائع، فعلاقتهم فيما بينهم علاقة الشركاء، وعلاقتهم مع المودعين علاقة المضاربة، وإن مثل هذه العلاقات المزدوجة غير أجنبية للفقه الإسلامي. فقد ذكر الفقهاء أن المضارب لو خلط مال المضاربة بمال نفسه فإنه يجوز، فيكون مضاربا في النصف مالكا للنصف. (1)
(1) راجع مبسوط السرخسي 22/133.
ضمان الودائع المصرفية
تبين مما سبق أن الودائع المصرفية في البنوك التقليدية قروض قدمها أصحابها إلى البنك، سواء أكانت ودائع ثابتة، أو ودائع الحساب الجاري، أو ودائع التوفير. فجميع هذه الودائع مضمونة على البنك، بحيث يجب عليه ردها إلى المودعين، سواء ربح البنك في عملياتها أو خسر؛ لأن القرض مضمون على المستأجر في كل حال. وكذلك الحسابات الجارية في البنوك الإسلامية قروض مضمونة على البنك.
ومن هنا ينشأ السؤال: هل ضمان هذه القروض على المساهمين والمودعين جميعا، أم على المساهمين وحدهم؟ وهو السؤال الخامس من الأسئلة المطروحة من قبل أمانة مجمع الفقه الإسلامي.
والجواب عن هذا السؤال: أن هذا الضمان إنما هو على المساهمين فقط، ولا يلزم المودعين. وذلك لأن المستقرض هو البنك الذي يملكه المساهمون.
أما المودعون في الحساب الجاري، فإنهم مقرضون للبنك، ولا يضمن مقرض واحد لمقرض آخر. وكذلك المودعين في الودائع الثابتة وفي حسابات التوفير للبنوك التقليدية فإنهم كلهم مقرضون.
وأما المودعون في حسابات الاستثمار للبنوك الإسلامية، فقدمنا أنهم أرباب أموال في المضاربة، وأن المساهمين مضاربون لهم في حصة ودائعهم، ومشاركون بالنسبة إلى مبالغ سهامهم، فصارت أصول البنك مشتركة مخلوطة بين المساهمين والمودعين، ترجع غنمها وغرمها إلى كل منهما حسب حصته في الأصول، ولما كانت الحسابات الجارية قروضا يستفيد منها البنك في سائر عملياته، ويرجع نفعها إلى المساهمين والمودعين جميعا، فكل واحد من هذين القسمين ضامن للقروض التي يستفيد بها. (1) ، وذلك على أساس القاعدة المعروفة أن الخراج بالضمان، وأن الغنم بالغرم.
وبعبارة أخرى، فإن المستقرض بالنسبة للحسابات الجارية هو البنك، والبنك يتألف من المساهمين والمودعين في الودائع الثابتة وودائع التوفير؛ لأن كل واحد من القسمين مشارك في عمليات البنك، ولا تؤخذ قروض الحسابات الجارية إلا لإنجاز هذه العمليات التي يشاركها فيها المساهمون والمودعون، فتكون هذه القروض مضمونة عليهما جميعا، فلا يوزع الربح فيما بين المساهمين والمودعين في حساب الاستثمار إلا بعد تلبية طلبات المودعين في الحساب الجاري لاسترداد مبالغهم، وعند تحليل لبنك يقدم أصحاب الحساب الجاري بصفة كونهم مقرضين في قضاء ديونهم، وإنما يستحق المساهمون وأصحاب حساب الاستثمار أصولهم أو أرباحهم بعد قضاء ديون الحساب الجاري، بصفة كونهم مستقرضين.
وقد يستشكل هذا بأن هناك ودائع كثيرة في الحساب الجاري قد أودعها أصحابها في البنك قبل أن يدخل شخص في حساب الاستثمار، فكيف يضمن هذا الشخص الجديد القروض التي استقرضها البنك قبل أن يكون شريكا فيه؟
والجواب عن هذا الإشكال أن من يدخل في تجارة جارية كشريك، فإنه يشارك تلك التجارة في جميع ديونها وأرباحها، سواء كانت تلك الديون قد تحملتها التجارة قبل دخوله فيها، فكذلك هؤلاء المودعين، يدخلون في البنك كشركاء، فيتحملون ضمان هذه القروض.
(1) قال العلامة الكاساني رحمه الله: ولو استقرض (أي الشريك) مالا لزمهما جميعا؛ لأنه تملك مال بالعقد، فكان كالصرف، فيثبت في حقه وحق شريكه
استخدام الحساب الجاري كرهن أو ضمان
وقد طرحت من قبل الأمانة العامة للجميع مسألة استخدام الحساب الجاري كرهن، والمراد منها: هل يجوز لصاحب الحساب الجاري أن يرهن المبلغ المودع في هذا الحساب توثيقا لدين قد يجب عليه لسبب أو آخر؟
والجواب عن هذا السؤال أن المرهون يجب عند الجمهور أن يكون عينا متقوما يجوز بيعه (1) ، فلا يصلح الدين أن يكون رهنا، وقدمنا أن الحساب الجاري دين صاحبه ذمة البنك، فلا يصح رهنه على قول جمهور الفقهاء، وقد ذهب المالكية إلى جواز رهن الدين عند المدين وغيره، ولكن اشترطوا لصحة رهنه عند المدين أن يكون أجل الدين المرهون مثل أجل الدين المرهون به أو أبعد منه.
قال العدوي رحمه الله:
(ويشترط في صحة رهنه من المدين أن يكون أجل الرهن مثل أجل الدين الذي رهن به أو أبعد، لا أقرب؛ لأن بقاءه بعد محله كالسلف، فصار في البيع بيعا وسلفا، إلا أن يجعل بيد أمين إلى محل أجل الدين الذي رهن به) . (2)
وفي ضوء هذه النصوص، يحتمل أن يكون لرهن الحساب الجاري صور مختلفة:
1-
أن يكون للبنك نفسه دين على صاحب الحساب الجاري، فيرهن حسابه للبنك توثيقا لدينه. وذلك يجوز عند المالكية بشرط أن يؤجل الحساب الجاري إلى أجل دينه، بحيث لا يملك صاحبه سحب ما يزيد على دين البنك قبل حلول أجله. أما على قول الجمهور، فمقتضى قولهم أنه لا يصح الحساب الجاري رهنا لكونه دينا، والدين ليس عينا يصح بيعه.
(1) انظر المغني لابن قدامة 4/375 طبع بيروت مع الشرح الكبير.
(2)
حاشية العدوي بهامش الخرشي على مختصر خليل 5/236.
2-
أن يكون الدائن غير البنك، فيرهن المدين حسابه الجاري عنده بحيث يملك الدائن السحب من ذلك الحساب متى شاء. ومقتضى ما ذكرنا من قول المالكية أن يجوز هذا الرهن مطلقا. أما على قول الجمهور فلا يصح ذلك رهنا؛ لأن الدين لا يرهن عندهم. ولكن يمكن أن يصح ذلك على أساس الحوالة، فكأن صاحب الحساب أحال دائنه على البنك بحيث يستطيع أن يستوفي دينه من البنك متى شاء.
3-
أن يكون الدائن غير البنك، فيطالب المدين أن يجمد حسابه الجاري في البنك إلى أن يحل أجل الدين. ويحتمل تخريجه على أنه رهن وضع على يد فريق ثالث يسمى في الفقه (عدلا) ولكن الرهن الموضوع على يد العدل يكون أمانة في يده، ولا يجوز للعدل أن يتصرف فيه أو ينفقه لصالحه، وظاهر أن البنك يتصرف في جميع الحسابات الجارية، فلا يكون أمينا للمبالغ المودعة فيها، فلا ينطبق عليه مبدأ وضع الرهن على يد العدل، إلا أن يقال: إن العدل قد أذن له الدائن والمدين كلاهما أن يتصرف في المبلغ المرهون بشرط الضمان، ولم أر حكمه في كتب الفقه صراحة، غير أنه يظهر أنه لا مانع من ذلك، والله سبحانه أعلم.
هذا إذا كان الدين المرهون به مؤجلا، أما إذا كان حالا، كالقرض الذي لا يتأجل بالتأجيل عند الحنفية وغيرهم، فيمكن تخريج تجميد الحساب على أساس الحوالة، كما قدمنا في الصورة الثانية.
رهن الوديعة الاستثمارية:
أما الودائع الاستثمارية في البنوك التقليدية، فلا يختلف حكمها عن الحسابات الجارية؛ لأنها قروض كما أسلفنا، فينطبق عليها جميع ما قلنا في رهن الحسابات الجارية. أما في البنوك الإسلامية، فليست الودائع الاستثمارية دينا على البنك، وإنما هي حصة مشاعة للمستثمر في موجودات البنك، فلا يجوز رهنها على قول من يمنع رهن المشاع، وهم الحنفية. فإن الأصح عندهم أنه لا يجوز رهن المشاع، ولو كان من شريكه (1) ، وأما الشافعية والمالكية والحنابلة، فإنهم لا بأس عندهم برهن المشاع (2) ، فيجوز عندهم رهن الودائع الاستثمارية في البنوك الإسلامية.
تجميد البنك أموال صاحب الحساب
طرحت الأمانة العامة للمجمع سؤالا آخر، وهو: هل يجوز للبنك أن يحجز أموال العميل المودع في حساب جار لتصفية حقوق عليه ناشئة من عمليات أخرى وبعبارة أخرى: هل يجوز للبنك أن يجمد الحساب الجاري لعميله، وأن يستوفي منه حقوقه المالية التي وجبت عليه من خلال عمليات التمويل؟
والجواب عن هذا السؤال: أن هذا التجميد إن كان برضا من صاحب الحساب، فتجري عليه أحكام الرهن حسبما فصلنا في الجواب عن السؤال السابق.
وكذلك استيفاء البنك ديونه على العميل من حسابه الجاري، إن كان برضا منه، فتجري عليه أحكام المقاصة. أما إذا كان بدون إذن من صاحب الحساب، بأن كانت عليه ديون للبنك، ولم يوفها في موعدها، فأراد البنك أن يستوفيها من حسابه الجاري المفتوح عنده، فتنطبق عليه المسألة المعروفة عند الفقهاء والمحدثين باسم (مسألة الظفر) . وحاصل المسألة أن الدائن إذا ظفر بمال المدين هل يجوز له أن يستوفي حقه من ماله الذي ظفر به؟ وقد ذكر الفقهاء أن المدين إن كان مانعا للدين لأمر يبيح المنع، كالتأجيل والإعسار، لم يجز أخذ شيء من ماله، وكذلك إن كان المدين مانعا بغير حق، لكن يقدر الدائن على استخلاص حقه بالحاكم، لم يجز له الأخذ أيضا، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، إلا أن هناك وجها عند الشافعي رحمه الله يجيز له الأخذ. وأما إذا لم يقدر الدائن على استخلاص حقه بحكم الحاكم فهذا موضع خلاف بين الأئمة على الشكل التالي. (3)
1-
قال الشافعي رحمه الله تعالى: جاز له أخذ حقه مما ظفر به، سواء كان المال الذي يجده من جنس حقه، أو من خلاف جنسه، وهو رواية عن مالك رحمه الله.
(1) رد المحتار، لابن عابدين 5/348.
(2)
المغني لابن قدامة 4/375
(3)
انظر لهذا التفصيل: المغني لابن قدامة 12/229و230، كتاب الدعاوي والبينات.
2-
قال أحمد رحمه الله تعالى في المشهور عنه: ليس له الأخذ من ذلك المال، بل يرده، ثم يطالبه بدينه، وهو رواية عن مالك رحمه الله.
3-
وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز له الأخذ إن كان ما وجده من جنس حقه، مثل أن تكون له على المدين دراهم، فوجد دراهم مملوكة له. يجوز له أخذها بقدر حقه، ولا يجوز له إن كان من غير جنسه، مثل أن تكون له على المدين دراهم، فوجد دنانير، لا يجوز له الأخذ.
هذا أصل مذهب الحنفية، لكن المتأخرون من فقهاء الحنفية أفتوا في هذه المسألة بقول الشافعي، رحمه الله، فأجازوا للظافر أن يستوفي حقه مما ظفر به من مال المدين مطلقا، سواء كان المال الذي ظفر به من جنس حقه، أو لم يكن.
يقول ابن عابدين ناقلا عن شرح القدوري للأخصب:
(إن عدم جواز الأخذ من خلاف الجنس كان في زمانهم، لمطاوعتهم في الحقوق. والفتوى اليوم على جواز الأخذ عند القدرة من أي مال كان، لا سيما في ديارنا، لمداومتهم العقوق) . (1)
وقد وردت عن المالكية في ذلك روايات ثلاثة، كالمذاهب الثلاثة المتقدمة. والمشهور من مذهبهم أنه إن لم يكن للمدين دائن آخر، سوى الظافر، فله أن يأخذ بقدر حقه، وإن كان له دائن آخر لم يجز؛ لأنهما يتحاصان في ماله إذا أفلس.
وقد استدل المجوزون للأخذ، وهم الجمهور، بحديث هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان رضي الله عنهما أنها قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل على في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك)) (2)
وعلى أساس هذا الحديث، الراجح من مذهب الشافعية والحنفية، يجوز للبنك أن يستوفي حقه، كله أو بعضه، من الأموال المودعة عنده في الحساب الجاري المدين.
ومن المناسب، رفعًا للخلاف الفقهي المذكور، أي يضيف في اتفاقيته مع عملائه بندًا يصرح بأنه يحق للبنك، إذا قصر العميل في أداء ما يجب عليه في موعده، أن يستوفي حقه من حسابه المودع لدى البنك. وإذا وقع العميل على هذا البند من الاتفاقية، فإنه يرضى بمقاصة ما يجب عليه من حسابه الجاري أو من حساب الاستثمار ، وحينئذ، تخرج المسألة من مسألة الظفر، وتجري عليها أحكام المقاصة بالتراضي، ويجوز ذلك عند جميع الفقهاء بدون أي خلاف.
(1) رد المحتار، لابن عابدين 5/105، كتاب الحجر، وقد ذكر مثل ذلك في كتاب الحدود 3/219 و220؛ وفي الحظر والإباحة 5/300.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع من صحيحه، منها كتاب البيوع، باب من أجرى الأنصار على ما يتعارفون بينهم، رقم 2211، وفي المظالم، باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه، رقم 2460، وفي النفقات، رقم 5359 و5364 وغيرها، واللفظ المذكور لمسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب قضية هند. وقد بسطت الكلام على مذاهب الفقهاء وأدلتهم في هذه المسألة في كتابي (تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم) 2/578
طريق محاسبة الودائع المصرفية
المعروف في البنوك التقليدية اليوم أنها تعد لائحة الموجودات والمطلوبات (Balance Sheet) للبنك. فالموجودات: هي الأموال التي هي موجودة بيد البنك، أو يتوقع الحصول عليها في المستقبل، مثل التمويلات المقدمة إلى العملاء، التي يرجو البنك استرداها مع الفوائد. والمطلوبات: هي الأموال التي لها مطالب خارج البنك، ويجب على البنك أن يؤديها إلى مطالبيها. ومن عادة البنوك التقليدية أنها تدرج جميع الودائع المصرفية في المطلوبات؛ لأنها تلتزم بردها إلى أصحابها، إما عند طلبهم في الحسابات الجارية وحسابات التغير، وإما عند حلول أجلها في الحسابات الثابتة. أما التمويلات التي يقدمها البنك إلى عملائه، فإنها تدرج في بند الموجودات، لأن البنك يتوقع استردادها منهم مع الفوائد.
أما البنوك الإسلامية، فلا يستقيم فيها هذا الوضع. أما حساباتها الجارية، فإنها تدرج في المطلوبات كما أنها تدرج في البنوك التقليدية، وذلك لما أسلفنا من أن الحسابات الجارية ديون على البنك يستحقها أصحابها، أما حسابات الاستثمار ، فليست ديونا على البنك، وإنما هي أموال شركة أو مضاربة اختلطت مع أموال البنك الأخرى، وليست هذه الأموال مضمونة على البنك، فلا يستقيم إدراجها في قائمة المطلوبات بالمعنى الدقيق. وكذلك التمويلات التي يقدمها البنك إلى عملائه لا يمكن إدراج جميعها في الموجودات؛ لأن التمويلات المقدمة على أساس المشاركة والمضاربة غير مضمونة، فإن العميل لا يستطيع أن يضمن أصلها فضلا عن ربحها. نعم يمكن إدراج أثمان المرابحات وأجرة المؤجرات في مطلوبات البنك.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن أن تكون لائحة البنك الإسلامي مماثلة للائحة بنك تقليدي من كل الوجوه، بحيث تساوي مبالغ موجوداته مبالغ المطلوبات مائة في مائة. بل ينبغي أن تكون لائحة البنك الإسلامي مثل لائحة شركة تجارية أخرى. وهذا يوافق طبيعة البنك الإسلامي؛ لأنه ليس مؤسسة للإقراض والاقتراض فقط، وإنما هي مؤسسة تجارية تساهم التجارة الوطنية في أربحها وأخطارها.
ولئن وضع بنك إسلامي لائحته على طراز بنك تقليدي بإدراج حسابات الاستثمار في المطلوبات وبإدارج التمويلات كلها في الموجودات، فإن ذلك إنما يكون على سبيل التقريب والاحتمال، لا على أساس القطع واليقين. والله سبحانه أعلم.
طريق محاسبة الربح للمودعين في حساب الاستثمار
وإن من أهم مسائل الودائع المصرفية طريق محاسبة الربح الحاصل على كل وديعة.
والمشكلة إنما نشأت من جهة أن الشركة والمضاربة في أصلهما إنما تتصوران تجارة يحدثها رجلان أو رجال معدودون، والشركاء كلهم يعقدون الشركة فيما بينهم منذ أول نشأة عملية تجارية، ويبقون بهذه الصفة إلى أن تنض الأموال ويوزع الربح بينهم على أساس التنضيض الحقيقي، وحينئذ لا غموض في محاسبة الربح أو الخسارة.
ولكن الشركات المساهمة الكبيرة اليوم يساهم فيها مئون من الرجال، ويخرج من عقد الشركة عدد كبير من الناس كل يوم، ويدخل فيها آخرون.
ومما يزيد الأمر تعقيدا هو تعامل البنوك المعاصرة من كون ودائع كل رجل تزيد وتنقص كل يوم، فإن من يفتح حسابا في البنك، فإنه قد لا يحتاج إلى سحب بعض المبالغ منه في يوم، ثم إلى إيداع بعضها مرة أخرى في يوم آخر، وإن هذه العملية لا تختص بالحسابات الجارية فقط، بل يجري مثل ذلك في حسابات التوفير، حتى في الودائع الثابتة، فإن الودائع الثابتة وإن كان المفروض فيها أن تكون مؤجلة إلى أجل معلوم، ولا يملك صاحبها أن يسحب منها شيئا قبل أن يحل ذلك الأجل، ولكن المعمول به في أكثر البنوك أنها تسمح لصاحبها أن يسحب هذه الودائع أيضا عندما يحتاج إليها، وينقص البنك من فائدته بحساب ما بقي من أيام الأجل.
ثم إن حسابات الودائع الثابتة كلها لا تفتح في تاريخ واحد، بل تختلف تواريخ هذه الودائع من شخص إلى آخر، كما تختلف آجالها من حساب إلى حساب، فلا تكون فترات الإيداع واحدة لجميع الأشخاص، بل يكون بينها تباين لا يحتمل التوفيق، فإذا حولت هذه العمليات إلى عقود الشركة أو المضاربة، فإن من الصعب جدا أن تحدد الأرباح والخسائر المتأتية على كل وديعة على الأساس المعروف لتحديدها.
وقد يقترح بعض الناس أن تغير البنوك الإسلامية طريق قبول الودائع مما هو معمول به في البنوك التقليدية، فلا تقبل ودائع التوفير والودائع الثابتة إلا في تواريخ محددة ولآجال موحدة، لتبتدئ فترة جميع الودائع في وقت واحد وتنتهي في وقت واحد، وليتمكن البنك من تحديد الأرباح الحاصلة عليها على أساس المعروف.
ولكن هذا الاقتراح يصعب العمل به في البنوك، لأن طبيعة الأعمال المصرفية تقتضي أن تظل عمليات السحب والإيداع مفتوحة لكل أحد كل يوم، وإن تقييد هذه العمليات بيوم موحد مخصوص تسبب مشاكل كثيرة للتجارة السريعة المعاصرة، ويجعل كميات كبيرة من الأموال معطلة ومنعزلة عن النشاط التجاري. وبما أن توجيه الأموال الفائضة إلى النشاط التجاري والصناعي مطلب صحيح يوافق الشريعة الإسلامية، فإن ضرر المجتمع ببقاء هذه الأموال فاترة ضرر ينبغي أن يزال.
وهناك اقتراح آخر، تقدم به بعض الناس، وهو أن الودائع المصرفية ينبغي أن تقسم إلى وحدات صغيرة كالسهام، وكل من يتقدم إلى المصرف لتوديع أمواله، يحصل على عدد من هذه الوحدات، ثم إن هذه الوحدات تقوم كل يوم بقيمة يعلنها البنك على أساس تقويم أصوله وموجوداته. فمن أراد أن يسحب مبلغا من البنك، فإنه يبيع هذه الوحدات إلى البنك، ويلتزم البنك شراءه على أساس القيمة المعلنة كل يوم. وإن هذه القيمة المعلنة كل يوم ينعكس فيها الربح الحاصل على كل وحدة إن ازدادت قيمة موجودات البنك، وتنعكس فيها الخسارة إن انتقصت قيمة الموجودات.
وإن هذا الاقتراح يمكن العمل به في شركات الاستثمار غير المصرفية، ولكنه يصعب تطبيقه في البنوك، وذلك لوجوه:
أما أولا، فلأن هذا الاقتراح لا يساير طبيعة الأعمال المصرفية المعاصرة التي تقتضي السرعة في إنجاز العمليات، وإن تقييد السحب والإيداع بالوحدات المخصوصة، مهما كانت الوحدات صغيرة، مما يعقد هذه العمليات وإن كثيرا من السحوب المصرفية إنما تكون عن طريق الشيكات المصرفية التي يصدرها أصحابها قضاء لواجباتهم المالية، ومن الصعب جدا أن تقسم هذه الواجبات إلى وحدات مطلوبة، فإن الواجبات تختلف من شخص إلى آخر، ولا يمكن أن تكون موافقة لوحدات الودائع.
وأما ثانيا، فلأن هذا الاقتراح يوجب التقويم اليومي لجميع موجودات البنك على أساس سعر السوق، وذلك صعب أيضا.
وأما ثالثا، فلأن الكثير من موجودات البنك لا تكون إلا في صورة نقود أو ديون، وإن جماعة من العلماء المعاصرين لا تجوز بيع أسهم الشركات إلا إذا كانت أصولها الثابتة أكثر من النقود والديون. وعلى رأيهم لا يجوز بيع وحدات البنك فيما إذا كانت معظم موجوداته نقودا أو ديونا. (1)
ومن أجل هذه الأسباب، لا يحل هذا الاقتراح مشكلة تحديد الأرباح في الودائع المصرفية.
وطالما بحثت في كلام الفقهاء عن طريق محاسبة الأرباح فيما إذا استرد الشريك أو رب المال بعض ماله، فلم أفز إلا بمسألة في كلام العلامة النووي رحمه الله في المنهاج، حيث قال في أواخر كتاب القراض:
(ولو استرد المالك بعضه قبل ظهور ربح وخسران رجع رأس المال إلى الباقي، وإن استرد بعد الربح، فالمسترد شائع ربحا ورأس مال.
مثاله: رأس المال مائة، والربح عشرون، واسترد عشرين، فالربح سدس المال، فيكون المسترد سدسه من الربح، فيستقر للعامل المشروط منه، وباقيه من رأس المال وإن استرد بعد الخسران فالخسران موزع على المسترد والباقي، فلا يلزم جبر حصة المسترد لو ربح بعد ذلك.
مثاله: المال مائة، والخسران عشرون، ثم استرد عشرين، فربع العشرين حصة المسترد، ويعود رأس المال إلى خمسة وسبعين) . (2)
وإن هذا الطريق إنما يعالج مشكلة واحدة، وهي سحب رب المال بعض ماله من مال المضاربة، ولكن لا ينظر إلى رد بعض المسترد أو كله مرة أخرى إلى مال المضاربة، وكذلك رب المال في هذا المثال واحد، وظهور الربح أو الخسران واضح، فلو أضفنا إلى هذا المثال أن أرباب الأموال ألوف، وكل واحد منهم يسحب بعض مبالغة تارة، ويرد بعضها أخرى، لتعقد الحساب بما يجعل ضبطه الدقيق كالمستحيل.
(1) أما على قول الحنفية، فمقتضى قولهم في مسألة (مد عجوة) أن يجوز بيع الأسهم فيما كان بعض أصول الشركة عروضا، سواء كان أكثر موجوداتها نقودا وديونا، بشرط أن تكون القيمة زائدة على حصة السهم من النقود والديون، صرفا للزائد إلى العروض.
(2)
مغني المحتاج، للشربيني الخطيب 2/320 و321.
حساب الإنتاج اليومي ومدى جواز استخدامه في محاسبة الأرباح
وقد يوجد حل هذه المشكلة فيما يسمى في عرف المحاسبة المعاصر (حساب الإنتاج اليومي)(Daily Products) وقد يعبر عنه بحساب النمر، ومعنى استخدام هذا الطريق في الشركة أو المضاربة أن عند نهاية كل فترة يحدد إجمالي مبالغ الربح الحاصلة على جميع الأصول المستثمرة، ثم تقسم هذه المبالغ على الأموال المستثمرة، وعلى مجموع أيام الفترة الحسابية بحيث يعرف قدر ما ربحته وحدة نقدية كالربية الواحدة كل يوم، وإن كل واحد من الشركاء يعطى على كل واحدة من ربيته ربح الأيام التي ظلت فيها الربية مصروفة في حساب الاستثمار، فإذا كانت الربية الواحدة مصروفة في حساب الاستثمار لمدة أكثر، يوزع عليها ربح أكثر، وإن كانت الربية الواحدة مصروفة لمدة أقل، فإنها تحصل على ربح أقل.
مثاله: لو دل حساب الإنتاج اليومي أن ربية واحدة قد ربحت فلسا واحدا كل يوم، فالربح الحاصل على الربية المستثمرة لمائة يوم مائة فلس، سواء كانت هذه المائة يوم متوالية أو متفرقة؛ فمن بقيت ربيته الواحدة مصروفة في الاستثمار بمقدار مائة يوم متوالية أو متفرقة من الفترة المحاسبية، فإنه يستحق مائة فلس من الربح، ومن كانت ربيته الواحدة مصروفة بمقدار يوم، أو كانت ربيتها مصروفتين بمقدار مائة يوم، فإن كل واحد منهما يستحق مائتي فلس.
وهكذا يظل المستثمرون يسحبون ما شاؤوا من المبالغ في أثناء الفترة ويودعون ما شاؤوا مرة أخرى، وإن حقهم في الربح إنما يتعين على أساس مجموع الأيام التي بقيت فيها أموالهم مصروفة في الاستثمار. (1)
هذا هو الحل الوحيد الذي يبدو عمليا في طريق محاسبة الأرباح على الودائع الاستثمارية في المصارف الإسلامية، ولكنه يحتاج إلى تكييف شرعي تقبله طبيعة الفقه الإسلامي، ونظرا إلى التصور المعروف للشركة أو المضاربة في الفقه، فإن هناك عدة عوائق في سبيل تطبيقه في الشركة والمضاربة:
1-
معرفة الربح الحقيقي تتوقف –حسبما ذكره الفقهاء- على تنضيض جميع موجودات الشركة، حتى إن اقتسام الربح قبل التنضيض يعتبر كالمدفوع تحت الحساب، ويبقى تابعا للتصفية النهائية بعد التنضيض، أما في العمليات المصرفية، فلا يتصور التنضيض الكلي حتى في نهاية السنة؛ لأن عمليات التمويل لا تزال فيها جارية بصفة مستمرة كل يوم.
(1) راجع لطريق هذه المحاسبة وأمثلته (محاسبة الشركات والمصارف في النظام الإسلامي) ص: 179-181. طبع القاهرة سنة 1404هـ.
وحل هذه المشكلة فيما يظهر لي –والله أعلم- أن يصفى حساب الشركة في نهاية كل سنة على أساس التنضيض التقديري، وهو التقويم، وحاصل ذلك أن جميع الأعيان التي يملكها البنك في نهاية السنة من خلال عمليات التمويل يشتريها مساهمو البنك من سلة الودائع الاستثمارية، ويضاف قيمتها إلى الأموال الناضة، ويوزع الربح على ذلك الأساس، وتنتهي عقود المضاربة والشركة لتلك السنة. وفي بداية السنة الجديدة تعقد الشركة بين المودعين والمساهمين من جديد، وتعتبر قيمة الأعيان المذكورة حصة من رأس مال المساهمين لهذه الشركة الجديدة؛ لأنهم يشغلونها لصالح السلة الاستثمارية مرة أخرى بعد أن دفعوا قيمتها إلى السلة الاستثمارية وملكوها. وغاية الأمر أن تلتزم منه الشركة بالعروض، ولكن ذلك جائز عند المالكية وبعض الحنابلة على أساس القيمة مطلقا، وعند الشافعي رحمه الله إن كانت العروض من ذوات الأمثال (1) ، وعند الحنفية إن اختلطت العروض بعضها ببعض (2) ، ولا بأس بالأخذ بقول المالكية في هذه المسألة للتيسير على الناس. (3)
2-
إن طبيعة المضاربة والشركة التقليدية تقتضي أن تكون جميع الأموال مدفوعة في وقت واحد إلى التجارة المشتركة، حتى ذكر الفقهاء أنه لو دفع رب المال مالا آخر بعد تشغيل الأول لم تجز المضاربة في المال الثاني. قال النووي رحمه الله:(لو دفع إليه ألفا قراضا، ثم ألفا، وقال: ضمه إلى الأول، لم يجز القراض في الثاني ولا الخلط؛ لأن الأول استقر حكمه بالتصرف ربحا وخسرانا، وربح كل مال وخسرانه يختص به)(4)
وهذا إذا كان المالان جميعا لرجل واحد، أما إذا كان المالان لرجلين مختلفين كذلك بالطريق الأولى، لأن المنافع متفاوتة.
أما الودائع المصرفية، فلا تدفع إلى البنك في وقت واحد، ولا تشغل في الأعمال الاستثمارية إلا في أوقات مختلفة، فلا يمكن تطبيقها على الأساس المعروف للشركة أو المضاربة التقليدية.
(1) المغني، لابن قدامة 5/124 و125.
(2)
بدائع الصنائع، للكاساني 6/59.
(3)
راجع إمداد الفتاوى، للشيخ أشرف على التهانوي رحمه الله 3:495.
(4)
روضة الطالبين للنووي 5:148.
3-
ثم إن سحب بعض الأموال قبل نهاية الفترة إنما يستلزم فسخ الشركة في ذلك الجزء المسحوب، ويمكن أن يكون الجزء المسحوب لم يربح شيئا إلى وقت السحب، أو يكون قد ربح أكثر مما يقدر بحساب الإنتاج اليومي، وفي الصورة الأولى يحوز هذا الجزء حصة من ربح مودع آخر، وفي الصورة الثانية تنتقل حصته إلى مودع آخر.
ولا سبيل إلى إبعاد هذه العوائق إلا أن نقول: إن (الشركة الجماعية المستمرة) نوع جديد مستقل من أنواع الشركات، ولا يجب لجوازه أن يتوفر فيه جميع عناصر شركة العنان أو المفاوضة. لكونه نوعا مستقلا، ولا يحكم بعدم جوازه إلا إذا تضمن ذلك إخلالا بأحد الشروط المنصوصة لجواز الشركة.
ولا شك أنه ليس هناك نص في القرآن والسنة يحصر الشركة المشروعة في الأنواع التي ذكرها الفقهاء في كتبهم، وإنما بنى الفقهاء هذا التقسيم على استقراء ما كان معمولا به في بيئتهم. ولم تكن بعض هذه الأنواع إلا وليدة حاجات الناس في التجارة، مثل شركة التقبل، أو شركة الوجوه، فإنه لا يوجد لهما ذكر في نصوص القرآن والسنة، ولكنهم جوزوهما لمكان الحاجة، فلو حدث هناك قسم آخر للشركة فإنه لا يحكم ببطلانها بمجرد كونها لا تدخل في أحد الأقسام المذكورة في كتب الفقه، ما لم يعارض المبادئ الأساسية المنصوصة في القرآن أو السنة.
وعلى هذا، فنستطيع أن نقول: إن (الشركة الجماعية المستمرة) نوع جديد للشركة أحدثتها حاجة الناس في مداولاتهم المعاصرة، وما دامت المبادئ الأساسية للشركة متوفرة فيها، فإنها لا تفسد بمجرد أنها لا تنطبق عليها بعض الفروع الجزئية التي ذكرها الفقهاء، ويلاحظ أن أموال جميع الشركاء مخلوطة في هذه الشركة، وكل منها معرض للربح والخسارة، ولا ينفرد فيها أحد الشركاء بتخصيص مبلغ معلوم من الربح، بل يشارك كل واحد منهم في الربح والخسارة على حد سواء لا فضل لأحدهم على الآخر، فإن المبدأ الأساسي للشركة موجودة في هذا النوع من الشركة.
أما توزيع الربح على أساس الإنتاج اليومي،فإنه وإن لم يكن توزيعا للربح الذي نتج فعلا على كل مال على حدة، ولكنه توزيع للربح التقديري الذي حصل على مجموع الأموال في فترة واحدة، وذلك على أساس التراضي بين الشركاء منذ أول نشأة الشركة في حين أنه لا يوجد للتوزيع أساس عادل سواه في مثل هذه العمليات.
ويوجد لمثل هذا الأساس نظيران في الأنواع القديمة للشركة أيضا:
أما النظير الأول، فهو شركة الأعمال، ويسمى شركة الأبدان وشركة التقبل أيضا. وهو أن يشترك رجلان في تقبل الأعمال لغيرهما على أن ما يحصلان عليه من الأجرة يكون بينهما على ما شرطا. وقد صرح الفقهاء بأن ذلك جائز، وإن كانت أعمالهما متفاوتة في الكمية والكيفية. فلو اشترط المشاركان أن الأجرة الحاصلة تنقسم عليهما نصفين، فإن كل واحد منهما يستحق النصف، وإن كان عمله أقل من النصف؛ لأن الشركة إنما وقعت على ضمان العمل، وهو مضمون عليهما نصفين. (1)
والنظير الثاني: ما ذهب إليه من أن خلط مال الشركاء ليس بشرط لصحة الشركة. ومقتضى ذلك أنه لو كان لأحد الشريكين دراهم وللآخر دنانير، فعقدا الشركة بدون أن يخلطا أموالهما، فاشترى كل واحد منهما بمال نفسه على حدة، فإنهما يشتركان في الربح. قال الكاساني:(واختلاط الربح يوجد، وإن اشترى كل واحد منهما بمال نفسه على حدة؛ لأن الزيادة وهي الربح، تحدث على الشركة) . (2)
ومقتضى هذين النظيرين أنه لا يجب شرعا أن يكون ربح كل واحد من الشركاء مبنيا على ما حصل على مساهمته (المالية أو العملية) فعلا، بل يجوز أن يتفقا على أساس آخر لتوزيع الربح بينهما.
وعلى هذا، فلو اتفق الشركاء على أساس الإنتاج اليومي لتوزيع الربح بينهم، فإن ذلك لا يبدو مصادما لنص من نصوص الشريعة الإسلامية، وإنما هو طريق حسابي مخصوص لجأ إليه الشركاء لفقدان أساس عملي آخر في شركة جماعية مستمرة، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا.
والله سبحانه أعلم وعلمه أتم وأحكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
القاضي محمد تقي العثماني
(1) راجع بدائع الصنائع/ الكاساني 6:65.
(2)
بدائع الصنائع 6/60.