المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

‌سد الذرائع

إعداد

الشيخ خليل محي الدين الميس

مفتي البقاع ومدير أزهر لبنان

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:

إن سد الذرائع من مظاهر الاجتهاد بالرأي في الشريعة الإسلامية، حيث لا نص من كتاب أو سنة أو إجماع، وهو من المصادر المختلف فيها

وتراوح وصفه ما بين القاعدة

والأصل والمبدأ، وعلى أي حال فهو دليل من الأدلة الشرعية

وأصل من الأصول عند فقهاء المالكية بالذات؛ لذلك أسهب الشاطبي في موافقاته في الحديث عنها، وكذلك الشأن عند متأخري فقهاء الحنابلة وبوجه خاص كل من شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم

وأورده القرافي في تنقيحه وفروقه، وكتب الفروع حافلة بالمسائل التي اعتبر الدليل فيها (سد الذرائع) .

والله تعالى نسأل أن يلهمنا الصواب في القول والعمل للكتابة في هذا الموضوع الذي وقع الاختيار عليه ضمن موضوعات الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي.

والله ولي التوفيق.

ص: 1239

المبحث الأول

تعريف سد الذرائع وبيان معنى سدها

تعريفه: الذرائع جمع ذريعة، والذريعة لها استعمالات كثيرة ويدل أصلها على الامتداد والتحرك.

والذريعة في اللغة: من ذرع وهو أصل يدل على الامتداد والتحرك إلى الأمام وكل ما تفرع عن هذا الأصل يرجع إليه (1) .

فالذرائع: العضو الممتد من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى، وذرع الرجل في سباحته تذريعًا: اتسع ومد ذراعيه.

والذرع والذراع: الطاقة والوسع، ومنه قولهم ضاق بالأمر ذرعه وذراعه وضاق به ذرعاَ وذراعًا ضعفت طاقته ولم يجد من المكروه فيه مخلصًا (2) .

وأصل الذرع كما يقول الجوهري: إنما يرجع إلى بسط اليد فكأنك تريد أن تقول: مددت يدي إلى الشيء فلم أنله

فقلت: ضقت ذرعًا.

واستعملت الذريعة بمعنى السبب تقول: فلان ذريعتي إليك

بمعنى سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك.

وأصل السبب في اللغة يدل على الطول والامتداد.

واستعملت الذريعة بمعنى الوسيلة إلى الشيء فمن تذرع بذريعة أو توسل بوسيلة والجمع ذرائع.

ومعنى الوسيلة في اللغة: الدرجة والقربة وما يتوصل به إلى الشيء.

تقول: توسل إليه بوسيلة، إذا تقرب إليه بعمل. وتوسل إليه بكذا: إذا تقرب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه.

واستعملت الذريعة بمعنى الناقة التي يستتر بها رامي الصيد ليظفر بصيده عن قرب.

وبالتأمل في هذه التعريفات يتبين أنه، لا تطلق الذريعة إلا بعد أن تتوافر عناصر ثلاثة.

العنصر الأول: أمر ماـ من فعل أو شيء أو حالة، أي ما يتخذ وسيلة وهو غير ممنوع لنفسه.

العنصر الثاني: تحرك، وامتداد، وانتقال ولكن قويت التهمة في التطرق به.

العنصر الثالث: أمر آخر غير الأول ـ مقصود إليه أو ما يتوسل إليه وهو ما يفضي إلى الممنوع.

وبناء على ما تقدم نخلص إلى القول: بأن الذريعة كل ما يتخذ وسيلة إلى غيره.

وبقيد الاتخاذ: يخرج ما يؤدي عفويًا إلى أمر، فلا يكون ذريعة إليه في عرف اللغة (3)

(1) لسان العرب: مادة (ذرع) ، وتهذيب لسان العرب ج 1/ 443

(2)

الكفوي: الكليات 463

(3)

البرهاني: سد الذرائع ص 560.

ص: 1240

سد الذرائع ومرتبته التشريعية:

تتفاوت عبارات العلماء القائلين بسد الذرائع.. هل هو أصل ودليل؟ أم قاعدة ومبدأ؟ فمنهم من جعله دليلًا وأدخله في عدد مصادر الفقه وأصوله التشريعية.

ومنهم الإمام القرافي المالكي، حيث يقول: أدلة المجتهدين بالاستقراء تسعة عشر وهي: الكتاب والسنة والإجماع

وسد الذرائع.

وفي البهجة نقلًا عن راشد يعد الأدلة التي بني عليها مالك مذهبه، ستة عشر دليلًا، عد منها سد الذرائع (1) .

لكن ابن تيمية اعتبرها: قاعدة حيث قال: أما شواهد هذه القاعدة ـ يعني سد الذرائع ـ فأكثر من أن تحصر. فنذكر منها ما حضر (2) .

وكذلك الشاطبي في الموافقات، حيث قال: وجميع ما مر في (تحقيق المناط) الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا لكن ينهي عنه لما يؤول إليه من المفسدة ممنوعًا، لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة إلى أن قال: وهذا الأصل ينبني عليه قواعد منها: قاعدة الذرائع، التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه

ومنها قاعدة الحيل.

(1) القرافي: تنقيح الفصول ص 198

(2)

ابن تيمية: الفتاوى ج3 ص 140

ص: 1241

أما المرحوم الشيخ أبو زهرة سماه (أصلاً) حيث قال: الذرائع أصل من الأصول التي ذكرتها كتب المالكية وكتب الحنبلية (1) .

كما سماه (مبدأ) حيث قال فمبدأ سد الذرائع لا ينظر فقط إلى النيات والمقاصد الشخصية (2) .

ويقول: ولقد أخذ المذهب الحنبلي بمبدأ سد الذرائع (3) .

وكذلك الشأن عند الشيخ على حسب الله، في أصول التشريع، والشيخ مصطفى الزرقا في المدخل الفقهي العام.

وبإمعان النظر: نجد: أن سد الذرائع أصل يعني الدليل لأن بعض الصور الداخلة ضمن نطاق سد الذرائع، إنما ثبت حكمها بالمنع بالنظر إلى المصلحة وحماية للذريعة، وليس لهذا المنع دليل غير ذلك.

كما حكموا على الصانع المشترك بالضمان، سواء عمل بأجر أو بغير أجر، وليس لمن ذهب إلى هذا إلا النظر إلى المصلحة.

وسد الذرائع: أصل يعني القاعدة المستمرة؛ لأنه يعني حسم وسائل الفساد وهذا هو الأصل والقاعدة المستمرة في الشريعة القائمة، مع جلب المصالح ودرء المفاسد.

وسد الذرائع أصل: بمعنى أنه الراجح حين نقطع بوجوب المنع سدًا للذريعة.

أما سد الذرائع بمعنى الدليل: فإنه دليل يتضمن الدلالة والإرشاد.

يستعين بها الناظر فيه للتوصل إلى المطلوب.

(1) أبو زهرة: أصول الفقه ص 287

(2)

أبو زهرة: أصول الفقه ص 287

(3)

ابن تيمية ص 501

ص: 1242

والوجه في اعتبار سد الذرائع، قاعدة أصولية.

يمكن وصف سد الذرائع قاعدة أصولية لأمور:

1-

أنها قاعدة كلية مطردة ولا تخلو قاعدة فقهية من الاستثناءات.

2-

أن القواعد الأصولية ليست كلها ناشئة من الألفاظ ومما يعرض لها، بل من أفرادها ما لم يرجع إلى اللفظ.

ولا يعني كونها لم ترجع إلى اللفظ أنها خارجة عن إطار القواعد الأصولية.

3-

أن جميع الذين تكلموا عن سد الذرائع، رتبوا الكتابة فيه ضمن مباحث الأصول.

هذا والذين اعتبروا سد الذرائع دليلًا، تكلموا عنه ضمن الكلام عن الأدلة الشرعية، أو عند الكلام على الاستدلال على أنه نوع منه.

أما الذين أنكروه وردوه، تكلموا عنه على أنه واحد من الأدلة الفاسدة أو المختلف فيها (1) .

أما أن سد الذرائع دليل باصطلاح الفقهاء والأصوليين فيرجع للأسباب التالية:

1-

لأن سد الذرائع علامة معروفة للدلالة يتمكن الناظر فيها من التوصل إلى المطلوب.

2-

لأن سد الذرائع لا يقتضي مدلوله، ولا يوجبه بنفسه، بل لا بد فيه من نظر المجتهد ليحكم بالمنع.

3-

لأنه إن كان يؤدي إلى حكم قطعي، فقد دخل في مفهوم الدليل عند الجميع، وإن كان يؤدي إلى حكم ظني، فقد دخل في مفهوم الدليل عند الجمهور؛ لأن الدليل مما يؤدي إلى حكم قطعي أو ظني.

وجملة القول: إن سد الذرائع من الأدلة الشرعية التبعية؛ لأنه لم يرد في نصوص الشرع اعتباره صراحة، وإنما جرى الحكم على وفقه في كثير من القضايا، فقرره العلماء دليلًا على هذه الجهة.

معنى سد الذرائع:

المراد بسد الذريعة، منعها على المكلف حتى لا يتوصل بسببها إلى المحرم فهي وإن كانت جائزة بحد ذاتها، لكنها تحرم لما تفضي إليه، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء، لبقيت على جوازها ولما منع المكلف منها (2) .

(1) البرهاني: سد الذرائع ص 169

(2)

التركي: أصول مذهب الإمام أحمد ص 451

ص: 1243

المبحث الثاني

الفرق بين الذريعة والسبب

والفرق بين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه

الوسيلة:

قال الكفوي: الوسيلة: التوسل إلى الشيء برغبة أخص من الوسيلة لتضمنها معنى الرغبة (1) .

قال تعالى {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] .

قال صاحب اللسان نقلًا عن الجوهري: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير.

والوسيلة كالوصلة والقربى وجمعها الوسائل قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء 57] .

والتوسيل والتوسل واحد، وفي حديث الآذان: اللهم آت محمدًا الوسيلة، وهي في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به (2) .

وحقيقة الوسيلة إلى الله: مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحري مكارم الشريعة وهي كالقربة.

قال صاحب العباب: الوسيلة والواسلة: المنزلة عند الملك والدرجة والقربى.

ووسل إلى الله وسيلة: عمل عملًا تقرب به إليه كتوسل، والواسل: الواجب والراغب (3) .

وتنبني المعاني لعبارة الوسيلة بأنها القرب وبمثابة الوصل ما بين البداية والنهاية، كما تشعر بأنها المرحلة ما بين المرحلتين المباشرة والغاية، المتوسل والمتوسل إليه من مباشرة الفعل.

(1) الكليات ص 9946

(2)

ابن منظور لسان العرب ج 14 ص 250 فصل الواو مع اللام

(3)

الفيروز أبادي: البصائر ج5 ص 217

ص: 1244

أما الذريعة:

قلنا إن الذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه قويت التهمة في التطرق به إلى الممنوع، فالأمر غير الممنوع لنفسه هو الوسيلة.

وما قويت التهمة في التطرق به هو الإفضاء، وكون الأمر غير الممنوع يفضي إلى الممنوع يسمى التوسل إليه (1) .

والذرائع: إما أن تكون منصوصا عليها بالكتاب أو السنة، أما مجمعًا على منعها لقطعية الإفضاء فيها أو لغلبة ذلك على الظن غلبة تقارب اليقين.

أو يكثر الإفضاء فيها بحيث يقوم مقام الدليل الظاهر على قصد الإفضاء.

أو تتعلق الذريعة ولو لم يكن إفضاؤها كثيرًا بمحظور خطير يقتضي الاحتياط درءًا لمفسدة فيه (2) .

ونخلص من ذلك القول إلى أن الذريعة تنبئ عن تهمة مباشرة بغير ما وضعت له.

بينما الوسيلة هي الوصلة والمرحلة المتوسطة ما بين المباشرة والغاية من الفعل هذا، والوسيلة هي الركن الأول من أركان الذريعة وعنصر من عناصرها.

ويلاحظ في هذا الركن:

أولًا: أنه قد يكون مقصودًا لغيره بمعنى أنه وسيلة لمقصود

وهذا هو الأصل كمن يبيع شيئًا بمائة إلى أجل ثم يشتريه بثمانين حالًا.

فقد آل الأمر من ذلك إلى أنه أقرض ثمانين في الحال ليأخذ عند الأجل بدلها مائة.

لأنه لما عاد الشيء نفسه إليه اعتبر كأن لم يكن موجودًا ولم يجر عليه عقد بالمرة على حين بقيت صورة بينهم لقرض جر نفعًا وهو عين الربا المحرم، فكانت ضمرة عقد البيع ثم الشراء وسيلة مشروعة الظاهر للدخول عليه.

ثانيًا: أنه قد يكون مقصودًا لذاته وذلك حين يتجه الفاعل إليه بالفعل من غير أن يقصد المتوسل إليه فيعد كأنه وسيلة ويأخذ بذلك حكم المقصود بالمنع.

مثاله: من يسب آلهة المشركين غيرة لله وانتصارًا له فيسبون الله تعالى عدوا بغير علم فإنه يمنع من ذلك.

ثالثًا: أنه الأساس الأول الذي تقوم عليه الذريعة لأن وجوده يستتبع بالضرورة وجود الأركان التالية فبمجرد وجوده بالفعل تنتظم معه الأركان التالية وجودًا بالفعل أو تقديرًا.

كالمرأة التي تضرب برجليها ذات الخلاخيل مع قصد الافتتان ثم حصل الافتتان فقد توافرت الأركان الثلاثة. فالضرب وهو الفعل هو الركن الأول والأساس من الأركان الثلاثة

ومن هنا يكون سابقًا في الوجود على الركنين، قصد الافتتان، وحصول الافتتان وهو الإفضاء، وقصد الإفضاء غير الإفضاء نفسه إذ لا يعدو أن يكون باعثًا على التذرع (3) .

(1) البرهاني سد الذرائع ص 102

(2)

البرهاني سد الذرائع ص 117

(3)

سد الذرائع ص 104

ص: 1245

الفرق بين الذريعة والسبب:

سبق وذكرنا الذريعة: كل ما يتخذ وسيلة إلى غيره، وأنها عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه قويت التهمة في التطرق به إلى ممنوع.

أما السبب:

في اللغة: بفتح السين والموحدة له عدة إطلاقات:

1-

عبارة عن الطريق: قال تعالى {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 89 ـ 92] أي الطريق، فالمعنى آتاه الله من كل شيء معرفة وذريعة يتوصل بها، فاتبع واحدة من تلك الأسباب.

2-

عبارة عن الباب: قال تعالى خبرًا عن فرعون {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36 ـ 37] أي أبوابها. والذرائع الحادثة في السماء، فأتوصل بها إلى معرفة ما يدعيه موسى.

3-

ويطلق ويراد به الحبل؛ لأنه طريق يتوصل به إلى الماء.

ويسمى الطريق سببًا أيضا؛ لأنه يتوصل به إلى الموضع المقصود.

في عرف الفقهاء:

وأما في عرف الفقهاء، فهو مستعمل فيما هو موضوع في اللغة، وهو: ما يتوصل به إلى الحكم من غير أن يثبت به.

وبتعبير آخر: عبارة عما يكون طريقًا للوصول إلى الحكم غير مؤثر فيه.

كالحبل الذي هو سبب يتوصل به إلى الماء، وإن كان يحسن الوصول بالاستقاء.

وكذلك الطريق: يتوصل به إلى المقصود، وإن كان الوصول يحصل بالمشي لا به.

ص: 1246

أقسام السبب: قسم الأصوليون السبب إلى أربعة أقسام:

1-

سبب اسمًا وحقيقة ومعنى، وهو: السبب المحض، وهو ما يتوصل به إلى الحكم من غير أن يثبت به

كدلالة السارق على سرقة مال الإنسان فسرق، فإن الدلالة سبب محض لأنه اعترض عليه فعل فعل مختار (1) .

2-

ما هو سبب اسمًا وصورة، لا معنى وحقيقة: نحو الطلاق المعلق، واليمين في حق وجوب الكفارة.

فإن التعليق سبب لوقوع الطلاق عند الشرط، وكذلك اليمين سبب لصيرورته علة عند الحنث، ولكن من حيث الصورة دون المعنى، فإنه ليس فيه الإفضاء والتوصل، بل هو المانع عن الحكم للحال (2) .

3-

السبب الذي هو علة العلة: وهو في الحقيقة موجب للحكم، إلا أنه إنما يوجب بواسطة العلة الأخيرة، والحكم وجب بالأخيرة فصارت العلة الأخيرة مع حكمها حكمين للعلة الأولى:

أ- فمن حيث إن العلة الأخيرة، مع حكمها حصلت بالأولى كانت هي العلة الموجبة حقيقة.

ب- ومن حيث أنها لا تعمل في ثبوت الحكم لا بواسطة العلة الأخيرة سميت سببًا.

نظيره: الرمي إذا اتصل به الموت، فإن الموت يضاف إلى الرمي بوسائط (3) .

4-

السبب الذي هو علة معنى: وهو الذي يوجب الحكم بنفسه بلا واسطة علة، لكن الحكم في حال وجوده، لم يثبت لعدم تمامه بانعدام وصفه، لا يعدم بعضه، كعلة ذات أوصاف فإذا وجد الوصف ـ والوصف لا يقوم بنفسه فيقوم بالعلة ـ فيجب الحكم عند وجود وصفه مستندًا إلى العلة بوصفه ويكون هو الموجب دون وصفه.

فيكون علة من حيث هو الموجب.

ويكون سببًا من حيث أنه لم يوجب للحال ما لم يوجد وصفه، وهو كالنصاب علة الوجوب للزكاة، لكن لا يوجب بدون صفة النماء.

فمتى وجد وصف النماء، صار علة للحكم من الأصل، لاستناد الوصف إلى الأصل (4) .

(1) السمرقندي ميزان الأصول ص 610 والكفوي: الكليات ص 395

(2)

الزركشي: البحر المحيط ج5 ص 115 والفيروز أبادي: البصائر ج 3 ص 169

(3)

الزركشي: البحر المحيط ج5 ص 116

(4)

السمرقندي: ميزان الأصول ص 613، والبخاري على البزدوي ج4 ص 293، 305

ص: 1247

هذا من وجه آخر:

إن ما يترتب عليه الحكم إن كان شيئًا لا يدرك العقل تأثيره، ولا يكون بصنع المكلف، كالوقت للصلاة، يخص باسم السبب.

وإن كان بصنعه، فإن كان الفرض من وضعه ذلك الحكم كالبيع للملك فهو علة ويطلق عليه اسم السبب مجازًا.

وأن لم يكن هو الفرض كالشراء لملك المتعة، فإن العقل لا يدرك تأثير (لفظ اشتريت) في هذا الحكم، وهو بصنع المكلف، وليس الغرض من الشراء ملك المتعة بل ملك الرقبة، فهو سبب.

وإن أدرك العقل تأثيره، يخص باسم العلة (1) .

وقال الإمام الشاطبي: الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان:

1-

خارج عن مقدور المكلف.

2-

ما يصح دخوله تحت مقدوره.

فما يكون خارجًا عن مقدور المكلف: قد يكون سببًا ويكون شرطًا ويكون مانعًا.

فالسبب: مثل كون الاضطرار سببًا في إباحة الميتة.

- وخوف العنت سببًا في إباحة نكاح الإماء.

- والسلس سببًا في إسقاط وجوب الوضوء لكل صلاة، مع وجود الخارج.

- وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سببًا في إيجاب تلك الصلوات وما أشبه ذلك (2) .

سؤال: هل مشروعية الأسباب تستلزم مشروعية المسببات؟؟

- ويجيب الشاطبي قائلًا: مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات، وإن صح التلازم بينهما عادة.

ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف، فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها.

فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب.

وإذا نهى عن السبب، لم يستلزم النهي عن المسبب.

وإذا خير فيه، لم يلزم أن يخير في مسببه.

والأمر بالنكاح لا يستلزم الأمر بحلية البضع.. والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح

والنهي عن القتل العدوان، لا يسلتزم النهي عن الإزهاق

إلى أن قال: فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات.

فإذا لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب

فخرجت المسببات عن خطاب التكليف، لأنها ليست بمقدورهم، ولو تعلق بها لكان تكليفًا بما لا يطاق وهو غير واقع كما تبين في الأصول (3) .

(1) التهاني: الكشاف ج 3 ص 638

(2)

الشاطبي: الموافقات ج1 ص 187 ـ 189

(3)

الشاطبي: الموافقات ج1 ص 191

ص: 1248

مسألة: لا يلزم من تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها: بل المقصود من تعاطي الأسباب الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير ـ أسبابا كانت أو غير أسباب معللة كانت أو غير معللة (1) .

وجاء في (المسألة الثامنة) : قوله: إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب قصد بذلك المسبب أولًا؛ لأنه لما جعل مسببًا عنه في مجرى العادات، وعد كأنه فاعل له مباشرة، ويشهد لهذا قاعدة مجاري العادات، إذا أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها، كنسبة الشبع إلى الطعام والإرواء إلى الماء

وسائر المسببات إلى أسبابها، فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا، وإن لم تكن من كسبنا، وإن كان هذا معهودًا معلومًا، جرى عرف الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزن.

- فإذا كان كذلك، فالداخل في السبب، إنما يدخل فيه مقتضيًا لمسببه، لكن تارة يكون مقتضيًا له على الجملة والتفصيل، وإن كان غير محيط بجميع التفاصيل.

وتارة يدخل فيه مقتضيًا له على الجملة لا على التفصيل، وذلك أن أمر الله به، فإنما أمر به لمصلحة يقتضيها فعله، وما نهى عنه فإنما نهى عنه لمفسدة يقتضيها فعله، فإذا فعل فقد دخل على شرط أنه يتسبب فيما تحت المسبب من المصالح والمفاسد (2)

(1) الشاطبي: الموافقات ج1 ص 191

(2)

الشاطبي: الموافقات ج1 ص 191

ص: 1249

الفرق بين الذريعة والسبب:

يتحصل لدينا مما سبق والحقائق والفروق التالية:

أولًا: أن الأسباب الممنوعة، أسباب للمقاصد لا للمصالح.

ثانيًا: أن الأسباب المشروعة، أسباب للمصالح لا للمفاسد.

ثالثًا: أن الأسباب المشروعة، لا تكون أسبابًا للمفاسد.

رابعًا: أن الأسباب الممنوعة، لا تكون أسبابًا للمصالح.

خامسًا: أن السبب ما وضع شرعًا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك السبب.

كما كان حول النصاب سببا لوجوب الزكاة.

والزوال سببًا في وجوب الصلاة.

والسرقة سببا في وجوب القطع.

والعقود أسباب في إباحة الامتناع أو انتقال الأملاك وما أشبه ذلك.

أما الذريعة: كما سبق كل ما يتخذ وسيلة إلى غيره، وإنها عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه قويت التهمة في التطرق به إلى ممنوع.

بينما الذريعة تحكم من المباشر في الوصول إلى ما هو وراء السبب من المباشرة.

والله أعلم.

ص: 1250

المبحث الثالث

المقارنة بين الذرائع الحيل الفقهية

ومدى الوفاق أو الخلاق بينهما

تعريف الحيل:

الحيل جميع حيلة، وهي إظهار أمر جائز ليتوصل به إلى محرم يبطله.

قال ابن تيمية: والحيلة مشتقة من التحول، وهو النوع من الحول، كالجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، وكالأكلة والشربة، من الأكل والشرب (1) .

وقال الشاطبي: وحقيقتها المشهورة، تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر (2) .

وقال ابن تيمية: هي نوع مخصوص من التصرف والفعل الذي هو التحول من حال إلى حال، هذا مقتضاه من اللغة.

ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية موصلًا إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فإذا كان المقصود أمرًا حسنًا، كانت حيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت قبيحة، إلى أن قال: وصارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قصد بها الحيل التي يستحل بها المحارم كحيل اليهود، كما أطلقت الحيل على: ما يخرج من المضائق بوجه شرعي لتكون مخلصًا شرعيًا لمن ابتلي بحادثة دينية، على اعتباره نوعا من الحذق وجودة النظر وكل حيلة تضمنت إسقاط حق الله تعالى أو الآدمي، تندرج فيما يستحل بما المحارم (3) .

الحيلة: أن يقصد فاعلها سقوط الواجب أو حل الحرام، بفعل لم يقصد به جعل ذلك الفعل له أو ما شرع، فهو يريد تغيير الأحكام الشرعية، لأسباب لم يقصد بها ما جعلت تلك الأسباب له (4) .

وقال ابن القيم: المخادعة هي الاحتيال والمرواغة لإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطله (5) .

ونخلص من ذلك كله إلى القول بأن الحيلة، وإن كانت في اللغة التحول من حال إلى حال، لقد غلب استعمالها على ما يكون من الطرق الخفية موصلا إلى حصول الغرض، بحيث لا يفطن له إلا بنوع ذكاء سواء أكان الغرض حسنا أو قبيحًا

ثم صارت في عرف الفقهاء يقصد بها الطرق التي يستحل بها المحارم (6) .

ونقول: أطلق الفقهاء الحيل على ما يخرج من المضائق بوجه شرعي لتكون مخلصًا شرعيًا لمن ابتلي بحادثة دينية على اعتباره نوعًا من الحذق وجودة النظر.

(1) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى ج6 ص19

(2)

الموافقات ج4 210

(3)

الفتوى الكبرى ج3 ص 291، ابن القيم: الإعلام ج3 ص 252

(4)

الفتوى الكبرى ج3 ص 291، ابن القيم: الإعلام ج3 ص109

(5)

إعلام الموقعين ج3 ص 172

(6)

د. عبد المحسن التركي: أصول مذهب الإمام أحمد ص 48

ص: 1251

الحيل الشرعية الممنوعة:

وهي التي يقصد منها التحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعًا إلى أحكام أخر، بفعل صحيح الظاهر، لغو في الباطن.

مثل الحيل الموضوعة لإسقاط الشفعة، وتخصيص بعض الورثة بالوصية لإسقاط حق الورثة (1) .

قال الشاطبي: فإن حقيقتها تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل خرم قواعد الشرعية في الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة.

فإن أصل الهبة الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإن جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة ـ لكن هذا بشرط القصد لإبطال الأحكام الشرعية (2) .

ويمكن تقسيم الحيل المحرمة إلى ثلاثة أنواع:

1-

أن تكون الحيلة محرمة، ويقصد بها محرم: مثاله من طلق زوجته ثلاثًا وأراد التخلص من عار التحليل، فإنه يحتال لذلك بالقدح في صحة النكاح بفسق الولي، أو الشهود، فلا يصح الطلاق في النكاح الفاسد.

2-

أن تكون الحيلة مباحة في نفسها ويقصد بها محرم، مثاله: كمن يسافر لقطع الطريق أو قتل النفس المعصومة.

3-

أن تكون الحيلة لم توضع وسيلة إلى المحرم بل إلى المشروع، فيتخذها المحتال وسيلة إلى المحرم.

مثاله: كمن يريد أن يوصي لورثته، فيحتال لذلك بأن يقر له ـ فيتخذ الإقرار وسيلة للوصية للوارث- (3) .

(1) ابن نجيم الأشياء ص 415، الاختيار (باب الشفعة)

(2)

الموافقات ج4 ص201

(3)

الإعلام ج3 ص335

ص: 1252

حكم الحيلة: وأما حكم الحيلة، فهو إن قصد بها الوصول إلى المحرم فهي حرام وإلا فالحيلة قسمان:

حيلة شرعية مباحة: وهي التحيل على قلب طريقة مشروعة وضعت لأمر معين، واستعمالها في حالة أخرى بقصد التوصل إلى إثبات حق أو دفع مظلمة، أو إلى التيسير بسبب الحاجة.

حكمه: فهذا النوع من الحيل لا يهدم مصلحة شرعية، فهو إذًا جائز شرعًا.

وجه هذا القول: لأنه ليس المقصود بهذا التحيل إبطال الحق، وإنما هو تخريج فقهي للخروج من مأزق، ولا يقصد به إبطال أحكام الشرع أو التعدي على أحد في ماله أو نفسه.

مثاله: إن أهالي بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة، وبما أن هذه الإجارة لا تجوز عند الحنفية في الأشجار، اضطروا إلى وضع حيلة بيع الكرم وفاء (1) .

فالبيع الوفائي: حيلة شرعية، اتخذت بسبب حاجة الناس، وبسب التخلص من قاعدة منع الإجارة الطويلة في الأشجار.

ومثال آخر: الرجل الذي: يحلف ليقربن امرأته نهارًا في رمضان، فيفتيه أبو حنيفة أن يسافر فيفطر ويقربها نهارًا في رمضان (2) .

(1) ابن نجيم: الأشياء ج1 ص41

(2)

ابن نجيم: الأشياء ج1 ص41

ص: 1253

حكم الحيل

الدليل على مشروعية الحيل:

أولًا: من الكتاب: قوله تعالى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] هذا تعليم المخرج أيوب عليه السلام عن يمينه التي حلف ليضربن زوجته مائة، فإنه حين قالت له: لو ذبحت عناقًا باسم الشيطان

في قصة طويلة أوردها أهل التفسير رحمهم الله تعالى.

وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] إلى قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] وذلك منه حيلة لإمساك أخيه عنده حينئذ، ليوقف إخوته على قصده.

قال الرازي الجصاص: وفيما حكى الله تعالى من أمر يوسف وما عامل به إخوته في قوله {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف: 70] إلى قوله {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] دلالة على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح واستخراج الحقوق لأن الله تعالى رضي ذلك من فعله ولم ينكره، وقال في آخر القصة {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] .

ومن نحو ذلك قوله تعالى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] وكان حلف أن يضربها عددًا، فأمره تعالى بأخذ الضغث، وضربها به ليبر في يمينه من غير إيصال ألم كبير إليها.

ومن نحوه: النهي عن التصريح بالخطبة وإباحة التوصل إلى إعلامها رغبته بالتعويض (1) .

وقال تعالى حكاية عن موسي عليه السلام: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] ولم يقل (على ذلك)

لأنه قيد سلامته بالاستثناء وهو مخرج صحيح، قال الله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 ـ 24] .

(1) الجصاص: أحكام القرآن ج3 ص 176 تفسير سورة يوسف

ص: 1254

ثانيًا: من السنة: فما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب لعروة بن مسعود في شأن بني قريظة: (فلعلنا أمرناهم بذلك) فلما قال له عمر رضي الله عنه في ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (الحرب خدعة) . وكان ذلك من اكتساب حيلة ومخرج من الإثم بتقييد الكلام (بلعل)(1) . ولما أتاه رجل وأخبره بأنه حلف بطلاق امرأته ثلاثًا أن لا يكلم أخاه قال له: طلقها واحدة

فإذا انقضت عدتها، فكلم أخاك ثم تزوجها وهذا تعليم الحيلة والآثار فيه كثيرة.

ومنها:

حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعمل رجلًا على خيبر، فأتاه بتمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله، إنما نأخذ الصاع بالصاعين، والصاعين بثلاثة، قال: لا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم تمرًا)) .

كذا روي ذلك مالك بن أنس عن عبد المجيد بن سهيل عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد وأبي هريرة

وجه الاستدلال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حظر على الرجل التفاضل في التمر، وعلمه كيف يحتال في التوصل لأن يأخذ هذا التمر.

ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف)) .

وجه الاستدلال: أنه أمرها بالتوصل إلى أخذ حقها وحق ولدها (2) .

والحاصل: أن ما يتخلص به الرجل من الحرام أو يتوصل إلى الحلال من الحيل فهو حسن.

(1) أحكام القرآن ج3 ص 177 تفسير سورة يوسف

(2)

الجصاص: أحكام القرآن ج3 ص 176

ص: 1255

وإنما يكره ذلك أن يحتال في حق لرجل حتى يبطله، أو في باطل حتى يموهه، أو في حق حتى يدخل فيه شبهه، فما كان على هذا السبيل فهو مكروه، وما كان على السبيل الذي قلنا أولًا فلا بأس به؛ لأن الله تعالى قال:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .

ففي النوع الأول معنى التعاون على البر والتقوى.

وفي النوع الثاني معنى التعاون على الإثم والعدوان (1) .

وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من معاريض الكلام ما يغني المسلم عن الكذب.

وفيه دليل: على أنه لا بأس في استعمال المعاريض للتحرز عن الكذب، فإن الكذب حرام لا رخصة فيه.

وقال ابن عباس: ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم.

فإنما يريد به أن بمعاريض الكلام يتخلص المرء من الإثم ويحصل مقصوده فهو خير من حمر النعم (2) .

والأصل في جواز المعاريض قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] فقد جوز الله المعاريض ونهى عن التصريح بالخطبة بقوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235] وقال إبراهيم عليه السلام للملك حين سأله عن سارة، فقال من هي منك؟ قال:

هي أختي لئلا يأخذها. وإنما أراد أختي في الدين،وقال للكفار إني سقيم حين تخلف ليكسر آلهتهم، معناه إني سأسقم، يعني أموت (3) .

ثم بيان استعمال المعاريض من أوجه:

(1) السرخسي: المبسوط ج3 ص 17

(2)

الجصاص: أحكام القرآن ج3 ص 177

(3)

الجصاص: أحكام القرآن ج3 ص177

ص: 1256

1-

أن يقيد المتكلم كلامه بلعل وعسى، كما قال عليه السلام:(فلعلنا أمرناهم بذلك) ولم يكن أمر به، ولم يكن ذلك كذبًا منه لتقييد كلامه بلعل.

2-

أنه يضمر في لفظه معنى سوى ما يظهر ويفهمه السامع من كلامه، وبيانه: في ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتلك العجوز: ((إن الجنة لا يدخلها العجائز)) فجعلت تبكي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أهل الجنة مرد مكملون)) ، أخبرها بلفظ أضمر فيه سوى ما فهمت من كلامه، فدل أن ذلك لا بأس به.

ومما ورد عن السلف من المعاريض: ما روي عن عبيدة السلماني رضي الله عنه قال: خطب علي رضي الله عنه فقال: والله ما قتلت عثمان ولا كرهت قتله وما أمرت وما نهيت، فدخل عليه بعض من ـ الله أعلم بحاله ـ فقال له في ذلك قولًا. فلما كان في موضع آخر قال: من سائلي عن قتل عثمان رضي الله عنه، فالله قتله وأنا معه؟

فقال ابن سيرين: هذه كلمة قرشية ذات وجوه:

أما قوله: ما قتلت عثمان رضي الله عنه، فهو صدق حقيقة.

وقوله: ولا كرهت قتله، أي قتله بقضاء الله تعالى، ونال الشهادة فما كرهت له هذه الدرجة، وما كرهت قضاء الله وقدره.

وأما قوله: فالله قتله وأنا معه مقتول أقتل كما قتل عثمان رضي الله عنه.

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبر أنه يستشهد بقوله:((إن أشقى الأولين والآخرين من خضب بدمك)) وهذه من هذه وأشار إلى عنقه ولحيته، وقد كان علي رضي الله عنه، ابتلى بصحبة قوم على همم متفرقة، فقد كان يحتاج إلى أن يتكلم بمثل هذا الكلام الموجه.

ص: 1257

فدل بذلك أن كبار الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يستعملون معاريض الكلام في حوائجهم. وكذلك من بعدهم من التابعين رحمهم الله.

يحكى عن رجل قال: كنت عند إبراهيم رحمه الله وامرأته تعاتبه في جاريته وبيده مروحة فقال أشهدكم أنها لها. فلما خرجنا قال علي: على ما أشهدتكم؟

قلنا شهدنا أنك جعلت الجارية لها. فقال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة إنما قلت لكم اشهدوا أنها لها وأنا أعني المروحة التي كنت أشير بها.

وكان التابعون يعلمون غيرهم ذلك ـ الحيل الجائزة ـ أيضًا، على ما ذكره في الكتاب عن إبراهيم رحمه الله في رجل أخذه رجل فقال: إن لي معك حق قال: لا فقال احلف لي بالمشي إلى بيت الله تعالى، فقال: احلف وأعني مسجد حيك (1) وإنما يحمل هذا على أن إبراهيم رحمه الله، علم أن المدعي مبطل

وإنما المدعي عليه بريء، وهو أن يحلف بالمشي إلى بيت الله تعالى يعني مسجد حيه فإن المساجد كلها بيوت الله تعالى، أذن الله أن يذكر فيها اسمه.

قال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} . [الجن: 18] .

(1) إعلام الموقعين ج3 ص305

ص: 1258

وذكر عن ابن سيرين رحمه الله أنه قال: كان رجل من باهلة عيونًا، فرأى بغلة لشريح رحمه الله، فأعجبته فقال له شريح: أما إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام ـ أي أن الله عز وجل هو الذي يقيمها بقدرته ـ فقال الرجل أف أف.

وفي هذا الحديث زيادة، فإن الرجل لما أبصر البغلة أعجبته، ربضت من ساعتها فقال شريح ما قال، فلما قال الرجل أف أف قامت.

وفي هذا دليل أن العين حق، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين السوء

فأراد شريح أن يرد عينه بأن يحقرها في عينه، وقال ما قال، وأضمر فيه معنى صحيحًا وهو: أن الله تعالى يقيمها بقدرته.

وعن عقبة بن غرار رحمه الله قال: كنا نأتي إبراهيم رحمه الله وهو خائف من الحجاج، فكنا إذا خرجنا من عنده يقول لنا: إن سئلتم عني وحلفتم، فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا ولا لكم علم بمكاني ولا في أي موضع أنا، واعنوا أنكم لا تدرون في موضع قاعد أو قائم، فتكونون قد صدقتم (1) .

هذا: وجملة القول ما صرح به صاحب أحكام القرآن قال الرازي الجصاص: فمن أنكر التوصل إلى استباحة ما كان محظورًا من الجهة التي أباحته الشريعة، فإنما يرد أصول الدين وما قد ثبتت به الشريعة (2) .

(1) المبسوط ج3 ص 214

(2)

أحكام القرآن ج 3 ص 177 والإعلام ج3 ص 206

ص: 1259

وجاء في الحموي على الأشباه ما نصه:

قال في التتار خانية: مذهب علمائنا، أن كل حيلة يحتال بها الرجل لإبطال حق الغير أو لإدخال شبهة فيه فهي مكروهة ـ يعني تحريمًا.

وفي العيون وجامع الفتاوي: لا يسعه ذلك، وكل حيلة يحتال بها الرجل ليتخلص بها عن حرام أو يتوصل بها إلى حلال فهي حسنة. وهي معنى ما نقل عن الشعبي: لا بأس في الحيلة فيما يحل (1) .

وقال محمد بن الحسن عن عمرو بن دينار عن الشعبي: لا بأس في الحيل فيما يحل ويجوز، وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام ويخرج به إلى الحلال فما كان من هذا فلا بأس.

وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يبطله أو يحتال في باطل حتى يتوهم أنه حق.

أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة.

وأما ما كان على سبيل الذي قلنا فلا بأس في ذلك، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قال غير واحد من المفسرين: إن هذه الحيل مخارج لما ضاق على الناس وقواعد الفقه لا تحرم مثل ذلك (2) .

(1) الحموي على الأشباه ص 611

(2)

الإعلام ج3 ص 207

ص: 1260

المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية

ومدى الوفاق والخلاف بينهم

الذرائع والحيل قاعدتان متشابهتان، والكلام فيهما متداخل، وهما يلتقيان أحيانًا ويفترقان أحيانًا

لذلك يستدل لأحدهما بأدلة الأخرى، وأوفى من تكلم فيهما فقهاء ثلاثة، ابن تيمية، ابن القيم، والشاطبي.

فابن تيمية، وهو يتكلم عن الحيل

وهو مقصود بحثه تكلم عن الذرائع بالتبع، واعتبر الذريعة إذا كان إفضاؤها إلى المحرم بقصد فاعلها من باب الحيل وبناء على تقسيمه تحصل الآتي:

1-

توجد ذريعة ليست حيلة.

2-

توجد حيلة ليست ذريعة.

3-

توجد ذريعة هي حيلة.

فالحيلة تجتمع مع الذرائع عند القصد

وكل منهما تفترق عن الأخرى بما عدا ذلك. وعليه فعنده باب الذرائع واسع من باب الحيل، بل الكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط.

وقال: والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها محرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع (1) .

أما ابن القيم: فجعل الحيل تابعة للذرائع

وقدر أن العبرة في الشرائع بالمقاصد والنيات

تكلم عن سد الذرائع وقرر أن اعتبارها بناء الأحكام عليها.

(1) الفتاوى الكبرى ج 3 ص 257

ص: 1261

وبعد أن استدل على وجوب سد الذرائع بـ 99 دليلًا قال: (وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة تامة، فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن والمحتال يفتح الطريق إليها بكل حيلة) . ثم بين أن الأدلة التي تذكر في وجوب سد الذرائع هي نفسها تدل على تحريم الحيل، بل وزاد أدلة أخرى، هذا وإن اعتبر الحيل تابعة للذرائع فقد اشترط القصد في الحيل

قال: ومدار الخداع على أصلين:

1-

إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له.

2-

إظهار قول لغير مقصوده الذي وضع له.

ففي الأصلين ينص على إظهار الفعل والقول غير المقصود وهو معنى القصد (1) .

أما الشاطبي: ففي بحثه تداخل بين الذرائع والحيل، فحيث يتكلم عن الذرائع يذكر الحيل، وفي كلامه عن الحيل يذكر الذرائع، حتى الأمثلة يسوقها أحيانًا للقاعدتين. فمرة يعتبر الحيلة نوعًا من الذرائع (2) . وذلك في المسألة الخامسة، أما في المسألة العاشرة من مقاصد المكلف تكلم عن الحيل ومثل بمسائل بيوع الآجال وقال: إنها من الذرائع (3) .

(1) إعلام الموقعين: ج3 ـ 171 ـ 415، وج4 1 ـ 117

(2)

الشاطبي: الموافقات ج2 ص 360

(3)

الشاطبي: الموافقات ج2 ص 389و 360

ص: 1262

الفرق بين الحيل والذارئع عند الشاطبي:

عرف الشاطبي الحيل: أنها تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر.

يفهم من هذا التعريف أن الحيل يشترط فيها القصد من المكلف، وقد نص فيما بعد على ذلك حيث قال: ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية (1) . وعليه: أن الفرق واضح عن الشاطبي بين الحيل والذرائع، إذا اشترط القصد في الحيل، كما اعتبر الشاطبي الذرائع أوسع دائرة من الحيل وأعم وذلك بإدراجه الحيل في الذرائع (2) . وهناك فرقان آخران بين الحيلة والذريعة:

فالذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة والحيلة لا بد من قصدها للتخلص من المحرم.

والحيلة تجري في العقود خاصة ـ والذريعة أعم.

ونخلص من ذلك كله إلى النتيجة التالية:

فحيث يشترط القصد في الحيل، أي أن يقصد المكلف المحرم ابتداء، ومع ذلك الحيل والذرائع، يلتقي كل منهما مع الآخر في صورة

ويفترق في صور.

1-

فمثال ما كان ذريعة وليس حيلة: سب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى وكذلك سب الرجل والد غيره، فإنه ذريعة إلى أن يسب والده.

2-

ومثال ما كان حيلة وليس ذريعة ما يحتال من المباحات في الأصل كبيع النصاب في أثناء الحول فراره من الزكاة.

3-

ومثال ما كان ذريعة وحيلة: اشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نساء.

هذا: والمراد بسد الذريعة: منعها على المكلف حتى لا يتوصل بسببها إلى المحرم، فهي وإن كانت جائزة بحد ذاتها لكنها تحرم لما تفضي إليه، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء، لبقيت على جوازها، ولما منع المكلف منها.

والمراد بإبطال الحيل: إلغاؤها وعدم الاعتداد بها، فإذا عرف أن المكلف محتال فتصرفه لاغ، ويعامل بنقيض قصده، فهو حينما سلك مسلك الحيل، أراد أن تكون مخرجًا له ومفرًا من حكم المسألة الشرعي الذي يريد أن يهرب منه، فهذا التصرف لا يخرجه عن الحكم الشرعي بل تبطل حيلته، ولا يكون لها الأثر الذي يريد (3) .

(1) الشاطبي: الموافقات ج4 ص 201

(2)

الشاطبي: الموافقات ج4 ص 201

(3)

التركي أصول مذهب الإمام أحمد

ص: 1263

المبحث الرابع

أقسام الذرائع بحسب القطع بتوصيلها إلى الحرام

وعدم القطع ومدى الوفاق أو الخلاف بينها

أحكامها وشروطها:

لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها مقيدة بها.

فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها

وسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود.. لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل.

هذا والفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان:

أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر. وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية. والزنى المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ونحو ذلك. فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها.

والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب فيتخذ وسيلة إلى المحرم وإما بقصده أو بغير قصد منه.

فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدًا به التحليل.

والثاني: كمن يصلي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم

ونحو ذلك. إلى أن قال فهاهنا أربعة:

الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة.

الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة.

الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. كالصلاة في أوقات النهي ومسبة آلهة المشركين بين أظهرهم.

الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها. ومثاله النظر إلى المخطوبة، والمستامة والمشهود عليها وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي (1) .

حكم هذا القسم: إن الشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة. وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريمًا بحسب درجاته في المفسدة.

(1) ابن القيم: الإعلام ج3 ص147 ـ 148

ص: 1264

ونخلص من ذلك إلى القول: بأن الذرائع المفضية إلى المفاسد أربعة أقسام:

الأول: ما يفضي إلى المحرم غالبًا.

الثاني: ما يحتمل الإفضاء وعدمه ولكن الطبع يميل إليه.

الثالث: ما يفضي أحيانًا ومصلحته راجحة على مفسدته.

الرابع: ما يفضي أحيانًا وليس فيه مصلحة راجحة على مفسدته.

وهنالك تقسيم للشوكاني نقلًا عن ابن الرفعة قال: الذريعة ثلاثة أقسام:

أحدها: ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام عند المالكية والشافعية.

والثاني: ما يقطع بأنه لا يوصل ولكنه اختلط بما يوصل فكان من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة ـ التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام ـ بالغالب منها الموصل إليه وهذا غلو في القول بسد الذرائع.

ص: 1265

والثالث: ما يحتمل ويحتمل وفيه مراتب ويختلف الترجيح عندهم بحسب تفاوتها (1) . لكن الإمام الشاطبي تناول هذا الموضوع بالتفصيل تحت عنوان:

فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف.

حيث قال: إن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات (2) .

ثم قال: إن قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع.. والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع ولأن المكلف خلق لعبادة الله وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة.

إلى أن قال: كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل.

ووصل به الكلام إلى القسم الخامس فقال: وهو أن لا يلحق الجالب أو الدافع ـ لكن أداءه إلى المفسدة قطعي عادة فله نظران: نظر من حيث كونه قاصدًا لما يجوز أن يقصد شرعًا من غير إضرار بأحد فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه ونظر من حيث كونه عالمًا بلزوم مضرة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه ـ فإنه من هذه الوجه مظنة لقصد الإضرار.

ثم قال: أما السادس: وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا فهو على أصله من الإذن.

وجهه لأن المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالنذور في انخرامها إذ لا توجد في العادة مصلحة عارية عن المفسدة جملة، كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج

مع إمكان الوهم والغلط.

ثم قال: والسابع: هو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيًا فيحتمل الخلاف، أما أن الأصل: الإباحة والإذن فظاهر.

(1) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 247

(2)

الشاطبي: الموافقات ج2 ص 324

ص: 1266

وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنيًا.

وقال: لكن اعتبار الظن هو الأرجح لأن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم.

ولأن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم ولأنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه.

ثم وصل به القول إلى بيان حكم الفعل الذي يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا ولا نادرًا فهو موضوع نظر والتباس، والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي وغيره.

وجه هذا القول: أن احتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه (1) .

وحاصله:

أن التصرف المأذون فيه بالنظر لما يلزم عنه من إضرار أربعة أقسام:

الأول: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر في موضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه، وبيع الأغذية التي غالبًا لا تضر أحدًا.

الثالث: ما يكون داؤه إلى المفسدة كثيرًا بحيث يغلب على الظن الراجح أنه يؤدي إليها كبيع السلاح في وقت الفتن وبيع العنب ممن يتخذه خمرًا ونحو ذلك مما يقع في غالبًا الظن لا على سبيل القطع أداؤه إلى المفسدة.

الرابع: أن يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لكن كثرته لم تبلغ مبلغ أن تحمل العقل على ظن المفسدة فيه دائمًا كمسائل البيوع الربوية التي تفضي إلى الربا (2) .

(1) الشاطبي: الموافقات ج2 ص 316

(2)

البرهاني: سد الذرائع ص 187

ص: 1267

المبحث الخامس

موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع

مع تحرير محل النزاع في ذلك

يذكر الأصوليون أن الإمام مالكا هو الذي يمنع من الذرائع وأن أبا حنيفة والشافعي لا يجيزان منعها.

فهل هذا على إطلاقه بالنسبة لجميع الذرائع أو لا؟

قال الإمام الباجي: ذهب مالك رحمه الله إلى المنع من الذرائع، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز المنع من الذرائع (1) .

لكن الإمام الشاطبي اعتبرها من القواعد المبنية على أصل اعتبار مآلات الأفعال ودلل على صحته، ثم تكلم على ما ينبني عليها من قواعد ومنها: سد الذرائع.

وقال: إن مالكًا حكمها في أكثر أبواب الفقه لأن حقيقتها التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة.

وقال: إن من أسقط الذرائع كالشافعي فإنه اعتبر المآل أيضًا.

(1) الباجي: أحكام الفصول ص 689

ص: 1268

وقال القرافي: مالك لم ينفرد بذلك بل كل أحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها.

فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في طعامهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى.

ومنها ما هو ملغي إجماعا كزرع العنب خشية الخمر وإن كانت وسيلة إلى المحرم ومنها ما هو مختلف فيه كبيوع الآجال فنحن لا نغتفر الذريعة فيها.

وخالفنا غيرنا في أصل القضية إنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا. وبهذا تعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية في هذه المسألة بقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام 108] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة 65] .

فقد ذمهم بكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم لحبس الصيد يوم الجمعة (1) .

وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين)) (2) .

قال: وإنما قلنا إن هذه الأدلة لا تفيد محل النزاع لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا أمر مجمع عليه، وإنما النزاع في ذريعة خاصة وهو: بيع الآجال ونحوها.

فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس.

ويقول الإمام القرطبي بسد الذرائع: ذهب إليه مالك وأصحابه وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر من فروعه تفصيلًا (3) .

(1) القرافي: الفروق ج3 ص 226 ـ 267

(2)

رواه أبو داود في المراسيل، نيل الأوطار ج8 ص291

(3)

الموافقات: ج4 ص 194

ص: 1269

وإذا ألقينا نظرة على ما تقدم نخلص إلى النتيجة التالية: أن أصل سد الذرائع قال به العلماء بالجملة وليس خاصًا بالملكية فقط كما تقدم عن القرافي إلا أن المالكية قالوا به أكثر من غيرهم (1) .

وقال الشاطبي: فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة وإنما الخلاف في أمر آخر. قال المرحوم عبد الله دراز معلقًا: وهو في الحقيقة اختلاف في المناط (2) .

وجاء في مختصر الروضة: إن أصل سد الذرائع قال به العلماء بالجملة وليس خاصا بالمالكية فقط، إلا أن المالكية قالوا به أكثر من غيرهم (3) .

وهكذا يتقرر لدينا أن القول بسد الذرائع أصل معتمد في الفقه المالكي والفقه الحنبلي.

قال أبو زهرة: هذا أصل من الأصول التي أكثر من الاعتماد عليها في استنباطه الفقهي الإمام مالك رضي الله عنه وقاربه في ذلك الإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنه (4) .

(1) الزركشي: البحر ج6 ـ ص13، الفروق ج3 ص 266، إرشاد الفحول ص246 ـ 247

(2)

الموافقات ج2 ص 201

(3)

شرح مختصر الروضة: ورقة 203

(4)

مالك: 340

ص: 1270

وأما أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى فلم تذكر كتب أصول مذهبهما شيئًا عن رأيهما في ذلك

وكتب أصول الحنفية والشافعية لا تتعرض للبحث في هذا الأصل.

وقال ابن رشد: ووافقنا أبو حنيفة وأحمد ابن حنبل في سد الذرائع (بيوع الآجال) التي هي صورة النزاع وإن خالفنا في تفصيل بعضها.

قال أبو حنيفة: يمتنع بيع السلعة من أبي البائع بما تمتنع به من البائع، وخالفنا الشافعي رضي الله عنه (1) .

ويقرر أبو زهرة رحمه الله قائلًا:

ونحن نميل إلى أن العلماء جميعًا يأخذون بأصل الذرائع وإن لم يسموه بذلك الاسم. ولكن أكثرهم يعطون الوسيلة حكم الغاية إذا تعينت طريقًا لهذه الغاية، فلم تكن طريقًا لغيرها على وجه القطع أو غلبة الظن.

وأما إذا لم تكن الوسيلة متعينة لا بطريق العلم ولا بطريق الظن فهذا يختص مالك بالأخذ بأصل الذرائع فيه، إذا كثر ترتب الغاية على الوسيلة كبيوع الآجال (2) .

(1) القرافي: الفروق ج3 ص 268، الزركشي ج6 ص84

(2)

مالك: ص351

ص: 1271

المعنى الخاص للذريعة ـ تحرير محل النزاع:

قال القرطبي في تحرير موضع الخلاف: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع قطعًا أو لا.

والأول: ليس من هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

والذي لا يلزم: إما أن يفضي إلى المحظور غالبًا أو ينفك عنه غالبًا أو يتساوى الأمران وهو المسمى بالذرائع عندنا.

فالأول لا بد من مراعاته والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه. فمنهم من يراعيه، ومنهم من لا يراعيه وربما يسميه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة، وقريب من هذا التقرير قول القرافي: ـ آنف الذكر ـ إن مالكًا لم ينفرد بذلك، فإن الذرائع ما هو معتبر إجماعًا ومنها ما هو ملغي إجماعًا ومنها ما هو مختلف فيه.

إلى أن قال: إن من أدلة محل النزاع حديث زيد بن أرقم أن أمه قالت لعائشة: إني بعت منه عبدًا بثمانمائة إلى العطاء واشتريته نقدًا بستمائة فقالت عائشة: بئس ما اشتريت وأخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب (1) .

موقف الإمام الشافعي رضي الله عنه من الذرائع:

أنكر الشافعية صحة أصل سد الذرائع وأبطلوا العمل به لسببين:

أولاهما: أن سد الذرائع مظهر من مظاهر الاجتهاد بالرأي وهم لا يأخذون منها إلا بالقياس، حيث جاء في الأم: ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم عن أعلى (2) .

وجاء عنه قوله: ولا يجوز القول إلا بالقياس (3) .

وقال: ولا يجوز أن يفتي بالاستحسان (4) .

ويستفاد من مجمل قوله في كتبه أن الاجتهاد بالاستحسان وغيره من الوسائل كسد الذرائع اجتهاد باطل.

والثاني: أن الشريعة تبنى على الظاهر لقوله: الأحكام على الظاهر والله ولي الغيب

وكلف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر (5) .

(1) الزركشي: البحر ج2 ص 846

(2)

الأم: 7ص 246

(3)

اختلاف الحديث بهامش الأم ج7 ص 148

(4)

الأم: ج7 ص 270

(5)

الرسالة: فقرة 1456 ـ 1464

ص: 1272

ولما كانت الشريعة تبنى على الظاهر وجب ألا تناط أحكامها بأسباب قد تخفى ولذلك يحكم على العقود بحسب ما تدل عليه ألفاظها وما يستفاد منها في اللغة وعرف العاقدين في الخطاب.

ويقول: لا يفسد العقود نية العاقدين: لذلك إذا اشترى الرجل طعامًا فقبضه فلا بأس أن يبيعه ممن اشتراه منه ومن غيره بنقد وإلى أجل وسواء في المعين وغير المعين (1) .

هذا ولعل ما نسب إلى الشافعي من القول بسد الذرائع إنما هو من باب تحريم الوسائل التي تستلزم المتوسل إليه لا من باب الذرائع.

وقال السبكي: إن ما ذكر أن الأمة أجمعت عليه ليس من مسمى الذرائع في شيء نعم حاول ابن الرفعة تخريج قول الشافعي في باب: إحياء الموات من الأم: عند النهي عن منع الماء ليمنع الكلأ: إن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل.

وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله. فقال: في هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحرام والحلال تشبه معاني الحرام والحلال.

قال السبكي: نقلًا عن والده إنما أراد الشافعي تحريم الوسائل لا سد الذرائع.

والوسائل تستلزم المتوسل إليه ومن هذا منع الماء فإنه يستلزم منع الكلأ الذي هو حرام ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل ولذلك نقول: من حبس شخصًا ومنعه من الطعام والشراب فهو قاتل له وما هذا من سد الذرائع في شيء.

وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، وأصل النزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها.

(1) النووي: المجموع ج10 ص 136

ص: 1273

هذا والقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المتوسل إليه قائم في أغلب صوره في الظن والتوهم والتخمين وشتان بينهما.

ولذلك كان مسلك الشافعي رحمه الله في عدم أخذ الناس بالتهم وإفساد تصرفاتهم بالظن مسلكًا صحيحًا وسليمًا يتفق مع ما دلت عليه نصوص الشريعة السمحة من أخذ المكلفين بظواهرهم وترك سرائرهم إلى الله تعالى (1) . لكن الإمام الشاطبي له وجهة نظر أخرى حيث يقول:

إن الشافعي يأخذ بمبدأ سد الذرائع إذا ظهر القصد إلى المآل الممنوع حيث يقول عند كلامه على مذهب الشافعي: ولكن هذا بشرط ألا يظهر قصد إلى المآل الممنوع ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاقه.

وقال: لا يصح أن يقول الشافعي: إنه يجوز التذرع إلى الربا بحال، إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد الممنوع (2) .

يتحرر لدينا مما تقدم: أن الذرائع التي هي محل الخلاف إنما هي الوسائل التي ظاهرها الجواز إذا قويت التهمة في التطرق بها إلى الممنوع، وهذا ما أشار إليه الشاطبي في القسم الرابع المستخلص من تقسيماته وهو:

كل فعل مأذون فيه بالأصل ولكنه طرأ عليه ما جعله يؤدي إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا.

ويدخل في ذلك ما عده ابن القيم قسمًا وسطًا بين ما جاءت الشريعة في طلبه وما جاءت بمنعه، وهي: كل وسيلة مباحة قصد التوصل بها إلى المفسدة، أو لم يقصد التوصل إلى المفسدة لكنها تفضي إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها.

وهذا المعنى الخاص للذريعة هو المراد لدى الأصوليين والفقهاء عند بحثهم في الذرائع وسدها، ولقد عبر الشاطبي عن هذا المعنى بقوله: إن حقيقتها التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة. وسد الذرائع على هذا المعنى هو حسم مادة أو وسائل الفساد بمنع هذه الوسائل ودفعها (3) .

(1) د. مصطفى البغا. أثر الأدلة المختلف فيها ج2 ص 579

(2)

الشاطبي: الموافقات: ج4 ص 200

(3)

الموافقات: ج4 ص 198 ـ 200 تبصرة الحكام: ج2 ص 376، أثر الأدلة المختلف فيها ص 573

ص: 1274

المبحث السادس

هل الأخذ بالذرائع مما اختص به المذهب المالكي؟

إن المذاهب الأربعة استندت في ميدان التطبيق إلى الأخذ بسد الذرائع في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل وهذا مما يؤكد ما صرح به علماء المالكية وغيرهم من أن سد الذرائع ليس من خواص مذهب الإمام مالك رضي الله عنه (1) .

وأن أصل سد الذرائع مجمع عليه لكن الخلاف فيما يرجع إليه من الجزئيات (2) .

فقد تلتقي الأنظار على إعمال حكم الذرائع فمنعها كسب آلهة المشركين وإلقاء السم في أطعمة المسلمين وغير ذلك.

وقد تلتقي على إهمال حكمها كإباحة التجاور في البيوت ولو احتمل وقوع الزنى وإباحة النظر إلى المخطوبة.

وقد تختلف الأنظار فيعمل البعض حكم الذرائع فتلتحق عنده بالذرائع الممنوعة ويهملها الآخر فتلتحق عنده بالذرائع المتفق على إهمالها.

ولا يعني الاتفاق بين المذاهب على الأخذ بها في ميدان التطبيق أن تكون على درجة واحدة من حيث الأخذ به. بل هي على مستويات مختلفة.

فعلى حين نجد المالكية يحكمون هذا الأصل في آلاف المسائل نجد الشافعية على النقيض من ذلك، كما أننا نجد الحنابلة أقرب في هذا المجال إلى المالكية وفقهاء الأحناف أقرب إلى الشافعية.

(1) الفروق: ج2 ص32، تنقيح الفصول ص 200

(2)

الموافقات ج3 ص 30 ـ 328

ص: 1275

أما النظر في الأصول فيشهد لتقدم المالكية والحنابلة حيث ذكروا سد الذرائع ضمن أصولهم خلافًا للحنفية والشافعية.

أما الحنفية فقد ولجوا من باب الاستحسان إلى ساحة المصالح التي يعد سد الذرائع أحد وجوه العمل بها.

على حين يصرح الشافعية برد كل من سد الذرائع والاستحسان بل ولا يأخذون من المصالح إلا ما كان قطعيًّا عامًّا ولهذا جاء دورهم في هذا الميدان آخِرًا (1) .

وأما النظر في الفروع: فيشهد فعلًا لتقدم المالكية في هذا الميدان أيضًا إنهم يقفون في كثير من المسائل وحدهم يسدون الذريعة فيها على حين يقف الأئمة الثلاثة على الطرف الآخر أيضًا.

وإنما كان الإمام مالك رضي الله عنه اعتمد الذرائع أصلًا أصيلًا في مذهبه لأن مذهبه أوسع المذاهب الاجتهادية اعتمادًا على رعاية مصالح الناس وأعرافهم، ولهذا كان العمل بالمصلحة المرسلة أصلًا مستقلًا من أصول التشريع عندهم، وما سد الذرائع إلا تطبيقًا عمليًا من تطبيقات العمل بالمصلحة، ولذلك عدوه ضمن أصولهم وأعملوه في استنباطاتهم وتخريجاتهم في جميع أبواب الفقه وفي كثير من المسائل العملية، وبالغوا في ذلك حتى عد بعض الفقهاء سد الذرائع من خصوصيات إمام دار الهجرة (2) .

(1) البرهاني: سد الذرائع ص 666

(2)

تنقيح الفصول من 200، الفروق ج3 ص 266

ص: 1276

تطبيقات المالكية لهذا الأصل: من أبرز تطبيقات المالكية لسد الذرائع منعهم للعقود أن تتخذ ذريعة إلى أكل الربا ومن ذلك:

-بيوع الآجال: وهي بيوع ظاهرة الجواز لكنها تؤدي إلى ممنوع كاجتماع بيع وسلف أو أنظرني أزدك، أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلًا.

-ومثال ما يؤدي إلى اجتماع بيع وسلف أن يبيع سلعتين بدينارين لشهرين ثم يشتري إحداهما بدينار نقدًا فقد خرجت السلعة من يد البائع أولًا ثم عادت إليه فاعتبرت ملغاة وآل أمره إلى أنه دفع دينارًا أو سلعة ونقدًا ليأخذ عنهما بعد شهر دينارين.

الأول منهما: عن الدينار الذي دفعه نقدًا وهذه صورة.

والثاني منهما: ثمن السلعة التي خرجت من يده ولم تعد وهذه صورة البيع (1) .

-ومثال ما يؤدي إلى سلف بمنفعة: أن يبيع سلعة بعشرة دراهم لشهر ثم يشتريها بخمسة نقدًا فقد عادت السلعة إلى بائعها الأول فاعتبرت ملغاة وآل أمر العقدين إلى عقد واحد هو: دفع خمسة دراهم نقدًا ليأخذ عنها بعد شهر عشرة دراهم نسيئة.

وقالوا: إن فروع بيوع الآجال تصل إلى ألف مسألة متولدة من الأحوال المختلفة لكل من الآجل والثمن والسلعة والبائع والمشتري.

(1) البرهاني: سد الذرائع ص112 ـ 306

ص: 1277

حكم بيوع الآجال: اتفق علماء المالكية على أن حكم بيوع الآجال الفسخ ولتحديد محله: أهو العقد الثاني أو الأول أو العقدان معًا، فرقوا بين حالتين:

الأولى: حال قيام السلعة وبقاءها بعد البيع الثاني.

والثانية: حال فواتها.

أما في حال قيام السلعة فقد اختلفوا في بيان محل الفسخ إلى قولين:

1-

قول بإمضاء العقد الأول على الصحة بالثمن المؤجل وفسخ الثاني وهو الأصح في المذهب.

2-

وقول بفسخ العقدين جميعًا.

-ومن مسائلهم: عقد البيع أثناء السعي إلى الجمعة:

ورد النهي بنص الكتاب {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] في أثناء السعي إلى صلاة الجمعة، ألحق المالكية عقود الإجارة والتولية والشركة والإقالة والشفعة وكذا النكاح حتى الصدقة والكتابة والخلع كل ملحقة بحكم البيع في النهي لأن الانشغال بها ذريعة إلى ترك السعي الواجب (1) .

وجاء في بداية المجتهد: جمهور فقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة

وبعد أن ذكر أقوال المذاهب في المسألة قال: وسبب الخلاف: هل الحكم الذي جعله الشرع من البينونة للطلقة الثالثة يقع بإلزام المكلف نفسه هذا الحكم في طلقة واحدة أم ليس يقع؟ ولا يلزم من ذلك إلا ما ألزم الشرع، فمن شبه الطلاق بالأفعال التي يشترط في صحة وقوعها كون الشروط الشرعية فيها والبيوع قال: لا يلزم. ومن شبهه بالنذور والأيمان التي ما التزم العبد منها ما لزمه على أي صفة كان ألزم طلاق كيفما ألزمه المطلق نفسه.

ثم قال وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدًا للذريعة.

ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود في ذلك المعنى في قوله تعالى {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2) . [الطلاق: 1] .

(1) الشرح الكبير والدسوقي عليه ج1 ص 338

(2)

ابن رشد البداية ج2 ص6777

ص: 1278

وجاء في تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44] .

قال ابن العربي: هذه الآية أصل من أصول إثبات الذرائع التي انفرد بها مالك وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته. وخفيت على الشافعي وأبي حنيفة مع تبحرهما في الشريعة.

ثم عرف بقوله: وسد الذرائع: كل عمل ظاهره الجواز يتوصل به إلى محظور.

ثم مثل له قائلًا: كما فعل اليهود حين حرم عليهم صيد السبت فسكروا الأنهار وربطوا الحيتان فيه إلى يوم الأحد، وقد بينا أدلة المسألة في كتب الخلاف وبسطناها قرآنًا وسنة ودلالة من الأصول في الشريعة ثم ساق إعراضًا محتملًا والرد عليه فقال: فإن قيل: هذا الذي فعلت اليهود لم يكن توسلًا إلى الصيد بل كان الصيد نفسه؟

قلنا: إنما حقيقة الصيد إخراج الحوت من الماء وتحصيله عند الصائد، فأما التحيل عليه إلى حين الصيد فهو سبب الصيد لا نفس الصيد، وسبب الشيء غير الشيء إنما هو الذي يتوصل به إليه ويتوسل به في تحصيله، وهذا الذي فعله أصحاب السبت (1) .

ومن مسائلهم: إسقاط الزكاة ببيع النصاب أو هبته أو إنقاصه.

من كانت عنده ماشية فباعها قبل الحول بدراهم، أو كان عنده نصاب فأتلف جزءًا منه أو كان عنده مال فوهبه قبل الحول لولده. سقطت عنه الزكاة في قول أبي حنيفة والشافعي ولم تسقط في قول مالك وأحمد رحمهما الله إذا فعله قرب الوجوب فرارًا منها وتؤخذ منه في آخر الحول، وهو مذهب الأوزاعي وابن الماجشون وإسحاق وأبي عبيد.

وجهه: لأنه لما قصد قصدًا فاسدًا اقتضت الحكمة معاقبته بنقيض قصده كمن قتل مورثه لاستعجال ميراثه عاقبه الشرع بالحرمان ولهذا لو فعل ذلك في أول الحول لم تجب لأن ذلك ليس بمظنة للفرار كما لو أتلف النصاب لحاجته من غير قصد الفرار وحرمان الفقراء من حقوقهم في ماله (2) .

(1) أحكام القرآن: ج2 ص287

(2)

إغاثة اللهفان ج2 ص83، المغني ج2 ص564

ص: 1279

-ومن مسائلهم: قراءة السجدة في فجر يوم الجمعة:

أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر: {الم (1) تَنْزِيلُ}

السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} .

والحديث دليل على استحباب قراءتهما في صبح يوم الجمعة وهو مذهب الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث.

لكن المالكية كرهوا تعمد تلاوة السجدة في الفرض والمداومة عليها في فجر الجمعة حتى لا يؤدي التزامها إلى اعتقاد الجاهل ركنيتها وقد حكى القرافي عن العجم اعتقاد كون صلاة الصبح يوم الجمعة ثلاث ركعات لأن قراءة السجدة لما التزمت فيها وحوفظ عليها اعتقدوا فيها الركنية فعدوها ركعة ثالثة (1) .

(1) الشاطبي: الاعتصام ج2 ص 277 الشرح الكبير ج1 ص 310

ص: 1280

شواهد سد الذرائع عند فقهاء الحنفية:

إن كتب أصول الفقه عند فقهاء الحنفية لم تتعرض لذكر سد الذرائع واحدًا من مصادر التشريع، ولكن يلحظ أن قولهم بالاستحسان مدخل إلى العمل بالمصلحة وسد الذرائع من وجوه العمل بالمصلحة.

وما يصدق على الاستحسان في بعض صوره ووجوهه يصدق على سد الذرائع وكأن الوفاق على المضمون والخلاف على الاسم ولا مشاحة في الاصطلاح.

هذا: ومن تتبع أحوال فقهاء المذهب في أحكام بعض الفروع يجد أنهم يوافقون فقهاء المالكية في الأحكام وإن خالفوهم في التعليل. من ذلك:

1-

اتفاقهم مع المالكية والحنابلة في المنع من بعض صور بيوع الآجال، فمن اشترى سلعة بألف حالة أو نسيئة فقبضها لم يجز له أن يبيعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول كله أو بعضه.

قال الكاساني: إن الثمن عقد المعاوضة وهو تفسير الربا إلا أن الزيادة ثبتت بمجموع العقدين فكان الثابت بأحدهما شبهة الربا، والشبهة في هذا الكتاب ملحقة بالحقيقة (1) .

2-

صوم يوم الشك: والمختار عند الحنفية استحباب صوم المفتي ليوم الشك ويفعله سرًا حتى لا يتهم بالعصيان ويفتي الناس بالإفطار حسمًا لمادة اعتقاد الزيادة.

قال ابن الهمام: المختار أن يصوم المفتي بنفسه أخذًا بالاحتياط ويفتي العامة بالتلوم إلى وقت الزوال ثم بالإفطار حسمًا لمادة الزيادة، ويصوم فيه المفتى سرًا لئلًا يتهم بالعصيان فإنه أفتاهم بالإفطار بعد التلوم بحديث العصيان وهو ما ذكر من قوله صلى الله عليه وسلم:((من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم)) (2) .

وهو مشتهر بين العوام فإذا خالف في الصوم اتهموه بالعصيان (3) .

(1) الكاساني: ج5 ص 199

(2)

ذكره البخاري تعليقًا: ج3 ص34

(3)

ابن الهمام: فتح القدير ج2 ص54

ص: 1281

ودليل الاستحباب على ما ذكره ابن الهمام ما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ((هل صمت من سرر شعبان؟)) قال لا. قال: ((فإذا أفطرت فصم يومًا مكانه)) (1) . والإسرار آخر ليلة من شعبان لأنه يستسر فيها الهلال بنور الشمس.

وجه الاستدلال: أنه أمر العامة بالإفطار بعد الزوال حتى لا يكون الصوم ذريعة لاعتقادهم الزيادة وأن يلحقوا بالفريضة ما ليس منها.

وأما طلب الإسرار بصومه من الإمام وغيره من الخاصة: حتى لا يكون ذريعة لاتهامهم بمخالفة النهي عن صوم يوم الشك، وهذا تطبيق عملي لسد الذرائع اختاره علماء المذهب وفعله أئمتهم (2) .

3-

الحداد على البائن والمتوفى عنها زوجها: جاء في بداية المبتدي: وعلى المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت بالغة مسلمة الحداد. وقال: الحداد أن تترك الطيب والزينة والكحل والدهن المطيب وغير المطيب إلا من عذر.

قال صاحب العناية: والمعنى في إيجاب ترك الطيب والزينة وجهان:

1-

ما ذكرناه من إظهار التأسف.

2-

أن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها؛ لأن المرأة إن كانت متزينة متطيبة تزيد رغبة الرجل فيها، وهي ممنوعة عن النكاح ما دامت في عدة الوفاة أو الطلاق، فتجنبها كي لا تصير ذريعة ـ أي وسيلة ـ إلى الوقوع في المحرم وهو النكاح (3) .

4-

إقرار المريض مرض الموت: إذا أقر المريض مرض الموت بدين فإنه يتهم أنه قصد بهذا الإقرار إبطال حق الورثة، ولذلك لا يكون هذا الإقرار ملزمًا كما لو كان في حال الصحة.

ولذلك: إذا أقر بدين في مرضه وعليه دين في الصحة قدم دين الصحة، وكذلك الدين الذي لزمه حال المرض لأسباب معلومة كبدل مال استهلكه، ومثل مهر امرأة تزوجها، تقدم هذه الديون على ما أقر به من ديون غير معلومة الأسباب.

وذلك لأنه يتهم إذا قصد بإقراره مضايقة الغرماء.

قال في بداية المبتدئ: وإذا أقر الرجل في مرض موته بدين وعليه ديون في صحته وديون لزمته في مرضه بأسباب معلومة، فدين الصحة والدين المعروف الأسباب مقدم.

وجه هذا القول: أن الإقرار لا يعتبر دليلًا إذا كان فيه إبطال حق الغير، وفي إقرار المريض ذلك لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء، ولهذا منع من التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث (4) .

وقال ابن عابدين: تصادق ـ أي المريض مرض الموت والزوجة ـ على ثلاث، في الصحة وعلى مضي المدة ثم أقر لها بدين أو عين أوصى لها بشيء، فلها الأقل منه ـ أي مما أقر أو أوصى ـ ومن الميراث للتهمة (5) .

(1) رواه البخاري ج3 ص 254

(2)

فتح القدير ج2 ص255 ـ 257، / سد الذرائع ص493

(3)

فتح القدير ج2 ص 255 ـ 257، سد الذرائع ص 493

(4)

الهداية وشروحها ج7 ص 2ـ3

(5)

الحاشية ج2 ص392

ص: 1282

شواهد سد الذرائع عند الحنابلة:

قال ابن بدران في كتابه: المدخل إلى مذهب أحمد:

سد الذرائع هو مذهب مالك وأصحابه.

قال الطوفي في شرحه على مختصر الروضة قلت: إن مذهبنا أيضًا سد الذرائع وهو قول أصحابنا بإبطال الحيل، ولذلك أنكر المتأخرون منهم على أبي الحطاب ومن تابعه ـ عقد باب في كتاب الطلاق يتضمن الحيلة على تخليص الحالف من يمينه في بعض الصور وجعلوه من بعض الحيل الباطلة (1) .

وهي: التوصل إلى المحرم بسبب مباح، وقد صنف شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله كتابا بناه على بطلان نكاح المحلل وأدرج فيه جميع قواعد الحيل وبين بطلانها على وجه لا مزيد عليه (2) .

وسبق أن أكثرنا من النقل عن ابن القيم في كتابه الإعلام والذي أفاض في ذكر الأمثلة على سد الذرائع، وانتهى إلى القول: فإذا حرم الرب تبارك وتعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له ومنعًا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء (3) .

واستدل على ذلك بتسعة وتسعين دليلًا

كما أن ابن تيمية رحمه الله: ذكر من الوجوه على إبطال الحيل أن الله سبحانه سد الذرائع المفضية إلى المحرم بأن حرمها ونهى عنها ثم قال: والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع (4) .

والخلاصة: أن الحنابلة يرون وجوب سد الذرائع ويطبقون هذا على بيع الآجال وإن لم يقصد البائع الربا؛ لأن هذا النوع من المعاملة يغلب فيه قصد الربا فيصير ذريعة، فيجب سده والمنع منه لئلًا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ويقولون لم نقصد به ذلك (5)

(1) المدخل: ص296

(2)

مختصر الروضة: ورقة 204 مخطوط؛ المدخل ص 296

(3)

الإعلام: ج3 ص 147 ـ 171

(4)

ابن تيمية: الفتاوى الكبرى ج3 ص257

(5)

التركي: أصول الإمام أحمد ص 461

ص: 1283

شواهد سدد الذرائع عند المالكية:

مقدمة: إن سد الذرائع من أصول الاستنباط الفقهي عند المالكية، أعملوه في استنباطاتهم وتخريجاتهم في جميع أبواب الفقه، وفي كثير من المسائل الفقهية العملية.... وبالغوا في ذلك حتى عد بعض الفقهاء سد الذرائع من خصوصيات مذهب إمام دار الهجرة (1) .

هذا ومن أبرز تطبيقات سد الذرائع عند المالكية:

أولًا: منعهم للعقود أن تتخذ ذريعة إلى أكل الربا ومن ذلك:

-بيوع الآجال: وهي بيوع ظاهرها الجواز لكنها تؤدي إلى ممنوع.

قال صاحب الشرح الكبيرة: ومنع عند مالك ومن تبعه للتهمة ـ أي لأجل ظن قصد ما منع شرعًا سدا للذريعة ما ـ أي بيع جائز في الظاهر كثر قصده أي قصد الناس له للتوصل إلى الربا الممنوع (2) .

ومثله فعل ابن رشد في كتابه بداية المجتهد: ج2 ص 140 ـ 203.

ومن أمثلة هذا البيع ما يؤدي إلى: أنظرني أزدك، جاء في الموطأ ج2 ص 673 قال مالك في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين: بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدًا بمائة وخمسين إلى أجل؟

الجواب: هذا بيع لا يصلح ولم يزل أهل العلم ينهون عنه.

ثانيًا: منعهم لكل ما هو ذريعة إلى الإثم من باب التعاون عليه ومن ذلك:

1-

منع بيع العصير لمن يتخذه خمرًا لما فيه من المعاونة على الإثم، قال تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولو وقع البيع فهو باطل إن علم البائع قصد المشتري ذلك إما بقوله وإما بقرائن مختصة به تدل على ذلك.

وإن كان الأمر محتملًا كأن يشتريها من لا يعلم حاله أو من يصنع الخل والخمر معا ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر. صح.

(1) القرافي: تنقيح الفصول ص 200 الفروق ج3 ص 266

(2)

الشرح الكبير ج3 ص 76

ص: 1284

وهذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطرق أو في الفتنة وإجارة داره أو دكانه لبيع الخمر فيها أو لتتخذ كنيسة أو بيت نار وأشباه ذلك من العقود التي يحكم عليها بالحرمة والبطلان (1) .

2-

ما نقل عن الإمام أحمد رحمه الله من كراهية الشراء ممن يرخص في سلعته ليمنع الناس من الشراء من جاره، ويشبهه: النهي عن طعام المتباربين، وهما: الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر ومباهاته في التبرع.

وقد رأى ابن القيم أن النهي في الأمرين يتضمن سد الذريعة من وجهين:

الأول: أن تسليط النفوس على الشراء منهما وأكل طعامهما إغراء لهما وتقوية لقلوبهما على فعل ما كرهه الله ورسوله.

والثاني: أن ترك الأكل والشراء منهما ذريعة إلى امتناعهما وكفهما عن ذلك (2) .

ثالثًا: تحريمهم للحيل لمناقضتها لسد الذرائع:

ولذلك منعوا كل فعل قصد به صاحبه أمرًا محظورًا، والشواهد على ذلك في كتبهم تفوق الحصر، وجاء في الفتاوي: واعلم أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع سد الطرق إلى ذلك المحرم بكل طريق والمحتال يريد أن يتوسل إليه ولهذا لما اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح شروطًا سد ببعضها التذرع إلى الزنى والربا وكمل بها مقصود العقود لم يتمكن المحتال الخروج عنها في الظاهر، فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع الشارع منه أتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سد الشارع ذريعته فلا يبقى لتلك الشروط التي يأتي بها فائدة ولا حقيقة بل يبقى بمنزلة العبث (3) .

رابعًا: ومن تطبيقاتهم كذلك موافقتهم للمالكية في سد الذرائع منعا للابتداع في الدين فيما يكون مشروعًا في أصله لكنه يؤدي مع الجهل وطول الزمن إلى تغيير المشروعات وقلب الأحكام وهذا الاتجاه أكثر وضوحًا في مذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وصولًا إلى محمد بن عبد الوهاب الذي تنتسب إليه الحركة الوهابية وإعلانه النكير على زيارة الأضرحة وقبور الصالحين حتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم (4) .

(1) المغني: ج4 ص199 ـ 200، الإعلام ج3 ص 170

(2)

الإعلام: ج3 ص169

(3)

ابن تيمية: الفتاوى ج3 ص145ـ 129

(4)

أبو زهرة: ابن تيمية ص529

ص: 1285

شواهد سد الذرائع عند الشافعية:

من الأمثلة على العمل بمبدأ سد الذرائع عند فقهاء الشافعية:

1-

إخفاء الجماعة للمعذورين في ترك الجمعة:

قال النووي: قال الشافعي والأصحاب: يستحب للمعذورين الجماعة في ظهرهم.

وحكى الرافعي أنه لا يستحب لهم الجماعة لأن الجماعة المشروعة هذا الوقت: الجمعة.

قال النووي: والمذهب الأول كما لو كانوا في غير البلد، فإن الجماعة تستحب في ظهره بالإجماع، وقال: فعلى هذا قال الشافعي: أستحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا في الدين وينسبوا إلى ترك الجماعة تهاونًا (1) .

2-

المفطر بعذر في رمضان لا يجهر بفطره:

قال في المهذب: فإن قدم المسافر وهو مفطر، أو برئ المريض وهو مفطر أستحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت ولا يجب ذلك لأنهما أفطرا بعذر، ولا يأكلان عند من لا يعرف عذرهما لخوف التهمة والعقوبة (2) .

3-

تضمين الأجير المشترك: جاء في الأم: قال الربيع: الذي يذهب إليه الشافعي فيما رأيت أنه لا ضمان على الصناع إلا ما جنت أيديهم ولم يكن يبوح بذلك خوفًا من الضياع.

وهذا من الشافعي رحمه الله ظاهره العمل بسد الذرائع حيث امتنع عن فتوى الناس بما يرى صحته، حتى لا يتخذها الفجار ذريعة لتضييع الأموال بالتهاون في حفظها والعناية بها (3) .

4-

إقرار المحجور عليه بالدين: مما يصدق عليه العمل بسد الذرائع عند فقهاء الشافعية حكمهم بعدم لزوم إقرار المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر في حق الغرماء لأنه قد يتخذه ذريعة إلى التصرف بأمواله عن مواطأة وحيلة.

قال الشيرازي في المهذب: وإن أقر ـ يعني المحجور عليه ـ بدين لزمه قبل الحجر لزوم الإقرار في حقه. وهل يلزم في حق الغرماء؟ فيه قولان.

أحدهما: لا يلزم لأنه متهم؛ لأنه ربما واطأ المقر له ليأخذ ما أقر به ويرد عليه.

والثاني: أنه يلزمه وهو الصحيح (4) .

والملاحظ هنا أن الذريعة والتهمة علل بها على القول المقابل الصحيح.

5-

قضاء القاضي بعلمه: قال في الأم: إذا كان القاضي عدلًا فأقر بين يديه بشيء كان الإقرار عنده أثبت من أن يشهد عنده كل من يشهد.

وجهه: لأنه قد يمكن أن يشهدوا عنده بزور، والإقرار عنده ليس فيه شك.

وأما القضاء اليوم فلا أحب أن أتكلم بهذا كراهية أن أجعل لهم تسهيلًا إلى أن يجوروا على الناس (5) .

6-

حرمان القاتل من الميراث:

قال في المذهب: ج15 ص216 ـ اختلف أصحابنا فيمن قتل مورثه:

فمنهم من قال: إن كان القتل مضمونًا لم يرثه؛ لأنه قتل بغير حق، وإن لم يكن مضمونًا ورثه؛ لأنه قتل بحق، فلا يحرم به الإرث.

ومنهم من قال: إن كان متهما كالمخطئ، أو حاكمًا فقتله في الزنى بالبينة لم يرثه؛ لأنه متهم في قتله لاستعجال الميراث. وإن كان غير متهم ـ بأن قتله بإقراره بالزنى ـ ورثه. لأنه غير متهم لاستعجال الميراث.

ومنهم من قال لا يرث القاتل بحال ـ وهو الصحيح، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يرث القاتل شيئًا)) (6) .

ولأن القاتل حرم الإرث حتى لا يجعل ذريعة إلى استعجال الميراث، فوجب أن يحرم بكل حال سدا للباب.

والذي يظهر من هذه الأمثلة وسواها أن الشافعية إذا ذكروا التهمة والذريعة فإنما يذكرونها من باب الاستئناس لا من باب الاستدلال، وعلى سبيل الاستحباب أو الحيطة، لا على سبيل المنع أو الالتزام، حيث أننا نجد لهم في كل مسألة ذكروا فيها الذرائع، دليلًا آخر هو عمدتهم فيه (7) .

(1) المجموع: ج4 ص 363

(2)

المجموع: ج6 ص 287

(3)

الأم: ج3 ص264

(4)

المهذب: ج13 ص285

(5)

الأم: ج7 ص44

(6)

الترمذي ج3 ص288؛ وابن ماجة ج2 ص883 وأبو داود ج2 ص496

(7)

البغا: أثر الأدلة المختلف فيها ص 592

ص: 1286

المبحث السابع

أثر القول بسد الذرائع

اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية

لقد انبنى على الخلاف في اعتبار الذرائع والقول بسدها وعدم سدها وعلى التوسع بالأخذ بها والتضييق في اعتبارها، خلاف بين الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية، فبينما بعضهم يحكم على تصرفات تبدر من المكلف بالبطلان والفساد ويمنع ترتب آثارها عليها، نجد الفريق الآخر يحكم عليها بالصحة والجواز ويبني عليها آثارها المعتبرة شرعًا.

بل ونجد أثر هذا الدليل والاختلاف فيه ظاهرًا في كثير من أبواب الفقه الإسلامي وسنعرض لبعض المسائل الفقهية الفرعية التي تبرز هذا الأثر:

-مات ولم يؤد زكاة ماله:

اختلف الفقهاء فيمن مات وقد وجب عليه زكاة ولم يؤدها: المذاهب:

1-

ذهب مالك وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى إلى أنه إن أوصى بها لزم الورثة إخراجها من الثلث، وإن لم يوص بها لم يلزمهم شيء.

جاء في بداية المجتهد: قال مالك: إذا لم يوص بها لم يلزم الورثة إخراجها وإذا أوصى بها فعند مالك يلزم الورثة إخراجها وهي عندهم من الثلث (1) .

وقال البابرتي في العناية على الهداية: اعلم أن من مات وعليه حقوق الله تعالى من صلاة أو صيام أو زكاة أو حج أو كفارة فإما أن يوصي أو لا.

فإن كان الثاني لم تؤخذ من تركته، ولم تجبر الورثة على إخراجها لكن لهم أن يتبرعوا بذلك.

وإن كان الأول ـ أوصى بها ـ ينفذ من ثلث ماله عندنا (2) .

2-

لكن الشافعي وأحمد ـ رحمهما الله تعالى ـ قالا: يلزم الورثة إخراجها من جميع التركة أوصى بها أو لم يوص.

جاء في الأم: وإذا مات الرجل وقد وجبت في ماله زكاة وعليه دين وقد أوصى بوصاياه أخذت الزكاة من ماله قبل الدين والميراث والوصايا (3) .

وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني: ولا تسقط الزكاة بموت رب المال وتخرج من ماله وإن لم يوص بها (4) .

(1) بداية المجتهد ج2 ص 333

(2)

العناية على الهداية ج8 ص466

(3)

الأم ج2 ص13

(4)

المغني ج2 ص509

ص: 1287

-الأدلة:

الظاهر أن عمدة الإمام مالك رحمه الله تعالى في عدم لزوم شيء إذا لم يوص بها سد الذريعة. الوجه في ذلك: أنه إذا لزمت الورثة أدى ذلك إلى أن يترك الإنسان زكاة ماله طول عمره ربما

اعتمادًا على أن الورثة سيخرجونها بعد موته، وربما يتخذ ذلك ذريعة للإضرار بهم. وكذلك الأمر إذا أوصى بها فإنه أيضًا يتهم الورثة في توصيته إخراجها.

ولذلك تجعل من جنس الوصايا فتخرج من الثلث.

وأيضًا لو أجيز هذا لجاز للإنسان أن يؤخر جميع زكاته طول عمره حتى إذا دنا من الموت وصى بها (1) .

-حجة فقهاء الحنفية:

أن الزكاة عبادة ومن شرطها النية، فسقطت بموت من هي عليه، فإذا وصى بها كانت من الثلث كغيرها من الوصايا.

وكذلك قالوا: الزكاة وجبت بطريقة الصلة، إذ لا يقابلها عوض مالي، والصلات تسقط بالموت (2) .

-وحجة الإمام الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى: قياسهما على دين الآدمي والحج، إذ إن الزكاة حق مالي واجب تصح الوصية به، فلا تسقط بموت من هي عليه كالدين، وكما أن الدين يخرج من جميع المال فكذلك الزكاة.

قال النووي في المجموع: دليلنا قوله: فدين الله أحق أن يقضي، وهو ثابت في الصحيحين. (البخاري 3ـ 246، مسلم 2ـ 804) .

وفي رواية البخاري: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيتيه؟ اقضوا الله، فالله أحق في الوفاء.

وهذا وارد في الحج فالاستدلال به معناه قياس الزكاة على الحج (3) .

وقال ابن قدامة من الحنابلة: إذا مات من عليه الزكاة أخذت من تركته ولم تسقط بموته، هذا قول عطاء والحسن والزهري وقتادة ومالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، إلى أن قال: ولنا أنه حق واجب تصح الوصية به فلم تسقط بالموت كدين الآدمي، ويفارق الصوم والصلاة فإنهما عبادتان بدنيتان لا تصح الوصية بهما. فعلى هذا إذا كان عليه دين وضاق ماله عن الدين والزكاة اقتسموا ماله بالحصص كديون الآدميين إذا ضاق عنها المال، بل ويحتمل أن تقدم الزكاة إذا قلنا إنها تتعلق بالعين كما تقدم حق المرتهن عن سائر الغرماء بثمن الرهن لتعلقه به (4) .

(1) ابن رشد: بداية المجتهد ج2 ص 332

(2)

بدائع الصنائع ج2 ص 924

(3)

المجموع ج5 ص305

(4)

المغني: ج2 ص 466 ـ 467

ص: 1288

المبحث الثامن

أمثلة لفتح الذرائع وسدها

فتح الوسائل وسدها: المراد بفتح الوسائل في الاصطلاح الشرعي يعني الحكم بجواز كل وسيلة ثبت جوازها شرعًا ولو أدت إلى مفسدة في بعض الصور.

أما سدها: فمعناه بالجملة حسم وسائل الفساد بمنع الوسيلة الجائزة إذا أدت إلى محظور.

الشواهد والأمثلة لفتح الذرائع:

من الشواهد والوقائع لفتح الذرائع في كتاب الله تعالى:

1-

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] .

وجه الاستدلال من الآية على فتح الذريعة: أن الله تعالى يأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة والسعي ليس وسيلة مقصودة لذاتها لأنها مجرد المشي أو الركوب في السيارة وغيرها من آلات النقل، وإنما كان الأمر بوسيلة السعي إلى الصلاة لأنها ذريعة إلى إقامة الصلاة المفروضة بقوله سبحانه:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وكذلك الأمر بترك البيع عند النداء لصلاة الجمعة والنهي عنه ليس مقصودًا لذات البيع الثابت جوازه بقوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] بل لتحصيل فريضة السعي إلى الصلاة.

2-

قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] يأمر تعالى عباده المؤمنين بالخروج لملاقاة الكفار وهو وسيلة لا بد منها للجهاد في سبيل الله الذي ثبت الأمر به بنفس الآية

ونظائرها في كتاب الله تعالى كثير.

ومنها تعليم المرأة وبخاصة في مجالات تربية الأطفال وكل ما يتعلق بشؤون النساء من الطب النسائي والولادة وغيرها نظرًا للضرورة، إضافة إلى تعليمهن ما خوطبن به شرعًا من تلاوة القرآن الكريم والتفقه في الأحكام لأنها صنو الرجل في التكاليف الشرعية بل لهن من الخصوصيات ما كتب فيه المصنفات. ومنها: حسن الأسوة في معاملة النسوة.

ومن باب فتح الذرائع: ما يعرف بتشريع الضرائب والرسوم على المعاملات والتجارات وما يعرف بالاستيراد والتصدير لتوفير المال اللازم للدولة من القيام بالمهام المطلوبة إليها في الميادين الثقافية والعمرانية والدفاع وما إلى ذلك.

ص: 1289

من الأمثلة لسد الذرائع.

1-

الاجتهاد لاستنباط أحكام الوقائع والنوازل: وهو أمر مقرر ومشروع لا ينبغي إغلاقه وسده حتى لا تبقى الشريعة بمعزل عن الحياة.

ولكن إباحته بلا قيود ولا حدود مفسدة عظيمة تؤدي إلى الفوضى.

وعليه فإن الاجتهاد الفردي في هذه الأيام مفسدة ينبغي التحرز عنها وسد أبوابها وبفتح باب الاجتهاد الجماعي كما هو الشأن في هذا المجمع الفقهي وأمثاله في العالم الإسلامي وكل ذلك منعًا للفوضى وتأكيدًا للثقة في اجتهادات العلماء المعاصرين.

2-

ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية: مع ما في ظاهرها من مصلحة تعريف الناس بكتاب الله تعالى ووقوفهم على ما فيه من أحكام ومواعظ وآداب لا يجوز سدًا للذريعة التبديل والتعبير فيه، ويمكن استدراك المصالح المقصودة بالترجمة عند توفير النية الحسنة عن طريق التعريف بأحكام الإسلام وقد أثير جدل كبير حول هذا الموضوع (1) .

3-

من الأمور المستحدثة ما يجري عليه الناس اليوم من مناسبات يحتفلون بها في كل عام ويسمونها أعيادًا.... كعيد الأم وعيد الطفل وعيد الزواج

وأخيرًا عيد الحب وما إلى ذلك. مع أن الأعياد في الإسلام محدودة في الشرع في مناسبتين خاصتين: هما مناسبة الانتهاء من أداء شعيرة الصوم ومناسبة الانتهاء من شعيرة الحج، لا يجوز إحداث أعياد أخرى تضاهي أعياد الإسلام (2) .

مع تسليمنا مسبقًا بتعظيم الأمهات ورعاية الطفولة وأهمية الزواج وتكريم المعلم والعلم. ولنقف عند قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138] .

4-

وضع التماثيل والأنصاب في الشوارع والميادين: إنها عبادة غربية تسللت إلى مجتمعنا لا يقرها الدين الحنيف لأنه من الذرائع إلى تعظيم غير الله تعالى والانحراف عن الجادة نحو الوثنية، والتي عانى الرسول صلى الله عليه وسلم أشد المعاناة في اجتذاذ جذورها من المجتمع إبان الدعوة الإسلامية.

ومن ذلك حكم التجنيس بجنسية أخرى للفرار من واجب الجندية.

وتغيير المذهب الديني للإفلات من الحقوق الثابتة عليه بموجبه. ومن ذلك تسجيل بيع العقار حتى لا يبيعه صاحبه لأكثر من واحد.

ومنها تسجيل عقود المحلات والبيوت حتى لا يحتال أصحابها على أكل أموال الناس بالباطل بتأجيرها لأكثر من واحد.

وأخيرًا تسجيل عقود الزواج بل وعدد الطلقات حتى نمنع التدليس على القضاة بهذا الشأن.

ومن التطبيقات التي تطالعنا اليوم: امتناع إخواننا أهل فلسطين من الهجرة من أراضيهم بعد أن تغلب عليها أعداء الله

بل ومنع بيع أي منها سدًا لذريعة بسط العدو سيطرته على البلاد والعباد.

(1) مجلة الرسالة السنة الرابعة 661 ـ 717 ـ 882

(2)

البرهاني سد الذرائع ص 771 ـ 779، بتصرف

ص: 1290

خلاصة البحث

إن الشريعة الإسلامية وضعت لمصالح الخلق في العاجل والآجل فما من مصلحة أو خير إلا وأرشدت إليه ودلت عليه، بل والمتأمل في موارد الشريعة يجد أنها وضعت لرعاية مصالح الخلق ولدرء المفاسد عنهم.

وكذلك إن الشريعة مبناها الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، كما يقول ابن القيم (1) .

هذا وإن سد الذرائع من الأصول الصحيحة التي أكدتها الشريعة بنصوصها الآمرة والناهية، وسلكتها الشريعة في جميع الأمور وفي مختلف نواحي الحياة الدينية والمدنية سواء منها ما يتصل بحياة الفرد أو حياة الجماعة، وسواء ما يتصل بسلطان الدولة أو ما يدخل في حرية الأفراد واختيارهم (2) .

إن الأساس المنظور إليه في سد الذرائع هو كون الفعل مما يفضي إلى النتيجة الضارة التي يأباها الشارع ولو كان الفاعل حسن النية، ولذلك فإن الوسيلة لا ينظر إليها في ذاتها بل تأخذ حكم ما أفضت إليه.

إن سد الذرائع مما يدخل في باب السياسة الشرعية ويمد ولي الأمر في محيطه الواسع بسلطة يتدارك بها كل ما يمكن أن يجد من مضار اجتماعية ومشاكل عامة وخاصة بهدف تحقيق العدالة. إن الأصل في سد الذرائع ألا يؤدي تطبيقه إلى مفاسد أخرى أربى من المفاسد المتوقعة من إهماله، وإن سد الذرائع منهج في الاستنباط الفقهي للوقوف على أحكام الوقائع والنوازل، لا ينبغي إغلاقه ولا سده كما أن إباحته بلا قيود ولا حدود مفسدة عظيمة

لذلك لا بد من تقييده وعدم اعتباره إلا إذا توفر للمجتهد نصيب معين من العلم والتقي (3) .

(1) إعلام الموقعين: ج3 ص14

(2)

الزرقا: المدخل ج1 ص 73

(3)

البرهاني: سد الذرائع ص772

ص: 1291

إن سد الذرائع معتبر في الشرع بالنقل والعقل من الكتاب والسنة وقد عمل به كل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أئمة المذاهب.

وأخيرًا: وإن هذا الأصل والمستند الشرعي من خصائص ومآثر الإمام مالك ومما فتح الله به عليه وخصه به دون سائر الأئمة، كما أن المولى تعالى قد فتح على كل من الأئمة منافذ من المعرفة

فقد يجهد هذا الفقيه أو ذلك في الرد على الآخر في ما استقل به من مصدر أو دليل ومع ذلك يبقى البنيان شامخًا والمذهب راجحًا.

فهذا الإمام أبو حنيفة وقوله بالاستحسان.

والحنابلة والمالكية القائلون باستصحاب الحال، فلكل منهجه في التفكير وأسلوبه الذي يتميز به عن أقرانه أو سابقيه ولاحقيه. وتلك حكمة الله في خلقه {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) } [البقرة: 269] .

ص: 1292

خاتمة القول

إن القائلين بسد الذرائع إنما حملهم على القول به خوفهم من التلاعب على أحكام الشريعة أو الوصول إلى العبث فيها باتخاذ ما هو حلال من حيث الظاهر والأصل وسيلة إلى ما هو ممنوع ومحرم، فقالوا بسد الذرائع احتياطًا في شرع الله مع أن الأمر لا يعدو في الغالب قيام شبهة في القصد فما الشأن إذا كان القصد صريحًا والتحريم لما أحل والتحليل لما حرم الله مقصودًا وجريئاً؟.

ويدعي أنه المصلحة وحاجة الزمن

فلا شك أنه مرفوض ومردود.

والحق أن لا مصلحة في مخالفة الشرع وإنما هي المفسدة والأهواء والضلال.

وإن هذه الشريعة ـ خاتمة الشرائع ـ قضت حكمته تعالى أن يحفظها ويصونها فقيض لها في كل حين زمان علماء مخلصين ومجتهدين عاملين وطائفة بالحق ظاهرين. يدفعون عن شرع الله تعالى ويكافحون لتبقى الشريعة صافية نقية، مصونة كما أرادها الله تعالى {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت: 41 ـ 42] صدق الله العظيم.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ خليل محي الدين الميس

ص: 1293