الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سد الذرائع
إعداد
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
الأستاذ بجامعة العلوم التطبيقية بالأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
سد الذرائع
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:
بطلب من أمانة مجمع الفقه الإسلامي الموقر، أقدم بحثي هذا المتواضع الموسوم بـ (سد الذرائع) ، سائلا المولى عز وجل أن أكون قد وفقت فيما كتبته. إنه حسبي وعليه التكلان.
الذرائع: جمع ذريعة، والذريعة في اللغة تستعمل لعدة معان، منها كل ما يتخذ وسيلة يتوصل بها إلى الشيء سواء كان حسيًّا أو معنويًّا، خيرًا كان أو شرًّا (1) .
الذرائع وأما الاصطلاح الشرعي، فقد استعملت اللفظة بمعنيين، عام وخاص.
المعنى العام للذريعة:
يراد بالذريعة ـ على هذا المعنى ـ كل مسلك أو طريق اتخذ للتوصل إلى شيء آخر، بصرف النظر عن كون الوسيلة أو المتوسل إليه مقيدًا بوصف الجواز أو المنع (2) وهي بهذا المعنى تشمل ما اتفق عليه وما اختلف فيه، ويتصور فيها الفتح كما يتصور فيها السد، وذلك أن موارد الأحكام قسمان: مقاصد، وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسهم، أي التي هي مصالح أو مفاسد في ذاتها. ووسائل، وهي الطرق المفضية إلى المقاصد.
وحكم الوسائل كحكم ما أفضت إليه من المقاصد، فوسيلة الواجب واجبة، كما أن وسيلة المحرم محرمة. وإلى هذا المعنى أشار ابن القيم حيث قال:" لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات، والمعاصي ـ في كراهتها والمنع منها ـ بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات ـ في محبتها والإذن فيها، بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل (3) ".
(1) جاء في لسان العرب: " الذريعة، وقد تذرع فلان بذريعة، أي توسل، والجمع الذرائع، والذريعة مثل الدريئة، جمل يختتل به الصيد يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به ويرمي الصيد إذا أمكنه، وذلك الجمل يسيب أولًا مع الوحش حتى تألفه". انظر مادة ذرع
(2)
الأستاذ مصطفى ديب البغا في مؤلفه (أثر الأدلة المختلفة فيها مصادر التشريع التبعية) ص 566.
(3)
انظر إعلام الموقعين 4/147
ما المقصود بسد الذرائع؟
يراد بسد الذرائع، منع الطرق التي تؤدي إلى إهمال أوامر الشريعة أو الاحتيال عليها، أو تؤدي إلى الوقوع في محاذير شرعية ولو عن غير قصد (1) .
الذريعة والسبب:
قد تأتي الذريعة بمعنى السبب في اللغة، من ذلك ما قاله ابن منظور:" والذريعة السبب إلى الشيء، يقال فلان ذريعتي إليك، أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك" وفي نوادر الإعراب، يقال: أنت ذرعت هذا بيننا وأنت سجلته، بمعنى سببته (2) . إلا أن الذريعة تختلف عن السبب في الاصطلاح؛ لأن السبب اصطلاحًا هو ما جعله الشارع علامة على وجود الحكم الشرعي بحيث يوجد هذا الحكم عند وجوده وينعدم عند عدمه (3) .
فالزنى مثلًا: سبب لإقامة الحد على الزاني، والسرقة لقطع يد السارق، فالسبب لا يعدو عن كونه أمارة لوجود الحكم وعلامة لظهوره، وقد يكون بفعل المكلف وفي قدرته كالسفر لإباحة الفطر، وقد يكون خارجًا عن إرادته ومقدوره كدلوك الشمس لوجوب الصلاة. في حين أن المقصود بالذرائع هنا، هي الوسائل التي يسلكها المكلف باختياره، أي نفس الفعل، والوسيلة غير العلامة والأمارة، ومن هنا كان الفرق بين الذريعة والسبب.
ولا فرق بين أن تكون هذه الوسيلة مستلزمة للمتوسل إليه أو غير مستلزمة.
(1) الأستاذ مصطفى الزرقاء المدخل الفقهي العام ـ الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 1/97
(2)
لسان العرب مادة ذرع
(3)
أستاذنا عبد الكريم زيدان في الوجيز في أصول الفقه ص49
أقسام الذرائع بمعناها العام:
يمكن تقسيم الذرائع بالمعنى العام إلى قسمين:
القسم الأول: الذرائع التي تفضي إلى المصلحة، وهي على نوعين:
1-
أن تكون الذريعة والوسيلة مصلحة أيضًا بحد ذاتها، وعندما تكون مباحة أو واجبة حسب قوة وحال ما تؤدي إليه، وقد قال ابن القيم عن هذا النوع:(فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة) . (1) فالمباحة كالكسب الحلال المؤدي إلى التمتع بالطيبات، والمندوبة كالكسب لدفع الهلاك من الجوع، والواجبة كستر العورة بالنسبة للصلاة.
2-
أن تكون الذريعة المفضية إلى المصلحة مفسدة في حد ذاتها، كالسرقة من أجل الإنفاق على العيال، هنا محظورة شرعًا وإن كانت تفضي إلى المصلحة، إلا إذا رافقتها ضرورة ملجئة، فعندئذ تباح بقدر الضرورة عملًا بما قاله الفقهاء رحمهم الله تعالى:" الضرورات تبيح المحظورات، والضرورات تقدر بقدرها " والنوعان المذكوران محل اتفاق عند علماء المسلمين؛ للنصوص الواردة بهذا الخصوص من الكتاب والسنة والإجماع.
القسم الثاني: الذرائع المفضية إلى المفاسد: وهذا القسم يتضمن نوعين أيضًا:
1-
أن تكون الذريعة مفسدة في ذاتها وتفضي إلى المفسدة بطبعها، وذلك كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر، والقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب، ونحو ذلك. فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها.
ولا خلاف بين العلماء في حرمة هذا النوع أو كراهته، بحسب مقدار المفسدة منه، وقد قال ابن القيم عن هذا القسم: إن الشريعة جاءت بالمنع من هذا القسم من الوسائل كراهة أو تحريمًا بحسب درجاته فيما يؤدي إليه من المفسدة (2) .
(1) إعلام الموقعين 3/136
(2)
الأستاذ مصطفى ديب البغا في مؤلفه: أثر الأدلة المختلف فيها ص 568.
2-
أن تكون الذريعة المؤدية إلى المفسدة مصلحة في حد ذاتها ومشروعة.
وهذا النوع من الذرائع على مراتب بقدر المفسدة التي قد تفضي إليها، واعتبار قصد الفاعل للمفسدة وعدمه، وبالتالي يختلف بالنظر الفقهي إليها سدًا وفتحًا، وقد فصل ابن القيم مراتب هذا النوع من الذرائع وأقسامه وذكر حكم كل مرتبة منها، فهو بعد أن ذكر حكم الوسائل التي تفضي إلى المفاسد وحكمها، تكلم عن النوع الثاني من الذرائع، والتي تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب، فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصد من الفاعل أو غير قصد منه، ورتبها كما يلي:
1-
ما كان موضوعًا للإفضاء إلى أمر جائز فيتخذه الفاعل وسيلة للمحرم، وذلك كمن يعقد النكاح قصدًا به التحليل أو بعقد البيع قاصدًا به الربا أو يخالع قاصدًا به الحنث ونحو ذلك.
2-
ما كان موضوعًا للإفضاء إلى أمر مستحب فيؤدي إلى محرم، كمن يصلي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي أويسَبِّ أرباب المشركين بين أظهرهم، ونحو ذلك.
وهذا النوع من الذرائع يتفرع إلى فرعين: أحدهما أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته. والثاني أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته.
ثم يمضي ابن القيم قائلًا: إن الشريعة قد منعت كل وسيلة مفضية إلى مفسدة سواء كانت بحد ذاتها مفسدة أو مباحة، وأجازت الوسيلة المباحة وإن كانت تفضي إلى المفسدة أحيانًا إلا أن مصلحتها أرجح من مفسدتها، وذلك كالنظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها، فإن النظر وإن كان يؤدي إلى محرم أحيانًا بأن تصاحبه الفتنة، إلا أن مصلحة الخاطب والمشتري والشاهد تستدعي النظر إلى المرأة فمصلحة النظر هنا أرجح من مفسدته، ثم بقي النظر والخلاف قائمًا في الوسيلة الموضوعة للمباح ويقصد بها التوصل إلى المفسدة، وكذا بالنسبة للوسيلة الموضوعة للمباح أيضًا من غير قصد التوصل بها إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها (1) .
(1) إعلام الموقعين 3/138 وما بعدها
سد الذرائع ومن وجهة نظر الشاطبي:
تناول الشاطبي سد الذرائع من خلال كلامه عن مقاصد المكلف والفعل الذي يكون مصلحة للنفس وفيه مضرة بالغير، نستخلص مما ذكره ما يلي:
1-
الوسائل التي تفضي إلى المفسدة على وجه القطع، وذلك كحفر الرجل بئرًا في مدخل داره وهو يعلم أن شخصًا يزوره في ظلام الليل، وهذا النوع من الذرائع ممنوع قطعًا؛ لأنه يؤدي إلى المحظور شرعًا.
2-
أن يكون الفعل يؤدي إلى المفسدة في أغلب الظن، كبيع السلاح في وقت الفتن أو من أهل الحرب، وبيع العنب لمن يعصره خمرًا، ونحو ذلك مما يقع في غالب الظن أداؤه إلى المفسدة لا على سبيل القطع، وهذا النوع ممنوع أيضا؛ لوجوب الأخذ بالاحتياط عند غلبة الظن.
3-
أن يندر أداء الوسيلة إلى المفسدة، كالمنع من زراعة العنب لمن يعصره خمرًا، ونحو ذلك مما يقع في غالب الظن أداؤه إلى المفسدة لا على سبيل القطع، وهذا النوع ممنوع أيضًا؛ لوجوب الأخذ بالاحتياط عند غلبة الظن.
4-
أن يكون الفعل مؤديًا إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا، بحيث إن هذه الكثرة لا تبلغ مبلغًا يحمل العقل على ظن المفسدة فيه دائمًا، وذلك مثل بيوع الآجال والبيوع الربوية، وهذا النوع من الذرائع كما يقول الشاطبي: هو موضع نظر والتباس (1) .
(1) الموافقات 2/357 ـ361
المعنى الخاص للذريعة:
لقد تبين لنا من خلال ما حكيناه عن ابن القيم والشاطبي رحمهما الله تعالى، أن الذرائع التي هي محل خلاف عند العلماء في الوسائل التي ظاهرها الجواز إذا قويت التهمة في التطرق بها إلى الممنوع، وهو ما أشار إليه الشاطبي في القسم الرابع، وهو كل فعل مأذون فيه بالأصل ولكنه طرأ عليه ما جعله يؤدي إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا، ويدخل في هذا ما أشار إليه ابن القيم بالقسم الوسط بين ما جاءت الشريعة بطلبه وما جاءت بمنعه، وملخصها: كل وسيلة مباحة قصد التوصل بها إلى المفسدة أو لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
وهذا المعنى الخاص للذريعة هو المراد عند الأصوليين والفقهاء عند بحثهم في الذرائع وسدها، ولقد عبر الشاطبي عن هذا المعنى بقوله: إن حقيقتها التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة (1) .
(1) الموافقات 4/ 198
المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية:
قلنا فيما مضى إن الذريعة بالمعنى الخاص، تعني التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة.
أما الحيلة فكما عرفها ابن القيم هي (نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال)(1) . وقد غلب استعمالها عرفا في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه، بحيث لا يفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة. كما أن الغالب على الحيلة في عرف الناس هو استعمالها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعاَ أو عقلًا أو عادة، وهذا في استعمال المطلق في بعض أنواعه كالدابة والحيوان وغيرها (2) .
وحقيقة الحيلة عند الشاطبي هي: " تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر (3) " ويضيف قائلًا: " إن مآل العمل في الحيلة خرم قواعد الشريعة في الواقع".
ولدى النظر في تعريف ابن القيم للحيلة وتعريف الشاطبي لها، يتضح لنا أن الحيلة بالمعنى العام لها تلتقي مع الذريعة من حيث إنه يتوصل بكل منهما إلى غرض معين، دون أن يحدد نوع هذا الغرض، ويختلفان عند ما تخص الحيلة في استعمالها العرفي على نوع خاص التصرف وهو استعمالها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعًا أو عقلًا أو عادة. فاختصاص الحيل بخرم قواعد الشريعة خاصة، تكون أخص من الذريعة على هذا الاعتبار، كما يظهر الفرق بين الاثنين، أن الذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة، والحيلة لا بد من قصدها للتخلص من المحرم. والحيلة تجري في العقود خاصة، والذريعة أعم، على أن المتتبع لما ذكره ابن القيم، يجد أن هناك تداخلًا بين الاثنين، فهو عند ضربه مثلًا لنوع معين من بيوع العينة يذكره أحيانًا في باب سد الذرائع ويذكره في باب الحيل مرة أخرى، والحيل منها ما هو جائز شرعًا، كالنطق بكلمة الكفر إكراهًا عليها.
ومنها ما هو المحرم شرعًا، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة، وهذا هو المعنى الخاص للحيلة الذي تفترق به عن الذريعة.
(1) إعلام الموقعين 3/ 240
(2)
إعلام الموقعين 3/ 240
(3)
الموافقات 2/201
موقف العلماء من سد الذرائع:
لا خلاف بين العلماء، أن ما جاء به نص من قرآن أو سنة أو ثبت فيه إجماع من هذا الأصل، فلا كلام فيه لثبوته بدليل صحيح، وعلى كل فقيه أن يعمل به. من ذلك قول الله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
فقد نهى الله المؤمنين أن يسبوا أصنام المشركين، وهو في ذاته أمر جائز، بل مطلوب لأنه تحقير لشأن المشركين وإذلال لهم بتهوين ما عظموا، نهاهم عن ذلك لئلا يكون ذريعة إلى سب المولى سبحانه وهو من أكبر المفاسد.
وقوله تعالى {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] . فقد نهى الله عز وجل النساء أن يضربن بأرجلهن في مشيتهن ليسمع الرجال صوت خلخالهن؛ لأن هذا ذريعة للفت نظر الرجال إليهن، فيكون ذلك مدعاة لإثارة الشهوة. ويقاس عليه كل فعل يثير الفتنة كالتزين الفاضح وترقيق الصوت والتعطر عند الخروج من المنزل.
وفي ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة أم المؤمنين: ((لولا حداثة قومك بالكفر، لنقضت البيت ثم بنيته على أساس إبراهيم)) ، فقد امتنع عن هدم البيت وبنائه على قواعد إبراهيم الأولى التي رسمت له بطريق الوحي مع ما فيه من المصلحة؛ لما يترتب عليه من نفرة العرب في هذا العمل لقرب عهدهم بالجاهلية.
ولما طلب من رسول الله قتل بعض المنافقين وقد بدا منهم ما يوجب القتل، قال:" أكره أن يتحدث العرب عنا أن محمدًا قاتل بقوم حتى أظهره الله تعالى بهم ثم أقبل عليهم بقتلهم" وفي رواية " أخشى أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه ". فقد امتنع رسول الله عن قتلهم مع أنه مباح وفيه خلاص الأمة من جماعة طالما آذت المسلمين، ولكنه تركه لما يترتب عليه من مفسدة أكبر، وهي أن قتلهم ينفر الناس من الإسلام إذا سمعوا أن رسول الله يقتل أصحابه، وقد عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بهذا الأصل فأجمعوا على قتل الجماعة بالواحد، وقد حكموا بتوريث المطلقة بائنا في مرض الموت (1) .
فما كان من هذا القبيل من الذرائع فلا نزاع فيه بين العلماء، ولكن هل نقف عند هذا الحد ونبقي الباب مفتوحًا للمجتهدين ليعملوا به فيما استجد من مسائل؟.
(1) الأستاذ الشلبي في المصدر السابق 315، 316
أقول: لا خلاف في أن الظاهرية الذين يقفون عند ظواهر النصوص ومن سلك مسلكهم لا يعملون به؛ لأنهم رفضوا قبل ذلك العمل بالقياس والمصلحة، وما عداهم من الأئمة، فالمشهور أن مالكًا وأحمد رحمهما الله تعالى هما اللذان يقولان بسد الذرائع، بينما يخالفهما أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى.
يقول الشاطبي وهو يقرر أن النظر في مآلات الأفعال معتبر ومقصود شرعًا: وهذا الأصل ينبني عليه قواعد، ومنها الذرائع التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه (1) .
وقال القرافي في معرض كلامه عن الوسائل التي منعها الشرع لإفضائها إلى شبهة: إن مالكًا لم ينفرد بذلك، بل كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها (2) . وذكر ابن القيم وهو حنبلي المذهب:" وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين (3) " وهكذا يتضح لنا أن القول بسد الذرائع أصل معتمد في الفقه المالكي والفقه الحنبلي.
وأما أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى فلم تذكر كتب أصول مذهبهما شيئًا عن رأيهما في هذا، وذلك أن الباحث في هذا الموضوع يجد أن كتب أصول الحنفية والشافعية لا تتعرض للبحث في هذا الأصل، إلا أن المتتبع لأقوالهما يجد أنهما يقولان بسد الذرائع في كثير من المسائل، كما سنذكر ذلك عنهما فيما بعد.
(1) الموافقات 2/ 361
(2)
تنقيح الفصول ص 448، إرشاد الفحول ص 246
(3)
إعلام الموقعين 3/ 136
ويبدو أن أبا حنيفة والشافعي لا يعتبران سد الذرائع أصلًا قائمًا بذاته، بل هو داخل في الأصول المقررة كالقياس والاستحسان، يدل على ذلك ما قاله القرافي رحمه الله تعالى:" وأما الذرائع فقد أجمع العلماء على أنها ثلاثة أقسام، أحدها معتبر إجماعًا كحفر الآبار في طرق المسلمين وإلقاء السم في أطعمتهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى. وثانيها ملغي إجماعًا كزراعة العنب فإنه لا يمنع خشية الخمر. وثالثها مختلف فيه كبيوع الآجال، اعتبرنا نحن الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا، فحاصل القضية أننا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا "(1) .
ومما يدل على ذلك أيضًا ما قاله الشاطبي: " أما الشافعي فالظن به أنه تم له الاستقرار في سد الذرائع على العموم، ويدل عليه قوله بترك الأضحية إعلامًا بعدم وجوبها وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة وإنما فيه عمل جملة من الصحابة، وذلك عند الشافعي ليس بحجة، وأما أبو حنيفة فإنه ثبت عنه جواز إعمال الحيل، لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلا الجواز، ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع، وهذا واضح، إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها وإن خالفه في بعض التفاصيل.. "(2) .
ومن هنا نستطيع القول كما يقول المرحوم أبو زهرة: " إن العلماء جميعًا يأخذون بأصل الذرائع وإن لم يسموه بذلك الاسم"(3) .
(1) تنقيح الفصول للقرافي ص 200
(2)
الموافقات 3/305، 306
(3)
الإمام مالك تأليف المرحوم أبو زهرة ص 416
أمثلة على سد الذرائع:
قلنا فيما مضى: إن الفقهاء متفقون على القول بسد الذرائع، إلا أنهم متفاوتون في الأخذ بها قلة وكثرة وبين اعتبارها أحد المصادر التبعية في الشريعة الإسلامية أو عدم اعتبارها، يجدر بنا أن نذكر شواهد في إعمال سد الذرائع عند الفقهاء رحمهم الله تعالى.
الفقه المالكي:
شواهد إعمال سد الذرائع عند المالكية أكثر من أن تحصى، حيث إنهم أعملوه في استنباطاتهم وتخريجاتهم في جميع أبواب الفقه، وبالغوا في ذلك حتى عد سد الذرائع من خصوصيات هذا المذهب، ومن أبرز تطبيقات سد الذرائع عند المالكية منعهم للعقود التي تتخذ ذريعة إلى أكل الربا، وهو ما يعرف عندهم ببيوع الآجال، من ذلك ما إذا باع رجل سلعة لآخر إلى أجل، ثم اشتراها منه قبل الأجل نقدًا بأقل من الثمن أو إلى أبعد من ذلك الأجل بأكثر من ذلك الثمن، فعند مالك وجمهور أهل المدينة أن ذلك لا يجوز، وجه منعه اعتبار البيع الثاني بالبيع الأول، فيتهم المتعاقدان من أن يكونا قد قصدًا بذلك دنانير في أكثر منها إلى أجل، وهو الربا المنهي عنه فزورًا لذلك هذه الصورة ليتوصلًا بها إلى الحرام، وصار العقد بمثابة ما لو قال رجل لآخر: أسلفني عشرة دنانير إلى شهر وأرد إليك عشرين دينارًا، فكما أن الصيغة هنا صيغة ربا، كذلك الحال في الصيغة الأولى (1) .
ومن ذلك منعهم بيع مدّين من تمر وسط بمُدّين من تمر أحدهما أعلى من الوسط والآخر أدون منه، فإن الإمام مالكًا يمنع مثل هذا البيع؛ لأنه يتهم البائع أن يكون قد قصد من ذلك أن يدفع مُدّين من الوسط في مدّ من التمر الجيد، فجعل معه الرديء ذريعة إلى تحليل ما لا يجب من ذلك (2) .
(1) ابن رشد في بداية المجتهد 2/145
(2)
ابن رشد في بداية المجتهد 2/ 143
الفقه الحنبلي:
ومن الشواهد التي اعتمد فيها الحنابلة على القول بسد الذرائع عندهم، ما قاله ابن قدامة: من أنه لو باع شخص سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة، فقال أحمد في رواية حرب: إن ذلك غير جائز، إلا أن يغير السلعة؛ لأن ذلك يتخذه وسيلة إلى الربا، فأشبه مسألة العينة (1) .
ومن ذلك أيضًا ما حكاه ابن القيم عن الإمام أحمد أنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة)) ، ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية، ويلزم من لم يسد الذرائع أن يجوز هذا البيع كما صرحوا به. ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان (2) .
(1) المغني 4/195
(2)
إعلام الموقعين 3/158
الفقه الشافعي:
ومما يدل على أن الشافعي رحمه الله أخذ بالذرائع ما قاله في كتاب الأم: وفي منع الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله عام يحتمل معنيين: أحدهما أن ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى تحريم ما أحل الله، ثم أضاف قائلًا:" فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام"(1) .
ومن ذلك أيضًا ما قاله الشافعية من أن المعذورين في ترك الجمعة كالمرضى والمسافرين، يصلون الظهر مكانها جماعة أو فرادى، واستحب الشافعي رحمه الله لهم إخفاء الجماعة سدًا لذريعة التهمة في تركهم لصلاة الجمعة (2) .
ويدل على أخذ الشافعية بالذرائع أيضًا ما قاله الشيرازي من أن المسافر والمريض إذا أفطرا في رمضان بسبب السفر والمرض، يستحب لهما أن لا يأكلا عند من يجهل عذرهما سدًا لذريعة التهمة بالفسوق والمعصية (3) .
(1) الأم 3/ 272
(2)
الخطيب الشربيني في مغني المحتاج
(3)
المهذب 1/ 287
الفقه الحنفي:
ومما يدل على أخذ الحنفية بالذرائع ما ذهبوا إليه من توريث مطلقة المريض مرض الموت منه؛ لئلا يكون الطلاق ذريعة إلى حرمانها من الميراث وهو مذهب الجمهور أيضًا، وأساسه ما أفتى به بعض مجتهدي الصحابة. وعمدة هؤلاء الفقهاء رحمهم الله هو أصل سد الذرائع المشهود له بالصحة بنصوص القرآن والسنة (1) .
وكذلك ما قالوه: إن المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت بالغة مسلمة، عليها الحداد، وهو ترك الطيب والزينة والكحل والدهن المطيب وغير المطيب إلا من عذر. وقد عللوا الوجوب بسببين:
أحدهما: إظهار التأسف على فقدان زوجها.
والثاني: أن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها؛ لأن المرأة إن كانت متزينة متطيبة تزيد رغبة الرجل فيها، وهي ممنوعة عن النكاح ما دامت في عدة الوفاة أو الطلاق، فتجتنبها كي لا تصير ذريعة، أي وسيلة إلى الوقوع في المحرم وهو النكاح (2) .
(1) أستاذنا زيدان في الوجيز في أصول الفقه ص 250
(2)
الهداية وشروحها 3/ 291 ـ 294
أثر القول بسد الذرائع:
لقد انبنى على الخلاف في اعتبار الذرائع والقول بسدها وعدم اعتبارها، وعلى التوسع بالأخذ بها والتضييق في اعتبارها، خلاف بين الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية، إذ يحكم بعضهم على تصرفات بدرت من المكلف بالبطلان والفساد، ويمنع ترتب آثارها عليها، نجد البعض الآخر يحكم عليها بالصحة والجواز، ويبني عليها آثارها المعتبرة شرعًا.
وهكذا نجد أثر هذا الدليل والاختلاف فيه ظاهرًا في كثير من أبواب الفقه الإسلامي، وها أنا أضرب بعض الأمثلة على خلاف الفقهاء في القول باعتبار هذا الدليل أو عدم اعتباره.
1 -
من ذلك اختلاف الفقهاء ـ رحمهم الله تعالى ـ فيمن اشترى طعامًا بثمن إلى أجل معلوم، فلما حل الأجل لم يكن لدى البائع طعام يدفعه إلى المشتري، فاشترى من المشتري طعامًا بثمن يدفعه إليه مكان طعامه الذي وجب له.
أجاز ذلك الشافعي وقال: لا فرق بين أن يشتري الطعام من غير المشتري الذي وجب عليه أو من المشتري نفسه، وجهة نظره رحمه الله مبنية على أصل من أصول مذهبه، وهو أنه ينظر إلى الصيغة التي تم بها العقد دون النظر إلى نية المتعاقدين، ولما كانت الصيغة سليمة من الشروط الفاسدة، فلا عبرة بالنية كما قلنا.
ولم يجز الإمام مالك صورة البيع هذه واعتبرها من الذريعة إلى بيع الطعام قبل قبضه؛ لأن البائع قد رد إلى المشتري الطعام الذي كان قد ترتب في ذمته، فيكون قد باعه منه قبل أن يستوفيه، وصورة الذريعة في ذلك ما ذكرها ابن رشد " أن يشتري رجل من آخر طعامًا إلى أجل معلوم، فإذا حل الأجل قال الذي عليه الطعام: ليس عندي طعام، ولكن أشتري منك الطعام الذي وجب لك علي، فقال: هذا لا يصح؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى "(1) .
2-
بيع الحيوان بالحيوان: اتفق الأئمة على جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلًا إذا كان يدا بيد، واختلفوا في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، أي إلى أجل، وذلك على النحو التالي:
أ- ذهب مالك رحمه الله إلى أنه لا يجوز النساء فيما اتفقت منافعه وتشابه مع التفاضل، ويجوز فيما عدا هذا، قال ابن رشد:" وأما الأشياء التي ليس يحرم التفاضل فيها عند مالك، فإنها صنفان: إما مطعومة وإما غير مطعومة، فأما المطعومة فالنساء عنده لا يجوز فيها، وعلة المنع الطعم، وأما غير المطعومة فإنه لا يجوز عنده شاة واحدًا بشاتين إلى أجل إلا أن تكون إحداهما حلوبة والأخرى أكولة، هذا هو المشهور عنه"(2) .
(1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/ 146
(2)
انظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/ 137
وعمدة مالك رحمه الله في منع النساء فيما اتفقت فيه الأغراض مع التفاضل، سد الذريعة، وذلك أنه ما دامت المنافع والأغراض متفقة فلا فائدة من بيعه متفاضلًا إلى أجل، إلا أن يكون من باب سلف يجر نفعًا، وهو محرم، فكذلك ما يؤدي إليه، فأما إذا اختلفت المنافع، فالتفاضل والنسيئة عنده جائزان، وإن كان الصنف واحدًا، مستدلًا " بما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلائص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة)) "(1) .
فحمل الإمام مالك الحديث هذا على ما اختلفت أغراضه ومنافعه.
ب - وعند الشافعي رحمه الله يجوز ذلك كله، فلا مانع عنده من أن يبيع الرجل البعير بالبعيرين، مثله أو أكثر، يدًا بيد وإلى أجل (2) . مستشهدًا بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره من الروايات التي تشير إلى جواز ذلك.
جـ- وهذه أصح الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله، حكى ذلك ابن قدامة عنه حيث قال:" اختلفت الرواية في تحريم النساء في غير المكيل والموزونات على أربع روايات. إحداهن لا يحرم النساء في شيء من ذلك، سواء بيع بجنسه أو بغيره متساويًا أو متفاضلاً"(3) .
ثم أضاف قائلًا: وهذه هي أصح الروايات.
(1) سنن أبي داود 2/ 225
(2)
الأم 3/103 ـ 104
(3)
المغني 4/ 14
د- وذهب الحنفية إلى القول: بمنع بيع الحيوان بالحيوان نسيئة مطلقاً (1) .
وعمدتهم في منع النساء مطلقا، أن العلة في تحريم الزيادة في الربا هي وصفان، الجنس والقدر من كيل أو وزن، فإذا وجدا حرم التفاضل والنساء، وإذا فقدا التفاضل والنساء، وإذا وجد أحدهما وعدم الآخر، حل التفاضل وحرم النساء.
وبيع الحيوان بالحيوان إذا اتفق الجنس، فقد وجد فيه أحد وصفي العلة، فحل التفاضل وحرم النساء مطلقًا.
وقد عززوا رأيهم هذا ببعض الآثار، منها ما أخرجه أبو داود من حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)) . فقد قام الدليل على أن وجود أحد وصفي علة الربا، علة لتحريم النساء.
3-
ومن أثر خلاف الفقهاء في اعتبار الذرائع كدليل يؤخذ به أو عدم اعتبارها: نكاح المريض مرض الموت!
فقد اختلف الفقهاء على قولين:
أ- ذهب الإمام مالك رحمه الله في المشهور عنه إلى أن النكاح غير صحيح. ودليله في ذلك هو سد الذرائع، وذلك أنه يتهم المريض هنا بالقصد في إلحاق الضرر بالورثة، حيث يدخل وارثًا جديدًا عليهم، فيمنع منه، حتى لا يتخذ ذريعة للتشفي من الورثة وإدخال الضرر عليهم" (2) .
ب- في حين ذهب جمهور الفقهاء وهم الحنفية والشافعية والحنابلة إلى صحة نكاح المريض على أن يتجاوز صداق المرأة المنكوحة مهر مثلها.
(1) العناية على الهداية 5/279
(2)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/45
دليل الجمهور:
استدل جمهور الفقهاء على صحة نكاح المريض بأدلة من المنقول وبالقياس والمعقول:
من المنقول ما رواه نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " كانت ابنة حفص بن المغيرة عند عبد الله بن أبي ربيعة، فطلقها تطليقة، ثم إن عمر بن الخطاب تزوجها بعده، فحدث أنها عاقر لا تلد، فطلقها قبل أن يجامعها، فمكثت حياة عمر وبعض خلافة عثمان بن عفان، ثم تزوجها عبد الله بن أبي ربيعة وهو مريض؛ لتشرك نساءه في الميراث، وكان بينها وبينه قرابة".
واحتج القائلون بصحته، بقياسه على البيع والشراء، فكما أن بيعه وشراءه صحيح فكذلك نكاحه، بجامع أن كلا منهما عقد معاوضة وبقياسه أيضًا على حال الصحة، فكما يصح هنا يصح نكاحه في مرضه مرض الموت، وإنما منعت الزيادة على مهر المثل، لأنها في حكم الوصية، ولا وصية لوارث، ومن استدلالهم بالمعقول قولهم: إن النكاح من الحوائج الأصلية؛ لأن بقاء النسل البشري يتوقف على النكاح، والمرء غير ممنوع عن صرف ماله إلى حوائجه الأصلية (1) .
وهكذا تبين لنا من الأمثلة السابقة أثر القول بالأخذ بالذرائع أو عدم الأخذ بها في كثير من الفروع الفقهية التي من العسير حصرها والإحاطة بجميعها.
(1) ابن قدامة في المغني 6/ 392، الأم 4/31 وما بعدها، ابن الهمام في فتح القدير 7/403
أمثلة فتح الذرائع:
المقصود بفتح الذرائع، هو الأخذ بالذرائع إذا كانت النتيجة مصلحة؛ لأن المصحلة مطلوبة (1) .
وكما يقول القرافي: "اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج"(2) .
أ -أباحت الشريعة دفع المال للعدو لتخليص الأسري مع أن في دفع المال إليه تقوية له، وهو حرام لأنه إضرار بالمسلمين، لكن مصلحة الأسارى أعظم نفعًا لأنه تقوية للمسلمين من ناحية أخرى.
ب -أجاز كثير من فقهاء المالكية والحنابلة دفع المال لشخص على سبيل الرشوة مع أنه حرام؛ ليتقي به معصية يريد المرتشي إيقاعها به، وضررها أشد من دفع المال إليه، وذلك إذا عجز الرجل المعطي للرشوة عن دفع المرتشي إلا عن طريق الرشوة.
جـ- إذا خشي المسلمون من دولة محاربة أذاها وخطرها، وليس عند جماعة المسلمين قوة يستطيعون بها دفع خطر العدو، فلهم الحق في بذل المال لاتقاء شر العدو وإن كان فيه معصية، إلا أنه أجيز منعًا لضرر أكبر وجلبًا لمصلحة أعظم.
وهذه الأمثلة وغيرها لا تخرج في الواقع عما قرره الفقهاء في قواعدهم من أن " الضرورات تبيح المحظورات " ثم زادوا ذلك فقالوا: " الحاجة تنزل منزلة الضرورة ".
(1) أصول الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي 2/874
(2)
الفروق 2/33
أمثلة على سد الذرائع:
ضرب علماء الأصول أمثلة كثيرة على سد الذرائع منها (1) .
أ - ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع الرجل بين سلف وبيع)) ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر، صح، وإنما جاء النهي؛ لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة لأن يقرضه ألفًا ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا، فخوفًا من التحايل على أكل الربا أمر الشارع بسد الذريعة هنا.
ب -منع النبي صلى الله عليه وسلم المقرض من قبول الهدية وكذلك ورد النهي على لسان صحابته صلى الله عليه وسلم حتى تحسب من الدين وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا، فإنه يعود إليه ماله ويأخذ الفضل الذي استفاده بسبب القرض.
جـ- قال الإمام أحمد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة، ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية.
ومن هذا القبيل عصر العنب لمن يتخذه خمرًا وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والمعتصر معا.
د- تحريم قضاء القاضي بعلمه؛ لأنه وسيلة للقضاء من طريق قضاة السوء.
فهذه الأحكام ونحوها روعي فيها قصد الفاعل من اتخاذ الذريعة لتحقيق مطلبه، فحرم الشارع عليه الوسيلة ليفوت عليه قصده السيئ، وهذا ما عناه العلماء بقولهم " سد الذرائع".
(1) ابن القيم في إعلام الموقعين 3/ 141 ـ 158
خلاصة البحث
الذرائع جمع ذريعة وهي لغة الوسيلة التي يتوصل بها إلى شيء آخر مطلقًا، وفي الاصطلاح الشرعي هي ما تكون وسيلة وطريقًا إلى الشيء الممنوع شرعًا، وهذا هو الغالب المشهور في استعمالها، ومعنى سدها منعها بالنهي عنها، وقد تطلق على ما هو أعم من ذلك، فنعرف بأنها تكون وسيلة وطريقًا إلى شيء آخر حلالا كان أو حرامًا، وهي بهذا المعنى قد تسد إذا كانت طريقًا إلى مفسدة، وقد تفتح إذا كانت طريقًا إلى مصلحة، ولكنها أكثر ما تستعمل في الأول، ومن هنا جاء عنوان الدليل (سد الذرائع) .
موقف العلماء من سد الذرائع:
ما ورد في كتب المالكية أن أصل الذرائع متفق عليه، وإنما الخلاف في التسمية ومجال التطبيق في الجزئيات، يؤكد هذا ما ذكره القرافي: أن الذرائع ثلاثة أقسام: قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه، كحفر الآبار في طرق المسلمين فإنه وسيلة إلى إهلاكهم فيها، وقسم أجمعت الأمة على عدم منعه، وأنه ذريعة لا تسد ووسيلة لا تمنع، كالمنع من زراعة العنب خشية اتخاذه خمرا، فإنه لم يقل به أحد، وقسم اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا، كبيوع الآجال عندنا، اعتبرنا نحن الذريعة فيها وخالفنا غيرنا، وحاصل القضية: أننا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا (1) .
واعتبار الذرائع سدًا وفتحا دليل على مرونة الشريعة الإسلامية، وأنها بحق نزلت رحمة للعالمين تساير واقع الناس في كل جديد نافع.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
(1) شرح تنقيح الفصول ص200
مصادر البحث
القرآن الكريم:
1-
أصول التشريع الإسلامي ـ أثر الأدلة المختلف فيها مصادر التشريع التبعية في الفقه الإسلامي ـ للدكتور مصطفى ديب البغا. دار الإمام البخاري ـ دمشق
2-
أصول الفقه الإسلامي ـ الجزء الأول ـ المقدمة التعريفية بالأصول وأدلة الأحكام وقواعد الاستنباط ـ للدكتور محمد مصطفى شلبي ـ الطبعة الرابعة 1403 هـ ـ 1983 م الدار الجامعية للطباعة والنشر ـ بيروت.
3-
أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي ـ الجزء الثاني الطبعة الأولى 1406 هـ ـ 1986 م دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر بدمشق.
4-
المغني لابن قدامة المقدسي على مختصر أبي القاسم الخرقي ـ الناشر ـ مكتبة الكليات الأزهرية.
5-
بداية المجتهد ونهاية المقتصد ـ لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي ـ الطبعة الأولى 1408 هـ 1988 م، دار القلم ـ بيروت.
6-
الوجيز في أصول الفقه الإسلامي ـ للدكتور عبد الكريم زيدان الطبعة السادسة 1397 م الدار العربية للطباعة ـ بغداد.
7-
الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ـ المدخل الفقهي العام ـ للأستاذ مصطفى الزرقا ـ دار الفكر بيروت.
8-
الفروق ـ للعلامة شهاب الدين أبي العابس الصنهاجي المشهور بالقرافي ـ دار المعرفة والنشر بيروت.
9-
الموافقات في أصول الشريعة ـ لأبي إسحاق الشاطبي ـ المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة
10-
إعلام الموقعين عن رب العالمين ـ للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن القيم الجوزية إدارة الطباعة المنيرية بالقاهرة.
11-
الإحكام في أصول الأحكام ـ لابن حزم الظاهري الطبعة الأولى 1347 هـ مطبعة السعادة بمصر.
12-
الهداية شرح بداية المبتدي ـ برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني والمطبوع مع فتح القدير ـ الطبعة الأولى ـ المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق. والمأخوذ بالأوفسيت.
13-
شرح العناية على الهداية ـ للإمام أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي والمطبوع مع الهداية.
14-
تنقيح الفصول ـ للقرافي.
15-
إرشاد الفحول ـ للشوكاني.
16-
كتاب الأم ـ للإمام الشافعي برواية الربيع بن سليمان المرادي الناشر دار الشعب المصرية 1388 هـ 1986 م.
17-
لسان العرب ـ لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي ـ دار صادر في بيروت.