الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سد الذرائع
إعداد
الشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد
المفتي الشرعي بدائرة القضاء الشرعي
أبو ظبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين سيدنا محمد القائل:
((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) (1) . وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
فقد استلمت موضوعات الدورة التاسعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي وهي موضوعات ذات أهمية كبيرة لما ترمز إليه من أحكام هامة في أصول الفقه وفروعه.
ولقد وقع اختياري على الموضوع الأول، موضوع: سد الذرائع وهو موضوع أصولي ويتضمن بحثي.
1-
تعريف الذرائع وبيان معنى سدها.
2-
الفرق بين الذريعة والسبب، وبين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه.
3-
المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية، ومدى الوفاق والخلاف بينهما.
4-
أقسام الذرائع بحسب القطع لتوصيلها إلى الحرام وعدم القطع، وأحكامها وشروطها.
5-
موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع مع تحرير محل النزاع في ذلك.
6-
هل الأخذ بالذرائع مما اختص به المذهب المالكي أو أن الأخذ بها ثابت في كل المذاهب وإن لم تصرح به؟ شواهد من فقه الأئمة الأربعة على العمل بسد الذرائع.
7-
أثر القول بسد الذرائع: اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية.
8-
أمثلة لفتح الذرائع وسدها.
9-
خلاصة البحث.
(1) صحيح البخاري 1/39، وصحيح مسلم 2/719
أولًا: تعريف الذرائع: وبيان معنى سدها:
الذرائع لغة: جمع ذريعة، وهي الوسيلة قال في اللسان (والذريعة: الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعة أي توسل، والجمع الذرائع، والذريعة مثل الدريئة: جمل يختل به الصيد، يمشي الصياد على جنبه فيستتر به ويرمي الصيد إذا أمكنه) .
قال: (وقال ابن الأعرابي: سمي هذا البعير الدريئة والذريعة ثم جعلت الذريعة لكل شيء أدنى من شيء وقرب منه وأنشد:
" وللمنية أسباب تقربها كما تقرب للوحشية الذرع (1) "
وتعريفها شرعًا: لا يختلف كثيرًا عن مفهومها اللغوي، فعرفها الأصوليون بأنها الوسيلة والطريق إلى الشيء، سواء كان مشروعًا أو غير مشروع، فإذا كان المتوسل إليه مشروعًا شرع فتحها وإذا كان ممنوعًا شرع سدها.
قال القرافي: (واعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها ويكره ويندب ويباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن الوسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي إلى الجمعة والحج)(2) .
وعرفها ابن تيمية فقال: (والذريعة ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء لكن صادر في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم تكن فيها مفسدة) .
قال: (وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، وبما يخفي على الناس من خفي هواها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة)(3) .
وعرفها ابن القيم فقال: (الذريعة ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء) .
وفصل ذلك بقوله: (لما كانت المقاصد لا يتوسل إليها بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها.
فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غايتها، وارتباطها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل.
(1) لسان العرب مادة ذرع.
(2)
تنقيح الفصول. ص448 ـ 449
(3)
الفتاوى الكبرى 3/193 ـ 140
فإذا حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له، ومنعًا أن يقرب حماه) (1) .
وعرفها كل من الشاطبي والقرطبي تعريفًا وجيزًا.
فقال الشاطبي: (حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى ما هو مفسدة، ومثل لها ببيوع الآجال (2) . الآتي ذكرها إن شاء الله.
وقال القرطبي: (الذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع)(3) .
هذا وقد اتضح لنا من خلال تعريف الذريعة لغة، ومن خلال تعريفها شرعًا عند القرافي وابن تيمية أنها عبارة عما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء سواء كان خيرًا أو شرًا.
وأنها في عرف الفقهاء أصبحت عبارة عن وسيلة يتوصل بها إلى ما هو ممنوع، وهذا ما اقتصر عليه الشاطبي والقرطبي.
وهو الموافق لما أضيف إليها من السد حتى أطلق عليها سد الذرائع.
غير أنها وإن كان هذا الاسم هو الذي أطلق عليها، وصارت عند الأصوليين معروفة به، فإن المعنى الآخر وهو فتحها المشروع أمر معترف به عند الأصوليين أيضًا، فلها حكم ما تفضي إليه من حرام أو حلال.
(1) إعلام الموقعين 3/ 135
(2)
الموافقات في أصول الشريعة 4/ 199
(3)
الجامع لأحكام القرآن 2/58
قال القرافي: (وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها كحكم ما أفضت إليه من تحليل أو تحريم، غير أنها أخص رتبة من المقاصد في حكمها.
فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة) (1) . ومثل للذريعة التي تفضي إلى مصلحة بقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَاّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] .
وأما الذريعة التي تفضي إلى المفسدة فمن أمثلتها قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) قيل: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه.)) أخرجه البخاري واللفظ له عن ابن عمر مرفوعاً (2) .
وأخرجه مسلم ولفظه: (من الكبائر شتم الرجل والديه) قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: (نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)(3) .
قال في الفتح: (قال ابن بطال: هذا الحديث أصل في سد الذرائع ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم. (4))
أما سد الذرائع فمعناه الحيلولة دون الوصول إلى المفسدة أي حسم مادة وسائل الفساد دفعًا له، فأي فعل كان بمفرده سالمًا من الفساد، فإنه إذا كان وسيلة إلى ارتكاب مفسدة واقتراف إثم أصبح ممنوعاً (5) . يجب تجنبه والابتعاد عنه وسد الباب دونه (6) . وبالمقابل فإن الوسيلة ـ كما أسلفنا ـ إذا كانت تفضي إلى مصلحة يشرع فتحها؛ فيجب فتحها إلى الواجب، ويندب إلى المندوب، ويباح إلى المباح (7) .
وسنتعرض لذلك بالتفصيل عن كلامنا على أنواع الذرائع إن شاء الله.
(1) تنقيح الفصول ص 449
(2)
صحيح البخاري 5/2228
(3)
صحيح مسلم 1/92
(4)
فتح الباري 10/ 338
(5)
نشر البنود على مراقبي السعود 2/265
(6)
نشر البنود على مراقبي السعود 2/265
(7)
نشر البنود على مراقبي السعود 2/265
ثانيًا: الفرق بين الذريعة والسبب، وبين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه.
تقدم تفسير الذريعة لغة وشرعًا، وأما السبب فهو لغة الحبل وكل شيء يتوصل به إلى غيره (1) .
ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى الشيء، قال تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36ـ 37] .
قال النسفي: (أي طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها، وكل ما أدى إلى شيء فهو سبب له)(2) .
وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] .
قال القرطبي: (الأسباب: الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره، عن مجاهد وغيره، الواحد: سبب ووصلة، وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه، ثم جعل كل ما جر شيئًا سبباً)(3) .
وهكذا نرى أن الذريعة والسبب يشتركان في بعض المعاني ويختلفان في بعضها.
وقد فرق ابن تيمية بينهما في كتابة " الفتاوى الكبرى " فقال:
(الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل محرم، أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر وإفضاء الزنى إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادًا كالقتل والظلم فهذا ليس من هذا الباب) .
(1) الصحاح مادة سبب.
(2)
تفسير النسفي 4/ 79
(3)
الجامع لأحكام القرآن: 2 /206
فإنا نعلم أنما حرمت الأشياء لكونها في نفسها فسادًا بحيث تكون ضررًا لا منفعة فيه، أو لكونها مفضية إلى فساد، بحيث تكون هي في نفسها منفعة وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم.
فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة وإلا سميت سببًا. (1))
وعليه فإن الفرق بين الذريعة والسبب يعتبر دقيقًا جدًا.
فظاهر كلام ابن تيمية أنه إذا كان الإفضاء إلى المفسدة ليس فعلًا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنى إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادًا كالقتل فهذا يعتبر من باب السبب.
وإن كان الإفضاء فعلًا كبيع السلاح في زمن الحرب، وسب آلهة المشركين إذا علم أن ذلك يفضي إلى سب الله عز وجل، فإن ذلك يعتبر من الذرائع.
أما فيما يخص الفرق بين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه.
فقد ذكرنا في تعريف الذريعة أنها الوسيلة إلى الشيء خيرًا كان أو شرًا، فإذا كان المتوسل إليه مشروعًا شرع فتحها وإن كان ممنوعًا وجب سدها، وذكرنا أنها صارت في عرف الفقهاء عبارة عن التي تفضي إلى محرم، ولذلك أضيف إليها سدها، لكنها وإن غلب إضافة سدها ـ فقد ظلت أيضا مفتوحة لكل ما تفضي إليه من مصلحة.
وهذا المعنى تشترك فيه الذريعة والوسيلة في معنى واحد فكل ما كان ذريعة لشيء يعتبر وسيلة له في هذا المجال.
(1) الفتاوى الكبرى: 3/ 139
أما الوسيلة فلها معان بعضها تشترك فيه مع الذريعة.
فالوسيلة لغة هي: ما يتقرب به إلى الغير، والجمع: الوسيل والوسائل قاله في الصحاح (1) .
ومن هذا المعنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] .
والوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، والجمع وسائل، قاله في النهاية في غريب الحديث والأثر (2) .
ومن معانيها أيضًا أنها منزلة في الجنة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) أخرجه مسلم (3) .
وعليه فإن ما ذكر ابن الأثير في النهاية من معنى الوسيلة تتفق فيه مع الذريعة، فتتفقان في المعنى المستلزم للوصول إلى المتوسل إليه، ومما تنفرد به الوسيلة أنها منزلة في الجنة، ومعنى هذا أن الوسيلة أعم من الذريعة.
(1) صحاح الجوهري مادة وسل.
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر: 5/185
(3)
صحيح مسلم: 1/288 ـ 289
ثالثا:المقارنة بين الذرائع والحيل والفقهية، مدى الوفاق أو الخلاف بينهما؟
لقد تقدم تعريف الذرائع لغة وتعريفها شرعًا، فأتينا بتعريف كل من القرافي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم.
أما الحيل فمفردها حيلة ومعناها لغة الاحتيال.
قال في الصحاح: (والحيلة بالكسر الاسم من الاحتيال، وهو من الواو، وكذلك الحيل والحول، يقال: لا حيل ولا قوة، لغة في حول، قال الفراء: يقال هو أحيل منك أي أكثر حيلة، وما أحيله لغة في ما أحوله)(1) .
أما تعريفها شرعًا فقال الشاطبي: (إن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظرف إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع) .
ومثل الشاطبي لذلك بالذي يهب ماله عند رأس الحول، أي قبيله، فرارًا من الزكاة فقال:(إن أصل الهبة مشروع، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعًا، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة والمفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد كان مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية) .
ثم قال: (ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضًا، لكن على حكم الانفراد) . قال: (ولا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحًا ممنوع، أما إبطالها ضمنًا فلا.)(2)
(1) الصحاح للجوهري مادة حيل
(2)
الموافقات في أصول الشريعة 201
وعرفها ابن تيمية بقوله: (والحيلة مشتقة من التحول وهو النوع من الحلول كالجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، وكالأكلة والشربة من الأكل والشرب، ومعناها نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي هو التحول من حال إلى حال هذا مقتضاها في اللغة.
ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض، وبحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت الحيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت قبيحة.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((ولا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قصد بها الحيل التي يستحل بها المحارم كحيل اليهود (1) . وكل حيلة تضمنت إسقاط حق لله أو للآدمي فهي تندرج فيما تستحل به المحارم (2) .
وبالنظر إلى ما تقدم في تعريف كل من الذرائع والحيل نرى أن بينهما ترابطًا كبيرًا فهما متشابهتان، والكلام فيهما متداخل وإن من كتب عن إحداهما غالبًا يكتب عن الأخرى.
فالشاطبي كتب أولًا عن الحيل في الجزء الثاني من الموافقات، وأتى بأمثلة كثيرة، هي الأمثلة نفسها التي مثل بها ابن تيمية للذرائع (3) .
ثم إن الشاطبي أتى بسد الذرائع في الجزء الرابع وأتبعها أيضًا بالحيل ومثله ابن القيم أما ابن تيمية فبعد أن أفاض الكلام على الحيل أتبعها بسد الذرائع.
وفي تعريف القرافي للذرائع قال إنها الوسيلة والطريق إلى الشيء، سواء كان مشروعًا أو غير مشروع، ولذلك يجب فتحها للواجب وسدها عن المحرم، إلا أنها غلب عليها الاستعمال في أمر ظاهره الجواز لكنه يؤول إلى الحرام.
والشيء نفسه لاحظناه في تعريف ابن تيمية للحيل فذكر أن الحيل غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض.
قال: (فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت الحيلة حسنة وإن كان قبيحًا كانت قبيحة) . ثم قال: وإنها صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قصد بها الحيل التي تستحل بها المحارم كحيل اليهود) .
(1) حيل اليهود منها أنهم حرمت عليهم الشحوم فأذابوها وجعلوها ودكًا فباعوها لحديث: قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها.) أخرجه الشيخان عن عمر مرفوعًا ـ البخاري 2/774 ـ 775 ومسلم 3/1037
(2)
الفتاوى الكبرى 3/83
(3)
الموافقات 2/384، والفتاوى الكبرى 3/ 143
والشاطبي في كلامه على الحيل ذكر أن المذموم من الحيل والمنهي عنه منها هو: ما هدم أصلًا شرعيًا وناقض مصلحة شرعية.
فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلًا شرعيًا ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها، فغير داخله في النهي ولا هي باطلة.
ومرجع الأمر فيها إلى أنواع ثلاثة:
أحدهما: لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين (1) . قال:
وأما القسم الثالث: فهو محل الإشكال والغموض وفيه اضطربت أنظار النظار، ومثل له بنكاح المحلل وبيوع الآجال (2) . الآتي ذكرها إن شاء الله.
وتقسيم الشاطبي للحيل على هذه الأنواع الثلاثة شبيه بتقسيم القرافي للذرائع.
وهذا مما يؤكد التشابه والترابط بين الحيل والذرائع، غير أن هناك شرطًا تختص به الحيل دون الذرائع ألا وهو القصد، فالحيل كما أسلفنا يشترط فيها القصد، ولا كذلك الذرائع.
وعليه فإن الذرائع أعم من الحيل لأنها تقع بقصد وبغير قصد، وسيتضح ذلك عندما نتعرض لأنواع الذرائع إن شاء الله.
وباستطاعتنا أن نعطي أمثله لما تتفق فيه الحيل والذرائع وما تختلف فيه.
فمثال ما كان ذريعة وحيلة في نفس الوقت: بيوع الآجال كبيع سلعة بدين وشرائها بأقل نقدًا أو لدون الآجل.
(1) حيل المنافقين ذكرها القرآن في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} الآيات. [البقرة 8ـ20]
(2)
والأصل في ذلك قوله تعالى: {إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]
ومثال ما اجتمعت فيه الذريعة والحيلة مما هو مشروع: بيع رديئ التمر بدراهم وشراء جيده بتلك الدراهم، فهذا النوع يعتبر من الذرائع والحيل المباحة، أدرجه القرافي في باب الذرائع، وأدرجه ابن تيمية في باب الحيل (1) .
والأصل في جوازه ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: (لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا)(2) . وفي رواية: (إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع) . والجنيب: أعلى التمر، والجمع أدناه (3) .
ومثال ما كان ذريعة وليس حيلة سب آلهة المشركين، وسب المسلم والدي المشرك؛ لأن السابّ لم يقصد بهما إبطال حكم شرعي.
ومثال ما كان حيلة وليس ذريعة بيع النصاب قبيل الحول بقصد الفرار من الزكاة.
(1) الفروق للقرافي: 3/128 والفتاوى الكبرى: 3/152
(2)
صحيح البخاري: 2/ 767، وصحيح مسلم: 3/1215
(3)
إكمال الإكمال للأبي: 4/276
رابعًا: أقسام الذرائع بحسب القطع بتوصيلها للحرام أو عدم القطع، أحكامها وشروطها:
لقد قسم الأصوليون الذرائع إلى أقسام نذكر منها ما يلي:
أ- تقسيم القرافي وابن عاصم للذرائع:
قال القرافي: (لقد أجمعت الأمة أنها ـ أي الذرائع ـ ثلاثة أقسام:
أحدها: معتبر إجماعًا كحفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم على أطعمتهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله ـ تعالى ـ حينئذ.
وثانيهما: ملغي إجماعًا كزراعة العنب، فإنه ما يمنع خشية الخمر، والشركة في سكنى الدار خشية الزنى.
وثالثها: مختلف فيه كبيوع الآجال، اعتبرنا نحن الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا) (1) .
ومثل هذا لابن عاصم، قال في مرتقى الوصول:
وعندهم سد الذرائع انحتم
في مثل الامتناع عن السب الصنم
وبعضها لم يعتبر كالحجر
من اغتراس الكرم خوف الخمر
وقسمها الثالث عند مالك
معتبر لديه في المسالك (2)
وتبعهما في ذلك الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي فقال في مراقي السعود:
سد الذرائع إلى المحرم
حتم كفتحها إلى المنحتم
وبالكراهة وندب وردا
وألغ إن كان الفساد أبعدا
أو رجع الاصطلاح كالأسارى
تفدي بما ينفع للنصارى (3)
(1) تنقيح الفصول ص/290
(2)
نيل السول على مرتقى الوصول: ص/ 199
(3)
نشر لبنود على مراقي السعود 2/265 ـ 266
وقول القرافي: (كبيوع الآجال اعتبرنا نحن الذريعة فيها وخالفنا غيرنا) لعله يعني الشافعي لأنه هو الذي أجاز بيوع الآجال. أما أبو حنيفة وأحمد فمنعاها، وسنتعرض لذلك بالتفصيل ـ إن شاء الله ـ عندما نتناول النقطة الخامسة من هذا البحث وهي:(موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع) .
وقول العلامة سيدي عبد الله الشنقيطي: (كالأسارى تفدي بما ينفع للنصارى) يشير به إلى قول القرافي: (قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راحجة كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال للعدو. الذي هو محرم عليهم الانتفاع به لكونهم مخاطبين بفروع الشريعة عندنا)(1) .
وذلك لأن الرشوة محرمة على الراشي والمرتشي لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح (2)
قال الخطابي: (الراشي: المعطي، والمرتشي: الأخذ، وإنما تلحقهما العقوبة معًا إذا استويا في القصد والإرادة، فرشا المعطي لينال به باطلًا، ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا رشا ليتوصل به إلى حق، أو يدفع به عن نفسه ظلمًا، فإنه غير داخل في هذا الوعيد، وقد روي أن ابن مسعود أخذ في سبي وهو بأرض الحبشة، فأعطى دينارين حتى خلي سبيله)
قال: (وكذلك الأخذ إنما يستحق الوعيد إذا كان ما يأخذه على حق يلزمه، فلا يفعل ذلك حتى يرشي، أو عمل باطل يجب عليه تركه فلا يتركه حتى يصانع ويرشي)(3) .
(1) تنقيح الفصول 249
(2)
المسند 2/ 164، وسنن أبي داود 4/9 ـ 10 ط دار الحديث ـ حمص ـ سوريا، وسنن ابن ماجة 2/775 وسنن الترمذي 3/623 ط دار الكتب العلمية ـ بيروت.
(3)
معالم السنن مع مختصر سنن أبي داود 5/207
ب- تقسيم الشاطبي للذرائع:
قسم الشاطبي الذرائع باعتبار ما تؤدي إليه وما يترتب عليها من مفسدة أو مصلحة فجعلها ثلاثة أنواع، إلا أن أحد أنواعها على وجهين فصارت عنده في الواقع أربعة أنواع:
1-
نوع يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيًا كحفر بئر خلف باب الدار بحيث إذا مر بها المار في الظلام وقع فيها لا محالة، فهذه البئر إذا كانت محفورة في طريق المسلمين فلا خلاف في منعها وضمان صاحبها.
2-
نوع يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا كحفر بئر في موضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيها، وكبيع الأغذية التي لا تضر غالبًا وكزراعة العنب، فهذا النوع باق على ما هو عليه من الإذن والجواز، فلا يترك حفر البئر في مكان لا تضر فيه غالبًا ولا يترك بيع الأغذية المذكورة ولا تترك زراعة شجر العنب خشية عصره خمرًا؛ لأن المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالندور في انخرامها.
3-
ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا نادرًا وهو على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون غالبًا كبيع السلاح لأهل الحرب وبيع العنب للخمار وبيع ما يغش به لمن شأنه الغش.
وقال: إن هذا الوجه: (أداؤه إلى المفسدة ظني فيحتمل الخلاف، أما أن الأصل الإباحة والإذن فظاهر، وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنًا، فهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع أم لا، لجواز تخلفهما؟ وإن كان التخلف نادرًا، ولكن اعتبار الظن وهو الأرجح لأمور.
منها أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم، والظاهر جريانه هنا.
ومنها أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل هذا القسم، كقوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وذكر له أيضًا أدلة أخرى منها: (إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] .
الوجه الثاني: أن يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا، لا غالبًا ولا نادرًا كمسائل بيوع الآجال فهذا الوجه محل نظر والتباس.
قال: (والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي وغيره) ثم قال: (إلا أن مالكًا اعتبره في سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعاً)(1) ، وظاهر كلام الشاطبي أن مالكًا اختص بهذا الوجه من سد الذرائع، ولعله لم يطلع على أن أحمد قال به أيضًا، وسنأتي بمذاهب الأئمة فيه إن شاء الله.
(1) الموافقات في أصول الشريعة 2/ 348 ـ 361
جـ- تقسيم ابن القيم للذرائع:
لقد قسم ابن القيم الذرائع إلى أربعة أنواع وسماها وسائل فقال:
1-
وسيلة وضعت للإفضاء إلى مفسدة كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنى المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد.
2-
وسيلة وضعت لمباح، وقصد بها التوسل إلى المفسدة كمن يعقد النكاح قاصدًا تحليل المطلقة لمن طلقها ثلاثًا، أو يعقد البيع قاصدًا به الربا ونحو ذلك.
3-
وسيلة وضعت لمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها، كسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وكالصلاة في أوقات النهي لغير سبب ونحو ذلك.
4-
وسيلة وضعت للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها كالنظر إلى المخطوبة والمشهود عليه، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي (1) .
وقال: إن الشريعة جاءت بإباحة هذا القسم الأخير أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة، وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريمًا بحسب درجاته في المفسدة.
قال: بقي النظر في القسمين: الثاني والثالث، هل جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ وقال إن الدلالة على المنع تلاحظ من وجوه، وسرد على ذلك أدلة بلغت تسعة وتسعين وجهًا، منها قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] .
ومنها أنه تعالى نهى عن البيع وقت النداء للجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضور الجمعة.
ومنها أن الآثار في تحريم العينة تدل على المنع من عود السلعة إلى البائع وإن لم يتواطأ على الربا، وما ذاك إلا سد للذريعة (2) .
ومعلوم أن العينة عند الحنابلة بمثابة بيوع الآجال عند المالكية.
(1) مثل تحية المسجد بعد صلاة العصر
(2)
إعلام الموقعين: 3/136، 159
وإذا استعرضنا التقسيمات الآنفة الذكر نجد أن القرافي وابن عاصم قسما الذرائع ثلاثة أنواع وذكر القرافي إجماع الأمة على ذلك، بينما جعلها الشاطبي وابن القيم أربعة أنواع، غير أن تقسيم الشاطبي لم تتسع فيه الهوة بينه وبين تقسيم القرافي وابن عاصم.
فالقرافي وابن عاصم جعلا ما كان أداؤه إلى المفسدة قطعيًا أو ظنيًا نوعًا واحدًا، أما الشاطبي فجعلهما نوعين.
إلا أن الراجح عنده أن ما كان أداؤه إلى المفسدة ظنيًا لا يختلف حكمه مع ما كان أداؤه إليها قطعيًا قائلًا إن الظن يجري مجرى اليقين على الأرجح.
وعليه فإن اختلافهما في التقسيم يكاد يكون لفظيًا، يدل على ذلك أن ما مثل به القرافي للقسم المجمع على منعه مثل به الشاطبي للقسم الذي كان أداؤه للمفسدة غالبًا أي ظنيًا.
وهو قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
وأما تقسيم ابن القيم للذرائع فإنه يختلف مع تقسيم القرافي وابن عاصم من وجهين.
أحدهما: أنه جعل المسكر ذريعة ووسيلة للسكر، والقذف وسيلة للفرية، والزنى وسيلة لاختلاط المياه وفساد الفراش.
فهذا النوع لم يجعله الجمهور ذريعة للفساد؛ لأنه فساد لذاته.
ثانيهما: أنه سوى بين ما كان أداؤه إلى المفسدة غالبًا، وما كان أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لكنه غير غالب حيث قال:(يبقى النظر في القسمين الثاني والثالث) وقال: إن الدلالة على المنع تلاحظ من وجوه، وأتى بتسعة وتسعين وجهًا، منها النهي عن سب آلهة المشركين.
ومنها النهي عن بيوع العينة دون أن يفرق بينهما في الحكم.
علمًا بأن القرافي وابن عاصم فرقا بينهما فجعلا النهي عن سب آلهة المشركين من المتفق عليه إذا علم أن ذلك يؤدي إلى سب الله عز وجل، وجعلا قسم العينة مما اختلف فيه الأئمة وتقدم أن بيوع العينة عند الحنابلة هي بيوع الآجال عند المالكية.
وهذا وقد بينا أحكام الذرائع في كلامنا على أقسامها عند كل من القرافي وابن عاصم والشاطبي وابن القيم، فلا داعي لإعادتها، وما بالعهد من قدم.
أما ما يخص الشروط في الذرائع فقد تقدم عند كلامنا على المقارنة بين الذرائع والحيل أن الذريعة لا يشترط فيها القصد، فقد يكون إفضاؤها إلى المحرم بغير قصد وقد يكون بقصد، أما الحيلة فيشترط فيها القصد، وقد أوضحنا ذلك في النقطة الرابعة الآنفة الذكر.
فذكرنا ما تنفرد به الذريعة، وما تنفرد به الحيلة، وما يجتمعنا فيه.
خامسًا: موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع، مع تحرير محل النزاع في ذلك:
لقد أخذ جميع الأئمة بسد الذرائع وعملوا به في كثير من فروعهم وإن كان بعضهم لم يصرح به من جهة التأصيل، ولقد ذكرنا في الكلام على أقسام الذرائع أن قسمًا منها أجمعت الأمة على منعه فعمل به جميع أئمة المذاهب، وقسما أجمعت على إلغائه.
وأن القسم الثالث هو الذي اختلفوا في العمل به وهو ما سنتناوله عند كلامنا على تحرير محل النزاع بين الأئمة في الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع.
وعليه فإن الأئمة كلهم عملوا بسد الذرائع على الإجمال وإن مالكًا لم يختص به كما زعمه بعض المالكية.
فحفر البئر في طريق المسلمين وسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم وسب المسلم والدي المشرك إذا علم أنه بذلك يسب والديه ونحو ذلك، كل هذا مجمع على منعه كما أسلفنا.
فالذين يعلمون بسد الذرائع يحتجون على منعه بسد الذرائع، وإن كان النص ورد في النهي عنه.
أما الذين لا يحتجون بسد الذرائع فيرون أن منعه ليس من هذا الباب بل من باب أن ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام، ومن باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (1) .
هذا بالإضافة إلى ورود النص بالنهي عنه.
(1) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الأصول ص 246
كما أن القسم الثاني من أقسام الذرائع لا خلاف بين الأئمة في إلغائه كزراعة العنب فلا تمنع خشية عصره خمرًا وكفداء أسرى المسلمين فلا يمنع؛ لأن المصلحة في هذا القسم راجحة على المفسدة.
أما القسم الثالث: فهو محل نزاع بين الأئمة وهو ما كان أداؤه إلى المفسدة كثيرًا ولا غالبًا ولا ندرًا كبيوع الآجال، فإنها ممنوعة عند مالك وأحمد وأبي حنيفة فمالك وأحمد منعاها سدًا للذريعة مع ورود أثر في النهي عنها، أما أبو حنيفة فمنعه لها ليس من باب سد الذريعة وإنما منعها لورود أثر في منعها، ومن باب ما لا يتم الواجب إلا به فواجب.
وهذه نصوص من فقه المذاهب الأربعة حول بيوع الآجال التي يسميها المالكية بيوع الآجال ويسميها الحنابلة والشافعية بيوع العينة.
ففي المذهب المالكي قال الدردير في كلامه على بيوع الآجال: هو بيع ظاهره الجواز لكنه قد يؤدي إلى ممنوع فيمتنع، ولو لم يقصد فيه التوصل إلى الممنوع سدًا للذريعة التي هي من قواعد المذهب) .
قال: (يمنع من البيوع ما أدى لممنوع يكثر قصده كبيعه سلعة بعشرة لأجل، ثم يشتريها بخمسة نقدًا، أو لأجل أقل، فقد آل الأمر إلى رجوع السلعة لربها وقد دفع قليلًا وعاد إليه كثيراً)(1) .
وفي المذهب الحنبلي قال في المغني: (من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقدًا لم يجز في قول أكثر أهل العلم) .
واستدل بأثر أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية.
وهو الأثر المشار إليه آنفًا وبعد ما أتى ابن قدامة بهذا الأثر قال: (ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيه ألف بخمسمائة إلى أجل معلوم، وكذلك روي عن ابن عباس في مثل هذه المسألة أنه قال: (أرى مائة بخمسين بينهما حريرة) يعني خرقة حرير جعلاها في بيعهما، والذرائع معتبرة لما قدمناه) (2)
(1) الشرح الصغير 3/116 ـ 117
(2)
المغني 4/193 ـ 194
وقال الزركشي: (والذرائع معتبرة عندنا في الأصول)(1) .
وفي المذهب الحنفي قال في الهداية: (ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها، ثم باعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول، لا يجوز البيع الثاني.
واستدل بأثر العالية المشار إليه آنفاً (2) .
وأثر العالية أخرجه أحمد عن أبي إسحاق عن زوجته العالية قالت: (دخلت على عائشة في نسوة فقالت: ما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة فقالت: يا أم المؤمنين: هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء، وأنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقدًا، فأقبلت عليها وهي غضبى، فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب وأفحمت صاحبتنا فلم تتكلم طويلا ثم إنه سهل عنها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلت عليها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] .
قاله ابن القيم في تهذيبه (3) .
وأخرجه أيضا الدارقطني في سننه وقال: إن أم محبة والعالية مجهولتان لا يصح الاحتجاج بهما، إلا أن صاحب التعليق المغني على الدارقطني قال:(قال في التنقيح: إسناده جيد)(4) .
(1) شرح الزركشي على مختصر الخرقي 3/498
(2)
الهداية 3/47
(3)
تهذيب ابن القيم مع مختصر سنن أبي داود 5/104 ـ 105
(4)
سنن الدارقطني والتعليق المغني 3/ 52 ـ5.
ورد ابن القيم على الدارقطني فقال: إن راوية الحديث يعني العالية هي امرأة أبي إسحاق السبيعي، وهي من التابعيات وقد دخلت على عائشة، وروى عنها أبو إسحاق وهو أعلم بها.
وفي الحديث قصة وسياق على أنه محفوظ، وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها، بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها بها وحفظها لها، ولهذا، رواها عنها، زوجها ميمون ولم ينهها عنها، ولاسيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له.
والكذب لم يكن فاشيًا في التابعين فشوه فيمن بعدهم، وكثير منهم كان يروي عن أمه وامرأته ما يخبرهن به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتج به) (1) .
قلت: بهذا الحديث احتج أبو حنيفة على منع بيوع الآجال كما استدل به المالكية والحنابلة إلا أنهما استدلا أيضًا بسد الذرائع لأنه من الأدلة المعمول بها في مذهبيهما. أما الشافعية فلا تمنع عندهم بيوع الآجال، وكما أسلفنا فإنهم يسمونها بالعينة.
قال الرافعي: (وليس من المناهي بيع العينة، وهو أن يبيع شيئًا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبضه للثمن بأقل من ذلك نقدًا، وكذلك يجوز أن يبيع بثمن نقدًا ويشتري بأكثر منه إلى أجل، سواء قبض الثمن الأول أو لم يقبضه)(2) .
مما اختلف فيه الأئمة أيضًا في الذرائع نكاح المحلل، فمالك وأحمد منعاه ولو كان التحليل لم يشترط عند العقد وإنما أضمره المحلل في نفسه.
وأما أبو حنيفة والشافعي فلا يحرم عندهما نكاح التحليل إذا لم يكن وقع العقد عليه.
وهذه نصوص الأئمة الأربعة حول نكاح المحلل وهو أن يتزوج رجل مبتوتة ليحلها لمن طلقها ثلاثًا.
ففي المذهب المالكي قال خليل: (كمحلل وإن مع نية إمساكها مع الإعجاب ونية المطلق ونيتها لغو)(3) .
(1) تهذيب ابن القيم مع مختصر سنن أبي داود 5/ 105
(2)
فتح العزيز شرح الوجيز مع المجموع 8/231 ـ 232
(3)
مختصر خليل: ص118
وقال ابن عبد البر: (ونكاح المحلل فاسد مفسوخ، وهو أن يتزوج امرأة طلقها غيره ثلاثًا ليحلها لزوجها، وأنها متى أصابها طلقها، فهذا المحلل الذي ورد الحديث عن النبي عليه السلام بلعنه، وكل من نكح امرأة ليحلها لزوجها فلا تحل لزوجها وإن وطئها بذلك النكاح، وسواء علما أو لم يعلما، إذا قصد النكاح لذلك، ولا يقر على نكاحها، ويفسخ قبل الدخول وبعده، وإنما يحللها نكاح رغبة لا قصد فيه للتحليل)(1) .
وفي المذهب الحنبلي قال في الإنصاف: (الصحيح من المذهب أن نكاح المحلل باطل مع شرطه، نص عليه الأصحاب وعنه يصح العقد ويبطل الشرط) قال:
(فإن نوى ذلك من غير شرط لم يصح أيضا في ظاهر المذهب) . ثم قال: (ظاهر كلام المصنف وكلام غيره أن المرأة إذا نوت ذلك لا يؤثر في العقد)(2) .
وقال في المغني: (فإن شرط عليه التحليل قبل العقد ولم يذكره في العقد ونواه في العقد أو نوى التحليل من غير شرط، فالنكاح باطل أيضًا قال إسماعيل: سألت أحمد عن الرجل يتزوج المرأة وفي نفسه أن يحلها لزوجها الأول ولم تعلم المرأة بذلك قال: هو محلل إذا أراد بذلك الإحلال، فهو ملعون)(3) .
وفي المذهب الشافعي قال الخطابي ـ عند حديث: ((لعن الله المحلل والمحلل له)) ما نصه: (إذا كان ذلك عن شرط بينهما فالنكاح فاسد؛ لأنه عقد تناهي إلى مدة كنكاح المتعة، وإذا لم يكن ذلك شرطًا وكان نية وعقيدة فهو مكروه، فإن أصابها الزوج ثم طلقها وانقضت العدة فقد حلت للزوج الأول)(4) .
(1) الكافي لابن عبد البر 2/533
(2)
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 8/ 166 ـ 192
(3)
المغني لابن قدامة: 6/ 646 ـ 647
(4)
معالم السنن مع مختصر سنن أبي داود 3/21
وفي المذهب الحنفي قال المرغيناني وابن الهمام: إذا تزوجها بشرط التحليل فالنكاح صحيح. ولكنه مكروه كراهة تحريم، فإن وطئها حلت للأول لوجود الدخول في نكاح صحيح، وأما لو نوياه ولم يقولاه فلا عبرة به، ويكون الرجل مأجورًا لقصد الإصلاح (1) .
والأصل في منع نكاح المحلل حديث: ((لعن الله المحلل والمحلل له)) أخرجه أبو داود عن علي رضي الله عنه مرفوعًا وأخرجه ابن ماجة والترمذي وأعله) (2) .
وأخرجه الترمذي أيضًا عن ابن مسعود بلفظ: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له)) . وقال: حديث حسن صحيح. وعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بالتيس المستعار؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال:((هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له)) أخرجه ابن ماجه (3) .
وأخرج الطبراني في الأوسط: (عن نافع مولى ابن عمر أن رجلًا سأل ابن عمر، فقال: إن خالي فارق امرأته فدخله من ذلك أمر وهم وشق عليه، فأردت أن أتزوجها ولم يأمرني بذلك ولم يعلم به. فقال ابن عمر: لا إلا نكاح غبطة، إن وافقتك أمسكت وإن كرهت فارقت، وإلا فإنا نعد هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحاً) . قال في مجمع الزوائد، قال: ورجاله رجال الصحيح) (4) .
(1) فتح القدير ومعه الهداية 3/ 177
(2)
مختصر سنن أبي داود 3/22
(3)
سنن ابن ماجه 1/623
(4)
مجمع الزوائد 4/ 267
سادسًا: هل الأخذ بسد الذرائع مما اختص به المذهب المالكي أو أن الأخذ بها ثابت في كل المذاهب وإن لم تصرح به؟
- شواهد من فقه الأئمة الأربعة على العمل بسد الذرائع.
الأخذ بسد الذرائع لم ينفرد به المذهب المالكي وإن توهم ذلك بعض المالكية، ولقد أوضحنا ذلك عند السؤال الآنف الذكر وهو: موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع.
قال القرطبي: (سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلاً)(1) .
ومعنى كلام القرطبي أن الذين خالفوا مالكًا في سد الذرائع عملوا به في الكثير من فروعهم إلا أنهم لم يصرحوا بسد الذرائع كأصل من أصول الفقه.
ولقد ذكرنا في النقطة السابقة أن من لم يحتج بسد الذرائع يقول إن هذا من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وليس من باب سد الذرائع.
وقال القرافي: (ليس سد الذرائع خاصًا بمالك رحمه الله، بل قال به هو أكثر من غيره، وأصل سدها أمر مجمع عليه)(2) .
وقول القرافي: إن مالكًا أخذ به أكثر من غيره لعله يعني بغيره أبا حنيفة والشافعي وأما أحمد فإنه قال بسد الذرائع كثيرًا وذكره بالاسم مصرحًا به، ومعظم المسائل التي هي محل النزاع وجدنا فيها الإمامين مالكًا وأحمد متفقين على الأخذ فيها بسد الذرائع كما تقدم في بيوع الآجال ونكاح المحلل.
(1) إرشاد الفحول للشوكاني ص246
(2)
الفروق للقرافي 2/32 ـ 33
هذا وقد ذكرنا مذاهب الأئمة عند تناولنا لتحرير محل النزاع بينهم في الأخذ بسد الذرائع. وهذه شواهد من فقه الأئمة الأربعة على ما يتفقون عليه من سد الذرائع وما هي إلا أمثلة وجيزة:
1-
منع صلاة النافلة وقت طلوع الشمس وغروبها. قال ابن تيمية: (وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود الكفار للشمس ففي ذلك تشبيه بهم، ومشابهة الشيء بغير ذريعة إلى أن يطغى بعض أحكامه، وقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس)(1) .
والشاهد على منعها في المذاهب المالكي قول خليل: (ومنع نفل وقت طلوع الشمس وغروبها)(2) .
وفي المذهب الشافعي: (قال في المنهاج: (وتكره الصلاة عند الاستواء إلا يوم الجمعة، وبعد الصبح حتى ترتفع الشمس كرمح والعصر حتى تغرب إلا لسبب كفائته) .
والكراهة كراهة تحريم. قاله في مغني المحتاج (3) .
وفي المذهب الحنبلي قال في المغني: (باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها) .
وأورد حديث مسلم: ((ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع)) (4) .
(1) مختصر خليل ص 24
(2)
مختصر خليل ص 24
(3)
مغني المحتاج 1/ 128 ـ 129
(4)
زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم 5/173
قال: (ويجوز قضاء الفرائض الفائتة في جميع أوقات النهي)(1) .
ومن الدليل أيضًا على منع صلاة النافلة وقت طلوع الشمس وغروبها ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بقرني شيطان)(2) .
2-
تحريم جمع المرأة مع عمتها أو خالتها في عصمة واحدة؛ لأن ذلك ذريعة للتقاطع والتدابر المنهي عنهما بين أفراد الأسرة الواحدة، والأصل في ذلك ما أخرجه مالك والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها)(3) .
وبه قال الأئمة الأربعة (4) . ونقل ابن المنذر الإجماع عليه فقال: (واجمعوا على أن لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى)(5)
3-
منع توريث القاتل من المقتول لأن توريثه ذريعة لاستعجال الوارث قتل مورثه لأخذ ماله فعوقب بالحرمان، والأصل في ذلك ما أخرجه مالك عن عمرو بن شعيب أن رجلًا من بني مدلج يقال له قتادة حذف (6) ابنه بالسيف، فنزي (7) في جرحه فمات فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فقال له عمر: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير، حتى أقدم عليك، فلما قدم إليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة، وأربعين خلقة (8) ثم قال: أين أخو المقتول؟ قال: ها أنا ذا. قال: خذها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس لقاتل شيء)) (9) .
قال ابن عبد البر: (لم يختلف على مالك. في هذا الحديث وإرساله) قال: (وقد روي مسندًا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: (وهو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغني بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه حتى يكاد أن يكون الإسناد في مثله لشهرته تكلفاً)(10) . والحديث رواه أيضًا ابن ماجة والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي (11) .
أما القاتل خطئًا فعند الشافعي وأحمد أنه كالقاتل عمدًا لا يرث شيئًا، وقال مالك: لا يرث من الدية ويرث من ماله، وقال أبو حنيفة. لا يرث القاتل من المقتول إن كان القتل يوجب قودًا أو كفارة.
(1) صحيح مسلم 1/568
(2)
المغني: 2/107
(3)
الموطأ: 2/532، وصحيح البخاري: 5/965، وصحيح مسلم: 2/1028
(4)
جواهر الإكليل 1/289، ومغني المحتاج 3/180، والمغني 6/573
(5)
الإجماع لابن المنذر: ص/75
(6)
حذف أي رمي
(7)
نزي: تعني: نزف، أي خرج الدم بكثرة
(8)
الخلق: الحامل من الإبل
(9)
الموطأ: 2/867
(10)
التمهيد: 23/ 436 ـ 437
(11)
تلخيص الحبير: 3/84
وهذه نصوص من فقه الأئمة الأربعة حول هذه المسألة.
ففي المذهب المالكي قال الزرقاني: (ولا يرث قاتل لمورثه ولا معتقًا لعتيقه أو صبيًا أو مجنونًا تسببًا أو مباشرة عمدًا وعدوانًا. وإن أتى بشبهة تدرأ عنه القتل كرمي الوالد ولده بحديدة مثلًا، كمخطئ لا يرث من الدية ويرث من المال)(1) .
وفي المذهب الشافعي قال في مغني المحتاج: (ولا يرث قاتل من مقتوله مطلقًا لخبر الترمذي وغيره: (ليس للقاتل شيء) أي من الميراث، ولأنه لو ورث لم يؤمن أن يستعجل الإرث بالقتل فاقتضت المصلحة حرمانه) قال:(وسواء أكان القتل عمدًا أم غيره)(2) .
وفي المذهب الحنبلي قال الخرقي: (والقاتل لا يرث المقتول، عمدًا كان القتل أو خطئًا، قال في المغني: (أجمع أهل العلم على أن قاتل العمد لا يرث من المقتول شيئًا، إلا ما حكي عن سعيد بن المسيب وابن جبير أنهما ورثاه، وهو رأي الخوارج
…
قال: (ولا تعويل على هذا القول لشذوذه وقيام الدليل على خلافه) . ثم استدل بحديث مالك الآنف الذكر وقال: إن أحمد أخرجه أيضًا
…
ثم قال: (ولأن توريث القاتل يفضي إلى تكثير القتل؛ لأن الوارث ربما استعجل قتل مورثه ليأخذ ماله)(3) .
وفي المذهب الحنفي قال في اللباب: (ولا يرث أربعة
…
ومنهم القاتل فلا يرث من المقتول لاستعجاله ما أخره الله تعالى فعوقب بحرمانه، وهذا إذا كان القتل يوجب قودًا أو كفارة، وأما ما لا يتعلق به ذلك فلا يمنع) (4) .
4-
قتل الجميع بواحد فإن الأئمة الأربعة متفقون على أن من قتلته جماعة عمدًا قتلوا به كلهم؛ لأن في ذلك ذريعة للتعاون على الإثم.
(1) شرح الزرقاني لمختصر خليل: 8/ 227
(2)
مغني المحتاج: 3/ 25
(3)
المغني لابن قدامة: 6/291
(4)
اللباب في شرح الكتاب: 4/184
ففي المذهب المالكي قال خليل: (ويقتل الجمع بواحد) . إن تساوت ضرباتهم، ويقتل المتمالئون بواحد ولو كان القتل من واحد منهم (1) .
وفي المذاهب الحنفي قال في الكتاب: (وإن قتل جماعة واحدًا عمدًا اقتص من جميعهم)(2) .
وفي المذهب الشافعي قال في مغني المحتاج: (ويقتل الجمع بواحد وإن تفاضلت جراحاتهم في العدد والأرش)(3) .
وفي المذهب الحنبلي قال في المغني: (وجملته أن الجماعة إذا قتلوا واحدًا فعلى كل واحد منهم القصاص. روي ذلك عن عمر وعن المغيرة بن شعبة وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة وهو مذهب مالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي) .
والأصل في ذلك ما أخرجه مالك عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفراَ خمسة أو سبعة برجل واحدًا قتلوه قتل غيلة. وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً) (4) .
وأخرج البخاري نحوه ولفظه: (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غلامًا قتل غيلة وقال عمر: لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم)(5) .
(1) جواهر الإكليل: (2/ 257)
(2)
اللباب في شرح الكتاب 3/150
(3)
مغني المحتاج 4/20
(4)
الموطأ: 2/871
(5)
صحيح البخاري: 6/ 2527
سابعًا: أثر القول بسد الذرائع اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية:
إن سد الذرائع له اعتبار في الفروع الفقهية حتى إن ابن القيم وصفه بأنه أحد أرباع الدين، إذا كان مفضيًا إلى الحرام.
قال في إعلام الموقعين: (وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود.
والنهي نوعان: أحدهما ما يكون النهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين) (1) .
ومعلوم أن اعتبار الذرائع يعود إلى ما تؤول إليه الأمور من خير وشر، سواء قصد ذلك أو لم يقصد.
ولقد سبق أن نقلنا كلام القرافي وغيره أن الوسيلة إلى أحسن المقاصد هي أحسن الوسائل، والوسيلة إلى أسوأ المقاصد هي أسوأ الوسائل.
وفي كلامنا على أقسام الذرائع ذكرنا أن منها ما هو متفق على اعتباره عند جميع الأئمة وإن كان بعضهم لا يصرح فيه بسد الذرائع، ومنها ما هو متفق على إلغاء اعتباره عند الجميع، ومنها ما هو مختلف في اعتباره، فبعض الأئمة اعتبر فيه سد الذرائع وبعضهم لم يعتبرها.
ولقد أوردنا مذاهب الجميع عند كلامنا على تحرير محل النزاع بين الأئمة في سد الذرائع، ونقلنا نصوصًا من فقههم كلهم.
كما أوردنا شواهد فيما اتفقوا عليه من سد الذرائع.
وعليه فإن القول بسد الذرائع معتبر في الكثير من الفروع الفقهية عند جميع الأئمة، وإن لم يذكره بعضهم بالاسم ومعتبر عند المالكية والحنابلة أكثر من غيرهم.
(1) إعلام الموقعين 3/159
والذي أقول به: إن القول باعتبار سد الذرائع في الفروع الفقهية أرجح في نظري بكثير من القول بعدم اعتبارها.
لأنه ما من فعل إلا وله وسيلة تفضي إليه غالبًا، فإن كان ذلك الفعل مشروعًا كانت الوسيلة مشروعة، وإن كان ممنوعًا كانت تلك الوسيلة ممنوعة.
ولا شك أن النفس أمارة بالسوء كما وصفها الله عز وجل بذلك.
فإذا أطلق لها العنان تصرفت على هواها مستخدمة كل وسيلة تحقق لها أغراضها الفاسدة.
يشهد لذلك ما ذكرنا آنفًا عن ابن تيمية في قوله: (وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر، لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، وبما يخفي على الناس من خفي هواها الذي لا يزال يسري إليها حتى يقودها إلى الهلكة)(1) .
ونلاحظ أن ابن القيم رحمه الله اقتصر على جانب النهي في الذرائع في قوله: إن سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين، وهذا هو الجانب الذي يكثر اقتحامه من أهل الأهواء والمقاصد الفاسدة، وهو الموافق للسد الذي أضيف إليها.
وإذا نظرنا إلى جانب الأمر في الذرائع نجد أنها كما يجب سدها في النهي يجب فتحها في الأمر إذا كانت تفضي إلى واجب كما أسلفنا، فإذا اعتبرنا هذا الجانب ـ جانب الأمر في الذرائع ـ نجد أن وسيلة الأمر ربع آخر، فتكون الذرائع بجانبيها أحد نصفي الدين. والله أعلم.
(1) الفتاوى الكبرى 145
ثامنًا: أمثلة لفتح الذرائع وسدها:
هذا السؤال يمكن أن نقول إنه أجيب عنه في بعض الأسئلة الآنفة الذكر وهي: تعريف الذرائع، أقسام الذرائع، موقف الأئمة من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع مع تحرير محل النزاع، هل الأخذ بالذرائع مما اختص به المذهب المالكي؟
لأننا رأينا أن الإجابة عن تلك الأسئلة يتطلب توضيحها أن تأتي بأمثلة لها.
واستجابة لما ورد في هذا السؤال فهذه بعض الأمثلة لسد الذرائع وفتحها:
أ- أمثلة لفتح الذرائع:
1-
جواز بيع رديء التمر بدراهم وشراء جيده بتلك الدراهم.
فقد كان عامل الرسول صلى الله عليه وسلم بخيبر يشتري صاعًا من الجنيب وهو أجود التمر بصاعين من الجمع وهو رديئة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا)) أخرجه البخاري ومسلم. فهذه الذريعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها.
2-
جواز دفع مال للأعداء المشركين لإطلاق أسارى لديهم مسلمين، فلا يترك دفع المال لهم خشية أن يتقووا به على المسلمين، وخشية أن يأخذوه رشوة بناء على أنهم مكلفون بفروع الشريعة.
لأنه مصلحة إطلاق أسرى المسلمين أرجح من مفسدة إعطاء المال للعدو.
3-
يجوز إعطاء مال لرجل مسرف على نفسه ليأكله حرامًا حتى لا يزني بامرأة يزمع الزنى بها؛ لأن فساد الزنى أشد من فساد أكل مال رشوة، إذا لم يمكن دفعه عن الزنى إلا بالرشوة.
4-
جواز حفر بئر في مكان لا تضر فيه غالباُ؛ لأن الفساد في حفرها يعتبر نادرًا، وبذلك كانت المصلحة في حفرها أرجح من احتمال ما قد يحدث نادرًا من سقوط أحد فيها.
ب- أمثلة لسد الذرائع:
1-
منع خلوة الرجل بأجنبية؛ لأنه ذريعة للزنى بها، لحديث:((إياكم والدخول على النساء)) قال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو: الموت)) (1) . أخرجه البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر مرفوعًا والحمو: أخو الزوج.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ((الحمو الموت)) . أن الخوف منه أكثر من غيره لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة بها من غير أن ينكر عليه (2) .
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعًا: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)) (3) .
2-
منع البيع إذا شرط معه السلف لأن ذلك ذريعة أن يبيع له سلعة بأقل من ثمنها مقابل القرض الذي اشترط عليه فيؤول الأمر إلى سلف بزيادة وذلك من الربا المنهي عنه.
والأصل في ذلك حديث: ((لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع)) . أخرجه الخمسة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا وصححه الترمذي وابن خزيمة) (4) .
وأخرجه مالك في الموطأ بلاغا. قال: (وتفسير ذلك أن يقول الرجل للرجل: آخذ سلعتك بكذا وكذا على أن تسلفني كذا وكذا، فإن عقدا بيعهما على هذا فهو غير جائز)(5) .
ونقل الباجي إجماع الفقهاء على المنع (6) .
وقال ابن قدامة: (ولا أعلم فيه خلافاً)(7) .
3-
منع هدية المقترض للمقرض لما فيه من سلف جر نفعًا وذلك ذريعة للربا.
والأصل في ذلك حديث أبي بردة بن أبي موسى قال: (قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي إنك بأرض فيها الربا فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه، فإنه ربا) أخرجه البخاري في صحيحه (8) .
هذا بالإضافة إلى الأمثلة التي أوردنا لسد الذرائع في الأسئلة السابقة.
(1) صحيح البخاري: 5/2005، وصحيح مسلم: 4/ 1711
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي: 1/153
(3)
صحيح البخاري 5/2005
(4)
بلوغ المرام: 162 ـ 163
(5)
الموطأ: 2/657
(6)
المنتقى: 162 ـ 163
(7)
المغني: 4/ 256 ـ 259
(8)
نيل الأوطار: 349 ـ 350
خلاصة البحث
الذرائع: جمع ذريعة وهي الوسيلة والطريق إلى الشيء، سواء أكان مشروعًا أو غير مشروع، لكنها غلب عليها في عرف الاستعمال الشرعي أنها عبارة عن أمر غير ممنوع لذاته ولكنه يفضي إلى ممنوع، ولذلك أضيف إليها سدها فأصبحت معروفة عند الأصوليين بسد الذرائع.
ومع ذلك فإنها إن كانت تفضي إلى مشروع شرع فتحها فيجب فتحها إلى الواجب، وسدها عن الممنوع ويندب فتحها إلى المندوب ويكره إلى المكروه ويباح إلى المباح.
قال العلامة سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم الشنقيطي في مراقي السعود:
سد الذرائع إلى المحرم
حتم كفتحها إلى المنحتم
وبالكراهة وندب وردا
والغ إن كان الفساد ابعدا
ومعنى سد الذرائع: حسم مادة وسائل الفساد فيها، والحيلولة دون الوصول إلى المفاسد التي تفضي إليها.
أما الفرق بين الذريعة والسبب، فإنه يعتبر دقيقًا لأنهما على العموم يشتركان في معنى واحد إذ كل منهما عبارة عما يوصل إلى الشيء خيرًا كان أو شرًا، لكن فرق ابن تيمية بينهما بأن الذريعة هي الفعل الذي يفضي إلى فساد كبيع السلاح في زمن الحرب وسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وأما السبب فهو ما أفضى إلى فساد وكان غير فعل كشرب الخمر المفضي إلى السكر والزنى والمفضي إلى اختلاط المياه.
وأما الفرق بين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه فإنه أيضًا يعتبر ضئيلًا لأن الذريعة ـ كما أسلفنا ـ هي الوسيلة التي توصل إلى الشر أو الخير فهما يتفقهان في هذا المعنى، وتنفرد الوسيلة بأنها منزلة في الجنة.
أما المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية فإننا عندما نذكر تعريف الحيلة يتضح لنا علاقتها بالذريعة فالحيلة عرفها الشاطبي بأنها: (تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله إلى حكم آخر بغية خرم قواعد الشريعة، بشرط قصد ذلك.
وهذا المعنى تشاركها فيه الذريعة في بعض معانيها، فقد تقدم أن الذريعة غلب عليها الاستعمال في أمر غير ممنوع لذاته ولكنه يفضي إلى ممنوع.
والفرق بينهما هو أن الذريعة تكون بقصد وبغير قصد. أما الحيلة فيشترط فيها القصد.
فمثال ما كان ذريعة وليس حيلة سب آلهة المشركين بين ظهرانيهم.
ومثال ما كان حيلة وليس ذريعة بيع النصاب قبل حلول الحول فرارًا من الزكاة.
ومثال ما كان ذريعة وحيلة أيضًا: بيوع الآجال كبيع سلعة لأجل وشرائها بأقل نقدًا وكنكاح التحليل وهو أن يتزوج الرجل بالمبتوتة ليحلها لمن طلقها ثلاثًا.
أما أقسام الذرائع فثلاثة عند الجمهور:
قسم أجمعت الأمة على اعتباره ومنعه، وهو ما كان أداؤه إلى المفسدة قطعيًا، كحفر بئر في طريق المسلمين وكسب آلهة المشركين عندما يعلم أنهم بذلك يسبون الله عز وجل.
وقسم أجمعت الأمة على إلغائه وإباحته، وهو ما كان أداؤه للمفسدة نادرًا أو كانت المصلحة فيه راجحة على المفسدة، كزراعة شجر العنب فلا تترك خشية عصر العنب خمرًا، وكفداء أسرى المسلمين بدفع مال للمشركين الذين أسروهم؛ لأن مصلحة فداء المسلمين أرجح من مفسدة دفع مال يمكن أن يتقوى الأعداء المشركون به.
وقسم اختلف الأئمة فيه وهو ما كان أداؤه للمفسدة كثيرًا لا نادرًا ولا غالبًا كبيوع الآجال ونكاح التحليل الآنف الذكر فمنعهما مالك وأحمد وأجاز الشافعي بيوع الآجال ومنعها أبو حنيفة لا لسد الذرائع ولكن لورود نص في منعها، واتفقا على جواز نكاح التحليل، إذا لم يكن مشترطًا في العقد حيث كان نية في القلب فقط.
ومن عرضنا الموجز لأقسام الذرائع يتضح لنا موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع، فقد ذكرنا أن القسم الأول مجمع عليه، فقد أخذ به جميع الأئمة إلا أن أبا حنيفة والشافعي لم يحتجا به سدًا للذريعة، وإنما احتجا بالنص الذي ورد بمنعه، ولأن ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام.
أما القسم الذي اختلف الأئمة في منعه فهو ما أسلفنا وذكرنا له مثالين هما بيوع الآجال ونكاح التحليل.
ونظرًا لهذا كله فإنه يتضح لنا أن الأخذ بسد الذرائع لم يختص به الإمام مالك، بل شاركه جميع الأئمة في الأخذ ببعضه، وإن لم يصرح بعضهم به كأصل من أصول الفقه، وشاركه الإمام أحمد في الأخذ ببعضه الآخر، واتفق معه على أن سد الذرائع أصل هام من أصول الفقه.
وعليه فإنه اعتبار سد الذرائع في الفروع الفقهية له ما يرجحه حتى قال ابن القيم: إن ما يفضي منه إلى الحرام يعتبر أحد أرباع الدين؛ لأنه إذا لم يعتبر سد الذرائع في الفروع الفقهية تركت النفس منطلقة على هواها متخذة أية وسيلة تحقق لها أغراضها الفاسدة لأن النفس كما قال الله عز وجل: {لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] .
فسد الذرائع يعتبر سدًا منيعًا بين الإنسان واتباع هواه الذي يقوده غالبًا إلى الهلكة، هذا ونختم هذه الخلاصة بأمثلة لفتح الذرائع وسدها:
أ- أمثلة لفتح الذرائع:
1-
السعي لصلاة الجمعة والسعي لأداء حجة الفرض واجب؛ لأن السعي لهما وسيلة إلى الواجب ووسيلة الواجب واجبة.
2-
دفع مال للأعداء الكفرة للتوصل إلى فداء أسرى المسلمين لأنها مصلحة راجحة على مفسدة الرشوة.
3-
دفع مال لرجل ليأكله حرامًا حتى لا يزني بامرأة إذا لم يمكن دفعه عن هذه الجريمة إلا بالرشوة؛ لأن الرشوة أخف من الزنى.
4-
دفع مال لمحارب شهر السلاح على مسلم لأخذ ماله. لأن إعطاء المال رشوة للمحارب أخف من قتل نفس بغير حق.
ب- أمثلة لسد الذرائع:
1-
ترك سب آلهة المشركين؛ لأنه وسيلة لسبهم لله عز وجل، قال تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
2-
ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين لأنه وسيلة لأن يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه.
ففي صحيحي البخاري ومسلم عن جابر أن عبد الله بن أبي قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} .
فقال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((دعه حتى لا يقول الناس إن محمدًا يقتل أصحابه))
3-
النهي عن خلوة الرجل بالأجنبية لأنه وسيلة إلى الزنى بها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)) أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.
هذه أمثلة وجيزة لفتح الذرائع وسدها ومن أراد المزيد فليرجع إلى البحث بتفصيله.
والله ولي التوفيق.
محمد الشيباني بن محمد بن أحمد