الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلم
وتطبيقاته المعاصرة
إعداد
د. الصديق محمد الأمين الضرير
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة الخرطوم
بسم الله الرحمن الرحيم
،
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد فهذا بحث عن:
السلم وتطبيقاته المعاصرة:
أكتبه لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة، ملتزما فيه بالخطة التي وضعتها الأمانة العامة للمجمع، مستعينا بالله، وسائلا السميع القدير أن يهديني الصراط المستقيم.
1-
تعريف السلم:
السلم والسلف بمعنى واحد، الأول لغة أهل الحجاز، والثاني لغة أهل العراق (1) .
والسلم في الاصطلاح هو كما عرفه التمرتاشي: بيعُ آجلٍ بعاجلٍ (2) ، فالسلم نوع من البيع يتأخر فيه المبيع، ويسمى المسلم فيه، ويتقدم فيه الثمن، ويسمى رأس مال السلم، فهو عكس البيع بثمن مؤجل، ويسمى البائع المسلم إليه، ويسمى المشتري المسلم.
وعرف الدردير السلم بأنه: بيع يتقدم فيه رأس المال ويتأخر المثمن لأجل (3) .
وعرفه النووي بأنه: بيع موصوف في الذمة (4) .
وعرفه ابن قدامة بقوله: هو أن يسلم عوضا، حاضرا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل (5) ، ولا يوافق ابن حزم على أن السلم بيع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه السلم والسلف والتسليف، ولم يسمه بيعا (6) .
(1) نيل الأوطار 5 /239
(2)
تنوير الأبصار مع ابن عابدين 4/ 281، وقال ابن عابدين: الأولى أن يقال: شراءُ آجلٍ بعاجلٍ.
(3)
الشرح الكبير 3 /170
(4)
المنهاج مع نهاية المحتاج 4 /178
(5)
المغني: 4/ 304
(6)
المحلى 9/ 105، 106، 107، 114
2-
مشروعية السلم:
السلم مشروع بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب فقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .
قال ابن عباس: (أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه، وأذن فيه)، ثم قرأ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} [البقرة: 282] . (1)
وأما السنة فما روي عن ابن عباس أنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، والناس يسلفون في التمر العام والعامين، أو قال: عامين أو ثلاثة - شك إسماعيل (2) - فقال: ((من سلف في تمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم)) رواه الجماعة واللفظ للبخاري، وفي بعض طرق البخاري زيادة:((إلى أجل معلوم)) (3) .
وقد أجمع العلماء على جوازه، إلا ما حكى عن ابن المسيب أنه لا يجيزه؛ متمسكا بحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان (4)، وقال ابن حزم: إن طائفة كرهت السلم جملة (5) .
3-
هل مشروعية السلم على خلاف القياس؟
يقول السمرقندي:
(القياس أن لا يجوز السلم؛ لأنه بيع المعدوم، وفي الاستحسان جائز بالحديث، بخلاف القياس؛ لحاجة الناس إليه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أسلم منكم، فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)) وروي عنه عليه السلام: ((أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم)) (6) .
ويقول الشوكاني: (واختلف الفقهاء، هل هو (السلمَ) عقد غرر جُوِّز للحاجة أم لا؟) (7) .
(1) البحر الزخار 3 /397، المغني 4 /275، التلخيص الحبير مع المجموع 9/ 206
(2)
إسماعيل بن علية أحد رواة الحديث
(3)
صحيح البخاري مع عمدة القاري 12/ 61، 63، ومنتقى الأخبار مع نيل الأوطار 5/ 239
(4)
البحر الزخار 3/ 397، ونيل الأوطار 5 /239
(5)
المحلى 9/ 106
(6)
تحفة الفقهاء 2/ 5
(7)
نيل الأوطار 5 /239
هذا الرأي القائل بأن جواز السلم جاء على خلاف القياس مبني على أن السلم من بيع المعدوم، ومن بيع ما ليس عندك، ومن بيع الغرر، وكل هذه البيوع منهي عنها، فالقياس ألا يجوز السلم، ولكن النص ورد بجوازه، فعلمنا أنه مستثنى من هذه البيوع.
والصواب عندي ما ذهب إليه ابن تيمية وابن القيم من أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد: إما أن يكون القياس فاسدا، أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع.... (1)
وينبني على هذه القاعدة أن السلم مشروع على وفق القياس؛ لأن مشروعيته ثابتة بالنص، وأن القياس الذي قال بعض الفقهاء: إن السلم جاء على خلافه قياس، فاسد. ونبين فيما يلي فساد هذا القياس:
(1) إعلام الموقعين: 1/ 335
أولا – قياس السلم على بيع المعدوم:
صحيح أن السلم قد يكون من بيع المعدوم؛ لأن المسلم فيه قد لا يكون موجودا وقت العقد، لكن السلم ليس من بيع المعدوم الممنوع؛ لأن جمهور الفقهاء الذين جوزوا أن يكون المسلم فيه غير موجود وقت العقد، اشترطوا أن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل، وهذا يخرجه من المعدوم الممنوع بيعه، ويدخله في المعدوم الجائز بيعه؛ لأنه كما يقول ابن تيمية وابن القيم:(لم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، بل ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما ورد النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما ورد النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة، إذن فليست العلة في النهي عن بيع بعض الأشياء المعدومة هي العدم، كما أنه ليست العلة في النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة هي الوجود، فوجب أن تكون هناك علة أخرى للنهي عن بيع تلك الأشياء المعدومة، وهذه العلة هي الغرر، فالمعدوم الذي هو غرر نُهِيَ عن بيعه لكونه غررا، لا لكونه معدوما، كما إذا باع ما يحمل هذا الحيوان، أو ما يحمل هذا البستان، فقد يحمل، وقد لا يحمل، وإذا حمل، فالمحمول لا يعرف قدره ولا وصفه)(1) .
(1) القياس في الشرع الإسلامي لابن تيمية 21 – 27؛ إعلام الموقعين لابن القيم 1 /357
وهذه العلة – الغررَ – التي ذكرها ابن تيمية وابن القيم للنهي عن بيع المعدوم علة مطردة، لا تحوجنا إلى استثناءات، أو مخالفة للقياس، والغرر في بيع المعدوم لا يتحقق إلا في حالة ما إذا كان المبيع مجهول الوجود؛ لأنه إن كان المبيع محقق العدم فلا غرر في هذا والبيع باطل بداهة؛ لاستحالة التنفيذ، وإن كان المبيع محقق الوجود، فلا غرر أيضا، والبيع صحيح، وإذا تتبعنا ما منعه الشارع من بيع المعدوم، وما أجازه منه، نجد أن كل ما منعه المبيع فيه مجهول الوجود في المستقبل، وأن كل ما أجازه المبيع فيه محقق الوجود عادة في المستقبل، وإن كان معدوما وقت العقد، وهذا ظاهر في بيع السلم، فقد منع الرسول الله صلى الله عليه وسلم في تمر حائط معين؛ لأن المسلم فيه مجهول الوجود في المستقبل، وأجاز السلم في ثمار البلد كله؛ لأن المسلم فيه محقق الوجود بحسب العادة.
فالقاعدة التي ينبغي السير عليها من بيع المعدوم هي:
(أن كل معدوم مجهول الوجود في المستقبل لا يجوز بيعه، وأن كل معدوم محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة يجوز بيعه) .
ثانيا – قياس السلم على بيع ما ليس عندك:
ورد النهي عن (بيع ما ليس عندك في حديث حكيم ابن حزام (1) ، وحديث عمرو بن شعيب (2)، وقد حمل الفقهاء هذا الحديث أكثر من معنى: فاستدل به بعضهم على عدم جواز بيع المعدوم (3) ، واستدل به آخرون على عدم جواز بيع العين الغائبة (4)، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد به بيع شيء مباح على أن يستولي عليه فيملكه فيسلمه (5)، وقال بعضهم: المراد به بيع الأعيان، يقول الإمام الشافعي: والسلف قد يكون بيع ما ليس عند البائع، فلما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيما عن بيع ما ليس عنده، وأذن في السلم استدللنا على أنه لا ينهى عما أمر به، وعلمنا أنه إنما نهى حكيما عن بيع ما ليس عنده إذا لم يكن مضمونا عليه، وذلك بيع الأعيان (6)، وقال بعضهم: المراد به بيع الإنسان ما لا يملك سواء أكان معينا، أم في الذمة، يقول ابن عابدين: يشترط في البيع أن يكون المعقود عليه مملوكا للبائع فيما يبيعه لنفسه، فلا ينعقد بيع ما ليس مملوكا له، وإن ملكه بعده، إلا السلم.. (7) .
(1) انظر منتقى الأخبار مع نيل الأوطار 5/1 64، 190
(2)
منتقى الأخبار مع نيل الأوطار 5/ 164،190، وانظر أيضا كتاب الغرر وأثره في العقود 80 و318
(3)
البحر الزخار 3/ 191، والزيلعي 4/ 12
(4)
المجموع 9/ 301
(5)
البدائع 5/ 163
(6)
الأم 3 /83، وانظر أيضا المغني 4 /228
(7)
حاشية ابن عابدين 4 /7
ويقول ابن القيم: (وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزم: ((لا تبع ما ليس عندك)) فيحمل على معنيين: أحدهما أن يبيع عينا معينة وهي ليست عنده، بل ملك للغير، فيبيعها على معنيين: أحدهما أن يبيع عينا معينة، وهي ليست عنده، بل ملك للغير فيبيعها، ثم يسعى في تحصيلها، وتسليمها إلى المشتري (1) ، الثاني أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه، وإن كان في الذمة، وهذا أشبه، فليس عنده حسا ولا معنى، فيكون قد باعه شيئا لا يدري هل يحصل له أم لا، وهذا يتناول أمورا: أحدهما: بيع عين معينة ليست عنده، والثاني: السلم الحال في الذمة، إذا لم يكن عنده ما يوفيه، والثالث: السلم المؤجل، إذا لم يكن على ثقة من توفيته عادة) (2) .
والراجح عندي أن عبارة (ما ليس عندك) تعني: (ما ليس مملوكا للبائع، سواء أكان معينا، أم في الذمة، إذا باعه على أن يسلمه في الحال) ، ولا يدخل فيها المعدوم، ولا المملوك الغائب، ولا الأشياء المباحة، وهذا هو ما تدل عليه قصة الحديث، فقد روي أن حكيم بن حزام كان يبيع الناس أشياء لا يملكها، ويأخذ الثمن منهم، ثم يدخل السوق فيشتري الأشياء ويسلمها لهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((لا تبع ما ليس عندك)) (3) .
وعلة منع بيع الإنسان ما لا يملك هي الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد، وما قد يترتب على ذلك من النزاع، فإن البائع قد لا يجد المبيع في السوق، والمشتري يطالبه به، ولا يرضى إمهاله؛ لأن العقد تم على أن يسلمه المبيع في الحال.
أما لو تمّ البيع على أن يكون المبيع دينا في ذمة البائع يسلمه للمشتري بعد مدة من الزمن، فإنه لا يدخل في بيع ما ليس عندك المنهي عنه، ويدخل في عقد السلم المسموح به، وهو السلم الذي يكون المسلم فيه مؤجلا إلى أجل معلوم يغلب وجوده فيه.
(1) هذا هو تفسير الشافعي
(2)
إعلام الموقعين 1/ 350
(3)
انظر البدائع 5 /147، 163
ثالثا – قياس السلم على بيع الغرر:
وروى الثقات عن جمع من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر (1) ، وبيع الغرر هو البيع المستور العاقبة (2) ، وعقد السلم عقد معلوم العاقبة، فقد اشترطت فيه شروط خاصة تباعد بينه وبين الغرر المفسد للعقد، كما رأينا في الكلام على قياس السلم على بيع المعدوم، وبيع ما ليس عندك، وكما سنرى في الكلام على الشروط، فالسلم ليس من بيع الغرر المنهي عنه حتى يقال: إنه مستثنى منه، أو جاء على خلاف القياس، وهو كما يقول ابن القيم: (على وفق القياس والمصلحة، وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها
…
) (3) .
4-
شروط صحة عقد السلم:
1-
يشترط في السلم ما يشترط في البيع.
السلم – كما جاء في التعريف – نوع من البيع، ولهذا فإن جميع الشروط التي تشترط في البيع تشترط في السلم (4)، ولكن جمهور الفقهاء يستثنون من قاعدة:(يشترط في السلم ما يشترط في البيع) شرطَ وجود المحل عند العقد؛ وذلك لأنهم يرون أن بيع المعدوم منهي عنه، وقد تكلمنا عن هذه المسألة.
الشروط الخاصة بالسلم:
اشترط الفقهاء في عقد السلم شروطا خاصة، زيادة على الشروط التي يشترك فيها مع عقد المبيع، هي:
الشرط الأول: أن يكون المسلم فيه مؤجلا:
يشترط جمهور الفقهاء لصحة عقد السلم أن يكون المسلم فيه مؤجلا، على اختلاف بينهم في مدة الأجل، فالسلم الحال لا يجوز عندهم (5) .
وقال الشافعية: يجوز السلم حالا، كما يجوز مؤجلا (6) ، وممن قال بالجواز أبو ثور، وابن المنذر (7) .
وحجة الجمهور في اشتراط الأجل:
1-
حديث ابن عباس فإن قوله صلى الله عليه وسلم ((إلى أجل معلوم)) أمر منه بالأجل في السلم، وأمره يقتضي الوجوب، فيكون الأجل من جملة شروط صحة السلم، فلا يصح بدونه، كما لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن في المكيل والموزون (8) .
2-
إذا لم يشترط الأجل في السلم كان من بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه (9) ، أو بيعا للمعدوم، وهو لم يرخص فيه إلا في السلم، ولا فارق بينه وبين البيع إلا الأجل (10) .
3-
السلم جوز رخصة للرفق، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى الرفق (11) ، وذلك لأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى (12) .
وحجة الشافعية القياس الأولوي على السلم المؤجل، قال الشافعي: فإذا أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الطعام بصفة إلى أجل كان، والله تعالى أعلم، بيع الطعام بصفة حالا أجوز، لأنه ليس في البيع معنى إلا أن يكون بصفة مضمونا على صاحبه، فإذا ضمن مؤخرا ضمن معجلا، وكان معجلا أعجل منه مؤخرا، والأعجل أخرج من معنى الغرر، وهو مجامع له في أنه مضمون له على بائعه بصفة (13) .
(1) انظر أحاديث النهي عن بيع الغرر في كتاب الغرر وأثره في العقود 58- 60
(2)
المبسوط 13/ 194
(3)
إعلام الموقعين 1/ 350
(4)
نيل الأوطار 5/ 239، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 /170. والمنهاج مع نهاية المحتاج 4/ 176
(5)
ابن عابدين 4/ 286، ومختصر خليل مع حاشية الدسوقي 3/ 179، وانظر بداية المجتهد 2/ 213، فقد جاء فيه " وقد قيل: إنه يتخرج من بعض الروايات عن مالك جواز السلم الحال، والمغني 4/ 321
(6)
المنهاج مع نهاية المحتاج 4/ 185
(7)
المغني 4/ 321
(8)
بداية المجتهد 2 /203 والمغني 4/ 321
(9)
بداية المجتهد 2/203
(10)
نيل الأوطار 5/240
(11)
المغني 4/321
(12)
بداية المجتهد 2/203
(13)
الأم 3/83
ويقول الرافعي: (في الأجل ضرب من الغرر؛ لأنه ربما يقدر في الحال، ويعجز عند حلول الأجل، فإذا جاز السلم مؤجلا فهو حالا أجوز، وعن الغرر أبعد)(1) .
ورأي الجمهور أولى بالقبول عندي، لقوة دليله، وضعف دليل الشافعية، فإن القياس الذي احتجوا به غير سليم، لأن قولهم:(في الأجل ضرب من الغرر) غير مسلم، لأن الأجل في السلم لا بد أن يكون معلوما باتفاق الفقهاء، فمن أين يأتيه الغرر؟ ولو سلمنا بأن في السلم المؤجل غررا، هو احتمال العجز عند حلول الأجل، كما يفهم من عباراتهم، فإنا لا نسلم بأن السلم الحال أبعد من الغرر بهذا المعنى، بل العكس هو الصحيح، لأنه في السلم المؤجل يكون عند المسلم إليه فرصة يستعد ويحضر فيها المسلم فيه، أما في السلم الحال، فإن المسلم إليه ملزم بالتسليم في الحال، وقد لا يجد المسلم فيه فيؤدي ذلك إلى النزاع بينه وبين المسلم، وهذا هو عين بيع الإنسان ما ليس عنده على المعنى الذي اخترته.
وإذا قالوا: إن السلم الحال الذي نعينه هو ما كان المسلم فيه موجودا عند المسلم إليه (2) ، كأن يسلم شخص في قمح موجود في مخزنه، قلنا لهم: هذا بيع، وليس بسلم، لأنه لا ينطبق عليه اسم السلم، ولا معناه؛ لا ينطبق عليه اسم السلم، لأنه يسمى سلما وسلفا لتعجل أحد العوضين، وتأخر الآخر، ولا ينطبق عليه معناه، لأنه ملاحظ في مشروعيته، حاجة المسلم إليه إلى الثمن قبل حصوله على المسلم فيه، فإذا كان المسلم فيه موجودا عنده فقد انتفت الحاجة إلى السلم، لأن في البيع غنى عنه (3) .
والخلاصة: أني أرى في اشتراط التأجيل تخفيفا للغرر على عكس ما يرى الشافعية، لأن الشأن في المسلم فيه ألا يكون عند المسلم إليه، فإذا جوزنا السلم الحال نكون قد جوزنا بيع ما ليس عند البائع في الصورة التي تؤدي إلى عدم القدرة على التسليم المؤدية إلى الغرر، ولهذا اشترطنا التأجيل ليقل الغرر.
(1) فتح العزيز 9/226
(2)
انظر نهاية المحتاج 4/185
(3)
المغني 4/321
مدة الأجل:
اختلف الجمهور القائلون باشتراط الأجل في السلم في أقل مدة الأجل اختلافا كبيرا، والمفتى به عند الحنفية أن أقله شهر، وهو المعتمد في المذهب، وقيل ثلاثة أيام، وقيل أكثر من نصف يوم، وقيل ينظر إلى العرف في تأجيل مثله (1) .
وتحصيل مذهب مالك في مقدار الأجل من الأيام – كما يصوره ابن رشد هو أن المسلم فيه على ضربين: ضرب يقتضى بالبلد المسلم فيه، وضرب يقتضى بغير البلد الذي وقع فيه على السلم، فإن اقتضاه في البلد المسلم فيه، فقال ابن القاسم: إن المعتبر في ذلك أجل تختلف فيه الأسواق، وذلك خمسة عشر يوما، أو نحوها، وروى ابن وهب عن مالك أنه يجوز اليومين والثلاثة، وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد، وأما ما يقتضى ببلد آخر، فإن الأجل فيه هو قطع المسافة التي بين البلدين قلت أو كثرت (2) .
ويشترط عند الحنابلة أن يكون الأجل مدة لها وقع في الثمن، كالشهر وما قاربه.
والذي أراه ألا نجعل حدا لأقل الأجل، كما أنه لا حد لأكثره، ويترك تحديد مدة الأجل لاتفاق المتعاقدين، لأن النص الذي أوجب الأجل في السلم لم يحدد مدة لأكثره، كما لم يحدد مدة لأقله، وإنما اشترط أن يكون الأجل معلوما للعاقدين، فيجب الوقوف عند ما أمر به النص.
العلم بالأجل:
لا خلاف بين الفقهاء في أن العلم بالأجل في السلم شرط لصحة العقد لقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إلى أجل معلوم)) .
قال ابن قدامة: (ولا نعلم في اشتراط العلم في الجملة اختلافا (3) ، ولكن الفقهاء اختلفوا في بعض أنواع الجهالة على نحو اختلافهم في جهالة الأجل في ثمن الدين التي تفسد البيع) .
(1) ابن عابدين 4/286
(2)
بداية المجتهد 2/203؛ وانظر الشرح الكبير مع الدسوقي 3/179 و180 ففيه تفصيل في حال القبض في غير بلد العقد
(3)
المغني 4/322
وخلاصة آراء الفقهاء في هذا الموضوع هي أن الجهالة التي ترجع إلى وجود الأجل تفسد العقد باتفاق، وذلك مثل التأجيل إلى حبل الحبلة، أو إلى قدوم حاج معين.
أما الجهالة التي ترجع إلى وقت حصول الأجل، أي التي يكون فيها الأجل محقق الحصول، لكن الوقت الذي سيحصل فيه غير محدد، مثل البيع أو السلم إلى الحصاد، أو إلى قدوم الحاج، فقد اختلفوا في إفسادها للعقد، فقال الحنفية، والشافعية، والحنابلة في رواية، والظاهرية، والشيعة الإمامية: هي مفسدة للعقد، كالجهالة التي ترجع إلى وجود الأجل، وقال المالكية، والحنابلة في رواية لا تفسده (1) .
وإني أرجح رأي المالكية في أن الجهالة التي ترجع إلى وقت حصول الأجل لا تفسد العقد، لأن الأجل سيجيء حتما، وقد يكون للعاقد غرض صحيح من هذا التأجيل، كما في التأجيل إلى الحصاد وكون الحصاد يتقدم وقته تارة، ويتأخر أخرى، لا يؤدي إلى المنازعة، لأن المتعاقدين قد أبرما العقد، وهما يعلمان ذلك، فليس للمسلم أن يطالب المسلم فيه قبل الحصاد، إذا تأخر، وليس للمسلم إليه أن يمتنع عن التسليم عند الحصاد، إذا تقدم الحصاد.
هذا وقد اشترط بعض الفقهاء أن يكون الأجل معلوما بالأهلة (2)، وقد شدد الشافعي في هذا فقال: (ولا يصلح بيع إلى العطاء ولا حصاد، ولا جداد، ولا عيد النصارى، وهذا غير معلوم، لأن الله تعالى حتم أن تكون المواقيت بالأهلة فيما وقت لأهل الإسلام، فقال تبارك وتعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]، وقال جل ثناؤه:{شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185]، وقال جل وعز:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وقال:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]، وقال:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] .
(1) انظر تفصيل هذا الموضوع في كتاب الغرر وأثره في العقود 278- 294
(2)
انظر الأم للشافعي 3/84 والمغني لابن قدامة 4/324
فأعلم الله تعالى بالأهلة جل المواقيت، وبالأهلة مواقيت الأيام من الأهلة، ولم يجعل علما لأهل الإسلام إلا بها، فمن أعلم بغيرها فبغير ما أعلم. والله أعلم) (1) .
ولا يجوز عند الشافعي أن نعلم بعيد النصارى، لأن لو أجزناه نكون كما يقول الشافعي:(قد أعلمنا في ديننا بشهادة النصارى الذين لا نجيز شهادتهم على شيء، وهذا عندنا غير حلال لأحد من المسلمين)(2) .
هذا ولا نزاع في أن الأجدر بالمسلمين أن يعلموا آجالهم بالأهلة ما أمكن ذلك؛ لأن الله ذكرها في كتابه العزيز، وأخبر أنها مواقيت للناس، ولكني لا أرى ذلك أمرا لازما يترتب على عدمه فساد عقول المسلمين كما يرى الإمام الشافعي؛ لأنه ليس ثمة دليل نقلي ولا عقلي على إلزام المسلمين بذلك، والأدلة التي ساقها الإمام الشافعي تدل على أن الأهلة مواقيت للناس، ولكنها لا تدل على أن المواقيت لا تكون بغيرها.
ومن أجل هذا خالف فقهاء الشافعية إمامهم في هذه المسألة، فاعتبروا الأهلة وغيرها مما يعرفه الناس أجلا معلوما، فيجوز عندهم التأقيت بكل ما هو معلوم للمتعاقدين، ولم يتقيدوا بالأهلة إلا في حالة الإطلاق، فإذا كان الأجل إلى أول الشهر من غير تقييد انصرف إلى الشهر الهلالي. (3) .
(1) الأم 3/84
(2)
الأم 3/84
(3)
المهذب 1/298؛ والمجموع 9/339؛ ومغني المحتاج 2/105
الشرط الثاني – أن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل:
هذا شرط متفق عليه (1) ، لأن المسلم فيه واجب التسليم عند حلول الأجل فلا بد أن يكون تسليمه ممكنا حينذاك، وإلا كان من الغرر الممنوع، وعلى هذا فلا يجوز أن يسلم في ثمر إلى أجل لا يعلم وجود ذلك الثمر فيه، أو لا يوجد فيه إلا نادرا، كما لا يجوز أن يسلم في ثمار نخلة معينة أو ثمار بستان بعينه، وقد كان أهل المدينة حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون في ثمار نخيل بأعيانه فنهاهم عن ذلك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلف إليه رجلا من اليهود دنانير في تمر مسمى، فقال اليهودي: من تمر حائط بني فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أما من حائط بني فلان، فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى، وذلك لأن تمر البستان المعين لا يؤمن تلفه)) (2) .
وجود المسلم فيه عند العقد ليس شرطا عند الجمهور:
لا يشترط عند جمهور الفقهاء وجود المسلم فيه عند العقد، ولا بعده قبل حلول الأجل، فلا يضر عندهم عدم وجوده عند العقد (3)، كما لا يضر انقطاعه بين العقد والأجل وحجتهم في هذا:
1-
حديث ابن عباس المتقدم، فإنه لم يذكر فيه شروط الوجود، ولو كان شرطا لذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ولنهاهم عن السنتين والثلاث، لأن المعلوم أن الثمر لا يبقى هذه المدة.
2-
التسليم قبل حلول الأجل غير مستحق، فلا يلزم وجود المسلم فيه، إذ لا ثمرة لوجوده حينئذ (4) .
وقال الحنفية: يشترط وجود المسلم فيه في الأسواق من حين العقد إلى حين حلول الأجل، ولو لم يكن موجودا عند المسلم إليه، فالسلم عند الحنفية لا بد أن يكون في إبان وجود المسلم فيه، فلو كان المسلم فيه موجودا عند العقد، وغير موجود عند حلول الأجل، لا يجوز السلم، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء، وكذلك لا يجوز السلم عند الحنفية إذا كان المسلم فيه موجودا عند حلول الأجل، ولكنه غير موجود عند العقد، أو كان موجودا عند العقد، وعند حلول الأجل، ولكنه انعدم فيما بين ذلك.
(1) ابن عابدين 4/284؛ وبداية المجتهد 2/202؛ والمنهاج مع نهاية المحتاج 4/188؛ والمغني 4/325؛ والمحلى 9/114؛ والبحر الزخار 4/403؛ والمختصر النافع 158
(2)
نيل الأوطار 5/240؛ والمغني 4/325؛ والبحر الزخار 3/399
(3)
الشافعية يشترطون وجوده عند العقد في السلم والحال، ويعبرون بالقدرة على التسليم، يقول النووي:(يشترط كون المسلم فيه مقدورا على تسليمه عند وجوب التسليم) ويعلق عليه الرملي بقوله: وذلك بالعقد إن كان حالا، وبالحلول إن كان مؤجلا – نهاية المحتاج 4/188
(4)
المنتقى 4/30؛ وفتح العزيز مع المجموع 9/345؛ المغني 4/226
وحجة الحنفية في هذا الشرط هي أن الأجل يبطل بموت المسلم إليه، ويجب أخذ المسلم فيه من تركته، فاشترط لذلك داوم وجود المسلم فيه، لتدوم القدرة على تسليمه، إذ لو لم يشترط هذا الشرط، ومات المسلم إليه قبل أن يحل الأجل، فربما يتعذر تسليم المسلم فيه (1) .
وينبني على هذا الشرط أن السلم عند الحنفية ليس من بيع المعدوم، وإنما هو من بيع ما ليس مملوكا للبائع- المسلم إليه.
والغرض من هذا الشرط عند الجمهور وعند الحنفية أيضا، هو التحرز من الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، ولكن الحنفية شددوا أكثر مما يلزم في التحرز من الغرر، باشتراطهم دوام وجود المسلم فيه، من وقت العقد إلى وقت الاستحقاق، وقد كان من الممكن معالجة الحالة التي فرضوها بما عالج به الحنفية أنفسهم حالة انقطاع المسلم فيه بعد حلول الأجل، وقبل أن يوفى، فقد قالوا فيها: يخير رب السلم بين انتظار وجود المسلم فيه، والفسخ وأخذ رأس ماله (2) فلم لا يقال هذا في حالة انقطاع المسلم فيه عند موت المسلم إليه هذا على التسليم بأن موت المسلم إليه يبطل الأجل، أما إذا قلنا بأن موته لا يبطل الأجل، فإن حجة الحنفية تبطل من أساسها (3) .
(1) ابن عابدين 4/284؛ 286 وذكر ابن قدامة أن النووي والأوزاعي رأيهما كرأي الحنفية، وإن رأي إسحق وابن المنذر كرأي الأئمة الثلاثة – المغني 4/326؛ وانظر أيضا نيل الأوطار 5/242 وقال ابن حزم: إن سفيان والأوزاعي اشترطا وجود المسلم فيه وقت العقد، ولكنهما لم يشترطا عدم انقطاعه – المحلى 9/144
(2)
ابن عابدين 4/ 284
(3)
انظر المغني 4/326
الشرط الثالث – قبض رأس مال السلم في مجلس العقد:
يشترط في السلم تسليم رأس ماله في مجلس العقد، فلو تفرق المتعاقدان قبل التسليم بطل العقد، وهذا رأي جمهور الفقهاء (1) .
وحجتهم في ذلك أن تأخير التسليم يصير العقد كبيع الكالئ بالكالئ، وذلك لأن المسلم فيه دين في الذمة، فلو أخر تسليم رأس المال عن المجلس لكان ذلك في معنى بيع الكالئ بالكالئ (2) .
ويقول الغزالي: إن الغرض من هذا الشرط (جبر الغرر في الجانب الآخر) ويريد من ذلك كما يقول الرافعي: (أن الغرر في المسلم فيه احتمل للحاجة، فجبر ذلك بتأكيد العوض الثاني بالتعجيل ولئلا يعظم الغرر في الطرفين)(3) .
وهذا متمش مع الرأي القائل: إن السلم عقد غرر جوز للحاجة، ويبدو لي أن هذا الشرط ليس الغرض منه تخفيف الغرر، لأنه غرر في مجرد التأجيل، وإنما هو شرط يتفق مع طبيعة عقد السلم، والحاجة التي شرع من أجلها، وهي احتياج المسلم إليه إلى المال قبل حصوله على المسلم فيه، ولهذا فإني لا أرى ما يمنع تأجيل رأس المال إلى أجل قريب بشرط أن يكون أقل من أجل المسلم فيه.
وهذا الرأي له سند من المذهب المالكي، فإن المالكية يرون أن التأخير إلى ثلاثة أيام لا يضر، ولو كان مشروطا في العقد، ما لم يكن السلم قريبا كيومين، أما إن كان التأخير أكثر من ثلاثة أيام، فإن كان مشروطا في العقد لا يصح، وإن كان غير مشروط، فلمالك قولان في المدونة: قول بفساد العقد، وقول بعدم الفساد، سواء كثر التأخير جدا، بأن حل أجل السلم، أو لم يكثر جدا، المعتمد القول بالفساد (4) .
(1) ابن عابدين 4/288؛ والوجيز مع المجموع 9/208؛ والمغني 4/328؛ والمحلى 9/109؛ والبحر الزخار 3/398؛ والمختصر النافع 158
(2)
فتح العزيز مع المجموع 9/208؛ والبحر الزخار 2/298؛ وبداية المجتهد 2/202
(3)
الوجيز وشرحه فتح العزيز مع المجموع 9/207 و209
(4)
الدسوقي على الشرح الكبير 3/195 – 196؛ وبداية المجتهد 2/202؛ ويصرح الحنفية بأن قبض رأس مال السلم في مجلس العقد ليس شرطا لانعقاد ولا لصحته إنما هو شرط لبقائه على الصحة، فينعقد السلم صحيحا، ثم يبطل بالافتراق بلا قبض- ابن عابدين 4/288
قبض بعض رأس المال وتأخير بعضه:
إذا قبض المسلم إليه بعض رأس مال السلم، ثم تفرقا، صح العقد في المقبوض، وبطل فيما لم يقبض عند الحنفية، والشافعية، وعلى الصحيح في مذهب الحنابلة، ويبطل في الجميع في رواية عن الإمام أحمد (1) ؛ وهو ما يقتضيه كلام الخرقي (2) ، وهو مذهب المالكية (3) ، قال العدوي لأنه ابتداء دين بدين (4) .
جعل الدين رأس مال سلم:
إذا كان لرجل في ذمة آخر دين، فجعله سالما، لم يصح، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ من أهل العلم، منهم مالك، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحق، وأصحاب الرأي، والشافعي، وعن ابن عمر أنه قال: لا يصح ذلك، وذلك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل الثمن دينا، كان بيع دين بدين، ولا يصح ذلك بالإجماع (5) .
ولو كان رأس مال السلم بعضه نقدا، وبعضه دينا على المسلم إليه، فالسلم في حصة الدين باطل، لفوات القبض، ويجوز في حصة النقد (6) .
ويرى ابن تيمية وابن القيم جواز هذه المسألة التي حكى ابن المنذر الإجماع على منعها، على أصل مذهبهما في بيع الدين بالدين، ويقول ابن القيم في بيانه لأقسام بيع الدين بالدين:
(وأما بيع الواجب بالساقط، فكما لو أسلم في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته، فقد وجب له عليه دين، وسقط له عنه دين غيره، وقد حكي الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه، قاله شيخنا، واختار جوازه، وهو الصواب، إذ لا محذور فيه)(7) .
ورأيي هو جواز بيع الدين مطلقا، أعني سواء بيع للمدين، أو لغيره، بنقد أو بدين، ما دام خاليا من الربا، أو شبهة الربا، وأن الصورة المجمع على منعها في بيع الدين بالدين، هي ما اشتملت على ربا أو شبهة الربا (8) ، ومسألتنا هذه تدخل في بيع الدين بالدين لمن عليه الدين، ولا تخلو عندي من الربا، أو شبهته؛ لأن الإقدام على مثل هذا العقد يكون غالبا عندما يكون المدين غير قادر على أداء الدين في موعده، أو راغبا في تأجيله، فيعمد إلى جعل الدين رأس مال السلم، ويقبل الدائن؛ لأنه سيحصل في الغالب على أكثر من دينه، فيدخل هذا في (أخرني وأزيدك) ، لهذا فإني أرى منع هذه المعاملة، وبخاصة في تحويل القروض التي تمنحها المصارف الإسلامية إلى عقود سلم (9) .
(1) فتح القدير 5/744؛ ونهاية المحتاج 4/180؛ والمقنع 2/93
(2)
المغني 4/328
(3)
الدسوقي 3/170
(4)
كفاية الطالب الرباني مع حاشية العدوي 3/267
(5)
المغني 4/329؛ ونهاية المحتاج 4/180؛ والزيلعي 4/140
(6)
فتح القدير والعناية 5/344
(7)
نظرية العقد لابن تيمية 235؛ وأعلام الموقعين 1/240 – 241
(8)
انظر كتابي الغرر وأثره في العقود 310- 316
(9)
وانظر الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية 31
اشتراط الخيار في عقد السلم:
وقد انبنى على اشتراط قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، منع اشتراط خيار الشرط في عقد السلم عند الحنفية، والشافعية، والحنابلة (1)، يقول المرغيناني – عند كلامه عن اشتراط قبض رأس مال السلم-:(ولهذا قلنا لا يصح السلم إذا كان فيه خيار الشرط لهما، أو لأحدهما، لأنه يمنع تمام القبض لكونه مانعا الانعقاد في حق الحكم) . ويقول الشيرازي: (ولا يثبت فيه خيار الشرط، لأنه لا يجوز أن يتفرقا قبل تمامه، لهذا لا يجوز أن يتفرقا قبل قبض العوض، فلو أثبتنا فيه خيار الشرط أدى إلى أن يتفرقا قبل تمامه) .
ويجوز عند المالكية اشتراط الخيار في ثلاثة أيام فقط، إذا لم ينقد رأس المال، فإن نقد، ولو تطوعا، فسد العقد، للتردد بين السلفية والثمنية، كذلك يفسد العقد لو شرط النقد، وإن لم ينقد، ولو أسقط الشرط (2) ، وهذا متمش مع رأيهم القائل بجواز تأخير قبض رأس مال السلم إلى ثلاثة أيام.
السلع التي يجري فيها السلم (3)
الأصل في السلم أن يكون في الثمار، لأنها هي التي جاء ذكرها في الأحاديث الصحيحة، ولكن الفقهاء توسعوا في السلع التي يجوز فيها السلم، والضابط لهذا الموضوع هو:(كل مال يجوز بيعه، ويمكن ضبط صفاته، ويثبت دينا في الذمة: يجوز السلم فيه؛ وكل مال لا يجوز بيعه، أو لا يمكن ضبط صفاته، أو لا يثبت دينا في الذمة، لا يجوز السلم فيه)(4) .
وتطبيقا لهذا الضابط يجوز السلم في كل ما يكال، أو يوزن، بإجماع الفقهاء، لما ثبت في حديث ابن عباس المشهور (5) ويجوز أيضا في الذرعي والعددي المتقارب (6) ، قياسا على ما ثبت بالنص، لأنه في معناه (7) .
(1) تحفة الفقهاء 2/12؛ والهداية مع فتح القدير 5/343؛ والمهذب 1/297؛ والمقنع 2/36
(2)
الشرح الصغير على أقرب المسالك 3/265
(3)
هذا العنوان من وضع المجمع
(4)
تحفة الفقهاء 2/14؛ وبداية المجتهد 2/201 و202؛ والشرح الصغير على أقرب المسالك 3/275، 201، 202؛ والمهذب 1/297؛ والمغني 4/305
(5)
بداية المجتهد 2/201
(6)
تحفة الفقهاء 2/15
(7)
المهذب 1/297
ولا يجوز السلم فيما لا يضبط بالصفة، لأنه يقع البيع فيه على مجهول، وبيع المجهول لا يجوز (1) ولا يجوز السلم فيما لا يثبت في الذمة، قال ابن رشد: واتفقوا على امتناعه – السلم – فيما لا يثبت في الذمة وهي الدور والعقار (2) .
ويقول السمرقندي في بيان شروط المسلم فيه: (أن يكون المسلم فيه مما يضبط بالوصف، وهو أن يكون من الأجناس الأربعة: المكيل، والموزون، والذرعي، والعددي المتقارب، فأما إذا كان مما لا يضبط بالوصف؛ كالعدديات المتفاوتة، والذرعيات المتفاوتة، مثل الدور والعقار، والجواهر، واللآلئ، والأدم، والجلود، والخشب والرؤوس، والأكارع، والرمان، والسفرجل والبطاطيخ، ونحوها – لا يجوز؛ لأن المسلم فيه ما يثبت دينا في الذمة، وسوى هذه الأجناس الأربعة لا يثبت دينا في الذمة
…
) (3) .
ويذكر الفقهاء أمثلة كثيرة لما يجوز السلم فيه، وأمثلة لما لا يجوز السلم فيه، يتفقون في كثير منها، ويختلفون في بعضها (4) ، وسبب اختلافهم يرجع إلى اختلافهم فيما ينضبط بالصفة، وما لا ينضبط.
ويشترط ذكر جميع الأوصاف التي تختلف بها الأثمان (5)، والأوصاف كما يقول ابن قدامة:(على ضربين: متفق على اشتراطهما، ومختلف فيها، فالمتفق عليها ثلاثة أوصاف: الجنس، والنوع، والجودة والرداءة) ، فهذه لا بد منها في كل مسلم فيه، ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في اشتراطها، وبه يقول أبو حنيفة، ومالك والشافعي.
(1) المهذب 1/297
(2)
بداية المجتهد 2/201
(3)
تحفة الفقهاء 2/14 و15
(4)
ابن عابدين 4/281- 285؛ والمدونة الكبرى 9/2؛ وما بعدها والأم 3/83 وما بعدها؛ والمغني 4/305 وما بعدها
(5)
المهذب 1/299؛ المغني 4/310
الضرب الثاني ما يختلف الثمن باختلافه مما عدا هذه الثلاثة الأوصاف، وهذه تختلف باختلاف المسلم فيه، ونذكرها عند ذكره، وذكرها شرط في السلم عند إمامنا والشافعي، وقال أبو حنيفة: يكفي ذكر الأوصاف الثلاثة، لأنها تشتمل على ما ورائها من الصفات.
ولنا: أنه يبقى من الأوصاف من اللون والبلد ونحوهما، ما يختلف الثمن والغرض لأجله فوجب ذكره كالنوع (1) .
ثم ذكر ابن قدامة أنواعا كثيرة من المسلم فيه، والأوصاف التي يجب ذكرها في كل نوع (2) .
وواضح مما ذكره الفقهاء أن الأوصاف التي يجب ذكرها في المسلم فيه تختلف باختلاف نوع السلعة، وما نص عليه الفقهاء من الأوصاف التي يجب ذكرها في كل نوع المقصود منه تعيين السلعة المسلم فيها تعيينا يمنع النزاع فيها، بحسب المعروف في زمنهم، فلا يجب علينا الالتزام به في زمننا، ما دامت السلعة قد وصفت بصفة معروفة تميزها عن غيرها، وقد أشار الشافعي إلى هذا بقوله: وأقل ما يجوز فيه السلف من هذا أن يوصف ما سلف فيه بصفة تكون معلومة عند أهل العلم
…
فكل ما وقعت عليه صفة يعرفها أهل العلم بالسلعة التي سلف فيها، جاز فيها السلف (3) .
وبناء على هذا فإن السلعة الواحدة ذات العلامة التجارية (الماركات) المتعددة تعتبر أصنافا متعددة، ويشترط فيها ذكر الماركة، لأن الماركة هي التي تميزها عن غيرها، وهو وصف يترتب عليه اختلاف الثمن والغرض، فيجب ذكره (4) .
(1) المغني 4/310،311
(2)
المغني 4/311- 320
(3)
الأم 3/84، من الأمثلة الواضحة على هذا (السلم في الدور) فقد أجمع الفقهاء المتقدمون، كما رأينا، على منع السلم فيها، لأنها معتبرة عندهم مما لا ينضبط بالوصف، فهل ينطبق هذا الحكم على المنازل الجاهزة في زماننا؟ الجواب بداهة: لا ينطبق، لأن هذه المنازل يمكن وصفها وصفا منضبطا مانعا للنزاع
(4)
هذا جواب عن استفسار من استفسارات المجمع
كتابة عقد السلم:
ورد الأمر بكتابة الدين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السلم خاصة، قال القرطبي: معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا، والأمر بالكتابة أمر بالإشهاد؛ لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة، وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها، بهذه الآية، وهو اختيار الطبري، وقال الجمهور: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال، وإزالة الريب، وهذا هو القول الصحيح (1) .
أخذ رهن أو كفيل من المسلم إليه:
يجوز عند جمهور الفقهاء أن يأخذ المسلم من المسلم إليه رهنا، أو يطالبه بكفيل يضمن أداء ما عليه من دين السلم – المسلم فيه-، وهذا هو رأي الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو رأي عطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار، والحكم، وابن المنذر. لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} [البقرة: 282] – إلى قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، وقد روي عن ابن عباس، وابن عمر أن المراد به السلم، ولأن اللفظ عام، فيدخل السلم في عمومه، ولأنه أحد نوعي البيع، فجاز أخذ الرهن بما في الذمة منه. كبيوع الأعيان (2) .
وقال الحنابلة في رواية: لا يجوز أخذ الرهن، أو الكفيل، في المسلم، وهي الرواية التي اختارها الخرقي، ووجه هذه الرواية أن الرهن إنما يجوز بشيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن، والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من الرهن، ولا من ذمة الضامن، لأنه لا يأمن هلاك الرهن في يده بعدوان فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ، ولأنه يقيم ما في ذمة الضامن مقام ما في ذمة المضمون عنه، فيكون في حكم أخذ العوض والبدل عنه، وهذا لا يجوز.
ورويت كراهة أخذ الرهن والكفيل عن علي، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والأوزاعي (3) .
(1) الجامع لأحكام القرآن 3/377 و382 و383
(2)
تحفة الفقهاء 2/23؛ والمدونة الكبرى 9/56 و58؛ والمهذب 1/305؛ المغني 4/342
(3)
المغني 4/342
اشتراط قبض بضاعة السلم قبل بيعها (1) :
قال الخرقي: (وبيع المسلم فيه من بائعه، أو من غيره قبل قبضه فاسد، وكذلك الشركة فيه، والتولية والحوالة به، طعاما كان أو غيره) .
وقال شارحه ابن قدامة: (أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن، ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه، كالطعام قبل قبضه)(2) .
قلت: الخلاف في تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه موجود، فقد منع المالكية بيع المسلم فيه قبل قبضه، إذا كان طعاما، وجوزوا بيعه قبل قبضه، إذا لم يكن طعاما، سواء باعه المسلم من المسلم إليه، أو من غيره، إلا أنه إذا باعه من المسلم إليه قبل الأجل فلا يجوز أن يبيعه بأكثر من الثمن الذي اشتراه به، وإنما يبيعه بمثل الثمن، أو بأقل، ويقبض الثمن، وأما إذا باعه من غير المسلم إليه فيجوز بيعه بأكثر من الثمن، أو بأقل منه، أو بمثله لذا قبض الثمن.
جاء في المدونة:
(قلت) : أرأيت إن أسلمت في طعام معلوم إلى أجل معلوم، أيجوز لي أن أبيع ذلك الطعام من الذي اشتريته منه، أو من غيره قبل أن أقبضه في قول مالك؟ (قال) : لا يجوز ذلك في قول مالك، (قلت) : لم؟ (قال) : لأنك أسلمت في طعام بكيل، فلا يجوز لك أن تبيعه حتى تكتاله، إلا أن يوليه، أو يشرط فيهن أو يقيل منه، (قلت) : وكذلك كل ما يكال ويوزن من الأطعمة والأشربة إذا أسفلت فيها لم يصلح لي أن أبيعها حتى أكتالها، أو أزنها، وأقبضها في قول مالك؟ (قال) : نعم إلا الماء وحده (قلت) : وما سوى الطعام والشراب مما سلفت فيه كيلا، أو وزنا، فلا بأس أن أبيعه قبل أن أقبضه من الذي باعني، أو من غيره؟ (قال) قال مالك: لا بأس أن تبيع ما سلفت فيه، إذا كان من غير ما يؤكل ويشرب من غير الذي عليه ذلك السلف بأقل، أو بأكثر، أو بمثل ذلك، إذا انتقدت، وأما الذي عليه السلف فلا تبيعه منه قبل الأجل بأكثر، ولا تبيعه منه إلا بمثل الثمن، أو بأقل، ويقبض (3) ذلك.
هذا هو مذهب الإمام مالك، وما ذكره ابن قدامة من تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه، هو رأي الجمهور (4) ، وهو الراجح عندي الذي ينبغي العمل به، بالنسبة لبيع المسلم فيه من غير بائعه؛ لأنه هو الذي تدل عليه الأحاديث الواردة في بيع ما لم يقبض (5) .
(1) هذا العنوان من مجمع الفقه الإسلامي
(2)
المغني 4/334؛ وانظر أيضا الشرح الكبير على المقنع 4/341
(3)
المدونة الكبرى 9/87، وجاء في صفحة 88: ولا يصلح أن تبيعه من الذي عليه السلف بأكثر مما أعطاه فيه حل في ذلك الأجل أو لم يحل، وانظر بداية المجتهد 2/205
(4)
تنوير الأبصار مع شرحه؛ وحاشية ابن عابدين 4/289 و290؛ والمهذب 1/263 و301
(5)
انظر كتاب الغرر وأثره في العقود 322 وما بعدها
والعلة في تحريم بيع السلع قبل قبضها هي:
1-
الربا: وهذا ما يراه المالكية (1) ؛ وقد ذهب إليه من قبلهم ابن عباس حين قال في بيع الطعام قبل قبضه: ذلك دراهم بدراهم والطعام مرجأ (2) كما ذهب إليه زيد بن ثابت وأبو هريرة حين قالا لمروان: أحللت بيع الربا عندما رأيا الناس يتبايعون صكوك الطعام قبل أن يستوفوها (3) .
وهذا التعليل – كما يقول الشوكاني – أجود ما علل به النهي، لأن الصحابة أعرف بمقاصد رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) .
2-
الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، وهو رأي سائر الفقهاء، غير أن عدم القدرة على التسليم سببه احتمال هلاك المحل عند الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وضعف الملك عند الزيدية، واحتمال عدم تسليم البائع الأول عند ابن تيمية (5) .
3-
المسلم فيه قبل قبضه من ضمان البائع، ولا يدخل في ضمان المشتري إلا بالقبض، فبيعه قبل قبضه يدخل في النهي عن ربح ما لم يضمن (6) .
وأضيف إلى هذه العلل أن في النهي عن بيع السلع قبل قبضها إيجاد فرص للعمل، وذلك لأن في بيع السلع قبل قبضها حرمانا لعدد كبير من العمال الذين يقومون بالكيل والحمل، فإن التاجر يفضل أن يبيع السلعة وهي عند بائعها، ما دام يجد ربحا، ثم إنا لو أبحنا للتجار بيع السلع قبل قبضها، فإن أسعارها ترفع وهي في مكانها، فتعود الفائدة كلها إلى طبقة التجار، ولا ينال العامل والمستهلك فائدة من هذه العمليات، في حين أنه ينالهما ضرر ارتفاع السعر.
وقد نقل الدسوقي عن التوضيح تعليلا جيدا لمنع بيع الطعام قبل قبضه هو: أن الشارع له غرض في ظهور الطعام، فلو أجيز بيعه قبل قبضه لباع أهل الأموال بعضهم من بعض من غير ظهور، بخلاف ما إذا منع من ذلك، فإنه ينتفع به الكيال والحمال، ويظهر للفقراء فتقوى به قلوب الناس، لا سيما في زمن المسغبة والشدة (7) .
(1) بداية المجتهد 2/44؛ المنتقى 4/280
(2)
صحيح البخاري 3/68
(3)
الموطأ مع المنتقى 4/285؛ وصحيح مسلم مع شرح النووي 10/171
(4)
نيل الأوطار 5/169
(5)
البدائع 5/180؛ والمهذب 1/262؛ والمغني 4/128؛ والبحر الزخار 2/312؛ والاختيارات العلمية مع الفتاوى 75
(6)
المغني 4/327
(7)
الدسوقي على الشرح الكبير 3/131
وقد اختلف الفقهاء في المراد بالقبض فيما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر – المنقول – والذي أرجحه هو أن المنقول إذا كان مقدرا فقبضه يكون باستيفاء قدره، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، والحنابلة (1) وإذا كان جزافا (2) فقبضه بنقله من مكانه، وهو مذهب الحنابلة ورواية عند المالكية (3) ،وفيما عدا المقدار والجزاف، يكون القبض ما يعتبره العرف قبضا، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة (4) ، وذلك عملا بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالأمر بالكيل فيما بيع بالكيل، والأحاديث المصرحة بالنهي عن بيع الجزاف حتى ينقل، وعملا بالعرف فيما لم يرد فيه نص.
ويتضح من هذا أنه لا يغني عن القبض التحقق من قدرة المسلم على توفير السلعة عند حلول الأجل ولا التأمين على السلعة المسلم فيها، ولا وجودها في مخازن عمومية منظمة (5) ، لأن قدرة المسلم على تسليم السلعة عند حلول الأجل شرط لصحة عقد السلم، فلو كان المسلم غير قادر على التسليم، أو شاكا فيه لا يجوز العقد.
ووجود السلعة في مخازن عمومية منظمة محقق للقدرة على التسليم، وليس قبضا للمسلم فيه.
والتأمين على السلعة ضرب من الضمان، وليس قبضا، ثم إن علة منع بيع المسلم فيه قبل قبضه ليست هي احتمال عدم القدرة على تسليمه وحدها، حتى يقال إذا انتفت العلة بتحقق القدرة على التسليم، ينتفي المانع، ويصح البيع، فهناك علة الربا، وعلة عدم دخول السلعة في ضمان المشتري.
(1) ابن عابدين 4/226؛ والدسوقي على الشرح الكبير 3/126؛ والمغني 4/125
(2)
المسلم فيه لا يكون جزافا
(3)
المغني 4/125، والدسوقي على الشرح الكبير 3/126
(4)
الدسوقي على الشرح الكبير 3/126؛ والمجموع 9/275؛ المغني 4/126
(5)
هذا جواب عن الاستفسارات الواردة في مخطط المجمع
الاستبدال بالمسلم فيه:
لا يجوز عند الحنفية والشافعية، والحنابلة أن يأخذ المسلم غير ما أسلم فيه بدلا عنه قبل قبضه:
يقول السمرقندي: (وأما الاستبدال بالمسلم فيه فلا يجوز قبل القبض، كالاستبدال بالمبيع المعين، لأن المسلم فيه مبيع، وإن كان دينا، فيكون بيع المبيع المنقول قبل القبض، وأنه لا يجوز بخلاف سائر الديون)(1) .
ويقول النووي والرملي: (لا يصح أن يستبدل عن المسلم فيه غير جنسه، كبر في شعير، ونوعه
…
كتركي عن هندي، وتمر عن رطب؛
…
وذلك لأنه بيع للمبيع قبل قبضه
…
وقيل يجوز في نوعه؛ لأن الجنس يجمعهما، فكان كما لو اتحد النوع، واختلفت الصفة
…
وعلى الجواز لا يجب القبول لاختلاف الغرض، ويجوز أردأ من المشروط، لأنه من جنس حقه، فإذا تراضيا به كان مسامحة بصفة، ولا يجب قبوله
…
ويجوز أجود منه من كل وجه لعموم خبر ((خياركم أحسنكم قضاء)) ويجب قبوله في الأصح؛ لأن الامتناع منه عناد..) (2) .
ويقول ابن قدامة:
(وأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ غير ما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام، سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما، سواء كان العوض مثل المسلم فيه في القيمة، أو أقل، أو أكثر) ، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكان البر جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وهذا يحمل على الرواية التي فيها أن البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه.
وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام.
قال ابن المنذر: وقد ثبت عن ابن عباس قال: إذا أسلم في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضا أنقص منه، ولا تربح مرتين، رواه سعيد في سننه.
(1) تحفة الفقهاء 2/20
(2)
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 4/209 و210
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) رواه أبو داود وابن ماجه (1) ، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع، فلم يجز كبيعه من غيره، فأما إن أعطاه من جنس ما أسلم فيه خيرا منه، أو دونه في الصفات جاز، لأن ذلك ليس ببيع، إنما هو قضاء للحق مع تفضل أحدهما (2) .
ويجوز عند المالكية قضاء المسلم فيه بغير جنسه، سواء أكان القضاء قبل الأجل أم بعده، بشروط ثلاثة:
1-
أن يعجل البدل المدفوع، لئلا يكون من فسخ الدين في الدين.
2-
ألا يكون المسلم فيه طعاما، ليسلم من بيع الطعام قبل قبضه.
3-
أن يكون سلم رأس المال في المدفوع من غير الجنس صحيحا، ومثل له الدردير بما لو أسلمه ثوبا في عبد، فقضى عنه بعيرا، فإنه يصح سلم الثوب في البعير، ومثل لما لا يصح بمثالين، أحدهما: ما لو أسلم ورقا في عبد، فقضى عنه ذهبا، أو أسلم ذهبا في عبد، فقضى عنه ورقا؛ لأنه يؤول إلى سلم ذهب في فضة، أو فضة في ذهب، وهو صرف مؤخر.
والمثال الثاني: ما لو أسلمه طعاما في ثوب، فقضى عنه طعاما، لأنه يلزم عليه بيع طعام بطعام نسيئة (3) .
يتضح من هذا أن المانعين للاستبدال- الحنفية والشافعية والحنابلة – اعتمد بعضهم – الحنابلة – على حديث ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ، واعتمدوا جميعا على أن الاستبدال بيع للمبيع قبل قبضه، المنهي عنه، ولا فرق عندهم بين بيعه من بائعه، أو من غيره.
والمالكية المجوزون للاستبدال ساروا فيه على رأيهم في بيع المبيع قبل القبض، فأجازوه في غير الطعام بشرط تعجيل البدل، وصلاحيته لأن يكون مسلما فيه لرأس مال السلم.
(1) في إسناد هذا الحديث عطية بن سعد العوفي، قال المنذري: لا يحتج بحديثه – نيل الأوطار 5/241
(2)
المغني 4/335
(3)
الشرح الصغير على أقرب المسالك 2/284؛ وانظر بداية المجتهد 2/205
وأرى جواز الاستبدال، سواء أكان المسلم فيه طعاما، أم غير طعام بشرطين:
الأول: أن يكون البدل صالحا لأن يجعل مسلما فيه لرأس مال السلم؛ لأن البدل سيحل محل المسلم فيه فيشترط فيه ما يشترط في المسلم فيه.
الثاني: ألا يكون البدل أكثر من المسلم فيه لئلا يربح المسلم مرتين كما يقول ابن عباس.
وهذا الرأي متفق مع رأي ابن عباس، ومع رأي المالكية في غير الطعام مع إسقاط شرط تعجيل البدل؛ لأني لا أرى مانعا من التأجيل، ما دام المسلم لن يأخذ أكثر من المسلم فيه.
ولكنه مختلف مع رأي الجمهور، وسبب اختلافي مع الجمهور هو أن الدليلين اللذين اعتمد عليهما الجمهور غير مقبولين عندي.
فالدليل الأول – وهو الحديث الذي أورده الحنابلة لم تثبت صحته، فلا يحتج به.
والدليل الثاني، وهو كون الاستبدال بيعا للمبيع قبل قبضه المنهي عنه، غير مسلم به؛ لأن استبدال غير المسلم فيه بالمسلم فيه ليس بيعا، ولو سلمنا بأنه بيع، فلا نسلم أنه بيع للمبيع قبل قبضه المنهي عنه؛ لأن بيع المبيع قبل قبضه المنهي عنه هو بيعه من غير بائعه؛ لأن هذا هو الشأن في البيع، والاستبدال، على تسليم أنه بيع، هو بيع للمسلم فيه من بائعه.
ثم إن العلل الثلاثة التي ذكرها الفقهاء للمنع من بيع المسلم فيه قبل قبضه لا تتحقق في الاستبدال الذي أجزته، فعلة الربا، وعلة ربح ما لم يضمن، لا تتحقق إلا في البيع بأكثر من الثمن الأول، وهذا فقد اشترطت في الاستبدال ألا يكون البدل أكثر من المبدل – المسلم فيه – وأما علة الغرر فغير متصورة في الاستبدال.
وزيادة على هذا فإنه قد تكون هناك حاجة إلى هذا الاستبدال، وبخاصة بالنسبة إلى المزارعين، فقد يصعب على المزارع الحصول على ما تعاقد عليه، ويكون عنده غيره، وقد حدث هذا مرارا، عندنا في السودان، بين بعض المزارعين والبنوك التي تتعامل بعقد السلم، واستفتيت فيه، فأفتيت بجواز الاستبدال.
السلم المتوازي (1) :
هذا اصطلاح حادث، المراد به – كما جاء في مخطط المجمع – استخدام صفقتي سلم متوافقتين، دون ربط بينهما.
وواضح من المصطلح وشرحه أنه لا يوجد ربط لفظي في العقد بين السلمين، ولكن الربط حاصل في الواقع؛ لأن رب السلم الأول يبيع سلعة لرب السلم الثاني بنفس المواصفات والمقدار، وإلى نفس الأجل الذي سيتسلم فيه السلعة التي أسلم فيها، وفي نيته أنه سيتسلمها من المسلم إليه، ويسلمها إلى من تعاقد معه، ولكنه لا يصرح بهذه النية، ويبرم عقد سلم ظاهره الاستقلال عن العقد الأول، وباطنه الربط بينهما.
وفي رأيي أن هذا السلم المتوازي هو حيلة لبيع المسلم فيه قبل قبضه، فهل هذه الحيلة مقبولة شرعا؟
هذه الحيلة لا تتحقق فيها علتان من ثلاثة علل التي ذكرها الفقهاء لمنع بيع المسلم فيه قبل قبضه:
لا تتحقق فيه علة دخول بيع المسلم فيه قبل قبضه في ربح ما لم يضمن المنهي عنه؛ لأن المسلم فيه دين في ذمة المسلم إليه فهو في ضمانه، ولا يؤثر في هذا نية المسلم إليه في أن يؤدي هذا الدين من السلم الأول، وهذا شبيه بالمزارع الذي يبيع سلما في ذمته من غير أن يربطه بمحصول أرضه، وفي نيته أن يوفي من محصوله.
ولا تتحقق في السلم المتوازي علة الغرر؛ لأن المسلم إليه لا يبيع عين السلعة التي اشتراها من المسلم إليه الأول، وإنما يبيع سلعة موصوفة في الذمة تتوافر فيها شروط المسلم فيه.
ولكنها لا تخلو من علة الربا التي أشار إليها ابن عباس بقوله ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ، وبخاصة إذا اتخذ هذا الأسلوب من السلم المتوازي بقصد التجارة والربح، وتكرر السلم المتوازي للمعاملة الأولى، ويدخله مانع آخر هو الضرر الذي يصيب المستهلك من ارتفاع سعر السلعة قبل أن تصل إليه بسبب انتقالها لأكثر من تاجر.
ولهذا فإني أرجح منع هذه المعاملة، إلا إذا احتاج رب السلم الأول إلى نقود قبل أن يحل أجل السلم، ولم يجد من يقرضه، فيجوز له في هذه الحالة أن يلجأ إلى السلم المتوازي، بل يجوز له إذا كان المسلم فيه غير الطعام أن يبيعه قبل قبضه ليقضي حاجته عملا بمذهب المالكية.
(1) هذا جواب عن استفسار ورد في مخطط المجمع
إصدار سندات سلم قابلة للتداول (1) :
لا يجوز إصدار سندات سلم قابلة للتداول؛ لأن هذا سيؤدي حتما إلى بيع المسلم فيه قبل قبضه، سواء أكان المسلم فيه طعاما، أم غير طعام، غير أنه إذا كان المسلم فيه طعاما، فالمنع يكون بإجماع الفقهاء، للأحاديث الصحيحة الواردة في منع بيع الطعام قبل قبضه، (2) ولهذا الموضوع سابقة حدثت في عهد مروان بن الحكم، فقد روى مالك في الموطأ أنه بلغه أن صكوكا (3) خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجار (4) فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مروان بن الحكم، فقالا: أتحل بيع الربا يا مروان؟ فقال: أعوذ بالله، وما ذاك؟ فقالا: هذه الصكوك تبايعها الناس، ثم باعوها، قبل أن تستوفى، فبعث مروان بن الحكم الحرس يتتبعونها ينزعونها من أيدي الناس، ويردونها إلى أهلها (5) ،وجاء مثل هذا الخبر في المعنى عن أبي هريرة (6) ،ولعله هو الصحابي الذي كان مع زيد بن ثابت، وأشار إليه مالك من غير ذكر اسمه.
وأما إذا كان المسلم فيه غير طعام فقد رأينا أن الجمهور يمنعون بيعه قبل قبضه، ولو كان لمرة واحدة فكيف إذا تداولته الأيدي؟ أما المالكية فإنهم يجوزون للمسلم أن يبيع المسلم فيه قبل قبضه إذا لم يكن طعاما، ولكنهم لا يجوزون لمن اشترى منه أن يبيع ما اشتراه قبل قبضه، فإصدار سندات سلم قابلة للتداول لا يجوز عند جميع الفقهاء.
(1) هذا العنوان من المجمع
(2)
انظر هذه الأحاديث في كتاب الغرر وأثره في العقود 322
(3)
الصكوك جمع صك، وهو الورقة المكتوبة بدين، والمراد بها هنا الورقة التي تخرج من ولي الأمر بالرزق لمستحقه بأن يكتب فيها لفلان كذا وكذا من طعام أو من غيره، ومن هذه الصكوك ما يكون لعمل كأرزاق القضاة والعمال، ومنها ما يكون بغير عمل كالعطاء لأهل الحاجة، والظاهر أن تلك الصكوك كانت من الطعام – النووي على مسلم 10/171؛ والمنتقى على الموطأ 4/285
(4)
الجار موضع بساحل البحر يجمع فيه الطعام ثم يفرق على الناس بصكوك – الزرقاني على الموطأ 3/288
(5)
الموطأ بهامش المنتقى 4/285
(6)
النووي على مسلم 10/171
عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم ومشروعية الشرط الجزائي من تأخير تسليم البضاعة:
إذا عجز البائع (المسلم إليه) عن تسليم البضاعة (المسلم فيه) عند حلول الأجل، فإن كان عجزه عن التسليم سببه عدم وجود المسلم فيه عند حلول الأجل، فإن المشتري (المسلم) يخير بين الانتظار إلى أن يوجد المسلم فيه، وفسخ العقد وأخذ الثمن (رأس مال السلم) .
وهذا هو مذهب الحنفية (1) ، وقول ابن القاسم من المالكية (2) ، وقول عند الشافعية (3) ، والصحيح عند الحنابلة (4) .
وقال أشهب من أصحاب مالك: ينفسخ السلم ولا يجوز التأخير؛ وهو قول عند الشافعية، ووجه عند الحنابلة (5) .
وقال سحنون من المالكية: ليس له أخذ الثمن، وإنما له أن يصبر إلى القابل (6) .
والقول الأول هو المعمول به عندنا في السودان. أما إذا كان العجز عن التسليم سببه إعسار المسلم إليه فالواجب انتظاره إلى الميسرة، والخير في التصدق عليه.
وأما إن كان عدم التسليم سببه امتناع المسلم إليه عن التسليم مع يساره، فإن حكمه هو حكم المدين المماطل الذي أصدر فيه مجمع الفقه الإسلامي القرار التالي:
4-
يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعا اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء (7) .
وإذا كان اشتراط التعويض لا يجوز، فإن الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم البضاعة (المسلم فيه) في بيع السلم، لا يجوز من باب أولى.
(1) الدر المختار مع ابن عابدين 4/284
(2)
بداية المجتهد 2/205
(3)
المهذب 1/302
(4)
المغني 4/326
(5)
بداية المجتهد 2/205؛ المهذب 1/302؛ المغني 4/326
(6)
بداية المجتهد 2/205
(7)
القرار رقم (53/2/6) بشأن البيع بالتقسيط – الدورة السادسة بجدة في الفترة من 17 – 23 شعبان 1410هـ- 14مارس 1990م
تطبيقات السلم المعاصرة:
عقد السلم يمكن أن يطبق في مجالات عديدة، ويكون بديلا شرعيا للتمويل بالقرض بفائدة في كل المجالات التي يحتاج فيها التمويل: المجال الزراعي، والصناعي، والتجاري، ويحقق مصلحة الممول – المسلم إليه – بإمداده بالمال اللازم له في زراعته، وصناعته، وتجارته، ويحقق مصلحة الممول – المسلم- في الحصول على المنتجات الزراعية والصناعية والتجارية بأثمان رخيصة ومشروعة، تمكن من الربح الحلال، وفي تحقيق مصلحة المموِّل والمموَّل تحقيق لمصلحة المجتمع بتشجيع الزراعة والصناعة والتجارة التي تعود على الناس جميعا بالنفع، وتخليص المجتمع من الأضرار التي تصيبه من التعامل بالربا، وسد حاجة الناس جميعا لهذا التعامل، وهذه هي الحكمة من مشروعية عقد السلم. يقول ابن قدامة في هذا المعنى:(ولأن بالناس حاجة إليه – السلم – لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكتمل، وقد تعوزهم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا، ويرتفق المسلم بالاسترخاص)(1) .
هذا وتستطيع البنوك الإسلامية أن تتعامل بعقد السلم في مجال الزراعة والصناعة والتجارة وجميع المجالات التي يحتاج فيها المتعامل معها إلى تمويل، ولكن الواقع أن البنوك الإسلامية لم تطبق صيغة السلم في استثماراتها – وبخاصة عندنا في السودان – إلا في المجال الزراعي، ولهذا سيكون حديثي عن هذه المسألة خاصا بتطبيق البنوك الإسلامية لعقد السلم في مجال الزراعة.
تعامل السودانيون بعقد السلم في مجال الزراعة قبل وجود البنوك، وكان يسمى (الشيل) فكان التجار يشترون من المزارعين المحتاجين إلى المال قبل الزراعة، ويدفعون ثمن ما يشترونه مقدما، ولما قامت البنوك أخذت تمول المزارعين بطريق القرض بفائدة، فتعامل معها بعض المزارعين وامتنع البعض، واستمروا في التعامل مع التجار، وكانت معاملة بعض التجار للمزارعين لا تخلو من استغلال لحاجتهم، فتدخلت الدولة، وسنت قانونا يجيز للمزارع رفع الأمر إلى القضاء لتعديل السعر في حالة الاستغلال.
وعندما منعت البنوك من التعامل بالفائدة، وكان من بين تلك البنوك البنك الزراعي، وهو بنك حكومي متخصص، وهو الممول الأول للمزارعين، طلب من هيئة الرقابة الشرعية البديل فقدمت له عقد السلم التالي: الذي أصبح نموذجا لسائر البنوك.
(1) المغني 4/305
4-
التزم الطرف الثاني أن يسلم البنك المبيع (المسلم فيه) في المكان التالي ــ
5-
على الطرف الثاني تقديم ضمان عيني مقبول، أو ضمان شخص، يتعهد فيه الضامن بتسليم أي كمية من المسلم فيه يعجز الطرف الثاني عن تسليمها في وقتها المحدد.
6-
ويجوز للبنك أن يطلب من الطرف الثاني، أو الضامن، أو منهما معا، تقديم شيكات بمبلغ يتفق عليه الطرفان، ويكون للبنك الحق في التصرف في الشيكات لشراء المسلم فيه المطلوب من الطرف الثاني، بسعر السوق في أي يوم بعد التسليم.
7-
في حالة عدم وجود المسلم فيه عند حلول الأجل، للبنك الخيار بين انتظار وجود المسلم فيه، وفسخ العقد، وأخذ الثمن (رأس مال السلم) .
8-
اتفق الطرفان على إزالة أي غبن فاحش يلحق بأي منهما بسبب زيادة سعر المسلم فيه، أو نقصه وقت التسليم عن السعر المتفق عليه، بما يزيد عن الثلث، ففي حالة الزيادة يتحمل البنك ما زاد عن الثلث، وفي حالة النقص يتحمل المزارع ما زاد عن الثلث.
9-
إذا نشأ نزاع حول هذا العقد يحال ذلك النزاع إلى لجنة تحكيم تتكون من ثلاثة محكمين، يختار كل طرف محكما واحدا منهم، ويتفق الطرفان على المحكم الثالث، الذي يكون رئيسا للجنة التحكيم. وفي حالة فشل الطرفين في الاتفاق على المحكم الثالث، أو عدم قيام أحدهما باختيار محكمه في ظرف سبعة أيام من تاريخ إخطاره بواسطة الطرف الآخر، يحال الأمر لمحكمة البنوك، أو أقرب محكمة مديرية مختصة لتقوم بتعيين ذلك المحكم، أو المحكمين المطلوب اختيارهم.
تعمل لجنة التحكيم حسب أحكام الشريعة الإسلامية، وتصدر قراراتها بالأغلبية العادية، وتكون هذه القرارات نهائية وملزمة للطرفين.
وقع عليه/ وقع عليه/
ع/ الطرف الأول ع/الطرف الثاني
الشهود:
1-
2-
المشاكل التي تصاحب التعامل بعقد السلم:
لعل أهم مشكلة تفترض التعامل بعقد السلم هي تحديد الثمن، ففي التعامل بين التاجر والمزارع يوجد احتمال استغلال التاجر لحاجة المزارع، وهذا الاحتمال غير وارد في حالة تعامل البنك الإسلامي مع المزارع، لأن السعر تحدده لجنة من اتحاد المصارف واتحاد المزارعين، ولكن مع هذا قد يرتفع السعر عند محل الأجل، فيقع النزاع بين الطرفين، وقد حدث هذا بالفعل أكثر من مرة، فعالجته هيئة الرقابة الشرعية بإدخال البند الثامن في عقد السلم – بند إزالة الغبن – الذي وافق عليه المزارعون والبنوك.
والمشكلة الثانية هي مشكلة عدم تمكن المزارع من الوفاء بالتزاماته بسبب شح المحصول، وقد وضع البند السابع في عقد السلم لحلها.
والمشكلة الثالثة على عدم وفاء المزارع بالتزاماته مع يساره، ومقدرته على الوفاء، ولكنه يتعلل بعلل غير شرعية، مثل قلة محصول مزرعته، وقد وضعت الهيئة البند الخامس في العقد لعلاج مثل هذه الحالات، ولكن البنوك لا تستطيع في كثير من الحالات العمل بهذا البند.
والتجربة مستمرة في السودان على الرغم من شكاوى بعض البنوك من مماطلة بعض المزارعين.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ملخص البحث
تعريف السلم:
السلم والسلف معناهما واحد، الأول لغة أهل الحجاز والثاني لغة أهل العراق.
والسلم هو بيع آجل بعاجل فهو نوع من البيع يتأخر فيه المبيع، ويسمى: المسلم فيه، ويتقدم فيه الثمن ويسمى: رأس مال المسلم، فهو عكس البيع بثمن مؤجل، ويسمى البائع: المسلم فيه، والمشتري: المُسلِم.
والسلم مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، ويرى بعض الفقهاء أن السلم في القياس لا يجوز؛ لأنه بيع معدوم، وبيع ما ليس عند الإنسان، وبيع غرر، ولكنه جاز استحسانا، على خلاف القياس، لورود النص بجوازه، وللحاجة إليه.
والصواب عندي ما يراه ابن تيمية من أنه ليس في الشريعة حكم على خلاف القياس، وأن السلم مشروع على وفق القياس؛ لأن مشروعيته ثابتة بالنص، وأن القياس الذي قال بعض الفقهاء: إن السلم جاء على خلاف قياس فاسد.
والسلم كما جاء في التعريف نوع من البيع، ولهذا يشترط فيه كل ما يشترط في البيع، ويشترط في السلم شروط خاصة به هي:
الشرط الأول – أن يكون المسلم فيه مؤجلا
يشترط جمهور الفقهاء لصحة عقد السلم أن يكون المسلم فيه مؤجلا، إلى أجل معلوم، على اختلاف بينهم في مدة الأجل، وفي الجهالة التي تفسد العقد، فالسلم الحال لا يجوز عندهم، وكذلك السلم المؤجل إلى أجل مجهول.
وقال الشافعية: يجوز السلم حالا كما يجوز مؤجلا، ولكل أدلته ورأي الجمهور أولى بالقبول عندي لقوة دليله، كما أرى ألا نجعل حدا لأقل الأجل، كما أنه لا حد لأكثره، وأرى أن جهالة الأجل التي تفسد العقد هي الجهالة التي ترجع إلى وجود الأجل (1) ، أما الجهالة التي ترجع إلى وقت حصوله، أي التي يكون فيها الأجل محقق الحصول، لكن الوقت الذي يحصل فيه غير محدد، مثل الأجل إلى الحصاد، أو قدوم الحاج، فإنها لا تفسد العقد.
ولا أوافق الشافعي وبعض فقهاء الحنابلة الذين اشترطوا أن يكون الأجل معلوما بالأهلة، ويكفي عندي أن يكون الأجل معلوما للعاقدين.
الشرط الثاني: أن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل:
هذا شرط متفق عليه، لأن المسلم فيه واجب التسليم عند حلول الأجل، فلا بد أن يكون تسليمه ممكنا حينذاك، وإلا كان من الغرر الممنوع.
ولا يشترط عند جمهور الفقهاء وجود المسلم فيه عند العقد، ولا بعده قبل حلول الأجل، وقال الحنفية: يشترط وجود المسلم فيه في الأسواق من حين العقد إلى حين حلول الأجل، ولو لم يكن موجودا عند المسلم فيه، فالسلم عند الحنفية ليس من بيع المعدوم، وإنما هو من بيع ما ليس مملوكا للبائع.
(1) مثل الأجل إلى قدوم حاج معين، فإن هذا الحاج قد يقدم، وقد لا يقدم
الشرط الثالث: قبض رأس مال السلم في مجلس العقد:
يشترط في السلم تسليم رأس ماله في مجلس العقد، فلو تفرق المتعاقدان قبل التسليم بطل العقد، وهذا رأي جمهور الفقهاء.
وقال المالكية: إن التأخير إلى ثلاثة أيام لا يضر، ولو كان مشروطا في العقد، ما لم يكن السلم قريبا كيومين، أما إن كان التأخير أكثر من ثلاثة أيام فإن كان مشروطا في العقد لا يصح، وإن كان غير مشروط فلمالك قولان في المدونة: قول بفساد العقد، وقول بعدم الفساد، والمعتمد القول بالفساد.
وإذا قبض المسلم إليه بعض رأس مال السلم، ثم تفرقا صح العقد في المقبوض، وبطل فيما لم يقبض عند الحنفية، والشافعية، وعلى الصحيح في مذهب الحنابلة، وبطل في الجميع في رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب المالكية، قال العدوي: لأنه ابتداء دين بدين.
جعل الدين رأس مال سلم
إذا كان لرجل في ذمة آخر دين، فجعله رأس مال سلم، لم يصح، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ من أهل العلم؛ لأنه بيع دين بدين ولا يصح ذلك بالإجماع.
ولو كان رأس مال السلم بعضه نقدا، وبعضه دينا على المسلم إليه، فالسلم في حصة الدين باطل لفوات القبض، ويجوز في حصة النقد.
ويرى ابن تيمية وابن القيم جواز هذه المسألة التي حكى ابن المنذر الإجماع على منعها، على أصل مذهبهما في بيع الدين بالدين.
وأرى منع هذه المعاملة، وبخاصة في تحويل القروض التي تمنحها المصارف الإسلامية لعملائها إلى عقود سلم؛ لأنها لا تخلو من الربا، أو شبهة الربا.
اشتراط الخيار في عقد السلم
انبنى على اشتراط قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، منع اشتراط خيار الشرط في عقد السلم عند الحنفية والشافعية والحنابلة.
ويجوز عند المالكية اشتراط الخيار في ثلاثة أيام فقط، إذا لم ينفد رأس المال فإن نفد، ولو تطوعا، فسد العقد، للتردد بين السلفية والثمنية، كذلك يفسد العقد لو شرط النقد، وإن لم ينفد، ولو أسقط الشرط.
السلع التي يجري فيها السلم
الأصل في السلم أن يكون في الثمار، لأنها هي التي جاء ذكرها في الأحاديث الصحيحة، ولكن الفقهاء توسعوا في السلع التي يجوز فيها السلم، والضابط لهذا الموضوع هو: كل مال يجوز بيعه، ويمكن ضبط صفاته، ويثبت دينا في الذمة، يجوز السلم فيه، وكل مال لا يجوز بيعه، أو لا يمكن ضبط صفاته، أو لا يثبت دينا في الذمة، لا يجوز السلم فيه.
وتطبيقا لهذا الضابط يجوز السلم في كل ما يكال، أو يوزن، بإجماع الفقهاء، لحديث ابن عباس، ويجوز أيضا في الذرعي، والعددي المتقارب، قياسا على ما يثبت بالنص؛ لأنه في معناه.
ويذكر الفقهاء أمثلة كثيرة لما يجوز السلم فيه، وأمثلة لما لا يجوز السلم فيه، يتفقون في كثير منها، ويختلفون في بعضها، وسبب اختلافهم يرجع إلى اختلافهم فيما ينضبط بالصفة، وما لا ينضبط.
ويشترط ذكر جميع الأوصاف التي تختلف من أجلها الأثمان والأغراض، والأوصاف المتفق على وجوب ذكرها هي: الجنس، والنوع، والجودة، والرداءة، واختلف فيما عدا هذه الأوصاف، ويذكر الفقهاء أنواعا كثيرة من المسلم فيه، والأوصاف التي يجب ذكرها في كل نوع.
وواضح مما ذكرها الفقهاء أن الأوصاف يجب ذكرها في المسلم فيه تختلف باختلاف نوع السلعة، وما نص عليه الفقهاء من الأوصاف التي يجب ذكرها في كل نوع المقصود منه تعيين السلعة المسلم فيها تعيينا يمنع النزاع فيها، بحسب المعروف في زمانهم، فلا يجب علينا الالتزام به في زمننا، ما دامت السلعة قد وضعت بصفة معروفة تميزها عن غيرها.
وبناء على هذا فإن السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية (الماركات) المتعددة تعتبر أصنافا متعددة، ويشترط فيها ذكر الماركة؛ لأن الماركة هي التي تميزها عن غيرها، وهو وصف يترتب عليه اختلاف الثمن والغرض، فيجب ذكره.
كتابة عقد السلم
ورد الأمر بكتابة الدين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وسبب نزول هذه الآية هو سلم أهل المدينة، ولكنها تتناول جميع المداينات، والأمر بالكتابة أمر بالإشهاد، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة، وذهب بعض الفقهاء إلى أن كتب الديون واجبة بهذه الآية، وهو اختيار الطبري، وقال الجمهور: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب.
أخذ رهن أو كفيل عن المسلم إليه
يجوز عند جمهور الفقهاء أن يأخذ المسلم من المسلم إليه رهنا، أو يطالبه بكفيل يضمن أداء ما عليه من دين السلم – المسلم فيه – لقوله تعالى في آية الدين:{وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] .
وقال الحنابلة في رواية: لا يجوز أخذ الرهن ولا الكفيل في السلم، وهي الرواية التي اختارها الخرقي.
ورويت كراهة أخذ الرهن والكفيل عن بعض الصحابة.
اشتراط قبض بضاعة قبل بيعها
يقول ابن قدامة: (أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا) .
قلت: الخلاف موجود، فقد منع المالكية بيع المسلم فيه قبل قبضه إذا كان طعاما، وجوزوا بيعه قبل قبضه إذا لم يكن طعاما، سواء باعه المسلم من المسلم إليه، أو من غيره، إلا أنه إذا باعه من المسلم إليه، قبل الأجل، فلا يجوز أن يبيعه بأكثر من الثمن، الذي اشتراه به، وإنما يبيعه بمثل الثمن أو بأقل، ويقبض الثمن، وأما إذا باعه من غير المسلم إليه، فيجوز بيعه بأكثر من الثمن أو أقل منه، أو بمثله، إذا قبض.
هذا هو مذهب مالك، وما ذكره ابن قدامة من تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه هو رأي الجمهور، وهو الراجح عندي الذي ينبغي العمل به، بالنسبة لبيع المسلم فيه من غير بائعه؛ لأنه هو الذي تدل عليه الأحاديث الواردة في بيع ما لم يقبض.
والعلة في تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه هي الربا، والغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، وعدم دخول السلعة في ضمان المشتري.
وقد اختلف الفقهاء في المراد بالقبض فيما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر – المنقول – والذي أراه بالنسبة للمسلم فيه أنه إذا كان من المقدرات – وهذا هو الغالب فيه – فقبضه يكون باستيفاء قدره، وإذا كان من غير المقدرات يكون القبض ما يعتبره العرف قبضا، وذلك عملا بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالأمر بالكيل فيما بيع بالكيل، وعملا بالعرف فيما لم يرد فيه نص.
ويتضح من هذا أنه لا يغني عن القبض التحقق من قدرة المسلم إليه على توفير السلعة عند حلول الأجل، ولا التأمين على السلعة المسلم فيها، ولا وجودها في مخازن عمومية منظمة، لأن قدرة المسلم إليه على تسليم السلعة عند حلول الأجل شرط لصحة عقد السلم، فلو كان المسلم إليه غير قادر على التسليم، أو شاكا فيه لا يصح العقد.
ووجود السلعة في مخازن عمومية منتظمة محقق للقدرة على التسليم وليس قبضا للمسلم فيه.
والتأمين على السلعة ضرب من الضمان، وليس قبضا.
الاستبدال بالمسلم فيه
لا يجوز عند الحنفية والشافعية والحنابلة أن يأخذ المسلم غير ما أسلم فيه بدلا عنه قبل قبضه، ويجوز عند المالكية قضاء المسلم فيه بغير جنسه، سواء أكان القضاء قبل الأجل، أو بعده، بشرط ألا يكون المسلم فيه طعاما ليسلم من بيع الطعام قبل قبضه، وأن يعجل البدل المدفوع لئلا يكون من فسخ الدين في الدين، وأن يكون سلم رأس المال في المدفوع من غير الجنس صحيحا.
وأرى جواز الاستبدال سواء أكان المسلم فيه طعاما أم غير طعام لشرطين:
الأول: أن يكون البدل صالحا لأن يجعل مسلما فيه لرأس مال المسلم؛ لأن البدل سيحل محل المسلم فيه فيشترط فيه ما يشترط في المسلم فيه.
والثاني: ألا يكون البدل أكثر من المسلم فيه لئلا يربح المسلم مرتين.
السلم المتوازي
السلم المتوازي في رأيي، هو حيلة لبيع المسلم فيه قبل قبضه، وهي حيلة ولا تخلو من شبهة الربا التي أشار إليها ابن عباس بقوله في بيع الطعام قبل قبضه: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ، وبخاصة إذا اتخذ هذا الأسلوب من السلم المتوازي بقصد التجارة الربح، وتكرر السلم المتوازي للمعاملة الأولى، ويدخله مانع آخر هو الضرر الذي يصيب المستهلك من ارتفاع سعر السلعة قبل أن تصل إليه بسبب انتقالها لأكثر من تاجر.
ولهذا فإني أرجح منع هذه المعاملة.
إصدار سندات سلم قابلة للتداول
لا يجوز إصدار سندات سلم قابلة للتداول، لأن هذا سيؤدي حتما إلى بيع المسلم فيه قبل قبضه، سواء أكان المسلم فيه طعاما، أم غير طعام، غير أنه إذا كان المسلم فيه طعاما فالمنع يكون بإجماع الفقهاء، للأحاديث الصحيحة الواردة في منع بيع الطعام قبل قبضه.
وإذا كان المسلم فيه غير طعام، فقد رأينا الجمهور يمنعون بيعه قبل قبضه، ولو كان لمرة واحدة فكيف إذا تداولته الأيدي. أما المالكية فإنهم يجوزون للمسلم أن يبيع المسلم فيه قبل قبضه إذا لم يكن طعاما، ولكنهم لم يجوزوا لمن اشترى منه أن يبيع ما اشتراه قبل قبضه، فإصدار سندات سلم قابلة للتداول لا يجوز عند الأئمة الأربعة.
عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم ومشروعية الشرط الجزائي عن تأخير تسليم البضاعة
إذا عجز البائع عن تسليم البضاعة في السلم عند حلول الأجل فإن كان عجزه سببه عدم وجود السلم فيه، فإن المشتري يخير بين الانتظار إلى أن يوجد المسلم فيه، وفسخ العقد وأخذ الثمن عند جمهور الفقهاء، وهو المعمول به عندنا في السودان.
أما إذا كان العجز عن التسليم سببه إعسار المسلم إليه فالواجب انتظاره إلى الميسرة، والخير في التصدق عليه.
وأما إذا كان عدم التسلم سبب امتناع المسلم إليه عن التسليم مع يساره، فإن حكمه حكم المدين المماطل الذي أصدر فيه مجمع الفقه الإسلامي قرارا بعدم جواز اشتراط التعويض في حالة التأخير عن الأداء، وإذا كان اشتراط التعويض لا يجوز، فإن الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه لا يجوز من باب أولى.
تطبيقات السلم في المصارف
عقد السلم يمكن أن يطبق في مجالات عديدة، ويكون بديلا شرعيا للتمويل بالقرض بفائدة في كل المجالات التي يحتاج فيها إلى التمويل: المجال الزراعي، والصناعي، والتجاري، ويحقق مصلحة الممول – المسلم إليه – بإمداده بالمال اللازم له في زراعته وصناعته، وتجارته، ويحقق مصلحة الممول – المسلم – في الحصول على السلعة التي يريدها بأثمان رخيصة ومشروعة، تمكنه من الربح الحلال.
وتستطيع البنوك الإسلامية أن تتعامل بعقد السلم في جميع المجالات التي يحتاج فيها المتعامل معها إلى تمويل، ولكن الواقع أن البنوك الإسلامية، وبخاصة عندنا في السودان، لم تطبق صيغة السلم في استثماراتها إلا في المجال الزراعي.
وتعامل السودانيين بعقد السلم كان معروفا قبل وجود البنوك، بين المزارعين والتجار، ولما قامت البنوك أخذت تمول المزارعين بطريق القرض بفائدة، ولما منعت الدولة البنوك من التعامل بالفائدة، وكان من بين تلك البنوك البنك الزراعي، وهو بنك حكومي متخصص، وهو الممول الأول للمزارعين طلب من هيئة الرقابة الشرعية البديل، فقدمت له عقد السلم المرفق مع البحث.
المشاكل التي تصاحب التعامل بعقد السلم
لعل أهم مشكلة تعترض التعامل بعقد السلم هي تحديد الثمن، وعلى الرغم من أن السعر في تعامل البنوك في السودان مع المزارع تحدده لجنة من اتحاد المصارف واتحاد المزارعين، قد يرتفع السعر عند حلول الأجل، فيقع النزاع بين الطرفين، وقد حدث هذا أكثر من مرة فعالجته هيئة الرقابة الشرعية بإدخال البند الثامن في عقد السلم – بند إزالة الغبن – الذي وافق عليه المزارعون والبنوك.
والمشكلة الثانية هي مشكلة عدم تمكن المزارع من الوفاء بالتزاماته، بسبب شح المحصول، وقد وضع البند السابع في عقد السلم لحلها.
والمشكلة الثالثة هي عدم وفاء المزارع بالتزاماته مع يساره، ووجود المحصول، وقد وضعت الهيئة البند الخامس في العقد لعلاج مثل هذه الحالات.
د. الصديق محمد الأمين الضرير