الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقص المناعة المكتسبة
(الإيدز)
أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعية
إعداد
الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي
الأستاذ المساعد بقسم الشريعة
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة أم القرى – مكة المكرمة المملكة العربية السعودية
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له من يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولا ند ولا نظير له
…
وبعد:
فما كان مرض الإيدز وباء عرف هذا العصر وأول ما عرف عام 1981 م، وسمي مرض نقص المناعة المكتسبة (1) ، وهو مرض فيروسي يصيب الخلايا اللمفاوية المناعية فيعطل وظيفتها ونشاطها المقاوم لشتى الأمراض الميكروبية والفيروسية الأخرى (2) .
وحيث إن هذا المرض لم يكتشف له علاج إلى يومنا هذا وهو من الأمراض المعدية التي لا تعرف الحدود الزمانية ولا المكانية فهو ينتقل من الآباء إلى الأبناء عن طريق الحمل والولادة، كما أنه ينتقل من قطر إلى آخر حتى لقد وجدت حالات في جميع أنحاء العالم.
فالتنقل من بلد إلى آخر للدراسة أو العلاج أو التجارة أو السياحة كان سببًا في انتقاله وانتشاره فهو مرض له وطأته العالمية، ومن آخر ما نشر في تقرير لليونسيف أن المصابين به حوالي أثنى عشر مليونًا بينهم ستة ملايين ونصف مليون أفريقي (3) ، وله آثاره النفسية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية وقد أصبح الشغل الشاغل لأجهزة الإعلام في الدول الغربية، وأصبح اسم الإيدز يمثل الرعب الذي كان يمثله اسم الطاعون في القرون السابقة حينما كان يقضي على عشرات الملايين من البشر (4) .
(1) فقد المناعة قد يكون وراثيًا، وهذا غير داخل في موضوع البحث، ولذلك أضيفت المكتسبة، محمد علي البار، محمد صافي، الإيدز، ص 75؛ رفعت كمال، قصة الإيدز، ص 13.
(2)
محمد علي البار، محمد صافي، الإيدز، ص 75؛ رفعت كمال، قصة الإيدز، ص 13.
(3)
صحيفة المدينة، عدد 9399، في 16 / 8 /1413 هـ
(4)
محمد البار، محمد صافي، الإيدز. ص 134
ولما كان لابد من بحث الأحكام المتعلقة بالمريض وأسرته وأفراد المجتمع الذي يعيش فيه ويتعامل معهم واخترت أن يكون مجالًا لبحثي المتواضع لعلي أسهم في معرفة أحكامه وطرق الوقاية منه بعد معرفة وسائل انتقاله ولهذا قمت بقراءة بعض الكتب الطبية المتخصصة فيه، والاتصال بكثير من الأطباء الذين لهم اهتمام خاص أو مؤلفات مكتوبة وبجهات رسمية مختصة في الطب الوقائي وحماية المجتمع من انتشار الأمراض السارية (1) .
فتكونت عندي فكرة جعلتني أقدم على الكتابة في أحكامه التي تعتبر نتيجة لوضوح رأي الأطباء خصوصًا في الوسائل التي ينتقل بها. وحيث إن الأمراض المعدية منها ما ينتقل عن طريق المعاشرة الجنسية ومنها ما ينتقل عن طريق الملامسة ومنها ما ينتقل عن طريق المعايشة ومنها ما ينتقل عن طريق الحشرات
…
إلخ، حرصت كل الحرص على معرفة طرق انتقاله.
وفرعت على ضوء ما ظهر لي وذكرت عند الاختلاف في بعض وسائل انتقاله احتمالات لكون الرأي الطبي فيها غير حاسم حتى الآن. وقد اقتضت طبيعة البحث أن أكتب تمهيدًا في القضاء والقدر وارتباط الأسباب بالمسببات ودفع توهم التعارض بين الأدلة المثبتة للعدوي والنافية لها ثم كتبت في حكم علاقة الزوج المريض مع السليم وهل يحق له فسخ النكاح أو لا؟ ثم تعرضت لأحكام جنايته وتسببه في نقل المرض إلى الأصحاء، وتقصير الأطباء المسبب لنقل المرض، وما يترتب على ذلك من أحكام، وذكرت حكم حمل المرأة المصابة وإجهاضها وحضانتها ورضاعاتها لطفلها الذي لم تظهر عليه أعراض المرض، كما عقدت مبحثًا بينت فيه حكم عزله عن المجتمع ومنعه من مشاركة غيره من التعليم والعمل وذكرت فيه الحكم على احتمالين كما جرت به عادة علمائنا الأفاضل من ذكر الاحتمالات في الأمور المشتبهة كما أنني لم أنس الإجابة على طرق الوقاية في الحج حين الحلق، وقبل الخاتمة عقدت مبحثًا في حكم اعتبار الإيدز مرض موت. والله أسأل أن يكون هذا العمل لله خالصًا وللإسلام والمسلمين نافعًا.
(1) مقابلة أجريتها مع عدد من المختصين في الطب الوقائي، كما زودني سعادة الدكتور عبد الرؤوف الديب، أستاذ مشارك طب القلب والأمراض الباطنية بجامعة أم القرى، وسعادة الدكتور يوسف حلمي بإجابات مفصلة عن كثير من الأمور التي أشكل علىّ معرفتها عند الأطباء.
تمهيد
ويمكن تقسيم التمهيد إلى قسمين:
أولًا: في الإيمان بالقضاء والقدر والأخذ بالأسباب
ثانيًا: دفع التعارض بين الأحاديث الواردة في العدوى.
أولًا: في الإيمان بالقضاء والقدر والأخذ بالأسباب:
الإيمان بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة التي يجب على المؤمن الإيمان بها. وهو قاعدة عقيدته، فلا يصح إيمانه إلا إذا آمن أن ما أصابه من خير أو شر فبإذن الله وقضائه وقدره. وإن الإنس والجنس لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه.
قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11] .
وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] .
وفي الحديث: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، لكن قدر الله وما شاء فعل)) . . . . (1) .
فالمؤمن مطمئن النفس هادئ البال قرير العين بإيمانه، والكافر الذي لا يؤمن بقضاء الله وقدره يخشى المستقبل، ويتوقع الخطر، ويحيطه الخوف الغامض ويحدث عنده الترقب، ولذلك كثرت نسبة المصابين بالقلق والتواتر النفسي في الدول الغربية فكثرت حوادث الانتحار مع كثرة العيادات النفسية وما تقدمه من مسكنات ومهدئات. هذا هو الفارق الواضح بين المؤمن والكافر في الدنيا.
إلا أن مما ينبغي فهمه واعتباره في هذا المقام ما هو معلوم في عقيدة أهل السنة والجماعة ومرتبط أوثق الارتباط وأشده بالقضاء والقدر، من أن الأخذ بالأسباب مطلب من مطالب الشارع الحكيم وأنه لا ينافي التوكل. فالإنسان مخلوق وهبه الله العقل والإرادة الحرة والقدرة المستعدة للتنفيذ في حدود الإمكان الموهوب ولكن عمل قدرة الإنسان في آثارها إنما هو عمل الأسباب في مسبباتها لا عمل المؤثرات الحقيقية إذ إن المؤثر الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى الذي علم ما سيصيبنا من خير أو شر فقدره علينا وأمرنا بسلوك طريق النجاة والبعد عن المهلكات فمن أخذ بالأسباب وآمن بالقضاء والقدر اطمأن قلبه لكل ما يجري في الكون مما لا كسب له فيه ورضي بمراد الله مهما كان الأمر محزنًا أو سارًا.
(1) ابن ماجة، السنن 1 /31
ثانيًا: دفع التعارض بين الأحاديث الواردة في العدوى:
قد يظن بعض من يطلع على الأحاديث الدالة على إثبات العدوى والأحاديث النافية لها أن بينها تعارضًا ولكن سرعان ما يزول هذا الظن ويندفع ذلك الإشكال المتوهم بعد الإطلاع على أقوال أهل العلم الذين جمعوا بين هذه الأحاديث والآثار.
1-
ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى ولا طيرة)) (1) كما ثبت أنه قال لا يورد ممرض على مصح (2) .
وقد جمع علماء السلف بينهما بما يزيل الإشكال ويدفع التوهم، وكان من أبينهم كلامًا في هذا الشأن الشيخ الإمام محيي الدين النووي في شرحه علي صحيح مسلم، والعلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى.
قال ابن القيم: (الحديثان صحيحان ولا نسخ ولا تعارض بحمد الله بل كل منهما له وجه
…
ولكل واحد معنى في وقت وموضع فإذا وضع موضعه زال الاختلاف
…
وعندي في الحديثين مسلك يتضمن إثبات الأسباب والحكم ونفي ما كانوا عليه من الشرك واعتقاد الباطل ووقع النفي والإثبات على وجهه) (3) .
وقال النووي: (قال جمهور العلماء يجب الجمع بين هذين الحديثين وهما صحيحان قالوا: وطريق الجمع أن حديث لا عدوى المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى وأما حديث ((لا يورد ممرض على مصح)) فأرشد إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره) (4) .
وأما حديث ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) . . . . (5) ، وحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم في قصعة واحدة، وقال له:((كل ثقة بالله وتوكلًا عليه)) . . . . (6) .
(1) البخاري، الجامع مع فتح الباري: 10/241ومسلم الجامع الصحيح مع شرح النووي 14/215-216.
(2)
البخاري، الجامع مع فتح الباري: 10/241ومسلم الجامع الصحيح مع شرح النووي 14/215-216. 10 / 215 ح ومسلم: 14 / 213
(3)
ابن القيم، مفتاح دار السعادة: 2 / 264
(4)
النووي، شرح صحيح مسلم: 4 / 213 – 214
(5)
البخاري، الجامع الصحيح: 10 / 215؛ ومسلم الجامع الصحيح مع شرح النووي: 14 / 213
(6)
النووي شرح صحيح مسلم: 14 / 228
فقد وضح ابن القيم وجه الجمع بينهما قوله: (غاية ذلك أن مخالطة المجذوم من أسباب العدوى وهذا السبب يعارضه أسباب أخر تمنع اقتضاءه فمن أقواها التوكل على الله والثقة به فإنه يمنع تأثير ذلك السبب المكروه ولكن لا يقدر كل واحد من الأمة على هذا فأرشدهم إلى مجانبة سبب المكروه والفرار من ذلك ولذلك أرسل إلى ذلك المجذوم الآخر بالبيعة تشريعًا منه للفرار من أسباب الأذى والمكروه وأن لا يتعرض العبد لأسباب البلاء، ثم وضع يده معه في القصعة، فإنما هو سبب التوكل على الله والثقة به الذي هو أعظم الأسباب التي يدفع بها المكروه والمحذور تعليمًا منه للأمة دفع الأسباب المكروهة بما هو أقوى منها وإعلامًا بأن الضرر والنفع بيد الله عز وجل فإن شاء أن يضر عبده ضره وإن شاء أن يصرف عنه الضر صرفه بل إن شاء أن ينفعه بما هو من أسباب الضرر ويضره بما هو من أسباب النفع فعل، ليبين للعباد أنه وحده الضار النافع وأن أسباب النفع والضرر بيديه وهو الذي جعلها أسبابًا وإن شاء خلع منها سببيتها وإن شاء جعل ما تقتضيه بخلاف المعهود منها يعلم أنه الفاعل المختار وأنه لا يضر شيء ولا ينفع إلا بإذنه وأن التوكل عليه والثقة به تحيل الأسباب المكروهة إلى خلاف موجباتها)(1) .
فالعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء والنار مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم والقدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف
…
وأما إذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضاء الله وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادًا على الله ورجاء منه أن لا يحصل منه ضرر ففي مثل هذه تجوز مباشرة ذلك لاسيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة
…
وعليه فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش والحر والبرد باضدادها (2) .
(1) ابن القيم، مفتاح دار السعادة: 2 / 272
(2)
عبد الرحمن بن حسن، فتح المجيد: ص 264 – 265
المبحث الأول
في علاقة المريض مع أسرته
يمكن تقسيم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في إخبار أحد الزوجين بمرض الآخر.
المطلب الثاني: في التفريق بين الزوجين لمرض الآخر.
المطلب الثالث: في إجهاض الجنين وإرضاع وحضانة الطفل السليم من أم مصابة.
المطلب الأول
في إعلام أحد الزوجين بإصابة الآخر
المعاشرة الجنسية إحدى وسائل انتقال المرض المتفق عليها بين الأطباء، والمرض كما هو معلوم عند الأطباء يمر بثلاث مراحل هي:
-1 مرحلة وجود الفيروس.
2-
مرحلة سكون قد تمتد إلى عدة سنوات (1)
3-
مرحلة ظهور المرض بصورته الكاملة حيث تتدهور حالة المريض الصحية بسرعة تنتهي بالوفاة.
وهو معد في مراحله الثلاث بل إن من أخطر مراحل انتقاله مرحلة السكون. ومعرفة مراحل المرض من أهم الأسباب التي ينبغي تفريغ الأحكام عليها ومن أهم الأحكام التي يجب مراعاتها واتخاذ كافة الاحتياطات للحد منه وعدم انتشاره. إذ إن الوقاية هي الوسيلة الوحيدة للحد منه حتى الآن، ولذا يجب إبلاغ الزوج الآخر بطريقة هادئة غير مروعة حتى يتخذ التدابير اللازمة ووسائل الوقاية التي يراها الأطباء أو المفارقة، ولو تتبعنا نصوص الشارع لوجدنا فيها ما يمكن أن نستدل به على وجوب الإخبار ولا سيما إذا علمت الإصابة قبل حصول معاشرة زوجة (2)، أما إذا حصلت المعاشرة فطريقة الإخبار تختلف عند الأطباء ولا تنافي تلك الطرق أدلة الشارع ومقاصده العامة وكما يقال:(كل مقام فله مقال) .
(1) ذكر بعض الأطباء أنه تم اختراع جهاز في اليابان يظهر المرض في جميع مراحله.
(2)
كما في إصابات نقل الدم أو الإصابات التي تنكشف قبل الدخول أو يظهر الفحص المخبري بعد العمليات الجراحية أو الرجوع من السفر، أما إذا حصلت الإصابة ولم يعلم هل حصلت معاشرة أو لا فلذلك احتياطات في حق الزوجين ومتابعة خاصة معلومة عند الأطباء.
وإليك عدة نصوص يمكن الاستدلال بها على وجوب الإعلام والإخبار منهما:
1-
ما روي ((أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل ووضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها)) (1) بياضًا (2) فانحاز عن الفراش ثم قال: ((خذي عليك ثيابك ولم يأخذ مما آتاها شيئًا)) . . . . (3) .
وفي رواية: ((الحقي بأهلك)) . . . .، زاد البيهقي: فلما أدخلت رأى بكشحها وضحًا فردها إلى أهلها وقال: ((دلستم علي)) . . . . (4) .
والتدليس هو إخفاء العيب وكتمه (5) . وقد قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم منكرًا عليهم عدم إخباره بما فيها من عيب وأمر ببيان العيوب في المبيعات فكيف يكون الحال في مرض هو مقدمة لهلاك محقق وقد ينتقل إلى غير الزوجين، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر والإضرار، ونفاهما ونهى عن الغش والتدليس.
- عن ابن سيرين قال: (بعث عمر بن الخطاب رجلًا على السعاية فأتاه فقال: تزوجت، فقال أخبرتها أنك عقيم لا يولد لك؟ قال: لا. قال: فأخبرها وخيرها) . . . . (6)
فهذا أمر من أحد الخلفاء الراشدين لرجل عقيم لا يولد له فكيف والحالة يخشى تعديها إلى الزوج الآخر بل تتعدى بظن غالب إلى الأبناء أما إذا حصلت الإصابة وشك في إصابة الآخر فيجب إخبار الزوج الآخر وتنبيهه بأن المرض معد ويجب عليه متابعة حالته، وعدم التسرع في الزواج من آخر حتى يغلب على الظن تجاوز مرحلة العدوى وأخذ الاحتياطات التي يراها الأطباء من لبس العازل الذي يقلل من انتقال العدوى إلى حد كبير إذا رغبا في استمرار الحياة الزوجية.
(1) ما بين الخاصرة إلى الضلع من الخلف، القاموس المحيط (الكشح) .
(2)
برصًا
(3)
الشوكاني، نيل الأوطار: 6 / 176 – 177
(4)
البيهقي، السنن الكبرى: 7 / 214
(5)
الفيومي، المصباح المنير.
(6)
الصنعاني، المصنف: 6 / 253 – 254
المطلب الثاني
التفريق بين الزوجين المصاب أحدهما بالإيدز
مرض الإيدز وباء عصري لا نجد له ذكرًا في نصوص الفقهاء، والذي يمكننا عند إرادة معرفة أحكامه هو النظر في نصوص الفقهاء وأحكامهم في الأمراض المعدية كالجذام والبرص والسل وغيرها بجامع العدوى وإن اختلفت طرق العدوى، فالنظير يعطى حكم نظيره والمثيل يعطى حكم مثيله، وحيث إنه مرض ليس له علاج الآن ولا حدود له زمانية ولا مكانية فهو ينتقل إلى الزوجين عن طريق المعاشرة الجنسية كما قرر الأطبال فقالوا:(أصيب عدد كبير من زوجات المصابين بالإيدز وقد يكون المصاب متزوجًا ويمارس الشذوذ الجنسي أو يكون متزوجًا ويتناول المخدرات أو يكون متزوجًا ويمارس الزنا أو يكون – وهذا نادر – أحد ضحايا نقل الدم أو محتوياته. وبما أن الفيروس المسبب للمرض ينتقل عن طريق الاتصال الجنسي فإن زوجات المصابين تظهر عليهن في الغالب أعراض المرض)(1) . فالمعاشرة الجنسية بين سليم ومريض وسيلة من وسائل نقل المرض المتفق عليها بين الأطباء، وحيث إن الأمر كما ذكر فما هو حكم الشريعة الإسلامية في زوجين أصيب أحدهما بهذا المرض الخطير؟ هل يحكم ببقاء السليم مع المريض مهما كانت الحياة صعبة والنفرة موجودة والخوف والترقب والقلق يسود حياة الأسرة، أو أن في الأحكام الشرعية ما يجعل للسليم مخرجًا من هذه الحرج والمشقة؟ التي تصبح الحياة معها جحيمًا لا يطاق، وسجنًا الموت العاجل فيه أيسر من الحياة؟.
الجواب على هذا السؤال سيكون باستعراض ما ذكره العلماء من اختلاف في حكم التفريق للأمراض المعدية والمنفرة التي عرفت في زمانهم وهل يمكن تخريج موضوع البحث على ما ذكروه أولا؟
يوجد اختلاف واضح في التفريق بسبب الأمراض المعدية التي يعتبر الإيدز أخطرها على الإطلاق، فالجذام والسل والبرص، أمراض لها علاج أو بطيئة الانتقال أو خطورتها وحدتها أسهل مما نحن فيه.
(1) محمد البار ومحمد صافي، الإيدز، ص 70، وانظر كمال رفعت، قصة الإيدز: ص 22، ومقابلات أجريتها مع كثير من الأطباء في جامعة أم القرى وقسم الطب الوقائي بوزارة الصحة.
وبعد استعراض أقوال الفقهاء في الأمراض المعروفة عندهم وجدت أنها تنقسم إلى ثلاثة مذاهب في الجملة (1) .
فمنهم من يرى عدم جواز التفريق مهما كانت الأسباب والموانع.
ومنهم من يعطي حق طلب التفريق للمرأة دون الزواج.
ومنهم من يعطي حق طلب التفريق بسبب المرض الموجود قبل العقد دون الحادث بعده.
ومنهم من يرى أن لكل من الزوجين حق التفريق مطلقًا سواء في ذلك الأمراض الموجودة قبل العقد أو الحادثة بعده وإليك مذاهبهم على النحو الآتي:
المذهب الأول:
ذهب الظاهرية إلى أن النكاح إذا صح لا يجوز فسخه مطلقًا سواء كان المرض موجودًا قبل العقد والدخول أم حدث بعد العقد وقبل الدخول أو بعدهما ولا فرق في ذلك بين وجود المرض في الرجل أو المرأة إذ لا يجوز للقاضي ولا لغيره أن يفرق بين زوجين صح عقد نكاحهما بحال.
جاء في المحلى: [لا يفسخ النكاح بعد صحته بجذام حادث ولا ببرص كذلك ولا بجنون كذلك ولا بأن يجد بها شيئًا من هذه العيوب ولا بأن تجده هي كذلك](2) .
وقد شنع ابن حزم على القائلين بالتفريق بين الزوجين لمرض معد أو غير معد وأنكر عليهم أشد الإنكار حيث قال: [هذا هو الباطل الذي لم يصح قط عن أحد من الصحابة – رضي الله عنهم – ولا جاء قط في قرآن ولا سنة ولا في رواية فاسدة ولا أوجبه قياس ولا معقول](3) .
والظاهر أن الشوكاني يتفق مع الظاهري في ذلك حيث قال: [من أمعن النظر لم يجد في الباب ما يصلح للاستدلال به على الفسخ بالمعنى المذكور عند الفقهاء](4) .
(1) هذا المطلب ملخص من رسالتي – التفريق بين الزوجين بحكم القاضي – قد خرجت موضوع البحث – مرض الإيدز – على ما كتبته سابقًا
(2)
ابن حزم المحلى: 11 / 357
(3)
ابن حزم، المحلى: 11 / 357
(4)
الشوكاني، نيل الأوطار: 6 / 178
أدلة الظاهرية:
1-
كل نكاح صح بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حرم الله تعالى بشرتها وفرجها على كل من سواه فمن فرق بينهما بغير قرآن أو سنة ثابتة فقد دخل في صفة الذين ذمهم الله تعالى بقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] .
2-
ما روى إبراهيم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه – قال: (لا ترد الحرة من عيب) . . . . (1)، ثم قال: إنما هو النكاح كما أمر الله عز وجل إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان إلا أن يأتي نص صحيح فيوقف عنده (2) .
المذهب الثاني:
يرى الحنفية يوجد فرق في إعطاء حق الفرقة بين الزوجين للأمراض المعدية حيث لا يحق للزوج طلب التفريق ويكتفي بما في يده من ملك العصمة فإن شاء طلق وإن شاء أمسك، جاء في العناية [وإذا كان بالزوجة عيب – أي عيب كان – فلا خيار للزوج في فسخ النكاح](3) .
وعللوا ما ذهبوا إليه بأن الزوج يملك العصمة، أم المرأة فلما لم تملك الطلاق جعلوا لها حق طلب التفريق من القاضي ويجيبها إليه (4) .
جاء في فتح القدير [وعند محمد لا خيار للزوج بعيب في المرأة ولها هي الخيار بعيب فيه من الثلاثة الجنون والجذام والبرص](5) .
وقد اختلف فقهاء الحنفية في حصر العيوب والأمراض التي يحق للمرأة طلب الفرقة لأجلها.
فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى حصرها في عدد معين (6) لا يتجاوزه إلى غيره، وذهب محمد إلى عدم الحصر جاء في تبين الحقائق.
[وقال محمد رحمه الله: ترد المرأة إذا كان بالرجل عيب فاحش بحيث لا تطيق المقام معه لأنها تعذر عليها الوصول إلى حقها لمعنى فيه فسار كالجب والعنة](7) .
(1) ابن أبي شيبة، المصنف: 5 / 176
(2)
ابن حزم، المحلى: 11 / 367
(3)
البابرتي، العناية: 3 / 267
(4)
انظر السرخسي، المبسوط: 5 / 97؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 3 / 1536
(5)
ابن الهمام: 3 / 267، وانظر ابن عابدين حاشية رد المحتار: 3 / 501
(6)
الكاساني، بدائع الصنائع: 3 / 1536؛ وابن الهمام، فتح القدير: 3 / 266
(7)
الزيلعي، تبيين الحقائق: 3 / 35
وذكر [أن الخيار في العيوب الخمسة إنما ثبت لدفع الضرر عن المرأة وهذه العيوب في إلحاق الضرر بها فوق تلك لأنها من الأمراض المعدية عادة، فلما ثبت الخيار بتلك فلأن يثبت بهذه أولى](1)
وحيث إن بعض نصوص الحنفية يظهر بينها تعارض في إثبات الخيار للمرأة ومن ذلك ما جاء في فتح القدير (الحاصل أنه ليس لواحد من الزوجين خيار فسخ النكاح بعيب في الآخر كائنًا من كان عند أبي حنيفة وأبي يوسف)(2) . فقد وضح السرخسي أن المراد بإثبات الفرقة للمرأة هو إزالة الضرر بالطلاق، لأنه يلزم الزوج بالإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان والتسريح طلاق (3) .
أدلة الحنفية:
1-
عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) . . . . (4) وفي إمساكها مع خشية تعدي المرض إليها أضرار نفسية وخوف وقلق قد تصبح الحياة معه جحيمًا لا يطاق كما أن فيه ضررًا إذا أصيبت بالمرض.
2-
قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .
وإمساكها مع خوفها من انتقال المرض إليها وترقبها لهذا الخطر إمساك بدون معروف فوجب التسريح بالإحسان.
3-
فوات المقصود بالعقد يثبت للعاقد حق رفع العقد من أصله وهنا قد فات المقصد من عقد النكاح وأنسد عليها الباب من غيره فوجب ثبوت الفرقة (5) ولا شك أن إمساكها مع الخوف من انتقال العدوى إذا أصيب أحد الزوجين يؤدي إلى فوات أهم المقاصد التي شرع لها النكاح وهي الألفة والرحمة والإحصان فوجب التسريح بإحسان.
المذهب الثالث:
العيوب والأمراض التي يفسخ النكاح بسببها بعد صحته إما أن تكون موجودة قبل العقد والدخول أو حادثة بعدهما. فالموجودة قبل العقد قد اتفق جمهور الحنابلة والشافعية والمالكية والزيدية على الرد بها وإن اختلفوا في بعضها إلا أن الجذام وهو المرض الذي يمكن نقل وتخريج مرض الإيدز عليه متفق على التفريق به عند الجمهور.
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 3 / 1537
(2)
ابن الهمام، فتح القدير: 3 / 267، وانظر ابن عابدين حاشية رد المحتار: 3 / 501
(3)
السرخسي، المبسوط: 5 / 97
(4)
الصنعاني: سبل السلام: 3 / 84
(5)
السرخسي، المبسوط: 5 / 101
ولا يخفى ما ورد عن بعض الشافعية والمالكية الذين حصروا العيوب التي يفرق بسببها في سبعة عيوب حيث قال الشربيني: (جملة العيوب سبعة عيوب وأنه يمكن في حق كل من الزوجين خمسة واقتصار المصنف على ما ذكر من العيوب يقتضي أنه لا خيار فيما عداها، قال في الروضة: وهو الصحيح الذي قطع به الجمهور. والثاني له الخيار بذلك لنفرة الطبع عنه) . . . . (1) .
فعلى القول الثاني كل مرض وجدت فيه النفرة يفرق لأجله وعليه يكون الإيدز من أولى الأمراض التي يفرق لأجلها.
وجاء عن الخرشي (وحاصل العيوب في الرجل والمرأة ثلاثة عشر، أربعة يشترك فيها الرجل والمرأة وهي الجنون والجذام والبرص
…
) (2) .
ويظهر جليًا أن الحنابلة قد اتفقوا مع غيرهم من الجمهور على أن الجذام من الأسباب المشتركة التي يرد بها كل من الزوجين الآخر جاء في منتهى الإرادات [وقسم مشترك وهو الجنون والجذام والبرص لا بغير ما ذكر](3) . ويعتبر مذهب الحنابلة من أوسع المذاهب في عدد الأمراض والعيوب وإن وجدنا في نصوصهم ما يفيد الحصر فيما ذكروا في زمانهم، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وبعض الشافعية أكثر توسعًا حيث أجروا القياس في كل ما وجدت فيه علة التفريق ولم يحصروا العيوب والأمراض بعدد معين. جاء في زاد المعاد [وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في البيع. وهذا القول هو القياس وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها ومساو لها فلا وجه له فالعمى، والخرس، والطرش، وكونها مقطوعة اليدين
…
من أعظم المنفرات والسكوت عنها من أقبح التدليس والغش وهو مناف للدين. والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو كالمشروط عرفًا وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له أخبرها أنك عقيم وخيرها فماذا يقول – رضي الله عنه – في العيوب التي هذا عندها كمال بلا نقص وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا يمكنه منه بالجرب المستحكم المتمكن وهو أشد من ذلك البرص اليسير وكذلك غيره من أنواع الداء العضال (4) .
(1) الشربيني، مغنى المحتاج: 3 / 203
(2)
الخرشي على مختصر خليل: 2 / 236
(3)
الفتوحي: 2 / 188
(4)
ابن القيم، زاد المعاد: 4 / 30 – 31؛ وانظر ابن تيمية، القواعد النورانية: ص 216.
ولم يفرق الحنابلة والشافعية – رضي الله عنهم – بين العيوب والأمراض الموجودة قبل العقد والحادثة بعده. أما المالكية والأمامية فقد خالفوا في العيوب الحادثة بعد العقد فجعلوا للمرأة طلب الفرقة لأنها لا تملك الطلاق أما الرجل فقالوا: إنه قادر على التخلص منها بالطلاق فإن شاء طلق وإن شاء أمسك (1) .
جاء في حاشية الدسوقي (العيوب المشتركة إذا كانت قبل العقد كان لكل من الزوجين رد صاحبه به وإن وجدت بعد العقد كان للزوجة أن ترد به الزوج دون الزوج فليس له أن يرد الزوجة، لأنه قادر على مفارقتها بالطلاق إن تضرر؛ لأن الطلاق بيده بخلاف المرأة فلذا ثبت لها الخيار)(2) .
وفرق الأمامية بين العيوب والأمراض الموجودة قبل العقد والحادثة بعد العقد وقبل الدخول فالراجح عدم الفسخ وأما الحادثة بعد الدخول فلا رد.
جاء في شرائع الإسلام (العيوب الحادثة للمرأة قبل العقد مبيحة للفسخ وما يتجدد بعد العقد والوطء لا يفسخ به، وفي المتجدد بعد العقد وقبل الدخول تردد أظهره أنه لا يبيح الفسخ تمسكًا بمقتضى العقد السليم عن معارض)(3)
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور بعدة أدلة من القرآن والسنة والآثار:
1-
قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .
وإمساكها مع خوفها وترقبها وقلقها من المرض بعيد كل البعد عن الإمساك بالمعروف فوجب التسريح بإحسان.
2-
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)) . . . . (4) .
فالحديث يدل على الفرار من المجذوم وفرار أحد الزوجين منه لا يكون إلا بالتفريق.
(1) انظر البهوتي: كشاف القناع: 5 / 111؛ والشربيني، مغني المحتاج: 3 / 203
(2)
الدسوقي، حاشية علي الشرح الكبير: 2 / 248
(3)
الحلي، شرائع الإسلام، 2 / 320
(4)
البخاري، الصحيح: 7 / 164
فالجذام منصوص عليه لأنه معد فما كان أكثر في العدوى وأسرع في الانتقال أولى في الحكم فالنبي صلى الله عليه وسلم لما علم أن في وفد ثقيف رجلًا مجذومًا، أرسل إليه:((إنا قد بايعناك فارجع)) . . . . (1) .
فكيف لم يسمح الرسول صلى الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بدخوله على الناس ويجبر أحد الزوجين بالبقاء معه، وهكذا كل مرض معد لا علاج منه في مدة يتضرر الزوج الآخر بسبب انتظاره تضررًا يفوق مصلحة المريض أو يخشى تعديه إلى السليم.
3-
عن عمر – رضي الله عنه – قال: (أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها مهرها بما أصاب منها وصداق الرجل على من غره) . . . . وفي لفظ قضى عمر في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فرق بينهما والصداق لها بمسيسه إياها وهو له على وليها قال الشوكاني: قال الحافظ في حديث عمر: (رجاله ثقات)(2)
4-
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: (أربع لايجزن في بيع ولا نكاح: المجنونة والمجذومة والبرصاء والعفلاء) . . . . (3) .
5-
روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه: قضى أيما امرأة نكحت وبها شيء من هذا الداء فلم يعلم حتى مسها فلها مهرها بما استحل من فرجها ويغرم وليها لزوجها مثل مهرها (4) .
6-
الأمراض التي يخشى تعدي أذاها كالجذام والسل والإيدز وغيرها سبب للشقاء وللنفرة بين الزوجين حتى إن الحياة لتصبح جحيمًا لا يطاق وفي بقاء أحد الزوجين مع 0الآخر تكليف ما لا يطاق وذلك من الأمور المنفية شرعًا.
مناقشة أدلة الظاهرية:
1-
قولهم: كل نكاح صح بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حرم الله تعالى بشرتها وفرجها على كل من سواه ما دامت زوجته ولم يفرق بينهما إلا بنص يجيز ذلك.
يناقش بأن التفريق بهذه العيوب دفع لضرر وإزالة لظلم وحد ومنع من انتشار الأمراض المعدية وإذا فرق بينهما جازت لمن سواه.
(1) مسلم، الصحيح: 4 / 1752
(2)
الشوكاني، نيل الأوطار: 6 / 177
(3)
البيهقي، السنن الكبرى: 7 / 215
(4)
البيهقي، السنن الكبرى: 7 / 215
وأما قولهم إن من فرق بينهما بغير قرآن وسنة ثابتة فقد دخل في صفة الذين ذمهم الله بقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] .
فيرد بأن الآية نزلت في السحرة وما يفرقون به بين الزوجين من السحر والشعوذة لعداوة أو غير ذلك، وليس المراد منها التفريق لسبب يوجبه دفعا ًلضرر أصاب أحد الزوجين، والقرآن والسنة قد دلا بعموم نصوصهما على رفع الضرر والظلم. والسنة قد دلت على مفارقة المريض والمعيب ومن يخشى ضرره وتعدى أذاه كما ورد في حديث الأمر بالفرار من المجذوم، وكما في منعه صلى الله عليه وسلم الممرض أن يورد على المصح والعكس لما في ذلك من خشية انتشار المرض، وكما نهى من كان في بلد فيه طاعون عن الخروج منه أو كان خارجًا عنه عن الدخول إليه. ولا شك أنه لا يمكن الفرار من المجذوم ومن مرض معد كالإيدز إلا بالتفريق.
فإن قالوا: نحن نمكنه من الفرار بالطلاق، قيل كيف تمكنونه من الفرار بالطلاق ولا تمكنونها لأنها لا تملك الطلاق، والحديث وغيره لم يفرق في طلب الفرار بين الزوجين وغيرهما بل أمر بالفرار جميع أفراد المجتمع.
2-
وأما قول ابن مسعود لا ترد حرة بعيب فهو قول خالف فيه أقوال غيره من الصحابة وقضاءهم فقد روي عنهم: أربع لا يجزن في بيع ولا نكاح إلخ .... وأما قول ابن حزم: إنما هو النكاح كما أمر الله به سبحانه {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فيناقش ويرد عليه بأن الإمساك مع وجود الأذى والضرر على الزوج الآخر من الأمراض المعدية والمنفرة ليس من الإمساك بمعروف فيتعين التسريح بإحسان.
ومرض الإيدز أخطر الأمراض المعدية فلا علاج له كما أن انتقاله أسرع من مرض الجذام وغيره فلذلك وجب إعطاء حق التفريق بسببه.
مناقشة أدلة الحنفية:
أعطى الحنفية حق الرد بعيب للمرأة دون الرجل وهذا وجهه ضعيف، فمع أن الزوج يملك الطلاق كما قالوا إلا أن تفريق القاضي يترتب عليه آثار أخر فيرد المهر إن كان قبل الدخول وللمرأة المهر بعد الدخول ويعود به الزوج على من غره بمريضة معيبة وإذا أعطيت المرأة الحق دون الرجل كان ذلك سببا لضياع ماله فيجتمع على الزوج ضياع ماله وفوات زوجته والشريعة كما جاءت بحفظ الدين والنفس جاءت آمرة بحفظ المال حتى كان حفظ المال من الضروريات التي اتفقت الأديان على حفظها فكيف يقال إن الزوج لما ملك الطلاق لا حق له في طلب التفريق وينسى ماله الذي أنفقه على هذه المرأة المعيبة المريضة بمرض خشي تعديه إليه.
وحيث أن هذا المرض لم يكتشف له علاج بعد كما أخبر الأطباء الثقات والمنظمات الدولية للصحة العالمية بجميع هيئاتها ومؤسساتها فلا بد من إعطاء حق الفرقة للزوجين منعًا وحدًا لانتشار هذا الوباء الذي لم تشهد له البشرية مثيلًا في طرق انتقاله.
وأما قول الحنفية إن المرأة ترد الرجل بعيوب محصورة، فيقال بأن الأدلة التي ذكروها معقولة المعنى يجب تعميمها إذا وجدت المعاني التي شرعت لأجلها في أمر آخر أخذًا بقياس المعنى وقياس الأولى اللذين يعتبر الحنفية من أوسع المذاهب قولًا بهما، ولذا لزمهم إعطاء حق الفرقة بسبب كل مرض وجد فيه المعنى الذي نصوا على الفرقة لأجله أو كان أولى منه كما في موضوع البحث – مرض الإيدز – أو غيره من الأمراض المعدية الأخرى.
مناقشة أدلة الجمهور:
ورد على أدلة الجمهور عدة اعتراضات نوجزها فيما يلي:
1-
قيل في حديث ((فر من المجذوم)) . . . . (1) ، نحن نمكنه من الفرار ولكن بالطلاق لا بالفسخ وليس في الحديث تعيين طريق الاجتناب والفرار.
ويمكن أن يجاب عن هذا بأنهم حصروا الفرار حيث جعلوه حقًا للرجل بالطلاق وفي ذلك أضرار مادية تترتب على الطلاق غير التي تترتب على فسخ القاضي، فالمهر إذا طلق الرجل ذهب عليه والشريعة لا تقر الضرر في المال كما أنها لا تقره على النفس والعرض والدين.
2-
قالوا: إن في الرواية الواردة عن عمر: ((أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام
…
)) . . . .،لا يصح في ذلك شيء عن أحد من الصحابة فالرواية عن عمر وعلى منقطعة (2) .
ويرد هذا الاعتراض بأن ما روي عن عمر ورد من طرق كثيرة غير الطريق الذي ذكروه.
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 3/ 1538
(2)
ابن حزم، المحلى: 11 / 366
فالطرق يقوي بعضها بعضًا علمًا بأنه لم يكن في أحدها ما يوجب الضعف، قال الشوكاني، قال الحافظ في حديث عمر:(ورجاله ثقات)(1) .
وأما قولهم: لو صح لكان لا حجة فيه؛ لأنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرد عليه بأن هذا قول أحد الخلفاء الراشدين المهديين وأقوالهم سنة يجب العمل بها كما أن التفريق من القاضي تتعلق به حقوق الآدميين وعمر – رضي الله عنه – قال ذلك في محضر من الصحابة ولم ينكر عليه فصار إجماعًا.
الترجيح:
الناظر المتأمل في مقاصد الإسلام الكلية وقواعده العامة وما اشتملت عليه الأدلة من جلب للمصالح ودفع للمفاسد يترجح عنده أن إعطاء حق الفراق يعطي لكل من الزوجين؛ لأن الأدلة آمرة بحفظ المال ناهية عن ضياعه محرمة لأكل أموال الناس بالباطل ولا شك أن من لم يعط كلا الزوجين حق الرد بالعيب أو الفراق إذا حدث بعد العقد كان متسببًا في إضاعة ماله وقد خالف القواعد الكلية التي تمنع الضرر كقاعدة (الضرر يزال)(2) .
فإن قيل إن في إعطاء السليم حق الفرقة ضرر على الآخر وقاعدة: (الضرر لا يزال بالضرر) شاهد على ذلك قيل بوجود قاعدة أخرى تخصص هذه القاعدة وهي: (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف)(3) . وقاعدة: (إذا تعارض مفسدتان روعي دفع أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما)(4)
وقاعدة: (يحتمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام)(5) .
وفي بقاء السليم مع المريض ضرر عليهما وعلى الأبناء والأسرة وذلك ينتقل إلى المجتمع ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح (6)
فمع تسليمنا بأن لأحد الزوجين مصلحة ولكن على الآخر مفسدة ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، والله سبحانه وتعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر. قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وفي بقاء السليم مع المريض بالأمراض المعدية عسر وحرج ومشقة لا تطاق.
(1) نيل الأوطار: 6 /177.
(2)
السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 92 – 97؛ وابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 85 – 90.
(3)
نيل الأوطار: 6 /177،السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 92 – 97؛ وابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 85 – 90
(4)
السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 96.
(5)
السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 92 – 97 ح وابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 85 – 90
(6)
السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 96، السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 92 – 97 ح وابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 85 – 90
فإعطاء السليم حق الفرقة والفرار من أوجب الواجبات حماية له وللأسرة وللمجتمع وليس ذلك عقوبة للمريض ولا جزاء له بل حماية للمجتمع وحصرا للضرر ودرء للمفسدة. فالإحساس يتزايد بأن وباء العصر ليس كغيره من الأمراض بل إنه يعتبر كارثة ليست كغيرها من الكوارث، إذ الكارثة طبيعية كانت أو اصطناعية تكون محدودة ذاتيًا في الزمان طال أو قصر، وفي المكان ضاق أو اتسع ولكن جائحة الإيدز تنتقل عبر الزمان رأسيًا من جيل إلى جيل، وتنتشر في المكان أفقيًا بغير حدود، والإيدز بخصائصه هذه التي لم يسبق لها مثيل يتطلب من الجميع عملًا متناسقًا. عملًا يبدأ من الأسرة حماية وتوعية ويمضي إلى المدرسة تعليمًا وتربية وينتقل إلى مواقع التوجيه العامة والتربية الدينية والمعسكرات ومواقع العمل وسائر مواقع الأنشطة اليومية (1) .
هل للولي منع المرأة من الزواج بمصاب الإيدز؟
تقدم الكلام ونصوص الفقهاء – رحمهم الله – في إعطاء حق المفارقة للسليم من الزوجين وقد ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فجعل للولي الحق في منعها من التزويج بمرض يخشى تعدي مرضه إليها أو إلى الولد، قال في شرح المنتهى: وإن اختارت مكلفة أن تتزوج مجنونًا أو مذمومًا أو أبرص فلوليها العاقد منعها منه، لأن فيه عارًا عليها وعلى أهلها ضررًا يخشى تعديه إلى الولد كمنعها من تزويجها بغير كفؤ (2) .
ولا شك أن مرض الإيدز يخشى تعديه إليها أو إلى الولد فلو منع الولي أو السلطان التزويج لكان أمرًا متجهًا.
وما قيل في منع المرأة لا يبعد القول به في منع الرجل إذا اختار مصابه درءًا للمفاسد الخاصة والعامة المؤدية إلى الهلاك الذي نهى الله عنه بقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
وقد يكون من الواجب على الزوجين إجراء فحص للتأكد من خلوهما من الإيدز، والله أعلم.
(1) د. رفعت كمال، قصة الإيدز: ص 144.
(2)
البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3 / 54
المطلب الثالث
في إجهاض الجنين وإرضاع وحضانة الطفل السليم
إذا كانت الأم مصابة
وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول
إجهاض الجنين المصابة أمه بالإيدز
عند الأطباء عدة نظريات وأقوال في كيفية انتقال فيروس الإيدز إلى الأجنة منها:
1-
إن الإصابة تحدث للأطفال نتيجة انتقال الفيروس من المصاب من الأبوين إلى الطفل عن طريق المني، حيث ثبت أن الفيروس قد فصل من المني فتحصل الإصابة للجنين في مرحلة مبكرة ويعزى حدوث بعض حالات الإجهاض إلى هذا السبب.
2-
إن الإصابة بانتقال الفيروس من دم الأم إلى دم الجنين عبر المشيمة ومنه إلى الحبل السري ثم إلى الجنين حيث إنه يتغذى بذلك.
3-
إن الإصابة قد تحصل أثناء عملية الولادة ونزوله من الرحم والمهبل المصاب (1) .
وبعد استعراض كيفية انتقال المرض إلى الأجنة مما يشكل خطورة عليهم، وعلى الأم الحامل حيث يساعد الحمل على تدهور صحتها العامة وظهور آثار المرض يظهر أن أقوال الأطباء في منع الحمل وجيهة وقوية حيث جاء في قصة الإيدز:(وعلى الأم المصابة بالمرض أو العدوى أن تتجنب الحمل والولادة حفاظًا على حالتها الصحية من التدهور وحماية للجنين أو الوليد من الإصابة بالعدوى)(2) . وهذا القول يتفق مع ما ورد عن الصحابة – رضي الله عنهم – أنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل فلم ينههم صلى الله عليه وسلم، ومنع الحمل هنا خشية على صحة الأم، وخشية من انتقال المرض إلى الجنين وذلك أمر متجه تؤيده قواعد الإسلام الكلية وما اشتملت عليه من أن دفع المضار مقدم على جلب المصالح إذا تساوت فكيف إذا رجحت المفاسد على المصالح.
أما بعد حصول الحمل وقبل نفخ الروح في الجنين ففي الأمر تفصيل. فإن كان الخوف على الجنين فمجال نظر حيث إن نسبة الأطفال المصابين بالعدوى ليست عالية جدًا حيث لا يتجاوز 45 % (3) حسب استقراء المختصين حتى الآن، أما بعد نفخ الروح فلا يجوز الإجهاض بحال حيث إن إجهاضه قتل له واحتمال سلامته من المرض نسبته عالية عند الأطباء.
أما إذا كان الخوف على الأم من الهلاك وغلب على الظن بقول أطباء موثوقين فيجوز الإجهاض قبل نفخ الروح دفعًا لأعلى الضررين بارتكاب أخفهما. أما بعد نفخ الروح فلا يجوز الإجهاض بحال حيث إن الأم مصابة واحتمال إصابة الجنين قليل.
(1) محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز: ص 72 – 73. ومقابلة أجريتها مع مجموعة من الأطباء
(2)
كمال رفعت، قصة الإيدز: ص 19، وانظر محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز: ص305
(3)
مقابلة أجريتها مع مجموعة من الأطباء
الفرع الثاني
إرضاع الطفل المصابة أمه
تأكد عند الأطباء أن الفيروس موجود في لبن الأم وذلك مؤشر قوي على أن الإصابة التي تحصل للأطفال عن طريق الرضاعة من الأم (1) .
وقال البهوتي: (إذا كان بالأم برص أو جذام سقط حقها من الحضانة كما أفتى به المجد ابن تيمية وصرح بذلك العلائي الشافعي في قواعده وقال: لأنه يخشى على الولد من لبنها
…
وقال في الإنصاف: وقال غير واحد وهو واضح في كل عيب متعد ضرره إلى غيره) (2) .
وحيث أن الأمر كما ذكر فلنستعرض آراء الفقهاء في حكم رضاعة الطفل من الأم المصابة بمرض معد أقل خطورة من الإيدز كالبرص والجذام حيث إن البرص غير قاتل والجذام قد وجد له علاج يوقفه عند حد معين بخلاف وباء العصر – الإيدز – الذي لم يوجد له علاج ولا مصل واق، فمما ما جاء في هذا المجال ما ذكره العلائي في قواعد حيث قال:[ذكر المستفتي أن الولد رضيع وأن من يقبل قوله من الأطباء ذكر أن ارتضاعه لبنها يورث ذلك المرض فيه فيتعين الجواب حينئذ بسقوط حضانتها وذلك قدر زائد على الإعداء، لأنه من جنس أكل السموم](3) .
وقال البهوتي إذا كان بالأم برص أو جذام سقط حقها من الحضانة، كما أفتى به المجد بن تيمية وصرح بذلك العلائي الشافعي في قواعده وقال: لأنه يخشى على الولد من لبنها
…
وقال في الإنصاف: وقال غير واحد [وهو واضح في كل عيب متعد ضرره إلى غيره](4)
فقد ظهر من أقوال الأطباء الموثوقين أنه يخشى تعدي المرض عن طريق الرضاعة وإن كانت نسبة إصابة الأطفال ليست عالية جدًا، ولذلك وجب الامتناع عن إرضاع الأطفال من لبن المصابات بالمرض محافظة على حياتهم وعدم تعريضهم إلى الخطر، فإن الله نهى عن التعرض للمهالك، والأمر بحفظ النفس مما اجتمعت الشرائع على وجوبه إلا أنه ينبغي تقييد هذا الحكم بأن لا يخشى على الطفل الهلاك جوعًا لا سيمًا فيبعض البلدان التي لا يوجد فيها بدليل للرضاعة الطبيعية من امرأة أخرى سليمة أو رضاعة بديلة من الألبان المجففة فيجب حينئذ إرضاعه من أمة وعدم تركه للهلاك العاجل جوعًا إذ أن ترك إرضاعه من أم مصابة لا بديل للرضاعة عنها هلاك محقق وعند رضاعته منها وهي مصابة احتمال السلام عال حيث إن الأسباب المؤدية إلى العدوى قد يبطل الله مفعولها وقد يحدث من الأسباب الأخرى ما يعارضها وقد يسهل الله اكتشاف علاج له أو مصل واق في القريب العاجل وما ذلك على الله بعزيز، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون
…
والله أعلم.
(1) محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز
(2)
البهوتي، كشاف القناع: 3 / 499
(3)
العلائي، المجموع المذهب في قواعد المذهب: 2 / 158 ب، وانظر ابن خطيب الدهشة. مختصر قواعد العلائي: 2 / 542 – 543
(4)
البهوتي، كشاف القناع 3 / 499.
الفرع الثالث
حضانة المصابة بالإيدز للطفل السليم
إعطاء حكم في هذه المسألة عن اتضاح وسائل انتقال المرض فإن ظهر أن المعايشة والالتصاق سبب في انتقال العدوى منعت الحضانة حينئذ والأطباء لم يجزموا بعدم انتقاله بالمعايشة بل ورد من نظرياتهم أن الإصابة قد تكون بسبب الالتصاق، جاء في كتاب الإيدز وباء العصر تفسير لبعض إصابات الأطفال:(تحدث الإصابة بعد الولادة نتيجة الالتصاق والصلة الحميمة بينه وبين الأم أو الأب المصاب)(1)
ولكن الذي أميل إليه والحالة هذه من عدم وضوح وسائل انتقاله: أنه يأخذ حكم الجذام والبرص حتى يقطع بعدم الانتقال بالمعايشة إن وجد من يقوم بحضانته غير المصاب وإلا وجب بقاؤه مع المريض وتخلف الأسباب وعدم تأثيرها إذا كانت واضحة أمر معلوم في شريعتنا السمحة فكيف إذا كان السبب محل خلاف؟
أما إذا وجد من يقوم بحضانته كالأب السليم فتسقط حضانة الأم المصابة أو توقف حتى يتضح الأمر ويحسم طبيًا ومن تتبع نصوص الفقهاء وأقوالهم في ذلك اتضح له بعد نظرهم وسعة اطلاعهم. جاء في كشاف القناع: [وإذا كان بالأم برص أو جذام سقط حقها من الحضانة .... قال في الإنصاف: وقال غير واحد وهو واضح في كل عيب متعد ضرره إلى غيره](2) .
وقال العلائي: [لو كانت الأم مجذومة والولد غير رضيع فينبغي القول بسقوط حضانتها](3) .
وعليه فإن القول بإيقاف حضانتها حتى يتضح الأمر (4) قول وجيه فإن امتنع الولي وأصر فسق، وعليه فإن الجذماء والبرصاء حيث ثبت أن الجذام ينتقل بالمعايشة والمجالسة تسقط حضانتهما ويجب عزلهما فإن شارك هذا المرض – الإيدز – الجذام وكانت ينتقل بالمعايشة (5) أخذ حكمه في الحضانة والعزل. جاء في كشاف القناع: [ولا يجوز للجذماء مخالطة الأصحاء عمومًا
…
وعلى ولاة الأمور منعهم من مخالطة الأصحاء بأن يسكنوا في مكان مفرد لهم] (6) .
(1) محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز: ص 73. ومقابلة أجريتها مع مجموعة من الأطباء.
(2)
البهوتي، كشاف القناع: 3 / 499
(3)
العلائي، المجموع المذهب: 2 / 258 ب
(4)
إن وجد بديلا يقبل حضانته مع الخوف والرعب الذي ينتشر بين الناس إذا علم أن في الأسرة مصابًا فقد يجتنب الناس الأسرة كلها.
(5)
يميل كثير من الأطباء إلى عدم انتقاله بالمعايشة.
(6)
البهوتي، كشاف القناع: 6 / 126؛ وانظر شرح منتهى الإرادات: 3 / 267
المبحث الثاني
في عقوبة مرض الإيدز
إذا تسبب في إصابة غيره بهذا المرض يمكن تقسيم هذا المبحث إلى أربعة مطالب:
المطلب الأول: الجواسيس والشاذون ومن في حكمهم من المفسدين.
المطلب الثاني: جرح المريض السليم جرحًا بسيطً.
المطلب الثالث: المعاشرة المصاب من الزوجين للسليم.
المطلب الرابع: الإصابة بالمرض نتيجة تقصير الأطباء والفنيين في المختبرات أثناء نقل الدم ومشتقاته أو زراعة الأعضاء.
ومن المبادئ المستقرة عند المسلمين التي لا تقبل التشكيك أن الشريعة الإسلامية متصفة بالكمال، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
فكل ما قد يطرأ على البشرية من حوادث ونوازل لابد من وجود حكم لها منصوص أو مقيس أو منقول أو مخرج على القواعد الكلية، فشمولية الشريعة أمر مستقر واضح في مبادئها وقواعدها العامة وذلك مصداقًا لقوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] .
ومما نجده واضحًا أشد الوضوح أحكام الجنايات والحدود والديات، ولا شك أن موضوع البحث وهو عقوبة مريض الإيدز إذا تسبب في إصابة غيره قد اشتملت عليه أحكام الشريعة الإسلامية وإن لم ينص عليه باسمه لكن عموم النصوص والقواعد الكلية ومقاصد الشارع العامة مشتملة على حكمه، فحفظ النفس أحد المقاصد التي اجتمعت عليها الشرائع السماوية وسوف يكون في هذا المبحث بيان وتخريج ونقل لما قاله الفقهاء في صور الجنايات التي نصوا عليها وتخريج موضوع البحث على ما ذكروه من صور. ويمكن تقسيم جنايته وتسببه في إصابة غيره إلى أربعة مطالب:
المطلب الأول
الجواسيس والشاذون ومن في حكمهم من المفسدين
يشير خبراء التحاليل الطبية أن مريض الإيدز عبارة عن مزرعة متحركة للميكروبات والجراثيم ولا يستطيع أحد تمييزه عن غيره، لأن أعراض الإصابة لا تظهر إلا بعد فترة طويلة حيث إنه يمارس حياته بشكل طبيعي وينشر المرض فيمن حوله خاصة في حالة علمه بإصابته حيث يشعر باقتراب نهايته ولذلك أكد خبراء الرأي العام أن خطورة مرض الإيدز لا تكمن فقط في صعوبة الشفاء منه ولكن الخطورة تنبع من سوء استغلال بعض الجهات للمرض في أغراض حقيرة لتحقيق أهداف غير إنسانية (1) .
(1) جريدة المدينة، العدد 9399، في 16 / 8 / 1413 هـ.
وحيث إن الأمة الإسلامية عامة والعربية خاصة أمة مستهدفة في عقيدتها واقتصادها، وشبابها أعظم ثروة لديها، لذلك نلاحظ الهجمة الشرسة من الصهيونية والنصرانية الصليبية التي اتخذت عدة أساليب للنيل من الأمة بوسائل وأهداف لم تعهد من قبل، ويعتبر مرض الإيدز أكثر فاعلية من الأساليب المألوفة وهو أسلوب له تأثيره في الحرب النفسية، وقد ذكر خبراء الرأي العام أن المخابرات المعادية كثيرًا ما تلجأ إليه لضرب البلدان المستهدفة في أعز ما تملك وهو الشباب (1) .
فالجواسيس يحملون المرض وينقلونه إلى غيرهم عن طريق الممارسات الجنسية التي تعتبر إحدى الوسائل الناقلة المتفق عليها عند الأطباء، فقد توفر قصد الجناية بطريقة غير مشروعة، وحيث إن الزنا واللواط والمخدرات طرق لنقل المرض المؤدية إلى الهلاك فما الحكم والحالة هذه؟
هذه الصورة تعتبر من صورة الفساد في الأرض والحرابة التي ذكر الله سبحانه وتعالى حكمها في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] .
فالجواسيس والشاذون جنسيًا الذي يحصل منهم الاعتداء على الأعراض يستدرجون الغلمان والفتيات الصغيرات والضعفاء والفقراء ويغرونهم بالمال أو يغتصبونهم، يجب قطع شرهم ولو لم يكونوا مصابين بهذا الوباء الخطير الذي ينتقل إلى الأصحاء عن طريق المعاشرة الجنسية، فكيف إذا حصل به انتقال المرض فينبغي قتلهم حدًا لا قصاصًا فلا تشترط المكافأة ولا يرد الأمر إلى الأولياء.
فقد ثبت في الصحيحين: أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أو حلى فأخذ واعترف فأمر رسول الله صلى أن يرض رأسه بين حجرين (2) .
ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إلى أولياء الجارية ولو كان قصاصًا لرد الأمر إليهم؛ لأنهم أهل الحق. وكل حق يتعلق به حق الله وحق الله هو الغالب فلا عفو فيه كحد السرقة وغيرها.
(1) الهدف: 1285، في 16 / 7 / 1413
(2)
البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 5 / 371؛ ومسلم، الجامع الصحيح: 11 / 158
المطلب الثاني
جرح المريض السليم جرحًا بسيطًا
من المعلوم أن الفيروس إذا دخل عن طريق الدم أصيب الصحيح بالمرض ولذلك ينصح الأطباء عمومًا بتجنب أي إجراء من شأنه اختراق الجلد (1) .
وقد استفاض عند الناس أن الفيروس ينتقل إلى الصحيح عن طريق الجروح، ولجأ بعض مرضى الإيدز إلى الاعتداء على رجال الأمن وجرحهم بجروح بسيطة أو عضهم انتقامًا منهم أو تخلصًا منهم، وقد علمت أن ممرضة تخاصمت مع مريض في المستشفى فأرادت الانتقام فعمدت إلى استخدام إبرة مع هذا المريض الذي خاصمته كانت قد استعملت في حقن المريض بالوباء الكبدي فما حكم هذه الحالة ومثيلاتها؟
بعد أن استعرضت صور القتل العمد رأيت أن هذه الصورة تشابه القتل بالسم والسحر وغيرها من صور القتل الخفية وقد وجدت أقوال الفقهاء في القتل بالسم على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول:
ذهب جمهور فقهاء الحنفية فيمن وضع سمًا في أكل أو شرب وهو عالم به والآكل أو الشارب غير عالم إلى عدم وجوب القصاص أو الدية عليه وأنه لا يجب عليه إلا التعزير. جاء في الدر المحتار: [سقاه سما حتى مات، إن دفعه إليه حتى أكله ولم يعلم به فمات لا قصاص ولا دية لكنه يحبس ويعزر ولو أوجره السم إيجارًا تجب الدية على عاقلته](2) .
المذهب الثاني:
الأظهر عند الشافعية أن القتل بالسم شبه عمد تجب فيه دية شبه العمد، جاء في نهاية المحتاج: [ولو دس سمًا
…
في طعام شخص مميز أو بالغ على ما مر والغالب أكله منه فأكله جاهلًا بالحال فعلى الأقوال دية شبه العمد على الأظهر] (3) .
(1) رفعت كمال، قصة الإيدز: ص 19
(2)
الموصلي، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 6 / 542؛ وانظر الكاساني بدائع الصنائع: 10 / 4919
(3)
الرملي، نهاية المحتاج: 7 / 242؛ وانظر المحلى شرح المنهاج: 4 / 99؛ والنووي، روضة الطالبين: 9 / 126
المذهب الثالث:
قال المالكية وهو المذهب عند الحنابلة والظاهر عند الشافعية وقول عند الأمامية وبعض الحنفية إن تقديم السم مثل القتل بالمحدد والمثقل يوجب القود بشرطه، جاء في الشرح الكبير:[وتقديم مسموم لغير عالم فتناوله ومات فيقتص من المقدم إن علم أنه مسموم](1)
وجاء في شرح منتهى الإرادات: [السابعة أن يسقيه سمًا يقتل غالبا لا يعلم به شاربه أو يخلطه بطعام أو يطعمه لمن لا يعلم به أو يخلطه بطعام أكل فيأكله جاهلًا به فيموت فيقاد به كما لو قتله بمحدد](2) .
وجاء في روضة الطالبين: [لو سقاه دواء أو سمًا لا يقتل غالبًا لكنه يقتل كثيرًا فهو كغرز في غير مقتل وفي إلحاقه بالمثقل احتمال](3) .
وجاء في البحر الزخار: [وأما السبب فمنه ما يشبه المباشرة فيوجب القصاص وذلك كالإكراه
…
وتقديم الطعام المسموم في قول] (4) .
وجاء في حاشية ابن عابدين: (وذكر السائحاني أن شيخه أبا السعود ذكر في باب قطع الطريق أنه لو قتل بالسم قيل يجب القصاص لأنه يعمل عمل النار)(5) .
أدلة القائلين بعدم قتل مقدم السم وما شابهه:
1-
ما روى أنس بن مالك: ((أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتلها)) (6) .
2-
إن أكل السم آكله مختارًا، فأشبه ما لو قدم إليه سكينًا فطعن بها نفسه فيكون قاتلًا نفسه (7) .
أدلة الجمهور على وجوب القصاص على القاتل بالسم وما شابهه:
الضابط الذي ذكره جمهور الفقهاء في قتل العمد العدوان، أنه القتل بما يغلب على الظن موته به مطرد على عمومه لا يستثنى منه شيء (8)
وهذا سبب يسري إلى البدن غالبًا فيؤدي إلى القتل فيستدل له بما يلي:
1-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] .
2-
قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] .
(1) الدردير، الشرح الكبير: 4 / 217؛ وانظر الشرح الصغير: 4 / 342؛ والصاوي على الشرح الصغير: 4 / 342؛ والدسوقي، حاشيته: 4 / 217.
(2)
البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3 / 270؛ وانظر المرداوي الإنصاف: 9 / 440؛ وكشاف القناع: 5 / 509؛ وابن قدامة المغني: 7 /643
(3)
النووي، روضة الطالبين: 9 / 126؛ وانظر المحلى، شرح المنهاج: 4 / 99؛ وقليوبي حاشية: 4 / 99؛ وابن القاسم العبادي، حاشية: 8 / 384
(4)
المرتضى، البحر الزخار: 6/ 216
(5)
ابن عابدين حاشية رد المحتار: 6 / 542.
(6)
البخاري، الجامع الصحيح: 7 / 497؛ ومسلم، الجامع الصحيح: 14 / 178 – 179
(7)
السرخسي، المبسوط: 26 / 153.
(8)
عبد الله البسام، نيل المآرب: 4 / 434.
3-
وقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]
4-
ما ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات بشر بن البراء بن معرور أرسل إلى اليهودية فقال: ((ماحملك على ما صنعت؟)) . . . . فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت (1)
5-
هذا سبب يقتل غالبًا ويتخذ طريقًا إلى القتل كثيرًا فأوجب القصاص كما لو أكرهه على شربه (2) .
6-
لو كان القتل بالأسباب الخفية لا يوجب القصاص لعدل شرار الخلق عن الأسباب الظاهرة الموجبة للقصاص إلى الأسباب الخفية كالسم والسحر والجراثيم والفيروسات ونشر الأمراض الفتاكة التي تعتبر أشد فتكًا وأكثر قتلًا من المحدد والمثقل فالأولى أن تأخذ حكم الأسباب الظاهرة. والله أعلم.
وقد نوقشت أدلة القائلين بعدم قتل مقدم السم بمناقشات بينت ضعفها، فخبر اليهودية ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها قبل أن يموت بشر بن البراء فلما مات أمر بقلتها فقتلت، وأنس نقل صدر القصة دون آخرها فيتعين حمله عليه جمعًا بين الخبرين (3) .
أما تقديم السكين ففرق بينه وبين دس السم إذ السكين لا تقدم إلى الإنسان ليقتل بها نفسه إنما تقدم إليه لينتفع بها وهو عالم بمضرتها ونفعها فأشبه ما لو قدم إليه السم وهو عالم به فأكله (4) .
الراجح:
كانت العرب في الجاهلية تقول القتل أنفى للقتل وبسفك الدماء تحقن الدماء، والمقصود من القصاص الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة ولو لم يجب القصاص بهذه الأسباب الخفية لعدل شرار الخلق عن القتل بالظاهر إلى الخفي ما يستحدثونه كل حين مما هو أشد فتكًا بالأنفس وإزهاقًا للأرواح من الأسباب الظاهرة فيعود ذلك على مقصد الشارع بالنقض والإبطال فيشيع القتل وتزهق الأنفس وتسفك الدماء والله سبحانه وتعالى يقول:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] فإذا جرح مريض الإيدز وغيره أو عضه فأصابه المرض قتلناه بعد موت المجني عليه لأن سراية الجناية مضمونة وموته بالسراية إذ الغالب أنه بعد دخول الفيروس في بدن السليم يبقى مصابًا حتى يموت من سرايته.
(1) أبو داود، السنن: 4 / 175
(2)
ابن قدامة، المغني: 7 / 643
(3)
ابن قدامة، المغنى: 7 / 643، 644
(4)
ابن قدامة، المغنى: 7 / 643 – 644
جاء في شرح منتهى الإرادات: [وتضمن سراية جناية ولو بعد أن أندمل جرح أو اقتص من جان ثم انتقض الجرح فسرى لحصول التلف بفعل الجاني أشبه ما لو باشره بقود ودية](1) فعلى القتل بالسم يخرج جرح مريض الإيدز لغيره، ولإمكان اختيار القول الذي ذهب إليه كثير من الفهقاء أن الجرح ولو كان صغيرًا في غير مقتل موجب للقصاص لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل بل يعلل وجوب القصاص عليه بأنه مات بمحدد.
قال في كشاف القناع: [ولو صغيرًا كشرطة حجام فمات المجروح ولو طالت علته منه ولا علة به غيره – أي الجرح – ولو كانت في غير مقتل كالأطراف لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل بدليل ما لو قطع شحمة أذنه أو أنملة فمات](2)
فالجرح على هذا القول سبب لزهوق النفس والجرح بما له نفوذ في البدن كسكين وحربة ونحوهما، وإن قال لم أقصد قتله لم يقبل منه ولم يصدق في دعواه؛ لأنه خلاف الظاهر (3) .
وعليه، فإن التسبب في إدخال الفيروس إلى الدم قد استفاض عند الأطباء وكذا سائر الناس أنه سبب للإصابة ثم السراية والموت فلا يقبل قول الجاني أنه لم يقصد قتله لأن ذلك خلاف الظاهر. والله أعلم.
(1) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3 / 297 – 298
(2)
البهوتي، كشاف القناع: 5 / 505.
(3)
البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3 / 269؛ وانظر المرداوي، الإنصاف: 9 / 441
المطلب الثالث
معاشرة المصاب من الزوجين للسليم
من المعلوم عند الأطباء أن المني يحمل الفيروس فإذا عاشر أحد الزوجين الآخر، وهو مصاب أصيب الآخر غالبًا، فزوجات المصابين أصيب عدد كبير منهن (1) ولذلك ينصح الأطباء إذا كان أحد الزوجين مصابًا بالابتعاد عن الاتصال الجنسي (2) ما أمكن. فإن لم يمكن فعن طريق استعمال العازل الذكري – الكبوت – الذي يؤدي إلى منع ملامسة الإفرازات الجنسية لكل من الطرفين وبالتالي لا تنتقل العدوى إلى السليم (3) . ولكن السؤال المطروح الذي تجب الإجابة عليه: ما هو حكم الشرع إذا علم المريض بمرضه ومارس مع السليم الجاهل فأصابه المرض؟ وهل يختلف الحكم إذا لم يعلم أنه مصاب فمارس الجنس وأصاب الآخر؟.
يقسم الفقهاء القتل الخطأ إلى قسمين:
أحدهما: أن يفعل ما له فعله فيقتل إنسانًا.
وعلى ذلك هل لمريض الإيدز أن يعاشر السليم المعاشرة الجنسية التي ثبتت أنها ناقلة للمرض بما لا يدع مجالًا للشك؟
من القواعد الكلية المعلومة والمستقرة عند العلماء: (لا ضرر ولا ضرار) .... فكل فعل فيه ضرر أو ضرار بأحد فهو ممنوع شرعًا ومن خالف أثم فيما بينه وبين الله تعالى ولزمته تبعات عمله بل لقد ذهب كثير من علماء الحنابلة إلى أن من فعل ما ليس له فعله فهو عمد محض.
جاء في الإنصاف: (تنبيه: مفهوم قوله أن يفعل ما له فعله أنه إذا فعل ما ليس له فعله كأن يقصد رمي آدميا معصوما، أو بهيمة محترمة، فيصيب غيره، أن ذلك لا يكون خطأ بل عمدًا وهو منصوص الإمام أحمد – رحمه الله. قال القاضي في روايته: وهو في ظاهر كلام الخرقي)(4) .
وعليه فمريض الإيدز إذا علم بمرضه فليس له المعاشرة حينئذ فيكون جانيا، يجب عليه تبعات جناياته من دية وكفارة وفي القود تردد إذ قد يكون حقه في المعاشرة الزوجية التي لا يعلم بمنعها، وذلك – متوقع – شبهة في درء حد القصاص.
(1) محمد البار ومحمد صافي، الإيدز: ص 70
(2)
رفعت كمال قصة الإيدز: ص 23
(3)
رفعت كمال قصة الإيدز: ص 23
(4)
المرداوي، الإنصاف: 9 / 446؛ وانظر البهوتي شرح منتهى الإرادات: 3 / 272؛ وكشاف القناع: 5 / 513
وأما إذا كان المريض لا يعلم بمرضه فعاشر السليم وأصابه فما الحكم؟
من المعلوم المستقر أن الجهل والخطأ والنسيان رافع للإثم مطلقًا فيما بين المكلف وربه كما وعد بذلك رب العزة والجلال بقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) . . . . (1) .
وأما الحكم فإن الدية والكفارة واجبتان عليه إذ الخطأ لا يسقط حقوق الآخرين المالية، كما أنه لا يسقط الواجبات، فمن نام عن صلاة أو نسيها يجب أداؤها إذا ذكرها وما أحسن تفصيل السيوطي – رحمه الله – في هذا المقام حيث يقول:(اعلم أن قاعدة الفقه أن النسيان والجهل مسقط للإثم مطلقًا. وأما الحكم فإن وقعا في ترك مأمور لم يسقط بل يجب تداركه ولا يحصل الثواب المترتب عليه لعدم الائتمار، أو فعل منهي ليس من باب الإتلاف فلا شيء فيه أو فيه إتلاف لم يسقط الضمان. فإن كان يوجب عقوبة كان شبهة في إسقاطها)(2)
فالضمان واجب على من تسبب في إصابة غيره والجهل والخطأ والنسيان لا تسقط حقوق الآخرين، وعليه تجب دية السليم إذا أصابه المرض نتيجة للمعاشرة الجنسية
…
والله أعلم.
المطلب الرابع
الإصابة بالمرض نتيجة تقصير الأطباء والفنيين في
المختبرات أثناء نقل الدم ومشتقاته وزراعة الأعضاء
من المؤكد والمتفق عليه بين الأطباء أن نقل الدم ومحتوياته وزراعة الأعضاء من مصاب إلى سليم سبب لانتقال العدوى، وقد علمت وقائع متعددة نقل فيها الدم من مصابين فأصيب المنقول إليه بالعدوى لا سيما في مراحل اكتشاف المرض الأولى قبل أن تعرف وسائل انتقاله وتتخذ الاحتياطات اللازمة والتأكد من سلامة المنقول منه من المرض (3) .
(1) ابن ماجة، السنن: 1 / 659
(2)
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 207
(3)
محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز: ص 93 – 102؛ رفعت كمال، قصة الإيدز: ص 19
وحيث إن الإصابة بسبب تقصير الأطباء وفني المختبرات أحد الموضوعات اللازم بحثها في نوازل العصر ومستجداته فما هو حكم الشارع في ذلك؟
غاية العمل الطبي والمقصود منه هو حصول مصلحة حفظ الإنسان المرجوة ودفع مضرة الأمراض النازلة به، والشريعة الإسلامية عندما أباحت العمل الطبي بإباحته رجاء تحصيل هذه المصالح المرجوة، وتحصيلها لا يتم إلا بمطابقة العمل لأصول مهنة الطب، وحيث لم يطابق العمل الذي يقوم به الطبيب أصول مهنة الطب، فإنه لا يكون محققًا لتلك المصالح ومن ثم يبقى على أصله فعلًا محرمًا لا يجوز للطبيب ولا لغيره الإقدام عليه؛ لأن الأصل المقرر أن كل عمل قاصر عن تحصيل مقصوده لا يشرع (1) فكيف إذا كان يحقق نقيض المقصود؟ وحيث إن الأطباء بشر قد يتسببون في إتلاف الأنفس فقد شرع الله الزواجر لحماية الناس وهذه الزواجر تتمثل في الوعيد الشديد الذي يلحق بسبب تقصيرهم وإهمالهم واستخفافهم بأجساد الناس وأرواحهم، وذلك يتمثل بعقاب الله لهم في الآخرة كما يتمثل في الدنيا بما يترتب على أفعالهم من قصاص إن كان عمدًا، أو ضمان يلزمهم به القاضي إن كان خطأ (2) .
قال الدكتور قيس بن المبارك: [لا يكون العمل الطبي مستوفيًا هذا الشرط بأن يحقق تلك المصلحة المرجوة وبدفع تلك المفسدة عن المريض إلا إذا كان موافقًا للأصول والقواعد العلمية المعتبرة عند أصحاب هذا الفن ذلك أن إقدام الطبيب على معالجة الناس والتصدي لجراحة أبدانهم على غير الأصول العلمية المعتبرة في علم الطب يحيل عمله من عمل مشروع ومندوب إليه إلى عمل محرم يعاقب عليه؛ لأنه أصبح عملًا عدوانيًا فهو أشبه بالجناية الصادرة من غير الطبيب] . ثم قال: وقد ذكر الدكتور أسامة فايد تعريفًا حسنًا لهذه الأصول فقال: [هي الأصول الثابتة والقواعد المتعارف عليها نظريًا وعمليا بين الأطباء والتي يجب أن يلم بها كل طبيب وقت قيامه بالعمل الطبي](3) .
وقد نص الفقهاء قديمًا على تقصير الأطباء ومن في حكمهم والأحكام المترتبة عليه، ومن ذلك ما قاله الشيخ خليل:[كطبيب جهل أو قصّر] . (4) .. فجعل عليه الضمان بتقصيره وأي تقصير يساوي هذا التقصير الذي لا يحتاط فيه الطبيب والفني من وجود الفيروس المؤدي إلى هذا المرض القاتل.
(1) قيس مبارك، التداوي، والمسؤولية الطبية: ص 175
(2)
قيس بن مبارك، التداوي والمسؤولية الطبية: ص 133
(3)
قيس بن مبارك، التداوي والمسؤولية الطبية: ص 168
(4)
انظر الدردير، الشرح الكبير مع الحاشية الدسوقي: 4 /316
وقد علق الدسوقي على قول خليل السابق بقوله: [كأن أراد قلع سن فقلع غيرها، أو تجاوز بغير اختياره الحد المعلوم في الطب عند أهل المعرفة](1) .
وقال المواق: (قال ابن القاسم لا ضمان على طبيب وحجام وخاتن وبيطار إن مات حيوان بما صنعوا به إن لم يخالفوا، وضمن ما سرى كطبيب جهل أو قصر)(2) .
فمفهوم قوله إن لم يخالفوا أنهم إن خالفوا تعديًا أو تقصيرًا ضمنوا كما يدل عليه قوله: (أو قصر) . . . . .
وقال ابن القيم: (وإن كان الخاتن عارفًا بالصناعة وختن المولود في الزمن الذي يختن في مثله وأعطى الصناعة حقها لم يضمن سراية الجرح اتفاقًا)(3) .
وقد علق قيس بن المبارك على هذا الحكم بقوله: (دل قوله وأعطى الصناعة حقها على اعتباره لأصول المهنة الطبية سببًا من أسباب سقوط المسؤولية، ومفهوم وصفه هذا يدل على أن عدم الأخذ بهذه الأصول يعتبر موجبًا للمسؤولية)(4) .
وقال ابن الشحنة: (ليس على الفصاد والبزاغ والحجام ضمان السراية إذا لم يقطعوا زيادة على القدر المعهود المأذون فيه)(5) .
وقال الشافعي: (وإذا أمر الرجل أن يحجمه وأن يختن غلامه أو يبطر دابته فتلفوا من فعله، فإن كان فعل ما يفعله مثله مما فيه الصلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصناعة فلا ضمان عليه وإن كان فعل ما لا يفعله مثله من أراد الصلاح وكان عالمًا به فهو ضامن)(6) . فجعل نفي المسؤولية والضمان عنه مشروطًا بفعل ما فيه الصلاح للمفعول له عند أهل العلم.
ولا شك أن في كل ما تقدم بيان وإيضاح للإلزام أصول المهنة وتضمين من لم يلتزم بها ومن قصر في تحليل الدم ومشتقاته حتى أصيب السليم يكون عمله محظورًا معاقبًا عليه في الدنيا بالضمان وفي الآخرة بالعقاب.
ولقد اتخذت المملكة العربية السعودية إجراء وقائيًا عامًا حيث منعت استيراد الدم من الخارج واكتفت بما يتم جمعه من الداخل (7) بعد أن اتخذت عدة وسائل لتشجيع المواطنين على التبرع بالدم وهذا إجراء يشكر ولا يكفر ويذكر ولا ينسى. والله أعلم.
(1) حاشية على الشرح الكبير: 4 / 316
(2)
التاج والإكليل مع مواهب الجليل: 6 / 320 – 321
(3)
تحفة المودود: ص 195
(4)
التداوي والمسؤولية الطبية: ص 178
(5)
لسان الحكم: ص 292
(6)
الأم
(7)
محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز: ص 306
المبحث الثالث
في عزل مريض الإيدز عن أماكن التجمع
كالمدارس وميادين العمل
يمكن تقسيم هذا المبحث إلى تمهيد ومطلبين:
المطلب الأول: الحكم إذا كان المرض ينتقل بالمعايشة العامة والمصافحة والأكل والشرب واستعمال الأدوات والمراحيض.
المطلب الثاني: الحكم إذا كان المرض لا ينتقل بالمعايشة العامة والمصافحة والأكل والشرب واستعمال الأدوات والمراحيض.
التمهيد:
الأمراض المعدية التي تنتقل من المريض إلى آخر تختلف طرق ووسائل انتقالها من مرض إلى آخر، فمنها ما ينتقل بواسطة التنفس كأمراض الجهاز التنفسي كالأنفلونزا والسل الرئوي، ومنها ما ينتقل بواسطة الفم كأمراض الجهاز الهضمي مثل الدوسنتاريا والتيفود، ومنها ما ينتقل عن طريق المعاشرة الجنسية مثل الزهري والسيلان، ومنها ما ينتقل بطريقة الملامسة كالجدري والجذام، وبعضها ينتقل بواسطة الحقن أو نقل الدم كالالتهاب الكبدي الفيروسي أو بواسطة وخز الحشرات كالملاريا التي تنقلها البعوضة أو الطاعون الذي تنقله الفئران والبراغيث، وقد يكون للمرض الواحد أكثر من وسيلة لانتقاله (1) كالإيدز إذا تحقق أنه ينتقل بالاتصال الجنسي وعن طريق الدم ومشتقاته كزراعة الأعضاء والمخدرات التي تؤخذ عن طريق الحقن وحيث إن الأمر كما ذكر في وسائل انتقال الأمراض، وبعض الأسئلة التي طرحت وطلبت الإجابة عليها يتوقف الجواب عليها على تحديد الرأي الطبي ووضوحه في وسائل انتقال المرض، والسؤال الذي تجب الإجابة عليه حتى يعطى الحكم الصحيح على هذه الأسئلة هو: هل مرض الإيدز ينتقل عن طريق الملامسة والمجالسة والمعايشة واستعمال الأدوات والمراحيض والإفرازات التي يفرزها الجسم كاللعاب والدمع أو لا ينتقل بواسطة هذه الوسائل؟.
(1) محمد علي البار، العدوي بين الطب وحديث المصطفى: ص 22
استفاض بين الناس في مراحل المرض الأولى أن مرض الإيدز ينتقل بالمعايشة، والأطباء عند ظهور أعراض المرض الأولى كانوا يحذرون من مصافحة مرضى الإيدز ومجالستهم، ولقد نقلت الصحف أن بعض المجرمين الهاربين الذين يحيط بهم رجال الأمن يدعي أنه مصاب بالإيدز حتى يتمكن من الهرب، بل إن رجال الأمن إذا أرادوا التعامل مع الشاذين جنسيًا أو مدمني المخدرات يلبسون القفازات والأقنعة الواقية خوفًا من الإيدز – حيث تعتبر هذه الفئات مرتعًا للمرض – كما تم إمداد رجال الإسعاف بأجهزة بلاستيكية تمنع وصول وتلاصق فم المسعف بفم المصاب، وعندما حاول التليفزيون في الولايات المتحدة تقديم أحد مرضى الإيدز رفض العاملون في الإستديو دخول المبني واضطرت الإدارة لإلغاء البرنامج، ونشرت الصحف قصة اللص الذي دخل بنكًا في نيويورك وناول الموظفة قصاصة مكتوبًا عليها أنا مصاب بالإيدز فناوليني ما معك من النقود وإلا بصقت في وجهك فناولته مسرعة كل النقود وتكررت الحادثة في أماكن مختلفة في أوروبا (1)
بل لقد ذكرت قصة الطبيب الذي امتنع عن استعمال الهاتف العام خوفًا من خطر الإيدز (2)، غير أن هذا الخوف وهذا الهلع بدا يخف ويزول شيئًا فشيئًا بسبب كثرة المؤتمرات والندوات والنشرات التي ذكرت فيها الوسائل المتفق على أنها ناقلة للمرض باتفاق وهي: الاتصال الجنسي، ونقل الدم، والمخدرات خصوصًا التي تعطى عن طريق الحقن، والجروح، والحمل أما غيرها فما يزال مجال نظر بين الأطباء ولذا فالحكم الشرعي يفرع على أحد احتمالين.
(1) محمد علي البار ومحمد صافي، الإيدز: ص 84 – 85.
(2)
محمد علي البار ومحمد صافي، الإيدز: ص 86
المطلب الأول
في الإجابة على احتمال انتقاله بالمعايشة والملامسة والتنفس
والاشتراك في المراحيض والأكل والشرب
واستعمال الأدوات المراحيض
وبناء على هذا نورد عدة أدلة موجبة لعزله ومنعه من التعليم مع غيره وفصله من العمل أو إيجاد فرصة عمل له بعيدة عن الاختلاط وكذا تعليم المرضى منفردين عن غيرهم
…
ومما يمكن أن يستدل به على ذلك.
1-
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها)) . . . . (1) .
وفي هذا الحديث عدة معجزات اكتشفت بعد قرون طويلة منها أن هذا المرض ينتقل عن طريق الاستنشاق حيث يصل إلى الرئتين ومنها إلى البدن فيفسد البدن.
وفي الطب أن الشخص السليم في منطقة الوباء قد يكون حاملًا للميكروب ولم يظهر عليه أثر من آثار المرض فترة الحضانة – الفترة الزمنية التي تسبق ظهور الأعراض منذ دخول الميكروب الجسم – ولذلك أمر السليم بعدم الخروج من مكان الوباء؛ لأنه قد يكون حاملًا للمرض فيعرض الآخرين للخطر دون أن يشعر هو أو يشعر الآخرون ولذا جاء المنع شديدًا والوعيد مرعبًا مخفيًا (2)، في حديث:((الفار من الطاعون كالفار من الزحف)) . . . .، وحديث: فما الطاعون؟ قال: ((غدة كغدة البعيرة، المقيم بها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف)) . . . . (3) .
وشبيه بالطاعون كل وباء أو مرض ينتقل عن طريق الاستنشاق والمجالسة والمعايشة فيمنع السليم من الدخول إلى بلد الوباء كما يمنع المريض والسليم أيضًا من الخروج منها خشية أن يكون حاملًا للمرض ولم تظهر عليه أعراضه ويعدي غيره.
2-
قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يورد ممرض على مصح)) . . . . (4) .
وفي هذا الحديث منع صاحب الماشية المراض من الورود على صاحب الماشية الصحيحة خشية انتقال العدوى.
3-
ثبت أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا قد بايعناك فارجع)) . . . . (5) فهذا المجذوم قد أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم بالبيعة ولم يأذن بدخوله على الناس، وعمر أخرج المجذومة من المطاف وهذا هو الحجر الصحي بأجلى معانيه وأوضح صوره يتضح من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين من بعده فكل مرض يشابه الطاعون والجرب في وسائل انتقاله يأخذ حكمه، وحيث إن مرض الإيدز معد ينتقل من المرضى إلى الأصحاء ولم يتم بعد الحسم في انتقاله عن طريق المعايشة، فأرى أنه يجب عزل المريض وإبعاده، عن الأصحاء ولو بإقامة محاجر صحية خاصة كمحاجر المجذومين ومرضى السل والأوبئة الأخرى كسائر الأمراض المحجرية (6) .
(1) البخاري، الجامع الصحيح، مع فتح الباري: 10 / 178 – 179؛ ومسلم الجامع الصحيح، مع شرح النووي: 14 / 206
(2)
محمد البار، العدوي بين الطب وحديث المصطفى: ص 73
(3)
أحمد بن حنبل، المسند: 6 / 82، 145، 255
(4)
البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 10 / 241؛ ومسلم الجامع الصحيح مع شرح النووي: 14/ 215 – 216
(5)
مسلم، الصحيح مع شرح النووي: 14 / 288
(6)
ذكر الأطباء الذين التقيت بهم في المؤتمرات والندوات العلمية أن المرض لا ينتقل بالمعايشة في وقتنا الحاضر، وأن أبدوا تخوفًا من قدرة بعض الفيروسات والجراثيم على المقاومة للأدوية والمضادات والتغير في وسائل الانتقال. والله أعلم
المطلب الثاني
الحكم إذا كان المرض لا ينتقل بالمعايشة العامة والمصافحة
والأكل والشرب واستعمال الأدوات والمراحيض
هذا الأمر لم يحسم بعد عند الأطباء وإن كان توجه كثير منهم إلى عدم انتقاله، جاء في كتاب قصة الإيدز:(لا ينتقل فيروس الإيدز عن طريق اللعاب والعرق والدموع أو البول أو رذاذ التنفس أو المصافحة أو ماء حمام السباحة أو الحمامات العامة أو المراحيض أو الغذاء أو ماء الشرب)(1) .
هذا القول مع ما كان سائدًا يجعل من يريد تفريغ الأحكام الشرعية مترددًا بين احتمالين سبق الكلام وإعطاء الحكم على الاحتمال الأول، والحكم على الاحتمال الثاني هو عدم جواز عزله وحرمانه من التعليم والعمل لا سيما إذا كان المريض يتصرف في حياته تصرفًا مسؤولا لا يخشى منه الإضرار بغيره، فحقوقه العامة والخاصة لا يجوز المساس بها فلا ضرر ولا ضرار، والتدابير الوقائية التي تتخذ للحماية من كل مرض حسب طرق انتقاله من مريض إلى آخر.
فالضرورة تقدر بقدرها ولا يعطى الأمر أكثر مما يستحق، فمريض الإيدز يعاني من الآلام النفسية والصحية والاجتماعية والشيء الكثير ولذلك صرح بعض المصابين عندما طرد من عمله قائلًا:(إنك لا تعيش آلام الإيدز فقط ولكن تعيش منبوذا من المجتمع، وحتى إذا مت فإنهم يرفضون تجهيز جثتك)(2) .
فالضرورات تقدر بقدرها، ولذلك يذكر الأطباء الذين يرون عدم انتقاله بغير الوسائل الأربع المتفق عليها احتياطات تؤيدها الأدلة العامة والقواعد الكلية ومقاصد الشريعة العامة منها: أن منع الطفل المصاب من اللعب مع غيره في المدرسة واجب شرعي حيث إن اللعب يعد مصدرًا للجرح وعند حصول الجرح في مصاب وسليم ينتقل المرض عن طريق الدم، وكذا يؤكدون على وجوب أخذ الاحتياطات في المدرسة حين استعمال الأطفال للآلات الحادة وتبادلها بين سليم ومصاب، فثقب الجلد بأي طريقة واستعمال أدوات ملوثة وسيلة من وسائل انتقال المرض فيجب أخذ التدابير والاحتياطات اللازمة والكفيلة بمنع انتشار الأمراض حسب طبيعة انتقالها وذلك من ضمن الواجبات الشرعية على ولاة الأمور التي لا يجوز التهاون فيها أو الإخلال بها ومن لم يراع ذلك حكم بفسقه. والله أعلم.
(1) رفعت كمال، قصة الإيدز: ص 91
(2)
محمد البار ومحمد صافي، الإيدز: ص 89
المبحث الرابع
في الاحتياطات الواجب اتخاذها عند الحلق في الحج
للوقاية من أمراض الإيدز والالتهاب الكبدي
يوجد كثير من المهن التي يتم من خلالها انتقال العدوى سواء من العاملين أنفسهم أو من زبون إلى آخر فينتقل المرض من شخص إلى آخر حتى ينتشر المرض إلى عدد كير من أفراد المجتمع، والخبر الذي نقل 1989م أن مرض الإيدز انتشر في الاتحاد السوفيتي بسبب نقص أمواس الحلاقة وإبر الحقن التي يتكرر استخدامها، مؤشر قوي يحتم أخذ الحيطة، ولقد بلغ الاحتياط ببعض الأطباء والصيادلة أن يحلقوا البعضهم أو يذهبوا بأدواتهم من موسي حلاقة وغيرها إلى الحلاقين حيث تأكد لديهم أن استخدام آلة حادة ملوثة بالفيروس إذا استخدمت فجرحت مريضًا وسليمًا انتقل المرض إلى السليم كالإيدز والوباء الكبدي (1)، ولذلك يجب اتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة حتى تتم الوقاية من هذه الأمراض ومنها ما يلي:
1-
توزيع ماكينات حلاقة مجانية أو بثمن رمزي على جميع الحجاج عند دخولهم إلى البلاد وتنبيه الحجاج إذا لجأوا إلى الحلاقين عند الجمرات أو غيرها إلى وجوب استعمال هذه الأدوات ودون غيرها أو استخدام أدوات أخرى لم تستخدم من قبل (2) ، فالدولة أيدها الله والمواطنون في المملكة العربية السعودية يعملون كثيرًا في سبيل راحة الحجاج وحمايتهم بل لقد وصل الأمر إلى تقديم وجبات غذائية ومياه صحية مجانية للحجاج فكيف إذا تعلق الأمر بحماية الحجيج من وباء خطير بل من عدة أمراض الوسيلة الناقلة لها أدوات الحلاقة من أمواس وغيرها؟.
2-
توعية الحجاج في وسائل الإعلام المختلفة وتثقيفهم بكتابة ملصقات ونشرات بلغات الحجاج المختلفة توزع عند المطوفين وفي أماكن تجمع الحجاج حتى يعرف كل حاج خطورة ذلك ليجتنبه.
3-
تثقيف وتوعية الحلاقين (3) وتعريفهم بالأمراض التي يمكن أن تنتقل بسببهم وطرق انتقالها ووسائل الوقاية منها..
4-
التطعيم الإجباري لجميع العاملين من الحلاقين بلقاح التهاب الكبد الوبائي، والكشف الدوري عليهم للتأكد من سلامتهم ومنع الذين لم يطعموا أو يلتزموا بالاحتياطات من مزاولة المهنة.
5-
تعقيم الأدوات التي تستخدم تعقيمًا جيدًا إن لم يكن استخدام الأدوات مرة واحدة (4) .
6-
التنسيق الكامل بين وزارة الصحة – الطب الوقائي – والبلديات ومركز أبحاث الحج بحيث يتم أخذ عينات من القادمين من المناطق التي ينتشر فيها المرض فإن كانت نسبة المصابين عالية لزم أخذ الحذر في الأعوام القادمة قبل مغادرة الحجاج بلادهم عن طريق السفارات والقنصليات السعودية في الخارج وهذا يتوقف على حسم الرأي الطبي في انتقال المرض بالمعايشة فإن كان ينتقل بها وجب منعهم من الدخول، فالنبي صلى الله عليه وسلم منع المجذوم من الدخول على الصحابة وأرسل إليه إنا قد بايعناك فارجع، وعمر منع المجذومة من الطواف ولكن هذا الأمر ينبغي طرحه على مستوى منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الصحة العالمية حتى لا يكون سببًا في مشاكل سياسية قبل اتضاح خطورته وإن كان لا ينتقل بالمعايشة وجب اتخاذ الاحتياطات الكفيلة بمنع انتشاره عند الحلق.
7-
الاهتمام بالتثقيف والتوعية العامة في وسائل الإعلام المختلفة بخطورة المرض ووسائل انتقاله حتى يمكن تجنبها والحماية منها.
8-
وجوب تأكد الزبون من نظافة المحل والأدوات، وطلبه استعمال أدوات معقمة ونظيفة.
9-
ضرورة الزيارات الفجائية من قبل المسؤولين لهذه المحلات للتأكد من تطبيق أسس السلامة الوقائية.
(1) رفعت كمال، قصة الإيدز: ص 19. عكاظ، 24 / 8 /1413 هـ، عدد 9698
(2)
عكاظ، 24 / 8 / 1413 هـ، عدد 9698
(3)
قد يصعب توعية الحلاقين إذ إن الذين يمارسون الحلاقة في الحج غير معروفين قبل الموسم ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
(4)
عكاظ: 24 / 8 / 1413 هـ، عدد 9698، ومقابلة أجريتها مع بعض الأطباء بجامعة أم القرى وقسم الطب الوقائي بوزارة الصحة بمكة.
المبحث الخامس
الحكم الشرعي في اعتبار الإيدز مرض موت
ويمكن تقسيمه إلى مطلبين:
المطلب الأول: تعريف مرض الموت والعلاقة بينه وبين الإيدز.
المطلب الثاني: شروط مرض الموت.
المطلب الأول
تعريف مرض الموت والعلاقة بينه وبين الإيدز
حياة مريض الإيدز قد تطول، وإن كانت نهايته – بحسب معارف اليوم – محتومة الموت إلا أنه كالمصاب بالسرطان يمكن أن يعيش سنين عديدة. وقد آثار هذا الوباء الذي لم يسبق له نظير في التاريخ كثيرًا من الرعب والذعر والخوف وسبب آثارًا اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية.. ففي أوروبا أظهر استطلاع للرأي أجرته ثماني صحف أوروبية في بلدان مختلفة أن كلمة إيدز ليس له غير مدلول واحد لدى الناس وهو الموت، وأن الكلمتين أصبح لا فرق بينهما على الإطلاق (1) ولنعد مما شاع بين الناس الذين انتشر فيهم المرض وعرفوا وطأته وخطورته إلى أقوال الفقهاء الذين عرفوه وبينوا آثاره في تصرفات المريض (2) .
يمكن تقسيم أقوال الفقهاء إلى مذهبين:
المذهب الأول: مذهب أكثر الحنفية والإمام مالك.
ورد عن أكثر أهل الحنفية عدة أقوال:
فقيل: أن لا يقدر أن يقوم إلا أن يقام.
وقيل: إذا خطا ثلاث خطوات من غير أن يهادي فصحيح وإلا فمريض.
وقيل: أن لا يقدر أن يمشي إلا أن يهادي.
وقيل: أن لا يقوم بمصالحه خارج البيت ولا تقوم المرأة بمصالحها داخله.
وقيل: أن لا يصلي قائما (3) وذهب الإمام مالك إلى أن المرض الذي يقعد صاحبه عن الدخول أو الخروج مرض موت (4)
(1) المدينة عدد 9692 في 18 / 6 / 1414 هـ
(2)
مرض الموت لا يؤثر في عقود المعاوضات التي يقوم فيها كل من الطرفي. بدفع مال للآخر ويأخذ ما يقابله سواء كان هذا المال عينًا ومنفعة كالبيع والشراء بقيمة المثل وذلك فيما لا يخرج عن العادة وإنما تأثيره في التبرعات التي تقوم على أساس المنحة والمعونة من أحد الطرفين للآخر كالهبة والوصية.
(3)
الحصكفي، الدر المختار مع حاشية بن عابدين 3/ 307، وابن الهمام شرح فتح القدير 3/ 155
(4)
المواق، التاج والإكليلي، ص 785
وقد أرجع الكاساني هذه الأقوال إلى ضابط واحد بقوله:
والحاصل أن مرض الموت هو الذي يخاف منه الموت غالبًا (1) .
فمن اتصف بهذه الصفات يخاف عليه الموت كما ذكر – رحمه الله.
المذهب الثاني: المعتمد عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية أن مرض الموت ما يحصل الموت عنه وإن لم يغلب.
قال الدردير: وحجر على مريض ذكرًا كان أو أنثى سفيهًا أو رشيدًا إذا مرض مرضًا ينشأ الموت عنه عادة إن لم يغلب الموت عنه (2) .
وقال النووي: قال الإمام لا يشترط في المرض المخوف كون الموت منه غالبًا بل يكفي أن لا يكون نادرًا (3) .
ونقل البعلي عن ابن تيمية النص الآتي: ليس معنى المرض المخوف الذي يغلب على القلب الموت منه ويتساوى في الظن جانب البقاء والموت، لأن أصحابنا جعلوا ضرب المخاض من الأمراض المخوفة، وليس الهلاك غالبًا ولا مساويًا للسلامة وإنما الغرض أن يكون مسببًا صالحًا للموت فيضاف إليه، ويجوز حدوثه عنده، وأقرب ما يقال: ما يكثر حصول الموت منه فلا عبرة بما يندر منه ولا يجب أن يكون الموت منه أكثر السلامة (4) .
مناقشة:
تحديد مرض الموت بحركات خاصة غير منضبط، لأن تلك الأمور تختلف باختلاف الأشخاص قوة وضعفًا، وكما تختلف بنوع العمل الذي يقوم به الشخص، فالعامل الذي يقوم بالأعمال الشاقة غير الذي يقوم بالأعمال اليسيرة.
كما أن المريض قد يقوم ببعض الحركات محاولة منه لإنقاذ تصرفاته إذا علم أن عدم الحركة مؤثر في تصرفاته (5) .
(1) بدائع الصنائع (4 / 2070
(2)
الشرح الصغير (3 / 399)
(3)
روضة الطالبين: 6 / 130
(4)
اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية ص 191؛ وانظر البهوتي، كشاف القناع 4 / 323
(5)
ابن حميد، مرض الموت، ص14
وأما تحديد المرض بما يحصل منه الهلاك غالبًا فيلزم عليه ألا يحجر على الحامل حين الطلق، لأنه لا يغلب منه الهلاك ولا يتساوى الهلاك والنجاة في أزمانهم بل السلامة هي الغالبة (1) .
الراجح: ذهب الجمهور في تعريف مرض الموت إلى أنه ما يعتبر الموت بسببه غير نادر، ولا شك أن الإيدز إذا أصاب شخصًا فمصيره إلى الهلاك إذ لا علاج له عند الأطباء (2) ولا فرق بين كلمة إيدز وكلمة الموت عند من عرف خطورته في المجتمعات التي انتشر فيها وقد شبهه بعض الأطباء بالقنبلة التي يخشى انفجارها في أي وقت.
أضف إلى ذلك أن كثيرًا من مرضى الإيدز قد يصابون في بعض مرحل المرض ببعض الاضطرابات العصبية وأكثرها شيوعًا هو الاعتلال الدماغي المصاحب للإيدز الذي يحدث بسببه تغيرات سلوكية شبيهة بالخرف الموجب للحجر، والله أعلم (3)
المطلب الثاني
شروط مرض الموت
لعل العلة المؤثرة في تصرفات المريض هي: أنه إذا أحس دنو أجله وأنه سيرحل عما قريب ويترك أمواله احتملت تصرفاته حينئذ احتمالًا قويًا أنه قصد بها المحاباة لبعض الورثة، أو الإضرار بالبعض الآخر والغرماء فشرع الحجر عليه حماية لحقوق الوارثين والغرماء (4)
وقد اشترط الفقهاء لهذا المرض شرطين أساسيين:.
أحدهما: أن يصل هذا المرض إلى درجة من الخطورة والخوف على المريض من الهلاك إذ ليس كل مرض مميت، وينبغي الرجوع إلى الأطباء ليبينوا طبيعته هل هو مخوف أو لا؟
(1) ابن حميد مرض الموت، ص 14
(2)
المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، ص 42
(3)
المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، ص42.
(4)
ابن حميد مرض الموت، ص 10؛ حسين الجبوري، عوارض الأهلية، ص 297.
الثاني: أن يحصل الموت بعد المرض مباشرة سواء كان الموت بسببه أم بسبب آخر كقتل أو حرق أو تصادم.
فإن برئ من المرض فتصرفاته صحيحة، حيث ظهر أنها صدرت من الأهل في المحل ولا مانع من النفاذ (1) .
ولا فرق بين الأمراض المزمنة وغيرها فما خشي منه الهلاك فهو مرض موت، وما لم يخش منه الهلاك ليس كذلك.
جاء في المدونة سئل الإمام مالك – رضي الله عنه – عن أهل البلايا مثل المفلوج أو المجذوم أو الأبرص أو ما أشبه هؤلاء، في أموالهم إذا أعطوها أو تصدقوا بها في حالاتهم قال مالك: ما كان من ذلك أمرًا يخاف على صاحبه فلا يجوز له إلا في ثلث ماله وما كان من ذلك لا يخاف على صاحبه منه فرب مفلوج يعيش زمانًا (2) .
وجاء في شرح مجلة الأحكام العدلية مرض الموت مقيد بغير الأمراض المزمنة التي طالت ولم يخف منها الموت كالفالج ونحوه وإن صيرته ذا فراش (3) .
فمدار الحكم على خوف الهلاك حيثما وجد حجر على المريض وإن طال بقاء المرض، وما لم يوجد خوف الهلاك كانت تصرفات المريض تصرفات صحيح، وإن قصرت مدة المرض ومات به، والله أعلم.
(1) المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، ص 42، ابن حميد مرض الموت، ص 10؛ حسين الجبوري، عوارض الأهلية، ص 297
(2)
الإمام مالك 3 / 36؛ وانظر البهوتي كشاف القناع (4 / 324)
(3)
البار: ص 888
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أحمده حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على خير خلقه وعلى آله وصحبه وأسلم تسليمًا كثيرًا
…
وبعد:
فهذا آخر البحث الذي قمت به عن مرض الإيدز – نقص المناعة المكتسبة – وقد اتضح لي عدة نتائج أذكر أهمها ملخصًا فيما يلي:
1-
إن الله سبحانه وتعالى ما خلق من داء إلا وله دواء ولكن قد تحجب معرفته عن الناس عقوبة أو ابتلاء.
2-
إن مرض الإيدز لم يكتشف له علاج ولا مصل واق حتى أنهيت كتابة هذا البحث.
3-
إن العالم قد وصل إلى منتصف الطريق بمعرفة أكثر وسائل انتقاله وطرق الحماية منه.
4-
إن هذا المرض عقوبة معجلة بسبب البعد عن منهج الله القويم وطريقه المستقيم فهو ينتشر في الشاذين جنسيًا والزناة ومدمني المخدرات ومن له علاقة بهم.
5-
ظهور بعض المعجزات التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) . . . . (1) .
(1) ابن ماجه، السنن 2 / 1333
وقوله: ((لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشى فيهم ولد الزنى فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب)) (1)
وهذا المرض الخطير والوباء العظيم الذي ظهر في فئات المجرمين وغيرهم عقوبة من عقوباته سبحانه وتعالى على ارتكاب معاصيه.
6-
حيث إن المرض ينتقل بالمعاشرة الجنسية فإذا أصاب أحد الزوجين كان للآخر حق المفارقة ووجوب الاحتياط ومتابعة حالته إن حصلت معاشرة جنسية بينهما.
7-
إيقاف الرضاعة من الأم المصابة إذا توفر البديل المناسب.
8-
منع المرأة المصابة من الحمل محافظة على صحتها من التدهور وحماية للطفل من العدوى.
9-
عدم جواز إجهاض الجنين المصابة أمه بعد نفخ الروح فيه.
10-
وجوب الاحتياط والحذر في حضانة المصاب لطفل سليم حتى يقطع بعد انتقال المرض بالملاصقة بين المصاب والسليم.
11-
جناية المريض وتسببه في إصابة غيره قد تكون من باب الفساد في الأرض وقد تكون من صور القتل العمد بالأسباب الخفية وقد تكون قتل خطأ موجب للدية والكفارة وقد تكون بسبب تفريط الأطباء والفنيين في المستشفيات أثناء نقل الدم ومشتقاته أو استعمال الإبر.
12-
مرض الإيدز مرض موت تترتب عليه آثاره.
13-
لزوم تكثيف التوعية للحجاج بخطورة الحلاقة المتكررة بآلة واحدة لعدة مرات ومنع المرضى والذين لا يتخذون الاحتياطات اللازمة من مزاولة هذه المهنة.
14-
حينما يؤدي كل دوره بداية من الأسرة حماية وتوعية ومضيًا إلى دور التعليم والتربية وانتقالًا إلى مجالات الحياة المختلفة في المسجد ومواقع العمل وسائر الأنشطة اليومية وذلك برسم أهداف متكاملة تنفذ بوسائل تتم السيطرة على المرض والحماية منه بإذن الله.
وصدق الله إذ يقول: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1) أحمد بن حنبل، المسند: 6/ 333
فهرس المصادر والمراجع
- البابرتي، العناية على هامش فتح القدير.
- البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري، مطابع الشعب:1378.
- البسام، نيل المآرب، الطبعة الأولى، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة.
- البعلي، اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق الفقي، مكتبة السداوي.
- البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مطبعة أنصار السنة المحمدية:1316.
- البهوتي، كشاف القناع، مكتبة النصر الحديثة – الرياض.
- البيهقي، السنن الكبرى، الطبعة الأولى: 1353 هـ، دار المعارف العثمانية الهند.
-ابن تيمية، القواعد النورانية، الطبعة الأولى: 1392 هـ، مكتبة الكليات الأزهرية.
- الثبيتي، التفريق بين الزوجين، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث
- الجبوري، عوارض الأهلية عند الأصوليين، جامعة أم القرى.
- ابن حزم، المحلى، تحقيق محمد منير الدمشقي، مكتبة الجمهورية العربية: 1387 هـ.
- الحلي، شرائع الإسلام، الطبعة الأولى:1389.
- ابن حميد، مرض الموت، رسالة ماجستير بجامعة أم القرى.
- ابن حنبل، المسند الطبعة الثانية 1398 هـ، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت.
- الخرشي، شرح مختصر خليل، دار صادر.
- ابن خطيب الدهشة، مختصر قواعد العلائي.
- أبو داود، السنن، تحقيق: محمد محيي الدين، دار إحياء السنة النبوية.
- الدردير، الشرح الصغير، دار المعارف.
- الدردير، الشرح الكبير، على هامش حاشية الدسوقي.
- الدسوقي، حاشية على الشرح الكبير – المكتبة التجارية الكبرى، دار الفكر.
- رفعت كمال، قصة الإيدز، مطابع دار أخبار اليوم.
- الرملي، نهاية المحتاج، المكتبة الإسلامية، رياض الشيخ.
- الزيلعي، تبيين الحقائق، الطبعة الأولى:1313 هـ، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق – مصر.
- السرخسي، المبسوط، الطبعة الأولى، مطبعة السعادة.
- السيوطي، الأشباه والنظائر، دار إحياء الكتب العربية.
- ابن الشحنة، لسان الحكام مع معين الحكام.
- الشربيني، مغني المحتاج، المكتبة الإسلامية.
- الشوكاني، نيل الأوطار، مصطفى البابي الحلبي.
- ابن أبي شيبة، المصنف، الطبعة الأولى: 1390 هـ، مطبعة العلوم الشرقية.
- الصاوي، حاشية علي الشرح الصغير، على هامش الشرح الصغير.
- الصنعاني، سبل السلام، الطبعة الرابعة: 1379 هـ، مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
- الصنعاني، المصنف، الطبعة الأولى.
- الطرابلسي، معين الحكام، الطبعة الثانية: 1393 هـ، مصطفى الحلبي.
- ابن عابدين، حاشية رد المحتار، الطبعة الثانية: 1386 هـ، مصطفى البابي الحلبي.
- عبد الرحمن بن حسن، فتح المجيد، الطبعة الأخيرة، 386 هـ، مطبعة المشهد الحسيني.
- الصنعاني، المصنف، الطبعة الأولى.
- الطرابلسي، معين الحكام، الطبعة الثانية: 1393 هـ، مصطفى الحلبي.
- ابن عابدين، حاشية رد المحتار، الطبعة الثانية: 1386هـ، مصطفى البابي الحلبي.
- عبد الرحمن بن حسن، فتح المجيد، الطبعة الأخيرة: 1386 هـ، مطبعة المشهد الحسيني.
- العلائي، المجموع المذهب في قواعد المذهب – مخطوط.
- الفتوحي، منتهى الإرادات، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، مكتبة دار العروبة.
- الفيروز آبادي، القاموس المحيط، المؤسسة العربية للطباعة والنشر.
- الفيومي، المصباح المنير، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
- ابن قاسم، حاشية علي تحفة المحتاج، دار صادر.
- ابن قدامة، المغني، مكتبة الجمهورية.
- قليوبي حاشية علي شرح المحلى على المنهاج، الطبعة الثالثة: 1375 مصطفى البابي الحلبي.
- قيس مبارك، التداوي والمسؤولية الطبية، الطبعة الأولى: (1412 هـ، مكتبة الفارابي.
- ابن القيم، تحفة المودود في أحكام المولود، الطبعة الأولى: 1391 هـ، مكتبة دار البيان.
- زاد المعاد، الطبعة الثالثة: 1392 هـ، دار الفكر.
- الطب النبوي.
- مفتاح دار السعادة، دار الكتب العلمية – بيروت.
- الكاساني، بدائع الصنائع، مطبعة العاصمة – بالقاهرة.
- ابن ماجه، السنن، الطبعة الأولى، المطبعة التازية.
- المحلى، شرح المنهاج على هامش حاشيتي قليوبي وعميرة، ط 3: 1385 هـ مصطفى البابي.
- محمد علي البار، العدوى بين الطب وحديث المصطفى، دار الشروق.
- محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز، الطبعة الأولى: 1407 هـ، دار المنارة.
- محمد فيض الله، نظرية الضمان، الطبعة الأولى: 1403 هـ، مكتبة دار التراث – الكويت.
- المرتضى، البحر الزخار، الطبعة الأولى: 1367 هـ.
- المرداوي، الإنصاف، الطبعة الأولى: 1367 هـ
- مسلم، الجامع الصحيح مع شرح النووي.
- الموصلي، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين.
- ابن نجيم، الأشباه والنظائر، مؤسسة الحلبي وشركاه: 1387 هـ
- النووي، روضة الطالبين المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
- شرح صحيح مسلم، الطبعة الثانية: 1392 هـ
- ابن الهمام، فتح القدير، الطبعة الأولى: 1315 هـ، المطبعة الأميرية ببولاق – مصر.
- الصحف: صحيفة عكاظ – صحيفة المدينة – صحيفة الهدف.