المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

‌كساد النقود وانقطاعها

بين الفقه والاقتصاد

إعداد

الدكتور منذر قحف

المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب

البنك الإسلامي للتنمية

بسم الله الرحمن الرحيم

كساد النقود وانقطاعها بين الفقه والاقتصاد

يقصد من ورقة العمل هذه، الإجابة على تساؤلات السادة العلماء المتعلقة بكساد النقود وانقطاعها، ومن وجهة النظر الاقتصادية، ومقارنة هذه المفاهيم مع ما ورد في تراثنا الفقهي، لعل ذلك يعين –بحول الله وعونه - على فهم آثار تغير أسعار العملة نتيجة للتضخم الاقتصادي.

وتأتي ورقة العمل هذه، بناء على طلب كريم، من أستاذ مكرم هو فضيلة الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، بجدة. وقد خص في طلبه البحث في مسألتين:

1-

مفهوم كساد النقود الورقية، وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة.

2-

حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية "نقودًا كاسدة". وهاتان المسألتان هما جزءان من أربعة أجزاء رغب المجمع الموقر تفصيلًا وتعمقًا في دراستها.

وستتألف ورقة العمل هذه من ثلاثة أقسام، أعرض في القسم الأول المفهوم الفقهي للكساد والانقطاع في العملة وصورهما، وأخصص القسم الثاني لعرض سريع للنقود المعاصرة والتضخم، أما القسم الثالث فيسعى لبيان صور كساد النقود المعاصرة، وانقطاعها وما لذلك من آثار على الحقوق والالتزامات الآجلة.

ص: 1132

القسم الأول

صور كساد العملة وانقطاعها عند الفقهاء

تعريف الكساد والانقطاع عند الفقهاء:

يعرف الأحناف كساد العملة بأنه ترك المعاملة بها في جميع البلاد، أما انقطاع العملة فإنه عدم وجودها في السوق وإن وجدت عند الصيارفة وفي البيوت (1) .

فالكساد، إذن، ترك الناس التعامل بالنقد سواءً كان النقد قائما موجودًا في أيدي الناس أو لا. وقد تنقطع العملة دون أن تكون كاسدة، وذلك بأن لا توجد في الأسواق، رغم أن الناس لم يتركوا التعامل بها برغبتهم، ولكن واقعة عدم وجودها تفرض عدم التعامل بها (2) . وكذلك، قد تكسد العملة، دون أن تنقطع، بأن يرغب الناس عن التعامل بها، زهدًا بها من أنفسهم، أو تنفيذًا لنهي السلطان عنها.

ويشترك الكساد والانقطاع، إذن، بأن كليهما يعني، أن المعاملات بين الناس تعترضها مشكلات إذا أريد أن يتم تنفيذها بالنقد، إما لعدم توفره في السوق، أو لعدم رغبة الناس به عزوفًا منهم عنه، أو لمنع السلطان التعامل به، رغم وجوده في السوق في الحالتين الأخيرتين.

ولم أجد عند غير الأحناف تعريفًا للكساد أو الانقطاع وإن كان كل منهما مذكورًا ومعروفًا عند الفقهاء كلهم.

فالرهوني مثلًا يتحدث في حاشيته عن "بطلان الفلوس"، "وعن قطع السكة في الدراهم والدنانير" و"إبدالها بسكة غيرها" و"إهمالها جملة" و"السكة المقطوعة" وقد فرق بين "ما إذا عدمت السكة" وما إذا "قطع التعامل بها مع وجودها"(3) مما يدل على أن "عدم التعامل بالسكة رغم وجودها" عند الرهوني هو ما يقابل صورة الكساد المتميزة عن صورة الانقطاع عند الأحناف، ولكن الرهوني يشير أيضًا إلى "قطع السكة وإبدالها بغيرها" وهي أيضًا صورة للكساد عند الأحناف. كما أن "تبديل السكة بأخرى وإهمال الأولى جملة" قد يكون بعزوف الناس عن القديمة وليس بمنعها من قبل السلطان. الأمر الذي يجعل تعابير الرهوني تغطي حالتي الكساد عند الأحناف وكذلك حالة الانقطاع أيضًا، لأنه يضمن في صور فساد الفلوس أو قطعها (وقد استعمل اللفظتين في جملة واحدة) حالتي وجود الفلوس رغم انقطاعها، وانعدامها كلية (4) .

ويلاحظ عند الرهوني استعمال كلمات الفساد، والكساد، والبطلان، والانقطاع دون تمييز لمعانيها عن بعضها البعض، ولا يخرج عن ذلك ما جاء في المعيار المعرب للونشريسي (5) .

(1) رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود ضمن رسائل ابن عابدين، ج 2 ص58؛ وحاشية رد المحتار له أيضًا، ج 4 ص118؛ ودرر الحكام لعلي حيدر ج 1 ص125

(2)

ومع ذلك قد تبقى عملة في تعامل الناس رغم عدم وجودها سواء في الأسواق أو في غيرها. وعندئذ تصبح بمثابة وحدة حسابية فقط، كما أشرنا إلى ذلك

(3)

حاشية الرهوني ج 5 ص 118-123

(4)

الرهوني ج 5 ص120 وص122

(5)

المعيار المعرب ج 6 ص163-164

ص: 1133

أما صاحب المغني، فيتحدث عن تحريم السلطان للفلوس والدراهم المكسرة، وترك المعاملة بها، واتفاق الناس على تركها. وتعامل الناس بها رغم تحريم السلطان لها، أو عدمه (1) ويذكر بعض هذه المصطلحات صاحب مجلة الأحكام الشرعية على المذهب الحنلبي (2) .

أما المرداوي فقد ذكر أيضًا تحريم السلطان للفلوس، أو الدراهم المكسرة، سواءً تعامل الناس بها رغم التحريم، أو لم يتعاملوا، وقد سمى ذلك بطلانًا للعملة بأمر السلطان أو كسادًا فيها (3) . ومن الواضح أنه لم يشر إلى حالة عدم وجود العملة في الأسواق.

ويفهم من مناقشة النووي أن حالة إبطال السلطان المعاملة بالعملة لا تقتضي عدم وجودها في السوق، فهو يذكر أن المعقود عليه (أي النقد المبطل) باق مقدور على تسليمه (4) ، وهذه هي إحدى صورتي الكساد عند الأحناف، ثم يستعمل كلمة الانقطاع بمعنى عدم وجود النقد مطلقًا فيقول ببطلان العقد إذا جرى بنقد قد انقطع من أيدي الناس "لعدم القدرة على التسليم" أما إذا توفرت القدرة على التسليم – ولو بنقل النقد من بلد آخر- فالعقد صحيح مما يدل على أن النووي لا يعتبر عدم توفر العملة في بلد العقد انقطاعًا إذا وجدت في البيوت أو عند الصيارفة، لأن وجودها هذا أولى من وجودها في بلد آخر (5) .

وكذلك نجده يتحدث أيضًا عن صحة العقد إذا كان النقد عزيزًا على قول من يجيز الاستبدال على الثمن لإمكان سداد بدل الثمن مما هو رائج، ولا يصح البيع على القول بعدم الاستبدال (6) .

ونخلص من كل ما مضى إلى أن هنالك تداخلًا كبيرًا في معاني مصطلحي الكساد والانقطاع في العملة عند الفقهاء وأن كثيرًا منهم قد استعمل ألفاظًا أخرى، كالبطلان، والفساد، وغيرها، لبعض هذه المعاني، وبذلك فإننا نرى أنه للخروج من مأزق المصطلحات هذا لابد لنا من النظر في الصور نفسها التي ذكرها الفقهاء في باب الكساد والانقطاع، وأن تصنف اجتهادات العلماء في أحكامها، ونوقعها على تلك الصور، لأن ذلك – في نظري - هو أفضل السبل للتوصل إلى فهم كيفية معالجة النقود المعاصرة، على ضوء ما عولجت به مشكلات النقود التي تحدث عنها الفقهاء.

صور الكساد والانقطاع:

ويمكن حصر صور الكساد والانقطاع التي تحدث عنها الفقهاء بحالتين كليتين، يتفرع عن كل منهما عدد من الصور كما يلي:

أ- الحالة الأولى: منع السلطان التعامل بالنقد:

ويتأسس على هذه الحالة الصور التالية:

1-

منع التعامل بالنقد واستبداله بنقد جديد، بنفس القيمة مع عدم وجود القديم في جميع البلاد، وعدمه عند الصيارفة.

(1) ابن قدامة ج 4 ص365

(2)

أحمد بن عبد الله القاري ص128

(3)

الإنصاف ج 5 ص127 - 128

(4)

المجموع ج 9 ص 309

(5)

المجموع ج 9 ص364

(6)

المجموع ج 9 ص164

ص: 1134

2-

منع التعامل بالنقد، واستبداله بنقد جديد بقيمة مختلفة، مع عدم وجود القديم في جميع البلدان، وعدمه عند الصيارفة.

3-

منع التعامل بالنقد، مع وجوده في بلدان أخرى وعدمه عند الصيارفة.

4-

منع التعامل بالنقد، مع وجوده في بلدان أخرى، وفي البيوت، وعند الصيارفة.

5-

منع التعامل بالنقد مع عدم وجوده، في البلدان الأخرى، ولا في البيوت، ولا عند الصيارفة، ولا في الأسواق.

6-

فرض السلطان لنقد جديد مع بقاء القديم في أيدي الناس.

ويلحق بهذه الحالة صورة سابعة، وهي:

7-

تغيير السلطان قيمة النقد.

ب- الحالة الثانية: ترك الناس التعامل بالنقد من أنفسهم دون أمر من السلطان:

ويتأسس عليها:

8-

رغبة الناس عن التعامل به، مع وجوده في الأسواق.

9-

ترك الناس التعامل به، مع عدم وجوده في الأسواق.

وسندرس هذه الصورة، وأسبابها. وسنحاول وضع أقوال العلماء وفتاواهم فيما يناسبها من هذه الحالات، ثم ننتقل في القسم الثاني للكلام عن النقود المعاصرة، ودراسة ما ينطبق عليها من صور الكساد والانقطاع، وعلاقة ذلك بالتضخم النقدي.

1 -

الصورة الأولى:

منع السلطان التعامل بالنقد، واستبداله بنقد جديد، بنفس القيمة، مع عدم وجود النقد القديم في جميع البلدان، وعدمه عند الصيارفة.

ويمكن أن يحصل ذلك عندما ترغب الحكومة – لسبب من الأسباب غير الاقتصادية عادة - في محو آثار الحكومة السابقة على النقود، دون أن تغير من قيمتها. ولكنها – للأسباب غير الاقتصادية نفسها - تتشدد في منع الناس من التعامل بالعملة القديمة.

ويمكن أن يحدث ذلك بالنسبة لكل أنواع العملات، سواء كانت من الفلوس، أو الدراهم، أو الدنانير، وسواء كانت مغشوشة، أو غير مغشوشة. وقد تغير الحكومة اسم العملة أيضًا، فتكون محمدية وتصبح مجيدية، أو تكون ريالًا فتصبح درهمًا.

ص: 1135

وأما عدم تغيير قيمة العملة، فيكون بالأمر السلطان نفسه، بحيث يجعل الدرهم الجديد مثلًا مساويًا للدرهم القديم وعندئذٍ، سيقبل الناس في معاملاتهم على الدرهم الجديد، مثل إقبالهم على القديم عندما كان هو الرائج، ولن يؤثر تغيير الدرهم على المستوى العام للأسعار، ولا على سعر أي من السلع والخدمات في السوق.

ولكننا ينبغي أن نلاحظ هنا أنه بالنسبة للعملات المعدنية، فإن أي اختلاف في قيمتها كمعدن سيؤثر على سلوك الناس نحوها، قبولًا، أو رفضًا، وسيظهر معنى القبول أو الرفض هذين في شكل فروق في الأسعار، بين النقد الجديد والقديم. فلو احتوى الدرهم الجديد على كمية من المعدن تنقص (أو تزيد) عن الدرهم القديم، فما أن يعلم الناس بذلك، حتى ينقصوا (أو يزيدوا) من سعر الجديد في مبادلتهم له بالقديم (1) وسينعكس ذلك تبعًا على المستوى العام للأسعار.

أما آراء الفقهاء في الديون التي التزم بها الناس بالنقد القديم، التي تنطبق على هذه الصورة (في نظر الكاتب) ، فيبدو لي – والله أعلم - أنه يصح فيها ما تحدث عنه الفقهاء عند اعتبارهم أن النقد لو أطلق فهو نقد البلد (2) ، لأن النقد إذا أطلق لا يقصد به أعيانه، "وإن النقد لا يتعين في المعاوضات"(3) .

2 -

الصورة الثانية:

منع التعامل بالنقد، واستبداله بنقد جديد، بقيمة مختلفة، مع عدم وجود القديم في جميع البلدان، وعدمه عند الصيارفة.

ويحصل ذلك لأسباب تشبه الأسباب التي تحصل فيها الصورة الأولى، ويضاف إليها سبب آخر، وهو رخص (أو غلاء) العملة القديمة، فتصدر الجديدة عن السلطان بسعر أكبر (أو أقل) من العملة القديمة، ويحدد الأمر السلطاني سعر العملة الجديدة بالنسبة للقديمة، وقد تحمل العملة الجديدة نفس اسم العملة القديمة، فيقال القرش القديم والقرش الجديد، أو اسمًا آخر كالريال والليرة، ويلاحظ أن اختلاف القيمة بين العملتين هنا هو اختلاف محدد معروف، كأن يكون القرش الجديد مساويًا للقرشين من القديم مثلًا.

(1) وينطبق ذلك على أي نقود سلعية، حتى لو كانت جلد بعير، وليس على المعادن فقط. وهذه، في الواقع، حالة خاصة لما لاحظه غريشام منذ عدة قرون من أن النقد، الذي تكون قيمته الاصطلاحية أقل من قيمة المعدن الذي فيه، يطرد من السوق، لأن الناس سيذيبونه، ويبيعونه معدنًا

(2)

حاشية رد المحتار ج 4 ص 53؛ والمجموع ج 9 ص 309

(3)

رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود ص 63

ص: 1136

وإقبال الناس على التعامل بالعملة الجديدة هنا، هو مثل إقبالهم في الصورة الأولى مع ملاحظة أن جميع الأسعار، وكذا المستوى العام للأسعار، ستتغير بنسبة في سعر الصرف بين العملتين، وفي مثالنا (قرش جديد بقرشين من القديم) ، سيصبح سعر كل شيء نصف ما كان عليه بالعملة القديمة، وكذا يصبح المستوى العام للأسعار نصف ما كان عليه.

وإذا كانت العملة سلعية، فإن تسعيرها من قبل الحكومة، بأقل من قيمتها في السوق كسلعة، يجعل الناس يعدلون عن استعمالها النقدي، إلى استعمالها السلعي، فإذا لم يكن هنالك نقد غيرها - كما هي الفرضية في هذه الصورة - فإن أسعار السلع والخدمات سترتفع بالنسبة للعملة السلعية، إلى أن تصبح قيمتها السلعية مساوية لقيمتها الاصطلاحية، المفروضة من السلطان.

ويبدو – والله أعلم - أن ما ثبت في الذمة من ديون والتزامات، ثم حصلت له هذه الصورة من التغير في النقد، هو ما ينطبق عليه ما نقله الرهوني عن ابن رشد الجد، من أن الواجب هو المثل من العملة القديمة التي ثبتت في الذمة، وأن القول بغير ذلك لا يلتفت إليه لأنه "نقض لأحكام الإسلام، ومخالفة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في النهي عن أكل المال بالباطل، ويلزم هذا القائل أن يقول

إن السلطان إذا أبدل المكاييل، بأصغر أو أكبر، والموازين، بأنقص أو أوفى، وقد وقعت المعادلة بينهما بالمكيال الأول، أو بالميزان الأول، أنه ليس للمبتاع إلا بالكيل الأخير، وإن كان أصغر، وأن على البائع الدفع بالثاني أيضًا، وإن كان أكبر، وهذا مما لا خفاء في بطلانه، وبالله التوفيق" (1) .

ويتضح من ذلك، أن سداد الديون والالتزامات السابقة سيتم بالعملة الجديدة، لعدم وجود القديمة، ولكن بنسبتها من القديمة، فلو كان الدين في مثالنا بألف من القروش القديمة، لزم المدين خمسمائة من الجديدة، لأن القرش القديم يعدل نصف قرش جديد، وذكر ابن عابدين نحو ذلك على أنه من العرف الذي يعتبر كالمشروط.. وهكذا شاع في عرفهم، ولا يفهم أحد منه، أنه إذا اشترى بالقروش "أن الواجب عليه دفع عينها.. فيدفع مصاري، كل قرش بأربعين".. وكذا "يشترون سلعة بدينار ثم ينقدون ثلثي دينار محمودية أو ثلثي دينار وطسوج نيسابورية، قال يجري على المواضعة، ولا يبقى الزيادة دينًا عليهم"(2) .

3 -

الصورة الثالثة:

منع السلطان التعامل بالنقد، مع وجوده في بلدان أخرى، وعدمه في البيوت وعند الصيارفة.

وتحصل هذه الصورة، بأن تكون عملة بلد معين رائجة، بين الناس، في بلد آخر، ثم يعمد سلطان البلد الآخر إلى منعها في بلده، وإصدار عملة خاصة به، أو الاكتفاء بعملة أخرى سابقة موجودة في التداول في ذلك البلد، مع شمول المنع للصيارفة والناس في بيوتهم، ولكن استمرار وجود العملة في بلدان أخرى يبقي على وجود قيمة سوقية لها، مما يجعل بعض الناس يتعاملون بها سرًا، رغم منع السلطان ذلك.

وهنا نلاحظ عدم وجود العملة، في التعامل بين الناس، رغم أنها ما تزال قائمة ومقبولة في بلد منشئها، وربما في بلدان أخرى أيضًا.

(1) الرهوني ج 5 ص119

(2)

تنبيه الرقود ص 63

ص: 1137

وهذا ما اعتبره فقهاء الأحناف عيبًا في المعاملة. فقد قال ابن عابدين: "فلو في بعضها (أي الكساد في بعض البلدان) لا يبطل (البيع) ، لكنه يتعيب إذا لم ترج في بلدهم، فيتخير البائع، إن شاء أخذه، وإن شاء أخذ قيمته"(1) ويبدو أن إعطاء الخيار للبائع هو على فرض أن سعر العملة الممنوعة قد رخص، ولكنه يمكن أن يحصل العكس أيضًا، فترتفع قيمة العملة الممنوعة لندرتها في البيوت وعند الصيارفة، أو لضخامة العقوبة التي يفرضها السلطان على من يحوزونها، فتكون المخاطرة بذلك كبيرة، فيرتفع السعر على قدر المخاطرة.

وفي هذه الحالة، فإن المسألة تحتاج إلى نظر فقهي، لبيان إمكان القول بتخيير البائع في حال رخص العملة المعقود عليها، أو تخيير المشتري في حال غلائها، وفي الحالتين، كلتيهما، فإن البدائل المخير بينهما هما: أخذ العملة، أو أخذ قيمتها يوم منعها، أو يوم الدفع، أو الشيء المبيع، أو قيمته، فسواء كان التخيير للبائع، أو للمشتري، فإن بديل القيمة يبقى أحد البدائل المطروحة للنظر.

4 -

الصورة الرابعة:

منع السلطان التعامل بالنقد مع وجوده في البيوت، وعند الصيارفة، وفي بلدان أخرى.

وهذه تشبه الصورة الثالثة، مع فارق السماح بالتعامل بالعملة الممنوعة عند الصيارفة، وهي ما ينطبق عليه – حرفيًّا - تعريف الأحناف للانقطاع، كما نقله ابن عابدين في حاشيته (2) وهذه الصورة طبق عليها ابن عابدين نفس حكم الكساد، بالنسبة للفلوس، والدراهم التي غلب عليها الغش، فقال ببطلان العقد على رأي أبي حنيفة، ووجوب رد المبيع، لانعدام الثمن، وبوجوب القيمة (أي قيمة النقد، لا قيمة المبيع) ، من الذهب والفضة مع عدم بطلان البيع، عند محمد وأبي يوسف، ومع تحديد زمن القيمة بيوم الانقطاع عند محمد، وبيوم البيع، أو القبض في حالة القرض، عند أبي يوسف (3) .

(1) حاشية ابن عابدين ج 4 ص 533

(2)

ولكنه ينبغي أن يذكر، أن تعريف ابن عابدين للانقطاع، يشمل عدة صور أخرى، لأنه في تعريف الانقطاع لم يشترط عدم وجود النقد في البيوت وعند الصيارفة، كما أنه لم يتعرض لوجوده أو عدمه في بلدان أخرى

(3)

حاشية ابن عابدين ج 4 ص533، وتنبيه الرقود ص 58-63

ص: 1138

أما حجة محمد بن الحسن، فلأن المشتري لو دفع الثمن يوم الانقطاع لأجزأه، فوجب عليه قيمته يوم الانقطاع، قال ابن عابدين، نقلًا عن أصحاب المضمرات، والبحر، والحقائق "إنه هو المختار " في المذهب، لأنه أرفق بالناس (1) .

ولم يبين وجه الرفق هذا، وهو في نظري مهم لفهم تأثير التضخم.

وأرى وجه الرفق، أن المتعاملين، قد لحظا ما طرأ من تغير على قيمة الثمن، وتابعا ذلك يومًا فيوم، من زمن العقد، حتى يوم الانقطاع، وكان كل منهما يتوقع أن يتم الدفع، بالنقود المعقود عليها نفسها، أي يوم من هذه الأيام، فكان البائع يعرف أن حقه متعلق بالثمن بالنقد المعقود عليه، مهما كان سعره في السوق، إلى أن انقطع، ويوم الانقطاع توقفت توقعاته هذه، فكان الرفق بالمتعاملين أن تكون قيمة النقد الواجبة هي آخر ما علماه من السوق، وليكن المترتب في الذمة ثمن مبيع، فلا يخفى على العاقدين أن قيمة النقد قد ترتفع أو تهبط، لأن ذلك أمر يعرفه كل من في السوق، ومع ذلك فقد اتفقا على أجل محدد، وحددا الثمن –عددًا من الفلوس- على ما يرضيهما (2) . ولكن معنى الإرفاق بالناس، قد لا يكون بهذا الوضوح، في حالة حدوث أمر طارئ، غير متوقع، مثل منع السلطان لنقد معين، كان رائجًا قبل ذلك التحريم

وثمة وجه آخر للإرفاق بالناس، فقد يكون عدم وجود العملة في الأسواق، مع وجودها عند الصيارفة مما يجعلها عزيزة، غالية الثمن، لا لقيمتها كعملة، وإنما لقيمتها كقطعة أثرية، نادرة. مما يجعل دفع المثل شاقًّاعلى المشتري، فاقتضى الرفق به، اعتبار سعرها في آخر يوم كانت فيه نقدًا يتداول في السوق، تجنبًا للارتفاع في سعرها الناتج عن أسباب غير نقدية.

ومن جهة أخرى، فإن وجود العملة الممنوعة عند الصيارفة، وفي البيوت، وفي بلدان أخرى، يعني أن منع السلطان التعامل بها ليس صارمًا، فقد منع التعامل بها في العقود، والمبايعات في الأسواق دون أن يمنع الصيارفة من التعامل بها، مما جعل للناس حرية الاحتفاظ بها في بيوتهم، الأمر الذي يعني أن لهذه العملة سعرًا في سوق الصيرفة، كما أنها موجودة، بحيث يمكن لمن يريدها أن يحصل عليها، فما هو إذن مقتضى منع السلطان للتعامل بها في هذه الصورة؟ إن التأمل في هذا السؤال يوحي بأن الإجابة عليه ليست بالمسألة الصعبة. فانعدامها من الأسواق – مع وجودها عند الصيارفة وفي البيوت - يدل على أن الثمن غير معدوم، إذ يمكن للمشتري، أن يشتريها من الصيارفة – وهو أمر غير مخالف لأمر السلطان - وينقدها للبائع، فما هو إذن أثر منعها من الأسواق؟ إن منعها من الأسواق سيؤدي إلى واحد من أمرين: إما أن يرتفع سعرها، لأنها تصبح بالمنع عزيزة، وبخاصة إذا كانت العملة قوية في البلدان الأخرى، وإما أن ينخفض سعرها لكثرة المعروض منها عند الصيارفة، مع زهد الناس بها بسبب عزوف التعامل عنها، الناتج عن المنع، ويحدث هذا بخاصة، إذا لم تكن قوية في بلدان أخرى.

(1) الحاشية ج 4 ص533، وتنبيه الرقود ص58-63

(2)

أما القرض، فإذا اعتبرنا ما يقوله الجمهور، من أن القرض حال، ليس له أجل، فإن الرفق بالناس، أن تعتبر القيمة يوم قبض القرض، أي على قول أبي يوسف لأن القرض حال متوقع سداده منذ إقراضه، هذا على التفسير المذكور لوجه الرفق، ومثله دين المماطل، لأنه دين حال، الأصل فيه أنه يتوقع سداده يوم حلوله

ص: 1139

وبمعنى آخر، فإن منع السلطان للتعامل بالنقد، مع وجوده عند الصيارفة، وفي البيوت، يؤدي إلى رخص أو غلاء العملة، وليس إلى انعدام الثمن، ومع ذلك فلنلاحظ أن الأحناف، قد فرقوا في الفتوى بين هذا النوع من الرخص أو الغلاء، باعتباره انقطاعًا تجري فيه أحكام الكساد، وبين نوع آخر من الرخص والغلاء توجد فيه العملة عند الصيارفة، وفي البيوت، وفي الأسواق أيضًا! ولا أجد ما يبرر مثل هذا التمييز، فيما اطلعت عليه من أقوالهم، إلا أن يقال: سببه هو تدخل السلطان بالمنع، وهو مما يناقض قولهم بأن تدخله بالإرخاص لا يوجب إلا المثل، كما سنرى في الصورة السابعة.

ولعل الصورة الرابعة هذه، هي التي كانت في أذهان الشافعية وجمهور المالكية، الذين يصرون على وجوب المثل – لا القيمة - عند انقطاع الفلوس والدراهم المغشوشة (1) .

5-

الصورة الخامسة:

منع السلطان التعامل بالنقد، مع عدم وجوده مطلقًا، لا في البلدان الأخرى، ولا عند الصيارفة، ولا في البيوت.

ويحصل هذا عندما توجد عدة أنواع من النقود، في بلد، ولا توجد في غيره، فيبطل السلطان واحدًا منها.

ومن الواضح أن هذه الصورة ينعدم فيها الثمن، فلا يوجد في مكان، ولا ينشأ للنقد الممنوع سعر في السوق، أي سوق، وبالتالي، فلا مناص من العدول عن القول بسداد المثل إلى أي قول آخر، يتسم بأي نوع من الإمكان والواقعية. ولعل هذه الصورة، هي التي استدعت قول أبي حنيفة ببطلان البيع، وضرورة رد المبيع لعدم الثمن، وفي القرض باستحقاق المثل فقط (2) ولا شك أن استحقاق المثل في القرض – في هذه الصورة - غير عادل البتة (3) لأن النقد الذي قبض عند القرض كانت له قيمة، وكان ينتفع به، أما بعد أمر السلطان، فلم تعد له أية قيمة في أي مكان، وصار لا ينتفع به بالكلية، ولابد من معالجة هذا الوضع، بنظر فقهي جديد، لعدم العدل الظاهر فيه، وإذا كان لابن عابدين رأي في الصورة السابعة – وهي تخفيض القيمة، بأمر سلطاني - كما سنشير إليه بعد قليل – وهو رأي يقوم على العدل، وعدم تحميل واحد من طرفي العقد كل الضرر الحاصل نتيجة لظروف خارجة عن إرادتهما، وتوقعاتهما، فإنه من باب أولى أن يقال هنا بقول ينصف المقرض، وهو محسن، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .

(1) ولنلاحظ هنا التشابه الكبير بين الصورة الرابعة والصورة الثامنة، التي تختلف عن الرابعة فقط بترك الناس للعملة. وزهدهم بها، من أنفسهم، دون أمر من السلطان

(2)

تنبيه الرقود ص60

(3)

وينبغي أن نلاحظ هنا أن القول الفقهي برد المثل في هذه الصورة جاء وقت كانت فيه النقود كلها معدنية بما فيها الفلوس والدراهم المغشوشة، وللمعدن ثمن في أي وقت، والتعامل في الأسواق يقرب دائمًا بين قيمة السلعة في النقد وقيمته الاصطلاحية، لذلك فالمثل، ضمن هذه المعطيات، يمكن أن يكون قريبًا من العدل حتى ولو بطل الاستعمال النقدي للمعدن

ص: 1140

6 -

الصورة السادسة:

فرض السلطان لنقد جديد، مع بقاء القديم في أيدي الناس.

وهذه الصورة كانت كثيرة الحدوث فعلًا، فكثيرًا ما كان السلطان يفرض نقدًا جديدًا، من الذهب، أو الفضة، أو الفلوس، مغشوشة، أو خالصة، ويترك، في الوقت نفسه، العملات السابقة في السوق، وبين أيدي الناس، ولقد أدى ذلك في كثير من الأوقات، إلى وجود عملات كثيرة في السوق، إذ يكاد كل واحد من الفقهاء، يذكر أمثلة، وأسماء لعملات، على أنها موجودة بوقت واحد مع بعضها.

ولاشك أن قاعدة غريشام (هروب كل عملة تزيد قيمتها كسلعة عن قيمتها الاصطلاحية من السوق) تنطبق في هذه الحالة، إذ كلما ارتفعت القيمة السوقية للسلعة التي تتركب منها عملة من العملات، عن قيمة العملة المرسومة، كلما عمد الناس إلى إذابة معدنها، وبيعه بدلًا من إمساكها عملة.

ومن الواضح أيضًا أن هذه الصورة ينطبق عليها حكم "المثل" إذا كان النقد معينًا في العقد، كأن يقول بمائة درهم مملوكي مثلًا، أما إذا لم يكن معينًا في العقد فينصرف إلى ما كان متعارفًا زمن العقد، يقول ابن عابدين:"وأما إذا أطلق، كأن قال بمائة ريال أو مائة ذهبًا، فإن لم يكن إلا نوع واحد من هذا الجنس، ينصرف إليه، وصار المسمى، فإن كان منه أنواع، إن كان أحدها أروج من الآخر، وغلب تعاملًا، ينصرف إليه، لأنه المتعارف، فينصرف المطلق إليه، وصار كالمسمى أيضًا (سواء اتفقت ماليتها أو اختلفت) . وإن اتفقت رواجًا، فإن اختلفت مالية، فسد البيع، ما لم يبين في المجلس ويرضى الآخر (1) وإذا استوت في المالية والرواج، كان الخيار للدافع ولا يؤبه لتعنت البائع".

7 -

الصورة السابعة:

تغيير السلطان قيمة النقد.

وقد أشار ابن عابدين إلى هذه الصورة بقوله: "ثم اعلم، أنه تعدد في زماننا، ورود الأمر السلطاني، بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة، بالنقص، واختلف الإفتاء فيه"(2) فمن الواضح إذن أن متأخري الأحناف قد عرفوا ما نسميه اليوم بتخفيض القيمة الرسمية للنقد، الذي يحصل بقرار من الحكومة، ويتابع ابن عابدين فيذكر أن الفتوى قد استقرت، في زمانه، على أمرين:

1-

إذا كان العقد قد عين عملة بذاتها، فإن سداد الدين يكون بها رغم رخصها، ويبدو أنه بذلك يعتبر الانخفاض في قيمة النقد مصيبة أصابت صاحبها، كما يبتلى المرء بماله، رخصًا، أو هلاكًا، أو ضياعًا.

(1) تنبيه الرقود ص62

(2)

تنبيه الرقود ص64

ص: 1141

2-

إذا لم يعين العقد نقدًا معينًا، فالخيار للمشتري في دفع أي نوع بالقيمة التي كانت وقت العقد.

ويعترض ابن عابدين على الجزء الثاني من الفتوى، ويقول: إنه يؤدي إلى الظلم، لأن المشتري سيختار "ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع" وهو يجزم في هذه الصورة، أنه لا يصح تخيير المشتري، وأنه يفتى بالصلح لأنه أحوط "كي لا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري"(1) .

ووقوع هذه الصورة في زمانه يفترض خلفية مهمة، وهي أن الناس تعارفوا على التعامل بعملة، لم يقصدوها إلا لبيان مقدار الثمن، وقصدوا أن يكون الدفع بغيرها، وهو بذلك يفترض استعمال نوع من الوحدة الحسابية، جرى العرف على أن لا ينفذ الدفع بها، يشرح ذلك ابن عابدين، فيقول: "وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروض ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين، حتى نلزمه به، سواء غلا أو رخص

[و] القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن، لا لبيان نوعه، ولا جنسه.. " (2) ويشرح ذلك بمثال، شخص باع سلعة بمائة قرش، رضي بها لأنها تعادل مقدارًا معلومًا من كل من العملات الرائجة، فكان الريال بمائة قرش مثلًا، ثم رخصت – بالنسبة للقروش - عملة معينة منها، أو رخصت كلها ولكن بنسب متفاوتة، بأمر من السلطان، فإن البائع يتضرر لو ترك الخيار للمشتري ليدفع بالعملة التي رخصت، أو بأكثر العملات رخصًا "فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين [أي الريال حسب سعره الجديد] بمائة [وهي السعر القديم للريال] ، فقد اختص به الضرر، وإن ألزمنا المشتري بدفعه [أي الريال الجديد] بتسعين، اختص به الضرر". لأنه سيدفع عندئذٍ ريالًا وتسع ريال سدادًا لدينه. "فينبغي وقوع الصلح على الأوسط، والله تعالى أعلم" (3) .

أما إذا تساوت كل العملات في الإرخاص من قبل السلطان (ويبدو أن مثلها لو كانت هناك عملة واحدة فأرخصت) فإن ابن عابدين يقول: "لما قلنا إلا بلزوم العيار، الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلًا ما كان قيمته مائة قرش من الريال، يساوي تسعين قرشًا"(4) ويلاحظ هنا أن تخفيض أسعار جميع العملات الرائجة يجعل هذه الصورة مثل الصورة الثانية، فهي إذن مثل مسألة تغيير الموازين والمكاييل، يجب فيها ما تم التعاقد عليه، وهو العيار الذي كان وقت العقد، ويعتبر غير ذلك أكلًا لأموال الناس بالباطل.

(1) تنبيه الرقود ص64

(2)

تنبيه الرقود ص64- 65

(3)

تنبيه الرقود ص64-65

(4)

تنبيه الرقود ص64- 65

ص: 1142

8 -

الصورة الثامنة:

رغبة الناس عن التعامل بالنقد، مع وجوده في الأسواق.

وهنا يعرض الناس عن النقد، دون أمر من السلطان ودون فقدانه من الأسواق ولا أجد سببًا لإعراضهم، إلا أن يصبح النقد رخيصًا جدًّا (1) ، أو يتعرض النقد لفقدان ثقة الناس بثباته، ولعدم اطمئنانهم لمستقبل قيمته، مع توقعهم لانخفاض كبير، غير معلوم المعيار، ولكنهم يقيسون على تجاربهم الماضية في التعامل بالنقد، وهي تجارب تنبئ بالتوقع المذكور، وهنا يحرص المتعاملون على التخلص منه بأكبر سرعة ممكنة، فهم يقبلونه بالتعامل، ولكنهم لا يرغبون بقاءه في أيديهم، أي أن النقد لم يفقد وظيفته كمعيار للقيم الحالية، ولكنه فقد وظيفة استيداعه للقيمة، فهو لا يصلح مخزنًا للقيمة، كل ذلك يجعل النقد قليل الأهمية في المعاملات الآجلة، فهو متروك في كل البلدان فيما يتعلق بوظيفته كمخزن للقيمة وكمعيار للمعاملات الآجلة، ومع ذلك، فإن لهذه العملة، المعزوف عنها، سعرًا في السوق، كل يوم، لأن الناس يتعاملون بها ويبادلونها بعملة أخرى، رائجة فيما بينهم، فهي موجودة في الأسواق، ولكنها مرغوب عنها، يسعى الناس إلى التخلص منها، كلما وقعت في أيديهم.

والمشكلة لا تنشأ عن إحجام الناس عن إجراء المعاملات الآجلة بهذه العملة المعزوف عنها (2) ، ولكن المسألة موضع البحث هي كيفية معالجة التزامات سابقة تعاقد عليها الناس، يوم أن كانت تلك العملة رائجة، وقد تركها الناس الآن في المعاملات المهمة، وبخاصة الآجلة منها، أو ذات العلاقة بوظيفة النقد كمخزن للقيمة.

وإذا كان النقد سلعيًّا، فإنه يصعب تصور عزوف الناس عنه، إلا إذا كان الفارق كبيرًا بين قيمته كسلعة تباع في الأسواق وتشترى، وبين قيمته النقدية في الاصطلاح الرسمي الذي يفرضه السلطان، لأن رغبة الناس عن هذا النقد، تؤدي إلى هبوط قيمته الاصطلاحية إلى أن تصل هذه القيمة إلى مستوى قيمته السلعية، عندئذ لا معنى لأي هبوط في القيمة الاصطلاحية دون ذلك المستوى، لأن هذا سيخرجه من الأسواق كنقد إلى إذابته واستعماله سلعة، أو مادة أولية خام، وبالتالي، فإن النقود السلعية تضع حدًّا أدنى لهبوط القيمة – الذي تبقى معه العملة في التعامل - هو القيمة السلعية للنقد.

(1) يقال إن العملة الألمانية قبل الحرب العالمية الثانية بلغت من الرخص، أن اللصوص، كانوا يفضلون سرقة السلال، والأكياس، التي توضع فيها الكميات الكبيرة من النقود، عن سرقة النقود نفسها

(2)

لأنهم - بعد اهتزز الثقة بالعملة وعزوفهم عنها- لا يجرون عقودهم الآجلة بها بداهة

ص: 1143

ويمكن للمرء أن يتساءل، عما إذا كان من الممكن تصور نقود سلعية، تهبط فيها قيمتها الاصطلاحية، بغير أمر السلطان، ففي ظل نظام نقدي، توجد فيه عملات سلعية متعددة – ولتكن من الذهب والفضة والنحاس مثلًا - يمكن للعملة المكونة من سلعة رخيصة أن تهبط قيمتها الاصطلاحية، إذا كثر العرض منها، ولم يدعمها السلطان، بأن يفرض لها قوة إبرائية تعادل قيمتها الاصطلاحية، أو بقبول مبادلتها بالعملة المكونة من المعدن الثمين، حسب سعر الصرف الاصطلاحي، أو الرسمي، الذي يفرضه السلطان نفسه، فإذا حصل هبوط في القيمة الاصطلاحية لنقد سلعي، مكون من معدن رخيص، في ظل الظروف المذكورة، فإن رغبة الناس عن التعامل بها، سيؤدي إلى انعدامها من الأسواق، إلى أن يصل سعرها الاصطلاحي إلى ما يعادل سعرها النقدي وعندئذ ستعود إلى الرواج بالسعر الجديد ولعل هذا هو ما يفسر قول بعض الفقهاء باحتمال عودتها إلى الرواج (1) .

9 -

الصورة التاسعة:

ترك الناس التعامل بالعملة، مع عدم وجودها في الأسواق.

وهذه الصورة هي أشبه بحالة منع السلطان التعامل بالعملة، ولكنها تحصل لعزوف الناس عن العملة، بسبب ضعفها، أو بسبب توقع رخصها في المستقبل، وبخاصة إذا كان مع الرخص عدم اطمئنان إلى مقدار الرخص المتوقع (2) . والعملة التي يتركها الناس، تنعدم من الأسواق، وقد تبقى عند الصيارفة وفي البيوت وفي بلدان أخرى، ووجودها في البلدان الأخرى يبقي لها على سعر نقدي، إذ يمكن بواسطتها شراء سلع وخدمات من بلدان رواجها.

أما إذا انعدمت من جميع البلدان، وبقيت عند الصيارفة وفي البيوت، فإن سعرها كنقد ينعدم أيضًا، فيتكون لها سعر سلعي يرتبط بعوامل عديدة، منها الندرة، والقيمة الأثرية التاريخية، ومقدار ما فيها من معدن، وسعره في السوق.. إلخ. وهذه الصورة تمثل حالة الكساد النموذجية كما وصفها ابن عابدين. وتستدعي المعالجة الفقهية المعروفة، كما هي مفصلة في بطلان العقد على قول الإمام، أو استحقاق قيمة النقد الكاسد عند كساده، أو عند العقد أو القبض، على قولي الصاحبين.

(1) تنبيه الرقود ص56

(2)

يلاحظ أننا نتحدث عن ترك للتعامل بعد رواج سابق، لأنه إذا لم تشترط الرواج السابق، فإن الأصل عدم تعامل الناس بعملات بلدان بعيدة لا يعرفون عملاتها، أو بعملات لهم عنها غنى في بدائلها الرائجة

ص: 1144

القسم الثاني

النقود المعاصرة والتضخم

استعرضنا في القسم الأول صور الكساد والانقطاع، وبعض أقوال الفقهاء، في الوفاء بالالتزامات، التي ترتبت في الذمة بالنقد القديم، قبل كساده، أو انقطاعه. وقبل البدء بعرض ما يتحقق في النقود المعاصرة، من هذه الصور، أو من صور أخرى، قريبة منها، في القسم الثالث من البحث، لا بد لنا من مقدمات في تعريف النقود المعاصرة، وفي التضخم وقياسه، وما يلحق به من مسائل، وذلك حتى تتضح الخلفية، التي تتأسس عليها صور الكساد، والانقطاع، والرخص، والغلاء، التي تطرأ على النقود المعاصرة. لذلك سيتكون القسم الثاني هذا من خمس نقاط هي:

1-

ماهية النقود المعاصرة.

2-

التضخم ومقياسه.

3-

أنواع التضخم وأسبابه.

4-

السلطة النقدية والنظم النقدية.

5-

تعامل الناس والحكومات مع التضخم.

أولًا: ماهية النقود المعاصرة.

بدأت النقود المعاصرة بوثائق، أو شهادات، تثبت إيداع القطع الذهبية، والفضية، لدى الصرافين، فصارت هذه الشهادات تتداول بين الناس، كوسيلة دفع، وقد يحتفظ بها الواحد منهم، لحين الحاجة إلى الدفع، فتكون في تلك الفترة مستودعًا للقيمة، ثم بدأت الحكومات تصدر شهادات أو أوراق مماثلة، تتعهد فيها بتسليم مقدار محدد من الذهب أو الفضة مقابل الشهادة عند إبرازها، ثم أصدرت أوراقًا ذات قوة إبرائية في الدفوع، ألزمت الناس باستعمالها في تعاملهم، مع الإبقاء على الالتزام، باستبدال الورقة بالمقدار المحدد عليها، من المعدن الثمين، ثم ألغت ذلك التعهد، فكانت لدينا النقود الورقية الإلزامية دون المقابل، وهي ما نراه شائعًا اليوم في جميع البلدان.

وقد رافق هذا التطور، نمو في الودائع الجارية لدى البنوك، ونمو مماثل في الودائع ذات الأجل، والودائع بالعملات الأجنبية، والودائع ذات القيود على السحب (وهي قيود من أشكال متعددة) ، وصار الدفع في كثير من المعاملات يتم بتحويل حسابي، من حساب إلى آخر، في سجلات المصارف، وصارت البنوك تقرض الناس فائض السيولة لديها، ثم تعود المبالغ المقرضة إلى المصارف من قبل من تصل إلى أيديهم على شكل ودائع جديدة في الحسابات الجارية الدائنة، وذلك دون زيادة في كمية النقود الورقية نفسها، وهكذا تتزايد الحسابات الجارية الدائنة من عدم، بسبب الإقراض المصرفي (عملية إيجاد أو خلق النقود) ، كل ذلك جعل الودائع الجارية تؤدي نفس الوظائف التي تقوم بها النقود الورقية، فاعتبرت الودائع الجارية نقودًا أيضًا، وهي بنوعيها –الناشئ عن عملية إيداع من المتعامل مع البنك والناشئ عن إقراض من البنك- ليست أكثر من قيود في سجلات المصارف، وتعتبر اليوم الجزء الأكبر من الكتلة النقدية في المجتمع، وبما أن الودائع الأخرى، سواء كانت آجلة، أو ذات حق مقيد في السحب، أو بعملات أجنبية، تقوم ببعض وظائف النقود، فقد صارت تسمى "شبه النقود"(1) .

(1) هذه الوظيفة النقدية للمصارف، يجب التأكيد عليها، نظرًا لأهميتها البالغة في الحياة الاقتصادية المعاصرة. وهي قلما تلاحظ، خصوصًا عندما ينحصر الكلام عن الودائع الجارية، بأنها قروض من الأفراد للمصارف، لأن هذا التبسيط المتناهي للمسألة يفرغ الدور النقدي للمصارف من مضمونه ومحتواه

ص: 1145

ثم بدأت بطاقات الائتمان، فصار الناس يدفعون بواسطتها، بحيث توجد وسيلة الدفع – من عدم - عند لحظة تقديم البطاقة الائتمانية، والتوقيع على صك الأمر بالدفع بواسطتها، أي أن ما يسمى بعملية إيجاد النقود (وكثيرًا ما يستعمل تعبير خلق النقود) صار يقوم بها المشتري، عند استعماله لبطاقة الائتمان في سداد ثمن مشترياته. فظهر بذلك نوع جديد من النقود، يوجد عند التوقيع على صك الأمر بالدفع ثم يتحول إلى قيد في سجلات المصارف، شأنه شأن قيود الودائع الجارية.

ويمكننا أن نتخيل مستقبلًا تنعدم فيه الأوراق النقدية تمامًا، وتوجد فيه مصارف، تقوم بوظيفتين: حفظ الحسابات، وإصدار الائتمان، أو ما يسمى بخلق النقود، ولدى هذه المصارف أجهزة كمبيوتر، تقوم بإجراء القيود في الحسابات الجارية للناس، وتوجد أيضًا بطاقات إلكترونية تصدر باستعماله الأوامر، لأجهزة الكمبيوتر، بإجراء هذه القيود الحسابية، وهي أوامر من نوعين، تحويلي بين الحسابات، لا يولد نقودًا، وإيداعي يوجد وسيلة الدفع من عدم (1) عندئذ يكون النقد كله إلكترونيًّا، موجودًا فقط في ضمائر الكمبيوترات، فتصبح النقود وحدات حسابية فقط، ليس لها أي وجود مادي، ولا توجد في واقع الحياة خارج ديسكات وذاكرات الكمبيوترات.

وتقوم هذه النقود المعنوية، بجميع الوظائف المعروفة للنقود، حيث تكون مقياسًا للقيمة، ووسيلة للدفع في المبادلات، ومستودعًا للقيمة، ومعيارًا للدفوع الآجلة، تمامًا كما يقوم بها النقد الورقي، والنقود المعدنية قبله.

وبما أن للنقود أهمية كبيرة في الحياة الاقتصادية، فقد حرصت الحكومات على احتكار إدارتها، ومراقبة المصارف، وتوجيه نشاطاتها النقدية بشكل دقيقة وصارم.

ولدى معظم البلدان نقد وطني خاص بها، لا يمنح القانون لغيره القوة الإبرائية التي تمنح له، وتوجد بين الدول أنظمة معقدة للصرف، فمن الدول من يضع سعرًا رسميًا لنقدها بالعملات الأجنبية، ومنها من يترك سعر نقده الوطني بالعمات الأجنبية عائمًا، تحدده عوامل السوق، ومنها ما هو بين بين، كما أن بعض الدول تسمح بالتعامل غير المقيد بالعملات الأجنبية، فتنشأ لدى هذه الدول سوق محلية للصرف، ومنها من يضع قيودًا على ذلك من أنواع متفاوتة.

(1) وعند سداد مجموع الأوامر الإيداعية إلى الجهة المصدرة للبطاقة الائتمانية من قبل حامل البطاقة، بأمر تحويلي، تنطفئ (أو تموت) هذه النقود التي أوجدتها هذه الأوامر

ص: 1146

ثانيًا: التضخم ومقياسه:

يعرف التضخم بأنه ارتفاع في المستوى العام للأسعار، ومعنى ذلك أننا لو تصورنا أن المجتمع، أو البلد، كله ينتج سلعة واحدة فإن معنى التضخم، هو ارتفاع سعر هذه السلعة، دون أي تحسن – مقابل زيادة السعر - في كمية أو نوعية السلعة، فمعنى التضخم إذن، أن وحدة النقود نفسها لم تعد تقوى على شراء ما كانت تستطيع شراءه قبل التضخم، فهو إذن انخفاض في القوة الشرائية للنقود.

وبما أن المجتمع ينتج كثيرًا من السلع والخدمات، وليس سلعة واحدة فريدة، فإنه لا بد من تعريف معنى كلمة "المستوى العام للأسعار". لذلك نقول: لو أمكن حصر جميع السلع والخدمات، التي يتم تداولها، في المجتمع كله، ومعرفة الكميات التي تباع من كل منها، والأسعار التي تباع بها، ثم حسبنا مجموع أثمان كل الكميات المتداولة، من جميع السلع والخدمات، وقسمنا مجموع الأثمان على مجموع الكميات المباعة، فالرقم الذي نحصل عليه هو المستوى العام للأسعار، وإذا كررنا هذه العملية كل سنة مثلًا، ثم قسمنا مستوى أسعار سنة ما على التي سبقتها، لعرفنا نسبة التغير السنوي، فلو كان المستوى العام لأسعار سنة 1985 مثلًا، سبعين، ومستوى أسعار سنة 1986 أربعًا وثمانين، فإن نسبة التضخم، من عام 1985 إلى عام 1986م، هي (84-70/70) = 0.20 أو 20 %.

ومن الواضح، أن صعوبة هذه العملية في أي مجتمع يقوم على اقتصاد السوق، بالغة جدًّا، إذ لا يمكن حصر جميع السلع والخدمات، التي تباع في الاقتصاد كله، خلال العام كله، كما أن السلعة الواحدة قد تباع مرات عدة، حتى تصل إلى يد مستهلكها، أو مشتريها الأخير، لذلك لم يكن بد من الاعتماد على أسلوب العينات Sampling، ثم التمييز بين مجموعات من السلع والخدمات، كل ذلك من أجل إيجاد أسلوب حسابي عملي للتعبير عن فكرة المستوى العام للأسعار، بشكل مقبول ومفيد. فنجمع عينة من عدد من السلع والخدمات الاستهلاكية، ونطلق على الرقم الذي نصل إليه اسم مقياس الأسعار الاستهلاكية، ونجمع عينة من أسعار الأسهم، ونطلق عليه اسم: مقياس أسعار الأسهم، ونجمع عينة من أسعار السلع والخدمات الوسيطة، التي يشتريها الصناع والتجار، لا المستهلكون، ونطلق على ما نصل إليه اسم "مقياس الأسعار الصناعية". ومثل ذلك لما يسمى "مقياس أسعار الجملة للسلع الاستهلاكية"(1) وغيره.

وبما أنه لا يمكن حصر جميع السلع، والخدمات، في أي من هذه الزمر أيضًا، لأسباب عديدة – معروفة لدى أهل الاختصاص - فإنه لا بد من اختيار عدد معين من السلع والخدمات في كل زمرة، وتحديد موقع جغرافي، وفترة زمنية للأسعار والكميات. فنختار مثلًا مائتي صنف، مما نعتقد أنه يشمل أهم ما يشتريه المستهلكون، من سلع وخدمات، في مدينة فاس في شهر يناير، من عام 1995م، ونرسل الباحثين في المدينة ليسجلوا الكميات والأسعار خلال ذلك الشهر، وبتكرار ذلك، كل شهر يناير نحصل على مقياس الأسعار الاستهلاكية لمدينة فاس محسوبًا في يناير من كل عام، (مع ملاحظة تطوير المائتي صنف بإدخال الجديد، وإلغاء القديم) وكثيرًا ما يؤخذ طريق السهولة في تسجيل الأسعار، فتجرى دراسات تحدد وزن كل صنف في مجموع ما يشتريه المستهلك في المدينة، وتؤخذ أسعار يوم واحد من الشهر، أو متوسط السعر لكل صنف خلال أيام الشهر كلها، ثم تضرب هذه الأسعار بالأوزان المحددة لكل صنف، لنصل إلى رقم هو "مقياس الأسعار الاستهلاكية"(2)

ونطلق على السنة التي نعتبرها سنة أولى في حسابات المقياس اسم سنة الأساس، ونعتبر رقمها مائة، ثم تنسب إليها السنوات الأخرى. فنصل مثلًا إلى قائمة تشبه التالية:

(1) إن عملية إنشاء، وتطوير مقاييس الأسعار عملية معقدة، لا بد فيها من أخذ عوامل متعددة بعين الاعتبار، أهمها: 1- دخول سلع وخروج أخرى في سلة الاستهلاك. 2- التغير في النوعيات، 3- تأثير الأسعار الفردية للسلع (الأسعار النسبية) على سلة الاستهلاك، 4- تأثير التغير في الأذواق والثقافة، 5- التأثيرات السياسية والاجتماعية، 6- تغير تركيب الأعمار للسكان، وغيرها من العوامل.

(2)

ومما هو جدير بالذكر أن مقياس الأسعار الواحد قد تحسبه جهات متعددة، فتصل إلى نتائج متفاوتة. فنجد مثلًا مقياس أسعار الاستهلاك بحساب اتحاد نقابات العمال، أو بحساب الغرفة التجارية الصناعية، أو بحساب وزارة التجارة. أو بحساب إحدى الصحف أو المجلات المتخصصة.

ص: 1147

مقياس الأسعار الاستهلاكية لمدينة معينة محسوبة

في يناير من كل عام (سنة الأساس 1985م)

(الأرقام جميعًا افتراضية)

السنة مقياس الأسعار الاستهلاكية نسبة التضخم بالنسبة لسنة الأساس نسبة التضخم من سنة إلى أخرى

1985 100 - -

1986 108 8 % 8 %

1987 117 17 % 8 %

1988 122 22 % 3 %

1989 132 32 % 8 %

1990 144 44 % 9 %

1991 159 59 % 10 %

1992 175 75 % 10 %

1993 189 89 % 6 %

1994 205 105 % 8 %

ولنلاحظ من هذه الأرقام الافتراضية، أنه على الرغم من أن معدل التضخم السنوي لم يتجاوز 10 % في أية سنة، فإن معدل التضخم في الأسعار الاستهلاكية قد بلغ 105 % خلال تسع سنوات، بمعنى أن قيمة وحدة النقود قد انخفضت إلى أقل من نصف قيمتها، أي أن القوة الشرائية للنقود هبطت إلى ما دون النصف.

ولنأخذ الآن أرقامًا واقعية لإحدى البلدان الإسلامية، تركيا.

ص: 1148

السنة مقياس الأسعار الاستهلاكية لكل مناطق المدن معًا نسبة التضخم بالنسبة لسنة الأساس نسبة التضخم من سنة إلى أخرى

1987 100 - -

1988 173.7 73.7 % 73.7 %

1989 283.6 183.6 % 63 %

1990 454.6 354.6 % 60 %

1991 754.4 654.4 % 66 %

1992 1283.1 1183.1 % 70 %

1993 2131.2 2031.2 % 66 %

المصدر: كتاب المؤشرات الاقتصادية الرئيسية، هيئة تخطيط الدولة، في رئاسة الوزراء تركيا – شهر أغسطس 1994م.

وهنا نلاحظ أيضًا، أن معلد التضخم كان يترواح سنويًّا بين 63 % و73 %، في حين أن معدل التضخم بالنسبة لسنة الأساس، وهو ما نسميه بالمعدل التراكمي، قد بلغ 2031 % مما يعني أن قيمة الوحدة من النقود هبطت خلال ست سنوات إلى أقل من 5 % مما كانت عليه عام 1987م.

وأخيرًا، فإنه لا بد من ذكر ملحوظة على غاية من الأهمية، بالنسبة لفهم التضخم. وهي أن التضخم لا يعني ارتفاع سعر كل سلعة. فإذا قلنا إن مقياس أسعار سلع الاستهلاك قد ارتفع بنسبة 20 %، فإن ذلك ينبغي أن يفهم على أنه معيار وسطي مرجح weighted Average، وقد ترتفع أسعار بعض السلع بنسبة 40 %، وقد لا يرتفع بعضها، وقد يرتفع بعضها الآخر بنسبة 5 %، كما قد ينخفض فعلًا بعض الأسعار.

ص: 1149

وإن أهم أضرار التضخم، يأتي من هذا التفاوت في نسبة ارتفاع أسعار السلع والخدمات المتعددة، سواء ضمن الأصناف المعتبرة في حساب المقياس، أو خارجها. وكثيرًا ما يشاهد، في فترات التضخم أن الأجور لا تزيد إلا أقل من معدل التضخم، في حين أن أسعار الأراضي والعقارات، قد تزيد أضعاف معدل التضخم، ويلاحظ أيضًا أن أسعار المواد الغذائية قد تزيد بأكثر، بقليل من زيادة المعدل العام للأسعار، وأن أسعار بعض الخدمات العامة، كالكهرباء المائية مثلًا، قد تزيد بأقل من زيادة المعدل العام للأسعار. وهذا التفاوت في زيادات الأسعار الفردية للسلع المختلفة، هو الذي يؤدي إلى الظلم، أو عدم العدالة.

ويلاحظ أيضًا أن جميع الديون النقدية، وجميع القيم الأخرى التي يعبر عنها بعدد محدد من الوحدات النقدية، تنقص قيمتها الحقيقية بسبب نقص القوة الشرائية للنقود، ولكن هذا النقص نفسه يتأثر به الأشخاص بحسب تركيب مشترياتهم من السلع والخدمات، فلو كانت معظم مشتريات، شخص ما هي من السلع، التي لم ترتفع أسعارها إلا قليلًا، فإن تأثر ذلك الشخص بالتضخم أقل من آخر، معظم مشترياته يتألف من سلع زادت أسعارها أكثر من معدل التضخم.

ثالثًا: أنواع التضخم وأسبابه:

لن يكون بالإمكان دراسة كل أسباب التضخم، وبخاصة في عجالة سريعة، فهي تتعلق بمسائل اقتصادية معقدة جدًّا، وهي متداخلة مع بعضها، فكثيرًا ما يصعب عزو التضخم إلى سبب واحد منها دون غيره، ولكن المصطلحات والتعابير التالية تفيد معرفتها.

أ- التضخم بسبب ارتفاع التكاليف: وهو ينشأ بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، وبخاصة الأجور، حيث تتمكن نقابات العمال من فرض زيادات في الأجور، لا تبررها الزيادة في مستوى الإنتاجية. وقد ينشأ أيضًا عن زيادة قيمة بعض المواد الأولية، وبخاصة المستوردة، كالبترول مثلًا.

ص: 1150

ب- التضخم بسبب زيادة الطلب: وهو ينشأ عن زيادة الطلب على الإنتاج المحلي، مع عدم وجود طاقة إنتاجية تمكن من زيادة الإنتاج بالسرعة المناسبة، وقد ينشأ هذا عند زيادة الاستثمار، أو ارتفاع معدلات الاستهلاك الخاص، أو زيادة الطلب الخارجي، أو زيادة الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد المحلي، أو زيادة الاستهلاك العام (الحكومي) ، وبخاصة العسكري وغير ذلك من الأسباب.

ج- التضخم بسبب التمويل بالعجز: وهو ينشأ عن طبع الأوراق النقدية من قبل السلطة الحكومية، واستعمالها في الاستهلاك العام للسلع والخدمات، أو في سداد الدين العام. ويتزايد تأثير كمية النقود الورقية التي تضخها الدولة في التضخم بسبب قدرة البنوك، على استعمالها كاحتياطي، تزيد بالاستناد إليه، الحسابات الجارية الدائنة، أي عملية إصدار الائتمان المصرفي، مما يعني تصارعًا في زيادة كمية النقود في المجتمع.

د- التضخم بسبب فائض التصدير: قد يرتفع المعدل العام للأسعار بسبب وجود فائض تصدير كبير، يزيد عما يستوعبه الاقتصاد المحلي، فتشكل قيمة الفائض إيداعات نقدية لدى المصارف. ويزداد، استنادًا إليها، إصدار الائتمان من قبل المصارف.

هـ- التضخم المستورد: ويحصل في البلدان التي تعتمد كثيرًا على الاستيراد، بحيث تكون نسبة الاستيراد إلى مجموع الدخل القومي عالية فيها، ويقع كثير من البلدان الإسلامية في هذه الزمرة.

فإذا حصلت زيادات في أسعار السلع المستوردة (في بلدانها الأصلية) فإن هذه الزيادات تنعكس بشكل ارتفاع في الأسعار داخل البلد، مما يدفع المعدل العام للأسعار إلى الارتفاع.

ومن جهة أخرى يتحدث الاقتصاديون عن تصنيف التضخم إلى نوعين، من وجهة نظر معدله، وسرعة ازدياد الأسعار، وإلى نوعين آخرين، من وجهة نظر توقعات الناس لمستقبل الأسعار.

فمن حيث معدل التضخم وسرعته، يمكن التفريق بين التضخم البطيء أو الزاحف Creeping Inflation والتضخم العالي أو الحلزوني Hiper Or Spiraling Inflation. فالتضخم البطيء هو الذي لا تزيد نسبته عن بضعة نقاط مئوية. فإذا كان معدل التضخم بين الصفر و 3 % أو 4 % مثلًا، فهو من النوع البطيء، هذا وعلى الرغم من الاتفاق على أن التضخم كله ضار مهما كان معدله ضئيلًا، إلا أن بعض الاقتصاديين يتساهلون مع حالات التضخم البطيء، بل إن منهم من يرى فيه شيئًا مفيدًا؛ لأنه يوهم رجال الأعمال بارتفاع أسعار بضائعهم، مما يجعلهم يقبلون على زيادة إنتاجهم، ولعل لهذه الإيهام النقدي Money Illusion ما يبرره؛ لأننا قلنا: إن التضخم لا يصيب جميع الناس بالتساوي، ولا شك أن مالكي البضائع، والمصانع، وغيرها من العروض، هم أقل الناس تضررًا منه؛ لأن معنى التضخم زيادة أسعار ما يملكون، ولكن التضخم سيؤثر –في واقع الأمر- على تكلفة الإنتاج، وسيدركون بعد حين أن الزيادة في الأرباح ليست ناشئة إلا عن ذلك السراب، أو الوهم النقدي.

ص: 1151

أما التضخم العالي، ويسمى بالحلزوني لتزايد سرعته، بحيث تكون كل حلقة فيه أكبر بكثير من سابقتها، فهو الذي ترتفع فيه النسبة السنوية زيادة الأسعار، كما لاحظنا ذلك في مثال تركيا، ويحذر الاقتصاديون من كل تضخم تبلغ نسبته الرقم الثنائي، أي العشرة بالمائة فما فوق، ويؤكدون أضراره الكثيرة على الإنتاج، والتوزيع والتصدير، والتنمية. كما يخافون أيضًا من التضخم الذي يقل عن العشرة بالمائة إذا أصبح مزمنًا ومستمرًّا، فتضخم بنسبة 7.2 % سنويًّا يعني مضاعفة المعدل العام للأسعار، أو نقص القوة الشرائية للنقود إلى النصف، خلال عشر سنوات، وهو أمر لا يمكن اعتباره يسيرًا، أو متحملًا.

وفي نفس الوقت نجد بلدانًا كثيرة تتعايش مع تضخم عال أو حلزوني، قد تصل نسبته إلى أكثر من 100 % سنويًّا في بعضها، وسنعرض لكيفية التعامل مع هذا النوع من التضخم، في بعض البلدان، في الفقرة التالية، من هذا القسم.

ومن حيث توقعات الناس حول التضخم، يميز الاقتصاديون، في أبحاثهم بين التضخم المتوقع، والتضخم غير المتوقع، ومن الواضح أن التضخم المتوقع هو ما يعتقد الناس أنه سيحصل في المستقبل، وبالتالي، فإنهم يبنون تصرفاتهم المستقبلية على أساس من هذه التوقعات، ولا شك أن هذه التوقعات، قد تتحقق بنسبة كبيرة، كما أنها قد تفشل في التحقق، في عالم الواقع، ومن البدهي أنه لا يوجد –في هذا المجال- توقع صادق تمامًا، يقع كفلق الصبح.

رابعًا- السلطة النقدية والنظم النقدية:

إذا أنعمنا النظر في النقود المعاصرة، وكيفية إصدارها، وأسباب ارتفاع، وهبوط قيمتها، تكشف لنا مجموعة مسائل جدير بالملاحظة والتأمل.

1-

فالنقود المعاصرة، قليلة الكلفة، من حيث إنتاجها، ونقلها، وتخزينها، فإنتاج المقادير الكبيرة من النقود الورقية، لا يكلف أكثر من طباعة أرقام، وصور على قطع صغيرة من الأوراق، أما الحسابات الدائنة لدى المصارف، فإنها أيضًا قليلة التكاليف جدًّا، وكذا إصدار النقود من قبل المستهلكين، أو حاملي بطاقات الائتمان، وكذلك فإن كلفة نقل وتخزين النقود المعاصرة قليلة جدًّا، وبخاصة خلال التحويلات الإلكترونية، كل ذلك يجعل افتراض أنها تكاد تكون معدومة الكلفة افتراضًا معقولًا، ومقبولًا من الناحية التحليلية، وهذا يختلف اختلافًا كثيرًا جدًّا عن النقود المعدنية التي هي مكلفة في كل من إنتاجها، ونقلها، وتخزينها.

ص: 1152

2-

إن سهولة إصدار النقود المعاصرة، والدور الكبير للمصارف في ذلك جعل الحكومات ترغب بلعب دور كبير فيما يتعلق بالنقود، إصدار، وإدارة، ورقابة، وتنظيمًا. فالحكومات التي كان دورها في الماضي ينحصر بتقديم الخدمات العامة، الإدارية والأمنية، وكانت تراقب دار السكة فقط، صارت تصدر النقود الورقية، وتغير قيمتها، وتزيد في كمياتها أو تنقص، وتراقب الإصدار المصرفي للنقود، وتفرض القيود والقواعد، مما يقيد قدرة المصارف في الزيادة والإنقاص من كمية النقود، ونشأت عن ذلك إجراءات وسياسات طويلة، عريضة، هي ما نسمه بالسياسات النقدية، وهي عبارة عن إجراءات وأعمال تستند كلها إلى السلطة على كمية النقود، واستعمالاتها، بحيث صارت الدولة تملك القدرة عن طريق الفعل، أو الامتناع عن الفعل، على التأثير على كمية النقود في المجتمع، وعلى الكثير من مناحي استعمالاتها.

3-

نلاحظ من النظر في أنواع التضخم، وأسبابه، أن بعض هذه الأسباب ترجع إلى أوضاع وأحوال اقتصادية من نوع عناصر العرض والطلب، وهذه قد تؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة داخل البلد (أي قوتها الشرائية) ، عند زيادة الطلب عليها أكثر من عرضها، أو إلى انخفاض قوتها الشرائية (أي التضخم) ، عند زيادة عرضها، وهذه القوى الاقتصادية الحقيقية تتمثل في الزيادة والنقص في الطلب على السلع والخدمات من قبل القطاعين الخاص والعام، أو الزيادة والنقص في عرض السلع والخدمات. وهذا النوع من الأسباب هو ما يتضح في الفقرات: أ، وب، وهـ (وهو في هـ زيادة أسعار سلع خارجية وليس زيادة طلب) .

ومن جهة أخرى، فإن التضخم الناشئ عن إصدار النقود من قبل الحكومة، ومن قبل القطاع المصرفي، وهو ما ذكرته الفقرتان: ج، ود من أنواع التضخم، يرتبط بالسلطة، بشكل من الأشكال، وليس بالعوامل السوقية المعروفة، فهو ينشأ عن ممارسة الدولة لسلطتها في إصدار النقود، بشكل يزيد عن الحاجة، من أجل تمويل عجز الميزانية، أو ممارسة البنوك لسلطة إصدار النقود، بسبب طبيعة النظام المصرفي، الذي يمنح البنوك مثل هذه السلطة، مع عدم منع الدولة للمصارف من فعل ذلك.

ونلاحظ أخيرًا، أن ارتفاع وانخفاض قيمة النقد الناشئين عن عوامل السوق، هما من نوع الرخص والغلاء في قيمة الذهب والفضة اللذين كانا يحصلان في ظل النقود السلعية. فكان سعر المعدن الثمين يرتفع، أو ينخفض، بسبب تغيرات في تكلفة إنتاجه، ونقله، أو بسبب تغيرات في الطلب على النقود، وفي عرضها، وهذه بدورها تعكس تغيرات في عرض السلع والخدمات، والطلب عليها، وسائر التغيرات في الظروف المحيطة بذلك، مما يزيد، أو ينقص الرغبة في الاحتفاظ بالنقود (أو بالقيمة) إلى المستقبل، كالحروب، وتوقعات التغيرات في السياسية والاقتصادية، وغير ذلك.

ص: 1153

أما الأسباب السلطوية، وهي الناشئة عن ممارسة السلطة، بفعل شيء، أو بعدم فعل شيء، فلم يكن لها وجود في ظل النقود القائم على المعادن الثمينة، فهي أسباب ترجع إلى طبيعة النظام النقدي الجديد، وتتعلق بخصائص النقود المعاصرة، وهذا أمر لم يكن موجودًا في الماضي، ويختلف اختلافًا جوهريًّا عن الرخص والغلاء في الذهب والفضة. مما يجعله يحتاج إلى نظر فقهي جديد، وحكم شرعي جديد، قد يختلف، أو لا يختلف، عن حكم الرخص والغلاء، الذي نجده في تراثنا الفقهي. (1)

4-

بعد الانتهاء من التزام الدولة بمقدار معين من الذهب، لقاء وحدة النقود التي تصدرها، ظهر في العالم نظامان رئيسيان، لتحديد علاقة النقد الوطني بالنقود الأخرى، نظام يقوم على حرية التحويل بين النقد الوطني والنقود الأجنبية، مع تدخل الدولة بشكل مباشر، أو غير مباشر، للاتجاه نحو سعر للصرف، تراه مناسبًا، ونظام يقوم على فرض سعر صرف رسمي، وعدم السماح بحرية التحويل، حيث تقوم السلطات النقدية بإدارة العلاقات النقدية الخارجية مباشرة.

ونجد أشكالًا متعددة من المواقف الحكومية في ظل كل من النظامين. ففي ظل حرية التحويل، قد تضع الحكومة سعرًا رسميًّا للصرف، بواحدة، أو أكثر من العملات الأجنبية، ثم تعمد إلى دعم هذا السعر، الذي قد تغيره من زمن لآخر، من خلال بيع وشراء العملة الأجنبية التي ربط بها النقد الوطني، وقد لا تضع الحكومة سعرًا رسميًّا على الإطلاق، فتترك لعوامل السوق وحدها تحديد السعر، وتعمد كثير من الحكومات أيضًا إلى وضع حدين، أعلى وأدنى، لأسعار الصرف وتسعى إلى المحافظة على هذه الأسعار، ضمن هذين الحدين، من خلال سياستها النقدية الخارجية.

أما عوامل السوق، التي تؤثر في تحديد سعر صرف نقد ما بآخر، فهي الاستيراد والتصدير لسلع، والخدمات، ورؤوس الأموال، إضافة إلى مدى استعمال النقد الوطني كعملة احتياطيات نقدية عالمية، كما هو الشأن بالنسبة للدولار الأمريكي.

(1) على الرغم من أن غش الفلوس، وفرض سعر صرف لها يزيد عن ثمن معدنها، وكذا غش الدراهم والدنانير، كان معروفًا وقد يكون ذلك بممارسة سلطوية من الحاكم، إلا أنه لم يكن الأصل، بل كان الاستثناء، وكان وجود الأنواع المتعددة من النقود يمنع استشراءه. وفضلًا عن ذلك، فالغش نفسه، لا يلغي كلفة إصدار النقود –كما هو في النقود المعاصرة، بل يقللها وبنسبة غير كبيرة بطبيعة الحال.

ص: 1154

خامسًا: تعامل الناس والحكومات مع التضخم البطيء والعالي:

وهنا أيضًا يصعب التعميم، ولا يتسع المجال للتفصيل؛ لأن سياسات التعامل مع التضخم تختلف اختلافًا كبيرًا جدًّا، حسب أسبابه، والظروف الاقتصادية، الداخلية والخارجية، والأوضاع السياسية، والاجتماعية، والأمنية، والأوضاع النقدية، وغير ذلك من عوامل تؤثر على كل بلد.

أما بالنسبة للتضخم البطيء، فإن الحكومات تتعامل معه، من خلال السياسات الاقتصادية عامة، والمالية والنقدية خاصة، حتى تزيل أسباب التضخم، أو تحدث تغييرات اقتصادية تقابلها. فمثلًا، قد تضغط على نقابات العمال للتخفيف من مطالبها بزيادات الأجور، أو قد ترفع الحد الإلزامي للاحتياطات، والحد الأدنى للسيولة لدى البنوك، أو تخفف، أو تمنع الحكومة من التمويل بالعجز (طبع أوراق نقدية) ، أو تضع القيود على الاستيراد، أو على التصدير، أو على صناعة البناء، أو ترفع معدلات الفائدة، أو تحد من المضاربات في الأسواق المالية، أو تزيد الضرائب، أو تسحب كميات من النقود من السوق ببيع سندات خزينة، أو تقيد استعمال الأرصدة المصرفية بالعملات الأجنبية، أو غير ذلك من لائحة طويلة من السياسات، والأغلب من مجموعة من الإجراءات المتعددة الاتجاهات.

أما تعامل الناس مع التضخم البطيء، فقلما يكون واضحًا إلا من خلال ردود فعلهم لملاحظة تدهور القوة الشرائية في أيديهم، وتتسم ردود الفعل هذه –في العادة- بسمة التأخر الزمني. فنرى العمال يطالبون بزيادة الأجور، وأصحاب البضائع يرفعون أسعار بضائعهم، وبائعي خدماتهم المباشرة يزيدون أسعار هذه الخدمات وغير ذلك من ردود الأفعال.

فإذا كان التضخم البطيء متوقعًا، فإن الناس – بدافع من الرشد الاقتصادي، وهو فرضية لا تتسم بالواقعية الكاملة- يضعون برامجهم المستقبلية حسبما يتوقعون. فنجد نسبة الربح ترتفع مثلًا في المرابحات الآجلة، كلما طال زمن استحقاق الدين، ونجد الناس يزيدون من مقدار الالتزامات الآجلة، كلما طال زمن استحقاق الدين، ونجد الناس يزيدون من مقدار الالتزامات الآجلة كالمهور ونحوها، ويرفعون الأجور في عقود الإجارة، وبخاصة الطويلة الأجل منها، وغير ذلك.

ص: 1155

وأما بالنسبة للتضخم العالي، فإن جميع الإجراءات السابقة يلجأ إليها أيضًا إضافة إلى أربعة أنواع محددة من الممارسات هي:

1 -

الربط بمستوى الأسعار Indexation: ويعني أن تتزايد الالتزامات الآجلة بصورة آنية مع ارتفاع المستوى العام للأسعار، ويمكن أن يكون الربط شرطًا من شروط العقد، فيحدد أجر العامل مثلًا بمقدار معين مضروبًا بمقياس مستوى الأسعار الذي يتم اختياره بالاتفاق، وليكن مقياس أسعار السلع والخدمات الاستهلاكية، وذلك بصورة دورية كل شهر مثلًا. وتحدد الودائع المصرفية، وغيرها من الديون الآجلة بشرط مماثل في العقد.

كما يمكن أن يكون الربط الآني هذا سياسة عامة تفرضها الدولة. علمًا بأنه لم تلجأ دولة ما في العالم إلى الربط الكامل، لكل ما هو آجل، من عقود والتزامات، وإن لجأت كثير من الدول إلى نوع من أنواع الربط، كربط الأجور مثلًا، أو ربط شرائح الضريبة التصاعدية، وقد وصل هذا الربط في بعض الدول إلى معظم – وليس كل- أنواع المعاملات.

2 -

رفع قيم الالتزامات والعقود الآجلة، بقرار حكومي، بصورة دورية، أو غير دورية، وهنا تعمد الدولة إلى زيادة الأجور، ورفع سعر الفائدة على الودائع، والقروض المصرفية، والفائدة التي تفرضها المحاكم على المداينات وغير ذلك كل ثلاثة شهور، أو كل ستة شهور مثلًا، ولا تلتزم الدولة عادة بأن تكون الزيادة معادلة لمعدل التضخم. فكثيرًا ما نجد أن سعر الفائدة على الودائع المصرفية يصبح سالبًا إذا طرحنا منه معدل التضخم، وكثيرًا ما نجد القوة الشرائية لأجور العمال مثلًا تتناقص فعلًا على الرغم من الزيادات الدورية التي فرضتها الدولة؛ لأن نسبة الزيادة المفروضة تقل عن معدل التضخم، وقد تقصد الدولة من وراء ذلك تحقيق أهداف اقتصادية، واجتماعية، وسياسية معينة.

3 -

التعامل بعملة أجنبية: حيث يعمد الأفراد، وأحيانًا الحكومة نفسها، إلى استعمال عملة أجنبية أكثر استقرارًا، في معاملاتهم وعقودهم، وهذا لا يخلص المعاملات الآجلة من كل التضخم؛ لأنه يبقي على التضخم الذي يقع في بلد تلك العملة نفسها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه يدخل أيضًا التغيرات الناشئة عن مضاربات الأسواق العالمية للعملات في الالتزامات الآجلة. يضاف إلى ذلك، أن الاحتفاظ بكميات كبيرة من النقود الأجنبية في البلد، يعني أن البلد يصدر إلى الخارج سلعًا حقيقية مقابل وسائل الدفع هذه، وأن كل تزايد في الكميات التي يحتفظ بها داخليًّا منها، هو إنضاب لموارد داخلية مقابل هذه الأرصدة.

4 -

التسوية القضائية لآثار التضخم: حيث يترك للمحاكم أمر الحكم في معالجة سداد الديون والالتزامات، عند سدادها، فتقوم المحاكم بتحديد الواجب سداده لقاء الالتزام، في كل حالة على حدة.

ص: 1156

القسم الثالث

صور الكساد والانقطاع في النقود المعاصرة

من استعراض الصور التي ذكرناها، في القسم الأول من ورقة العمل هذه، وبعد وضوح واقع النقود المعاصرة، وما يطرأ عليها من تضخم، يمكننا الآن التفكير فيما قد تقع فيه النقود المعاصرة من صور الكساد والانقطاع المذكورة.

1 -

فالصورة الأولى: وهي منع الحكومة التعامل بنقد معين واستبداله بنقد جديد، بنفس القيمة، مع عدم وجود القديم في جميع البلدان، ولا عند الصيارفة أو في البيوت، قد حصلت في بلدان كثيرة، وبخاصة عندما يتغير نظام الحكومة بكامله، كأن تكون ملكية فتصبح جمهورية، فتصدر الحكومة عملة جديدة، وتعطي الحكومة –في العادة- مهلة لتبديل النقد القديم، أما النقود المتمثلة في الحسابات المصرفية، فتتقمص الاسم الجديد، أو النقد الجديد بصورة تلقائية.

ولا شك أن جميع الالتزامات السابقة تتحول إلى النقد الجديد، حتى ولو تغير اسمه، طالما أن القيمة للوحدة النقدية هي نفسها، ولا مجال هنا للقول بالسداد بالعملة القديمة، لانعدام وجودها، وانعدام ثمنيتها، ولا يستطيع شخص، لم يبدل عملته بالجديدة، خلال الوقت المضروب، أن يحاول إلقاء خسارته على دائنه، بالوفاء بالعملة القديمة، فإن الدين لم يكن متمثلًا بأعيان أوراق، أو أشكالها، أو أسمائها، وإنما ثمنيتها، والتي انتقلت تلقائيًّا إلى الوحدات النقدية الجديدة. (1)

2 -

والصورة الثانية: وهي مثل الصورة الأولى، مع اختلاف واحد، هو أن قيمة العملة الجديدة وتختلف عن القيمة القديمة، مثال ذلك إلغاء الفرنك الفرنسي القديم، وإصدار فرنك جديد يعادل مائة فرنك قديم، وحكم هذه الصورة هو حكم الصورة الأولى أيضًا، حيث تنتقل الالتزامات الآجلة إلى العملة الجديدة بنفس نسبة مائة من القديم إلى واحد من الجديد.

(1) أما حالة إلغاء طبعة معينة من العملة على نحو إلغاء طبعة عام 1960 مثلًا، أو إلغاء الورقة ذات المائة دينار، فإنها لا تؤثر على الالتزامات والعقود من باب أولى؛ لأن الالتزامات الآجلة لم تتعلق بطبعة، أو بفئة معينة من العملة.

ص: 1157

وقد يقال: إنما قامت الحكومة بهذا الاستبدال بسبب التضخم الشديد، الذي انهارت معه القيمة الشرائية للعملة القديمة إلى واحدة بالمائة مما كانت عليه. وهذا هو –في العادة- السبب الأهم لهذا النوع من تغيير النقود، ولكن يمكن الإجابة على ذلك، بأن التغيير نفسه لم يلحق أي هبوط في الورقة الشرائية؛ لأنه عند لحظة التغيير كان الهبوط قائمًا موجودًا، وعلى فرض أن سعر المبادلة بين العملتين الذي اختارته الحكومة يعكس ذلك التغير تمامًا، فإن تبديل العملة لا يعدو كونه إجراء لفظيًّا بحتًا لحظة إجرائه، بمعنى أنه، بنفسه، لم يحدث أي إنقاص في قيمة العملة، فكل ما كان عند التغيير مثمنًا بمائة فرنك قديم، صار ثمنه فرنكًا جديدًا واحدًا، فاستبدال العملة هذا لا يعدو في الواقع إلغاء فئة الفرنك القديم، وتغيير اسم المائة فرنك قديم إلى اسم جديد هو فرنك جديد، فلا يؤثر إذن على الالتزامات القديمة. فتتحول إلى العملة الجديدة بنفس النسبة، ولا يستطيع دائن بمائة فرنك قديم مطالبة مدينه بأكثر من فرنك واحد جديد.

3 -

والصورة الثالثة: منع التعامل بالنقد القديم، مع وجوده في بلدان أخرى، وعدمه عند الصيارفة، وقد حصل هذا في الجزائر مثلًا. فبعد الاستقلال أصدرت الحكومة الدينار الجزائري ومنعت التعامل بالفرنك الفرنسي الذي ما زال يتداول في فرنسا، ومنعت الدولة الصيارفة من عرضه للناس إلا بقيود وإجراءات مشددة، كما منعت الناس من حيازته في البيوت؛ لأن الجزائر تبنت –في ذلك الوقت- نظامًا متشددًا في إدارة العملات الأجنبية. وأعلنت الحكومة سعرًا رسميًّا للمعادلة بين الدينار والفرنك، وفترة معينة لتبديل العملة.

فأما الجزء من الكتلة النقدية، المتمثل في الحسابات الجارية الدائنة لدى المصارف، فقد تم تغييره –تلقائيًّا- إلى العملة الجديدة، وأما الالتزامات والديون الآجلة بين الناس، فإن المحاكم لا تحكم إلا بالعملة الجديدة.

إن هذا النوع من إبطال نقد، وإصدار نقد جديد، يطرح مسألتين هما:

1-

هل تدفع الالتزامات التي انعقدت بالنقد القديم بنفس ذلك النقد، أم بالنقد الجديد، وبأي سعر صرف: وهل يلزم المدين ديانة بدفع النقد الذي منعت الحكومة التعامل به؟

2-

هل يجوز الدخول في عقود جديدة –بعد تغيير النقد-بالنقد الذي منعت الحكومة التعامل به؟ ولو دخل الناس بعقود جديدة بالنقد الأجنبي، فهل يجب السداد بالنقد الأجنبي ديانة، على الرغم من منع السلطان، وتعذره قضاء؟

وقد تساعد ملاحظة النقاط التالية في الإجابة على هذين السؤالين:

أ- جواز البيع بنقد والدفع بنقد آخر، بسعر يوم الدفع، شريطة أن لا يبقى مما صرف شيء في الذمة، وبالتالي، فهل يجوز العقد بالعملة الأجنبية (الممنوعة) ، ثم الدفع بالعملة الوطنية بسعر يومه؟

ص: 1158

ب- إن الالتزامات الناشئة قبل المنع، لم يكن مقصودًا بها عين النقد القديم، وهي إنما حصلت به؛ لأنه كان النقد الجاري بين الناس، والتبديل الذي فرضته الحكومة، بسعر حددته، لم يكن يقصد إلى تغيير قيم الالتزامات والمعاملات بين الناس، فهو أشبه بتغيير النقد في الصورة الثانية، وبخاصة أن أي تغير حصل في سعر الصرف بين النقدين بعد فترة التبديل، التي فرضتها الحكومة، يمكن أن يكون في أي اتجاه، أي أنه لم يكن من مقاصد المعاملة أن يحمي طرف نفسه من مخاطر تغير سعر النقد، كل ذلك يرجح أن سعر التعادل الذي فرضته الحكومة هو الذي ينطبق على جميع الحقوق والالتزامات القائمة عند التبديل.

ج- إن تقييد الحاكم لحرية تصرف المالك بملكه دون وجه مصلحة عامة واضحة بينة أمر لا تقره أصول الشريعة وأحكامها، وإن تعسف الحاكم بتقييد حريات الناس يبقى على قدر ضئيل جدًّا من المبررات العقلية والشرعية لطاعته، وبالتالي، فهل يلزم معرفة وجه مصلحة الأمة في تصرف ولي الأمر، أم أن المصلحة مفترضة حكمًا في هذا التصرف؟ وبالتالي فهل تجب طاعته بعدم استخدام النقد الأجنبي، حتى في حالة عدم وضوح مصلحة الأمة في ذلك؟

د- يتحدث الفقهاء عن بطلان البيع إذا كان الثمن غير مقدور على تسليمه، وكذلك في القرض، فيشترطون فيه أن يكون في المثليات المقدور على الوفاء بها، فهل تدخل هذه الصورة تحت أي من هاتين الحالتين؟

هـ- هل تعتبر شريعتنا الغراء إصدار النقد من مسائل السيادة للدولة الإسلامية، بحيث لا يجوز لها السماح بالتعامل بنقود أجنبية، في بلاد الإسلام؟ أم أن القضية ت دور حسب المصلحة، فيتصرف ولي الأمر في إصدار النقد الوطني، أو عدمه، حسبما يرى مصلحة الأمة؟

4 -

والصورة الرابعة: من الحكومة التعامل بالنقد، مع وجوده في بلدان أخرى، وعند الصيارفة، وفي البيوت. ويحصل ذلك عند فرض نقود وطنية، بدل الأجنبية، في المعاملات داخل البلد، دون فرض رقابة على العملات الأجنبية، بما فيها النقد الذي كانت تجري به المعاملات قبل ذلك، بحيث يتوفر ذلك النقد عند الصيارفة.

وعلى الرغم من أن هذه هي صورة من صور الانقطاع التي تحدث عنها الأحناف، فإن تأثيرها على الحقوق والالتزامات غير ظاهر؛ لأن النقد القديم لم يبطل، ولم يفقد قيمته، وما زال موجودًا، كما أن تأثر قيمته بهذه التغيير قليل، إن لم يكن معدومًا، وبالتالي، فالذي يظهر هنا أنه لا وجه للقول بغير المثل في القروض، والبيوع، والديون، وسائر الالتزامات، والحقوق.

ص: 1159

5-

والصورة الخامسة: وهي منع الحكومة التعامل بنقد، مع انعدامه مطلقًا.

وقد تحصل هذه الصورة، بأن يكون نقد قديم –بطل في بلده ولكنه بقي مستعملًا في بلد آخر. فيصدر البلد الآخر أمرًا يمنعه في التعامل.

وعند ذلك، يفقد هذا النقد كل ثمنية له، ويصبح القول ببطلان البيع، واستحقاق المبيع للبائع، لانعدام الثمن بالكلية، أمرًا معقولًا، ولكن حالات القرض، واستهلاك المبيع، أو زواله من يد المشتري، والمهر المؤجل مثلًا، لا يمكن فيها تطبيق ذلك. فلا مناص، إذن، من القول بالقيمة.

6 -

والصورة السادسة: وهي تشبه الصورة الرابعة؛ لأن النقد القديم لم ينعدم من التداول في الأسواق، فهي إذن أولى من الرابعة بالقول بالمثل في الحقوق والالتزامات الآجلة.

7 -

والصورة السابعة: وهي تغيير الحكومة لقيمة النقد، بالنسبة لعملة، أو عملات أجنبية، وهذا أمر كثيرًا ما تفعله الحكومات التي تتبنى سياسة تحديد سعر صرف لنقدها بنقد أجنبي واحد، أو أكثر وأكثر ما يحصل هو تخفيض لقيمة النقد الوطني، وقد يحصل أحيانًا رفع لهذه القيمة. ويهدف هذا الإجراء إلى تشجيع (أو تثبيط) التصدير ودخول رؤوس الأموال، وتثبيط (أو تشجيع) الاستيراد وخروج رؤوس الأموال. وهو يؤثر على المستوى العام للأسعار في البلد من خلال المكونات الخارجية للمستوى العام للأسعار. ولا يرتفع المستوى العام للأسعار –عادة- إلا بمقدار جزء فقط، كبير أو صغير، من التخفيض في سعر صرف النقد الوطني.

وهذه الصورة تحتاج إلى دقيق نظر؛ لأنها تغيير في القوة الشرائية ناشئ عن ممارسة سلطة نقدية، تتيحها النقود المعاصرة للحكومة، وقد تحدث ابن عابدين عن إرهاصاتها الأولى بتمييزه بين تغيير الحاكم لسعر نقد واحد من عدة نقود، وبين تساوي الرخص لجميع النقود المستعملة. (1) ولا شك أن تساوي الرخص، لجميع النقود، بالأمر السلطاني، يشبه تخفيض سعر صرف النقد الوطني بالنسبة للنقود الأجنبية، ولكن يختفي هنا "قصد الإضرار" عند دفع المدين بالنقد الذي رخص صرفه، وهو ما ذكره ابن عابدين كمبرر للصلح بينهما؛ لأنه لا اختبار للمدين لنوع نقد الوفاء.

8 -

والصورة الثامنة: وهي عزوف الناس عن التعامل بالنقد، وهو موجود في الأسواق. ويحصل ذلك في حالات التضخم المرتفع، ولا شك أنه لا توجد نقطة محددة يمكن عندها القول بأن الناس يتركون كلية التعامل بالنقد الذي هبطت قوته الشرائية؛ لأن طبيعة ذلك أن يكون تدريجيًّا، وأن يتفاوت مع إحساس الناس بالتضخم، وتوفر المعلومات لديهم.

(1) رسالة تنبيه الرقود ص 64-65

ص: 1160

ففي أحوال التضخم، تنشط توقعات الناس حول المستقبل، ودرجة التضخم فيه، فيبدأ الناس يعرفون عدد الوحدات النقدية المستحقة في المستقبل مقابل قيمة حاضرة، فيرتفع الفارق، أو الزيادة في السعر المقابلة للزمن، في عقود البيع الآجل، وسائر عقود الديون الآجلة، مثل مؤخر المهر، ثم يعرضون عن استخدام النقد الخاضع للتضخم في عقودهم الآجلة، فيستعملون الذهب، أو عملة أجنبية يشعرون أنها أكثر استقرارًا، أو سلعة من السلع، أو مجموعة سلع، ثم تزداد هذه الممارسات، وتكثر، وتستعمل هذه المقاييس للقيمة في العقود القصيرة الأجل، حتى يصل الأمر إلى استعمال العملة الأجنبية في البيوع والعقود اليومية، وإلى عدم استعمال النقد الوطني كمستودع للقيمة، فيدخر الناس العملات الأجنبية، والذهب، والسلع العينية. كما يشاهد فعلًا في بعض البلدان الإسلامية وغير الإسلامية.

ولا شك أن دقة وسرعة ردود الأفعال هذه تقومان على فرضية ضمنية، هي فرضية الرشد الاقتصادي، وهي فرضية ليست سهلة الحصول في الواقع، بجميع متطلباتها، وبخاصة توفر المعلومات الكاملة، وآنية ردة الفعل، وهي كذلك صعبة التعميم، بدرجة واحدة، على جميع الناس. فيبقى الكثير من "المخدوعين اقتصاديًّا" قليلي الإحساس بالخسارة الناجمة عن التضخم، فلا يعزفون عن استعمال النقد ذي القوة الشرائية المتدهورة، كما أن هناك أحوال التضخم غير المتوقع، الذي يقع كالجائحة تعم الجميع في بلد معين، كما يحصل في بعض الدولة نتيجة لحرب، أو حصار اقتصادي، أو غليان اجتماعي، أو اضطراب سياسي.

وفي هذه الصورة الثامنة، ينبغي لنا أن نميز بين أنواع التضخم. فالتضخم الناشئ عن عوامل السوق بتفاعلها الطبيعي، دون أن يكون متأثرًا بتدخل من الحكومة، يمكن أن يعامل معاملة التغير في أسعار الذهب والفضة، ومثل هذا التضخم لا يحتمل أن يكون كبيرًا ولا عاليًا، وكثيرًا ما يكون لردود فعل العوامل السوقية نفسها دور كبير في كبح جماحه، والتقليل من نسبته.

أم التضخم الناشئ عن ممارسة السلطة الحكومية على النقد، سواء بطباعة الورق النقدي، أو بترك البنوك تصدر النقد الائتماني، أو بغير ذلك من الأعمال السلطوية فشيء آخر، قد يختلف اختلافًا كثيرًا عن النوع الأول، في ارتفاع معدلاته، وتسارع تأثيره على القيم، والحقوق، والالتزامات الآجلة، وبخاصة مع النظر إلى المعدل التراكمي لهذا النوع من التضخم، وهذا مما يستدعي نظرًا فقهيًّا جديدًا، للكشف عن موقف الشريعة منه. ولعل في إثارة النقاط التالية ما يعين على هذا النظر:

1-

هل نميز بين البيوع، أو المعاوضات عمومًا، وغيرها من المعاملات كالقروض مثلًا؟

ذلك لأن البيع بثمن آجل، يمكن فيه قبول فرضية الرشد، إذا كان التضخم متوقعًا، يمكن الافتراض بأن البائع قد أدخل عنصر التضخم المتوقع، ضمن ربحه، عند تحديد الثمن الآجل، وهذه أمر مشاهد ملحوظ، في البلاد التي يعم فيها التضخم، وقد يقال مثل ذلك، عن مؤجل المهر، والإجارة الطويلة، وغيرهما من المعاوضات (على التجوز بقول المالكية: إن عقد الزواج من المعاوضات) . ويمكن عندئذ التجاوز عن الفرق بين المعدل المتوقع للتضخم عند العقد، والمعدل الفعلي عند السداد، باعتبار ذلك من المخاطر، التي يتحملها المتعاملون في المعاوضات.

ص: 1161

أما إذا كانت التضخم غير متوقع، بحيث حصل مثل الجائحة، نتيجة لحرب مثلًا، فيصعب الزعم، بأن الرشد الاقتصادي، قد أخذه في الاعتبار، عند تحديد الثمن الآجل. وفي هذه الحالة، لا بد من تدخل الفقيه، ليجد الحل الذي يرفع الظلم.

ومن جهة أخرى، فإن القرض إرفاق بحت، وإن القول بالمثل فيه ظلم واضح، لا تقبله الشريعة، ففي القرض، لا بد من نظر فقهي يقرر العدل بين الناس، وبخاصة، أن الإرفاق في القرض هو في إتاحة المال للمقترض، ليستعمله، وينتفع به، وليس في القول بنقصانه بالتضخم. ولو كان التضخم متوقعًا، لامتنع الناس عن الإقراض بالنقد المتوقع تضخمه، ولاستعملوا غيره من المثليات في عروضهم، نقودًا أو غير نقود، أما إذا كان التضخم غير متوقع، فلا بد من نظر فقهي يقيم العدل. (1)

2-

إن وسائل استثمار المال وتنميته، التي تقرها الشريعة الإسلامية، تعالج مسألة آثار التضخم، إذا ما طبقت بالطريقة الصحيحة، التي رسمتها الشريعة الغراء، فوسائل الاستثمار الإسلامية تقوم على مبدأ تملك العين، وأن الربح يستحق بالملك بالنسبة للمال. وبالتالي فإن التضخم يرفع ثمن الأعيان بالنسبة للنقد، فيحمي ذلك المالك من خلال ارتفاع معدل الربح، ينطبق ذلك سواء أكان التضخم متوقعًا، أم غير متوقع.

ولكن هنالك حالتين، تستثنيان من ذلك، إذا كان التضخم غير متوقع:

الحالة الأولى، إذا وقع التضخم غير المتوقع بعد العقد في البيع الآجل، أي بعد ترتب الدين في ذمة المشتري.

والثانية، إذا وقع بعد الاتفاق على نسبة توزيع الأرباح في المضاربة؛ لأنه قد لا تسلم القيمة الحقيقية لرأس المال، عند اقتسام الربح، مع وجود تضخم غير متوقع، فتكبر حصة المضارب؛ لأن أثر التضخم على ثمن الأعيان، قد دخل ضمن مقدار الربح.

(1) وإذا أخذنا بقول الجمهور، بأن القرض حال. فإن المقرض يستطيع طلب السداد، إذا لاحظ بدء التضخم فإذا لم يدفع المقترض يصبح مماطلًا، كما سنشير إليه، بعد قليل، في النقطة رقم 5.

ص: 1162

وبالتالي، فإذا تعاملت كل المصارف بالوسائل الإسلامية، فإن مسألة تأثير التضخم تكون غير مطروحة، إلا في هاتين الحالتين فقط. (1) وهما مما يستدعي نظر الفقيه، بقصد تقرير العدل، الذي لا ترضى غيره الشريعة.

3-

قد يمكن التجاوز عن كثير من أحوال التضخم القليل أو البطيء؛ لأنه مما يتغابن الناس بمثله، وبخاصة في الآجال القصيرة، حتى في القروض، ولكن التضخم العالي يصعب غض النظر عنه. وبخاصة، أننا في مسألة الحقوق والالتزامات الآجلة، لا بد لنا من النظر إلى المعدل التراكمي للتضخم بين نقطتين زمنيتين، هما: تاريخ العقد، وتاريخ السداد، وبالتالي، ففي كل حالة تحتاج إلى نظر فقهي، قد يمكن التجاوز عن المعدل التراكمي القليل، والتركيز فقط على المعدلات التراكمية العالية.

أما ما هو المعدل الذي يتسامح فيه، فهو أمر ينبغي أن يحدد على ضوء ما يمكن القياس عليه، من حالات الغبن الفاحش، والربح الفاحش، وما شابههما.

4-

إن طول المدة بين العقد والسداد، لا تؤثر فقط في ارتفاع المعدل التراكمي للتضخم، وإنما تؤثر أيضًا على التوقعات. لأنه، حتى مع فرضية الرشد الاقتصادي، فإن توقعات المتعاملين تكون أكثر جزافية، كلما بعد الأفق الزمني للتوقع، وبالتالي فإن طول المدة، يصعب معها اعتبار التوقع في التضخم. ففي آجل المهر، إذا استحق بعد وقت طويل من العقد، يصعب افتراض رشد التوقع في التضخم في تحديد مقدار الجزء المؤجل من المهر.

ويضاف إلى ذلك بأن أنواع المعاملات، تختلف درجة مرونتها، بالنسبة للتضخم المتوقع، بسبب وجود عوامل اجتماعية كثيرة فيها. فالزواج أقل مرونة من البيع بثمن آجل، بالنسبة للتضخم المتوقع. وبالتالي، ففي حين يمكن الافتراض بأن الثمن الآجل يتحدد، مع اعتبار التضخم المتوقع عند العقد، في كل آن، نجد أن المهور تتزايد بأسلوب القفزات، وليس بشكل تدريجي، أي أن الناس يحتاجون لفترات زمنية طويلة حتى يعدلوا من المهر الذي يرغبون بالتعاقد عليه.

ويضاف إلى ذلك أيضًا المصاعب، المتضمنة في فرضية الرشد الاقتصادي نفسها، مما أشير إليه سابقًا.

(1) وبخاصة أنه يمكن القول: إن الرشد الاقتصادي يفترض تحديد نسبة اقتسام الأرباح، في حالة التضخم المتوقع، بحيث تسلم القيمة الحقيقية المتوقعة لرأس المال، قبل ظهور الربح، وإن كل الفوارق بين التوقع الواقع، بعد الحدث، هو مما يتحمله المتعاملون من مخاطر.

ص: 1163

5-

التمييز بين حالتي الدين والمطل، ففي حالة الدين، قد يمكن القول بأن الثمن الآجل قد تضمن فعلًا التضخم المتوقع، ولكن حالة المطل تختلف عن ذلك فالمطل في الدين أو في القرض يضيف مدة زمنية لم تؤخذ في الحسبان عند العقد. وبالتالي فإن المطل يثير مشكلة حقيقية تتعلق بالعدل بين الطرفين إذا وجد التضخم المتوقع أو غير المتوقع. مما يستدعي النظر الفقهي.

6-

بما أن التضخم، بطبيعته، يعني أن السلع والخدمات ترتفع أسعارها بنسب متفاوتة، فإن تأثيره على أصحاب الأموال، والحقوق والالتزامات متفاوت أيضًا. ويعني ذلك أنه لا يمكن أن يتساوى تأثير التضخم على شخصين أبدًا، مهما كان ما يتشابهان فيه كثيرًا، طالما بقيت فروق بينهما، في أنواع ما يملكان، أو يشتريان، أو يبيعان، أو يدخلان طرفًا في عقود أخرى، كالزواج، والقرض، والصلح، والمخارجة، وغير ذلك.

مؤدى ذلك، أن أي قاعدة عامة للربط، ستؤدي إلى بعض العدل، وبعض الظلم معًا. فلو ربطنا رأس مال القرض، بتغير المعدل العام للأسعار مثلًا، وكان المقرض ممن يحتفظ بماله نقدًا، فإن الربط سيعطي هذا الأخير أكثر مما يستحق؛ لأن البديل لديه –وهو الاحتفاظ بالمال نقدًا- سيعرضه لهبوط قيمته بسبب التضخم حتى دون الإقراض، فلم نحمل غيره خسارته؟ ولو كان المقترض صاحب دخل نقدي، مما لا يزداد مع التضخم، وهو يدفع دينه منه، لكان في ذلك ظلم عليه، ولتجاوز مقدار دينه جميع قدرته على الوفاء بأضعاف.. ولو أردنا احتساب المهر المؤجل، بالقيمة الحقيقية، أي مع احتساب عنصر التضخم، لبعض الزيجات، لتجاوز مقدار الواجب أضعاف طاقة الزواج على الدفع، وأضعاف مهر المثل، في وقت استحقاق دفع مؤجل المهر. ومن جهة أخرى، فلو لم ندخل عنصر التضخم في حسباننا، في أوضاع أخرى، لما كفى مؤجل المهر أجرة سيارة إلى المحكمة للمطالبة به..

ومثل ذلك يقال عن استعمال عملة أجنبية، أقل تضخمًا، أو وحدات حسابية ذات قيمة حسابية ثابتة، طالما أن المشكلة الحقيقية هي أن أسعار السلع والخدمات لا تتغير بنفس النسبة تمامًا.

ص: 1164

كل ذلك يؤدي بنا إلى القول: إنه لا توجد قاعدة ذهبية تطبق مسبقًا –منذ العقد- في جميع الحالات، وتحقق العدل، دون ظلم أو إجحاف، على واحد من الطرفين. لذلك فإنما اقترحه ابن عابدين، من ضرورة الصلح، بعد الحدث، وبعد معرفة تأثيره، قد يكون هو الحل الأمثل لتأثير التضخم السلطوي، وربما غير السلطوي أيضًا، على الحقوق والالتزامات الآجلة وهذا الحل يقرره القاضي، أو الطرفان باتفاقهما عند السداد، مع أخذ عدة عوامل بعين الاعتبار، وأهم هذه العوامل ما يلي:

أ- السلة الشخصية لاستعمالات أموال، أو دخول، كل من طرفي العلاقة، ويشمل ذلك عناصر تركيب الثروة، وعناصر سلة المشتريات لكل منهما، وتأثر كل منها بذلك التضخم.

ب- دخل كل من الطرفين، ومصادره، ومدى تأثره التضخم.

ج- الفئة الاجتماعية الاقتصادية لكل منهما، وتأثرها بالتضخم.

د- معدل التضخم التراكمي.

هـ- أسعار المثل، عند السداد، ويدخل في ذلك مهر المثل، وغيره.

9 -

والصورة التاسعة: وهي ترك الناس التعامل بالنقد، مع عدم وجوده في الأسواق. وهي حالة لا تتعلق –في نظري- بمسألة التضخم. إذ هي تحصل في حالة زوال نقد من الوجود، لبعد الزمن عنه كما حصل مثلًا للدرهم المجيدي في الشام، حيث هرب من أيدي الناس لعومل سياسية واقتصادية متعددة.

وإن وجود حقوق والتزامات آجلة بذلك النقد يتطلب –دون شك- حلًّا فقهيًّا اجتهاديًّا عند استحقاقها. وهو حل قضائي، أو صلحي، لا يعدو في أساسه الخيارات، أو البدائل التي ذكرها الفقهاء، من بطلان العقد، واستحقاق المبيع أو قيمته، أو استحقاق قيمة الثمن يوم العقد (وهو في الواقع مثل استحقاق قيمة المبيع؛ لأن قيمة المبيع هي خير تعبير رضائي عن قيمة ثمنه) ، أو استحقاق قيمة الثمن في آخر يوم رواجه، أو الصلح على قيمة ينظر فيها إلى عوامل متعددة بآن واحد، ويمكن أن يضاف إلى ذلك أيضًا بديل آخر هو ثمن المثل يوم الوفاء وهذا قد يكون الأكثر عدلًا في المهور المؤجلة، وفي الإجارة الطويلة، التي تستوفى فيها المنفعة قريبًا من زمن الدفع.

ص: 1165

الخاتمة

إن النقود المعاصرة تقوم بجميع وظائف النقود التي عرفها عهد التشريع الإسلامي الأول، والتي تحدث عنها الفقهاء حديثًا مفصلًا، فيما بعد، فهي ثمن تجري فيه أحكام الذهب والفضة، فتجب فيها زكاة الذهب والفضة، وتجري فيها أحكام الربا.

ولكنها في الوقت نفسه تختلف عن المعدنين الثمينين، اختلافًا كبيرًا، حاولت بيانه في هذه الورقة. وهو اختلاف لم يره حتى متأخرو الفقهاء مثل ابن عابدين، وهي وإن كانت اصطلاحية مثل الفلوس، والدراهم المغشوشة، إلا أنها تفترق عنها، افتراقًا جوهريًّا أيضًا. فالنقود المعاصرة يمكن اعتبارها عديمة الكلفة من حيث إصدارها، ونقلها، وخزنها، وللسلطة فيها دور كبير لم تكن للحاكم، فيما يتعلق بالفلوس، ولا بالدراهم المغشوشة.

كل ذلك يترتب عليه أن التضخم النقدي المعاصر يختلف اختلافًا جوهريًّا عن رخص الفلوس والدراهم، وكسادها، وانقطاعها الذي تحدث عنه الفقهاء، سلفهم وخلفهم على حد سواء، وإذا كانت بعض صور الرخص والغلاء، في النقود المعاصرة، تشبه في أسبابها، وأغراضها بعض الصور التي حصلت في الماضي، فإن هنالك صورًا جديدة للتضخم، لم تعرف في الماضي، لا من حيث نسبة ارتفاع المستوى العام للأسعار، ولا من حيث الأسباب الراجعة إلى السلطة الحكومية، فعلًا وامتناعًا، ولا من حيث تشعب وتعقد الظاهرة التضخمية، وآثارها الاجتماعية والاقتصادية.

وإذا كان ابن عابدين يعتبر من الضرر، الذي لا يقبل، إلزام المشتري بدفع فرق 30 % في سعر صرف، بين نقد كاسد ورائج، (1) فإن معدلات التضخم صارت اليوم كبيرة جدًّا.

والأهم من ذلك أننا، عندما نتحدث عن ارتفاع الأسعار، فإن الاقتصاديين كثيرًا ما يذكرون المعدل السنوي للتضخم، في حين أن ما يتعلق بالالتزامات والحقوق الآجلة، هو المعدل التراكمي بين تاريخ العقد أو القبض وتاريخ السداد. وقد لاحظنا الفرق الكبير بين هذين المعدلين.

وإذا رأينا بعض الفقهاء يمنعون القرض بالدراهم المزيفة، أو الزرنيخية، ولو تعامل الناس بها، باعتبارها مالًا غير معلوم، لا يمكن المقترض من القضاء، (2) فإن النقود الورقية، في حالة التضخم العالي، متوقعًا أو غير متوقع، أقل معلومية من الدراهم المزيفة بكثير.

(1) حاشية ابن عابدين ج 4 ص 35

(2)

من ورقة علي أحمد السالوس المقدمة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة، 1409 هـ، مجلة المجمع، العدد الخامس، الجزء الثالث، ص 1735، نقلًا عن الصيمري.

ص: 1166

وإذا منع ابن تيمية السلطان من الاتجار بالفلوس، (1) والاتجار بها هو تقليل ما فيها من معدن، عن قيمتها الاصطلاحية، فإن النقود المعاصرة واقعة بكاملها تحت رحمة، أو قل: تحت عسف أو قسوة، السلطة النقدية، والمصارف أيضًا. والتغييرات السلطوية التي تجري في النقود المعاصرة، أكبر، وأبعد أثرًا من الاتجار بالفلوس، الذي كان يقع في الماضي، من قبل بعض السلاطين.

وإذا افترضنا أن الفلوس التي تحدث عنها الفقهاء كان فيها من المعدن ما يساوي قيمتها الاصطلاحية، عند صكها، فإن استمرار وجود الفلوس في السوق، وتعامل الناس بها، وهو ما سماه الفقهاء بالرواج، يعني أن قيمتها السلعية بقيت تتراوح حول قيمتها الاصطلاحية، إذ لو زادت قيمتها السلعية عن قيمتها النقدية، لأذابها الناس، واستعملوها سلعة، ولو نقصت لتهرب الناس من التعامل بها إلى أن يتغير سعر الصرف، فتعود المعادلة، أو المقارنة بين سعرها النقدي وسعرها السلعي، يحصل ذلك بسبب وجود نقود أخرى إلى جانبها، وعلى ضوء ذلك، أرى أن عبارات بعض الفقهاء ينبغي أن تفهم ضمن هذه الأوضاع والفرضيات التي كانت هي السائدة في عصرهم، ومن هذه العبارات أن الفلوس كانت من أفضل النقود، وأكثرها رواجًا في بعض البلدان، كما أن منها وجوب المثل رغم عدم وجود النقد، وانعدامه؛ لأن للمثل قيمة سلعية، وإن انعدمت قيمته النقدية، وما طرأ من رخص أو غلاء بين العقد أو القبض، والسداد، هو من المخاطر العادية التي يتعرض لها الناس دائمًا، حتى لو كانت سلعته ليست نقدًا (ومن هنا نجد المقارنة مع دين السلم الذي هو سلعة بالتعريف) . ومن دون هذه الفرضيات، كيف يعقل أن يفتي الفقيه بمثل لا وجود له مطلقًا؟

وتؤكد هنا أن هذه الفرضيات، لا توجد في النقود المعاصرة.

إذ ليس لهذه النقود أية قيمة البتة، إذا فقدت ثمنيتها، فهي ليست ثمنًا بالخلقة كالذهب والفضة، وليست سلعة بالخلقة كالفلوس، والزيوف.

وأخيرًا، أرجو الله العلي القدير، أن أكون قد أجبت على أهم التساؤلات المتعلقة بما طلب إلي من بحث، وأن أكون قد قدمت ما يوضح الموضوع، ويسهل مهمة الوصول إلى الفتوى الشرعية الواعية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الدكتور منذر قحف

(1) من ورقة علي أحمد السالوس المقدمة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة، 1409 هـ، مجلة المجمع، العدد الخامس، الجزء الثالث، 1725 نقلًا عن الصيمري.

ص: 1167

مراجع استفدت منها في ورقة العمل

1-

البهوتي، كشاف القناع مكتبة النصر الحديثة، الرياض ج 3.

2-

داماد أفندي، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، دار إحياء التراث العربي، بيروت ج 2.

3-

الشيخ محمد عرفة الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار الفكر، ج 1 و2.

4-

علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، دار الجيل، بيروت ج 3.

5-

الخرشي، حاشية الخرشي على مختصر خليل، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ج 5.

6-

الرهوني، حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل، دار الفكر، ج 5.

7-

الكاساني، بدائع الصنائع، دار الكتاب العربي، بيروت ج 5 و6.

8-

ابن عابدين، حاشية رد المحتار، ج 4 طبعة دار الفكر بيروت 1979 م.

9-

ابن عابدين "رسالة تنبيه الرقود في مسائل النقود" ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

10-

أحمد القاري، مجلة الأحكام الشرعية على المذهب الحنبلي، تهامة، جدة، 1981م.

11-

ابن قدامة، المغني ومعه الشرح الكبير، دار الكتاب العربي، ج 4.

12-

المرداوي، الإنصاف، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 5.

13-

مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الخامس.

14-

موسى آدم عيسى، آثار التغيرات في قيمة النقود، دلة البركة 1993م.

15-

الشيخ نظام وجماعة في علماء الهند، الفتاوى العالمكيرية، طبعة باكستان، 1403 هـ.

16-

النووي، روضة الطالبين، المكتب الإسلامي، بيروت، ج 4.

17-

النووي، المجموع، مطبعة الإمام، ج 9.

18-

ابن الهمام، شرح فتح القدير، مع شرح العناية للبايرني، دار الفكر، بيروت، ج 5.

19-

الهيثمي، تحفة المنهاج، مع حواشي ابن قاسم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 5.

20-

الونشريسي، المعيار المعرب، دار الغرب الإسلامي، بيروت ج 6.

ص: 1168

المناقشة

بسم الله الرحمن الرحيم

قضايا العملة المناقشة

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قضايا العملة، هي موضوع هذه الجلسة المسائية والعارض هو فضيلة الشيخ علي محيي الدين القره داغي والمقرر هو الأستاذ محمد علي القري بن عيد.

الشيخ الصديق الضرير:

بسم الله الرحمن الرحيم،

نقطة نظام يا سيادة الرئيس. هذا الموضوع لم يكن في جدول الأعمال الذي أرسل إلينا وطلب منا الكتابة في موضوعاته، وهذا الموضوع بحث في ندوات سابقة وأصدر فيه المجمع قرارًا، والبحوث التي قدمت فيه عشرة، ولا أدري كيف تمت الكتابة فيه؟! وكلها وزعت علينا هذا الصباح وقد اطلعت على بحث واحد منها وجاء فيه بالنص:(وفي نظري أن قرار المجمع إذ ذاك كان فيه شيء من التسرع يجعله في حاجة إلى إعادة النظر في موضوعه) ، فهل المطلوب من المجلس الآن إعادة النظر في هذا الموضوع؟ وشكرًا.

الأمين العام:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أما الاستكتاب فقد كان في عدة موضوعات من بينها هذا الموضوع، وإذا كانت قد وصلت أوراق أخرى قبل هذا فإنها لا بد أن تكون قد أتبعت بأوراق أخرى ثانية. ذلك أن شعبة التخطيط اجتمعت بجدة وراجعت القرار الذي صدر عن الدورة الماضية ووجدته يوصي ببحث الموضوع من جانبين. جانب التضخم وجانب الكساد وأثرهما على أداء ما في الذمة من الالتزامات. ولهذا استكتبنا عددًا كبيرًا من الناس ووصل إلينا ما وصل من البحوث. وشكرًا.

الدكتور علي محيي الدين القره داغي:

بسم الله الرحمن الرحيم،

رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعل يومنا هذا خيرًا من أمسنا، وغدنا خيرًا من يومنا، واقبلنا في عبادك المخلصين يا رب العالمين.

أيها الأساتذة الأجلاء، وأيها الإخوة الكرام،

موضوعنا اليوم هو موضوع " التضخم والكساد " وعلاقتهما بالكساد والانقطاع، وأثر ذلك على الحقوق والالتزامات. والبحوث الواردة فيه تسعة بحوث للأساتذة الأجلاء: فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى الزرقا، والدكتور حسن الشاذلي، ولشيخنا محمد المختار السلامي، ولفضيلة الدكتور علي السالوس، ولفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، ولأخي الدكتور محمد علي القري، وأخي الأستاذ الدكتور منذر قحف ولأخي الدكتور ناجي محمد شفيق. ونحن –إن شاء الله – أو أنا –بإذن الله تعالى- أحاول تلخيصها بإيجاز على ضوء النقاط التي طلبتها أمانة المجمع الموقر، وأحاول الإيجاز بقدر الإمكان حتى نعطي المجال للمناقشة:

بناء على توصية من الدورة الثامنة للمجمع الفقهي الموقر طلبت الأمانة العامة للمجمع الموقر من الباحثين أن يكتبوا حول موضوعين هما: مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة، وحدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة. وعلى ضوء ذلك لم تخرج الأمانة الموقرة كعادتها من إطار القرار السابق لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة الذي نقدره –أي نقدر هذا القرار وغيره من القرارات- ونحترمه. وإنما يكون الحديث حول جعل القرار السابق القاضي بمثلية النقود قاعدة عامة وأصلًا عامًّا في النقود بحث يكون رد الالتزامات والحقوق بالمثل إلا في حالات التضخم الخطير والكساد الكبير.

ص: 1169

ثم إن بحث المجمع الموقر قضية لا يعني أن باب الاجتهاد قد أغلق تمامًا وبالأخص في القضايا الاجتهادية التي تتجدد صورها يومًا بعد يوم وتتضح أبعادها يومًا بعد يوم، وإنما علينا أن نحترم قرار المجمع ثم نناقشه في المجمع نفسه لنصل إلى رأي آخر إن كانت الاجتهادات الجديدة تفضي إلى ذلك ونقول كما قال الخليفة الثاني عمر –رضي الله عنه وأرضاه- ذلك على ما علمنا وهذا على ما نعلم.

يقول سماحة الشيخ الجليل محمد المختار السلامي: إن هذا الموضوع قد نظر فيه المجمع في دورته الثلاثة وقدم فيه تسعة من الباحثين الجلة دراسات قيمة، ثم عرض الموضوع في الدورة الخامسة وقدم فيه اثنا عشر بحثًا، ورغم الجهد المبذول فإن المسألة –الكلام لفضيلة الشيخ- ما تزال مطروحة وما زال الاقتناع العام بقرارات المجمع لم ينفذ نفاذ القبول العام. انتهى.

بعض البحوث أولت عنايتها بتعريف التضخم والكساد وفصلت فيه، ولكن الخلاصة هي أن التضخم هو أن تقل قيمة النقود فتزداد الأسعار بسبب زيادة النقود أو غيرها. وأما الكساد فيقصد به الانخفاض في مستوى الأسعار وتزداد قيمة النقود زيادة خطيرة، والكساد يأتي من الناحية الاقتصادية كآخر مرحلة للانكماش الذي يعني انخفاض المستوى العام للأسعار وارتفاع قيمة النقود. لا نخوض فيها في الفكر الاقتصادي المعاصر، والبحوث أمامكم فيها هذه التفاصيل. وأما في الفقه الإسلامي فلدينا مصطلحات خاصة قد يختلف معناها عن ما هو اليوم، حيث نجد أمامنا هذه المصطلحات الآتية: رواج العملة، كسادها وانقطاعها. كما نجد عند ابن عابدين مصطلح النقود الذاتية والنقود الاصطلاحية. والتذكير بمعاني هذه المصطلحات هنا على الرغم من يقيني بأن أصحاب الفضيلة والسعادة لديهم العلم الكامل بهذه الأمور ولكني من باب التذكير أذكر بعض هذه المعاني، فرواج العملة في الفقه الإسلامي يعني أن العملة لها قيمتها المرسومة بصك السلطان وأن الناس يتعاملون بها. وأما المراد بكساد العملة في كتب الفقه الإسلامي القديمة ولا سيما عند الحنفية هو أن تترك المعاملة بهذا النقد في جميع البلاد. فالمراد بكساد العملة هو ترك المعاملة بها في جميع البلاد. وأما انقطاع العملة فهو عدم وجوها في السوق وإن وجدت عند الصيارفة وفي البيوت هذان المصطلحان يستعملان عند الحنفية بكثرة، في حين أن العلامة المالكي الرهوني يستعمل بطلان الفلوس أو فسادها، وكلمة الكساد والانقطاع دون ذكر تعريفات محددة لها. والإمام النووي الشافعي يستعمل كلمة الانقطاع بمعنى عدم وجود النقد مطلقًا، كما يذكر حالة إبطال السلطان المعاملة بالعملة حيث إنها لا تقتضي عدم وجودها في السوق.

ص: 1170

والعلامة ابن قدامة يستعمل تحريم السلطان للفلوس وللدراهم المكسرة. وللكساد والانقطاع حالات كثيرة وصور كثيرة تناولتها بعض البحوث وهي في متناول الأيدي لمن يريد الاطلاع عليها. ومقصدنا من ذلك أن المراد في دراستنا هنا التضخم والكساد بمعناهما اليوم، أي بمعناهما الاقتصادي المعاصر وليس بمعناهما في السابق، إذ كلام علمائنا السابقين –رحمهم الله معظمه على نقودهم المعدنية ولا سيما الفلوس والنقود المغشوشة. ونحن اليوم نعيش عصر النقود الورقية بما لها من آثار سلبية. وكذلك ذكرت بعض البحوث أسباب التضخم والكساد وآرثارهما على الفرد والمجتمع، وكيفية العلاج الحكومية لهما. لا نذكر هذه المسائل في هذا الملخص وإنما يكون كلامنا في النقاط التالية:

أولًا: لا خلاف بين جميع الباحثين أن النقود تجب فيها الزكاة ويجري فيها الربا ويكون ثمنًا ومهرًا وبدلًا عن الحقوق، كما لا خلاف في أن النقود الورقية يكون الرد فيها بالمثل كقاعدة عامة وكأصل عام. وإنما الخلاف بينهم في أنه هل يراعى التضخم والكساد في جميع الحقوق والالتزامات الآجلة من رد الديون ونحوها، ومن الأجور والرواتب ونحوها، أو لا؟ وبالنظر في آراء الباحثين التسعة نجدهم على رأيين:

يرى فضيلة الدكتور علي السالوس وحده من بين الباحثين أن الرد في الديون لا بد أن يكون بالمثل، وقد سمعته الآن حينما ناقشت فضيلته أن التضخم ليس له أي تأثير حتى وإن بلغت أكثر من ثلاثة آلاف مرة، وحينما قلت إن الدينار العراقي قد ازداد التضخم فيه بنسبة أربعة آلاف وخمسمائة مرة أصر على قوله بأن النقد ما دام مستعملًا فلا بد أن يرد بالمثل، وله أدلة سوف نذكرها، ولأدلته وجاهتها وقوتها لا شك في ذلك.

وكذلك يرى الفريق الثاني وهم فضيلة الشيخ الجليل مصطفى الزرقا، والشيخ محمد المختار، والشيخ عبد الله بن سليمان، والدكتور ناجي محمد شفيق، والدكتور محمد علي القري، والدكتور منذر قحف، والفقير إلى الله وحده، ذهب هؤلاء إلى أن رد الحقوق الآجلة من دين ونحوه يرد –كقاعدة عامة- بالمثل، ولكنه في حالة التضخم الكبير أو الانكماش والكساد فيكون رده ملاحظًا فيه القيمة يوم العقد. ولأهمية الموضوع نذكر بإيجاز أهم أدلة الفريقين دون مناقشة وترجيح، وإنما أكون عارضًا فقط دون أي إضافة.

ص: 1171

استدل فضيلة أخي الحبيب الأستاذ الدكتور علي السالوس بما يأتي:

أولًا: بما ورد في السنة المطهرة حيث أورد حديث ابن عمر –رضي الله عنهما حين قال ابن عمر –رضي الله عنهما إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال:"لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء". والحديث هذا خرجه بأنه رواه الحاكم وأحمد، وذكر بأن الشيخ الألباني ضعفه مرفوعًا وقوى وقفه، ولكن فضيلة الدكتور السالوس رد على هذا التضعيف بقوله:(ولكن تضعيفه ليس بحجة) . ووجه الاستدلال به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر بسعر الصرف يوم الأداء فيكون الأصل هو أن الدين يؤدي بمثله لا بقيمته. وأورد كذلك الحديث الوارد في خيبر المشهور في ضرورة الصاع بالصاع في قضية التمر دون زيادة، ولكن هذا الحديث في باب الربا.

ثانيًا: استدل فضيلته بنصوص الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، والحنفية، حيث أطال النفس في ذكر هذه النصوص الدالة على وجوب رد المدين بمثله عند تغير القيمة ونحوها. ولا داعي لذكر هذه النصوص؛ لأنها موجودة في البحث. وختم فضيلته بحثه بقوله: من المسؤول عن علاج التضخم؟ فقال: إن المسؤول عن علاج التضخم هي الدولة. إن الدولة هي المسؤولة عن ذلك، ولذلك لا ينبغي لنا أن نحمل المدين آثار هذا التضخم. فلا شك أن الدولة هي المسؤولة أولًا عن هذا العلاج وعليها أن تتخذ من الوسائل الممكنة ما يحد من خطر هذا المرض، فالدولة هي المسؤولة عن إصدار النقود وهي التي تضع السياسة النقدية.. إلخ.

واستدل الآخرون أيضًا بما يأتي:

أولًا: بالنصوص والمبادئ العامة التي تقتضي العدالة وعدم الظلم، وأن هذه الشريعة خالية من الظلم فهي عدل كلها، ورحمة كلها، وخير كلها، ومصلحة كلها، وأنه حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله، كما أنه حينما تكن الشريعة فثم المصلحة الحقيقية. وإذا كان الله –سبحانه وتعالى يقول في حق المرابين {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فكيف بالمدين المسكين الذي دفع قبل ست سنوات –مثلًا- عشرة آلاف دينار عراقي لشخص اشترى به بيتًا " أو سيارة وهي كانت تساوي آنذاك أكثر من ثلاثين ألف دولار، واليوم عشرة آلاف دينار تساوي سبعة دولارات فقط؟

ص: 1172

ثانيًا: بنصوص الفقهاء عند كساد النقود أو انقطاعها حيث توجد نصوص لجماعة من الفقهاء تدل على اعتبار القيمة يوم العقد، ولا سيما النصوص عند أبي يوسف وبعض المالكية وبعض الحنابلة وشيخ الإسلام ابن تيمية. والنصوص موجودة في أغلب البحوث التي في متناول الأيدي خاصة بحوث فضيلة أستاذنا الدكتور حسن الشاذلي حيث أورد نصوص الطرفين وكذلك بحث فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، وكذلك البحوث الأخرى حقيقة.

ثالثًا: إن معظم البحوث وبالأخص بحوث إخوتي الكرام الدكتور محمد علي القري والدكتور منذر قحف وبحثي، قد ركزت هذه البحوث على نقطة في غاية الأهمية وهي أن نصوص الفقهاء السابقين التي استشهد بها الطرفان إنما هي في النقود المعدنية، أو في الفلوس والذهب والفضة المغشوشة أو نحوهما، وليست في النقود الورقية التي لم تكن موجودة في عصرهم. إذن فالخلاف –في نظري- في فقه التنزيل، أي تنزيل هذه النصوص الفقهية على واقعنا، حيث إن نقودنا الورقية نسيج عصرها لم تعرف من قبل بهذه الصورة وإن قيمته الحقيقية في سعرها، وفي ثقة الناس بها، وحتى ابن عابدين –رحمه الله فرق بين النقود الذاتية التي قال في حقها: إنها يقوم بها غيرها. أما النقود الاصطلاحية كالفلوس فهي تقوم بغيرها.

وقد ذكرت في حثي –أيضًا- نقطة أخرى وهي قاعدة المثلي والقيمي، وذلك لأنني وجدت تركيز الجميع على مثلية النقود. ولذلك لا بد أن تذكر هذه القاعدة بتفاصيلها، فذكرت هذه القاعدة بتفاصيلها ولا سيما في كتاب مستقل في جميع أبواب الفقه، فوجدت أن المعيار لقضية المثلية هي العدالة. ولذلك يختلف لفظ المثلية من باب إلى باب حسبما يحقق العدالة. وأن الذهب نفسه في بعض الأحيان حينما يدخل فيها تغيير وحينما تدخل فيها أمور أخرى قد تتحول من مثلية إلى قيمية. وهناك تفاصيل لا أريد أن أذكرها هنا.

رابعًا: استدل فضيلة الشيخ الزرقا بنظرية الظروف الطارئة وأفاض فيها وهي في بحثه الموجود بين أيديكم.

هذان هما أيها الأساتذة الأجلاء الاتجاهان، فعلى ضوء اتجاه بحث الأستاذ الدكتور علي السالوس لا حاجة لنا بذكر مقدار التضخم وكيفيته مع أنه حقيقة قد ذكر ذلك في بحثه لأنه لا يعطي له دورًا في رد الديون. ولكن على ضوء البحوث الأخرى لا بد من ذكر ذلك وهي النقطة الثانية التي نذكرها ونختم بها عرضنا.

مسألة التضخم أو المعيار للتضخم والكساد بعض البحوث ذكرت أن هناك التضخم العائد البطيء فهذا لا يلاحظ. البطيء بحيث يكون في السنة نسبة 4 % أو 5 % أو 6 % مثلًا، يعني هذه الأمور أو الفروق البسيطة لا قيمة لها. أما بعض البحوث فبنى على قضية التضخم نظرية الغبن الفاحش واعتبر 30 % بداية للتضخم أو للكساد. فإذا انتقصت قيمة النقود بنسبة 30 % فإن هناك تضخمًا يجب مراعاته وكذلك بالنسبة للكساد. أما كيف نعرف أن هذه النقود الورقية قد انخفضت قيمتها، هناك عدة معايير ذكرتها الأبحاث، وهناك معايير لمعرفة التضخم ذكرها معظم البحوث مثل معيار الربط القياسي، ومعيار الربط بمؤشر تكاليف المعيشة، ومعيار الربط بالذهب، ومعيار الربط بسلة السلع ومعيار الربط بسلة العملات، كل ذلك وسائل لمعرفة نسبة التضخم والكساد. ومن البحوث من رجح الربط بين النقود وسعر الذهب من حيث ملاحظة وقت نشوء الالتزام ووقت الأداء والقضاء. فالفرق بينهما ينظر فيهما، فلو كان قبل عشر سنوات إلى يومنا هذا انتقصت قيمتها بنسبة 30 % أو أي نسبة من المعايير حينئذ تلاحظ وإلا فلا. وأعتقد أن نظام الوحدة النقدية في البنك الإسلامي للتنمية –وهو قائم على سلة العملات وتسمى بالدينار الإسلامي- يمكن أن يكون أحد الحلول الجيدة.

ص: 1173

والخلاصة أيها الأساتذة الأجلاء، أن أصحاب البحوث القائلين بمراعاة التضخم والكساد يفهم من كلامهم أنه لا بد من إبقاء القاعدة العامة في النقود وهي المثلية ما دام لم يحدث تغيير كبير يذكر، أو ما يسمى بالتضخم البطيء، أما عند التضخم الكبير أو الغبن الفاحش أو انهيار العملة فلا بد من مراعاة القيمة.

وأخيرًا فجميع البحوث ركزت على أن جميع مشاكلنا النقدية تعود إلى تغير النظام الاقتصادي الإسلامي القائم على العدالة، وأنه لا بد من إصلاح الأنظمة النقدية وجعل النقود معايير حقيقية وعدم البخس فيها من خلال العودة إما إلى قاعدة الذهب أو تغطية النقود به أو نحو ذلك من القواعد التي تحقق العدالة. كما يوصي أصحاب البحوث حكومات الدول الإسلامية برعاية التضخم في جميع الحقوق الآجلة من الرواتب والأجور ونحوها، وكذلك يطالبون هذه الحكومات بالتخطيط الدقيق للخروج من هذه الأزمة النقدية الخطيرة.

هذا ما أردت أن أذكره بإيجاز، أشكركم على حسن الاستماع،

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الشيخ عبد الله بن بيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

أولًا: أريد أن أقدم بمقدمة عامة.

إن البحث في هذه الموضوعات المتجددة منهجية صاحبه أن يبحث في النصوص، إذا كانت المسألة منصوصة، فهذا ما يبحث عنه وكفى الله المؤمنين القتال وإذا لم تكن منصوصة فإنه يبحث عن دخولها في عمومه أو نحوه ليرى هل هذا العموم مخصوص أو ليس مخصوصًا. ثم إن لم يكن الأمر كذلك لجئ إلى القياس. معناه أنه يبحث هل توجد مسألة في السابق تماثل هذه المسألة لتقاس عليها. فإذا لم يجد ذلك فإنه حينئذ يبحث في الاستدلال –ما يسمى بالاستدلال- وهو المصالح المرسلة، فتح الذرائع؛ لأن الذرائع كما تسد تفتح، والاستحسان. هذا هو المنهج الذي يجب أن يتبع. أعتقد أن الباحثين حينما يقدمون التشخيص الاقتصادي ويبرزون الحاجة إلى تقديم رأي جديد ولا يتبعون هذا المنهج، حينئذ نكون أمام مقدمات لا نتائج؛ لأننا نخرج من ضبط الشرع كما هي عبارة القاضي أبي بكر الباقلاني، هو يتحدث عن الاستدلال، قال:(إنه لا بد من المحافظة على ضبط الشرع) ، فإذا لم نحافظ على ضبط الشرع صار الفيلسوف نبيًّا. هذا أمر مهم جدًّا بين يدي البحوث التي يقدمها أصحابها للمجمع، أن يحرص على ما سميناه بضبط الشرع. أن يضع الضوابط ويبقى في حدود هذه الضوابط.

ص: 1174

بعد هذه المقدمة أذكر بأن هذه المسألة قد بحثناها كما قيل وكنت الوحيد الذي قدم ذلك البحث الذي لم يصادق عليه المجمع في ذلك الوقت، والحمد لله الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل وأن المجمع اليوم وأولئك الذين كانوا خالفوني في ذلك الوقت هم الذين يقدمون اليوم هذه البحوث ليؤيدوا ما ذكرته في ذلك الوقت.

هذه المسألة هي مسألة نقود ورقية، ليست ذهبًا ولا فضة، هذا أمر واضح جدًّا. وبالرجوع أو اللجوء إلى التعليل بالذهب والفضة كنا لجأنا إلى الثمنية وهي علة عند قوم قاصرة وواقفة –كما يسميها الباجي- وعلة عند قوم متعدية. هؤلاء الذين قالوا بالثمنية. أما الذين لم يقولوا بالثمنية فقالوا: إن العلة الوزن؛ لأن هذه الأشياء تباع وزنًا لكنها علل ظنية، إذا تخلفت الثمنية لم يعد للذهب أو الفضة ثمن الأشياء معناه أن العلة كانت باطلة؛ لأن العلة لا تخرم محلها، قد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم، لا يمكن أن تكر على أصلها بالبطلان. فالذي نناقشه اليوم ليس ذهبًا ولا فضة والعلة في الذهب والفضة هي علة أيضًا مظنونة، هذا أمر واضح جدًّا ويجب أن نقتنع به. إذا كان الأمر كذلك فإننا أمام نقود مطبوعة وأمام حقوق ثبتت في الذمم. فنحن سنبحث عن شيء لنستأنس به، وفي وقتها كنت أثرت مسألة الجائحة في الثمار التي يقول بها مالك –رحمه الله تعالى- وهي رواية عن أحمد، وهذه الجائحة ورد فيها حديث في صحيح مسلم. النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فهذه جائحة وكنا في وقتها نتحدث عن الوضع في لبنان.النقود إذا كان التضخم سريعًا بهذا الشكل وأصبح كأنه يرد عليه شيئًا لا فائدة فيه كبيرة، كما هو قريب من عبارة الرهوني في هذا، فإنه يجب أن ننظر في ذلك على ضوء الجائحة التي تعتبر في الثلث وقلت وقتها: إن الثلث هو فقط موضوع للمناقشة يجب أن نحاول أن نجد حلًّا على ضوء الأوضاع الحالية وألا يرد عليه شيء لا كبير فائدة منه كما هي عبارة الرهوني، وأن نقدر بالثلث، والثلث قد يكون كثيرًا وقد يكون نزرًا كما هي عبارة المالكية، في بعض المسائل الثلث، وبعض المسائل فيها الثلث نزرًا. فيجب إذن أن نقرر ذلك وأن نتراجع عن القرار وهذا التضخم لا غضاضة فيه وأن نعتبر أن هذه النقود ليست ذهبًا ولا فضة وأن أوضاع التضخم إذا كانت كبيرة هي كالجائحة والكارثة، والتي لا يمكن للحكومات في بعض الأحيان –كأوضاع الحروب- أن تتلافى هذه الجائحة، بل علينا أن نجد ما يسمى بالصلح الواجب بين الطرفين وهو صلح نص عليه فقهاء المالكية والذي يعطي لكل واحد منهما نصيبًا من الحق. وشكرًا،

ص: 1175

الدكتور عبد السلام العبادي:

بسم الله الرحمن الرحيم،

هذا الموضوع موضوع في غاية الأهمية ولاقى قرار المجمع السابق في دورته الرابعة نقدًا كبيرًا في كثير من الأوساط العلمية، وهو الذي دفع المجمع أن يعيد النظر في هذا الموضوع وأن يستكتب العديد من الاستكتابات العلمية في هذا الموضوع على ضوء ما جرى في الدورة السابقة. وهذه قضية أظن يجب أن ننتهي منها، ليس في هذا الموضوع إنما في أي موضوع آخر تحدث فيه مستجدات جديدة. فإعادة النظر في موضوع أخذنا فيه قرارًا أمر لا حجر علينا فيه ما دام أن الذي يتخذ القرار هو المجمع نفسه، وهذا شأن علمائنا على مستوى الاجتهاد الفردي فيجب أن يكون هذا شأن علمائنا على مستوى الاجتهاد الجماعي، بل هذا أدعى لذاك؛ لأن الذي يتخذ القرار هو المجمع ولا يجوز لأحد أن يغلق باب الاجتهاد في قضية بحجة أننا قد اجتهدنا فيها سابقًا، ولعل في الأمر جديدًا، فلذلك لا بد في الواقع من ألا نصادر أمرًا نملكه نحن.

المجمع ليس ملزمًا من جهة أخرى للبحث، المجمع هو الذي يتخذ قراره وهو سيد نفسه ولذلك لا يمكن في الواقع أن يحتج علينا بأن هذا الأمر أمر نظام.

لكن معالجة هذا الأمر له نظام، يعني يقدم اقتراح للمجمع وهنالك أدوات لتقديم الاقتراح للمجمع وينظر فيه فإذا أخذ قرارًا بإعادة النظر كان هذا حقه ولا يصح لأحد أن يعترض على استخدامه لحقه. هذا أمر من حيث الشكل.

الموضوع أيها الإخوة موضوع في غاية الأهمية وقد تقع فيه بعض الإشكالات التي تدفع إلى نوع من التوجه في المعالجة ويخفي قضايا أساسية. نحن أمام وضع جديد. هذه العملة نقودنا الورقية اليوم لها وضع جديد لا نستطيع أن نقول: إنها تشبه عملاتنا الورقية قبل إلغاء غطاء الذهب، ولا نستطيع أن نقول: إنها تشبه عملاتنا السابقة من ذهب وفضة وفلوس رائجة أو غير رائجة. تفضل الإخوة الباحثون ولا أريد أن أكرر ما قالوه في هذا المجال لكن أريد أن أتكلم في الخطوط العامة، لا بد في الواقع أن نتوجه إلى أن نقرر العدل في هذا الأمر وأن نقرر ما عليه نصوص الشريعة، ويدفعنا لهذا القرار أن هذا أمر حادث لم يعرفه فقهاؤنا. فلا تعالجه عملية قياس ولا عملية استدلال بنص فقهي سابق ولا يمكن في الواقع أن نقول: إن ما نحن فيه الآن فيما يتعلق بموضوع النقود الورقية وما فيها من تضخم أنه أمر قد سبق في العصور التي عايشها فقهاؤنا وعالجوها في السابق. لكن كيف نعالج: أنا لا أنكر أن هذا الأمر ليس سهلًا ويجب أن نضع له من الضوابط ما يمنع أن يكون ذريعة لأمر منعته الشريعة أو حرمته وهذا شأن الفقيه الواعي يضع من الضوابط لما يخرج به من آراء وما يصون هذه الآراء من أن تستخدم ذريعة لفساد أو ذريعة لحرام. القضية هي: أنا لي حق لديك، وضعت هذا المعيار لتقديره، هذا المعيار لتقديره يجب أن أنظر لدوره في تلك الفترة عندما قررته كأداة لتقدير هذا الحق. إذن الذي ثبت في الذمة ليست هذه الأوراق المطبوعة باسم معين أو بشكل معين. الذي ثبت في الذمة هو التزام مالي معين كانت الأوراق النقدية مؤشرًا عليها وأداة للتعريف به. فالأصل هو ذاك، الالتزام المالي الذي ثبت في الذمة؛ لأن الأوراق هذه ما هي إلا معايير ومقاييس لتحديد الالتزامات. فكيف نترك الأصل ونتمسك بالفرع أو بالصورة أو بالمعبرة عن الأصل؟ هذا الأمر ليس سهلًا. كيف نريد أن نحدد قيمة هذه الالتزامات؛ لأن هذا النقد الدينار الفلاني أو الليرة الفلانية أو الجنيه الفلاني كان تقديره بتلك الأداة، الأداة الآن فقدت اعتبارها أو فقدت جزءًا كبيرًا من اعتبارها، كيف نستطيع أن نقدر قيمة الالتزام حقيقة في ذلك الوقت؟ هذا الذي نريد أن نجتهد في البحث عن أدوات له.

ص: 1176

اقترح الإخوة مجموعة من الضوابط منها: الربط بالذهب، والربط بسلة العملات، أو الربط بمجموعة من السلع، أو الربط بتكاليف المعيشة، هذا لا نريد أن نقوم به نحن كفقهاء. يعني يجوز أن يندفع بعض الناس إلى استشكال المسألة عندما يدخل في حسابات هذه القضية، هذا ليس دورنا كفقهاء لتحديد بالضبط قيم الالتزامات في تاريخ ترتبها في الذمم، هذا دور الاقتصاديين الخبراء الأتقياء الواعين الذين لديهم من الدراسات في هذا المجال ما يمكنهم أن يقدموا للأمة نوعًا من التحديد الدقيق لهذه الالتزامات على ضوء تطور قيم الأشياء. وتحرك حركة السلع وموضوع التضخم والكساد وغير ذلك. وهذا أيضًا ليس دور الاقتصاديين بارتجال وسطحية منهم، هم هكذا، إنما لا بد أن تقوم عليه أجهزة مسؤولة من بنوك مركزية أو من وزارات للمالية أو من مجالس متخصصة تمثل فيها كل القطاعات المعنية بهذا الأمر، وبالتالي تضع من الجدولة الدقيقة لهذا الأمر. دورنا نحن كمجمع أن ندعو إلى هذا وأن نتبنى هذا، لكن لا يمكن لنا أن نقوم بهذا؛ لأننا لسنا أصحاب الخبرة والاختصاص. نحن ندعو إلى تقعيد أو نقعد مجموعة من القواعد والضوابط العامة ثم ننيط عملية تطبيقها ونطالب بتطبيقها من الحكومات والجهات المسؤولة في العالم الإسلامي، ودورنا نحن في الواقع أن نصحح وأن نوجه في هذا الأمر. نحن حتى إذا أصدرنا قرارًا فإذا لم يأخذ هذا القرار طريقه إلى التطبيق والالتزام على مستوى الجهات المالية والاقتصادية المسؤولة في الأمة لن يكون له أثر؛ لأنه كيف سنحدد هذه الالتزامات. أنا لا أكتم الإخوة في مجلس المجمع أننا في لقاءاتنا عندما يذكر قرارنا السابق في الواقع نتهم بأننا ليس فقط تسرعنا إذا كان أخذ أستاذنا الصديق على عبارة التسرع، أنا غفلنا في الواقع عن حقائق هذا الموضوع وأساسياته. فلذلك يجب أن نواجه الأمور، ونحن مجلس من حقنا أن ننظر في هذا الأمر، ثم إذا اختلفنا هنالك أدوات للترجيح وننتهي في الواقع لمعاجلة هذا الأمر وفق القواعد لاتخاذ القرارات في هذا المجمع.

على أي حال لا أريد أن أطيل وأدعو الإخوة الكرام إلى أن يولوا هذا الموضوع غاية الاهتمام لما يترتب عليه من مشكلات رأيناها بأم عيننا، كيف أن هذه الآراء التي تبنيناها في السابق كانت سببًا لسخط وظلم بالغ على الناس في معاملاتهم ووقائع حياتهم؟. وشكرًا،،

الدكتور عبد اللطيف الجناحي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،

موضوع التضخم من المواضيع الهامة التي أستعين بها بالاستدلال على تقصير أتباع محمد صلى الله عليه وسلم في نشر تعاليم دينهم الحنيف، فلو كانت هذه الأمة ظلت خير أمة أخرجت للناس تطبق شرع الله وتنشره في الأرض لانتشر فكرهم الاقتصادي المتميز بالعدالة والاستطراق والاستقرار.

ص: 1177

ويجب النظر في سبب التضخم، هل هو أمر لا مفر منه أم أن طبيعة النظام الاقتصادي العالمي المطبق حاليًّا هو الذي يخلق التضخم؟ وهل جميع عوامل التضخم التي ذكرت لها نفس التأثير أم تأثيراتها تتمايز وتتغير سلبًا وإيجابًا؟

لقد تطرق الإخوان إلى عوامل عدة من عوامل التضخم منها: زيادة الأجور، الزيادة في عرض النقود الحقيقية، الزيادة في عرض النقود الائتمانية، ولم أجد التركيز في الواقع على سعر الفائدة في التضخم وهو الذي وجد في الأساس –كما يقول البعض- لجبر الانخفاض في القوة الشرائية، ولكن كان سعر الفائدة هذا وبالًا بحيث أصبح ذا أثر فعال في زيادة التضخم. والشرح قد يطول في هذا المقام لإظهار سلبيات النظام الاقتصادي العالمي واعتماده إلى حد كبير على سعر الفائدة ككابح لجماح التضخم. ولكن يجب أن نعلم أن دولة مثل أمريكا عندما حاولت في الفترة ما بين 72-79 للحد من التضخم تمكنت في ضبط كثير من عناصر التضخم ولم تتمكن بنفس القدر من السيطرة على النقود الائتمانية، وذلك لكون هذه النقود الأكثر تأثرًا بالربا. وإذا قال قائل: إنه من الظلم أن يكون لإنسان دين في ذمة إنسان قبل خمسة عشر سنة ولنقل مليون ليرة لبنانية وكانت المليون ليرة لبنانية تأتي في ذلك الوقت بأربع سيارات فاخرة والمليون ليرة لبنانية اليوم لا تأتي بأكثر من أربع علب الكلينكس الذي أمامنا. الرد هنا يكون ما هو الحال إذا كان له في ذمة أخ ياباني، مائة ين ياباني قبل خمس سنوات واليوم زاد سعر الين الياباني خمس مرات، فهل يأخذ إذا كان له الحق أن يأخذ أكثر في العدد من الليرات اللبنانية اليوم؟ هل يعطي أخاه الحق –الياباني- أن يدفع له خمس المبلغ؟ هل يعطيه هذا الحق؟

إن العلة أيها الإخوة في النظام النقدي العالمي. لا يوجد في العالم نظام نقدي عادل يمنع انخفاض العملة المستخدمة، ولا يوجد في النظام العالمي معيار عادل للتقابل بين هذه العملات. إذن يجب أن نعود لديننا حيث إن الإسلام دين عالمي ونظامه نظام عالمي، ويجب أن يطبق عالميًّا، وهو ينشر وضع نظام اقتصادي عالمي عادل، فإن أردنا المحافظة على حقوقنا المالية وحفظها من أن يأكلها التضخم فعلينا أن نطبّق النظام الاقتصادي العالمي ونجري عليه تطويرًا ضمن إطار الشريعة الغراء، حيث من سماتها العدالة وحفظ حقوق البشر. ونعمل على نشر هذا الاقتصادي عالميًّا، لا أن نلوي عنق الشريعة حتى نطوعه للنظام الاقتصادي القائم. وشكرًا لكم.

ص: 1178

الدكتور ناجي عجم:

بسم الله الرحمن الرحيم،

أولًا- لا أرى مناقشة موضوع الكساد للعملة الورقية أو التضخم فيه تكرار أو إعادة من كل وجه. نعم، سابقًا كان القرار في تغير قيمة العملة وأما الآن الموضوع في مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة وحدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة، فهذه –في نظري- موضوعات جديدة ولذلك الدورة السابقة أوصت بالاستكتاب في هذين الموضوعين، فهما أمر جديد. أما التغير، نعم اتخذ فيه قرار. ثم إذا كان السلف الصالح راعى التغير وحكم بعض العلماء بالقيمة في التغير ونحن الآن في هذا التضخم الكبير الذي هو في معنى الكساد، ما ينبغي أن يراعى، يعني القيمة، ويزال الظلم على الدائن المتضرر. هذه واحدة. فهذا الظلم لأحد العاقدين في حالة التدهور الفاحش، نعم مع التسليم بثمنية الأوراق النقدية ولكنها اختلاف كبير عن النقدين السابقين (الذهب والفضة) . فالذهب والفضة ماليتهما في ذاتهما، وأما هذه ماليتها اصطلاحية (اسمية) ، ثم الظروف التي تعتري الدول تؤثر في قيمتها. فلا بد من أن نكون منصفين مع المتضرر، والنبي صلى الله عليه وسلم وضع الجوائح، وقال عليه الصلاة والسلام:((لا ضرر ولا ضرار)) . ونهى رب العالمين عن أكل الأموال بالباطل فأرى في هذا التضخم أن فيه أكلًا للمال بالباطل من قبل المدين للدائن. ثم إن كان فيه شبهة الربا فما أرى فيه شبهة الربا. فالربا هو زيادة مشروطة وأما هنا الزيادة غير مشروطة، وإنما قد يكون المدين هو المتضرر فيما إذا ارتفع سعر العملة كما أشار الأخ الدكتور عبد اللطيف، فلا بد من إنصاف المظلوم. ثم العلماء اعتبروا الغبن الفاحش وأعطوا للمغبون

أما يكون هذا التضخم فيه غبن فاحش للدائن؟ والفقهاء اختلفوا في تقدير الغبن الفاحش، هل يكون في الثلث أو في أقل من الثلث أو أكثر من الثلث؟ فأرى أن على هذا المجمع أن ينظر في مقدار الغبن الفاحش ويضع حدًّا للتضخم الذي يحكم فيه

تصالحًا وتراضيًا فيها ونعمة وهذا أفضل، وإلا فيخول القضاء بأن يعطى حد للتضخم ليحكم القضاء بالقيمة. وهذا في قناعتي فيه رفع للظلم. والله أعلم.

ص: 1179

الدكتور محمد علي القري بن عيد:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فإن حياة الناس المعاصرة لم تختلف في شيء كاختلافها عن القديم في مجال التجارة والتمويل والنقود وما إلى ذلك من أمور الاقتصاد. وقد كان الناس قديمًا يعيشون في مجتمعات تكاد تكون مفتوحة على بعضها البعض فتتدفق الأموال والنقود من بلد إلى آخر، وكان الناس يتعاملون في البلد الواحد بأجناس من النقود. وهذا كان معروفًا حتى عهد قريب في الجزيرة العربية. ولذلك عندما يدخل الناس في عقود البيع وتترتب الديون والالتزامات ربما تكون بعملة ثم إن هذه العملة إذا حان وقت سداد هذا الالتزام لا تكون موجودة، ولكن لا يعني ذلك أنه لا يكون هناك نقود، فالناس لا يمكن أن يكونوا بدون نقود، وهنا جاء مفهوم الكساد. فالكساد الذي تحدث عنه الفقهاء قديمًا ليس له تعلق بواقعنا المعاصر؛ لأنه في الوقت الحاضر كل بلد له عملة واحدة فقط والقانون لا يعترف إلا بهذه العملة، ولا يتعامل الناس إلا بها، وأي معاملة أخرى بعملة أخرى لا تكون محترمة من قبل القانون. فمن هذا المنطلق فإن مفهوم الكساد كما ورد عند الفقهاء القدامى لا يمكن أن يستمد منه في وقتنا الحاضر، حكم يتعلق بالأوراق النقدية. هذا فيما يتعلق بالانقطاع. فإذا جئنا إلى موضوع كساد النقود وهو إبطال التداول بأنواع منها وجدنا أن هذا ربما يحدث في وقتنا الحاضر، فتأتي الحكومة فتبطل التعامل بعملة معينة ولكن بين ما يحصل في وقتنا وما كان يحصل في القديم اختلاف كبير، فالحكومة عندما تبطل المعاملة بعملة في هذا الزمان فإنها تقوم بإعلان العلاقة بين العملة الجديدة والقديمة، وفي كثير من الأحيان تعطي الناس وقتًا يقومون باستبدال ما عندهم من القديم بالجديد، بل إنه حتى في البلدان التي انهارت كمثل يوغسلافيا –على سبيل المثال- أو الاتحاد السوفيتي عندما ظهرت العملة الجديدة تساوي كذا من العملة القديمة. فجعلت للناس مقياسًا للديون والالتزامات عليهم. فما يحصل في الوقت الحاضر مختلف تمام الاختلاف فيما يتعلق بهذه المسألة عن ما كان يحصل في القديم. فكساد النقود الذي تحدث عنه الفقهاء قديمًا يختلف عن كسادها في الوقت الحاضر.

ص: 1180

أما الغلاء والرخص فإنهما –أيضًا- قد حدثا في القديم وهما يحدثان في الوقت الحاضر. ولكنها مسألة تتعلق عند الفقهاء القدامى بالديون المعقودة بالفلوس أو الدراهم المغشوشة فقط؛ لأن الغلاء أو الرخص عندهم مرتبط بعلاقة تلك النقود بالذهب والفضة وليس بالمستوى العام للأسعار ولا بأي معيار آخر يتعلق بالقوة الشرائية، فإنهم لم يعرفوا ذلك. وقد أجمعوا على أن الديون إذا انعقدت بالدرهم أو الدينار إنما يرد المدين مثلها غلت أو رخصت، واختلفوا في الفلوس والدراهم المغشوشة، فقال أكثرهم ترد بالمثل. ولكنهم لا يوجد عندهم مفهوم للقوة الشرائية للنقود. ومن ثم فإن من يريد أن يبني على كلام الفقهاء القديم المتعلق بالرد بالقيمة حكمًا يتعلق بالنقود الورقية وربطها بالقوة الشرائية فهما أمران مختلفان لا علاقة بينهما.

إن التضخم يؤدي إلى التظالم بين الناس، ولا ريب أن هذه مسألة تحتاج إلى نظر ولكن المشكلة أنها تحتاج إلى اجتهاد جديد؛ لأن كلام الفقهاء القدامى يتعلق بنظام نقدي مختلف تمام الاختلاف عن النظام النقدي المعاصر.

وإن الربط بالقوة الشرائية أو بمؤشر القوة الشرائية المسمى مؤسسة ارتفاع السلع.. كما يسمونه باللغة الإنجليزية، أو أنواع المؤشرات الأخرى فيه مشكلات كثيرة تجعله لا يعول عليه في تحقيق العدالة، ذلك أنه أولًا مؤشر تصدره جهة رسمية في كثير من الأحيان يكون لها توجهات سياسة وأغراض، وهذه الجهة الرسمية التي هي الحكومة هي أكبر مستفيد من التضخم ولذلك فإنها تتحكم فيه بما يؤدي إلى انتفاعها باتجاه الأسعار. والأمر الثاني أن الأسعار في العصر الحديث لا تتجه إلا إلى الارتفاع. لم نعهد حالة منذ خمسين سنة اتجهت فيها الأسعار إلى الانخفاض. نعم، أنا أتحدث عن المستوى العام للأسعار وليس أسعار أفراد السلع، ربما يحدث أحيانًا أن يكون الارتفاع كبيرًا فاحشًا وريما يكون ارتفاعًا معقولًا وقليلًا، ولكن الاتجاه العام هو إلى الارتفاع. فإذا ربطنا الديون والالتزامات بمؤشر تكاليف المعيشة فنحن نعلم من الآن أن هذه الديون سوف ترتفع ولا تنخفض، وسوف تزيد ولا تنقص. فإذن ما الفرق بين هذه والقول بجواز الفائدة؟ لا فرق أبدًا. إن القول بالربط القياسي وربط الديون بمؤشر تكاليف المعيشة لا يختلف في مآلاته البتة عن القول بجواز التعامل بالفائدة الربوية، بل إنه أسوأ من ذلك؛ لأن الفائدة الربوية في كثير من الأحيان هي أقل في معدلها عن معدل التضخم. فإذن يجب أن نكون على أقصى درجات الحذر؛ لأن هذا مزلق يمكن أن يؤدي إلى القول بجواز الربا، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك، لكن هذه المسألة تحتاج إلى نظر.

ص: 1181

ولقد اقترحت في ورقتي اقتراحًا يتعلق بالتفكير ولا أقول القول بجواز الربط بالذهب؛ لأن الذهب لا يزال –وقد أوردت أمثلة وأدلة على ذلك- حتى وقتنا الحاضر رغم أن العملات الورقية غير مربوطة به مباشرة إلا أنه دائمًا هو الثقل الذي تعتمد عليه عملات العالم والتمويل الدولي. وهذا الربط بالذهب طبعًا يثير مشكلات تتعلق بالقبض؛ لأن ما يتعلق بذمم الناس من الديون يكون بالنقود الورقية فلا يثبت في ذممهم إلا هذا الذي قبضوه كدين، فإذن هذا يحتاج إلى نظر ودراسة ولكن الذهب مستقل عن كل الحكومات ولا يستطيع أحد أن يؤثر عليه؛ ولذلك فإن الربط به لا يؤدي بالضرورة إلى الارتفاع ولكنه يؤدي إلى الاستقرار في القوة الشرائية لهذا الدين. وشكرًا لكم.

الدكتور علي السالوس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.

الحقيقة عندما تلقيت الدعوة الكريمة ما ظننت أننا بصدد إعادة النظر في قرار المجمع الموقر وإنما ما فهمته هو أن التضخم متى يأخذ حكم الكساد في الفقه الإسلامي؟ كساد النقود؛ لأن هذا الموضوع ذكر من قبل ولم نتعرض له في القرار الذي صدر، فكأن هنا تكملة للقرار السابق. يعني لسنا بصدد بحث الارتفاع والانخفاض وإنما متى يصبح التضخم مثل الكساد في الفقه الإسلامي؟ وهذا فعلًا ما انتهيت إليه في البحث حيث بينت أنواع التضخم إلى أن وصلت إلى التضخم الجامح، وبينت أن هذا التضخم الجامح هو الذي يمكن أن ينطبق عليه حكم الكساد في النقود بالنسبة للفقه الإسلامي كما نرى في كتب الأئمة السابقين. فإذن الأمر لم يكن عن الارتفاع والانخفاض؛ لأن هذا كما تفضلتم سبق فيه البحث.

أحب أولًا قبل أن أتحدث أن أبين أن الحديث الذي ذكره فضيلة أخي الدكتور علي القره داغي وقال بأنني قلت على قول الشيخ الألباني –حفظه الله- بأن القول ليس بحجة، أرجو أن ينظر هنا إلى ما قلته. الحديث رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وبين الشيخ أحمد شاكر صحته مرفوعًا وموقوفًا. والشيخ الألباني ضعفه مرفوعًا وقواه موقوفًا، ولكن تضعيفه ليس بحجة؛ لأنه يعني تضعيف من احتج به الإمام مسلم. فإذن هنا ليس بحجة؛ لأني قارنت بين الشيخ الألباني والإمام مسلم.فالشيخ الألباني على العين والرأس وهو أعلم منا ولكن الإمام مسلم أعلم من علماء العصر مجتمعين بالنسبة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 1182

إذن هنا التضخم في حالة التضخم الجامح هو الذي يأخذ حكم الكساد، ولكن المجمع الموقر إذا أراد أن يتخذ قرارًا جديدًا أو قرارًا في هذا الموضوع فقط ليمنع الظلم الذي يقع على الناس. الملاحظ في المناقشات كما ذكرنا من قبل في المؤتمرات السابقة أن النقاش منصب على الدائن والمدين كأفراد، وأن الظلم للدائن إذا قيمة النقود قلت، ولم ينظر إلى قيمة النقود عندما ترتفع كما تفضل الأستاذ عبد اللطيف الجناحي –حفظه الله- وبين لو أن النقود ارتفعت هل يقبل المقرض أن يأخذ أقل من قيمته؟ ثم هناك الأمور التي تترتب على هذا، يعني المجمع هنا يمثل العالم الإسلامي، ولذلك هنا إذا اتخذ قرارًا كهذا لا بد أن يبين لنا. الحسابات الجارية عقد قرض كما اتفقنا، فهل معنى ذلك أن البنوك سترد القيمة أم المثل؟ في رأس مال المضاربة الربح لا يتحقق إلا بعد سلامة رأس المال، فرأس المال سلامته المثل أم القيمة؟ بالنسبة للإيجار، عقد الإيجار والذي قد يستمر إلى عشرات السنين، الأجرة تكون بالمثل أم بالقيمة؟ البيع بالتقسيط، القسط المدفوع ويتأجل إلى سنوات هل يكون بالمثل أم بالقيمة؟ لا بد من بحث هذه الموضوعات ليمنع الظلم، أما أن نحدد ونركز على الأفراد –الدائن والمدين- وأن النظام النقدي السيئ وأن مساوئ هذا النظام؛ لأن التضخم عرض لمرض، وهذا المرض ليس المدين هو المسؤول عنه. فإذا كنا سنجعل المدين هو الذي يتحمل فروق التضخم معناه هو الذي يتحمل آلام هذا المرض ولا دخل له فيه. ولذلك إذا رأينا أن نتخذ قرارًا فليكن القرار موجهًا إلى الحكومات لا إلى الأفراد؛ لأن الدول هي المسؤولة عن هذا التضخم. على الدول أن تعطي للدائن فرق التضخم وليس المدين الذي يعطي. على الدول أن تعطي البائع بالتقسيط فرق التضخم. على الدول أن تودع في البنوك فرق التضخم ليأخذه من أودع. على الدول أن تجعل في نظام المضاربة في المصارف الإسلامية تعطي فرق التضخم حتى يأخذ المصرف الإسلامي نصيبه من الربح، فالدول هي المتسببة في التضخم، وبمقدار التضخم وما تعطيه الدولة يمكن هنا أن يعطي الناس بعضهم بعضًا. أما أن نجعل المسألة خاصة بالمدين فقط فهذا هو عين الظلم وتحميل المقترض ما لا يحتمل، وتحميله مسؤولية نظام عالمي فاسد. إذن أرجو أن نتنبه لكل هذه الأمور قبل أن نسرع في اتخاذ قرار آخر بعد أن أخذنا قرارًا نتيجة جلسات كثيرة وأكثر من دورة متخصصة في هذا الموضوع. وشكرًا،،

ص: 1183

الدكتور منذر قحف:

بسم الله الرحمن الرحيم.

في الحقيقة أنا أحتار من أين أبدأ، ولكن هنالك نقاط كثيرة لا بد من أن أذكرها فقد لا تكون متسلسلة التسلسل الأمثل.

أولًا: أنا في الحقيقة لا أتفق مع أخي الدكتور محمد علي القري بأن صور الكساد والانقطاع التي تحدث عنها الفقهاء لا ينطبق شيء منها على النقود الورقية. أنا أقول: إن بعض هذه الصور تنطبق على بعض أحوالنا. هذه نقطة وسآتي إليها بشيء من التفصيل. كما أنني لا أتفق معه أن أي معاملة بعملة أخرى تكون غير محترمة عند القانون. بلدان كثيرة تحترم معاملات بعملة غير عملاتها. كل البلدان التي تسمح بالقطع الحر بمعاملة العملة الأجنبية معاملة حرة دون قيود يحترم فيها القانون المعاملات بالعملات الأجنبية، فقد توجد عملات بآن واحد في بلد واحد يمكن أن يتعامل بها الناس فعلًا –وقد ذكرت ذلك بورقتي- ويحترمها القانون. يعني القول: إن القانون يحترمها ويمكن أن ترفع قضية للمحكمة بتلك العملة ويقبلها القانون ويحكم بها. من وقت حديث، مصر قبلت بذلك بعد أن لم تكن تقبل. لذلك أنا أرى أنه يمكن بناء عدد من الأحكام الفقهية الجديدة على الأوراق النقدية من مقتضى ما قاله الفقهاء في كتبهم رغم أنني أشاركه 100? الرأي بالفوارق المهمة جدًّا بين العملات الحديثة التي لا ترتبط ولا تقوم على الذهب والفضة وبين الثمنين اللذين تحدث عنهما الفقهاء وكذلك بينها وبين الزيوف والفلوس.

أيضًا نقطة أخرى في ذلك يعني واضح أن الذهب أكثر استقرارًا من كثير من العملات ولكن الذهب أيضًا كثير التأرجح، ليس قليل التأرجح أبدًا، وقد لاحظنا خلال السنوات الماضية كيف أنه تأرجح تأرجحًا غير قليل خاصة لو أخذنا بعين الاعتبار ما يقوله ابن عابدين مثلًا بأنه يعتبر 10? من فارق بالسعر فارقًا لا يقبل، حيث إنه يعتبره كثيرًا، بحيث لا يقبل. أنا أنقل تقريبًا نص كلامه. أنه يعتبر الضرر الذي لا يقبل أن يلزم المشتري بدفع فرق 10? في السعر (في صفحة 35 من تنبيه الرقود لا من الحاشية) .

ص: 1184

فنعود إذن إلى المسألة الأساسية وهي الكساد والانقطاع. ما فهمته من تعاريف الفقهاء على كثرتها وتنوع المذاهب فيها أننا يمكن أن نستخلص منها صورًا، وسعيت أن أطبق هذه الصور على النقود المعاصرة. أنا سأذكر الصور المهمة فقط التي تؤثر على موضوعنا. الصورة الثالثة –مثلًا- من صور الكساد والانقطاع. أنا صنفتها ضمن صنفين. الصنف الأول: هو الكساد القائم بحالات منع السلطان التعامل بالنقد (منع الحكومة التعامل بالنقد) . والحالة الثانية: عزوف الناس عن النقد. أن الناس من أنفسهم دون أمر من السلطان يبتعدون عن التعامل بذلك النقد. الصور المهمة منها في نظري هي أن يمنع السلطان التعامل النقد مع وجود ذلك النقد في بلدان أخرى وعند الصيارفة، وقلت: إن هذه الصورة تنطبق على الواقع المعاصر، وأعطيت مثالًا منها، إلا أن حلها سهل؛ لأن السلطان في هذه الحالة يعطي دائمًا –في الحقيقة وليس في العادة- سعرًا للتعادل لا بد منه. فيحل الأمر بسعر التعادل. ومع ذلك هنالك أنواع من الحالات التي لا يمكن فيها أن يبت بسعر التعادل، فالتزام قديم، استحق بعد وقت طويل من مضي سعر التعادل ومن انتهاء الفرصة التي أعطاها الحاكم للمعادلة بين العملتين، القيمة التي ألغاها والجديدة، ماذا يفعل بهذا؟ مثل المهر (مؤجل المهر) . اقترحت أنه ينبغي أن تعالج هذه الأمور بفتوى جديدة وذكرت –في نظري- الأسس التي ينبغي أن تلحظ في ورقتي.

شيء أريد أن أؤكد عليه بصورة أرجو أن تتضح. إن التضخم بطبيعته وبفطرته لا يعني أبدًا ارتفاع جميع الأسعار بنفس النسبة، ولو كان كذلك لكان الأمر سهلًا جدًّا، وهي صورة من صور الانقطاع –في الحقيقة- في العملة كما حصل بالفرنك الفرنسي عندما ألغي الفرنك القديم ووضع بدلًا منه فرنك جديد. كل المعاملات تنتقل إلى العملة الجديدة بنفس النسبة ولا يؤثر ذلك على شيء قديمه وحديثه، مستحقة أم غير مستحقة. المشكلة هي أن التضخم يؤثر على العملات والسلع والديون بأشكال مختلفة، فيترك بعضها لا يؤثر عليه كالدين الذي لا يستحق الآن ويستحق بعد وقت، أو أنه يؤثر على بعضها بنسبة قليلة فتزداد 10 أو 20? بينما تزداد أخرى بثمانين أو مائة أو مائتين أو خمسمائة بالمائة.

فالسلع والخدمات والأسعار المتعددة لا ترتفع بحالة التضخم بشكل واحد. نحن نقول: التضخم هو ارتفاع عام في الأسعار ولكنه لا يعني أن كل سعر يرتفع. بل قد تنخفض بعض الأسعار فعلًا ونقول هناك تضخم مع ذلك. فإذن إذا كان التضخم كذلك ففي نظري كل محاولة لا، نضع قاعدة عامة نقول: إذا حصل تضخم كذا فينبغي أن نفع كذا على جميع المعاملات. هذه القاعدة العامة لا بد لها من بعض الظلم وبعض العدل. لا يمكن أن تعدل في كل الأحوال؛ لأن التضخم ليس واحدًا على جميع السلع. هذه نقطة مهمة أرجو أن نلحظها دائمًا. أقول: إن أي قاعدة عامة للربط ستؤدي إلى بعض العدل وبعض الظلم معًا، فلو ربطنا رأس مال القرض بتغير المعدل العام للأسعار مثلًا وكان المقرض ممن يحتفظ بماله نقدًا في عادته فإن الربط سيعطي المقرض أكثر مما يستحق؛ لأن البديل لديه هو الاحتفاظ بماله نقدًا، وهذا سيعرضه لهبوط قيمة ماله بسبب التضخم حتى دون أن يقرض، فلم نحمل غيره خسارته؟ ولو كان المقترض صاحب دخل نقدي مما لا يزداد مع التضخم أو بنسبته وهو يدفع دينه منه لكان في الربط ظلم عليه ولتجاوز مقدار دينه جميع قدرته على الوفاء بأضعاف، وهنا يكون الربط أسوأ بكثير وبشكل غير معقول من أي نسبة للفائدة مهما كبرت.

ص: 1185

هنالك حالة أرجو أن ننتبه إليها بشكل واضح وهي من الحالات التي تندرج تحت تعريف الكساد والانقطاع أو كليهما. هل التفاوت الذي –يعني- نعرفه بين تعريفهما وهي حالة أن يعزف الناس عن التعامل بالنقد رغبة منهم عنه لماذا يعزفون؟ أهم حالة يعزف الناس بها عن التعامل بالنقد رغم وجوده في الأسواق هو حالة التضخم، والمثال الذي نراه هو مثال تركيا. الناس يعزفون عن التعامل بالنقد فمعظم معاملاتهم أصبحت في واقع الحال –وعندنا بعض الإخوة من تركيا قد يفيدونا في هذا- داخل تركيا رغم أنا لليرة التركية موجودة ويتعامل بها إلا أن المعاملات المهمة أو ذات الأجل صارت إما بالدولار، أو بالمارك هذا واقع الآن وقد وقع مثله وهو واقع حاليًّا أيضًا في لبنان وفي غيرها من الدول التي حصل بها نسبة عالية من التضخم. فإذن من حالات الانقطاع في العملة كما عرفها الفقهاء مما يندرج تحتها هذه الصورة وهي عزوف الناس عن التعامل بذلك النقد مع وجوده بالأسواق وأن يكون سبب عزوفهم عنه هو التضخم (هبوط سعر العملة) ، هذا عزوف وهو يندرج –في نظري- تحت الانقطاع، وينبغي أن نعالجه من هذه الروح وتحت هذه المظلة.

أقول في هذه الحالة: ويحصل ذلك في حالات التضخم المرتفع. هنا نقطة مهمة ولعل الدكتور السالوس يلاحظ ذلك لو تكرم. في الحقيقة يصعب جدًّا من الناحية العلمية –فيما أعلم- أن يقال هذا حد التضخم الذي يعزف فيه الناس: لا يوجد أحد يقول بذلك. هل هو 10? أو 20? أو 50? أو 100?، أو 200?؟ لا أحد يقول بذلك. أنا بالأمس رأيت في التليفزيون –لو سمحتم لي بهذا بالمحطة الإنجليزية (B.B.C) – مقابلة عن هبوط سعر الدولار، وسعر الدولار هبط 13? خلال أسبوعين. فبالأمس كانت مقابلة مع بائع للكاميرات في نيويورك والكاميرات مستوردة من اليابان وأكثر الهبوط كان بالنسبة للين، فهو يقول: هذا لا يؤثر علينا أبدًا ونحن لا نتأثر به ولم تتأثر به مبيعاتي ولا أظن أنها ستتأثر، رغم أن المعلق الذي عمل معه المقابلة وعلق على ذلك قال قبل ذلك: أما السلع الأخرى فإن المضمون المستورد من السلع في معظم السلع الاستهلاكية في أمريكا قليل جدًّا بحيث لا تؤثر نسبة 13? خلال أسبوعين لا تؤثر على المستهلك. هذا واقع سمعته بالأمس. فهي قضية إذن لا يمكننا أن نقول: الاقتصاديون لا يضعون حدًّا بين التضخم البطيء أو الزاحف وبين التضخم الحلزوني أو الكبير. لا نضع هذا الحد، لا يوجد هذا الحد. كثيرًا ما يتحدث الاقتصاديون عن تضخم ذي رقمين يعني فوق العشرة والذي له درجتان من الأرقام، يقولون هذا تضخم يمكن القول عنه إنه كثير. التضخم أيضًا عليه بين الاقتصاديين إنه 2 و3 و4? من نسبة التضخم ليس تضخمًا كبيرًا.

أنا سأختصر لو أذن لي قد أنتهي بدقيقة الآن.

ص: 1186

أقول في هذه الحالات في حالات التضخم الكبير والتضخم الذي يتجاوز العشرة، في هذه الحالة أما وأنه لا يمكن أن نضع قاعدة عامة تقوم على الربط بأي معيار فضلًا عن أن المعايير متعددة ويصعب اختيار واحد منها، أقول: لا بد من طرح مسألة الصلح في كل حالة على حدة. سعدت أن سمعت الشيخ ابن بيه يقول: إن المالكية قد طرحوا ذلك وأنا لم أقرأ ذلك، إلا أن ابن عابدين طرح ذلك أيضًا وهو يقول: لا بد من الصلح. وهو يعتبر في المثال الذي ضربه 10? مهمة. وقد أشرت في بحثي إلى النقاط الأساسية التي في نظري ينبغي أن يلحظها المصالح بينهما (الحكم) ، أو الطرفين في الصلح، أو أن يلحظها القاضي عندما يفرض سعرًا بينهما في كل حالة وحدها. هذه العوامل عوامل كثيرة وهي تختلف بين شخص وآخر.

والحمد لله رب العالمين.

الدكتور عبد اللطيف الفرفور:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

شكرًا السيد الرئيس، لا يفوتني أن أنوه بجهود إخواني وزملائي الذين كتبوا والذين ناقشوا، ولكن هذا الذي نقوم به اليوم إنما هو تتمة وتكملة للقرار المجمعي الذي اتخذ في الدورة الخامسة في الكويت الشقيقة، وكان المفروض أن يتخذ مثل هذا أو أن تدرس مثل هذه الدراسات والمناقشات وأن يتخذ قرار يشبه القرار الذي سنصل إليه –إن شاء الله- من تلك الدورة لولا أن الله –سبحانه وتعالى شاء ولا راد لمشيئته، ومشى القرار على الأعم الأغلب من العملات وهي العملات شبه الثابتة. ونحن اليوم أمام عملات متذبذبة القيمة وأكثرها شرق أوسطي. وهذه العملات تحتاج اليوم إلى نظر جديد وفتوى جديدة من اجتهاد جماعي يستند إلى الوضع الذي كانت عليه العملات قديمًا تخريجًا وليس حذو القذة بالقذة وإنما من باب وجود بعض وجوه الشبة بين الحالة التي كان عليها النقد آنئذ وما نحن فيه اليوم. فنقدنا هذا الذي نتداوله اليوم له

وذهب إخواني إلى كثير من الوجوه وكلها طيبة ولكنني أرى –والله تعالى أعلم- أن المسألة يجب أن تعقد لها ندوة وأن يشارك في هذه الندوة خبراء من الاقتصاد الإسلامي وخبراء من علماء النقد؛ لأن النقد ذاته صارت فيه خبرات، وفقهاء من مجمعنا الموقر، وما يردف هؤلاء وهؤلاء من مقررين حتى نخرج بالصيغة الفقهية الصحيحة لمثل هذه الواقعة التي لم تنزل بالمسلمين من قبل، فهذه واقعة ونازلة جديدة.

ص: 1187

صحيح كان هنالك غلاء ورخص، وكان هنالك كساد وانقطاع ولكن هذا الذي نحن فيه اليوم هو كساد وانقطاع ولكنه أيضًا ليس كسادًا وانقطاعًا. غلاء ورخص ولكن ليس غلاء ورخصًا أيضًا وفيه وجوه شبه منها وليس فيه وجوه شبه من هناك، ولكنها في حقيقة الأمر نازلة. وما من واقعة كما تعلمون إلا ولله –سبحانه وتعالى فيها حكم شرعي، وعلينا أن نكتشف هذا الحكم الشرعي ونظهره للناس لا أن نوجده. وإذا انتهى العلامة ابن عابدين في حاشيته (رد المحتار) ورسالته (تنبيه الرقود) إلى الصلح وهو ما تفضل به أخي الدكتور منذر قحف، فهذا كلام وجيه ولكن هذه فتيا، والفتيا –كما تعلمون- إخبار عن الله وليست ملزمة، فإذا قال أحد المتضررين أو المتضرر مثلًا أو الذي لم يتضرر يعني أحد الطرفين: أنا لا أقبل بالصلح، فماذا نقول؟ لو قال مثلًا أحد منا بالقضاء أننا نقضي عليه بالصلح فأقول: ليست كل البلاد –العربية والإسلامية- فيها قانون إسلامي بل كثير من البلدان العربية والإسلامية تعاني من القانون المدني، والقانون المدني لا علاقة له بما نحن فيه لا من قريب ولا من بعيد، فكيف نفرض على قاض مدني أن يقضي بصلح وهو أصلًا يحكم بقانون نابليون وليس بالفقه الإسلامي؟ إذن قضية القضاء غير واردة، وقضية الفتيا غير ملزمة. الصلح رأي وجيه لو أننا نلزم به الآخرين ولكن كيف؟ ما هي الطريقة إلى الإلزام؟ مثلًا في الجمهورية العربية السورية –إن شاء الله- أمل أن نحكم الفقه الإسلامي وهذا طريق سلكناه ولكن لم نصل إليه، لا يزال القانون المدني عندنا هو الذي يحكم، وكذلك في لبنان، وأظن كذلك في تركيا، في مصر. فماذا نقول؟ إذن لدينا مخلص واحد وهو أن نلحق هذه المسألة بالجوائح وإما أن نلحقها بنظرية الظروف الطارئة. وقد ألحقتها من قبل في رسالتي المتواضعة التي قدمتها في الكويت إلى المجمع الموقر ألحقت المسألة بالجوائح وقلت: إن هذه المسألة ينبغي أن تكون ألصق ما تكون بالجوائح. ثم لما وصلت إلى رسالة أستاذنا العلامة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا، عافاه الله وشافاه، وجميع المسلمين ولا سيما العلماء العاملين، ورأيت فيها توجهًا جيدًا موفقًا نحو الأخذ بنظرية الظروف الطارئة واستعادتها إلى فقهنا الإسلامي، ثم راجعت ذاكرتي فرأيت من كتب في نظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي فالدكتور عبد السلام التمامي مثلًا والدكتور فتحي الدريني كتب كل واحد منهما بحثًا قيمًا في نظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي. فإذا أحببنا أن نأخذ ريثما تعقد لذلك ندوة إذا أردنا أن نعقد ندوة بالمرضي الذي نحدد الندوة له. نقول: هذه الندوة ينبغي أن تبحث في نظرية الظروف الطارئة. نحدد المبدأ للندوة ولا نترك المنتدين ضائعين في الحلول هنا وهناك، يتيهون في متاهة الحلول الفقهية وكل منهم يأتي بشيء ويناقضه الآخر، ثم ينفضون ولا يتفقون على شيء كما حل في الندوات السابقة التي نظمها المجمع الموقر مشكورًا ولا سيما الأمانة العامة والرئاسة مشكورين في قضية العملات وأظن أنها أكثر من ندوة، ومع ذلك لم يصل المجمع إلى شيء.

ص: 1188

أخي الدكتور منذر –مثلًا- يقول: إن للصلح شروطًا وأبحاثًا، وقلت له: شيء جميل. فلنعقد ندوة للصلح أو لنعد ندوة مثلًا للظروف الطارئة، ولنعقد ندوة للجوائح. ثلاث ندوات، لا مانع من ذلك. وكل اجتماع يغذي ويثري الاجتماع الذي قبله حتى نخرج بنتيجة –إن شاء الله- ترضي الله ورسوله، وتظهر حكم الله –سبحانه وتعالى في هذه الواقعة. والله –سبحانه وتعالى أعلم وشكرًا..

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أفتتح كلمتي بالتنويه بفضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي الذي استطاع في وقت وجيز على أن يأتي على هذه البحوث التسعة، وأن يلخصها، وأن يقسم التوجه العام إلى توجهين، توجه تفرد به فضيلة الدكتور العلامة علي السالوس، وثمانية آخرون تفردوا بتوجه آخر.

وبمقدار ما أشكره أعذره لضيق الوقت، فأنا لست مع الدكتور علي السالوس فيما ذهب إليه، ولا مع إخواني السبعة فيما ذهبوا إليه. ذلك أردت أن أبين وجهة نظري في هذه القضية التي هي بحث لم أجد طيلة حياتي قضية شغلتني وراجعت فيها رأيي ونظرت ثم عاودت النظر بهذه القضية التي بين أيدينا اليوم، وذلك أنني وجدت أن هذه القضية تقوم على قطبين. القطب الأول هو العدالة، بمعنى نفي الظلم عن كل متعامل، وما جاءت الشريعة في تقريراتها وفي أحكامها العملية إلا لرفع الظلم عن الناس، وكانت الشريعة هي التي تلجم كل من يريد الظلم أو يقع منه الظلم فتلجمه عن ظلمه. وهذا الذي أقرض أو له على شخص يساوي ما يمكن له في حياته أمورًا فإذا سقطت هذه القيمة وأصبح ما يتقاضاه لا يساوي شيئًا يختل ميزان العدالة. ثم قطب آخر وهو أن الالتزام لما دخل في الذمة دخل بشيء معلوم وهذا باق إلى الآن، فكيف نستطيع أن نوفق بين عدالة لا ظلم فيها وبين الغرام الذي عليه دين آجل في المؤجلات، كيف نلزمه بغير ما التزم به؟ وتتبعت فقط المذهب المالكي في أصوله وفي كتبه وفي أمهاته، ووصلت يدي إلى المخطوط وانتهيت إلى أنه إذا قلنا بالربط القياسي، فالربط القياسي الذي وصلنا إليه بمقتضى العدالة يجب أن تكون العدالة شاملة لكل العقود التي تقع بين المتعاملين، وهذه العدالة لو طبقناها لاختل النظام العالمي اختلالًا لا يمكن أن ندرك مداه. فضربت أمثلة لهذا، فنأخذ القرض الذي تحدث الناس عنه كثيرًا فإذا أقرضت شخصًا ألف ليرة أو مليون ليرة لبنانية فكيف أتقاضى منه مليون ليرة لبنانية بعد أن تكون قيمتها قد هبطت الهبوط المعروف؟ هذا المقترض هو من؟ عندنا المقترضون منهم أجراء منهم موظفون، فموارد رزقهم إنما هي من أجرتهم، أو من رواتبهم مع الدولة، وهذه الرواتب أو هذه الأجور لا تسير سيرًا متوازنًا مع التضخم، بل إننا نجد الأجزاء والموظفين يسعون إلى تحقيق هذا التوازن، فعندما يضاف إليهم إضافة تكون الحياة قد غلت قبل ذلك بكثير، وهو توازن مختل عندهم. فمعنى هذا أنه إذا ألزمنا المدين بأن يدفع للدائن حساب التضخم الذي وقع ذلك أننا ظلمناه وأخذناه من قوته وقوت عياله وأننا ضغطنا عليه ضغطًا فيه ظلم إذا لم نعوضه من التضخم. الديون الآجلة، فالدين الآجل الناشئ عن بيع، البائع عندما باع دينًا آجلًا هو في حسابه حسب الزمن وحسب التضخم وبنى على ذلك العقد، فإذا أضفنا للذي اشترى مقدار التضخم الجديد فمعنى ذلك قد حملنا من اشترى التضخم مرتين، مرة حسب تقدير البائع، ومرة أخرى حسب الواقع الذي حدث، وفي هذا ظلم للمدين. البنوك التي لها حسابات تحت الطلب والتي تقرر قطعًا أنها قرض فمعنى هذا ومعنى العدالة أنه عندما يتقاضى قرضه أو يتقاضى من الحساب أن يتقاضاه مع ما أضيف إلى ذلك أن كل البنوك إسلامية أو غير إسلامية فهي تأخذ هذه الودائع الائتمانية وتعمل بها، فلو حملنا البنوك الإسلامية أو غير الإسلامية على دفع نسبة التضخم فمعنى ذلك أنها قد أفلست تمامًا؛ لأنه كثيرًا ما يكون تسارع التضخم أكثر من الأرباح التي تحققها هذه البنوك.

ص: 1189

القراض، ما هو رأس مال القراض؟ فإذا انتهينا بعد سنتين أو خمس سنوات ووقعت تصفية، الربح على ماذا يحسب؟ أيحسب على أصل المال المقبوض، أو يضاف إلى ذلك التضخم؟ فلو فرضنا أن رأس المال هو مليون دينار وجاء الربح خمسمائة دينار ولن التضخم هو كان بستمائة دينار، فمعناه أن العامل لا يقبض شيئًا؛ لأن صاحب رأس المال يريد أن يأخذ رأس ماله حسب المقاييس.

قضايا النزاع في الديون، كثيرًا ما تتأخر وتكون قضايا معقدة ويحصل التضخم في هذا الأثناء أو كل واحد منهما محق، وأضرب لذلك مثلًا أو قد يكون أحدهما مبطلًا. مثلًا، شخص أخذ من البنك أو من شخص آخر ثمن باخرة ثم دفع له دينه ولكن احترقت وثائقه فقام عليه الدائن بالمطالبة بحقه، واستمرت القضية أربع أو خمس سنوات ولما لم يجد المدين الوثائق حكم الحاكم ضده، فمعنى هذا أنه يحكم ضده بالدين الأصلي وبالتضخم الذي قد يصل إلى 100? والدولة لها حقوق على المواطنين، فهل تتقاضى حقوقها التي هي تقوم بها بواجباتها حسب التضخم تتقاضاها حسب التضخم أم حسب ما صدر به الميزان في أول السنة؟ فلو فرضنا أنه في آخر السنة تزاد بـ 15? فمعنى هذا أن مبلغ الدين

أن الدولة إذا كان لها دين على شخص فإنها تطالبه بنسبة التضخم. فالقضايا بالربط بالقياس

وذلك لأن نظام النقد العالمي هو نظام قد تهرى، وإذا كان قد تهرى فمعنى ذلك أنه كلما حاولت أن ترقعه اخترق من ناحية أخرى كما يقال في المثل العربي (اتسع الخرق على الراقع) ؛ لأن النظام النقدي العالمي ليس كما سمعت اليوم أنه يعود فقط إلى الدولة، والدولة هي التي تصدر النقود. الدولة لها مقام ضعيف في التضخم. التضخم ناشئ من هؤلاء المضاربين وهؤلاء الجماعة الذين هم في الظل والذين لا ضمير لهم ولا وطن لهم ولا دين لهم، وإنما همهم فقط هو تحصيل أكثر ما يمكن من المال. وقد سمعت أن أحد اليهود في هذه الأيام، في ظرف الأسبوع، ربح من هذا العبث الذي وقع في الدولار مليار دولار؛ لأنه أخذ يبيع في الدولارات ويشتري في العملات الأخرى، وهو أمريكي. فهو لا يهمه أن يزيد سوق الدولار، أو أن تخسر دولته، أو أن تنتهي. هؤلاء هم الذين دخلوا في القضية. ثم إن هذا اللعب في البورصات واستخدام أشياء وهمية هي دخلت في الكتلة النقدية وأصبحت الأوراق النقدية لا تمثل في بعض الدول والدول الكبرى كفرنسا إلا 25? الكتلة النقدية هي أعظم وأفخم من الأوراق النقدية الموجودة. فإذن ليست الدولة هي التي تحدث التضخم ولكن هي عوامل كثيرة نشأت أول ما بدأت من مفهوم الحرية التي أعطيت للفرد في الغرب على أنه يفعل ما يشاء. ولذا فإني عندما قدرت الموضوع من جميع جوانبه لم أستطع أن أقول بأن هذه قاعدة تطبق على كل الالتزامات الآجلة ولكن للمتداينين أن يشترطا فيما بينهما شرطًا أن يكون قضاء الدين حسب مقياس معين يتفقان عليه، فإذا اشترطا ذلك فهذا شرط يمكن تنفيذه؛ لأن كل واحد منهما قد دخل عليه، وكل واحد منهما يريد أن يحصن نفسه، ومن لا يرغب في هذا الشرط لا يقوم به. فالحل الوحيد الذي وجدته هو أن يرجع المتعاقدان إلى ما يتفقان عليه سواء جعلا المعيار الذهب أو عملة بلد اقتصادها سليم يصمد

أو سلة عملات، فعلى أية طريقة واضحة ومحددة من البداية يكون الاعتماد. وقيمة الكساد، تعرضت في كلمتي إلى أن قيمة الكساد لا يمكن أن نربطها لا بالثلث ولا بالعشر ولكن هي مرتبطة بالدين؛ لأن الدين في ذاته تارة تكون قيمته كبيرة. فإذا كنا أخذنا دينًا بخمسمائة مليون لشراء طائرة مثلًا فإن التضخم بـ 6? يعطينا مقدارًا كبيرًا، بينما 10? في مائة دينار هي مما يتسامح بها. فتصبح القضايا، قضية التضخم هي مرتبطة لا فقط بالنسبة للتضخم ولكن بكمية النقود مع نسبة التضخم معًا. والقضية فيها من المشاكل كما حاولت أن أبسطه لكم باختصار وهو موجود في بحثي. وأشكركم على حسن الاستماع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 1190

الدكتور رفيق المصري:

بسم الله الرحمن الرحيم.

أولًا: أحب أن أبين أن أستاذنا المعلق الأول ابن بيه وإنني أشهد بأنني كلما جالسته استفدت منه ولا أقول هذا مجاملة ولكن في الذي أبداه أخالفه فيه. فالرأي الذي أبداه حسبما أذكر مختلف تمامًا عن الآراء المعروضة في هذه الدورة. فالنقود الورقية –كما أذكر- أعتبرها فلوسًا وعنده الرأي المختار أن الفلوس عروض، وسأعود إلى هذا الموضوع بعد قليل.

النقطة الثانية: كيف نستطيع معالجة هبوط قيمة النقد؟ أنا أرى أن هناك أربعة بدائل مما قد استفدناه من الطروحات المختلفة سواء في هذه الجلسة أو في ندوات أو مؤتمرات سابقة.

البديل الأول: العدول عن النقود الورقية وأمثالها، ولكن هذا البديل في الواقع صعب جدًّا على كل بلد بذاته؛ لأن الأمر يتعلق بالنظام العالمي كله.

البديل الثاني: وهو البديل الذي تزعمه شيخنا ابن بيه، العدول في النقود الورقية، هجر هذه النقود وأمثالها. اسمحوا لي أنا أقول بدائل ولا أقول حلولًا، لم أختر بعد الحل المناسب ولم أرجح. البديل الثاني هو بديل شيخنا ابن بيه أن النقود الورقية فلوس، والفلوس في بعض المذاهب عروض. والعروض سيأتي بعد ذلك بقليل الأثر المترتب على هذا الرأي أو هذا البديل.

البديل الثالث: النقود الورقية توفر بقيمتها بعد الوقوع. هذا ليس من الـ Indecsation بالفرنسية، وقد سبق أن بينت هذا سابقًا في بعض الأوراق وهي الآراء التي طرحها الفقهاء كالحنفية وسواهم، ولا سيما في حاشية ابن عابدين أو في رسالة ابن عابدين الشهيرة والمهمة جدًّا.

البديل الرابع: وهو الذي غالبًا ما يأتي ذكره على ألسنة الاقتصاديين وفي كثير من الأوراق المطروحة، أن توفى النقود بقيمتها شرطًا قبل الوقوع منذ البداية، منذ العقد.

بعد ذكر هذه البدائل الأربعة أود أن أذكر لكم، يعني بين يدي اقتراح سأقدمه بعد قليل بدون أن أطيل عليكم، أذكر بعض الحجج التي هي في صالح الربط، الربط القياسي.. أو.. وبعض الحجج التي تناهض هذا الربط، وسنرى بعد ذلك ماذا سيكون يعني الرأي الذي أميل إليه حتى الآن.

ص: 1191

أقول:

الحجة الأولى: وهذه فيها إشارة في الواقع إلى رأي شيخنا ابن بيه، أقول فيها: لا ريب أن ربط القروض

أفضل شرعًا من اعتبار النقود الورقية عروضًا لا نقودًا، بحيث يجوز –بحسب هذا الرأي المطروح- بيع نقد ورقي بنقد ورقي مجانس له أو مختلفًا عنه بالتفاضل والنساء، أي التأخير. فبعض الفقهاء المعاصرين أجاز ذلك معتبرًا أن النقود الورقية ليست من الأموال الربوية، فرأيهم هذا يفتح باب ربا النسيئة في قرض هذه النقود، فتباع هذه النقود بنقود أكثر منها نساء وهذا ربا نسيئة بلا ريب –لأن عندي كما أختار وأرجح وهو الذي عليه جمهور العلماء المعاصرين أيضًا- لأن البدلين متجانسان في اعتبار الشرع، ومتفاضلان مع النساء –مع التأخير- أو تباع النقود الورقية بنقود ورقية أخرى أو بذهب أو بفضة –أيضًا- مع التفاضل والنساء، فتعقد العقود الربوية في صورة بيع سلم، عروض في بيوع سلم، وحقيقتها أنها ربا نسيئة أو صرف مؤخر أو مؤجل، وكلاهما لا يجوز. وهذا الرأي لا ينفرد ربما به شيخنا ابن بيه كما فهمت من عرضه السابق، وإنما يقول به أيضًا بعض الأساتذة من المصريين. فربط القروض أفضل من مثل هذه الفتاوى والمقترحات؛ لأن الربط إذا كان ثمة تدهور في قيمة النقود فإنه محدود، محدد؛ لأن الزيادة في المبلغ النقدي مضبوطة بحد معين، وهو فرق القوتين الشرائيتين زمنيًّا. القوة الشرائية عند العقد والقوة الشرائية عند الوفاء، وهي زيادة صورية وليست زيادة حقيقية باعتبار السلع التي اتخذت قاعدة للتثبيت هنا مقياسًا كالقمح مثلًا.

الحجة الثانية: المتعاقدان إما أن يرفضا النقود الورقية، وإما أن يرفضا المعاملة أصلًا كالقرض مثلًا، يمنع القرض إذا كان التدهور مخيفًا إلا من يتحمل هذا الفرق الفاحش. إذن المتعاقدان إما أن يرفضا النقود الورقية، وإما أن يرفضا المعاملة أصلًا، وإما أن يتعاملا بنقود أو سلعة أخرى، وإما أن يلجآ إلى الربط القياسي. فأما رفض النقود فهذا ليس في مكنتهم؛ لأن إصدار النقود من اختصاص السلطان، ولكن إذا لم يقع أمر في مكنتهم فهناك أمور أخرى تقع فيها، ولا ينبغي لهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي حتى حيال الممكن لهم. وأما رفض المعاملة فهذا غير مرغوب فيه لما فيه من تعطيل لمصالح الناس وحاجاتهم وضروراتهم. وأما التعامل بنقود أو سلعة أخرى فقد رأينا ما فيه من كلفة ومشقة في بحوث سابقة. فلم يبق إذن إلا الربط ويكون هذا حلًّا مؤقتًا –أصلًا سياسيًّا من باب السياسة الشرعية مثلًا- بين المتعاقدين فيما يستطيعانه بأنفسهما مادامت هذه النقود لا تصلح للمدفوعات المؤجلة، وربما يكون هذا بمثابة ضغط من أجل الإصلاح النقدي إذا ما رأت السلطة النقدية إعراض الناس عن الاعتراف بهذه النقود في ميدان مهم من ميادين الوظائف النقدية وهو ميدان المبادلات المؤجلة.

ص: 1192

الحجة الثالثة: حجة أخرى في صالح الربط، طبعًا هذا لا يمنع من أن يتسامح بعض المقرضين في القروض القليلة المبالغ أو الممنوحة للفقراء فلا يلجئون إلى الربط ويعتبرون هذه من باب الإرفاق بالمقترضين. إرفاق فوق إرفاق، إرفاق بالقرض أصلًا وإرفاق أيضًا نتيجة هبوط القوة الشرائية هبوطًا فاحشًا.

الحجة الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأصناف الستة ((الذهب بالذهب.. إلى آخر الحديث)) يفيد أن التساوي مطلوب أيضًا في القروض وقد تحقق لا باعتبار العدد بل باعتبار القيمة أي القوة الشرائية كي لا يهضم المقرض والأصل في رد القرض هو الوزن، فأمنحك وزنًا من الذهب أو من الفضة أو من القمح فترد إلى مثله سواء بسواء. وقد يلجأ إلى العدد إذا كان معبرًا عن الوزن وإلا فلا. والعدد في النقود الورقية لا يصلح؛ لأن العدد قوته في زمن مختلفةٌ عن قوته في زمن لاحق، والوزن والعيار لا يمكن إرجاء المبادلة به؛ لأن النقود الورقية لا اعتبار لوزنها في المالية، أي في القوة الشرائية، وإنما الاعتبار لقيمتها الاسمية والفعلية فلم يبق إذن من أساس لوفاء القرض إلا اعتبار القيمة. لا أزال أذكر الحجج في صالحه وهناك حجج أخرى.

الحجة الخامسة: ما يدعو إلى الربط هو طبيعة العملات الحديثة وأهمية مبلغ الدين، وطول مدة الدين، ومدى حدة التضخم. وهناك قروض يمكن أن تتحول إلى عمليات قراض إذا استخدم المال في عمليات إنتاجية، لكن تبقى ثمة قروض يحتاج إليها ولا يمكن أن تتحول إلى إقراض كما في الإقراض إلى الاستهلاك أو إلى الحكومة فلا بد فيها من صيغة مناسبة لا تلحق الأذى والظلم بالمقرضين.

الحجة السادسة: الربط ليس إلا قرضًا من النقود مقومًا بسلعة معينة، وهو نظير تقديم حصة من العروض في شركة مقومة بالنقود، فكما نحتاج أحيانًا إلى تقويم العروض بالنقود قد نحتاج إلى العكس أي تقويم النقود بالعروض حفظًا للحقوق من ضياعها على أصحابها.

الحجة السابعة: إذا أراد المقرض أن يحدد إحسانه ومعروفه فلم يرد أكثر من القرض مع رده بمثل مساو لقيمته فلماذا لا نقبل هذا الإحسان منه؟ بل نصر عليه أن يقدم إحسانًا فيه مخاطرة بمبلغ مجهول، إنه يريد التبرع بقرض محدد لمدة محددة مع المحافظة على قيمة قرضه، فلماذا نطلب إليه أن يتبرع بهبوط قيمة قرضه إلى مدى غير محسوب وغير محدد مسبقًا ولا معلومًا؟ ولا بد من القول بأن منح قروض مربوطة أو مثبتة أولى من عدم أي قروض خوفًا من تدهور قيمتها.

الحجة الثامنة: إذا جاز الربط القياسي –أي بمقياس معين كالقمح أو سواه- في القرض فجوازه في غير القرض أولى كالمهر المؤخر أو الأجور أو الإيجارات أو ما مشاكلها من معاوضات مؤجلة. ففي القرض كانت الخشية من الوقوع في ربا النسيئة، أما في هذه المعاوضات فلا خوف؛ لأن ربا النسيئة أو النساء لا يقع فيها. فأين الربا فيما لو تعاقد العامل مع رب عمله على أن ينال أجرته الشهرية مبلغًا معلومًا من النقود بقيمة ألف كيلو غرام من قمح معين بسعر التجزئة أو تعاقد الزوجان على مهر مؤخر بهذه الصورة؟ ولموضوع الربط أهمية حتى في الشركات وذلك في حالة شركة مضاربة عندما يقدم رب المال نقوده الورقية إلى العامل فإذا أعاد إليه العامل رأس ماله عددًا وكانت العملة قد تدهورت فإن العامل يكون قد اشترك مع رب المال في أرباح رأس ماله وهو ما يسمى بالأرباح الرأسمالية –مع أن حقه متعلق فقط بالأرباح الإيرادية التي اشترك فيها العالم ورأس المال - المقصود بالأرباح الإيرادية التي تنشأ من جهد العامل برأس المال ولا حق له بالأرباح التي تلحق برأس المال بدون جهد منه. وكذلك في شركات الأموال إذا قدم الشركاء حصصًا مالية بعملات مختلفة ثم تغيرت أسعارها عند القسمة تغيرًا متباينًا –أي في اتجاهات متخالفة- وبنسب مختلفة، فإذا رد لكل شريك رأس ماله المدفوع عددًا ظلم الشريك الذي هبطت نقوده وربح الشريك الذي ارتفعت نقوده، والعدل يتحقق لو قدم الشركاء أموالهم بنقود موحدة وكانوا كلهم شركاء بالمال ولم يكن بينهم شركاء بالعمل. هذه بعض الحجج التي يمكن أن تذكر في صالح الربط القياسي بصورة خاصة لمسألة القروض، لكن هناك حجتان أخريان في غير صالح هذا الربط، وليس الأمر أن أقول لكم سلفًا ليس الأمر بكثرة عدد الحجج. أحيانًا يكون بنوعية هذه الحجج. من الحجج التي تذكر لعدم الربط ولعدم الأخذ بالفتوى بالربط، مثلًا:

هناك حجة مضادة لجميع هذه الحجج التي تقدمت، مفادها أن ربط القروض قد يؤدي إلى فائدة اسمية مقدارها 20? مثلًا، إذا افترضنا أن معدل التضخم في بلد من بلدان العالم الثالث مثلًا بلغ هذا المقدار، هذا في حين أن الأرباح التي يحققها رأس المال المستثمر قد لا تبلغ هذا المقدار برغم أن الاشتراك في الربح فيه مخاطرة يخلو منها ربط القرض، ذكر لي هذه الحجة الشيخ الضرير في عام 1408 هـ ويذكرها عدد من الاقتصاديين والخبراء في الاقتصاد الوضعي.

ص: 1193

حجة أخرى: ربما يؤدي فتح باب الربط إلى أن يستغل فيكون هناك تحكم فيدخله الربا بشكل أو بآخر.

هذه هي بعض الحجج في صالح الربط أو عدمه، وأنتقل منها إلى شيء آخر.

عندنا الآن في قرار المجمع –طبعًا هذا الموضوع عرض مرات متعددة وأجل مرتين- في دورة الكويت عام 1409 هـ يقول التالي باختصار:

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في كذا، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تغير قيمة العملة واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم 9 في الدورة الثالثة قرر بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما.

أنا في الواقع لا أخالف هذا القرار إلا في عبارة واحدة لو شاء العلماء أن يأخذوا بمثل هذا القرار أو ألا يعدلوا فيه أي تعديل لكن أنا أرى أن هذه العبارة (فيها صفة الثمنية كاملة) عبارة عليها مأخذ. أنا لا أستطيع أن أقول: إن الفلوس ولا النقود الورقية من باب أولى لها صفة الثمنية كاملة فإن هذه النقود الحديثة عاجزة عن أداء وظائف النقود جميعًا حتى لو أخذتم بالرأي القائل بأن الديون توفى بأثمانها. فيجب أن تكون الصياغة دقيقة؛ لأن هذه الصياغة معرضة للترجمة ولأن يقرأها علماء وخبراء عالميون.

الرئيس: يعني تحذف كلمة (كاملة) ؟

الدكتور رفيق المصري:

أنا ممكن أن أقترح بعد الجلسة هذه عبارة لائقة بدون أن نغير الحكم، لكن يجب أن تكون كلماتنا دقيقة؛ لأن هذه المسألة.. لا أقول: إنه صفة الثمنية هي لها صفة الأثمان من حيث بعض الوظائف، أما من حيث إنها مستودع للقيمة أو أنها صالحة للمدفوعات المؤجلة فلا يصح هذا الكلام. فليست لها صفة الثمنية كاملة كأثمان الذهب والفضة. هذه نقطة. هذا حول قرار المجمع.

أنا لي اقتراح حتى لا يكون هناك تكرار من جهة، ومن الجهة الأخرى من الطرف الآخر حتى لا يكون هناك أيضًا قرارات تؤخذ في صالح الربط وهي مسألة في غاية الحساسية من الناحية الفنية ومن الناحية العالمية والوطنية أيضًا، حتى لا نتسرع أقول: يمكن للمجمع مثلًا كنوع من الاقتراح أن يخضع للنقاش، أقول: إنه قد يكون هناك مجال لإباحة الربط القياسي من حيث المبدأ إذ أقترح أن يباح الربط القياسي من حيث المبدأ بشرط أنه في المستقبل أي صورة محددة للربط القياسي تتخذها جهة معينة دولة أو غيرها، أن توصف هذه الصورة لمجمع وصفًا دقيقًا وتعرض على المجمع. هذه نقطة.

النقطة الأخرى: الربط القياسي موجود في العالم ولكن بصفة جزئية يمكن أن يطلب من الخبراء في دورات لاحقة أن يقدموا دراسات دقيقة حول صور عملية واقعة من بعض النظم الاقتصادية ومن مختلف البلدان تعرض على المجمع للدراسة وتقر صورة بصورة، وأنا لا أرى أن يوافق على الربط القياسي بصورة إجمالية؛ لأن الفتوى بالتفصيل. وشكرًا لكم.

ص: 1194

الدكتور عمر جاه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، إمام المتقين ورسول رب العالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

فضيلة الرئيس، أتقدم بكلمة شكر إليكم وسوف أكون موجزًا في هذا التدخل. وتدخلي يتلخص بنقطتين أساسيتين:

النقطة الأولى: تتعلق بالموضوع الذي دار النقاش حوله بالأمس وهي قضية جوهرية أساسية تمس مستقبل الأمة بدولها وشعوبها. وأريد أن أذهب إلى مثل ما ذهب إليه كثير من أصحاب الفضيلة. وأخص بالذكر منهم الدكتور عبد السلام وفضيلة الشيخ المختار السلامي، والدكتور السالوس. ومن المؤكد أن من قواعد الشريعة في التعامل بين الناس مسلمين وغير مسلمين هو إقامة العدالة ورفع الظلم، والمحافظة على حقوق الخلق مسلمين وغير مسلمين، سواء كانت هذه الحقوق حقوقًا جماعية أو حقوقًا فردية. وهدف المجتهد خصوصًا المجتهدين من المسلمين الذين سبقونا ومهدوا لنا طريق الاجتهاد كان استنباط الأحكام الفقهية فيه استنباط وتحقيق هذه المقاصد. فالذين ذهبوا إلى القول فيما يخص كساد النقود في رد المثل أو رد القيمة كلهم يهدفون إلى تحقيق مقاصد الشريعة، لا أشك في هذا أبدًا، لكن المسألة ليست مسألة فقهية بحتة. هي مسألة اقتصادية في المقام الأول. فمسألة الكساد والتضخم أريد أن أصنفها إلى ثلاثة مستويات.

فمثلًا فيه كساد يؤدي إلى انهيار النقود انهيارًا تامًّا أو التعامل بهذه النقود. وهناك كساد يتعلق بانخفاض القيمة أو هناك تذبذب يؤدي إلى ارتفاع القيمة، وفي كل الحالات الثلاث ينبغي فيما أرى التعامل مع هذه القضية؛ لأنها قضية ملحة وقضية اقتصادية، فالمسألة اقتصادية أكثر من أن تكون مسألة فقهية. فالمطلوب إذن كما أشار إليه كثير من العلماء وخصوصًا الدكتور عبد السلام والشيخ المختار السلامي هو ضرورة التوجه إلى إيجاد هيئة متخصصة خصوصًا وهذا يتمشى مع ما اقترح به فضيلة الشيخ الفرفور بالأمس فيكون في شكل اجتماع للخبراء أو مؤتمر أو أي شكل آخر، ويكون البحث فيه بحثًا اقتصاديًّا حول هذه المشكلة من جميع جوانبها. فالقيام بهذا ضرورة للأسباب التالية وهي أن هناك جزءًا كبيرًا من العالم الإسلامي تعرض لمشكلة الانخفاض أو تخفيض قيمة العملة في الأشهر الماضية وأخص بالذكر دولًا من أعضاء هذا المجمع من الدول الإفريقية الناطقة باللغة الفرنسية، وقد حدث خفض قيمة العملة فيها بنسبة 50?، وهناك مشاكل متعددة تتعلق بهذه القضية، ولا شك أن هذه الدول تقوم الآن بترتيبات وبإجراءات لمواجهة هذه المشكلة، لكن الإجراءات الاقتصادية التي تتخذ حاليًا تحتاج إلى تكييف فقهي يتمشى مع الشريعة، وهذا هو دورنا وهذا هو واجبنا هنا.

ص: 1195

فأرجو مرة ثانية كما سبق وأن أشرت إليه إن هذا المجمع وأنا على علم بأننا ملمون بهذه القضية وأنا على علم بأن رئيس الجلسة والأمين العام يهتمان بهذه القضية أكثر مما اهتم بها، لكني وأنا أمثل إحدى هذه الدول وأنا أقرأ إليكم الانطباعات التي جئت بها منها. إن هذه الدول تتطلب أو تحتاج إلى حل فقهي سريع تستطيع به أن تبرر المواقف التي تتخذها الآن تجاه اقتصاد العالم والتعامل مع الدول الأخرى. فالمسألة في حاجة إلى مزيد من الاهتمام ومزيد من العمل الجدي. ولا يعني هذا أننا لا نعمل جديًّا ولكننا نحتاج إلى دفع كثير.

والملاحظة الثانية: هي ملاحظة إجرائية وهي تتعلق بأسلوب العمل في هذا المجمع. ففضيلة الرئيس بحزمه وبحنكته استطاع أن يدير هذه الجلسات بجدارة لكنني ألاحظ –وهذه ملاحظة شخصية وقد أكون مخطئًا فيها- أن هناك اهتمامًا كبيرًا بالجدل الفقهي أو التعليق على سلبيات بعض البحوث أكثر من الاهتمام بتقديم حل يمكن التعامل معه، وإذا كان هناك من يريد أن يعلق ويحتاج إلى وقت أكثر من عشر دقائق أرجو من الرئيس أن يوجه وأنا أوافقه على هذا أن هذا الشخص يكتب ما في جعبته من الأفكار ويقدمه إلى الرئاسة ويكتفي بمدة لا تزيد عن عشر دقائق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ الشيباني:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد،

فإني أشكر العارض على عرضه القيم الذي حرص فيه على أن يكون العرض شاملًا لجميع البحوث التي قدمت في هذا الموضوع. كما أشكر جميع الباحثين على بحوثهم القيمة.

أما ملاحظتي فهي أن هذه المسألة لم تكن جديدة بل وقعت بالمسلمين منذ مئات السنين، وذكر الفقهاء فيها الحكم بوضوح وجلاء. وأحب أن أقول ما قال فيها الفقهاء.

قال الزرقاني في شرحه لمختصر خليل: وإن بطلت فلوس ترتبت لشخص على آخر، أي قطع التعامل بها بالكلية وأولى تغيرها بزيادة أو نقص مع بقاء عينها، فالمثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها أو التغير. ولو كانت حين العقد بمائة درهم ثم صارت ألفًا به كما في المدونة أي عكسه؛ لأنها من المثليات، أما إن عدم جملة في بلد تعامل المتعاقدين وإن وجدت في غيره فالقيمة واجبة على من ترتبت عليه مما تجدد ووضح. هذا كلام الزرقاني وسلمه البناني بالسكوت، وقال الرهوني في تسليمه له: هذا مذهب المدونة. ذكره في موضعين، في كتاب الصرف وفي كتاب الرهون، وعليه عول القاضي عبد الوهاب في تلقينه، وابن الحاجب في تفريعه، واللخمي في تبصرته، وابن يونس في ديوانه، وابن رشد في أجوبته، وابن عساكر في إرشاده، ولم يذكروا فيه خلافًا، بل صرح ابن رشد أنه المنصوص لأصحابنا من أهل العلم. ثم قال: وذكره جماعة خلافًا، ورجحوا ما اقتصر عليه هؤلاء الذين ذكرنا كابن شاس، وابن الحاجب، وأبي الحسن، والمصنف في التوضيح، وابن ناجي في شرح المدونة، مصرحين بأنه المشهور، وابن عرفة وصاحب الشامل وأبي سعيد وابن لبد في تكملته وغيرهم ممن يطول بنا ذكرهم. انتهى.

ص: 1196

ثم ذكر عن نوازل بن الحاج، ونزول المعيار أن ابن عتاب أفتى في ذلك إلى قيمة السكة مقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، وزاد صاحب المعيار: أن ابن عتاب أمر قاضي قرطبة أن يحكم فتواه ولا يخالفها. ومع أن المازري لم يحك إلا قول المدونة الذي مشى عليه جماهير الفقهاء، فإنه قال: وكان شيخنا عبد الحميد يعول على مذهب المدونة فأوجب قيمة الفلوس؛ لأنه أعطى شيئًا منتفعًا به لأخذ منتفع به فلا يظلم بأن يعطى مالًا ينتفع به فلا يظلم بأن يعطى مالًا ينتفع به. ثم إن الرهوني قال نقلًا عن ابن ناجي في شرحه للمدونة: وحاصل ما ذكر في الكتاب أنه يتعين أخذها إن كانت موجودة وهذا هو المشهور، والشاذ يقضي بقيمتها. وعليه فإننا أمام قولين أحدهما راجح مشهور والآخر شاذ أفتى به ابن عتاب الأندلسي وعبد الحميد التونسي، فهل تفتي بالراجح والمشهور وهذا هو رأيي أم نفتي الشاذ؟ فالمسألة مطروحة أمام المجمع الموقر. نعم، هناك قول لا بأس به وأيده الأجهوري أنه يفرق بين أن يكون المدين مماطلًا وغير مماطل. قال الصاوي: وظاهر لو حصلت مماطلة من المدين حتى غلبت الفلوس وبه قال بعضهم، وقال بعضهم: هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو من ما آل إليه أمر الجديدة الزائدة على القيمة. قال: وهذا هو الأظهر لظلم المدين (هذا كلام الأجهوري) وقاسه على ما ذكر المواق، قال: كمن امتنع كمن عليه طعام فامتنع ربه من أخذه. وما أشار إليه ذكره المواق فقال: من عليه طعام فأبى الطالب من أخذه ومكنه المطلوب مرارًا حتى غلا الطعام قال مالك: ليس عليه المكيلة وإنما عليه قيمته. انتهى الكلام.

إذن معناه أن المسألة لا تحتاج إلى اجتهاد، وأمامنا قولان وهذا كلام جماعة الأئمة مع أن الأئمة الآخرين غير الإمام مالك كان

في هذا الموضوع حسبما شاهدتم. معنى ذلك أن قوله: إذا بطلت الفلوس وأصبحت لا تعمل، هذا يعتبر أعلى حد من التضخم؛ لأن هناك زيادة أو نقصًا، أما أن يكون هناك.. فيقال: إنها لا تعطى إلا هي!! المسألة مصيبة، والله –تبارك وتعالى ذكر المصيبة {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]

إذن لنكن أرحم من الجماعة التي قبلنا أو نكون مثلهم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

ص: 1197

الشيخ عبد الله بن منيع:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. وبعد،

أشكر الله –سبحانه وتعالى ثم أشكر رئاسة هذا المجمع وأمانته الأمينة على إتاحة الفرصة لإعادة النظر في هذا الموضوع، فهو في الواقع موضوع له أهميته وله خطورته، وما أحصى من يستغرب صدور هذا القرار مع أني –وأحمد الله- ومثلي عليه جميعًا في أن المجمع وفق في كل قراراته إلى ما فيه تيسير أمور المسلمين، والتوفيق فيما بينهم، إلا هذا القرار فهو في الواقع محل نظر ومحل استغراب لدى مجموعة كبيرة ممن يتحدثون في هذا الموضوع.

الحقيقة أن الأمر –إعادة النظر فيه، جزاكم الله خيرًا- في الواقع في محله، والخليفة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه وأرضاه- يقول وأنتم تعرفون مقالته: ألا لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وأهديت إلى الرشد أن تعيد النظر في الحق، فمراجعة الحق فضيلة، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. ولا نقول: إنه باطل، ولكن نقول: إنه يحتاج إلى إعادة نظر، ونرجو الله –سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع إلى ما فيه إحقاق الحق وبيانه والأخذ به.

الأمر الثاني: -حفظكم الله- القول بأن جمهور العلماء ذهبوا إلى الأخذ برد المثل وأنه ينبغي لنا ألا نتجاوز هذا القول. في الواقع أننا حينما نقول بالقيمة فأعتقد أننا لم نخرج عن قول جمهور العلماء فضلًا عن القول الآخر. فجمهور العلماء –رحمهم الله لم يقولوا بهذا القول إلا حفاظًا على ألا يكون هناك ضرر على الدائن ولا على المدين، ولكن إذا ترتب على ذلك ضرر وانتفت المثلية من حيث الواقع ومن حيث المعنى، لا قيمة للمثلية الشكلية، ما قيمتها؟ لو الآن أبطل السلطان الأوراق النقدية وكان في ذمتك لأخيك مبلغ من هذه الأوراق النقدية فوافيته بهذه الأوراق المبطلة وهي في الواقع مثلية، أخذت مثل أو لك مثل هذه الأوراق، هل نقول هذه المثلية؟ فالعبرة –حفظكم الله- بالواقع، والعبرة بالمعنى، والشكلية لا قيمة لها إلا إذا كانت متفقة مع الواقع. فنحن حينما نقول بأننا خالفنا جمهور فقهائنا السابقين حينما نقول بالقيمة، نحن في الواقع نتقول عليهم ونقول لهم ما لم يقولوه هم، رحمهم الله رحمة واسعة- لم يقولوا هذا القول إلا لأنهم يتحدثون عن عمل معدنية من ذهب وفضة وغيرها، لها قيم ذاتية، فإذا نقصت فنقصها لا يتجاوز العشر أو لا يتجاوز الثلث على وجه الأكثر. فنحن الآن أمام نقص ونقص كبير قد يصل إلى ما سمعنا قرابة 4000? وهذا في الواقع يعتبر ضررًا بالغًا وضررًا كبيرًا، وقولنا بأننا نأخذ بالمثلية، في الواقع ليست هذه مثلية وإنما هي مثلية شكلية لا قيمة لها بجانب مخالفتها المخالفة الحقيقية للواقع نفسه، فما قيمة أوراق تعطيني إياها وليس لها من القيمة المعنوية أو القيمة المادية إلا واحد في أربعة آلاف مثلًا؟ هذه ناحية.

ص: 1198

مسألة أخرى، ذكر بعض الإخوان –حفظهم الله- أنه ينبغي أن تكون مناهج بحوثنا مرتبطة بما ذكره جمهور فقهائنا، وهذا في الواقع عليه ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أن ما كان محكومًا بنص من كتاب الله، أو من سنة رسول الله، أو من إجماع الأمة، فهذا في الواقع محل اعتبار ومحل إجماع ولا يجوز لنا أن نشكك في ذلك أو أن نتردد في الأخذ به، فلا اجتهاد مع نص. أما إذا كانت المسألة محل اجتهاد ومحل نظر، فمحل الاجتهاد ومحل النظر الباب فيه واسع، ونحن لو تتبعنا ما عليه علماؤنا وفقهاؤنا السابقين –رحمهم الله ونذكر منهم الإمام الشافعي –رحمه الله فله قولان، قول في القديم وقول في الحديث حينما كان في العراق كان له رأي، وحينما ذهب إلى مصر ورأى تحول الأحوال والظروف صار له رأي آخر. الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله يكون له في المسألة ثلاثة أقوال وأربعة أقوال وخمسة أقوال، وغيرهم، وغيرهم. فالمسائل الاجتهادية لا يجوز لنا أن نربط أنفسنا بالقول بأن هذا ما عليه الجمهور وهو محل اجتهاد، والاجتهاد ينبغي أن يكون كذلك منا أنفسنا نحن على ضوء القواعد الفقهية.

نقطة أخرى، فقهاؤنا –رحمهم الله كانوا يعيشون منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، وهذه القرون متشابهة في ظروفها وفي أحوالها وفي مناهج حياتها، لكن في عصرنا هذا تغيرت الأحوال تغيرًا بالغًا، وصار هنالك تغير مقاييس وتغير نظر، وتغير ظروف وأحوال، فينبغي لنا ألا نحمل فقهاءنا السابقين ما لم يتحملوه، فلو عاشوا لكان لهم من النظر غير ما قالوه. ولا أقول هذا إنهم سيخالفون نصوصًا شرعية ولكنهم سيخالفون اجتهاداتهم التي كانوا يجتهدون فيها. فينبغي أن يكون هذا الاعتبار، حفظكم الله.

الأمر الثاني: القول بأن الدولة هي المسؤولة عن التضخم. هذا القول محل استغراب! سبحان الله العظيم!! هل حكومة السودان ترضى بأن يكون الدولار يساوي ستمائة أو سبعمائة جنيه؟ والله إنها لا ترضى، والله إنها تتمنى أن يكون الجنيه كالدولار أو أكثر من هذا، ولكنها كيف تعمل؟ وكذلك الأمر في تركيا أو العراق أو في لبنان أو في غيرها من البلدان التي لعملتها قلق وتردد وتردٍّ. فالقول بأن الدولة هي المسؤولة عن التضخم، هذا قول يحتاج إلى إعادة نظر، ولكن مصدر التضخم هو في الواقع مجموعة أسباب وممكن أن يكون خبراؤنا الاقتصاديون يعطونا أو أن ينظروا من أسباب هذا التضخم وهل يمكن أن يكون للمعالجات الشرعية أثر في هذا الشيء؟ نأمل ذلك.

ص: 1199

بعض الإخوان يتساءل ويقول: هل نقول بالقيمة في حال ارتفاع القيمة النقدية؟ نقول نعم، لأن الغرض ليس أننا نقول ينبغي أن نعطف على الدائن ولا نعطف على المدين نحن نقول ينبغي لنا أن ننظر الضرر ونزيله فلا ضرر ولا ضرار. فإذا كان المتضرر المدين فينبغي أن يرفع عنه الضرر، وإذا كان المتضرر الدائن فينبغي أن يرفع عنه الضرر، والأمر موكول إلى العدل والإنصاف لا إلى ملاحظة أحد الطرفين دون الآخر.

الأمر الثالث: القول بأن التغير أو بأن ضرر التغير موجود عند من يخزن نقوده في صندوقه أو عند من يجعلها في حساب جار، فماذا نقول في هذا الضرر؟ نقول: هو الذي تسبب في ضرر نفسه. لماذا خزنها؟ لماذا لم يصرفها؟ أو إذا كان عنده حساب جار في بنك، الحساب الجاري يعني أنك تودعه الصباح ويكون لك الحق في أن تسحبه قبل ساعة أو قبل أقل من ذلك أو أن تسحبه في المساء وهو في الواقع حساب جار تحت السحب متى أردت فإذن هو في حكم ما هو تحت يدك وفي صندوقك، فأنت المتسبب في التضرر وأنت المتحمل لهذه المسؤولية.

القول –وهو في الواقع قول آلمني جدًّا- بأن الأوراق النقدية لها حكم الفلوس أو لها حكم العروض كذلك، أو الفلوس على من يقول بأن الفلوس عروض تجارة. هذا قول في الواقع خطير أيها الإخوة معنى خطورته أنه لا ربا في الأوراق النقدية، عندنا أثمان غير الأوراق النقدية؟ إذن لا ربا مطلقًا، ومجمعكم توكلوا على الله ليس له حاجة هذا المجمع؛ لأن الغرض من المجمع معالجة المسائل الاقتصادية والبعد عن الربا وعن المعاملات التي تفضي إليه. فإذا قلنا بأن الأوراق النقدية عروض تجارة فمن عنده من الأوراق النقدية ملايين من هذا النوع أو ملايين الملايين ولكنه يخزنها ولا يريد أن تكون عروض تجارة فلا زكاة فيها ولا ربا فيها، فلا حول ولا قوة إلا بالله!! كيف نقول بذلك؟!. الأوراق النقدية هي الأثمان حقيقية، وتجاهل هذا الشيء تجاهل من يتجاهل الشمس في رابعة النهار.

فأحببت أن أدلي بدلوي في هذا الشيء، وشكرًا لكم، والسلام عليكم.

الرئيس:

بالمناسبة يا شيخ عبد الله في كلمتكم قبل الأمس على أن الحساب الجاري هو قرض.

الشيخ عبد الله بن منيع:

نعم، هو قرض لكنه قرض تحت الطلب.

الرئيس:

المهم أنكم أشرتم إلى أنه قرض، ففي حال كساد العملة المقرضة أو المودعة نقول المقرضة والتي في الحساب الجاري المثل أم القيمة؟

الشيخ عبد الله بن منيع:

بل المثل في هذا الشيء؛ لأنه يستطيع أن يأخذه في أي وقت يراه.

الرئيس:

يعني تخرج من التقعيد الذي ذكرت؟

الشيخ ابن منيع: نعم تخرج من التقعيد.

الرئيس: وكيف نحكم على أنها قرض وتخرج؟

الشيخ ابن منيع: هي قرض.. على كل حال هي مسألة قرض..

الرئيس: لا؛ لأنه في الحقيقة هو إشكال ورد عندي وهو وارد ولا إشكال فيه. يعني يظهر لي أنه وارد. فكون أننا نحن نكيفه (الحساب الجاري) على أنه قرض ثم نأتي في رد العملة في حال الكساد أو التضخم على أنه لا يرد المثل، كذلك ينبغي إلزام البنوك التي تجعل عندها هذه الحسابات الجارية أن ينسحب عليها هذا الرأي، وهذا مستحيل أن البنوك أن ترد إلا ما أعطاه صاحب الحساب.

ص: 1200

الدكتور حسن الشاذلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج نهجهم بإحسان إلى يوم الدين.

أشكر فضيلة الدكتور رئيس الجلسة وفضيلة الدكتور الأمين العام، كما أشكر فضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي فيما قدمه من تلخيص لهذه الأبحاث وكان تلخيصًا جيدًا ممتازًا، معبرًا عن فكرة هذه الأبحاث. ولا أعيد ما ذكره الأخ من تلخيص لهذه الأبحاث وبيان ما فيها؛ لأن ذلك كله مدون في هذه الأبحاث، ولكن أريد أن أضع بعض النقاط التي يمكن أن يتكون محل دراسة حتى نصل إلى القرار المطلوب. وهذه نستطيع أن نقسمها إلى نقطتين:

الأولى: حول الصعوبات التي تكشف الانتقال من المثل إلى القيمة.

الثانية: حول الحلول المعروضة على بساط البحث.

أما النقطة الأولى وهي الصعوبات فتتلخص في أننا أولًا أمام عقد، والعقد له قوة أعطاها له الشرع وصانها وحفظها وأمر بالوفاء بها. وفتح كل الأبواب لكي تتحقق العدالة بين المعاملين بأن جعل لهما حق الخيار في عدة ظروف (خيار الرجوع، خيار القبول، خيار المجلس، خيار الشرط، خيار الغبن) ، الخيارات كلها وضعها لتأمين العدالة بين الاثنين ولكي لا يقدم الإنسان على عمل أو على معاوضة إلا وهو واثق من أنها قد حققت هدفها ولم يتعورها أي ظلم أو غبن لدى الجانبين. فقد راعى المشرع الحكيم العدل بالنسبة للدائن، وقد راعى العدل بالنسبة للمدين في صورة المداينات. كما أنه جعل الأصل طريقًا وفتح بابه ولا نقول: إنه استثناء، ولكنه فتحه الشرع لكي ينال من يريد عن هذا الطريق ما يناله، وقد فهمنا أو علمنا أن الأجل دائمًا يقدم عليها الإنسان من مصلحته هو كصاحب سلعة من ناحية، ثم من ناحية أخرى قد يكون قد وضع في مقابلها ما يعادل ما يعوضه عن هذا الأجل وبخاصة أنه كان يعتقد أو كان يظن أو أنه من الاحتمال أن تكون هناك مماطلة، وأن يكون هناك تأخير، أو ما إلى ذلك من الظروف المصاحبة لأداء هذه الحقوق.

ص: 1201

إذن أقول: إن المسألة الآن مسألة العقد وما صانه الشرع به وما أحاطه من ضمانات كيف نخترق هذا الحصار ونصل إلى هذه المعاملة بعد أن استقرت لنفتح فيها بابًا لكي نتدخل بتدخل من التدخلات؟ هذه هي الصعوبة الأولى التي نستطيع أن نقول: إن فقهاءنا –رضوان الله عليهم- حينما قضوا بالمثل فيها إنما قضوا من منطلق القواعد الشرعية المتمثلة في وجوب أن تؤدى الحقوق بأمثالها أولًا، أو بالصورة والمعنى وهو المثل، وذلك مستقر –كما تعلمون- سواء كان ذلك في دائرة المعاملات (الذهب بالذهب) أم كان في دائرة الضمانات {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، في طعام بطعام وقصعة بقصعة، إلى آخر ذلك مما ذلك مما لا مجال للبحث فيه.

الانتقال من المثل عند الفقهاء قد يلحظ ويستشف من خلال ما أوجبه الشرع من خيارات فإنه لا ينتقل من واجب إلى واجب إلا إذا قال (فمن لم يجد) ، (فمن لم يستطع) ، يعني جعل الاستطاعة وجعل عدم الوجود وسيلة إلى الانتقال إلى القيمة، أو بعبارة أخرى عندما تتعذر القيمة أو تتأثر –وذلك عندما يتعذر المثل- حينئذ يفتح باب القيمة كي يؤدى الحق معنى لا صورة، وهذا هو الذي جعل جمهور الفقهاء يتجهون إلى القيمة في مثل ذلك ويصرون عليها –كما رأينا- سوى بعض فقهاؤنا الأجلاء حينما فتحوا هذا الطريق أمام الحقيقة التي تواجهنا اليوم. هذه النقطة الأولى.

النقطة الثانية: وهي أن الزيادة والنقص في سعر العملات أو النقود. الواقع أننا نحن نلحظ أنه أمر متغلب، وأمر لا يستقر على حال. ومن هنا فهو يعلو وينخفض أو يستمر في الارتفاع لا نعرف ما مداه ولا ضبطه، وقد يقال لنا: إن ربط الأحكام الشرعية إنما يكون بالعلل الظاهرة المنضبطة، أو بالأمور الظاهرة المنضبطة التي يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا، ومن ثم فالأمر المتقلب الأمر الذي قد يحدث أو لا يحدث أو يحدث في آن ولا يحدث في آخر قد يكون ربط الحكم به صعبًا أمامنا.

النقطة الثالثة: كما سمعنا وعلمنا أن موضوع التضخم وضبطه –وهو يرتبط بما تقدم- صعب. يعني كيف نكيفه؟ أو كيف نحدده؟ ومتى نقول: إنه ننتقل من المثل إلى القيمة؟ وكما رأينا بالأمس بعض الإخوان قالوا الثلث. قد يكون كما قال بعض الفقهاء بالنسبة للغبن وغيره، قد يقال الثلث والثلث كثير، لكن هذا في التبرعات، وحينما يتبرع الإنسان فالتبرع عادة إنما يقول لأجل لا يؤثر على حقوق الآخرين، يعني مراعى فيه اليسير وليس هو صالح لما معنا. هذا أيضًا يعني ضبط التضخم محتاج إلى اجتهاد، ولكي نستطيع أن نصل إلى حقيقة مستقرة ثابتة يربط بها الحكم.

النقطة الرابعة: حق العدالة الذي نتكلم عنه دائمًا ونتحدث في دائرته هو الواقع أن العدالة يجب أن تكون مراعاة في كلا الاثنين، الدائن والمدين. يعني حينما ننظر إلى التضخم أو ننظر إلى انخفاض سعر العملة ونراعيها ونرعى في هذا الدائن أيضًا أن ينطلق إلى المدين حينما تعز النقود كما تحدث فقهاؤنا –رضوان الله عليهم- في ذلك، كما تناولوا هذه القضية، تناولوا عزة النقود وغلوها وتحدثوا فيها حديثًا، نجد من المنطلق الموجود في حالة النقصان نجده هو نفسه في داخل حالة زيادة السعر. فلا بد إذن أننا إذا انطلقنا أن نراعي الاثنين كما رعاهما الشرع أولًا، يجب أن نراعيهما هما أيضًا في حقوقنا ثانيًا حتى لا نميل إلى جانب ونترك الجانب الآخر.

ص: 1202

أيضًا فكرة الربا هي تظهر لنا واضحة؛ لأنه حينما يكون مبلغًا من النقود في ذمة إنسان ثم بعد ذلك يختلف ما نأخذه منه عما وجب في ذمته، حينئذ نكون أمام قضية ما، هو اختراق هذه الدائرة حتى يمكن ألا ندخل في دائرة الربا.

هذه هي بعض الصعوبات التي جالت في ذهني في أثناء سماعي أو قراءتي أو كتابتي في هذا البحث.

أما من حيث العلاج –وهي النقطة الثانية- قد عرضت علينا بعض الأمور:

الأول: فكرة الجائحة وآثارها. والجائحة –طبعًا- سبق للمجمع كما علمت أن تناول هذه القضية وهي أيضًا محتاجة إلى إعادة نظر من حيث إن الجائحة كما نعلم وما هو اختلاف الفقهاء فيها، إنما جاءت إذا كانت سماوية، وبعض الفقهاء عمم فجعل أنه إذا كان هناك جيش أو حرب أو ما إلى ذلك يكون في هذه الحالة يمكن أن تقاس على الجائحة السماوية ويظهر أثرها عند بعض الفقهاء في الواجب أداؤه على المدين. إذن نبحث لكي نتخطى هذه الدائرة ونصبح أمام قضيتنا المعروضة الآن؛ لأنه قد يكون التضخم لا إثر آفة سماوية ولا إثر جائحة وإنما قد يكون في غير ذلك.

الحل الثاني: وهو الشرط المذكور في العقد، وقد تفضل فضيلة الأخ الكريم سماحة الشيخ المختار بذكر هذا الموضوع وهو طبعًا أشار إلى صعوبة مثل هذا الشرط وموقف الفقهاء منه، وهو أن يربط –كما فهمت- العملة الواجبة في الذمة معها عملة أخرى بأن يكون الأداء بكذا في كذا، وقد يستدل له –يعني بمثل ذلك- بما ورد وفي نفس الخلاف حينما ورد فيه عند بعض العلماء ومنهم ابن عابدين حينما اشترط إنسان دانق فلوس، ربط الدانق وهو جزء من الدرهم بفلوس ثم بعد ذلك تغير سعر الفلوس وهل يجب عليه حينئذ ما يساوي هذا الدانق –يعني الفلوس التي كانت موجودة في هذا الوقت- أم من الفلوس التي بعد ذلك؟ قال: نجعل إن هذا ليس شرطًا، ولكنه ربط بين نوع من العملة بنوع آخر عن طريق الإضافة كما رأينا وإن كانت العملتان هنا هما في مكان واحد معترف بهما ومقران. وهذا الطريق الثاني يكون حينئذ عرفنا أن الشرط في العقد يحتاج إلى تخريج دقيق حتى يمكن أن نخلص من أنه يجعل الثمن مترددًا بين أمرين، ونحن نريد في العقد دائمًا أن يكون محددًا كما أن المبيع محدد، فكذلك لا بد أن يكون الثمن محددًا لا يعتوره احتمال، أو لا يعتوره شك، ولذلك نكون قد خلصنا من ذلك إلى صحة هذا الشرط إذا كان الأمر كذلك.

ص: 1203

الثالث: ما ورد عن الصلح، وقد ورد الصلح هذا أيضًا عند الحنفية فيما أورده ابن عابدين في (تنبيه الرقود) وكذلك في حاشيته، وورد عند بعض علماء الحنابلة أيضًا فكرة الصلح. والصلح نعلم أنه عقد اختياري بين اثنين ينهي خصومة بينهما. فإذا كان عقدًا إراديًّا فسمعت أنه قد نجعله جبريًّا. تحوله من عقد إرادي إلى عقد جبري نلزم به المتعاقدين أيضًا يحتاج إلى تخريج وإلا ما كان صلحًا، يكون حينئذ قرارًا من الحاكم أو من القاضي بإجبارهما، وتدخل الحاكم في هذه الحالة يكون محتاجًا إلى تخريج في هذه الحالة.

الرابع: أقول إن تدخل الدولة بتقويم عملتها حينما تنخفض القيمة أو يحدث فيها انهيار قد يكون ذلك بمثابة حل من الحلول. حينما ترى أن القيمة انحدرت تبدأ الدولة تتدخل، وقد أورد ابن عابدين بعض الأشياء التي حدث فيها مثل ذلك. فأقول: إن تدخل الدولة بتقويم عملتها أو تخفيض القيمة إذا حدث فيها انهيار أو ما إلى ذلك، وثم بعد ذلك يكون الوفاء بهذه الحقوق عن هذا الطريق، كل ذلك يضع أمامنا عدة أفكار للخلاص من هذه الظروف التي تحيط بموضوعنا الذي نبحثه. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ الصديق الضرير:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

في الواقع أنا عندما تقدمت في أول الجلسة بنقطة النظام ما كنت أعني مطلقًا معارضة إعادة النظر في أي موضوع، هذا أمر بدهي، لكن إعادة النظر يجب أن تبنى على أسباب وعلى جديد يقدم. في أي لجنة أو مجمع إذا اتخذ قرارًا وطلب إعادة النظر فيه فلا بد أن يبنى على أسباب وجيهة وإلا أصبح الأمر فوضى. فاعتراضي كان على الطريقة وقد ذكر الأمين العام أن هذه البحوث وأن الموضوع لم يكن في جدول الأعمال الأول ولكنه أحلق به ولعله لم يصلني، فقبلنا منه هذا التفسير، لكن لا يزال باقيًا.

الأمين العام:

نقطة نظام من فضلك. الموضوع هذا طرحناه بالأمس وذكرت ما ذكرت وأجبناك عنه وكثير من الإخوة تحدثوا فيه وقد وصلتهم هذه الورقة، ثم ذكرت بأن شعبة التخطيط هي التي قررت أن نتناول الموضوع من الجهتين اللتين عرفت بهما وهي قضية الكساد وقضية التضخم، فحينئذ إن كان لكم حديث في نفس الموضوع فلتتفضلوا مشكورين وإن كان لإثارة هذه القضية التنظيمية فلا حق لكم فيها؛ لأن الأمر قد بت فيه.

ص: 1204

الشيخ الصديق الضرير:

يا سيد الأمين العام أنا قلت: قبلت ما قاله وليس في نيتي أن أستمر في هذا الموضوع فلا أظن أن هناك محلًا لنقطة النظام. أنا قبلت قولك.

الذي أريد أن أتحدث فيه هو أن بعض الباحثين ذكر من الأسباب وهذا مما قلته من قبل وأود أن أقوله مرة أخرى أن قرار المجمع كان فيه شيء من التسرع يجعله في حاجة إلى إعادة النظر، فهل يقبل الأمين العام وتقبل الرئاسة أن يكون هذا سببًا لإعادة النظر؟ إن هذا الموضوع قد بحثناه وذكر الإخوة أنه قد بحث في أكثر من ندوة وبحث في المجمع فلم يكن هناك تسرع وإذا كان فيما اتخذناه من قرار سابق تسرع فكيف نقول بالقرار الذي إذا اتخذناه في هذه الجلسة مع أننا لم نطلع على هذه البحوث إلا في هذا الاجتماع؟ كيف أحكم على إعادة نظر في موضوع بناء على بحوث لم أقرأها؟ هذه هي وجهة نظري في الموضوع، ومع ذلك فإن في هذه المداولات لعلها يكون فيها خير ولكن أنا أرى أنه لو اتخذ قرار مخالف للقرار الأول في هذه الجلسة فإنه يكون هو القرار المتسرع.

أعود إلى الكلام في الموضوع. العارض ذكر أدلة الطرفين ولكنه لم يذكر من أدلة المانعين

ذكرت أدلة نقلية، وأدلة عقلية، وذكرت البديل لهذه المصيبة. ثم إن العارض كان يقول لنا في كل مرة البحوث في أيديكم، صحيح البحوث كانت في أيدينا لكننا لم نقرأها!!

أريد أن أركز على الأدلة التي ذكرها العارض ولم أقرأها في البحوث لأنني اعتمدت على ما قاله. ذكر ثلاثة أدلة: العدالة، نصوص الفقهاء، نظرية الظروف الطارئة. فيما يتعلق بالعدالة تكلم عدد من الإخوة في هذا الموضوع، وفندوا هذا الدليل تفنيدًا واضحًا لا مجال للحديث فيه. وهي ليست عدالة وإنما هي ظلم للمدين الذي سيلزم بدفع أضعاف أضعاف ما اقترضه. ثم إن هذه العدالة تقتضي أن يطبق هذا الحكم على جميع الدائنين والمدينين. ومن المدينين البنوك وقد أشار السيد الرئيس إلى هذا وأؤكد لكم أننا لو طبقناه على البنوك لا يستطيع أي بنك أن يستمر أسبوعًا.

ما يتعلق بنصوص الفقهاء. في بحثي ذكرت نصوصًا كثيرة وتعرضت للنصوص التي يشير إليها أصحاب البحوث التي قدمت هنا وبعضها قدم من قبل، وبينت ما فيها من خطأ. ومن هذه البحوث بحث للشيخ ابن بيه، تعلق فيه هو ومن وافقه وكانوا ثلاثة بكلام الرهوني، وقد تحادثت مع الشيخ ابن بيه في هذا الموضوع ورجع عن رأيه الذي تبعه فيه اثنان من الإخوة الأعضاء لم أسمع منهم رجوعًا، وإنما رجع الشيخ ابن بيه عما أخذوه من كلام الرهوني وفي الجلسة التالية اتصل بي تلفونيًّا وقال لي: أرجو أن تخبر الأعضاء بأني رجعت عن رأيي وهو موجود أمامكم. فكلامهم الذي أخذوه من المالكية غير صحيح، وتمسكوا أيضًا برأي أبي يوسف وهو رأي خطأ، التمسك به خطأ؛ لأن أبا يوسف يتكلم عن الفلوس وليس عن النقود. وقد نقلت لهم عبارة ابن عابدين: إياك أن تظن أن كلام أبي يوسف في الدراهم والدنانير هو في الفلوس فقط.

ص: 1205

وبينت في بحثي أن المذاهب الأربعة أجمعت على أن القروض ترد بأمثالها، لم يشذ أحد منهم، وليس في ذلك خلاف إلا ما أشار إليه بعض الإخوة من أن بعضهم فرق بين ما إذا كان مماطلًا – المدين مماطلًا- أو غير مماطل وهذا تفريق وجيه. فهناك إجماع –فيما ظهر لي- بين الفقهاء المتقدمين على أنه لا عبرة بغلاء النقود أو رخصها مهما كان، حتى لو وصل إلى درجة الكساد الجامح كما يعبر إخواننا الاقتصاديون، بل ولو زاد عليه. وقد سمعنا عبارة أنه لو كان بمائة وصار بألف لا يؤثر هذا ما دام النقد موجودًا ومتعاملًا به يرد المثل مهما بلغ. هذه هي نصوص الفقهاء –في رأيي- لا لبس فيها.

نظرية الظروف الطارئة، وهذا الدليل الثالث وهو دليل عجيب في رأيي؛ لأن الظروف الطارئة كما يعرفها صاحب هذا البحث، يعرف علماء القانون الظروف الطارئة بأنه ظرف يحصل بعد التعاقد بصورة مفاجئة لم تكن في حسبان العاقدين، فهل التضخم الجامح يحصل بصورة مفاجئة لم تكن في حسبان العاقدين؟ التضخم يبدأ بـ 1? ويسير إلى أن يصل 30? فيصبح تضخمًا جامحًا. وإذا قالوا: إن التضخم الجامح هذا قد ينطبق على صورة فقط فيما إذا كانت الدولة هي التي خفضت سعر العملة مفاجأة وكان هناك دائن ومدين، ماذا نفعل؟ هل نحمل المدين قرار الحكومة هذا، ونطالبه بأن يدفع ما استدانه أضعافًا مضاعفة؟ لنفرض أنني استدنت اليوم مائة ألف من شخص من عملة ما، وأصدرت الدولة غدًا قرارًا بتخفيض هذه العملة، والمبلغ الذي استدنته موجود عندي وكان من الممكن لو انتظرت إلى الغد أن يكون موجودًا عند الدائن فكيف أحمل أنا هذه المصيبة؟ أليس هذا هو الظلم بنفسه؟ يقول أحد الإخوة عن التضخم وعن حكومة السودان وهل ترضى بهذا التضخم؟ نعم حكومة السودان لا ترضى بالتضخم ولكنها تفعله وقد اعترفوا بهذا، إن لم يكونوا يفعلون كل التضخم، فالسبب الأساسي والرئيسي يرجع إلى الحكومات وليس حكومة السودان وحدها. وقد طلب من هيئة الرقابة الشرعية في بنك السودان معاجلة هذه المسألة. اتضح أن هناك عزوفًا عن الإيداع في البنوك فأرادت الدولة أن تشجع الناس على وضع أموالهم في البنوك فاتضح أن نسبة كبيرة جدًّا في أيدي أصحابها فتقدموا باستفتاء للهيئة، هو في موضوعنا، بأن تضمن الدولة فرق التضخم كله أو جزءًا منه للمودعين في البنوك، وأن تضمن أيضًا فرق التضخم لمن يودعون ودائع واستثمار، فأفتت الهيئة بأنه لا يجوز أن تضمن ما يتعلق بالقرض؛ لأن هذا ربا. ولكن بالنسبة لودائع الاستثمار وافقت الهيئة على أن تضمن فرق التضخم أو جزءًا منه من غير أن تضمن رأس مال المضاربة ولا أن تضمن ربحًا. المضاربة بين رب المال وبين البنك، هو الذي يضارب قد تربح هذه أو تخسر بحسب رأس المال الذي دفعه، لكن عمل الدولة (ضمانة) لا يكون لرأس المال هذا ولا لربحه، وإنما إذا ربح رأس المال فأصبحت المائة مائة وعشرة تضمن فرق التضخم لهذه المائة وعشرة، أو إذا خسر البنك وأصبحت المائة تسعين تضمن فرق التضخم لهذه التسعين، فوافقت الهيئة على هذا على أن تكون تجربة وإلى الآن لم تظهر نتيجتها؛ لأنه كان بعض الاقتصاديين يعتقد أنه قد يكون في هذا علاج للتضخم. ثم قلنا للذين قدموا هذا: إذا كنتم تعترفون بأنكم سبب في هذا التضخم وتريدون أن تضمنوه لهاتين الفئتين والتضخم يصيب عامة الناس فلم لا تضمنونه للجميع؟ فلم يكن عندهم رد سوى أن هذا لا يمكن وأن عمليتنا هذه قد تؤدي إلى انخفاض التضخم فينتفع به الناس عامة.

ص: 1206

ثانيًا: إنني قدمت في بحثي بدائل. بالنسبة للقرض، المقرض الذي يريد ألا يقع في هذه الخاسرة ينبغي أن يطلب قرضًا بعملة مستقرة. يطلب من المقرض أن يقرضه دولارات أو أي عملة أخرى ويتجنب هذه المشاكل. وهذا معمول به الآن، كثير من الناس في السودان لا يقرضون بالجنيهات السودانية. والبديل بالنسبة للدين في حالة البيع هو أن البائع يقدر نسبة التضخم التي ستحصل، وهذا أمر مشاهد وواقع، فهو لا يتضرر؛ لأنه إذا كان الثمن الحال مائة يبيع بمائتين ولا حرج في هذا، فيتفادى ضرر التضخم أما المدين لا يستطيع مطلقًا أن يتفادى ضرر التضخم لو ألزمناه به.

الشيخ السلامي قدم حلًّا وهو اتفاق بين المتعاملين على القضاء بعملة. الواقع أنه إذا كان المراد بهذا الحل أنه إذا كان القرض مثلًا بالجنيهات السودانية يتفق الدائن والمدين على أن يقضي بدولارات بقيمة الجنيهات السودانية يوم القرض، فهذا في رأيي لا يجوز؛ لأن هذا سيكون صرفًا مؤجلًا، لكن الذي يجوز هو أنه إذا أقرض بهذه الجنيهات ثم حل الأجل وأراد أن يقضيه دولارات يجب أن يقضيه بسعر يومه كما جاء في الحديث، لكن المثال الذي ذكرته إذا كان هذا المراد وهذا قد عرضه بعض الإخوة في السودان أنه يقترض عملة سودانية ويتم تقديرها بأنها تساوي كذا دولار ويقول له هذا هو.. مع أنه اقترض بعملة سودانية ولم يقترض بالدولار، يقول: إنه كذا سوداني هذه تعادل كذا دولارًا، وسأدفع لك كذا دولار عند حلول الأجل، فرضنا هذا لأن هذا صرف مؤجل.

أكتفي بهذا، وشكرًا جزيلًا.

الشيخ العماري:

بسم الله الرحمن الرحيم:

لا أريد أن أطيل في هذه المداخلة ولكن أريد أن أقول: إن مسألة التضخم أيضًا، وهو أن الفجور في هذا العالم، فجور المستغلين. وعندنا في التراث تحدث للناس أقضية بمقدار ما يحدث من فجور، فلا بد أن يفكر المسلمون في الحلول التي تنقذهم من هذه الأوضاع السيئة في بلدانهم؛ لأنه هناك أناس آخرون هم الذين يتحكمون فيهم. ماذا نعمل نحن؟ والفتوى كما هو معروف لا ينكر تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان. ونحن نعرف أن فقهاءنا –رضوان الله عليهم- أفتوا في بيئة وأوضاع لم تكن موجودة الآن، ولذلك اختلفت وجهات النظر. أنا أرى باختصار أن على المجمع الفقهي أن يحاول دراسة القضية مع الخبراء ومع كل المختصين حتى يطلع بقرار ناضج ولا مانع أن يرجع ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي كما يقول سيدنا عمر. لا يمكن أن نتمسك ونعتبر كل قرار كأنه منزل من السماء كما يرى بعض الإخوة. لا بد أننا نبحث أكثر ونتطلع إلى الصواب وإلى ما هو أقرب إلى الصواب حتى نصدر القرار المناسب في حياتنا.

ص: 1207

كانت العملة الرائجة في ذلك الوقت الذهب والفضة وهي عملة لها قيمة ذاتية كما قال الإخوة، والفلوس التي كانت من الناس ما كان يستدان بها في مبالغ ضخمة وكان لها معيار هو الذهب والفضة، وهنا الآن نحن في ورق، الحكومة تضرب ولا ندري ما وراء ذلك. ولا بد أن نفكر، ولا أقول: إن عندي رأيًا معينًا في موضوع التضخم وكيف نعالجه. بل علينا نحن أن نترك أولًا الصناعة الفقهية البحتة حتى ننزل كل الأمور عليها، هذه يجب أن نتركها ونفكر في مقاصد الشريعة العامة، هذا إذا أردنا أن نحل مشاكلنا حسب ما هي واقعة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ وهبة الزحيلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وبعد،

هذا الموضوع الذي أثير في الكويت وكنت في ذلك الوقت قد تقدمت ببحث وافٍ وجلي وهو مطبوع في مجلتكم المتداولة فيما بينكم، ومنذ ذلك الوقت كان رأيي هو الأخذ بما عليه بعض الفقهاء نم مراعاة قضية الكساد أو التضخم والانتقال من المثلية إلى القيمة للاعتبارات التالية:

أولًا: من ناحية التكييف الفقهي لقضية الربا ومعناه.

ثانيًا: قضية سك أو طبع النقود الورقية في الوقت الحاضر.

ثالثًا: ما يتعلق بأقوال الفقهاء.

ثم أعرض خلاصة لما يمكن أن نعالج به هذا الموضوع.

أما ما يتعلق بالتكييف الفقهي. مما لا شك فيه أن الإسلام دين العدل، ودين الرحمة، ودين يحارب الجور والظلم بمختلف أشكاله، وما تحريمه للربا إلا من أجل هذا، وهو إحقاق الحق ومحاربة الباطل، وإنصاف الناس، وسد كل الذرائع المؤدية إلى التلاعب بالأسعار، والادعاءات التي تعصف بأصل النظرة إلى معنى التعامل والمبادلات فيما بين الناس.

ص: 1208

فمن المعروف أن قضايا العقود ينبغي أن تكون قائمة على مبدأ التعادل في التبادل ومبدأ الموازاة في العوضين، ومبدأ الأخذ بمعيار المماثلة والمساواة. وهذا صحيح، ولذلك كان الشرع في هذا حكيمًا في تقرير المثلية (الذهب بالذهب، إلى أن قال: مثلًا بمثل ويدًا بيد) ويريد من فرض معنى المثلية هو تحقيق الحق وسد كل أوجه التلاعب والادعاءات حتى لا يفتح مجالًا للناس في منافذ يصلون بها إلى الربا بنواحٍ مختلفة أو مفتعلة أو لها بصيص من الأمل في السوق الحاضرة. فلذلك المثلية في الحقيقة هي يراد بها إحقاق الحق وإلزام الناس بالعدل. والمثلية ذات معنى وليست مجرد شكل أجوف، والعبرة دائمًا في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. ومن هنا أنا أصر على أن معنى المثلية التي يجب فيها أداء المقترض للمقرض إنما هو من أجل تحقيق العدل ومنع الجور، ومنع الاستغلال. وإذا كان هذا هو المعنى الذي يقوم عليه تحريم الربا، وهذا هو المعنى الذي –أيضًا- ورد النص في الربا على هذا النحو، لذلك فإن الفقهاء –في الحقيقة- وجمهورهم لا شك، أن المذاهب الأربعة تقرر ضرورة أداء المقترض للمقرض أن يؤدي ما أخذه جنسًا ونوعًا مقدارًا وصفة. هذا لا اعتراض لنا عليه، وإنما هناك أيضًا جانب آخر من القضايا وهي أن الفقهاء في الواقع اختلفوا حول هذه المسألة، ونحن صدرت لنا قرارات في هذا المجمع وأخذنا برأي بعض الفقهاء وتركنا الجمهور. فإذا الغضاضة في احتمال أن نخالف رأي الجمهور؛ لأنه لم يكن سائرًا على وتيرة واحدة في منهج قرارات هذا المجمع، وأخيرًا منها مثلًا قضية العربون في بروني. الذي يقر هذا المبدأ هم الحنابلة وأخذ بذلك وترك مذهب جمهور العلماء. كذلك قضية (ضع وتعجل) أخذ برأي الحنابلة وترك ما عليه أغلب العلماء من أن هذا يعد منفذًا للربا. فإذن نحن لا ضير علينا ولا نغض من شأن الفقهاء واعتباراتهم ولا نحاول أن ننقلها بشكل متعسف، فالفقهاء قرروا هذا وهم الأغلبية إلا أن هناك أيضًا بعض الفقهاء في المذاهب المعتمدة، في مذهب المالكية وفي مذهب الحنابلة وفي –أيضًا- رأي أبي يوسف في الكساد فيها واضح وإن لم ير بعض إخواننا أن هذا ينطبق على النقود الورقية، في الحقيقة هذا نخالف فيه والواقع أن هذا المعنى الذي يراه أبو حنيفة وهو كان قاضي القضاة في عصره ويرعى ويعرف ما عليه حال المسلمين وحال الناس، هذا كان بحثي في الماضي وليس جديدًا الآن، هو ضرورة الأخذ بهذا الاتجاه الثاني. وإن لم يكن رأي الأغلبية.

المسألة الثانية: ما معنى النقود الورقية في الوقت الحاضر؟ النقود الورقية في الوقت الحاضر ما هي إلا قيام هذه الدولة بطبع أوراق مراعية في ذلك في الماضي ما كان عندها من رصيد ذهبي والآن سحب الرصيد الذهبي في أن يكون غطاء للأوراق النقدية وأصبح جملة الإنتاج في الدولة وصادراتها وإنتاجها هو المقوم لعملة هذه الدولة. فهذا معنى النقود الورقية. وحينئذ ما دام هذا هو المعنى فالواقع نحن مع معالجة قضية التضخم ولكن بالاعتماد على ما تقوم به البنوك المركزية من تسعير هذه العملة الورقية المحلية في هذه الدولة. هذا التسعير في الواقع هو ملزم. فالقضية اعتبارية وليست قضية ذاتية في قضية النقود الورقية ونقيسها على الذهب والفضة.

ص: 1209

فالنقود الورقية هي اعتبارية. الدولة تقول الآن: عملتي تساوي خمسين بالمائة –مثلًا- من ما يوازيها من الدولار أو غير ذلك، وهذا ما تصرح به البنوك المركزية. فحينئذ إذا كان هذا هو شأن النقود الورقية فلم لا نسير مع قرار الدولة، طبعًا نسد الباب أمام ما يجري في السوق السوداء من التلاعب بالأسعار ومحاولة تخفيضها بافتعالات يقوم بها الصرافون، هذا نحن ينبغي ألا نتأثر بهذا الاتجاه وهو ما عليه السوق السوداء، إنما نلتزم بما عليه التسعير الرسمي الذي تصدره البنوك المركزية لعملتها بين فترة وأخرى. وما دام هذا هو الذي ينبغي أن نفهمه عن النقود الورقية وأظن أن إخواننا الاقتصاديين وقد درسنا الاقتصاد أيضًا يقرون هذا المعنى وبالتالي يكون علاج التضخم في تقديري ينبني على هذه الأسس الثلاثة.

الأساس الأول: ينبغي إذا اعتبرنا مسألة معالجة التضخم أن يكون ذلك في ضوء التسعير الرسمي للعملة المحلية دون أن نترك مجالًا لما عليه حال الناس في السوق السوداء.

الأساس الثاني: ينبغي أن نكون أيضًا محققين لمبدأ العدالة فنراعي هذا المبدأ في جانبيه الإيجابي والسلبي وهي حالة الارتفاع والانخفاض في آن واحد حتى يكون قرارنا سليمًا.

الأساس الثالث: ينبغي –أيضًا- ألا نتأثر بما هو معروف لدى فقهاؤنا من أن الغبن اليسير لا يعول عليه في المبادلات، وإنما المعول على الغبن الفاحش هو الذي لا يدخل تحت تقويم المقومين وقدره المالكية بالثلث، وقدره –أيضًا- الحنفية بثلاثة من عشرة يعني الثلث أو أزيد قليلًا. فكل هذا معيار يجعلنا نعالج هذه المسألة إذا كان ارتفاع أو انخفاض العملة يعادل الثلث فأكثر فهذا ضابط سليم. وحينئذ نرفع الضرر في هذه الضوابط عن كل من الدائن والمدين.

وأخيرًا ينبغي ألا نتأثر بما يقال ويفتي بعض إخواننا من العلماء من أن قضية الفائدة الربوية وسمعنا هذه الفتوى أخيرًا، أن هذه الفائدة الربوية ما هي إلا تجسيد لنزول وهبوط العملة، يعني التضخم فالسبعة بالمائة التي تدفعها الدولة أو تعطي أربعة بالمائة يقول: هذا حلال، لماذا لأن العملة انخفضت فيكون لي حق أصيل في أن آخذ هذه الفائدة لتغطية انهيار العملة المحلية. الحقيقة هذا منفذ خطير؛ لأننا إذا لجأنا إليه يؤدي إلى مشكلات كثيرة واضطرابات في موازين الناس وتصرفاتهم، مثل هذا في الحقيقة لا يصح أن نعول عليه.

ص: 1210

أخيرًا قضية قياس هذا الموضوع على الجائحة. سمعنا أن الجائحة سماوية، وهل هناك تعبير أرقى من هذا التعبير الذي ذكره فقهاؤنا؟ الأزمة الاقتصادية التي تحل بالدولة هي أشد عتوًّا وتأثيرًا وتهديدًا لاقتصاد الدولة من الجائحة السماوية. الجائحة السماوية تصيب جانبًا –مثلًا- من المزارع، في بعض البساتين دون البعض الآخر، أما هذا فهو بلاء عام هو يسري أثره على كل وضع الدولة وقد تهدد بالإفلاس في أزمتها الاقتصادية الخانقة. فإذن هو أخطر من الجائحة السماوية، والماليكة والحنابلة صرحوا بأن الجائحة السماوية إذا كانت في مقدار الثلث –وهو الضابط الذي ذكرته- يعد مفتاحًا لحل المشكلة وإن كان الشافعية –مثلًا- لا يأخذون بهذا الاتجاه. فالقضية قضية اختيار لأحد رأيين، لنمنع السخرية التي وجهت والهزء لقرارنا السابق والتهكم الذي لقيه هذا القرار السابق من الناس قاطبة وهو أن مجمع الفقه في الحقيقة ما هم إلا جماعة مخلدون للنصوص القديمة وليس عندهم تفتح، واتهمونا في عقولنا وفي أفكارنا وفي جملنا وفي تقديراتنا. فإذن الحقيقة نحن ينبغي أن نكون واعين لحل هذه المشكلة ولا مانع عندي من أن توضع هذه الضوابط وغيرها وتحل هذه القضية على نحو سليم لنخرج بقرارات تتفق مع ما يتقبله الناس، نحن لا نصادم الشريعة كما قلت وإنما علينا أن نوازي ونحقق معنى العدل.

الرئيس:

نقطة بسيطة يا شيخ وهبة. قضية سخرية الناس واستهزائهم، المبطلون ما يزالون يسخرون بالحق فليست هذه حجة ولا أود أن تثار في مثل هذه الموضوعات؛ لأنه قرار صدر عن قناعة شرعية ولا نعتقد في جميع الإخوان إلا أنهم مقتنعون به حسبما يريدون به الله شرعًا. صار خطأ، صار صوابًا، ما زال يخطئون ويصيبون، وما زال الناس يستمرون على قرار أو يؤثرون على قرار بالنقض أو بنقض جزئية منه وما إلى ذلك، أما الذين يسخرون ويستهزئون فهم بين أحد رجلين، إما رجل مغرض أو أنه لا يفقه ولا يعرف حتى ولو كان ذا شأن؛ لأنه لا يجوز أن يسخر بقرار إلا إذا بناه على سوء الظن، وهذا أرجو أن يكون –إن شاء الله- مرفوعًا عن أهل العلم وأهل الرأي ومن يقصد الحق فيما يقرره. وشكرًا.

ص: 1211

الدكتور سامي حسن حمود:

بسم الله الرحمن الرحيم

أبدأ أولًا بأن أقول كل الثقة والاحترام والتقدير لقرارات المجمع فهذه كلها نتيجة ثلاث فضائل: اجتهاد ويؤجر المرء عليه.

الموضوع في ذاته أن الاتفاق شامل في النظر إلى المثلية، ولكن الاختلاف بين الباحثين في حقيقة المثلية المقصودة، هل هو الشكل أم الأصل في تماثل الأشياء بمعنى قيمتها؟ فلو نظرنا إلى.... تجنبنا النقود وأخذنا قياسًا على القمح، أخذت صاع قمح وأريد أن أرده، صاع القمح الذي أخذته نقي، هل يكون المثل صحيحًا إذا رددته بصاع من القمح الذي ينخره السوس؟ فإذا انتقلنا إلى النقود من هذه النظرة نلاحظ أن النقود عندما كانت ذهبًا وفضة كانت لها قيمتان، قيمة ذاتية لكونها معدنًا نفيسًا، وقيمة اصطلاحية باعتبارها سكة. فإذا سقطت من التداول كعملة بقيت القيمة كمعدن له ثمنه، أما النقود الورقية فرغم أنها تقاس على الذهب والفضة كوسيط للتبادل ومقياس للأثمان إلا أن هذا القياس لا يصل إلى درجة اعتبارها قيمة ذاتية. فالمستفاد من الأبحاث المقدمة أن المطلوب ليس أن يبتعد النظر عن قاعدة المثلية بل أن يتجه النظر إلى إظهار حقيقة التماثل، ومتى يكفي العدد؟ ومتى يصار إلى القيمة عندما يختل التماثل؟ وبناءً على ذلك فإن الأبحاث المقدمة يكمل بعضها بعضًا رغم ما قد يتبين أنه تناقض في الآراء ويمكن الاستعانة بما قدمه الباحثون في النقاط التالية:

أولًا: ملاحظة أن النقود الورقية ليست ثمنًا بالخلقة كالذهب والفضة كما أوضح ذلك في بحثه الأخ الدكتور منذر والدكتور ناجي عجم.

ثانيًا: الإفادة من التأصيل الفقهي الذي حفل به بحث فضيلة الشيخ ابن منيع.

ثالثًا: عدم إخضاع التغيرات المعتبرة للقرارات الاقتصادية الموجهة غالبًا، بل الاعتماد في ذلك إلى توجه النظر لاعتبار القيمة على أساس أقوى ثباتًا مثل قاعدة سعر الذهب حسب ما يتضمنه بحث الدكتور القري.

رابعًا: ألا يكون الربط في التغير ربطًا آليًّا، وإنما يكون ذلك مسموحًا به إذا اتفق عليه أطرافه عند التعاقد، وأن يكون هذا الاتفاق مسموحًا به حيث إنهم يتراضون وهم يرون الحال ويركنون إلى وسيط يرجع إليه بالزيادة والنقصان في جانبيهما، كما تضمن ذلك بحث فضيلة الشيخ السلامي.

ص: 1212

خامسًا: النظر إلى اعتبار تنصيف الفرق الفاحش في الأسعار إذا لم يكن هناك اتفاق مسبق وذلك حسب ما ورد في بحث فضيلة الشيخ الزرقا.

سادسًا: أن تكون المعالجة شاملة لكل حالات الالتزام وعدم الاقتصار على أداء المدينين للدائنين، كما بحث ذلك الأخ الدكتور السالوس وفضيلة الدكتور الشاذلي.

النقطة الأخيرة هنا، من واقع المناقشات أن التفرقة يجب أن تكون منظورًا لها بين القرض الحال الذي يملك فيه المقرض أن يأخذ أو يسترد أمواله كالحساب الجاري وبين القرض المرتبط بزمن. ففي القرض الحال هناك تراخ من صاحب الحق في أنه لا يسترد ماله ويعيده إلى القيمة أو يحافظ على قيمته أما القرض الزمني فهو مرتبط بأن يستوفى بعد مرور مدة من الزمن. وشكرًا لكم.

الأمين العام:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،

أشكر لكم الإخوة الذين تقدموا بعروضهم في هذا الموضوع وإن كان للمرة الثالثة بالإضافة إلى الندوات التي عقدناها في هذا الغرض ولم تنته إلى نتيجة، وسوف يكون هذا الموضوع مستمرًا معنا ما دام التضخم قائمًا. والذي أريد أن أشير إليه أن كل إخواننا من الذين تفضلوا بالمناقشة على حق، ولا أقول لأحد منهم بأنه قد أخطأ، هذا لا يجوز لا فقهًا ولا عقلًا ولا تدبيرًا، ولكني ألاحظ أن أكثر الأوراق أشارت إلى منهجين في حل هذه القضية، المنهج الأول هو الرأي الذي يقول برد المثل من غير التفات إلى ما حصل من انقطاع العملة أو كسادها، وهذا الرأي لا يمكن القياس عليه بحسب ما استمعنا من الملاحظات والمناقشات إلى آخره، لا يمكن أن يقاس عليه حكم النقود الورقية لاختلافها عن النقود الذاتية من وجوه كثيرة وقع شرحها والتنويه بها. وأما الرأي الثاني فقد وقفنا في هذه الأوراق المقدمة إلينا على أن طائفة من العلماء ومن الفقهاء في مختلف المذاهب أخذت به، فأقل هؤلاء في الاتجاه الذي مالوا إليه: إن انقطعت فلوس قضى قيمتها. وهذا كلام سحنون وكلام أشهب، وقال ابن شاس: إذا كانت الفلوس من بيع فعلى المبتاع قيمة السلعة. وهذا الرأي اشتهر في القرن الخامس كما جاء في ورقة فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي، اشتهر في القرن الخامس وكانت به الفتوى في بعض الأمصار، ذلك أن الدائن عمر ذمة المدين بشيء منتفع به –أي له قيمة- وقت العقد، فإذا تلفت قيمته فإنه يكون من العدل أن يعيد للدائن نظير ما أخذه منه، ولا يتحقق ذلك بالعدد الظاهر ولكن بالقيمة النفعية التي كانت وقت العقد، فإذا بقيت السكة رائجة على حالها بمعنى على قيمتها كان العدل أن يأخذ بنفس السكة، وإذا انقطعت وحولت أو تحولت أخذ قيمتها من السكة الجديدة حتى تكون هذه السكة المحدثة التي يتقاضاها عن دينه تمكنه مما كان يتمكن منه من السكة القديمة.

ثم وجدنا أن الأوراق التي عرضت علينا تناولت من طرف الاقتصاديين والفقهاء جميعًا اعتبار النقود الورقية التي أصابها تغيير فاحش محمولة في اعتقادهم وفيما قرروه بما يلحق النقود من الكساد، ونبهوا على مواقف كثير من علماء المذاهب من هذه المسألة، فقالوا بالقيمة وبمراعاتها في المتماثلات؛ لأن المثلية لا تتحقق على الوجه الصحيح إلا بالتساوي فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، وأوردوا في هذا المجال كلام الرهوني من المالكية وكلام ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة، وأقوال أبي يوسف ومحمد من الحنفية، وتبين من مجموع ذلك أن القول بوجوب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة هو الأولى بالاعتبار؛ لأنه الأقرب للعدالة والإنصاف، ولأن فيه رفع ضرر عن كل من الدائن والمدين ولاحظ هؤلاء الإخوان بأن هذا الحكم أو هذا الاتجاه يرجع بنا إلى تحكيم القاعدة العامة الشرعية التي تقول:" لا ضرر ولا ضرار " ورغم جموح غالب الدراسات إلى هذا الرأي والاتجاه الذي لاحظنا فإن بعض الإخوان خلطوا هذا الموضوع بقضايا أخرى تتصل بأسباب التضخم وأرادوا أن يبحثوها ولكن الوقت لا يتسع لذلك، وأنا أعلم وأتأكد بأن الحكم لا يكون حكمًا نهائيًّا إلا بربطها بهذه الأسباب ومعرفة طريق الخروج من هذه النتائج السلبية التي حصلت للتضخم، وقد طرحت بعد ذلك أوجه كثيرة في التقويم. إذا نحن ملنا إلى القيمة فما هو طريق تقويم هذا الفارق إذا كان كبيرًا، إذا كان فاحشًا؟ فعرضت علينا صور متعددة، وهذه الصور المتعددة تناولت بغير شك في المحل الأول الرجوع إلى الذهب باعتباره هو الأكثر استقرارا وثباتا، والرجوع إلى سلة السلعة وهذا معتمد في كثير من الدول، وبعضهم يقول: ينبغي الاتفاق على طريقة في البيوعات أو المعاملات المستقبلية حتى لا يكون الطرفان على رضا بما يريدان أن يصلا إليه عند الحكم في هذه القضايا. ثم جاءتنا الورقة التي وقع التنويه بها كثيرًا والتي أشار إليها أكثر من واحد وهي قضية الطوارئ العارضة التي تقتضي في نظرهم أن الأمر ينبغي أن يكون مناصفة بين الدائن والمدين حتى لا يتضرر أحدهما. وهذه الفتوى التي صدرت في الظروف الطارئة التي أخذ بها مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة في دورته الرابعة، وذلك من نحو ثلاثة عشر عامًا اعتمادًا على ما استند إليه من الأدلة الشرعية في ذلك الوقت.

ص: 1213

قلت: هذا وأريد أن أضيف إليه شيئًا واحدًا هو أن هذا الحديث أفادنا فوائد كثيرة من أهمها وجوب التفكير –كما قال فضيلة الشيخ الفرفور- في عقد ندوة تبحث هذه القضايا، هذا ما فكر فيه المجمع من أيام عديدة منذ أكثر من شهرين ونحن نتابع هذه القضية، ووقع الاتفاق بين مجمع الفقه الإسلامي وبين مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين على عقد ندوة بل ندوات حول هذا الموضوع وأكثركم من الإخوان الفقهاء والاقتصاديين مدعوون للمشاركة فيها، وترتيب هذه الندوات بحسب الموضوعات: ندوة أولى في التضخم، تعريفه وأسبابه وطرق قياسه. الندوة الثانية في الآثار الاقتصادية والاجتماعية للتضخم. والندوة الثالثة في الحل الإسلامي لمعالجة الآثار السلبية للتضخم.

لهذا أردت أن أحيط حضراتكم به لنكون على بينة من أن الأمر يحتاج دائمًا إلى زيادة التفكير والتروي في إصدار القرارات والأحكام، ولهذا لا سبيل إلى اللجوء إلى طريق الحكم إلا باعتبار القيمة لا باعتبار المثلية؛ لأن المثلية لا تكون متحققة تمام التحقق إلا إذا تساوى المثل مع المثل الآخر في قيمته الحقيقية لا في صورته الشكلية.

وشكرًا لكم.

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نعتذر عن بقية كلمات أصحاب الفضيلة والأساتذة لانتهاء الوقت ونختم هذه الجلسة بما يلي: وهو أنه يستخلص من المداولات أن هناك أربعة اتجاهات:

الأول: الرد إلى المثل كما صدر به القرار في الدورة الخامسة بالأكثرية من أعضاء هذا المجمع.

الثاني: الرد إلى المثل لكن في حال التضخم والكساد الجامح يكون التقدير بالقيمة.

الثالث: اللجوء إلى الصلح الواجب.

الرابع: جعل حد أعلى للغبن

على القول بالمثل والآثار السلبية على القول بالقيمة أو على كل قول من هذه الأقوال، ثم بعد التحرير الكامل من الاقتصاديين والفقهاء تحال إلى هذا المجمع في دورة لاحقة. وعلى كل يتبين كذلك أنه ليس هناك أكثرية إلى رأي من هذه الآراء، لكن ممكن أنكم ترون أن تؤلف لجنة من وجهات النظر بعد سماع هذه الخلاصة إثر المداولات من أصحاب الفضيلة والأساتذة: العارض، المقرر، الشيخ تقي، الشيخ ابن بيه، الشيخ ابن منيع، الشيخ علي السالوس، مناسب.

وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ص: 1214

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.

قرار رقم: 93/6/د9

بشأن: "قضايا العملة"

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415 هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995 م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "قضايا العملة"

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دلت على أن هناك اتجاهات عديدة بشأن معالجة حالات التضخم الجامح الذي يؤدي إلى الانهيار الكبير للقوة الشرائية لبعض العملات منها:

أ- أن تكون هذه الحالات الاستثنائية مشمولة أيضاً بتطبيق قرار المجمع الصادر في الدورة الخامسة، ونصه "العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًّا كان مصدرها بمستوى الأسعار".

ب- أن يطبق في تلك الأحوال الاستثنائية مبدأ الربط بمؤشر تكاليف المعيشة (مراعاة القوة الشرائية للنقود) .

ج- أن يطبق مبدأ ربط النقود الورقية بالذهب (مراعاة قيمة هذه النقود بالذهب عند نشوء الالتزام) .

د- أن يؤخذ في مثل هذه الحالات بمبدأ الصلح الواجب، بعد تقرير إضرار الطرفين (الدائن والمدين) .

هـ- التفرقة بين انخفاض قيمة العملة عن طريق العرض والطلب في السوق، وبين تخفيض الدولة عملتها بإصدار قرار صريح في ذلك بما قد يؤدي إلى تغير اعتبار قيمة العملات الورقية التي أخذت قوتها بالاعتبار والاصطلاح.

ص: 1215

و التفرقة بين انخفاض القوة الشرائية للنقود الذي يكون ناتجاً عن سياسات تتبناها الحكومات وبين الانخفاض الذي يكون بعوامل خارجية.

ز- الأخذ في هذه الأحوال الاستثنائية بمبدأ (وضع الجوائح) الذي هو من قبيل مراعاة الظروف الطارئة.

وفي ضوء هذه الاتجاهات المتباينة المحتاجة للبحث والتمحيص.

قرر ما يلي:

أولاً: أن تعقد الأمانة العامة للمجمع –بالتعاون مع إحدى المؤسسات المالية الإسلامية - ندوة متخصصة يشارك فيها عدد من ذوي الاختصاص في الاقتصاد والفقه، وتضم بعض أعضاء وخبراء المجمع، وذلك للنظر في الطريق الأقوم والأصلح الذي يقع الاتفاق عليه للوفاء بما في الذمة من الديون والالتزامات في الأحوال الاستثنائية المشار إليها أعلاه.

ثانياً: أن يشتمل جدول الندوة على:

أ- دراسة ماهية التضخم وأنواعه، وجميع التصورات الفنية المتعلقة به.

ب- دراسة آثار التضخم الاقتصادية والاجتماعية وكيفية معالجتها اقتصاديًّا.

ج- طرح الحلول الفقهية لمعالجة التضخم من مثل ما سبقت الإشارة إليه في ديباجة القرار.

ثالثاً: ترفع نتائج الندوة –مع أوراقها ومناقشتها- إلى مجلس المجمع في الدورة القادمة.

ص: 1216