الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحكيم
إعداد
الأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط
عضو المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وفقنا إلى القول الصالح والعمل الصالح، وأصلي وأسلم على نبي الهدى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد اخترت أن أكتب لمجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة في بحث من الموضوع الثاني وهو مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي في الفقرات الأولى – الرابعة والثانية عشرة والثالثة عشرة وهي:
1-
معنى التحكيم ودليله وما يجري فيه.
2-
الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي. نبذة مختصرة عن نشأة محكمة العدل الدولية.
3-
احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعاتهم فيما بينهم وحكم ذلك إذا كان النزاع فيما بين المسلمين وغيرهم.
والله ولي التوفيق
الأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط
عضو المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن
التحكيم
التحكيم لغة: جعل الحكم فيما لك لغيرك، يقال: حكمته في مالي إذا جعلت الحكم إليه فيه فاحتكم علي في ذلك (1)، وحكّمت (بالتشديد) الرجل: فوضت الحكم إليه (2)
وحكمه في الأمر تحكيمًا أمره أن يحكم فاحتكم (3) ، ويقال (حكم فلانًا عما يريد، وفلانًا في الشيء جعله حكمًا، وفي التنزيل العزيز {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] ، والمحكمة هيئة تتولى الفصل في القضاء، أو مكان انعقاد هيئة الحكم (4) .
وهناك علاقة بين المعنى اللغوي والعرفي في تسمية (المحكمة) وهي هيئة تتولى الفصل في القضاء، وفي اللجوء إلى الحكمين للفصل في الخصومة، فالتحكيم عرفًا: تولية الخصمين حاكمًا يحكم بينهما أي الفريقين المتخاصمين (5)، أو التحكيم: أن يحكم المتخاصمان شخصًا آخر لفض النزاع القائم بينهما على هدى من الشرع (6) وقد أدخل كل من التعريفيين المعرف في التعريف.
والتحكم بين الدول: عرفته المادة (37) من اتفاقية جنيف الأولى المعقودة بتاريخ 18 تشرين أول سنة 1907 بنصها. يرمي التحكيم الدولي إلى تسوية النزاعات الناشئة بين الدول، بواسطة قضاة تختارهم على أساس الحق (7) ، ويعرفه آخرون بأنه) لجوء الطرفين المتنازعين إلى من يحكمانه في البت في النزاع القائم بينهما. ((8) .
وركن التحكيم: اللفظ الدال عليه مع قبول الآخر مثل احكم بيننا، أو جعلناك حكمًا في كذا.
ويشترط في المحكم (بفتح الكاف) أن يكون عاقلًا، وأهلًا للتحكيم كأهلية الشهادة، فصح تحكيم الذمي بين أهل الذمة؛ لأنه أهل للشهادة، وتقليد الذي يحكم بين أهل الذمة صحيح، ولا يجوز أن يكون حكمًا بين المسلمين ويجوز أن يكون المحكم امرأة أو فاسقًا، وإن كان كره بعض العلماء تحكيم الفاسق (9) ، كما يشترط صلاحيته للقضاء وقت التحكيم ووقت الحكم معًا، فلو حكمًا صبيًا لا يجوز ولو حكمت صبيًا ثم بلغ عند الحكم لا يجوز، لأنه لم يكن وقت التحكيم أهلًا فلابد من أن يكون في الوقتين معًا أهلًا للتحكيم.
(1) الصحاح للجوهري 2 / 277
(2)
المصباح المنير / 100 طبعة بولاق.
(3)
القاموس المحيط 4 / 98 ط 1281 هـ
(4)
المعجم الوسيط 1 / 190
(5)
رد المحتار لابن عابدين 4 /381؛ وشرح مجلة الأحكام العدلية 2 / 538
(6)
الفقه الإسلامي وأدلته للشيخ الزحيلي 6 / 756
(7)
القانون الدولي العام لشارل روسو، ترجمة شكر الله خليفة وعبد المحسن سعد /301
(8)
الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام لعلي منصور / 205.
(9)
رد المحتار 4 / 383
دليل جواز التحكيم:
أولًا: الكتاب:
قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، فدلت الآية على جواز التحكيم قال ابن عباس: وإن خفتم الآية، هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلًا صالحًا من أهل الرجل، ورجلًا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروها على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة وقسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرها جائز (1) .
وقوله سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، أي: لا يؤمنون حتى يجعلوك حكمًا يتحاكمون إليك ويترافعون (2) .
ثانيًا: السنة:
1-
عن أبي شريح قال: يا رسول الله، إن قومي إذا اختلفوا في شيء فأتوني فحكمت بينهم فرضي عني الفريقان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما أحسن هذا)) (3) !!.
2-
قبل النبي صلى الله عليه وسلم بتحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة وقبل حكمه فيهم، لما اتفقت اليهود على الرضا بحكمه روى ابن هشام قال: فلما كلمته الأوس (أي في أمر يهودي بني قريظة) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا ترضون ما معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟)) قالوا: بلى! قال: ((فذاك إلى سعد بن معاذ)) فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى سيدكم))
…
فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليكم لتحكم فيهم: فقال سعد بن معاذ: (عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم وقال: على من ههنا؟ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالًا له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نعم)) . فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء (4) .
(1) تفسير الألوسي 3 / 120
(2)
تفسير الألوسي 3 / 120
(3)
رواه النسائي
(4)
سيرة ابن هشام 3 / 190؛ تاريخ الطبري 2 / 587
3-
روي أنه كان بين عمر وأبي بن كعب منازعة على نخل فحكما بينهما زيد بن ثابت، فأتياه، فخرج زيد وقال لعمر:(هلا بعثت إلى فآتيك يا أمير المؤمنين)، فقال عمر:(في بيته يؤتى الحكم) ، فدخلا بيته فألقى لعمر وسادة، فقال عمر:(هذا أول جورك) فكانت اليمين على عمر، فقال زيد لأبي:(لو عفيت أمير المؤمنين)، فقال عمر:(يمين لزمتني)، فقال أبي:(نعفي أمير المؤمنين ونصدقه) يقول الكمال بن الهمام: وليعمل أنه لا يظن بأحد منهما في هذه الخصومة التلبيس وإنما هي لاشتباه الحادثة عليهما فتقدما إلى الحكم لتبيين لا للتلبيس، وفي الحديث جواز التحكيم (1) .
4-
وتحاكم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله إلى جبير بن مطعم، وروى الشافعي في الأم والبيهقي في السنن عن عبيدة السلماني قال: جاء رجل وامرأة إلى علي كرم الله وجهه ومع كل واحد منهما قائم من الناس، فأمرهم علي أن يبعثوا رجلًا حكمًا من أهله ورجلًا حكمًا من أهلها ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إذا رأيتما تجمعًا أن تجمعا وإن رأيتما تفرقًا أن تفرقا، قالت: رضيت كتاب الله بما علي به ومالي وقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
ثالثًا: الإجماع:
وقد أجمع الصحابة على جواز التحكيم (2) . وقد حكم علي بن أبي طالب ومعاوية في الإمامة أبا موسى الأشعري (3) .
رابعًا: المعقول:
وذلك أن الناس يحتاجون إلى فض الخصومة فيما بينهم دون الرجوع إلى القضاء والخوض في إحضار البينات والمرافعة وغيرها، ولا سيما في أيمانا هذه لتعقيدات القضاء في الخصومات، وامتداد الزمن في تأجيل البت في القضايا، مما يؤدي إلى ضياع كثير من الحقوق وملل المتخاصمين فيلجأ إلى التحكيم لسرعة البت في الموضوع ومساعدة القاضي في الحكم.
والتحكيم نوع من القضاء في فض الخصومات
ويشترط في المحكم أن يكون قادرًا على التحكيم، ويرى الحنفية أن كل من تقبل شهادته في أمر جاز ان يكون حكمًا فيه، وعلى هذا يجوز تحكيم المرأة؛ لأنها تصلح للشهادة (4) ، واشترط غيرهم في المحكم أن يكون حرًّا بالغًا عاقلًا عادلًا مقبول الفتوى عالمًا بالشريعة (5) ، ورأي الحنفية أولى في زمننا هذا.
(1) فتح القدير 6 / 406
(2)
فتح القدير 6 /406
(3)
شرح العناية على الهداية للبابرتي 6 / 406؛ المبسوط للسرخسي 21 / 63
(4)
كتاب أدب القضاء للقاضي شهاب الدين أبي إسحاق / 146، ومعين الأحكام /24؛ وشرح أدب القاضي للخصاف 4 / 61
(5)
كتاب أدب القضاء / 431
ما يجري فيه التحكيم:
ويجوز التحكيم في الأمور المالية والأحوال الشخصية والأمور السياسية المتعلقة بين الحكام والمحكومين أو بين الدول المسلمة بعضها مع بعض، وقد منع بعض الفقهاء أن يكون التحكيم في عقوبة الله تعالى (1) أي في الحدود والقصاص لأنه لا ولاية للمحكمين على دمهما أي هي من حقوق الله تعالى والإمام هو المتعين لاستيفائهما (2)، وقال شمس الأئمة والكمال بن الهمام من الحنفية: يجوز التحكيم في حد القذف والقصاص، قال المرغياني (وتخصيص الحدود والقصاص يدل على جواز التحكيم في سائر المجتهدات (3) . وعبر عبد الله الموصلي عن عدم جواز التحكيم في الحدود والقصاص؛ لأنه لا ولاية لهما على دمهما حتى لا يباح بإباحتهما) (4) .
والفرق بين القضاء والتحكيم أن المحكم قد يولي من القاضي، من جهة المتخاصمين الذين احتكموا إليه، القاضي يولي من الإمام أو نائبه أو من الدولة، وولاية القضاء واسعة، وولاية التحكيم قاصرة على المتحاكمين فقط، ويمكن للقاضي أن يفسخ حكم المحكمين، والقضاء لا يشترط فيه موافقة المتخاصمين على القاضي، ويشترط في التحكيم، وشروط القاضي أشد من شروط المحكم.
مبدأ التحكيم الدولي:
يختلف التحكيم عن القضاء وإن كان المحكم هو بمثابة القاضي، وأوجه الاختلاف أن القاضي يعين من الدولة في أي محكمة من محاكمها سواء أكانت محكمة صلح أو ابتدائية أو استئنافية أو محكمة التمييز العليا، بينما المحكم يختاره الطرفان المتنازعان برضاهما، ويتفقان على قبول حكمه.
والإسلام أول دين أقر التحكيم – كما ذكرنا الأدلة على ذلك – وتطور في الأمم بعد ذلك ولا سيما في الدول الغربية إذا نشأ التحكيم بواسطة رئيس الدولة (الملك أو مندوب عنه) وذلك عندما نشأ التنازع بين البابا والإمبراطور، أي بين السلطتين الدينية والدنيوية، ثم زال هذا النوع من التحكيم في عهد الإصلاح الديني، وظهور الدول القومية في القرن السادس عشر في أوروبا، وبدأ التحكيم بواسطة لجنة مختصة، وأول تطبيق لها كان بين إنجلترا والولايات المتحدة في منازعات الحدود بينها كحالة تحديد نهر الصليب المقدس (Sainte Croixe) .
(1) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 264
(2)
مشروع الهداية 6 / 408
(3)
الهداية للمرغيناني 3 / 79
(4)
الاختيار لتعليل المختار 2 / 93
ثم تطورت لجان التحكيم إلى تكوين (لجنة مختلطة) من الأطراف المتنازعة وذلك بمعاهدة جاي (Jay) في 19 تشرين الثاني سنة 1794 م وفي 8 أيار سنة 1971 م لجأت الدولتان بريطانيا والولايات المتحدة إلى تحكيم بواسطة (محكمة تحكيمية) عهد بها إلى أشخاص يتمتعون بالاستقلال والتجرد ويتصفون بكفاءة علمية عليا، حسب معاهدة واشنطن المؤرخة في 8 أيار سنة 1971 م وفي سنة 1907 م عقدت اتفاقية لاهاي الأولى بين الدول المشتركة بشأن تسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية تقرر فيه إنشاء هيئة تحكيم دائمة، وعزز هذه الاتفاقيات الميثاق العام الصادر في جنيف في 26 سبتمبر سنة 1928 م ونص فيه على إنشاء هيئة التحكيم الدائمة (يكون لكل دولة وقعت على الاتفاقية الحق في اختيار أربعة على الأكثر، من كبار رجال القانون محكمين لمدة ست سنوات، ويكون مركز هذه المحكمة (لاهاي) . ويدير رئيس هيئة المحكمين جلسة التحكيم وفق الإجراءات المتفق عليها بين الدولتين المتنازعتين) .
ثم تطورت هذه الهيئة فأصبحت (محكمة التحكيم) المحدثة التي أنشئت بواسطة الاتفاقيات والمعاهدات المختلفة، ما بين سنة 1919 – 1955م، وظلت (محكمة التحكيم) ناقصة على الرغم من إصدارها القرارات المختلفة.
محكمة العدل الدولية:
اضطرت الدول الغربية إلى إنشاء محكمة العدل الدولية الدائمة تطبيقًا المادة 14 من عهد عصبة الأمم الذي أقر بتاريخ الأول من أيلول سنة 1939م، وقعته 59 دولة.
وقد أقر نظام المحكمة طريقة إنشاء المحكمة بتعيين خمسة عشر قاضيًا أصيلًا من مجلس العصبة والجمعية العامة، وتعيين أربعة قضاة احتياطيين، كما يعين قاض وطني لكل من الدولتين المتنازعتين حسب المادة (31) من نظام المحكمة. وتكون مدة المحكمة تسع سنوات ويجوز إعادة انتخابهم، وتجدد ولاية خمسة منهم بعد مضي ثلاث سنوات، وخمسة آخرين بعد ست سنوات، وهي مدة طويلة لتمكين المحكمة من الاستقرار وعدم الخضوع السريع لدولهم.
وتعقد المحكمة دورة سنوية عادية في قصر السلام بلاهاي كما يحق أن تعقد دورات استثنائية.
وللمحكمة مكتب مكون من موظف ومساعده يتولى إدارة شؤون المحكمة المالية والإدارية.
واختصاص المحكمة حل المنازعات الناشئة بين الدول في القضايا المتعلقة بالقانون الدولي، أو تفسير المعاهدات أو فرض الالتزامات الدولية أو التعويضات.
وولاية المحكمة ولاية اختيارية إذ لا تنظر في أي قضية إلا بموجب اتفاق بعقده الطرفان المتنازعان لهذه الغاية على أساس شرط التحكيم، وقد تكون الولاية إجبارية لمدة محددة من 5 – 10 سنوات في حالات أربع:
أ- تسوية المنازعات المتعلقة بالبلاد الموضوعة تحت الانتداب.
ب- تسوية الخلافات المتعلقة بحماية الأقليات.
- - تسوية الخلافات المتعلقة بالمواصلات الترانزيت
د- تسوية الخلافات المتعلقة بمنظمة العمل الدولي.
كما أنها قد تكون إلزامية إجبارية إذا اتفق الطرفان على ذلك. ويجوز للمحكمة أن تقدم الآراء الاستشارية لعصبة الأمم.
كما أنها قد كون إلزامية إجبارية إذا اتفق الطرفان على ذلك أو اتفق أعضاء الأمم المتحدة بالنزول على حكم المحكمة في أي قضية يكونون أطرافًا فيها، وإذا امتنع الطرف عن التنفيذ فللطرف الآخر أن يلجأ إلى مجلس الأمن، وللمجلس أن يصدر توصياته أو أن يصدر قرارات بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ الحكم كما نصت على ذلك المادة (94) من ميثاق الأمم المتحدة.
ومحكمة العدل الدولية جهاز رئيسي كما نصت المادة (7) من ميثاق الأمم المتحدة، ونصت المادة (92) منه على أن محكمة العدل الدولية هي الأداء القضائية الرئيسية للأمم المتحدة. كما حددت وظيفتها بالفصل في المنازعات التي ترفع إليها وفقًا لأحكام القانون الدولي وهي تطبق في هذا الشأن حسب المادة (38) .
1-
الاتفاقات الدولية العامة التي تضع قواعد معترفًا بها بصراحة من جانب الدولة المتنازعة.
2-
العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.
3-
مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتحدة المتمدنة.
4-
أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم، ويعتبر هذا أو ذاك مصدرًا احتياطيًّا لقواعد القانون وذلك مع مراعاة أحكام المادة (59 التي تنص على أن الحكم لا يكون له قوة الإلزام إلا بالنسبة لمن يصدر بينهم وفي خصوص النزاع الذي فصل فيه.
5-
يجوز للمحكمة أن تتبع قواعد العدل والإنصاف إذا اتفق الطرفان على ذلك.
مشروعية الاحتكام إلى محكمة العدل الدولية:
ذكرنا أن اختصاص محكمة العدل الدولية في القضاء والإفتاء والقواعد التي تعتمد عليها، ونريد أن نتبين الحكم الشرعي في الاحتكام إليها بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول غير الإسلامية، وبين الدول الإسلامية نفسها، وذلك يرجع إلى أمور ثلاثة:
أولًا: قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] فإن من الأئمة من قال: إن الآية عامة تشمل الدنيا والآخرة، وهي وإن تبعها قوله تعالى {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113] لكن عمومها يفيد أنها في الدنيا كما هي في الآخرة، والتحكيم والقضاء فيه سبيل على الآخرين، فلا يجوز التحكيم أو القضاء لغير المسلم، والمحكمون أو أعضاء محكمة العدل الدولية قد يكونون من المسلمين ومن غير المسلمين فلا يجوز للدولة أن تلجأ في التحكيم ولا في طلب الحكم إليهم للآية الكريمة (1) .
ثانيًا: هل يصح أن يكون المحكم (وهو كالقاضي) غير مسلم، وهل يصح أن يلجأ إلى محكمة العدل الدولية وقضاتها غير مسلمين لتفصل في النزاع بين الدول الإسلامية.
لقد نص الفقهاء على أن القاضي يجب أن يكون مسلمًا فقالوا: لا يجوز لكافر أن يتولى منصب القضاء بين المسلمين باتفاق الفقهاء لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] أي طريقًا للحكم عليهم، والقضاء من أعظم السبل وأقواها.
وأعضاء محكمة العدل الدولية بحسب اختصاصها إما أن يكون قضاة أو محكمين:
فإن اعتبرناهم قضاة، فإن كانوا مسلمين فليست هناك مشكلة في اللجوء إلى محكمة العدل، وإن كانوا غير ذلك فالنص على عدم جواز قضائهم في المسلمين (2) ، ومنهم الدولة الإسلامية، ولا يصح أن تفض النزاع فيما بينهم بل لا بد من قضاة مسلمين.
وإن اعتبرناهم محكمين فالخلاف بين الفقهاء في اشتراط الإسلام للمحكمة، فمنهم من اشترط أن يكن مسلمًا كالقاضي ومنهم من لم يشترط الإسلام بل اكتفى بأن يكون المحكم حرًّا بالغًا عاقلًا عادلًا مقبول الفتوى، عالمًا بالشريعة، يجوز الاحتكام إلى محكمين دوليين غير مسلمين، وأيضًا لا يجوز الاحتكام لمحكمة العدل العليا ما دام المحكمون غير مسلمين. وقد نص الفقهاء على أنه إذا كان الطرفان المتنازعان مسلمين جازت المفاوضة بينهما في هذا الأمر أو اللجوء إلى تكوين لجان تحقيق منهما أو لجان توفيق للإصلاح فيما بينهم. ويلتزم المحكمان بقرار المحكم عند الحنابلة والحنفية (3) ولكل منهما الرجوع عن التحكيم قبل إصدار الحكم عند الحنفية وسحنون من المالكيين أما ابن ماجشون فلا يجوز رجوع أحدهما.
(1) كتاب القضاء لعبد الله الشيرازي / 18؛ وتفسير الألوسي 3 / 78
(2)
الأحكام السلطانية للماوردي / 65؛ ورد المحتار 5 / 335
(3)
فتح القدير 5 / 498؛ والمبسوط 21 / 63؛ وحاشية الدسوقي 4 / 140
وعلى القول الثاني جاز أن يلجأ إلى التحكيم على أساس ما أقره الإسلام من قواعد قال عليه السلام في العهد الذي كتبه لأهل المدينة: ((أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله (1)، وقال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] )) .
وقد ذكر ابن هشام أن تحكيمًا جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نصارى نجران دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة فقال له أحدهم: أحكمك اليوم والليلة فمهما حكمت فهو جائز (2)
وإذا كانت المادة (33) من ميثاق الأمم المتحدة تحدد طرق الوسائل السلمية لحل الخلافات وفض النزاعات والتحقق والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية والالتجاء إلى المنظمات الإقليمية وغيرها من الوسائل السلمية التي يرضاها الطرفان، فالنص على رضا الطرفين أساسي في اختيار القانون الذي يحكمان به، ولذلك فإن الالتجاء إلى التحكيم الدولي أو إلى محكمة العدل الدولية يقتضي من الدول الإسلامية أن تختار اللجوء إلى الأحكام الشرعية وذلك لقوله تعالى {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] ، وقوله سبحانه:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 105]، ولقوله تعالى:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]، وما دامت القواعد العامة التي يلجأ إليها هي العدل وعلى أساس احترام الحق (كما جاء في المادة (37) من اتفاقية لاهاي) فإن العدل والحق يتمثلان في القواعد والأحكام التي جاءت بها الشرائع السماوية ومنها الإسلام. قال سبحانه {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] ، وقال {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، ويرى الشيخ وهبة الزحيلي أنه (لا مانع من تطبيق القانون الدولي (قواعد الحق والعدالة) في التحكيم لأن الرسول حدد مقدمًا لسعد بن معاذ في قضية التمكين في يهود بني قريظة القواعد التي قضي بها.
(1) سيرة ابن هشام 2 / 145
(2)
رواه البيهقي عن ابن مسعود بإسناد صحيح
وقواعد التمكين في محكمة العدل الدولية لا تخرج عن كونها إما اتفاقًا دوليًّا أو عرفًا عامًّا سارت الدول على مقتضاه، أو قاعدة من قواعد العدل والإنصاف، فإذا اضطرت قاعدة ما بالمسلمين كانوا بالخيار كما هو المقرر دوليًّا في عدم عرض النزاع على محكمة العدل المذكورة (العلاقات الدولية في ظلال الإسلام) / 77
وهذا الكلام لا يقبل على إطلاقه من الدكتور الزحيلي للأسباب التالية:
1-
التحكيم إنما يكون لشرع الله سبحانه، وقواعد التحكيم أو الحكم في محكمة العدل الدولية لا ترجع إلى الشريعة الإسلامية بل ترجع إلى الاتفاقات الدولية أو العادات الدولية المرعية أو مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدنة، فهل هذه متطابقة مع شرع الله أو مستمدة منه، وقد بلونا الأمرين من الاتفاقات الدولية التي ما وضع أكثر أحكامها إلا لتمكين الدول الكبرى المتحكمة من الاستمرار في السيطرة على الشعوب والأمم وابتزاز خيراتها.
2-
الأعراف الدولية منها ما هو عرف صحيح ومنها ما هو عرف فاسد فكيف نلجأ إلى تحكيمهم في رقابنا والله يقول {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] .
3-
قواعد (الحق والعدالة) أو قواعد العدل والإنصاف) قواعد مبهمة تختلف باختلاف وجهات نظر الدول والقضاة، فلا يصح الرجوع إلى أمر مبهم غامض أو فيه اختلاف وجهات النظر.
والفرق بين الرأيين: أن الرأي الأول لا يجيز اللجوء إلى التحكيم الدولي أو محكمة العدل الدولية إلا إذا كان المحكمون مسلمين، أما الرأي الثاني فيشترط الحكم بالقواعد والتعاليم الشرعية ولو لم يكن المحكمون مسلمين.
والرأي الذي أراه أن اللجوء إلى المحكمين يقتضي أن يكون بينهم مسلمون، وأن يلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية في التحكيم أو أن لا يكون القانون أو القواعد التي يلجأ إليها المحكمون متعارضة مع نص الشريعة الإسلامية أو مقاصدها الشرعية، لا سيما وأن فيها من البنود ما يجعل وضع قواعد التحكيم متروكًا للدولتين المتنازعتين (1) .
وأما اللجوء إلى المحاكم الدولية مما لم يكن القانون الذي يحكم به موافقًا لما جاء به الإسلام، وما لم تكن مواد القانون قد وضعت باشتراك الدول الإسلامية وأقرتها طبقًا لفلسفتها ودستورها، فلا يجوز اللجوء إليها لما ذكرنا من النصوص القرآنية الصريحة؛ لأن ذلك اعتراف بسيادة قانون غير إسلامي ليحكم به في خلافات المسلمين.
وقد نص الفقهاء على أن شرط التحكيم من جهة المحكم العقل والإسلام، وأن شرط المحكم أن يكون فهيمًا وأمينًا وقادرًا على التمييز وصلاحيته للقضاء وقت التحكيم.
ونحن من الرأي القائل بأن التحكيم إنما يكون في سائر الأمور المالية والاجتهادات، كما نص على ذلك صاحب الهداية والدر المختار والبحر الرائق والفتاوى الهندية.
وينفذ حكم المحكم أو محكمة العدل الدولية في حق المتنازعين فقط الذين حكماه به أو لجأ إلى المحكمة فيه، ولا يتجاوزه إلى غيره من سائر الخصومات، وينفذ على من رضي به من المحكمين (2) .
والله سبحانه وتعالى أعلم وبالله التوفيق.
25 / شوال / 1414 هـ
الدكتور عبد العزيز الخياط
(1) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام / 205
(2)
المادة 1842 من مجلة الأحكام العدلية