الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سد الذرائع
عند الأصوليين والفقهاء
إعداد
الأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن
رئيس قسم الدراسات الأساسية
بكلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام، على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فهذا بحث عن: (سد الذرائع عند الأصوليين والفقهاء) أعددته للدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي المقرر عقدها بمدينة أبي ظبي حاضرة دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد جعلت البحث في سبعة مطالب:
المطلب الأول: (تعريف الذرائع ومعنى سدها وبيان الفرق بين الذريعة والسبب) .
المطلب الثاني: (في المقارنة بين سد الذرائع والمصلح المرسلة والحيل الفقهية) .
المطلب الثالث: (في تقسيم الأصوليين والفقهاء للذرائع وبيان اتجاهاتهم في ذلك) .
المطلب الرابع: (في موقف أئمة الفقه من الأخذ بسد الذرائع مع شواهد وتطبيقات فقهية) .
المطلب الخامس: (في الأدلة على حجية سد الذرائع من القرآن والسنة وفتاوى الصحابة) .
المطلب السادس: (أثر الاختلاف في سد الذرائع في الفروع الفقهية) .
المطلب السابع: (قضية فتح الذرائع عند الفقهاء) .
والله أسأل أن يجعله عملًا مبرورًا صالحًا لوجهه الكريم يزيد في ثقل موازيني يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
المبحث الأول
تعريف الذرائع ومعنى سدها والفرق بين الذريعة والسبب
1-
معنى الذرائع:
الذرائع جمع ذريعة والذريعة في اللغة الوسيلة والطريق إلى الشيء، والعرب تطلقها على الحيوان الذي تألفه الناقة الشاردة ليكون وسيلة لضبطها، وعلى الجمل الذي يستتر به الصياد فيكون وسيلته لاصطياد فريسته) (1) .
وفي الاصطلاح تطلق الذريعة ـ عند أغلب الفقهاء ـ على الوسيلة المباحة في ذاتها لكنها تؤدي إلى ممنوع وفي هذا يعرفها الباجي بأنها: (المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور)(2) .
ويعرفها الشاطبي بأنها: (التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة)(3) .
والسلف من الفقهاء على هذا الإطلاق فالإمام مالك يقول في الموطأ: (من راطل ذهبًا أو ورقًا بورق فكان بين الذهبين فضل مثقال فأعطى صاحبه قيمته من الورق أو من غيرها فلا يأخذها فإن ذلك قبيح وذريعة إلى الربا)(4) .
والباجي في المنتقى يقول ـ وهو يعلل لفتوى الإمام مالك ـ بأن من رأى هلال رمضان وحده يجب عليه الصوم خلافًا لمن رأى هلال شوال وحده فإنه ينبغي ألا يفطر يقول معللًا ذلك: (ووجه ما احتج به مالك رحمه الله أن ذلك ذريعة لأهل الفسق والبدع إلى الفطر قبل الناس ويدعون رؤية الهلال إذا ظهر عليهم)(5) .
هذا وبعض الفقهاء يستخدم مصطلح (الذريعة) بمعنى الوسيلة مطلقًا سواء كانت وسيلة للمصلحة أم للمفسدة وعلى هذا الاتجاه القرافي الذي يقول: (اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فإن وسيلة الواجب واجبة إلخ) كما أنه يقابلها بالمقصد وهو ما ينطوي على مصلحة أو مفسدة في ذاته (6) .
ولهذا فإنه حينما أتى للذريعة الممنوعة استخدام مصطلح (سد الذرائع)(7) .
(1) لسان العرب لابن منظور والزرقاني على مختصر خليل 5: 98 طبعة محمد أفندي مصطفى.
(2)
الإشارات لأبي الوليد الباجي: 113/ طبعة السعادة المقدمات الممهدات لابن رشد ص 524 طبعة المثنى ببغداد
(3)
الموافقات 4/ 130 طبعة صبيح
(4)
الموطأ شرح السيوطي 2: 61 ـ 62 طبعة المكتبة التجارية
(5)
المنتقى للباجي 2: 39 مطبعة السعادة
(6)
الفروق للقرافي 2: 32
(7)
الفروق للقرافي 2: 32
2-
معنى سد الذرائع:
يراد بسد الذرائع وهو المصطلح الذي يدور الحديث حوله: الحيلولة دون الوصول إلى المفسدة إذا كانت النتيجة فسادًا لأن الفساد ممنوع) .
وفي إطار ذلك فإن كل شيء مباح يمنع إذا أدى إلى محظور حسمًا لمادة الفساد ودفعًا لها (1) .
وفي هذا يقول ابن القيم: (لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بالأسباب والطرق التي تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهيتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وهي مقصودة قصد الوسائل فإذا حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له ومنعًا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصًا للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمته تعالى وعلمه وتأبى ذلك كل الإباء بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضًا ويحصل من جنده ورعيته ضد مقصوده، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الدار منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرون إصلاحه فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال (2) .
(1) الفروق للقرافي 2: 32
(2)
إعلام الموقعين لابن القيم 3: 119
3-
الفرق بين الذريعة والسبب:
السبب يلتقي في معناه اللغوي مع الذريعة في معناهما اللغوي لأن السبب في اللغة ما يوصل إلى الشيء كالطريق، ولهذا أطلق على الحبل لأنه يوصل إلى الماء، وفي القرآن الكريم:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] .
أما في الاصطلاح الأصولي فإن السبب هو الوصف الظاهر المنضبط الذي دل الدليل على كونه معرفًا لحكم شرعي (1) . أو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم.
وهو ينقسم إلى سبب يكون في مقدور المكلف كصيغ العقود والتصرفات واقتراف الجرائم وسبب ليس في مقدور المكلف كالقرابة سببًا للإرث، والإرث سببًا للملك، ودلوك الشمس سببًا لوجوب الصلاة (2) .
والفرق بينهما ـ في ضوء ذلك ـ يأتي من جهة أن الذريعة لا تكون إلا بفعل الفاعل وقصده أحيانًا، وعلى هذا فهي فعل دائمًا كما أنها فعل في مقدور المكلف، أما السبب فهو أعم من أن يكون فعلًا كدخول الوقت لإيجاب الصلاة مثلًا، كما أنه إذا كان فعلًا قد يكون مقصودًا في ذاته بالتحريم كالقتل وشرب الخمر والزنى فهذه كلها أسباب لما يترتب عليها من مسببات ولكنها ليست ذرائع بالمعنى المصطلح عليه للذرائع لأنها محرمة لذاتها، فضلًا عن أن الذريعة ـ كما سلف ـ تنحصر في الفعل الذي هو في مقدور المكلف أما السبب فهو أعم من ذلك حيث يشمل ما هو في مقدور المكلف وما ليس في مقدوره.
بالإضافة إلى ما سبق فإن السبب يترتب عليه المسبب قصد الفاعل ذلك ولو لم يقصده بل يترتب ولو قصد الفاعل عدم ترتبه، وليست الذريعة كذلك فإنها في أغلب أحوالها مرتبطة بقصد الفاعل إلى إحداث الأثر المترتب على فعله.
(1) شرح العضد على مختصر المنتهى لابن الحاجب 2: 7، وإرشاد الفحول للشوكاني 6.
(2)
مباحث الحكم الشرعي والأدلة المتفق عليها للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي والكاتب ص 76
المبحث الثاني
في المقارنة بين سد الذرائع
والمصالح المرسلة والحيل الفقهية
1-
سد الذرائع والمصالح المرسلة:
سد الذرائع يدخل في باب المصالح دخولًا بينًا لأن حقيقته ترجع إلى منع كل أمر يتوسل به إلى المفسدة، وهو من هذه الوجهة متمم لأصل المصلحة ومكمل له (1) ، ولدخول سد الذرائع في المصالح نجد الشاطبي يتناوله من خلال حديثه عن (المقاصد) في المسألة الخامسة التي عقدها للحديث عن جلب المصلحة ودفع المفسدة (2) ، كما يتناوله أيضًا في المسألة العاشرة من الطرف الأول وهو الطرف الذي يتعلق بالمجتهد حيث يشترط فيه النظر في مآلات الأفعال بل يعتبر النظر في مآلات الأفعال من المقاصد الشرعية كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وعلى المجتهد ألا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مفسدة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب بالمذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة (3) . ثم يعقب على ذلك في فصل لاحق فيقول:(وهذا الأصل ينبني عليه قواعد منها قاعدة الذرائع التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه (4) .
والأصوليون من المتكلمين يدخل مبحث الذرائع عندهم من خلال المناسبة في باب المصلحة عند الحديث عن انخرام المناسبة بالمفسدة المساوية أوالزائدة (5) . ولعل مما يؤكد الصلة الوثيقة بين الذرائع والمصلحة أن المالكية وهم من المكثرين من الأخذ بالمصالح المرسلة في فتاواهم يكثرون أيضًا من الأخذ بسد الذرائع ـ كما سنرى عند عرض موقف المذاهب الفقهية من سد الذرائع ـ وما ذلك إلا لأن سد الذرائع وجه من وجوه الاجتهاد المصلحي.
(1) الموافقات للشاطبي 2: 1267، والوجيز في أصول الفقه للأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان ص 250 طبعة الرسالة
(2)
الموافقات 2: 255 ط صبيح
(3)
الموافقات 4: 127، 128
(4)
الموافقات 4: 130
(5)
نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور حسين حامد حسان ص 195
2-
سد الذرائع والحيل:
يعرف الشاطبي الحيلة بأنها: (تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر)(1) .
والحيلة بهذا المفهوم تناقض سد الذرائع؛ لأن سد الذرائع ـ كما سلف توضيحه ـ منع الأمر المباح إذا كان وسيلة لأمر غير مباح، وعلى هذا فإن الذريعة التي تسد هي في بعض الحالات حيلة منعت ويتأتى ذلك بصورة خاصة في الذريعة التي يكون إفضاؤها إلى المحرم بقصد فاعلها كبيوع العينة ـ إذا قصد بها الربا ـ فهي حيلة لأنها تقديم عمل ظاهره الجواز لإبطال حكم شرعي هو تحريم الربا بإظهاره في صورة بيع صحيح.
وفي هذا يقول ابن القيم: (فتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع سد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة فأين من يمنع الجائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوسل إليه)(2) .
على أنه لا بد من أن يلاحظ هنا أن التناقض بين سد الذرائع والحيل يكون في حال القصد فقط، أما إذا انعدم القصد كبيوع العينة التي لا يصاحبها قصد، والذرائع التي لا ترد فيها تهمة التحايل أصلًا كسب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب المولى ـ تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا ـ ومثل هذا لا يقصده مؤمن قطعًا فهو من باب الذرائع لا من باب الحيل، فالذرائع أعم من الحيل (3) ، ويبدو أن ابن القيم جعل المناقضة بينهما تامة لأن مذهبه يقوم ـ كما أشرنا في تقسيمه ـ على ربط الذريعة بالقصد دائمًا.
هذا وقد أشار الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي إلى فرق آخر بين الحيل والذرائع وهو أن الحيل تجري في العقود خاصة أما الذرائع ففي العقود وغيرها فهي أوسع (4) .
(1) الموافقات: 4: 132
(2)
إعلام الموقعين لابن القيم 3: 136
(3)
أصول الفقه وابن تيمية للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي 2: 911
(4)
إعلام الموقعين لابن القيم 3: 135 ـ 161 وأصول الفقه وابن تيمية 2: 493
وفي كل الأحوال فإن بين الذرائع والحيل تداخلًا في بعض الحالات، ولهذا فإن الأصوليين والفقهاء يتناولون إحداهما تبعًا للأخرى، فابن القيم في إعلام الموقعين يتناول الحيل عند حديثه عن سد الذرائع (1) . والشاطبي في الموافقات يتناولهما متجاورتين عند حديثه عن النظر في مآلات الفعال (2) ، وابن تيمية يأتي تناوله لسد الذرائع تابعًا لحديثه عن الحيل (3) .
وفوق ذلك فإن مواقف الفقهاء من الحيل تتحدد في إطار مواقفهم من سد الذرائع، فالذين يتشددون في سد الذرائع يمنعون الحيل بإطلاق وهم الحنابلة والمالكية، والذين يرون أن الذريعة لا تسد إلا إذا ظهر القصد إلى الممنوع واضحًا في صيغة العقد، هم الشافعية والحنفية قد لا يدخلون في الحيل ما أدخله الأولون فيها وهكذا.
وأخيرًا فإن المقارنة السابقة بين الذرائع والحيل لا تمتد إلى الحيل بمعنى المخارج، وهي الحيل التي يقصد بها التوصل إلى إثبات حق أو دفع مظلمة أو التيسير على الناس، كمن يبيع أرضه أو سلعة له أو يهبها لمن يثق به خوفًا من تسلط ظالم حتى إذا اطمئن وزال خوفه عاد فاشتراها أو استرجعها منه (4) ، وكمن يبيع الذهب الرديء بالنقود الورقية ويشتري بها ذهبًا جيدًا خوفًا من ربا الفضل إذا تقابل الذهبان ببعضهم مع التفاضل (5) .
فإن مثل هذه المخارج جائزة ولها شواهد في الشرع منها قوله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] ليبر بقسمه أثناء مرضه في أن يضرب زوجته مائة ضربة (6) .
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر فجاءه بتمر (جنيب) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) وغير هذين من الشواهد والنصوص.
(1) أصول الفقه وابن تيمية للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور 2: 494
(2)
الموافقات: 130 ـ 132
(3)
الفتاوى المصرية الكبرى 3: 83، وأصول الفقه وابن تيمية 2:491.
(4)
مصادر التشريع الإسلامي (الأدلة المختلف فيها) الدكتور حسنين محمد حسنين ص 175
(5)
ضوابط المصلحة للدكتور سعيد رمضان البوطي 296
(6)
راجع تفسير ابن كثير 7: 214 طبعة المنار، وضوابط المصلحة 304
المبحث الثالث
في تقسيم الأصوليين والفقهاء للذرائع
وبيان اتجاهاتهم في ذلك
للذرائع ـ عند الفقهاء ـ تقسيمان أساسيان يمكن رد التقسيمات الفرعية الأخرى لهما.
أول هذين التقسيمين تقسيم ابن القيم، والثاني تقسيم الشاطبي، وسوف أعرض هذين التقسيمين ثم أقارن بينهما.
أ- تقسيم ابن القيم:
قسم ابن القيم الذرائع من أقوال وأفعال إلى أربعة أقسام:
1-
ذريعة أو وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب.
2-
ذريعة أو وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة كمن يعقد النكاح قاصدًا به التحليل أو يعقد البيع قاصدًا به الربا.
3-
ذريعة أو وسيلة موضوعة للمباح قصد به التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبًا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها وأمثلة هذا (الصلاة في أوقات النهي، وسب آلهة المشركين، وتزين المتوفى عنها زوجها في العدة.
4-
وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها قد تفضي إليها إلا أن مصلحتها أرجح من مفسدتها، وأمثلة هذا النظر إلى المخطوبة، وكلمة الحق عند السلطان الجائر (1) .
والقسم الأول من الأقسام الأربعة ـ عند ابن القيم ممنوع وتأتي درجات المنع منه وكراهيته حسب ترقيه في درجات المفسدة، والقسم الأخير منها مباح وتأتي درجات إباحته حسب ترقيه في درجات المصلحة (2) .
يبقى ـ بعد ذلك ـ النظر إلى القسمين الثاني وهو الأمر المباح في أصله الذي قصد به التوسل إلى المفسدة، والثالث وهو المباح الذي لم يقصد به التوسل إلى المفسدة إلخ. لكنه يفضي إليها ومفسدته أرجح من مصلحته.
وهذان النوعان هما اللذان يمنعان سدًا للذريعة عنده وقد أقام ابن القيم الحجة على ذلك بعد أن بسط هذه الأقسام.
(1) إعلام الموقعين لابن القيم 3: 120
(2)
إعلام الموقعين لابن القيم 3: 121
ب- تقسيم الشاطبي:
قسم الشاطبي الذرائع إلى الأقسام التالية:
1-
ما يكون من الأفعال مؤديًا إلى المفسدة قطعًا في العادة ومثل له بحفر البئر خلف باب الدار أو في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد وشبه ذلك.
2-
ما يكون من الأفعال مؤديًا إلى المفسدة نادرًا ـ لا قطعًا ولا كثيرًا ـ كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه، وأكل الأغذية التي غالبها لا يضر أحدًا.
3-
ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا وهو على وجهين.
ـ أحدهما: ما يكون غالبًا في كثرته بحيث يغلب على الظن أداؤه إليها كبيع السلاح وقت الحرب، وبيع العنب لخمار ونحو ذلك مما يقع في غالب الظن أداؤه إلى المفسدة.
_ثانيهما: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا ولكن كثرته لم تبلغ مبلغًا تحمل العقل على ظن المفسدة فيه دائمًا كمسائل بيوع الآجال (1) .
وقال عن القسم الأول وهو ما أدى إلى المفسدة قطعًا بحسب العادة: إنه جائز من حيث الأصل إلا أنه مظنة لقصد الإضرار، والإضرار لا يجوز سواء كان مقصودًا وهو ظاهر عدم جوازه، أو كان ناتجًا عن تقصير في النظر وهو الآخر غير جائز.
وقال عن القسم الثاني وهو ما أدى إلى المفسدة نادرًا أنه على أصله من الإذن لغلبة المصلحة فيه وعدم اعتبار الندور في انخرامها لأنه لا توجد في الجملة مصلحة عرية عن المفسدة.
وقال عن الوجه الأول من القسم الثالث وهو ما يغلب على الظن أداؤه إلى المفسدة كبيع السلاح وقت الحرب إلخ: إن الظن هنا يلحق بالعلم القطعي ويعتبر سدًا للذريعة إلا أنه مع ذلك ـ قرر أن هذا الضرب أخفض مرتبة من القطعي ولهذا وقع الخلاف فيه من جهة هل تقوم مظنة الشيء مقام نفس القصد إلى ذلك الشيء أم لا (2) ؟
أما الوجه الثاني ـ من القسم الثالث ـ وهو ما أدى إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا كبيوع الآجال فقد قرر فيه أنه موضع نظر والتباس، والأصل فيه الحمل على الأصل وهو صحة الإذن لأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان فيه وليس فيه إلا احتمال التردد بين وقوع المفسدة وعدمه ولا قرينة ترجح أحد الاحتمالين على الآخر، كما أن احتمال القصد إلى المفسدة لا يقوم مقام نفس القصد (3) .
(1) الموافقات 2: 256
(2)
الموافقات 2: 265
(3)
الموافقات 2: 266
جـ- المقارنة بين التقسيمين:
أولًا: يختلف التقسيمان من ناحية منطقهما، فابن القيم يقوم منطقه على ملاحظة النية والقصد في الفعل، ولهذا تتكرر عنده عبارة الفعل المباح في أصله الذي قصد به التوسل إلى المفسدة، أما الشاطبي فلا ينظر إلى القصد في الفعل بقدر ما ينظر إلى نتائج ذلك الفعل وآثاره بحسب المآل الظاهري، ولهذا تجده يتعلق بشكل ظاهر بدرجة أداء الفعل للمفسدة من حيث القطعية والظنية.
والاختلاف في منطق المسألة عند الإمامين هنا راجع إلى اختلاف كبير في الفقه وهو هل يكون النظر إلى أي فعل بحسب آثاره الظاهرة أو بحسب نية قصد فاعله منه، بتعبير آخر هل الاعتداد في الأحكام الدنيوية يكون بالإرادة الباطنة أم الظاهرة؟
ثانيًا: يلاحظ أن ابن القيم وقد جعل المعيار في تقسيمه على النية والقصد يحسم موضوع بيوع الآجال ونكاح التحليل ويسد الذريعة في كل منهما، أما الشاطبي فقد كان أكثر رحابة وتقبلًا للخلاف في مثل هذه المسائل.
ثالثًا: يلاحظ على ابن القيم في تقسيمه أنه أدخل أمورًا ليست من الذرائع فيها فالقسم الأول من أقسامه يجعله للذريعة أو الوسيلة الموضوعة للإفضاء إلى المفسدة، كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر، والقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب، وكل ما ذكره في هذا القسم يدخل ـ حقيقة ـ في باب المقاصد لا الذرائع؛ لأن شرب الخمر حرام لذاته كما أن الزنى والقذف محرمان لذاتهما، وليس ذلك من باب الذرائع، ولو ساغ لنا أن نعتبر هذا النوع من الذرائع لأدخلنا فيها كل الأمور المنهي عنها شرعًا لأن كل أمر نهى عنه الشارع فإن نهيه عنه يكون لمفسدة تترتب عليه.
رابعًا: يمكننا أن نقرر ـ فيما وراء ما سبق من اختلافات بين الإمامين في تقسيمهما ـ أن القدر المشترك بينهما هو المباح في أصله الذي يكون وسيلة للمفسدة فهذا هو الذي تسد فيه الذريعة مع الاختلاف في الدرجة بحسب القطعية والظنية، وهذا اتجاه الشاطبي ومع ملاحظة النية والقصد وهو اتجاه ابن القيم.
أما التقسيمات الأخرى للفقهاء للذرائع، كتقسيم القرافي والصاوي من المالكية، وابن الرفعة من الشافعية، وغيرهم، فهي تقسيمات أساسها موقف العلماء من الذرائع من جهة ما هو مجمع على سده وما هو موضع خلاف، ولا تتعدى ذلك إلى ذات الذرائع، ولهذا فإن الأنسب تناولها خلال الحديث عن موقف الأئمة والفقهاء من سد الذرائع.
المبحث الرابع
في موقف أئمة الفقه من الأخذ بسد الذرائع
مع شواهد وتطبيقات
يقسم الفقهاء الذرائع من جهة موقف الأئمة من الأخذ بها أو عدم الأخذ بها إلى ثلاثة أقسام: (1) .
1-
قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه كحفر الآبار في طريق المسلمين فإنه وسيلة إلى هلاكهم فيها، وإلقاء السم في أطعمتهم فإنه وسيلة إلى إهلاكهم أيضًا.
وهذا القسم يسميه الشاطبي ما أدى إلى المفسدة قطعًا في العادة، ويدخل عند ابن القيم في المباح الذي تكون مفسدته أرجح من مصلحته.
2-
قسم أجمعت الأمة على عدم منعه وأنه ذريعة لا تسد ووسيلة لا تحسم كالمنع من العنب خشية الخمر، وكالمجاورة في البيوت خشية الزنى وعدم منع هذا القسم لندور أو توهم المفسدة فيه فضلًا عن وجود مصلحة محققة فيه.
ويدخل هذا القسم عند ابن القيم فيما تكون مصلحته أرجح من مفسدته وهو القسم الرابع عنده، ويدخل عند الشاطبي فيما يؤدي إلى المفسدة نادرًا لا كثيرًا ولا غالبًا.
3-
قسم اختلف فيه العلماء وهو ما سماه الشاطبي ما أدى إلى المفسدة كثيرًا وقد رأيناه عند تناولنا لتقسيم الشاطبي إحالته لهذا القسم إلى وجهين: ما يكون غالبًا في كثرته بحيث يغلب على الظن أداؤه إلى المفسدة كبيع السلاح وقت الحرب وبيع العنب للخمار وهو ـ كما أسلفنا أيضًا ـ يمنع هذا النوع ويسده، وإن كان يرى أنه دون القطعي كما يشير إلى وقوع الخلاف فيه، والوجه الثاني ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا كبيوع الآجال وهو يقرر عند عرضه لهذا النوع أنه موضع نظر والتباس (2) .
أما ابن القيم فيدخل هذا القسم عنده في القسم الثاني، وهو الذريعة الموضوعة للمباح وقصد بها التوصل إلى المفسدة ويمنع عنده هذا القسم سدًا للذريعة كما سلف توضحيه.
(1) راجع الفروق للقرافي 2: 32 وحاشية الصاوي بهامش الشرح الصغير 4: 152، طبعة الحلبي، وإرشاد الفحول للشوكاني: 217، 218
(2)
الموافقات 2: 266
محل النزاع:
في ضوء ما سلف بيانه فإن محل النزاع بين العلماء في سد الذرائع هو المباح الذي يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا بوجهيه السالفين اللذين أوردهما الشاطبي؛ لأن هذا النوع لا يؤدي إلى المفسدة قطعًا فيمنع ولا نادرًا فيباح (1) .
وفيما وراء ذلك فإنه أئمة الفقه الأربعة متفقون على الأخذ بمبدأ سد الذرائع في الجملة، وفي هذا يقول القرافي:(وليس سد الذرائع من خواص مذهب مالك كما يتوهمه كثير من المالكية، بل الذرائع ثلاثة أقسام، ثم يعدد الأقسام الثلاثة التي سلف عرضها وصورها الفقهية ثم يعقب على المسائل التي هي محل اختلاف: (فنحن قلنا بسد هذه الذرائع ولم يقل بها الشافعي فليس سد الذرائع خاصًا بمالك رحمه الله بل قال بها أكثر من غيره وأصل سدها مجمع عليه (2) .
وفيها يقول القرطبي: (سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلًا ثم يقول: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يفضي إلى الوقوع قطعًا أو لا يفضي، الأول ليس من هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (والذي لا يلزم ـ أي إفضاؤه إلى المحظور قطعًا ـ إما أن يفضي إليه غالبًا أو ينفك عنه أو يتساوى الأمران وهو المسمى بالذرائع عندنا فالأول: لا بد من مراعاته، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه وربما يسميه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة (3) .
(1) الموافقات 2: 266
(2)
الفروق 2: 32
(3)
إرشاد الفحول لشوكاني: 217 وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي 2: 893
نخلص من ذلك إلى أن مبدأ سد الذرائع متفق عليه عند الأئمة مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو حنيفة ولم ينازع فيه كمبدأ إلا ابن حزم الظاهري.
أما موضع الخلاف فيه فهو ما أدى إلى المفسدة كثيرًا بوجهيه، وهذا يتجه المالكية والحنابلة إلى سد الذريعة فيه، والشافعية إلى عدم سد الذريعة فيه وبخاصة في بيوع الآجال، أما الحنفية فلهم موقف وسط بين الفريقين كما سوف نرى من خلال بعض فروعهم.
وأصل الخلاف في هذا القسم راجع ـ كما ذكرنا من قبل ـ إلى أن من الفقهاء من يعول على النية والقصد في الإحكام الدنيوية وبخاصة أحكام البيوع، ومنهم من يعول على الظاهر، والأولون هم المالكية والحنابلة الذين اتجهوا إلى سد الذرائع مطلقًا، والآخرون هم الشافعية والحنفية إلى قدر، أما الأحكام الدينية فالجميع متفق على سد الذرائع فيها.
ومما يدل على أخذ الإمام الشافعي بمبدأ سد الذرائع قوله في باب إحياء الموات من كتاب الأم عند الحديث عن النهي عن منع الماء ليمنع به الكلأ إن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله (1) .
ومن القواعد الفقهية التي تشهد لسد الذرائع عند الشافعية قواعدهم:
1-
ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
2-
ما حرم الله استعماله حرم اتخاذه.
3-
من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه (2) .
ومما يدل على أخذ الحنفية بمبدأ سد الذرائع ما جاء في (بدائع الصنائع) بشأن خروج المرأة إلى صلاة العيد ونحوها إذا كان يخشى منها الفتنة.
وأما النسوة فهل يرخص لهن أن يخرجن في العيدين؟ أجمعوا على أنه لا يرخص للثوب منهن الخروج في الجمعة والعيدين وشيء من الصلاة لأن خروجهن سبب الفتنة بلا شك والفتنة حرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام) (3) .
وما جاء في الهداية بشأن تعليل منع المرأة الحادة من استعمال الطيب.
والمعنى فيه وجهان: أحدهما ما ذكرناه من إظهار التأسف والثاني أن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها وهي ممنوعة من النكاح فتجتنبها كيلا تصير ذريعة (4) .
(1) الأم 3: 72 طبعة الشعب
(2)
راجع: سد الذرائع في الشريعة الإسلامية للأستاذ محمد هشام البرهاني 699، 700
(3)
بدائع الصنائع 2/ 275 طبعة دار الكتاب العربي ببيروت.
(4)
الهداية 2: 32
فالمذاهب كلها على هذا آخذة بمبدأ سد الذرائع كما قرره القرافي، والاختلاف فقط اختلاف في تحقيق المناط كما يقول الشاطبي، فالإمام الشافعي في مسائل بيوع العينة مثلًا لا يجيز التذرع إلى الربا بحال إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع (1) .
وقد يكون الاختلاف في بعض الحالات اختلافًا في التقدير والموازنة بين المصلحة والمفسدة، فمن غلبت عنده المفسدة يسد الذريعة إليها، ومن تغلب عنده المصلحة لا يسد الذريعة، مع اتفاق الجميع على منع الذرائع إلى الفساد والضرر؛ لأن هذا مبدأ أساسي تشهد له الشريعة كلياتها وجزئياتها.
وفي هذا المعنى يقول الشاطبي وهو يتناول الحيل: (وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقًا فإنما قال بهاء بناء على أن للشارع قصدًا في استجلاب المصالح ودرء المفاسد، بل الشريعة لهذا وضعت، فإذا صحح مثلًا نكاح المحلل فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب مصلحة الزوجين فيه، وكذلك سائر المسائل بدليل صحته في النطق بكلمة الكفر خوف القتل أو التعذيب، وفي سائر المصالح العامة والخاصة، إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة، كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة، فإنما يبطل فيها ما كان مضادًا لقصد الشارع خاصة، وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة)(2) .
(1) الموافقات 4: 200 بتحقيق الشيخ عبد الله دراز.
(2)
الموافقات 2: 247
أما ابن حزم الذي أنكر سد الذرائع جملة وتفصيلًا فإن إنكاره لها يرجع إلى مبدئه الظاهري الذي يعول فيه كثيرًا على ظواهر النصوص ويرفض الغوص وراء المعاني، يتضح ذلك من قوله بشأن الذرائع:(ذهب قوم إلى تحريم أشياء عن طريق الاحتياط وخوف أن يتذرع منها إلى الحرام البحت، واحتجوا لذلك بما روي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه)) (1) . وبعد أن يورد روايات متعددة للحديث يلحق ذلك بقوله: فهذا حض منه عليه الصلاة والسلام على الورع، ونص جلي على أن ما حول الحمى ليس من الحمى، وأن تلك المشتبهات ليس بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فعل من الحرام فهي على حكم الحلال بقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] .
وبقوله صلى الله عليه وسلم ((أعظم الناس جرمًا في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)) (2) .
فمنطق ابن حزم في عدم القول بسد الذرائع أن التحريم لا يكون إلا بنص مفصل وما وراء ذلك يظل على مبدأ الاستصحاب والعفو وأن الأصل في الأشياء الإباحة.
ولاستخدامه لمبدأ الاستصحاب بكثرة في فقهه يرى عدم جواز الحكم بالظن لأنه ليس في حاجة إليه ما دام أن باب العفو والبراءة رحب واسع ومع ذلك فإن ابن حزم يقول بسد الذريعة إذا كان الفعل متيقنًا أداؤه إلى الحرام كالتوضؤ بماءين متيقن نجاسة أحدهما من غير تعيين فإن المصلي بذلك الوضوء يكون مصليًا وهو حامل لنجاسة فهذا لا يجوز، وكذلك القول في ثوبين أحدهما نجس بيقين لا يعرف بعينه (3) .
يبقى ـ بعد ذلك ـ أمر أخير لا بد من الإشارة إليه في حجج ابن حزم التي أوردها في عدم الأخذ بسد الذرائع وهو احتجاجه على الجمهور ببعض الفروع التي لم يقل الجمهور بسد الذريعة فيها حيث يقول بعد وصفه لمذهب الجمهور بالتخاذل والتناقض: (وإذا حرم شيء حلال خوف تذرع إلى حرام فليخص الرجال خوف أن يزنوا، وليقتل الناس خوف أن يكفروا، ولتقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر)(4) .
فهذه الصور ـ كما سلف توضيحيه ـ لا يسد الجمهور الذريعة فيها اعتمادًا على أن المفسدة فيها متوهمة أو نادرة وأن المصلحة فيها غالبة.
(1) الحديث رواه البخاري
(2)
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 6: 746
(3)
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 6: 746
(4)
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 6: 449
المبحث الخامس
في الأدلة على حجية سد الذرائع من القرآن
والسنة وفتاوي الصحابة
يجد سد الذرائع سنده في أدلة كثيرة من القرآن والسنة وعمل الصحابة.
- فمن الكتاب:
1-
قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
ووجه الدلالة في الآية على المقصود أن الله حرم سب آلهة المشركين لئلا يؤدي فعلهم ذلك إلى سب الله تعالى، ومصلحة ترك سبه أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وفي هذا تنبيه على المنع من الجائز لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز.
2-
قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] .
ووجه: دلالة الآية على المراد أنه سبحانه منعهن من ضرب الأرجل وإن كان هذا الفعل جائزًا في نفسه لئلا يكون سببًا في سماع الرجال صدى حركة الحلي فيثير ذلك فيهم دواعي الشهوة، فالفعل في ذاته مباح لكن ما أدى إليه ممنوع، ولذلك منع.
3-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] .
ووجه دلالة الآية على سد الذرائع أن الله نهاهم عن قول هذه الكلمة مع أن قصدهم حسن في ذلك ـ لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود فإن اليهود كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون يا أبا القاسم راعنا يوهمون أنهم يريدون الدعاء من المراعاة وهم يقصدون فاعلًا من الرعونة (1) .
(1) انظر أحكام القرآن لابن العربي 1: 32
- ومن السنة:
1-
ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله هل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه)) (1) .
2-
نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين وقوله في ذلك: ((لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)) (2) . فكف صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع أن قتلهم مصلحة في ذاته ـ لئلا يكون ذلك ذريعة لنفور الناس عنه.
3-
نهيه صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها لئلا يؤدي ذلك إلى قطع الأرحام (3) .
4-
قوله صلى الله عليه وسلم ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (4) .
5-
قوله صلى الله عليه وسلم ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كان كالواقع في الحمى يوشك أن يقع فيه)) وقوله: ((ألا لكل ملك حمى وأن حمى الله محارمه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)) (5) .
(1) الحديث أخرجه البخاري في باب الأدب ومسلم في الإيمان
(2)
الحديث رواه مسلم
(3)
رواه البخاري
(4)
رواه البخاري
(5)
رواه البخاري
ومن عمل صحابة بسد الذرائع:
1-
أن الخليفتين أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان كراهية أن يظن من رآهما وجوبها (1) .
2-
أن سيدنا عثمان رضي الله عنه أتم الصلاة بالناس في الحج ثم خطب وقال: ((إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ولكن حدث طغام فخفت أن يستنوا)) (2) .
3-
أن سيدنا عمر نهى عن نكاح نساء أهل الذمة سدًا لذريعة مواقعة المومسات منهن وما يجلبه ذلك من ضياع الولد بإفساد خلقه، أثر أن حذيفة بن اليمان تزوج بيهودية فكتب إليه سيدنا عمر أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة أحرام هي؟ فكتب إليه عمر لا ولكني أخشى مواقعة المومسات منهن (3) .
4-
ما قضي به رضي الله عنه في الرجل الذي تزوج بالمرأة في عدتها بتطليقها منه وتحريمها عليه تحريمًا مؤبدًا زجرًا لغيره وسدًا لذريعة الفساد، وروى الإمام مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار:(أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها ونكحها غيره في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بمخفقته وفرق بينهما ثم قال: (أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم كان الآخر خاطبًا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر ثم لا يجتمعان ابدًا (4) .
5-
ضربه رضي الله عنه لصبيغ العراقي حين كان يطوف حاملًا القرآن ليسأله الناس عن مشكلة منعًا له من ذلك وسداّ لذريعة الاشتغال بما لا ينبني عليه عمله (5) .
(1) الموافقات 3: 300
(2)
كنز العمال 4: 239 وتعليل الأحكام للشيخ محمد مصطفى شلبي 45
(3)
أحكام القرآن للجصاص 2: 397
(4)
الموطأ بشرح السيوطي 2: 9
(5)
الاعتصام للشاطبي 3: 54
وفوق هذه الأدلة التي تشهد لسد الذرائع من القرآن والسنة وعمل الصحابة وفتاواهم فإن هناك اجتهادات كثيرة للتابعين عملوا فيها بسد الذرائع وبخاصة فقهاء المدينة ككراهيتهم لصيام ستة أيام من شوال بعد رمضان مباشرة وذلك خوفًا من أن يلحق عوام الناس ذلك برمضان ويعتقدون فريضته (1) .
وإجازتهم للسلف في الحيوان إذا كان معلوم الصفة ليرد المستلف مثله واستثنائهم الجواري سدًا لذريعة استمتاع المقترض بهن ووصوله إلى ما لا يحل له (2) .
ونهيهم عن البيع والسلف خشية الربا (3) . والإقالة بغير رأس المال سدًا لذريعة بيع الطعام قبل قبضه (4) .
والأدلة على كل حال في الباب كثيرة وتصحبها أيضًا في ذلك الأدلة التي يوردها العلماء للعمل بمبدأ المصالح المرسلة لأن سد الذرائع ما هو إلا وجه من وجوه الاجتهاد المصلحي ـ كما سلف ذكره ـ لأنه موازنة بين الضر والمصلحة، لدفع الضرر عند غلبته واستفحاله وتقديم المصلحة عند تأكد رجحانها.
ويلحق بكل ما سبق في الاستدلال لسد الذرائع مبدأ أن التعاون على الإثم والعدوان لا يجوز مطلقًا وهو مبدأ مقرر بقوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (5)[المائدة: 2]
(1) الموطأ بشرح السيوطي 1: 228
(2)
الموطأ بشرح السيوطي 2: 85
(3)
الموطأ بشرح السيوطي 2: 80
(4)
الموطأ بشرح السيوطي 2: 65
(5)
الموافقات 2: 265
المبحث السادس
عن أثر الاختلاف في سد الذرائع في اختلاف الفقهاء
في الفروع الفقهية
كان للاختلاف في تحقيق المناط أو في الموازنة بين المصلحة والمفسدة في بعض صور الذرائع بالصورة التي سلف إجمالها عند الحديث عن موقف المذاهب الفقهية من سد الذرائع أثر في الاختلاف في الفروع الفقهية المأثورة عن تلك المذاهب.
وسوف أعرض نماذج لتلك المسائل مبينًا موقف المذاهب الفقهية المختلفة منها.
1-
بيع السلاح لمن يستعمله في حرام:
يرى فقهاء الحنابلة حرمة بيع السلاح لمن يستعمله في معصية كقتال المسلمين ونحوه إذا كان البائع قد وقف على غرض المشتري ولو كان ذلك بطريق القرائن، والبيع عندهم في هذه الحال يكون باطلًا من أصله.
جاء في كشاف القناع للبهوتي عطفًا على كلام سبق في شأن البيوع التي لا تصح: (ولا بيع سلاح ونحوه في فتنة أو لأهل حرب أو لقطاع طريق إذا علم البائع ذلك من مشتريه ولو بقرائن)(1) . والمالكية يرون رأي الحنابلة في حرمة البيع، جاء في كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب ـ عطفًا على كلام سبق ـ:(كما يحرم بيعه السلاح لمن يعلم أنه يريد قطع الطريق على المسلمين وإثارة الفتنة بينهم)(2) .
ورغم اتفاق الحنابلة والمالكية في حرمة البيع إلا أن الحنابلة ـ كما أشرنا ـ يرون بطلانه أما المالكية فيقولون بانعقاده مع إجبار المشتري على إخراج المبيع من ملكه ببيع أو نحوه.
يقول خليل في مختصره: (وأجبر على إخراجه بعتق أو هبة)(3) .
أما الحنفية فيقولون بصحة البيع ونفاذه إلا إذا أفصح البائع عن الغرض غير المشروع صراحة في صلب العقد أو عرف أن المشتري من أهل الفتنة.
(1) كشاف القناع للبهوتي 3: 181، 182 طبعة عالم الكتب، وانظر المغني لابن قدامة 4: 245
(2)
مواهب الجليل للحطاب 4: 254
(3)
مواهب الجليل للحطاب 4: 254
جاء في الهداية: (قال) ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة (معناه ممن يعرف أنه من أهل الفتنة لأنه تسبب إلى المعصية وقد بيناه في السير وإن كان لا يعرف أنه من أهل الفتنة لا بأس بذلك لأنه يحتمل ألا يستعمله في الفتنة فلا يكره بالشك)(1) .
والشافعية أيضًا على صحة البيع في مثل هذه الحالة، جاء في الأم للإمام الشافعي:(أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحًا في الظاهر لم أبطله بتهمة ولا بعادة بين المتبايعين، وأجزته بصحة الظاهر وأكره النية إذا كانت النية أو أظهرت كانت تفسد البيع، وكما أكره لهما للرجل أن يشتري السيف على أن يقتل به، ولا يحرم على بائعه أن يبيعه ممن يراه أن يقتل به ظلمًا لأنه قد لا يقتل به ولا أفسد عليه هذا البيع)(2) .
لعلة واضح من الاختلاف بين الفقهاء في هذه المسألة أن اختلافهم أساسه قاعدة الذرائع، فالحنابلة والمالكية الذين يتشددون في الأخذ بهذا المبدأ يبطل الأولون منهم مثل هذا البيع بطلانًا مطلقًا، والآخرون وإن لم يقولوا ببطلانه لكنهم يبطلون أثره وهو تملك المشتري للمبيع، ويلزمونه بإخراجه من ملكه خوف الضرر والفساد الذي يؤدي إليه ذلك الصنيع، وقد جاء في الحطاب ما يدل على تعويلهم على سد الذرائع في هذه المسألة حيث قال ـ تعقيبًا على جملة مسائل سبقت ـ قال الأبي والمذهب في هذا سد الذرائع) (3) .
أما الحنفية والشافعية فواضح من أقوالهم أنهم لا يسدون الذريعة هنا ـ ما دام أن الغرض غير المشروع لم يفصح عنه صراحة ـ ويكتفون الأخذ بظاهر التصرف ولا يرون مبررًا لإبطاله بتهمة ولا بعادة بني المتبايعين كما يعبر الإمام الشافعي في نصه السابق ـ وإن كانت النية في ذلك مكروهة وغير مستحبة لكن الحكم يصح قضاء وينفذ.
(1) الهداية 4: 94 طبعة الحلبي
(2)
الأم 3: 65 طبعة الشعب
(3)
شرح مواهب الجليل للحطاب 4: 254
2-
بيع عصير العنب لمن يتخذه خمرا:
يرى الحنابلة بطلان بيع عصير العنب لمن يتخذه خمرًا ويكتفون في ذلك بقيام القرائن التي تدل على إرادة صنع الخمر منه يقول ابن قدامة في المغني: (وبيع العصير ممن يتخذه خمرًا باطل) ثم يقول: (إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم البائع قصد المشتري إما بقوله أو بقرائن مختصة به تدل على ذلك) .
ثم يستدل لذلك بعد بيانه لرأي الشافعية في المسألة (ولنا أنه عقد على عين معصية الله فلم يصح كإجارته الأمة للزنا والغناء) ثم يقول: (ولأن التحريم ههنا لحق الله تعالى فأفسد العقد كبيع درهم بدرهمين) إلى أن يقول: " وهكذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق أو في الفتنة) (1) .
والمالكية على قاعدتهم في حرمة مثل هذا البيع ديانة، وقضاء يرون انعقاده مع إجبار المشتري على إخراج المبيع من ملكه.
جاء في نيل المآرب شرح دليل الطالب: (ولا يصح بيع العنب أو العصير لمتخذه خمرًا ولا مأكول ومشروب ومشموم وقدح لمن يشرب عليه أو به مسكرًا، ولا يصح بيع البيض والجوز ونحوهما للقمار (2) إلخ.. ".
أما الحنفية فيرون صحة هذا البيع، جاء في مختصر الطحاوي (ومن كان عنده عصير فلا بأس عليه ببيعه وليس عليه أن يقصد بذلك إلى من يأمنه أن يتخذه خمرًا دون من يخاف ذلك عليه؛ لأن العصير حلال فبيعه حلال كبيع ما سواه من الأشياء الحلال مما ليس على بائعها الكشف عما يفعله المشتري فيها (3) .
والشافعية أيضًا على صحة هذا البيع، يقول الإمام الشافعي في الأم:(وكما أكره للرجل أن يبيع العنب ممن يراه أن يعصره خمرًا ولا أفسد البيع إذا باعه إليه لأنه باعه حلالًا وقد يمكن أن لا يجعله خمرًا أبداً)(4) ، أساس الاختلاف في هذه المسألة هو نفس الأساس الذي انبنى عليه الخلاف في المسألة السابقة حيث يتقابل منزعان، منزع من يسد الذريعة لاحتمال التهمة فيبطل التصرف، وحتى إذا أجازه يبطل أثره وهؤلاء على التوالي الحنابلة والمالكية، ومنزع من يرى أن التهمة هنا لا ترقى إلى إبطال التصرف ومن ثم يرى صحته قضاء، وهؤلاء هم الحنفية والشافعية اللذين لا يسدون الذريعة في مثل هذه المسائل ويكتفون بالحكم بالظاهر بقصد ضبط التعامل واستقراره.
(1) المغني 4: 245، 246 طبعة الحلبي.
(2)
نيل المآرب شرح دليل الطالب لابن عمر الشيباني 1/ 122 طبعة صبيح. وراجع شرح الحطاب 4: 54
(3)
مختصر الطحاوي ص 280 بتعليق أبو الوفا الأفغاني طبعة لجنة إحياء المعارف العمانية
(4)
الأم 3: 265 طبعة الشعب
3-
نكاح التحليل:
يقصد بنكاح التحليل الزواج بالمرأة المطلقة ثلاثًا من زوج سابق بقصد حلها له.
وقد اتفق الفقهاء على أن الزواج بالمطلقة ثلاثًا بشرط صريح في العقد على التحليل لا يجوز وهو حرام عند الجمهور مكروه كراهة تحريمية عند الحنفية (1) .
ويترتب على ذلك فساد العقد عند الجمهور، ويرى أبو حنيفة وزفر صحة العقد مع الكراهة التحريمية، وقال محمد بن الحسن بصحة العقد وبطلان الشرط، وفي رواية عن أبي حنيفة يجوز العقد والشرط معًا وإن كان كثير من فقهاء الحنفية يشير إلى ضعف هذه الرواية عن الإمام، وأبو يوسف مع الجمهور في فساد العقد.
أما إذا لم يشترط التحليل في العقد فالمالكية والحنابلة يقولون أيضًا بالبطلان.
ويرى الحنفية والشافعية صحة مثل هذا العقد وتحل المرأة بوطء الزوج الثاني لزوجها الأول.
والخلاف بين المالكية والحنابلة من جهة، والحنفية والشافعية من جهة أخرى ـ في هذه المسألة ـ أساسه الاختلاف في قاعدة سد الذرائع في مثل هذه الصورة.
فالمالكية والحنابلة يسدون الذريعة فيبطلون العقد، والحنفية والشافعية يرون أن النية وحدها لا تكفي في إبطال العقد فيقع الزواج صحيحًا لتوافر شرائط الصحة فيه، ولا تسد الذريعة هنا لعدم قيام الدليل عليها بحسب الظاهر.
(1) راجع الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي 7: 478
4-
بيوع الآجال:
صورة بيوع الآجال أن يبيع الرجل سلعة لآخر بثمن إلى أجل ثم يشتريها منه بثمن آخر إلى أجل آخر أو نقداً (1) .
والقاعدة عند المالكية في هذه البيوع الجواز مطلقًا عند اتفاق الثمنين ولا ينظر لاختلاف الأجل، والجواز أيضًا عند اتفاق الأجلين ولا ينظر لاختلاف الثمن.
أما إذا اختلف الأجلان والثمنان فإنه ينظر إلى اليد السابقة بالعطاء فإن دفعت قليلًا وعاد إليها كثيرًا فهذا هو الممنوع لأنه ربا وإلا فجائز (2) .
وكما يسمى الممنوع من هذه البيوع بيوع الآجال يسمى بيوع الذرائع الربوية (3) .
والخلاف في هذه البيوع أظهر ما يكون بين المالكية والشافعية، أما الحنفية فقد يتفقون مع المالكية في بعضها لكن دليل المنع عندهم ليس سد الذرائع وإنما يمنعونها لفساد البيع الثاني لأنه مبني على الأول، والأول لم يستوف ثمنه فإذا باع شخص لآخر مثلًا ـ سلعة بعشرة دراهم إلى أجل ثم اشتراها منه بخمسة نقدًا يكون البيع الثاني فاسدًا عندهم لأنه مبني على الأول الذي لم يستوف ثمنه فيؤول الأمر ـ في المسألة ـ إلى بيع خمسة دراهم بعشرة إلى آجل وهو ربا فضل ونساء معاً (4) .
(1) بداية المجتهد لابن رشد 2: 140
(2)
فقه المعاملات على مذهب الإمام مالك للأستاذ حسن كامل الملطاوي: 98 والحطاب 4: 392
(3)
بداية المجتهد 2: 140
(4)
أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي 2: 892، 883
أما المالكية فيمنعونها لكثرة قصد الناس بها التوصل إلى الربا، فأساس المنع عندهم سد الذريعة إلى الربا، وكثيرًا ما ورد ذلك على لسان الإمام مالك نفسه في كتابه الموطأ أو فيما رواه ابن القاسم عنه في المدونة.
وفوق ذلك فإن المالكية يؤيدون رأيهم في أصل منع هذه البيوع بحديث زيد بن أرقم أن أم ولده قالت لعائشة رضي الله عنها يا أم المؤمنين إني بعت من زيد بن أرقم عبدًا بثمانمائة درهم إلى العطاء واشتريته منه بستمائة نقدًا، فقالت عائشة رضي الله عنها بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب) (1) .
والشافعية يصححون بيوع الآجال قضاء تاركين القصد الباطني إلى المحاسبة الأخروية طردًا لقاعدتهم في التعويل على الظاهر في العقود إلا إذا قام دليل واضح على قصد الربا المحرم (2) .
كما أنهم يجيبون على حديث زيد بن أرقم بأن ما قالته السيدة عائشة فيه باجتهادها واجتهاد الصحابي لا يكون حجة على صحابي آخر بالإجماع فضلًا عن أن قول السيدة عائشة معارض بفعل زيد بن أرقم وهو صحابي (3) .
أما الحنابلة فهم مع المالكية في منع ما يكون مظنة التهمة إلى الربا من هذه البيوع جاء في المغني: (ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به ثم يشير صاحب المغني إلى أن ذلك قول أكثر أهل العلم وأنه ذريعة إلى الربا (4) .
(1) إرشاد الفحول للشوكاني: 217 والحديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه
(2)
أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي 2: 892
(3)
إرشاد الفحول للشوكاني: 217
(4)
المغني 4/ 157، 158 طبعة الإمام
وهكذا ترى من خلال عرض المذاهب الأربعة من قضية بيوع الآجال أن المالكية والحنابلة على قاعدتهم في المنع من كل ما يؤدي إلى ما هو محظور سدًا للذريعة، والشافعية على قاعدتهم في الجواز ما دام أن العقد نفسه لم يشتمل صراحة على القصد إلى الممنوع.
أما الحنفية فيتفقون مع المالكية والحنابلة وإن اختلف مسلكهم في الدليل أحيانًا ـ كما سبقت الإشارة ـ على أنه لا بد من بيان أن بعض فقهائهم يستدلون بحديث زيد بن أرقم وبشبهة الربا فيكون دليلهم هو نفس دليل المالكية في المسألة (1) .
وهذا يرجع بنا إلى تأكيد ـ ما سلف ذكره عن القرافي ـ أن الخلاف بين الفقهاء في سد الذرائع ليس خلافًا في الأصل وإنما هو خلاف في بعض الصور والتفاصيل والجزئيات، وهذا قد تتعدد أسبابه بحسب اختلاف مدارك الفقهاء في تقدير المصلحة والمفسدة والموازنة بينهما، أو توفر أدلة عند فريق في المسألة وهي غير مأخوذ بها عند الفريق الآخر، أو توفر أدلة عند فريق في المسألة وهي غير مأخوذ بها عند الفريق الآخر، أو اختلاف المنزع من حيث التعويل على الظاهر ـ في العقود خاصة ـ أو عدم التعويل عليه والاتجاه إلى النية أو تلمس دلائل أخرى ككثرة القصد إلى الممنوع وهكذا.
والخلاف في كل هذا سائغ ما دام أن الأصل محل اتفاق بسد الذرائع إلى الفساد والضرر متى ما قام الدليل على ذلك بوضوح وجلاء.
يبقى ـ أخيرًا ـ أن نختم هذا المطلب بما ذكره المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة من أن المبالغة مطلقًا في الأخذ بسد الذرائع هي الأخرى مضرة حيث يقول: (إن الأخذ بالذرائع لا تصح المبالغة فيه، فإن المغرق فيه قد يمتنع عن أمر مباح أو مندوب أو واجب خشية الوقوع في ظلم، كامتناع بعض العادلين عن تولي أموال اليتامى أو أموال الأوقاف خشية التهمة من الناس أو خشية على أنفسهم أن يقعوا في ظلم، ولأنه لوحظ أن بعض الناس قد يمتنع عن أمور كثيرة خشية الوقوع في الحرام)(2) .
(1) راجع بدائع الصنائع للكاساني 5: 198، 199 طبعة دار الكتاب العربي ببيروت
(2)
أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة: 251
المبحث السابع
في فتح الذرائع عند الفقهاء
مصطلح فتح الذرائع مصطلح جاء على لسان الإمام القرافي الذي يستخدم الذريعة بمعنى الوسيلة مطلقًا ـ كما سلفت الإشارة إلى ذلك ـ ومن ثم تسد الذريعة التي تفضي إلى ممنوع ويفتح الذريعة المؤدية إلى مصلحة وفي ذلك يقول: (اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح (1) .
ويقول: (قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع به بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة عندنا، وكدفع المال لرجل يأكله حرامًا حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عند دفعه عنها إلا بذلك، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال عند مالك رحمه الله ولكنه اشترط فيه أن يكون يسيرًا، فهذه الصورة كلها للدفع وسيلة إلى المعصية بأكل المال ومع ذلك فهو مأمور به لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة (2) .
في ضوء نصي القرافي السابقين فإن فتح الذرائع يعني إباحة الأمر الممنوع إذا ترتبت على إباحته مصلحة.
(1) الفروق للقرافي 2: 3
(2)
الفروق للقرافي 2: 3
والشاطبي يؤكد هذا المعنى وإن لم يتناوله بنفس التسمية التي سماه بها القرافي، وإنما يتناوله من خلال الحديث عن تداخل المفاسد والمصالح في عمل من الأعمال، فيقرر أن فعل المعصية قد يجوز وذلك في حال ما إذا رجحت المصلحة المترتبة على الفعل في المفسدة التي تنطوي عليها المعصية، ويمثل له بنفس الأمثلة التي أوردها القرافي (1) .
وفي كل الأحوال فإن أمثلة فتح الذرائع التي أوردها القرافي تتمثل في الآتي:
1-
جواز دفع المال للمحاربين الكفار توصلًا إلى فداء الأسرى المسلمين، وفتح الذريعة هنا أن دفع المال للمحاربين في الأصل حرام لا يجوز، لما فيه من تقوية الكفار والإضرار بجماعة المسلمين، لكنه أجيز دفعًا لضرر أكبر هو تخليص أسرى المسلمين من الأسر وتقوية المسلمين بهم (2) .
2-
جواز دفع المال للدولة المحاربة لدفع خطرها وأذاها إذا لم يكن جماعة من المسلمين على مستوى القوة التي يستطيعون بها حماية بلادهم (3) .
3-
جواز دفع المال لرجل حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن دفعه إلا بذلك (4) .
ولعل هذه الصورة شبيهة بما يمارسه بعض الخارجين على القانون باحتجازهم الفتيات والصبيان والتهديد بقتلهم أو الفجور بهم إذا لم يعطوا فدية يقررونها، فإن إعطاءهم الفدية جائز إذا لم يكن للسلطان سبيل إلى التمكن منهم وتخليص المحتجزين بأمن وسلام من غير أن يمسهم سوء أو أذى.
(1) الموافقات 2: 258
(2)
الفروق 2: 33، والموافقات 2: 258
(3)
الفروق 2: 33
(4)
الفروق 2: 33
هذا هو المراد بفتح الذرائع، والذي أراه أن فتح الذرائع يدخل في باب الموازنة بين المصلحة والمفسدة ورجحان المصلحة، وهو ما اتجه إليه الشاطبي أو يدخل في باب الضرورة إذ الضرورات تبيح المحظورات، ولو أجلنا النظر في كل المسائل التي أوردها العلماء في هذا الباب لوجدنا فيها ضرورات أجازت ارتكاب المحظور، فدفع المال للدولة المحاربة لتخليص الأسرى المسلمين أبيح للضرورة مع أن الأصل عدم جوازه، ودفع المال للرجل الذي يصمم على الزنى بامرأة مغالبة ولا سبيل على دفعه إلا بإعطائه المال أيضًا من باب الضرورة وهكذا الشأن في كل المسائل التي وردت في هذا الباب بل وأصرح من هذا فإن الشاطبي وهو يستدل على هذا المعنى يقول:(إن جلب المنفعة أو دفع المفسدة مطلوب للشارع مقصود، ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة إلى أشياء كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها (1) .
ومن شأن إدخال هذه المسائل في قاعدة الضرورات التقليل من تجويزها إلا على سبيل الاستثناء في الحالات التي تستوجب ذلك وفي أضيق الحدود؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها (2) .
(1) الموافقات 2: 257
(2)
قاعدة فقهية معروفة
والقرافي نفسه نجد عنده إشارة إلى هذا المعنى فهو عند حديثه عن فتح الذرائع وإيراد أمثلتها يقول: (وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال عند مالك رحمه الله ولكنه اشترط فيه أن يكون يسيراً (1) .
أما تسميتها بفتح الذرائع وهو مسلك القرافي، فهو ـ في نظري ـ لا يعدو أن يكون إيغالًا في استخدام المصطلحات الفنية وهو إيغال قد يتحمله المعنى لأن فتح الذرائع موجود في كل المسائل التي سلف إيرادها إلا أن محذوره يبدو في إقرار فتح الذرائع كمبدأ عام وهذا قد يترتب عليه أمران:
أولها: احتمال أدائه للاختلاف في الأمر الذي تفتح فيه الذريعة والأمر الذي لا تفتح فيه لا من حيث المبدأ وإنما من حيث الجزئيات والتفاصيل التي تتعاقب بتعاقب الزمان والمكان، فيؤول الأمر فيه إلى الخلاف الذي حدث فيه سد الذرائع نفسه.
ثانيهما: إن إسباغ وصف فتح الذريعة على هذه المسائل كمبدأ عام قد يشير إلى إبعاده صفة الاستثناء عنها وهي مسائل استثنائية بلا خلاف؛ لأن الأصل في المعصية عدم جواز ارتكابها إلا في حالات الضرورة بحسب القانون العام في الشرع.
لهذا فإن الأوفق إدخال هذه المسائل في قاعدة الضرورة لتضبط بضوابطها وتوزن بموازينها. والله أعلم بالصواب.
تم بحمد الله وتوفيقه.
الأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن
(1) الفروق 2: 33