المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

‌حكم ربط الحقوق والالتزامات

بمستوى الأسعار

إعداد

الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية

والقاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله الأمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد:

فاستجابة لرغبة مجمع الفقه الإسلامي بجدة ممثلة في الخطاب الذي تفضل به علي سماحة أمين المجمع الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة برغبته في أن أكتب في الموضوعين المتعلقين بقضايا العملات الورقية وهما:

1-

مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعين الحقوق والالتزامات الآجلة.

2-

حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقة نقوداً كاسدة.

وذلك لضمه مع ما يرد إلى المجمع من بحوث في هذا الصدد لعرض ذلك في الدورة المقبلة لمجلس المجمع. فقد قمت بذلك حسب الاستطاعة. أرجو الله تعالى أن يريد لي خيراً فينعم علي بالتفقه في دينه والله المستعان.

معنى الكساد في اللغة وفي الاصطلاح الفقهي:

معنى الكساد في اللغة:

قال في تاج العروس: كسد المتاع وغيره كنصر وكرم –اللغة الأولى هي المتداولة المشهورة- والفعل يكسد كساداً بالفتح وكسوداً الضم: لم ينفق. وفي التهذيب أصل معنى الكساد هو الفساد ثم استعملوه في عدم نفاق السلع والأسواق فهو كاسد. وسلعة كاسدة وكسدت السوق تكسد كساداً أو سوق كاسد بلا هاء. وأكسد القوم كسدت سوقهم كذا في اللسان (1) اهـ.

ولتحديد معنى الكساد نرجع إلى معنى النفاق حيث ذكر في القاموس وفي التاج أن الكساد عدم نفاق السلع والأسواق.

قال في التاج: نفق البيع ينفق نفاقاً كسحاب: راج، وكذلك السلعة تنفق إذا غلت ورغب فيها، ونفق الدرهم نفاقاً كذلك. اهـ.

ومما تقدم يظهر أن الكساد بمعنى رخص السلع وضعف الرغبة في شرائها وبالتالي نقص سعرها.

وقد أخذ بهذا المعنى الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره قوله تعالى: {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} [التوبة: 24] حيث قال:

وتجارة تخشون كسادها – أي رخصها ونقصها وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات من الأثمان والأواني والأسلحة والأمتعة والحبوب والحروث والأنعام وغير ذلك (2) اهـ.

وقال ابن العربي في أحكام القرآن في تفسير الكساد الوارد في الآية الكريمة: والكساد نقصان القيمة (3)

(1) تاج العروس للزبيدي 2/485.

(2)

3/213

(3)

2/896

ص: 959

معنى الكساد في الاصطلاح:

الواقع أن المتتبع لأقوال الفقهاء في معنى الكساد يخرج من مطالعاته إلى أن جمهورهم يرى أن المقصود بالكساد انقطاع القيمة فالسكة إذا أبطلها ولي الأمر قالوا عنها بأنها كاسدة، وهذا المعنى لا يتفق مع المعنى اللغوي للكساد بأنه عدم نفاق السلعة أي نقصان قيمتها مع بقاء قيمة لها في الجملة والرضا بتداولها.

قال الكاساني: لو اشترى بفلوس نافقة ثم كسدت قبل القبض انفسخ العقد عند أبي حنيفة رحمه الله.. ولأبي حنيفة أن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمناً؛ لأن ثمنيتها تثبت باصطلاح الناس فإذا ترك الناس التعامل بها عدداً فقد زال عنها صفة الثمن. (1)

وجاء في الدرر السنية سؤال موجه للشيخ عبد الله أبا بطين مفتي الديار النجدية في زمنه: إذا كسدت السلعة بتحريم السلطان لها أو بغيره أو رخصت؟ فأجاب رحمه الله بإجابة مطولة جاء فيها ذكره بعض ما ذكره ناظم المفردات في الكساد ومعناه وحكمه فقال:

والنقد في المبيع حيث عينا وبعد ذا كساده تبينا

نحو الفلوس ثم لا يعامل بها فمنه عندنا لا يقبل بل قيمة الفلوس يوم العقد والقرض أيضاً هكذا في الرد

أي إذا انعقد بنقد معين كدراهم مكسرة أو مغشوشة أو بفلوس ثم حرمها السلطان فمنع المعاملة بها قبل قبض البائع لها لم يلزم البائع قبضها. اهـ المقصود. (2)

هذا النص من الحنابلة: يعني أن الكساد انقطاع القيمة لا نقصها. وهو نص يتفق في مفهومه مع ما ذكره الكاساني من نص يدل على أن الكساد عندهم انقطاع القيمة، وقد فرق بعضهم بين الكساد والانقطاع فوصف الكساد بنقص القيمة إعمالاً لمدلوله اللغوي، قال في الكشاف:

وعلم منه أن الفلوس إن لم يحرمها السلطان وجب رد مثلها غلت أو رخصت أو كسدت (3) اهـ. على أي حال فلا مشاحة في الاصطلاح وإن بعدت العلاقة بين المعنى اللغوي للكساد ومعناه الاصطلاحي عند الفقهاء.

فلدينا في بحث الكساد وأثره في ربط الالتزام بمستوى الأسعار مسألتان:

إحداهما: ما تعلق بالذمة من مال انقطعت ماليته بكساده –على المفهوم الفقهي- وذلك قبل قبضه من المدين.

(1) بدائع الصنائع 5/242.

(2)

الدرر السنية 5/108

(3)

كشاف القناع 5/258.

ص: 960

والثانية: ما تعلق بالذمة من مال لا تزال ماليته قائمة ومعتبرة إلا أن قيمته المالية نقصت قبل قبضه.

أما المسألة الأولى فقد ذكرها الكاساني في بدائع الصنائع فقال: لو اشترى بفلوس نافقة ثم كسدت قبل القبض انفسخ العقد عند أبي حنيفة رحمه الله وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائماً وقيمته أو مثله إن كان هالكاً، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يبطل البيع، والبائع بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس، كما إذا كان الثمن رطباً فانقطع قبل العقد.

ولأبي حنيفة أن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمناً؛ لأن ثمنيتها تثبت باصطلاح الناس، فإذا ترك الناس التعامل بها عدداً فقد زال عنها صفة الثمن ولا بيع بلا ثمن فينفسخ العقد ضرورة (1) اهـ.

ومن هذا يتضح أن الأئمة الثلاثة أبا حنيفة وصاحبيه قد اتفقوا على أن الدائن لا يلزمه قبول المثل، واختلفوا في التطبيق، فأبطل أبو حنيفة البيع لبطلان الثمن، وقال صاحباه بصحة البيع وإعطاء البائع الخيار بين فسخ البيع أو أخذ قيمة الفلوس.

وقد اختلف المالكية رحمهم الله في الثمن المتعلق بالذمة وقد أبطل السلطان التعامل به، هل يرد مثله وقت العقد أو قيمته؟ فالمشهور عندهم رد المثل والقول الآخر رد القيمة. (2)

إلا أنه قد جاء في حاشية قليوبي تقييد الكساد بأن تكون لها قيمة وهذا نص قوله:

ويرد المثل وإن أبطله السلطان إن بقي له قيمة وإلا رد قيمة أقرب وقت إلى الإبطال (3) اهـ.

والشافعية يرون رد المثل ولو أبطل السلطان التعامل بها، قال في الأم:

ومن سلف فلوساً أو درهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي سلف أو باع بها (4) اهـ.

أما الحنابلة فقالوا برد القيمة، قال في زاد المستقنع وشرحه:

وإن كانت الدراهم التي دفع القرض عليها مكسرة أو كان القرض فلوساً فمنع السلطان المعاملة بها أي بالدراهم المكسرة أو الفلوس، فله أي المقرض القيمة وقت القرض؛ لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها وسواء كانت باقية أو استهلكها، وتكون القيمة من غير جنس الدراهم وكذلك المغشوشة إذا حرمها السلطان. (5) اهـ.

(1) 5/242.

(2)

انظر حاشية الرهوني 5/221-122؛ والزرقاني على مختصر خليل 5/60.

(3)

قليوبي وعميرة 2/259.

(4)

الأم 2/33.

(5)

الروض المربع وحاشيته للشيخ ابن قاسم 5/42.

ص: 961

وقال في كشاف القناع ما نصه:

ولو تغير سعره ولو بنقص ما لم يتعيب

أو يكن القرض فلوساً أو يكن دراهم مكسورة فيحرمها أي يمنع الناس من المعاملة بها السلطان.. فلا يلزمه قبولها فله أي المقرض القيمة عن الفلوس والمكسرة في هذه الحال وقت القرض سواء كانت باقية أو استهلكها وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيراً، والمغشوشة إذا حرمها السلطان كذلك (1) اهـ.

وذكرها –أعني هذه المسألة- صاحب المفردات على اعتبار أنها من مفردات الإمام أحمد فقال:

والنقد في المبيع حيث عين وبعد ذا كساده تبينا

نحو الفلوس ثم لا يعامل بها فمنه عندنا لا يقبل

بل قيمة الفلوس يوم العقد والقرض أيضاً هكذا في الرد

وقد سبق إيراد النص من الكاساني في البدائع، بأن الإمام أبا حنيفة يبطل العقد ويلزم برد المبيع، وأن صاحبه صححا العقد وأعطيا البائع الخيار بين فسخ البيع أو أخذ قيمة الفلوس، وهذا في جملته من الأئمة الثلاثة أبي حنيفة وصاحبيه يعني أن الدائن لا يلزمه قبول الثمن الكاسد، وكذلك مر بنا أن المشهور في المذهب المالكي أن النقد المتعلق بذمة مدينه وليس له إلا ذلك، ولكن في المذهب قول لبعض فقهائه بلزوم القيمة وقت العقد إذا أبطل السلطان التعامل بذلك النقد، وجرى من الرهوني في حاشيته مناقشة هذا القول (2)

وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني، المذهب في المسألة والخلاف فيها بين المذاهب الأخرى فقال:

وقال مالك والليث بن سعد والشافعي: ليس له إلا مثل ما أقرضه لأن ذلك ليس بعيب حدث فيها فجرى مجرى نقص سعرها، ولنا أن تحريم السلطان لها منع نفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها (3) اهـ.

وبهذا يتضح أن هذه المسألة ليست من مفردات المذهب الحنبلي، وقد ذكر بعض فقهاء المذهب الحنبلي: أن النص عن الإمام أحمد في رد القيمة في حال كساد النقد وارد عنه في القرض، وقد أورد الشيخ عبد الله أبا بطين رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في تعميم الدين على جميع أسبابه وأنه ليس خاصًّا بالقرض فقال صاحب المفردات:

وشيخ الإسلام فتى تيميه قال قياس القرض عن جليه

الطرد في الديون كالصداق وعوض في الخلع والإعتاق

والغصب والصلح عن القصاص ونحو ذا طرًّا بلا اختصاص

قال الشيخ عبد الله أبا بطين: أي قال شيخ الإسلام بحر العلوم أبو العباس تقي الدين ابن تيمية رحمه الله في شرح المحرر: قياس ذلك أي القرض فيما إذا كانت مكسرة أو فلوساً وحرمها السلطان وقلنا برد قيمتها في جميع الديون في بدل التلف والمغصوب مطلقاً، والصداق والفداء والصلح عن القصاص والكتابة انتهى. قال: وجاء في الدين نص حرره الأثرم إذ يحقق يعني قال ابن تيمية: إن الأصحاب إنما ذكروا النص عن أحمد في القرض قال: وكذلك المنصوص عن أحمد في سائر الديون قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل له على رجل دراهم مكسرة أو فلوس فسقطت المكسرة قال يكون له بقيمتها من الذهب (4) اهـ.

(1) كشاف القناع عن متن الإقناع 5/258.

(2)

انظر حاشية الرهوني 5/121-122

(3)

6/442 تحقيق الدكتور عبد الله التركي.

(4)

الدرر السنية 5/109.

ص: 962

وخلاصة القول في هذه المسألة –ما تعلق بالذمة من ثمن كسد- إن المذهبين الحنفي والحنبلي وقولاً في مذهب الإمام مالك يذهبون إلى أن الدائن لا يلزمه قبول الثمن الكاسد، وأن له قيمته وقت العقد، وأبو حنيفة خلافاً لصاحبيه يرى بطلان العقد محل الثمن، وأن المشهور في مذهب الإمام مالك والمذهب الشافعي، أن الدائن يلزمه قبول المثل ولو كسد، ولم نعرف خلافاً في ذلك، ولعل ملحظ الإمام الشافعي رحمه الله وأصحابه، أن الثمن المتعلق بالذمة إن كسد فله قيمة ذاتية في نفسه من ذهب أو فضة أو فلوس فهذه الأثمان من معادن لها قيمة ذاتية في نفسها، وهي تختلف عن العملات الورقية، فالضرر في قبول مثلها يسير، بخلاف العملات الورقية فإبطالها قطع لقيمتها مطلقاً، ولا أظن وجود عالم شافعي ينسب لإمامه الشافعي ومذهبه الشافعي القول ببراءة الذمة في دفع ما تعلق بها مما لا قيمة له كالعملات الورقية بعد إبطالها.

أما المسألة الثانية: وهي ما إذا تعلق في الذمة مال لا تزال ماليته قائمة إلا أنه تعرض لنقص السعر بعد العقد.

هذه المسألة الخلاف فيها بين فقهاء المذاهب قليل حيث اتجه جمهورهم إلى الأخذ بلزوم قبول المثل من المدين وإن رخص سعره، قال الكاساني:

ولو لم تكسد ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجمال وعلى المشتري أن نقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة ههنا؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية (1) اهـ.

وقال أيضاً في باب القرض: ولو لم تكسد ولكنها رخصت أو غلت فعليه رد مثل ما قبض. اهـ.

ونقل ابن عابدين أن الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي قال:

وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد (2) اهـ.

قلت: "ما ذكره الإسبيجاني من الإجماع غير صحيح، فإن الإمام أبا يوسف له رأي في الفلوس أنها إذا تغير سعرها برخص أو بزيادة فإن المدين بها يرد قيمتها وقت القبض أي قبض الدين. قال ابن عابدين في رسالته تنبيه الرقود على مسائل النقود:

"

غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولاً: ليس عليه غيرها، وقال الثاني ثانياً: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض وعليه الفتوى" (3) اهـ.

(1) بدائع الصنائع 5/542.

(2)

تنبيه الرقود على مسائل النقود 2/60 من رسائل ابن عابدين.

(3)

رسائل ابن عابدين 2/60 و64.

ص: 963

وقد ذكر ابن عابدين ما ذكره مثلاً مسكين في حاشيته من التفرقة في رأي أبي يوسف بين الفلوس والنقد من الذهب والفضة، وأن رأيه في لزوم القيمة بالنسبة للفلوس لا يندرج تحت القول بذلك في النقد من الذهب والفضة. واستحسن ابن عابدين هذا التنبيه من صاحب الحاشية. والمتتبع لرأي أبي يوسف لا يجد أنه رحمه الله نص على تخصيص الفلوس دون غيرها من الذهب والفضة.

والعلة التي جعلت الإمام أبا يوسف يقول برد القيمة في الفلوس موجودة في النقد من ذهب أو فضة إذا تغير سعره، حيث إن لكل من نقود الفلوس والذهب والفضة قيمة ذاتية كامنة فيها، والتضرر من نقص سعر الفلوس أو زيادته حاصل في نقص سعر النقد من ذهب أو فضة أو زيادته، فالكل يجتمع في وجود قيمة ذاتية في معدنه، وفي وجود الضرر على الملتزم بها في حال الغلاء، وعلى الدائن بها في حال رخصها، فالتفريق بينها تفريق بين متماثلين، وتقول على صاحب هذا الرأي بما لم يقله. ويصح لنا أن نستعير عبارة جاءت في حاشية الدسوقي على شرح خليل حيث يقول:

ولعله أطلق الفلوس على ما يشمل غيرها نظراً للعرف اهـ. فنقول كذلك لعل أبا يوسف أطلق الفلوس على ما يشمل غيرها نظراً للعرف لا سيما وهو رحمه الله لم يعط غيرها حكماً مغايراً لها، وبهذا يظهر أن المذهب الحنفي المشهور فيه لدى جمهور أهله: أن غلاء السعر ورخصه لا يؤثر على لزوم القبول برد المثل وأن في المذهب قولاً في الفلوس برد القيمة وعليه الفتوى.

أما المالكية فيكادون يجمعون على لزوم قبول الدائن رد المثل في حال غلاء السعر أو رخصه، وقد ورد عن الرهوني في حاشيته استثناء حال الفحش في الغلاء أو الرخص، وفيما يلي نقل شيء من أقوالهم:

جاء في المدونة: قلت: أرأيت لو أن رجلاً قال لرجل أقرضني ديناراً دراهم أو نصف دينار دراهم أو ثلث دينار دراهم فأعطاه الدراهم ما الذي يقضيه في قول مالك؟ قال: يقضيه مثل دراهمه التي أخذ منه رخصت أو غلت فليس عليه إلا مثل الذي أخذ. اهـ.

وجاء فيها أيضاً:

قلت: أرأيت إن أتيت إلى رجل فقلت له: أسلفني درهم فلوس، والفلوس يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم حالت الفلوس ورخصت حتى صارت مائتا فلس بدرهم. قال: إنما يرد مثل ما أخذ ولا يلتفت إلى الزيادة (1) اهـ.

(1) المدونة 8/153.

ص: 964

وقال الدردير في شرحه:

إن بطلت فلوس أو دنانير أو دراهم ترتبت لشخص على غيره أي قطع التعامل بها وأولى تغيرها بزيادة أو نقص ولعله أطلق الفلوس على ما يشمله غيرها نظراً للعرف فالمثل، أي فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها أو التغير (1) اهـ.

ومثل هذا قال الدسوقي في حاشيته.

وقد جاء في حاشية الرهوني قوله:

قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف (2) اهـ.

وهذا الاستثناء الذي نقله الرهوني يعني الأخذ بالقيمة في هذه الحال، وقد ناقش أخونا الكبير الدكتور الصديق الضرير هذه العبارة من الرهوني في بحثه القيم المقدم إلى المجمع، وذكر حفظه الله أن الرهوني يعلق بهذه العبارة على مسألة حكم كساد النقد لا تغير سعره بنقص أو زيادة، ومع احترامنا الكامل فضيلته ودقة نظره إلا أنه يستطيع أن يعيد النظر في العبارة على مسألة حكم كساد النقد لا تغير سعره بنقص أو زيادة، ومع احترامنا الكامل لفضيلته ودقة نظره إلا أنه يستطيع أن يعيد النظر في العبارة وما سبقها ولحقها ليدرك أن الرهوني يذكر قيد القول برد المثل في حال اعتدال التغير أما إذا فحش التغير فيقول بالقيمة، وهذه عبارته رحمه الله:

وأما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا، وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب. قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه (3) اهـ.

وخلاصة القول في هذا المذهب: أن الدائن ليس له إلا قبول المثل سواء تغير سعر الدين بزيادة أو نقص، وأن الرهوني يقيد ذلك بما إذا لم يكن التغير فاحشاً. والشافعية لا يكادون يختلفون في القول بلزوم قبول الدائن رد المثل ولو زاد السعر أو نقص.. قال السيوطي:

وقد تقرر أن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقاً، فإذا اقترض فيه رطل فلوس فالواجب رد رطل من ذلك الجنس زادت قيمته أو نقصت (4) اهـ.

(1) الشرح الكبير مع حاشيته 3/40

(2)

5/122

(3)

5/121

(4)

قطع المجادلة عند تغير المعاملة 1/97.

ص: 965

أما الحنابلة فجمهورهم وهو المذهب لا يعتبرون لنقص السعر أو زيادته أثراً في لزوم قبول رد المثل.. قال ابن قدامة:

قد ذكرنا أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص السعر أو غلا أو كان بحاله، ولو كان ما أقرضه موجودا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره أو لم يتغير (1) اهـ.

وقال الكشاف:

وإذا كان القرض مثليًّا ورده المقترض بعينه لزم المقرض أخذه ولو تغير سعره ولو بنقص ما لم يتعيب –إلى أن قال- وعلم منه أن الفلوس إن لم يحرمها السلطان وجب رد مثلها غلت أو رخصت أو كسدت (2) اهـ.

تنبيه: يلاحظ أن المصنف عبر هنا عن الكساد بمعناه اللغوي وهو تغير سعر السلعة بنقص خلافا؟ ً لما عليه عامة الفقهاء من التعبير بالكساد عن الانقطاع بتحريم السلطان إياها ولعله يقصد بالكساد هنا الفحش في النقص.

وقال في الروض المربع:

ويرد المقترض المثل أي لأن المثل أقرب شبهاً من القيمة فيجب رد مثل فلوس غلت أو رخصت أو كسدت. اهـ. قال في الحاشية: وهذا مع بقاء المتعامل بها وعدم تحريم السلطان لها عند أكثر الأصحاب؛ لأن علو القيمة ونقصانها لا يسقط المثل عن ذمة المقترض (3) اهـ.

ومما تقدم يتضح أن جمهور الفقهاء يرون لزوم قبول المقرض لمثل قرضه لا سيما في الأثمان إذا لم يبطل السلطان التعامل بها لكن سعرها تغير بزيادة أو نقص.

وأن هناك قولاً بالأخذ بقيمة ما تعلقت به الذمة من ثمن في حال تغير سعره بزيادة أو نقص وإن كان التعامل به باقياً، وهو قول أبي يوسف، وذكر ابن عابدين أنه المفتى به، وذكر الرهوني قولاً لبعض المالكية وقيده بتغير سعره تغيرًّا فاحشاً، وذكر هذا القول الشوكاني في نيل الأوطار فقال:

فائدة: قال في البحر: مسألة الإمام يحيى: لو باع بنقد ثم حرم السلطان التعامل به قبل قبضه فوجهان. يلزم ذلك النقد إذا عقد عليه، والثاني يلزم قيمته إذا صار لكساده كالعرض –انتهى، قال في المنار: وكذلك لو صار كذلك يعني النقد لعارض آخر- اهـ. قلت: قوله لعارض آخر يفهم منه أن النقص الفاحش أو الزيادة الفاحشة موجبة للأخذ بالقيمة قياساً على منع السلطان التعامل بالسكة موضوعة الالتزام. وقد أخذ بهذا القول محققو الحنابلة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ عبد الله أبا بطين والشيخ حسن بن حسين بن علي والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته على الروض المربع ما نصه:

قوله رخصت

واختار الشيخ –أي شيخ الإسلام ابن تيمية- وابن القيم رد القيمة كما لو حرمها السلطان، وجزم به الشيخ في شرح المحرر فقال: إن أقرضه طعاماً فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصاً فيرجع إلى القيمة وهذا هو العدل، قال عبد الله بن الشيخ محمد هو أقوى –إلى أن قال- وألحق الشيخ سائر الديون بالقرض وتابعه كثير من الأصحاب، وذكره الشيخ منصوص أحمد وأنه سئل عن رجل له على آخر دراهم مكسرة أو فلوس فسقطت المكسرة قال: يكون له قيمتها من الذهب (4) اهـ.

(1) المغني 6/441

(2)

كشاف القناع 5/258.

(3)

الروض المربع وحاشية ابن قاسم 5/43.

(4)

5/43.

ص: 966

وجاء في الدرر السنية:

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا كسدت السكة بتحريم السلطان لها أو تغيره أو رخصت إلخ؟ فأجاب: قد بسط هذه المسألة ناظم المفردات وشارحها فنتحفك بنقل كلامهما ملخصاً –إلى أن قال-:

وقولهم إن الكساد نقصاً فذاك نقص النوع عيب رخصا

قال ونقص النوع ليس يعقل فيما سوى القيمة ذا لا يجهل

وخرج القيمة في المثلي بنقص نوع ليس بالخفي

واختاره وقال عدل ماض خوف انقضاء السعر بالتقاضي

ثم نقل الشارح كلام الشيخ إلى أن قال: إذا أقرضه أو غصبه طعاماً فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصاً فيرجع إلى القيمة وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتمثلان إذا استوت قيمتها وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل.. وذكر رحمه الله أن النقص يوجب العيب ومعناه عيب النوع إذ ليس المراد عيب الشيء المعين فإنه لي هو المستحق وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا في نقصان قيمتها –إلى أن قال- وأما رخص السعر فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضاً وهو أقوى (1) اهـ. قلت: ويفهم من قول الشيخ عبد الله أبا بطين من قوله وهو أقوى أنه يختار قول الشيخ ابن تيمية.

وقال الشيخ عبد الله أبا بطين في جواب آخر بعد أن ذكر المذهب في ذلك قال: فالحاصل أن الأصحاب إنما أوجبوا رد قيمة ما ذكرنا في القرض والثمن المعين خاصة فيما إذا منع السلطان التعامل بها فقط، ولم يروا رد القيمة في غير القرض والثمن المعين، وكذا لم يوجبوا رد القيمة والحالة هذه فيما إذا كسدت بغير تحريم السلطان لها ولا فيما إذا غلت أو رخصت، وأما الشيخ تقي الدين فأوجب رد القيمة في القرض والثمن المعين وكذلك سائر الديون فيما إذا كسدت مطلقاً، وكذلك إذا نقصت القيمة فيما ذكروا في جميع المثليات (2) اهـ.

(1) الدرر السنية 5/110

(2)

الدرر السنية 5/111

ص: 967

وسئل الشيخ حسن بن حسين بن علي آل الشيخ، فاستعرض في إجابته المشهور من المذهب في مسألة نقص السعر وزيادته، وذكر القول الآخر في رد القيمة وأورد في إجابته بعض نظم صاحب المفردات وشرحها ثم قال: وقال الشيخ تقي الدين في شرح المحرر: إذا أقرضه أو غصبه طعاماً فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصاً، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل –إلى أن قال- وكلام الشيخ هذا هو الذي ذكره الناظم عنه تخريجاً له واختياراً فقد عرفت أنه تحصل في المسألة من حيث هي ثلاثة أقوال:

التفريق بين ما إذا حرمها السلطان فبطلت المعاملة بها بالكلية ومثله إن تكسرت أو كسدت فلا يتعامل بها فالقيمة، وبين ما إذا كان غايته الغلاء والرخص مع بقاء المعاملة بحالها فالمثل مطلقاً كما هو المنقول عن مالك والشافعي والليث، وثالثها اختيار أبي العباس وهو المعتمد لدينا في الفتوى (1) اهـ.

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله:

قوله: وكذلك المغشوشة، وعندهم أنها مثلية فيكفي ردها لكن فيما إذا وجد نقصاً فإنه يلزمه المثل عندهم وعلى أصل الشيخ –أي شيخ الإسلام ابن تيمية - الظاهر أنه يلزمه القيمة، ثم هذا في القرض ونص عليه أحمد، واختار الشيخ أن هذا يجري في سائر الديون –قال الشيخ أعني الشيخ محمد- وهذا هو الذي ينبغي لما على كل من النقص. اهـ. (2)

وذكر الشيخ عبد الله البسام المسألة والخلاف فيها ثم قال:

واختار الشيخ تقي الدين وشمس الدين ابن القيم وبعض علماء الدعوة النجدية السلفية أن النقد إذا غلا أو رخص أو كسد فإن للدائن القيمة كما لو حرمها ولي الأمر وألحق الشيخ تقي الدين سائر الديون بالقرض وتابعه كثير من الأصحاب. اهـ.

قلت: وقد سألت فضيلة الشيخ عبد الله البسام عن هذا القول فذكر أنه يختاره؛ لأن المثلية لا تتحقق إلا بالقيمة.

(1) الدرر السنية 5/112.

(2)

فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 7/205

ص: 968

وفي ضوء ما تقدم يتضح لنا أن القول بلزوم القيمة في حال الرخص أو الغلاء قول له وجهه من النظر والاعتبار وقد قال به مجموعة من أهل العلم من جميع المذاهب، وذكر ابن عابدين أنه المفتى به في المذهب الحنفي وذكر الشيخ حسن بن حسين آل الشيخ أحد علماء الحنابلة أنه المعتمد لدينا في الفتوى.

وبمزيد من النظر والتأمل والعمق في التصور يتضح لنا أن المثلي لا يتحقق إلا إذا كان مثليًّا من حيث الجوهر والاعتبار، فلا نستطيع أن نعتبر المثلية وقد تخلف عنها بعض عناصر اعتبارها وهو نقص قيمتها، وإن كانت المثلية من حيث الظاهر موجودة فالناس لا يقصدون من تملك الأثمان أعيانها وإنما يقصدون منها قوتها الشرائية، فإذا انخفضت قوتها الشرائية فقد نقصت مثليتها. أرأيت لو أن زيداً من الناس استقر في ذمته لخالد مبلغ من المال ثم بعد ذلك نقصت قيمة هذا المال عند السداد بخمسين في المائة وقد يبلغ النقص أيضاً ألفاً في المائة كما يحصل ذلك في قضايا العملات الورقية المتتابع تدنيها وانخفاضها، كيف نعتبر المثلية في هذا إلا بشيء من النظر الظاهري الموجب للتساؤل والاستغراب ثم الإنكار؟! ولا شك أن القصد الذي حدا بالقائلين بالمثلية دون القيمة هو تلمسهم رحمهم الله البعد عن الظلم، ولكنه مسلك عالج الضرر بضرر مثله فقالوا برفع الظلم عن المدين وسلكوا في تحقيق ذلك ظلم الدائن نفسه وقد يكون العكس في حال الزيادة.. وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن دعوى المثلية فجاء في الدرر السنية ما نصه:

وقال الشيخ تقي الدين في شرح المحرر: إذا أقرضه أو غصبه طعاماً فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصاً فيرجع إلى القيمة وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين وعيب العين المعينة خروجها عن المعتاد (1) اهـ.

وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نتصور في الجانب التطبيقي ثلاث حالات:

إحداها: ما إذا كان تغير السعر بنقص كان في نقد حال الأداء إلا أن المدين به ماطل الدائن في السداد مع القدرة واليسار حتى تغير السعر بنقص قوته الشرائية فهذا المدين يعتبر ظالماً الدائن بمماطلته وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((مطل الغني ظلم)) ، وقوله:((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) فعلى القول بأن المدين يدفع للدائن المثل فإن القائلين بهذا القول قد لا يقولون به في هذه المسألة وإنما يقولون بضمان المدين ما نقص على الدائن على اعتبار أن مطله من باب الغصب.

(1) الدرر السنية 5/110

ص: 969

قال في حاشية المدني على كنون:

إذا قبض الناظر ربع الوقف وأخر صرفه عن وقته المشروط صرفه فيه مع إمكانه فتغيرت المعاملة بنقص قال: يضمن النقص في ماله لتعديه بذلك وظلمه والله أعلم. قال عج عقبه: وإذا كان هذا في الناظر مع أنه أمين فأولى المدين قلت ثم رأيت عن المسائل الملقوطة ولله الحمد ما يوجب القطع بما ذكره الوانوغي لكن في حالة خاصة ونصه: مسألة: من عليه طعام فأبى الطالب من قبضه ومكنه المطلوب مراراً حتى إلا الطعام قال مالك: ليس عليه المكيلة وإنما له قيمته (1) اهـ.

وقال في الروض المربع:

وإن نقصت القيمة في المغصوب ضمنها الغاصب لتعديه (2) اهـ.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله:

قال الأصحاب: وما نقص بسعر لم يصمن. أقول: وفي هذا نظر فإن الصحيح أنه يضمن نقص السعر، فكيف يغصب شيئاً يساوي ألفاً وكان مالكه بصدد بيعه بالألف ثم نقص السعر نقصاً فاحشاً فصار يساوي خمسمائة أنه لا يضمن النقص فيرده كما هو! ؟ (3) اهـ.

فالمماطل يعتبر غاصباً بتمنعه ومماطلته السداد، والذي يظهر –والله أعلم- أن أكثر أهل العلم يوجبون على الدائن رد قيمة ما استقر في ذمته من حق حال الأداء ثم تغير السعر بنقص. يستوي في القول بهذا القائلون برد المثل في حال انتفاء التعدي بالمماطلة، والقائلون برد القيمة في حال تغير السعر بنقص مطلقاً، والله أعلم.

الحالة الثانية: ما إذا كان تغير السعر بنقص كان في نقد حال الأداء أو مؤجل السداد إلا أنه لم يكن من المدين به مماطلة في الأداء بعد المطالبة فهذه الحالة وما يندرج تحتها من صور مشمولة بمسألة ما إذا تغير السعر بنقص بعد استقرار الحق في الذمة وقبل السداد وقد تقدم ذكر هذه المسألة والخلاف في الحكم فيها من حيث إلزام الدائن بقبول رد المثل من غير نظر إلى التغير بزيادة أو نقص أو قبول امتناع الدائن من رد المثل ومطالبته بالقيمة.

الحالة الثالثة: ما إذا كان الالتزام بالحق مؤجل السداد ثم بعد حلوله صار من الدائن مماطلة في السداد وقد تغير السعر بنقص قبل حلول الأجل، وبعد حلول الأجل وثبوت المماطلة زاد النقص، فهذه المسألة لها نظران، أحدهما: تغير السعر بنقص قبل حلول الأجل فهذه الصورة من صور الحالة الثانية، والنظر الثاني: زيادة التغير بنقص بعد حلول الأجل وثبوت المماطلة، فهذه الصورة من صور الحالة الأولى فيما يتعلق بزيادة التغير، فعلى القول برد المثل من غير نظر إلى غير السعر بنقص أو زيادة إلا أن يكون ذلك ناتجاً من التعدي في المماطلة فيضمن الدائن مقدار النقص الذي حصل بعد حلول الأجل وثبوت المماطلة.. وأما على القول الآخر برد القيمة فلا فرق بين تغير السعر قبل حلول الأجل أو بعده حيث يلزم المدين أن يدفع للدائن قيمة حقه وقت استقراره في ذمته للدائن.

(1) هامش على حاشية الرهوني 5/121

(2)

5/398.

(3)

ج الفتاوي السعدية ص 451.

ص: 970

أما حدود التضخم الذي تعتبر به العملات الورقية نقوداً كاسدة فيمكن أن نرجع إلى استذكار ما سبق ذكره في أول البحث من تحديد معنى الكساد. فقد ذكر علماء اللغة في معنى الكساد أنه عدم نفاق السلع في الأسواق، ونفاق السلع في الأسواق غلاؤها والرغبة فيها، وهذا يعني أن الكساد رخص السلع وعدم الرغبة فيها مع بقاء قيمة لها في الجملة، وقد اتجه جمهور الفقهاء إلى الأخذ بأن الكساد انقطاع القيمة، وقال بعضهم بالمفهوم اللغوي للكساد نقص القيمة مع بقائها من حيث الجملة، ويمكن أن نحدد الكساد: بأنه نقص السعر نقصاً فاحشاً بغض النظر عن بقاء التعامل به أو انقطاعه طبقاً للتعبير الذي ذكره الرهوني في حاشيته: حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه.

فهل يعتبر التضخم الاقتصادي من الجوائح المضمونة حيث إن المدين قد انتفع ببدل الدين عليه انتفاعاً سالماً من أثر التضخم ثم حصل النقص الفاحش على الدائن في حال حبس دينه عند المدين وعجزه عن التصرف فيه بما ينقذه تضرره بالتضخم؟ على أي حال فإن اعتبرنا الأضرار الناتجة في التضخم شبيهة بالجوائح فقد ذكر العلماء رحمهم الله في تقدير الجائحة قولين وهما روايتان عن الإمام إحداهما أنه لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها فمتى حصل النقص اعتبر جائحة وقد استدرك على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:

وعلى الرواية الأولى يقال: الفرق مرجعه إلى العادة.

والرواية الثانية: أن الجائحة الثلث فما زاد، كما قدرت به الوصية والنذر ومواضع في الجراح وغير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الثلث والثلث كثير)) . (1)

وخلاصة القول في هذا البحث أن بعض أهل العلم ذهبوا إلى وجوب قبول رد المثل لنقد جرى الالتزام به ثم أبطل السلطان التعامل به قبل قبضه، وذهب محققوهم إلى إلزام المدين برد القيمة، كما ذهب جمهورهم إلى القول بوجوب قبول رد المثل في حال تغير السعر بنقص أو زيادة بعد الالتزام، ولو بقي التعامل به، وذهب محققوهم كذلك إلى القول بإلزام المدين برد القيمة من غير نظر إلى مقدار النقص أو زيادته، وتوسط بعضهم فقال بإلزام المدين برد القيمة في حال تغير السعر بنقص فاحش حيث يكون القابض له كالقابض لما لا كبير منفعة فيه. ثم اختلفوا في تقدير الفحش في النقص فقال بعضهم: إن ذلك راجع إلى العرف والعادة. وقال بعضهم: إن ذلك مقدر بالثلث فما زاد.

وأحب أن أختم بحثي بالوقفات التالية لعل فيها ما يمكن أن يعتبر إكمالاً للبحث.

(1) مجموع الفتاوى الكبرى ج30 ص 279

ص: 971

الوقفة الأولى:

لا شك أن فقهاء المذاهب الأقدمين ومتأخريهم لم يكن لهم عهد بالنقود الورقية حيث إن الأثمان عندهم من الذهب والفضة والعملات المعدنية مما يسمونها فلوساً، ولا يخفى ما بين أجناس النقود الورقية وأجناس النقود المعدنية من فرق حيث إن النقد الورقي لا قيمة له في ذاته وإنما قيمته الثمنية في أمر خارج عن ذاته، فمتى بطل التعامل به انعدمت قيمته انعداماً كاملاً بخلاف النقد المعدني فلئن كان له قيمة ثمنية في اعتباره ثمناً فإن في ذاته قيمة معتبرة كجزء من مادة معدنه، ولهذا قال جمهورهم بلزوم قبول رد المثل منه ولو أبطل السلطان التعامل به؛ لأن الضرر بأخذه قد يكون يسيراً لوجود القيمة الذاتية فيه نفسه، ولو كانت النقود الورقية موجودة في عصور فقهائنا الأقدمين لما قال أحد منهم بقبول ردها ولو أبطلها السلطان، كيف وقد كان من بعضهم القول برد القيمة في حال تغير السعر بنقص أو زيادة مع بقاء التعامل بها ووجود قيمة ذاتية فيها؟

ولهذا أرى أن الاحتجاج من فقهائنا المعاصرين على القول بلزوم قبول رد المثل بما عليه فقهاؤنا الأقدمون احتجاج في غير محله وتقويل لهم بما لم يقولوه. والله أعلم.

الوقفة الثانية:

جاء في البحث القيم الذي قدمه فضيلة البروفيسور الصديق الضرير لمجمع الفقه الإسلامي بجدة في الصفحة الرابعة منه أن القول بربط القرض بمستوى الأسعار يؤدي حتماً في حال ارتفاع الأسعار إلى أن يدفع المقترض إلى المقرض أكثر مما أخذ منه وهذا ربا (1)

وتعليقي على هذا القول بأنه ربا، هذا القول غير صحيح. فلئن كان زيادة في الظاهر فهو في حقيقة الأمر وباطنه ليس زيادة وإنما هو التماثل في قدر الالتزام والحق الموجب له، فقد أخذ الدائن وقت الالتزام هذا القدر فلا بد أن يؤديه كما أخذه قدراً. وعليه فإن روح النصوص ومقاصدها لا تنطبق على هذا القول ولا تسعفه بتأييد، والملحظ الذي لحظه فضيلة أخينا الكريم الدكتور الصديق وهو الجانب الشكلي للتقاضي الذي وصفه بالربا، هذا الملحظ لحظه غيره من القائلين برد القيمة وقالوا: وله الطلب بقيمة ذلك يوم القرض وتكون من غير جنس النقد إن أفضى إلى ربا الفضل فإذا كان دراهم أعطى دنانير وبالعكس لئلا يؤدي إلى الربا (2)

(1) البحث ص 4

(2)

الدرر السنية 5/108

ص: 972

الوقفة الثالثة:

جاء في بحث شيخنا الصديق في معرض رده القول بالقيمة أن المقرض في حال إعطائه حق المطالبة بقيمة قرضه يوم القرض بعد أن تغيرت قوته الشرائية بانخفاض، قال حفظه الله ما معناه: بأن المقترض سيتضرر من هذا التقاضي أكثر من تضرره بالمراباة مع المرابين، وسيجد المقترض من هذا الطريق جانباً استثماريًّا قد لا يجد ربحيته به في طرق الاستثمار المباحة.

هذا القول يحتاج إلى من فضيلته إلى إعادة نظر فهل يعتبر مقرض أقرض أخاه السوداني مثلاً مليون جنيه سوداني في وقت كانت قيمة المليون الجنيه عشرة آلاف دولار ثم كانت قيمة المليون الجنيه وقت السداد ألفي دولار هل يعتبر هذا المقرض حينما نحكم له بقيمة قرضه وقت القرض وهو عشرة آلاف دولار هل يعتبر رابحاً وقد أخذ قدر قرضه من غير زيادة ولا نقصان؟ وما هي ربحيته في هذا الصنيع؟ وإذا قلنا: ليس للمقرض إلا مثل ما أقرضه فأين المثلية في ذلك وقد نقص عليه لتحقيق المثلية خمسمائة في المائة؟ فالمثلية الشكلية لا قيمة لها ولا اعتبار إذا تخلفت عنها المثلية الجوهرية فالنقود لا تقصد لذاتها وإنما يقصد منها ما تحققه من قوة شرائية.

الوقفة الرابعة:

وبعد ففي بحث شيخنا الفاضل الدكتور الصديق العزيز ما يستدعي أكثر من وقفة ولكنها تزول إن شاء الله إذا أعاد شيخنا الكريم نظره في معنى المثلية التي يتمسك بظاهرها دون النظر إلى حقيقتها وباطن أمرها. فالاعتبار بمآل الأمور وحقائقها. ولعل أحداً من الإخوة يعترض على تعرضي لبحث شيخنا دون غيره ومع احترامي لجميع إخوتي الباحثين في هذا الموضوع والمتجهين في بحوثهم إلى ما اتجه إليه الشيخ فإن للشيخ عندي مكانة متميزة من حيث تقاه وورعه ودقة نظره ومراجعته الحق دون الأخذ بأي اعتبار مع احترامي الكامل لإخوتي الأعزاء واعترافي بما يتمتعون به من صلاح وتقى وحب للعلم والحرص على تحصيله وفقني الله وإياهم لما يحبه ويرضاه والله المستعان.

وفي ختام بحثي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع الكلمة على ما يتحقق به العدل والنصف ونفي الضرر عن الدائن والمدين فلا ضرر ولا ضرار. والله من وراء القصد، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

ص: 973

أهم مراجع البحث

1-

القرآن الكريم

2-

تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي

3-

أحكام القرآن لابن العربي

4-

نيل الأوطار للشوكاني

5-

بدائع الصنائع للكاساني

6-

حاشية ابن عابدين

7-

تنبيه الرقود في مسائل النقود –رسائل ابن عابدين

8-

المدونة الكبرى

9-

الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي

10-

الزرقاني على مختصر خليل

11-

حاشية الرهوني

12-

حاشية ابن المدني

13-

قطع المجادلة عند تغير المعاملة للسيوطي

14-

الأم للشافعي

15-

المغني لابن قدامة

16-

كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي

17-

الروض المربع ومعه حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم

18-

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية

19-

الدرر السنية في الأجوبة النجدية جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم

20-

فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم

21-

الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن سعدي

22-

الاختيارات الجلية في المسائل الخلافية للشيخ عبد الله البسام

23-

القاموس المحيط

24-

تاج العروس

25-

لسان العرب

ص: 974