الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحكيم في الفقه الإسلامي
مبدؤه وفلسفته
إعداد
الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
يهتم الإسلام بتربية الفرد المسلم تربية صالحة مناسبة لفطرته وقدراته البشرية، وهدفية وجوده في الحياة ـ تسمو بنفسه، وتزكي أخلاقه، وتجعل منه بشرًا سويًّا، متوازن التفكير والسلوك.
وبما أن الإنسان مدني بالطبع، فإن حياته في مجتمعه الإنساني تقتضي تبادل المصالح، وهذا التبادل قد يفضي أحيانًا إلى الخلافات مما يعرض العلاقات البشرية لأنماط من التنازع والتضاد التي تتعارض مع مقاصد الشريعة الهادفة لحفظ نظام التعايش والتساكن الذي لا يستقر إلا بحفظ الدين والعقل والنفس والنسل والمال.
لهذا سعت التربية الإسلامية إلى تركيز فعاليتها في وجدان الإنسان قبل اعتمادها على قوة السلطان؛ إذ أن التنظيمات القضائية ليست في نظر الشريعة إلا وسائل تنظيمية تتعلق باهتماماتها بشؤون المجتمع أكثر مما تتعلق بحكم الناس، فالشريعة تهدف إلى إسعاد البشر بما توفره من ضوابط لمعاملاتهم وعلاقاتهم في إطار الأخوة الإسلامية والعدل الإلهي.
ولذلك يلاحظ أن العقوبات التي شرعها الإسلام قليلة بالنسبة لعموم الجرائم، وهي في نظر الفقهاء كفارات عما ارتكبه الإنسان من آثام أو زواجر، لإصلاح المجتمع كله. والكفارات من خصوصيات الشريعة؛ لأنها تربية ذاتية، واقتناع بالرجوع إلى الجادة. وهذا ما يركز في طبيعة الإنسان وفطرته فكرة العدل والإنصاف سواء له أو عليه، من غير حاجة اللجوء إلى القضاء.
والشريعة الإسلامية مبنية على مراعاة المصلحة في جمع المعاملات الإنسانية؛ لأن غايتها تحقيق السعادة الدينوية والأخروية للجميع، ولذلك فالمصلحة لا تعني النفع الذي يناله الإنسان الفرد، أو تناله الجماعة عن عمل مناقض للدين، أو مضر بمصلحة أخرى، بل كلما كانت المصلحة أعم وأشمل كان الإقرار بها أهم، ولذلك اعتبر علماء الأصول سد الذرائع ودرء المفاسد، أصلًا من أصول الشريعة التي وضعها الإسلام لمعرفة المصلحة الحقيقية من المصلحة المتوهمة، ولا مجال لتعارض المصالح في الإسلام حيث يوجد معيار وصفي دقيق يراعي الأولوليات بين المصالح العامة بحسب تدرجها من حيث الأهمية.
ويذكر الشاطبي في الموافقات أن بالاستقراء للأحكام العامة والجزئيات في الشريعة الإسلامية، يلاحظ المتتبع لذلك مراعاة الخالق جل علاه لمصالح عباده، فهي بارزة في أحكام الشريعة كلها، كما يلاحظ المتتبع لمنهاج القرآن والسنة في عرض الأحكام الشرعية أن الشريعة الإسلامية استدراجية للوصول إلى هدفها الأسمى في تحقيق العدل، تتوخى طرقًا متعددة للوصول إليه. فهي تنهج طريق محاسبة النفس ومساءلتها، قبل أن ترقى إلى الاستفتاء الشرعي، ثم التحكيم؛ لتجعل القضاء آخر المطاف، فهي المحاسبة والتبصر في الأمر والتبين له، والإرشاد إلى وجوب تجنب لحظات الغضب والانفعال؛ لئلا يخطئ الإنسان في تقدير القضية. وقد نص الفقهاء على أن تفاهة الموضوع ولحظات الغضب والانفعال والاندهاش، تعتبر من مبررات سقوط الدعوى أو تأجيل النظر فيها، بل إن الشارع حفاظًا على العلاقات الاجتماعية لا يلجأ إلى قسوة الحكم لدى تنفيذه، فهو يتجاوز عن بعضه مع الإرشاد إلى استكماله، لو بدت أسباب لاستكماله الشرعية فيما بعد. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرأ الحدود بالشبهات، وعليه عمل الصحابة ورأي جمهور الفقهاء (1) .
(1) رويت أحاديث من عدة طرق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ما معناه:(ادرءوا الحدود بالشبهات) راجع فقه عمر بن الخطاب، رويعي بن راجح الرحيلي، 1 / 438 ط. دار الغرب الإسلامي. بيروت 1403 هـ راجع أيضًا الفتح الرباني شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل، للساعاتي: أحمد البنا. ط. بيروت باب الحدود تدرأ بالشبهات 16 / 65
وبما أن الإسلام دين سمح له قدرة فائقة على سبر أغوار النفس البشرية ومعرفة حاجاتها ورغباتها وحدود إرضائها، فهو يسعى دومًا إلى إقامة الترابط بين أفراد المجتمع الواحد، بما يقتضيه التسامح والعفو، يضمن استمرارية الانسجام الجماعي. إذ لو بالغ كل فرد في إشباع مطالبه أو ما يحسبه حقًّا من حقوقه لتعرض المجتمع للتفتت والانهيار وزعزعة الانسجام والاستقرار، ولهذا فهو يلجأ في طلب الحق إلى مراحل لتحقيق العدل:
أولًا: إلى مراجعة النفس وذلك بالأخذ بالعفو، والأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين بقدر الإمكان.
ثانيًا: إلى طلب الفتوى، لاستجلاء وجهة نظر الشرع في الأمر.
ثالثًا: إلى الصلح، وهو خير.
رابعًا: إلى طلب الفصل في النزاع بحكم، وذلك بأحد الطريقين:
أ- التحكيم الحر، بتراضي الأطراف على اختيار محكم والالتزام بحكمه، وذلك في القضايا المسموح شرعًا بفضها عن طريق التحكيم، ومجاله يكون في العدالة التوزيعية لا العقابية.
ب- القضاء: وهو الولاية الرسمية لفض جميع الخصومات أيا كانت طبيعتها، بما فيها تلك التي لم يتوصل الأطراف إلى فضها بالوسائل السابق بيانها، أو تلك التي لجئوا فيها إلى مثل تلك الوسائل ولكنها أسفرت عن ظلم بين، أو مساس بالشرع والسيادة.
وهذه المراحل أساسية في فلسفة الحكم في الإسلام فهي سلم متدرج الخطى في سبيل تربية أخلاقية دينية وخلق متسامح، متعال، وتقوى لله وابتعاد عن الفجور والظلم، وعدم التهافت على المنافع والشهوات؛ إذ ما عند الله خير وأبقى، ثم الصلح خير، وفي التجاوز مصلحة عامة.
أولًا: التحكيم قبل الإسلام:
إن عادة التحكيم معروفة في الجاهلية، فقد حكمت قريش، في نزاعها مع القبائل العربية الأخرى حول من يضع الحجر الأسود في مكانه بعد إعادة بناء الكعبة، أول داخل إلى البيت العتيق، فكان الرسول عليه الصلاة والسلام.
كما أن من عادة القبائل العربية أن تلجأ إلى شيوخ القبائل لتحكمهم فيما يعن لهم من خلافات، وكان ذلك هو القضاء في المجتمع القبلي.
وجاء الإسلام، فهذب التحكيم وسما به، وجعله مرحلة يستأنس بها القاضي أو يركن إليها الخصوم لفض المنازعات. ووضع له نظامًا يضبطه، فاشترط في المحكمين ما يضمن خبرتهم وعدلهم، وحدد القضايا التي يقبل فيها التحكيم، بل إن القرآن الكريم أعطى لكلمة التحكيم معنى القضاء، إذا كان الحكم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى في الآية 65 من سورة البقرة:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [البقرة: 65] . لأن حكم النبي قضاء.
وتطور التحكيم في مختلف البلاد الإسلامية، إلى ما يسمى بالسديد، وظهرت وظيفة قاضي السداد، وفي تاريخ القضاء بالأندلس والمغرب نجد مراتب للقضاة حسب النظام الذي حكموا وقضوا في ظله.
ثانيًا: التحكيم والإفتاء:
يختلف التحكيم عن الإفتاء في أن الفتوى هي رأي استشاري ليست له قوة الإلزام، فقد كان المفتي في الأندلس والمغرب يقدم للخصوم فتوى في موضوع النازلة ليستأنس القاضي بمضمونها المبني على حكم الشرع، بينما كانت الفتوى في بعض البلاد الإسلامية تنحصر حدودها في المسائل المتعلقة بالدين فقط.
ثالثًا: التحكيم في الفقه:
يكاد يتفق الفقهاء على أن التحكيم هو تولية الخصمين حاكما بينهما، أو انتداب القاضي لحكم يحسم الخلاف، فهو سيلة لفض النزاع بين المتحاكمين، حتى يحدد الحق يعرف صاحبه (1) . وهذا التعريف يظهر تقارب معنى التحكيم من معنى القضاء، مع الفرق بينهما؛ لأن التحكيم هو تولية الخصمين حاكما بينهما باقتراحهما أو بأمر القاضي. أما القضاء فهو تبيين الحكم الشرعي الإلزام به وفصل الخصومة عن طريق السلطة الرسمية، فالقضاء هو الأصل والتحكيم فرع؛ لأن القاضي له الولاية العامة لا يخرج أحد عن سلطته ولا يستثنى من اختصاصه موضوع؛ لأنه ممثل للسيادة، فهو السلطة الرسمية لفض المنازعات. أما المحكم فإن توليته تكون من القاضي إذا اقتضى نظره ذلك، أو من الخصمين إذا لجأ إليه لفض الخلاف بينهما.
وإذا كان القاضي لا يستثنى من اختصاصه موضوع؛ فإن الحال ليس كذلك في التحكيم حيث توجد أمور وقضايا لا يمكن التحكيم فيها؛ لأنها من اختصاصات القضاء وحده نظرا لتعلقها بالنظام العام وبمفهوم السيادة.
كما أن حكم القاضي لا خلاف حول قوته الإلزامية في فض الخصومة. أما حكم المحكم فهو ملزم للأطراف عند أغلب الفقهاء (2) ، غير أن جانبا من الفقه يراه للصلح بين المتحاكمين وإصلاح ذات بينهما أو إزالة الخصومة فلا يكون ملزما إلا برضا الطرفين (3) .
إن التحكيم مثبت شرعا بنص القرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع الأئمة. أما في القرآن الكريم، فقد جاء في سورة النساء الآية 35، قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ، فإذا كان مرغوبًا من الله في العلاقة الزوجية، فمن باب أولى أن يكون كذلك في المعاملات الدنيوية الأخرى، لدنوها في الأهمية من العلاقات الأسرية.
أما السنة المطهرة، ففيها ما هو صحيح ومتعلق بالتحكيم، فقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتحكيم سعد بن معاذ، رضي الله عنه، في أمر اليهود من بني قريظة، حين جنحوا إلى ذلك ورضوا بالنزول على حكمه، وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي بتحكيم الأعور بن بشامة في أمر بني العنبر حين انتهبوا أموال الزكاة، وفي الحديث، الذي أخرجه أبو داود، أن أبا شريح هانئ بن يزيد،رضي الله عنه، لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع قومه وسمعهم يكنونه بأبي الحكم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟)) فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال صلى الله عليه وسلم:((ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟)) فقال له: شريح ومسلم وعبد الله فقال: ((فمن أكبرهم؟)) قال شريح: فقال صلى الله عليه وسلم: ((أنت أبو شريح ودعا له ولولده)) .
(1) راجع في الفقه الحنفي: معين الحكام، للطرابلسي، وبحاشيته لسان الحكام، لابن الشحنة، القاهرة 1393 هـ / 1973 م، 24، 25؛ وشرح فتح القدير، لابن الهمام، القاهرة 1316هـ 5 / 498؛ وأدب القاضي، للحصاف، تحقيق أبي بكر الرازي، القاهرة 1980 م، 391. وفي الفقه المالكي: تبصرة الحكام، لابن فرحون، حاشية على فتح العلي الملاك، لعيش، القاهرة 1378هـ / 1958 م، 1 / 55؛ ومواهب الجليل، للحطاب، وبحاشيته التاج والإكليل، للمواق، القاهرة 1329 هـ 6 / 112 وفي الفقه الشافعي: أدب القاضي للماوردي، تحقيق يحيى هلال سرحان، بغداد 1392 هـ 2/ 379؛ والمبسوط للسرخسي، القاهرة 1331 هـ 21 / 62. وفي الفقه الحنبلي: المغني، لابن قدامة، القاهرة 1367 هـ 9 / 107
(2)
مواهب الجليل 6 / 112؛ أدب القاضي، للحصاف 192
(3)
قول منسوب إلى الشافعي، أخذ به قليل من الفقهاء، ذكره الماوردي في أدب القاضي 2 / 381
أما عن إجماع الصحابة بالعمل به، فقد كان بين عمر وأبي بن كعب، رضي الله عنهما، منازعة في نخل، فحكما بينهما زيد بن ثابت، رضي الله عنه، وكثيرًا ما كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يحكمون أحدهم في أقضية من أقضيتهم.
وقد لاحظ بعض الفقهاء المتأخرين أن التحكيم كان في عصر الصحابة والتابعين لمعرفتهم بالدين ولتقواهم، فلا يجوز العمل به بعد ذلك؛ إذ قد يتجاسر العوام فيحكمون بغير ما أوجبته الشريعة، لا شك أن هذا الرأي وإن كان له ما يبرره، إلا أنه لم يراع ما يشترط في الحكم من شروط تحافظ على حكم الشرع، وتحقق ما ترمي إليه الشريعة الغراء من إشاعة التواصل الاجتماعي وتحقيق الصلح والمصالحة، وبعض الشافعية أجازوه بشرط عدم وجود قاض في البلد، ومنهم من أجازه في المال فقط، وقد أجاز الحنابلة التحكيم، وهو الأظهر عند الشافعية، وقال بعض المالكية بنفاذه بعد الوقوع.
1-
من يجوز له أن يكون محكمًا؟
اشترط الفقهاء في المحكم أن يكون مسلمًا أهلًا لولاية القضاء أهلية مطلقة لا في خصوص موضوع النزاع فقط، أما تحكيم غير المسلم فلا يجوز بين المسلمين ولا يتعلق ذلك بعدم الثقة في غير المسلمين، فالإسلام يبيح التعامل الحر والثقة بين الناس على اختلاف مللهم، وإنما شرط إسلام الحكم أمر يتعلق بحسن تطبيق الشريعة الإسلامية، إذ جرت العادة على أن غير المسلم لا يكون على إلمام عميق بعلوم الشريعة، نظرًا لطبيعتها الإيمانية، لذلك قاس الفقهاء المحكم على القاضي في شرط إسلامه لو كان أطراف الخصومة أو أحدهم من المسلمين (1) – واستغنى بعض الشافعية عن شرط الأهلية عندما لا يتوفر، ومنهم من حصر التحكيم في الأموال فقط كما اشترطوا في المحكم أن لا تربطه بأحد الخصمين قرابة تمنع الشهادة.
كما يشترط فيه تراضي طرفي الخصومة على قبول حكمه، إلا إذا عينه القاضي؛ لأنه نائب عنه، وليس للخصمين أن يتفقا على محكم ليس أهلًا للتحكيم، كما يجب أن يستمر الاتفاق على التحكيم حتى صدور الحكم، فلو رجع أحد الخصمين عن التحكيم قبل صدور الحكم يلغى التحكيم.
(1) عمر القاضي، التحكيم الدولي بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي الفرنسي والمصري، أطروحة دولة، باريس 1984. ص 346 وما بعدها.
2-
موضوعات التحكيم:
إن الأقضية إذا كانت متعلقة بحق الله كالحدود، أو كان حق الله فيها غالب كالقصاص، أو تعلقت بحقوق غير المتخاصمين كالنسب، لا يجوز فيها التحكيم، لذلك أجاز المالكية التحكيم إلا في ثلاثة عشر موضوعًا وهي: الرشد، والسفه، والوصية، والحبس، وأمر الغائب، والنسب، والولاء، والحد، والقصاص، ومال اليتميم، والطلاق، والعتق، واللعان. وجعلوا هذه الأمور من اختصاص القضاء (1) .
ويظهر من فقه الحنابلة جواز التحكيم في كل ما يعرض على القاضي عامة، إلا أن أغلب فقهاء المذهب خصوا التحكيم في الأموال أما باقي الأقضية فيجب فيها الاحتياط، ولذلك يجب أن تعرض على القضاة. (2)
وعلى هذا فالتحكيم لا يجوز في الحدود الواجبة لله؛ لأن عقوبتها مما يستقل به ولي الأمر، كما لا يجوز التحكيم في القصاص، إذ الإنسان لا يملك دمه حتى يجعله موضعًا للصلح، كما لا يجوز التحكيم فيما يجب في الدية، ولا يجوز للمحكم الحبس والسجن إذ لا سلطة له تمتد إلى ذلك.
3-
الرجوع عن التحكيم:
اعتبر الفقهاء التحكيم كالقضاء، لهذا فقد يرجع الخصمان عن التحكيم قبل صدور الحكم، أما بعد صدور الحكم فليس لأحد حق الرجوع عن التحكيم؛ لأنه صدر عن ولاية شرعية فالمحكم كالقاضي لا يرجع في حكمه، ولا يشترط المالكية دوام رضا الخصمين إلى صدور الحكم بل لو أقاما البينة عند الحكم، ثم بدا لأحدهما أن يرجع عن التحكيم قبل الحكم تعين على الحكم أن يقضي وجاز حكمه (3) .
4-
ما يترتب على التحكيم من آثار:
يترتب على التحكيم لزوم الحكم ونفاذه، على أنه يجوز نقضه من قبل القضاء، إذا حمل ظلمًا بينًا. لذلك فإن المبدأ هو نفاذ الحكم بمجرد صدوره ودون توقف على رضا الخصمين. وليس للحكم أن يرجع عن حكمه (4) .
(1) مواهب الجليل، للحطاب، 6 / 112، 113
(2)
راجع المغني، لابن قدامة 9/107.
(3)
راجع تبصرة الحكام، لابن فرحون، 1 / 55؛ ومواهب الجليل، للحطاب 6/ 112
(4)
جميع الفقهاء على هذا المعنى، وكذلك المشهور عن الشافعي، إلا ما نسب إليه من قول بعكس ذلك وأخذ به القليل من الفقهاء، فأوجبوا عدم نفاذ حكم المحكم إلا برضا جميع أطراف الخصومة. راجع ذلك في مواهب الجليل، للحطاب، 6 / 112؛ وأدب القاضي، للحصاف، 192
5-
هل يجوز للقاضي نقض الحكم؟ :
إذا رضي الخصمان بالحكم يعملان على تنفيذه، أما إذا أراد أحد الخصمين الطعن فيه أمام القضاء لحجة يراها فله ذلك، ويرى المالكية أن القاضي لا ينقض حكم المحكم إلا إذا كان جورًا بينًا، فإن لم يكن فلا ينقضه سواء كان موافقًا لرأي القاضي أو مخالفًا له (1) . والشافعية والحنابلة يرون أن القاضي، إذا رجع إليه حكم المحكم، لا ينقضه إلا بما ينقض به قضاء غيره من القضاة (2) .
6-
المحكم الذي يعينه القاضي في أمر الطلاق:
جاء في الذكر الحكيم {إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] .
لهذا أباح الشارع لكل من الزوجين طلب التفريق من القاضي، وعليه أن يعين حكمين من أسرة الزوجين، فإن استطاعا الإصلاح وفقا بين الزوجين، وإلا رفعا تقريرهما إلى القاضي فيحكم بالتفريق بينهما بطلقة بائنة، فالقاضي يؤجل حكمه إلى ما بعد حكم الحكمين من أسرة الزوجين، فإن لم يجد عين غيرهما ممن يرى فيهما القدرة على الإصلاح بينهما، وقد يحلفهما يمينًا على أن يقوما بمهمتهما بعدل وأمانة، ويكون على الحكمين أن يتعرفا على أسباب الشقاق بين الزوجين بحضورهما معًا وبمن يقرر دعوته الحكمان، وإذا اختلف الحكمان حكم القاضي غيرهما أو ضم إليهما حكمًا ثالثا مرجحًا وحلفه اليمين.
7-
عزل المحكم:
ينعزل المحكم إذا عزله أحد الخصمين أو كلاهما قبل الحكم، إذ لكل من الطرفين عزل المحكم قبل الحكم (3) أما إذا كان المحكم معينًا من طرف القاضي فليس لأحد عزله، بل يطلب ذلك من القاضي. وكذلك ينعزل المحكم إذا انتهى الوقت المحدد للتحكيم قبل صدور الحكم، أو فقد المحكم أهليته للتحكيم.
(1) تبصرة الحكام، لابن فرحون، 73 – 75
(2)
أدب القاضي، للماوردي، 2 / 381 ما بعدها؛ المغني، لابن قدامة، 9 / 108 وما بعدها.
(3)
إلا أن أبا سعيد الإصطخري يرى أنه لا يحق لأحد الأطراف منفردًا عزل المحكم منذ لحظة بدئه في نظر الخصومة وحتى يصدر الحكم. ذكره الماوردي في أدب القاضي بند رقم 3612 – 3616.
8-
التحكيم في الجزاء على قتل الصيد في الحرم:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] .
لقد أحال الله تعالى الحكم بالجزاء، على مقترف ذلك الإثم، إلى حكمين ممن تحققت فيهما صفة العدالة والمعرفة ويتعين على الحكمين تحديد المثل، ويخيرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام. ويقدران له قدر الطعام إن اختار تقديمه.
وقد حكم من الصحابة، في جزاء الصيد، عمر مع عبد الرحمن بن عوف، كذلك مع كعب بن مالك، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمن بن عوف، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان.
وقد اشترط في الحكمين أن يكونا من المسلمين بقوله تعالى: (منكم) تحذيرًا من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم، فلعلهم يدعون معرفة خاصة بالجزاء، على غير ما بينه الله عز وجل.
رابعًا: التحكيم في القانون:
لا تخلو القوانين الوضعية من اعتماد (التحكيم) مادة قضائية، تخصص في دراستها رجال الحقوق والقانون، ويعتمد القضاء الوضعي على الخبراء ورأيهم في الموضوع المتنازع فيها، استئناسًا يطمئن إليه القضاة في أحكمهم. لذلك تخصص بعض الجماعات شعبًا لدراسة (التحكيم) وقوانينه وتختلف نظم التحكيم في دول العالم حسب تطور الطرق المتبعة في تحديد موضوعاته.
خامسًا: التحكيم السياسي الداخلي:
إن أول تحكيم سياسي في الإسلام، كان في معركة صفين عندما رفع أصحاب معاوية القرآن على رماحهم مطالبين بالتحكيم والرجوع إلى كتاب الله.
وقد انتهى ذلك التحكيم – الذي مثل فيه عليًّا، رضي الله عنه، أبو موسى الأشعري، ومثل معاوية، رضي الله عنه، عمرو بن العاص – إلا خلافات كبيرة أدت إلى انشقاق طائفة من أصحاب علي رضي الله عنه، محاربتهم له.
ومن خلال التحليل لما كتبه (الطبري) عن عقد التحكيم، ومن نقد المؤرخ المسعودي للتحكيم، ومن تعليق الكامل لابن الأثير، يظهر أن التحكيم لم يستوف الشروط الشرعية.
لقد علق على ذلك محقق كتاب الكامل لابن الأثير بقوله: (إن هذه النتيجة كانت سيئة لازمة لحكمين قد حكما بكتاب لم تبين به المعالم التي ينتهيان إليها، ولا الحدود التي ليس لهما أن يتجاوزاها، بل إن الكتاب كله كلام مفكك العرى، غير ظاهر الحدود والمعالم، وأحد الحكمين رجل فهي غفلة وعدم تقدير للأمور، وهو حاقد على علي منذ عزله عن الإمرة، مخذل عنه من قبل ذلك، وقد قعد عن نصرته ورآه سائرًا في فتنة أرثت النار بين المسلمين، فهو لأمر علي كاره، ومن خلافته نافر، فما كان لأصحاب علي أن يشيروا باختياره لهذا الأمر الذي هو فوق إدراكه، ولا قدرة له على حمله. وكان خيرًا لعلي أن يجعل أمره بيد معاوية من أن يجعله في يد رجل لا يقدر الأمور، فما كان حكم معاوية إذا جار على علي بأكثر ضررا ولا أشد إيلاما من حكم أبي موسى، وهل يوجد أكثر غفلة من رجل يريد ابن عمر للخلافة مع أن عمر منعه إياها؟ ولم يكن بينهما كتاب على ما اتفاق عليه جورًا كان أو عدلًا، وهل كان عزل علي في كتاب الله الذي أخذ عليهما العهد أن يعملا به؟) .
وكان من أثر التحكيم اضطراب حزب علي، وتقوية حزب معاوية مما كان السبب في ظهور حزب ثالث هو حزب الخوارج. فقد جاء زرعة بن البرج الطانب، وحرفوص بن زهير المعدي فقالا لعلي:(لا حكم إلا لله فرد على: لا حكم إلا الله) . وطالبا عليًّا أن يثوب عن خطيئته، ويخرج للقتال. فقال علي:(أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابًا، وشطرنا شروطًا، وأعطينا عليها عهودًا، والله يقول: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] . وخطب الإمام على ذات يوم عن دعوى الخوارج فقال: (الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! إن سكتوا غممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم) .
على أن المؤرخين بالغوا في تقديم صورة أبي موسى الأشعري في أمر التحكيم، فوصفوه بالغفلة وقصور الرأي، ويظهر أن الرجل قد اختير من أهل العراق فنصح لهم بإنهاء الفتنة، وكان يمثل رأي طائفة من معاصريه. ولم يكن أمر التحكيم وحده مصدر هزيمة علي، رضي الله عنه، فقد كانت دواعي أخرى للهزيمة، منها اضطراب جيشه أمام جيش معاوية، كما أن التحكيم لم يكن قائمًا على أساس، إذا لم يكن من ورائه قوة من المسلمين تستطيع تنفيذ الحكم.
إن الحكمين اتفقا على خلع علي ومعاوية، وأن يستقبل المسلمون أمرهم من جديد فيولون عليهم من يختارونه للخلافة، مع أنهما كان عليهما أن يفصلا في الموضوع، ودون الأخذ برأي حكم واحد من الحكمين، وهو ما لم يقل به الفقهاء الذين اشترطوا وحدة الحكم، ولعل الفقه السياسي لم يكن من الحيوية والتطور اللذين عرف بهما الفقه الاجتماعي. لذلك كان التحكيم ضعيفًا ولم ينته إلى نتيجة حاسمة.
سادسًا: التحكيم السياسي الدولي:
كان إنشاء هيئة الأمم المتحدة، بعد الحرب العالمية، مرحلة لتحقيق الترابط مما نمَّى الإحساس بوحدة مستقبل البشرية والبحث عن وسائل قانونية لفك المنازعات والخلافات بين الدول، بدلًا عن اللجوء إلى الحرب والمعاناة وما يتركه ذلك من أثر سيء على البشرية جمعاء.
لقد جاءت هيئة الأمم لتعبر عن تضامن دولي لمواجهة الصعوبات والمشاكل التي تهدد أمن الشعوب، ولذلك اهتمت بإيجاد آليات ونظم قانونية قادرة على منع الحرب وإحلال السلام في العالم، ولهذا لجأت إلى تطوير القانون الدولي الذي يحكم علاقات الدول بعضها ببعض. وتأسست لذلك لجنة القانون، يراعى في انتخاب أعضائها تمثيلهم لأكبر الحضارات الإنسانية والأنظمة القانونية الرئيسية في العالم، حتى تستطيع أن تستقطب المفاهيم العامة التي تربط العلاقات بين الدول، وتراعي في إصدار أحكامها واقتراحاتها المصالح والقيم والمثل العليا لمختلف الشعوب.
ومحكمة العدل الدولية تقوم بتطوير القانون الدولي نتيجة لآرائها الاستشارية أو لأحكامها التي تصدرها بناء على طلب الجمعية العامة أو تلبية لطلب أحد أجهزتها أو وكالاتها. وتعتبر أحكام وفتاوى محكمة العدل مصدرًا أساسًا لقواعد القانون الدولي، والأصل في أحكامها ألا يترتب الحكم القاضي أو الرأي الاستشاري آثارًا إلا بالنسبة لأطراف النزاع، ولكن يمكن لخبراء لجنة القانون والقضاء الدوليين الاستئناس بأحكام وفتاوى المحكمة، فهي أقرب ما تكون إلى التحكيم.
إن استقلال معظم الشعوب في العالم ووجود محكمة دولية أعطيا للقانون الدولي بعدًا جغرافيًّا جديدًا يختلف عن البعد الجغرافي الدولي في العصور القديمة، الذي كان مرتبطًا بأوروبا المسيحية الرأسمالية، أو الاشتراكية. كما أن الاستقلال شعوب العالم الثالث بعد الحكم الاستعماري جعلها تعيش في أوضاع مختلفة، متناقضة أوجبت رفع المنازعات إلى محكمة العدل الدولية، وهذا ما جعل المحكمة حكمًا بين الشعوب في البحث عن وسائل قانونية لفض خلافاتها.
وإذا عرفنا أن دخول العالم الثالث في المجتمع الدولي وضع صعوبات جمة أمام محكمة العدل لاختلاف مفاهيم الحضارات والثقافات التي تؤمن بها هذه الدول، عن مفاهيم القانون الدولي الأوروبي، تبين لنا مدى ضرورة إنشاء محكمة عدل دولية إسلامية لتبحث المنازعات بين الدول الإسلامية على أسس تجد حلولها في مختلف المذاهب الفقهية الإسلامية الغنية بالدراسات في هذا الموضوع. مع إضافة الموضوعات جديدة، لم تكن مألوفة في الفقه الإسلامي، كالخلافات والمنازعات المتعلقة بالفضاء الخارجي وبأعماق البحار والتلوث.
ولعل محكمة العدل أشبه بحكم المحكمين منه بالقضاء لعدم وجود سلطة العقاب والردع، فهي من اختصاص القضاء. حتى إذا لجأت بواسطة مجلس الأمن إلى العقاب ظهر ما يلاحظ من عجز في التنفيذ إلا على الضعفاء والمستضعفين.