الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحكيم في الفقه الإسلامي
إعداد الأستاذ محمود شمام
الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين الحكيم الذي له الحكم وهو أحكم الحاكمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد بن عبد الله وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليمًا.
صدق الله العظيم
التحكيم
إن الإنسان مدني بالطبع وهو في حاجة أكيدة وشديدة إلى التعامل مع أفراد مجتمعه للتحصيل على ضروريات قوته ومعاشه وتحقيق متطلبات حياته.
وهذه الحاجة يتبادلها الأفراد كما تتبادلها الجماعات بحكم الضرورة الملحة والمصلحة الدافعة.
ويحدث الخلاف والنزاع والشقاق وتباين وجهة النظر والرأي ثم إسناد المنافع وتبنيها واقتنصاها.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى وسائل لسد الذرائع وحماية المجتمع وأفراده في تعاملهم وفي حياتهم المدنية والاجتماعية والشخصية الفردية.
وجاءت وسائل الإثبات وإقامة الحجج ورسم الخطط لدفع هذا النزاع ورده وصده.
ولكن مع كل ما يحاط به الموضوع من حماية ورعاية فالخلافات تتوجد وتتكون والنفوس تتقاذفها الأهواء وتتجاذبها المنافع فتدفعها دفعًا إلى إهدار الواجبات والارتماء خلف الادعاءات الكاذبة الباطلة توصلًا لأغراض زائلة وأعراض فانية وأرباح تافهة.
واحتيج إلى التقاضي والالتجاء إلى الحكم بين الناس واحتيج إلى من ترفع إليه القضايا ليحسم الخلافات ويقضي على النزاعات ويحافظ على سلامة المجتمعات ويحمي أفرادها من تنطع بعضهم وتعمده دوس الحقوق واجتياز الحدود والاستيلاء باطلًا على أموال الناس.
والحكم هو العلم والفقه والتفقه والقضاء بالعدل بين الناس وهو مصدر حكم يحكم وجمعه أحكام والتحكيم إسناد الفعل يقال: حكمت فلانًا أي أطلقت يده ورأيه وأوكلت الله تنفيذه.
جاء في لسان العرب: مادة حكم الحكم هو القضاء وجمعه أحكام وهو مصدر قولك: حكم فيهم يحكم أي قضى وحكم له وحكم عليه.
وحكموه بينهم انتخبوه للحكم وأجازوا ما يقضي به.
وفي مختار الصحاح في نفس المادة:
حكمه في ماله تحكيمًا إذا جعل إليه الحكم فيه.
وجاء في نفس المادة من كتاب المصباح المنير:
الحكم هو القضاء حكمت الرجل بالتشديد فوضت إليه الحكم
وجاء التشريع الإسلامي قاضيًا بأن من دعي إلى حاكم لفض خلاف ونزاع فعليه الإجابة والامتثال. ودليل ذلك قوله سبحانه وتعالى:
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] .
يقول الماوردي (1) : الآية دليل على وجوب الاستجابة لدعوة القضاء، ويقول: إنه ورد عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قوله: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((من دعي إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم لا حق له)) . . . . .
(1) الماوردي هو القاضي أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي، ففيه شافعي المذهب تولى القضاء حتى بلغ رتبة قاضي القضاة، له عدة مؤلفات قيمة هي مرجع من أهم المراجع منها كتاب الأحكام السلطانية وكتاب الحاوي وكتاب أدب القاضي وغيرها توفي سنة 450 / 1036
والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .
وعرف الإمام ابن عرفة القضاء بقوله (1) :
(صفة حكمية توجب لموصوفها النفوذ الشرعي ولو بتعديل تجريح لا في عموم مصالح المسلمين) .
شرع الرصاع على حدود ابن عرفة والقضاء حددت معالمه وحددت مفاهيمه في الحديث النبوي الشريف عن أبي ذر:
قلت: يا رسول الله ألا استعملتني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها.
ولقد كان رسول الله ومصطفاه محمد بن عبد الله أول قاض في الإسلام.
فالله سبحانه وتعالى يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
والله سبحانه يخاطب نبيه الأمين عليه الصلاة والتسليم {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 48] .
وهو يخاطبه جل شأنه قائلًا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة: 49 – 50] .
(1) الإمام ابن عرفة هو محمد بن محمد بن عرفة التونسي الورغمي ولد بتونس العاصمة سنة 716هـ وتوفي بها سنة 803 هـ فقيه أديب نحوي كان حافظًا للمذهب المالكي ضابطًا لقواعده مجيدًا في العربية والفرائض والحساب والمنطق له تآليف مفيدة منها تفسيره الكبير في المذهب في نحو عشرة أسفار وله تأليف الأصول والتفسير وكان شخصية علمية بارزة في أفريقيا. انظر ما كتب عنه الأستاذ سعد الغراب في مجلة الهواية عدد 3 – 4 سنة 1981 وانظر دراسة عنه معمقة لفضيلة الشيخ محمد شمام نشرتها الهداية بعدد 6 سنة 9 شوال جويلية1402 / 1982
وفي الحديث الصحيح المتفق عليه الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أم سلمة عن زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت:
جاء رجلان يختصمان في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار)) .
فالقاضي إذا أصدر حكمه وأصبح نهائيًّا غير قابل للطعن اعتبر هذا الحكم عنوان الحقيقة ووجب احترامه والخضوع له وأصبح لا مفر من تنفيذه إذا طلب المحكوم له ذلك.
أما ما يصدر عن رجل العلم والفتوى فهو محل للمناقشة ويصح الأخذ به أو العدول عنه.
القاضي يعتمد فيما يصدره من أحكام على الدليل والحجة والراجح من الأقوال في مذهبه كما يعتمد البينة أي يبين الحق ويظهره ويثبته ويرد الباطل ويدحضه ويقضي على ألاعيب الخصوم وحيلهم.
وقد يكون رأي هذا القاضي مخالفًا حين ينتصب للفتوى فيفحص الموضوع من زاوية أخرى ويأخذ بالمرجوح من الأقوال ليطبقه على الموضوع المطروح عليه مراعيًا في ذلك المصلحة العامة المرسلة مجتهدًا في التيسير سالكًا سبل الوصول إلى الحق من أيسر الطرق ((ومن يشاد هذا الدين يغلبه)) .
فالنص الشرعي الثابت المسند إليه يمكن أن يعتمد ويستدل به على صرح ما يفهم من عبارته أو إشارته أو دلالته أو اقتضائه، وهذه طرق متفاوتة في قوة دلالتها وعند التوقف والتعارض يرجح المفهوم بالعبارة على المفهوم بالإشارة ويجرح المفهوم بأحدهما على المفهوم بالدلالة وطبعًا مع الإسناد فيما أبداه من الرأي وأدى إليه اجتهاده فيما صرح به.
قال بعضهم: الفرق بين القضاء وفقه القضاء فرق بين الأخص والأعم، ففقه القضاء أعم؛ لأنه الفقه بالأحكام الكلية وعلم القضاء هو العلم بتلك الأحكام الكلية مع العلم بكيفية تنزيلها على النوازل الواقعة والقاضي بمعزل عن الإفتاء وإبداء الرأي في القضايا التي من المفروض أن تنشر لديه.
يقول ابن عاصم: ومنع الإفتاء للحكام، في كل ما يرجع للخصام.
وهذا هو الفرق بين علم الفتيا وفقه الفتيا. ففقه الفتيا هو العلم بالأحكام الكلية أما علم الفتيا فهو معرفة تلك الأحكام مع معرفة تنزيلها على أهم النوازل.
فالمقلد قد يحفظ مذهب إمامه وهو عاجز عن الغوص في أعماقه ومعرفة غوامضه وهو قاصر عن تقدير أدلته ومرجحات آرائه.
وقد تجد الرجل يحفظ كثيرًا من الفقه ويفهمه ويدرسه ويعلمه للناس فإذا سئل عن واقعة وقعت أو نازلة نزلت فهو لا يحسن الجواب بل ولا يفهم المراد ضرورة أنه لا يجدها فيما حفظه ووعاه.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها)) .
وما العمل بها إلا إرشاد الناس وتوجيههم والسعي إلى حل مشاكلهم في نطاق مبادئ الشريعة السمحة وما جاءت به من أحكام شاملة.
يقول شيخنا شيخ الإسلام محمد العزيز جعيط:
الحكم يلزم أن يكون فيما يتناوله الخصم والتداعي وإلا كان فتوى لا حكمًا، وهذا كأن يدعي الاستحقاق أبناء أخ في وقف سبله واقفه على أولاده وأولادهم والطبقة السفلي لا تشارك الطبقة العليا، ثم مات الواقف عن ولدين ومات بعده أحدهما عن أولاده وأخيه، فنازعهم العم في استحقاقهم بدعوى أن كل فرد من أفراد الطبقة العليا يحجب الطبقة السفلي عن الاستحقاق فحكم القاضي المالكي باستحقاق أولاد الأخ مع العم وبأن الطبقة العليا إنما تحجب فرعها لا فرع غيرها.
فالمعتبر حكمًا هو استحقاق هؤلاء الأفراد مع عمهم أما حكمه بأن الطبقة العليا إنما تحجب فرعها لا فرع غيرها فخارج مخرج الفتوى لا يمنع حاكمًا آخر يرى خلاف هذا المذهب أن يحكم فيما سيحدث في هذا الوقف من النزاع بحرمان فرد من أهل الطبقة السفلى (من غير المحكوم عليهم أولًا) من الاستحقاق لوجود فرد من أهل الطبقة العليا وإن لم يكن أصلًا للمحكوم بحرمانه، ولا يصده عن الحكم حكم الأول بأن الطبقة العليا إنما تحجب فرعها لا فرع غيرها لخروج هذا الحكم مخرج الفتوى.
وفتوى المفتي بشيء لا تمنع فتوى غيره بخلاف فتواه ولا حكم غيره بخلاف ما ارتآه؛ لأن الغرض من الحكم سد باب الخصومات وحسم النزاعات ودرء الظلامات وتمكين أهل الحقوق من حقوقهم فيجب أن يقتصر فيه على ما يفي بهذا الغرض. اهـ (1) .
وشيخنا رحمه الله يشير إلى أن فقه القضاء وتعليل الأحكام وإيضاح الأحكام وإيضاح أسانيد الرأي فيها لا يعني اتصال القضاء في ذلك ولا يمنع من حرية الاجتهاد لاحقًا في القضاء والفتوى.
(1) كتاب الطريقة المرضية صفحة 241
مبدأ التحكيم
في الفقه الإسلامي
وإذا كان القضاء هو مكان التقاضي ترفع إليه الخصومات والنزاعات لفصلها والبت في شأنها فما هو دخل غير القضاة في فصل النزاعات وحلها؟
لقد سمح بهذا التحكيم نفاذًا لإرادة المتخاصمين وإطلاقًا لحريتهم وتخفيفًا من حدة التقاضي أمام القضاة.
وهو تحكيم في عموم قضايا الأموال وجملة حقوق المتنازعين وتحكيم يتعلق بالخصام بين الزوجين والخلافات بينهما التي قد يتعذر إثباتها ونسبة أضرارها لفاعلها.
والأصل في ذلك أي في إثبات تحكيم القرآن الكريم
قال الله سبحانه وتعالى:
والآية بعدها 65: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
قال النسيابوري: اختلف المفسرون في المراد من الطاغوت على أقوال متعددة ترجع كلها إلى معنى واحد وهو التحاكم لغير كتاب الله وسنة رسوله والتحاكم إلى الطاغوت هو كفر بالله والكفر بالطاغوت إيمان بالله ورسوله.
قال سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] .
جاء في سبب نزول تلكم الآية عدة أقوال منها أنها نزلت في رجل منافق يقال له بشر تخاصم مع يهودي في أمر بينهما تنازعاه واختلفا عليه والتجآ إلى التحاكم فطلب بشر من اليهودي أن يحكم بينهما كعب بن الأشرف وطلب اليهودي أن يتحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حكم لفائدة اليهودي، فلما خرجا من عنده قال بشر: لا أرضى بهذا الحكم فاجعل بيني وبينك أبا بكر الذي نظر في الموضوع ثم حكى لليهودي فلما خرجا قال بشر لا أرضى بهذا الحكم، بيني وبينك عمر بن الخطاب، فقصداه وقص عليه اليهودي القصة من أولها وأخبره بما حكم به الرسول عليه الصلاة والسلام وكذلك ما حكم به أبو بكر.
فسأل عمر بشرا هل هذا حقًا؟ فقال له نعم!
فأخذ عمر بسيفه وضرب عنقه وقال هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله ورسوله وبلغ الأمر إلى النبي عليه أفضل الصلاة والسلام فقال لعمر: ((أنت الذي يفرّق الله به بين الحق والباطل، أنت الفاروق)) .
قال أبو بكر الجصاص: إن من رد أوامر الله أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم.
والظاهر أن المراد بكفر الشرك الجحود لأن جحود حكم الله أو الحكم بغيره من الإخبار بأنه حكم الله هو كفر، وفاعله مرتد إن كان قبل ذلك مسلمًا به هـ.
والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51] .
واجتهاد سيدنا عمر بقتل المنافق الذي لم يرض بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل القرآن موافقًا له فيما قضى به.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
يقول ابن العربي: إذا كان النزاع بين معاهد ومسلم فالنظر لقضاء المسلمين ولا يقع التقاضي لدى أهل الذمة.
أما بين أهل الذمة فأمرهم إليهم فإذا جاء إلى قاضي المسلمين فإن شاء حكم وإن شاء أعرض هـ.
والله سبحانه وتعالى لا يجبر على مقاضاة غير المسلمين أمام القضاء الإسلامي ويقرر أنهم إذا رغبوا في التقاضي أمام المسلمين فعلى هؤلاء أن يحكموا بينهم بالقسط طبق الشرع الإسلامي. وهذا صريح قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] .
وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] .
وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] .
ويروي مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن جابر بن عبد الله: ((رجم زانيين من اليهود بقضاء الرسول عليه الصلاة والسلام بعد الإطلاع على حكم التوراة واستشارة من يعرف أحكامها)) .
وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: مر على النبي عليه الصلاة والسلام بيهودي محمم (أي طلي وجهه بالفحم) مجلودًا فدعاهم وقال لهم: ((هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟)) . . . .
قالوا: نعم، فدعى رجلًا من علمائهم وقال له:((أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى؛ أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟.)) قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك فحده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه)) وأمر به فرجم وقال: ((إني أحكم بما في التوراة)) .
والرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الخمسة عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها:
((أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) .
يقول القرطبي: إن اليهود حكمت النبي عليه الصلاة والسلام فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة.
والتحكيم جائز بصورة عامة في كل حق اختصم به الخصوم، وينفذ حكم المحكم وذلك في الأموال والحقوق التي تخص الطرفين ضرورة أن التحكيم حق للطرفين ولم يكن من حق القاضي.
ويؤيد هذا ما يقوله الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه (إذا حكم رجل رجلًا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه) .
ويقول سحنون معلقًا: يمضيه إن رآه صوابًا.
وقد أخرج الحاكم في المستدرك وأبو داود والدارقطني أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان من الأنصار في مواريث متقادمة فقضى عليه الصلاة والسلام بينهما في بيتي)) .
وجاء في سنن النسائي كتاب آداب القضاة باب إذا حكموا رجلًا فقضى بينهم (1) .
قال أخبرنا قتيبة قال حدثنا يزيد وهو ابن المقدام بن شريح عن شريح بن هاني عن أبيه هاني أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه وهم يكنون هانئًا أبا الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:((إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم؟)) فقال له: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين قال: ((ما أحسن هذا؟
…
فمالك من الولد؟)) قال لي: شريح وعبد الله ومسلم: قال: ((فمن أكبرهم؟)) قال: شريح. قال: ((فأنت أبو شريح)) ودعا له ولولده.
يقول جلال الدين السيوطي في شرح هذا الحديث والتعليق عليه: ما أحسن هذا أي الذي ذكرت من الحكم على وجه يرضي المتخاصمين فإنه لا يكون دائمًا على هذا الوجه إلا بكونه عدلًا.
وقد جرى عمل الصحابة بالتحكيم فقد روي البيهقي (سنن البيهقي ج 10، ص 144) عن الشعبي أن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب تقاضيا إلى زيد بن ثابت رضي الله عنهم فقال زيد لعمر: لو أرسلت إلي لجئتك فقال عمر: في بيته يؤتى الحكم (2) .
فأخذ زيد وسادته ليجلس عليها عمر الذي قال له: هذا أول جورك سو بيننا في المجلس، فجلسا بين يديه ونظر في شأنهما فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد لأبي لو عفوت أمير المؤمنين عن اليمين فقال عمر: ما يدري زيد ما القضاء.
قال في كتاب العناية على الهداية (بهامش فتح القدير جزء 5 صفحة 498) : الصحابة رضي الله عليهم مجمعون على جواز التحكيم وهو فرع من فروع القضاء والتحكيم له جذور بعيدة تحدث عنه القرآن الكريم، وقص أخباره.
ولا مراء ولا خلاف أن المصدر الأول والمرجع الأساسي للتشريع الإسلامي هو كتاب الله القرآن الذي أحكمت آياته، هذا الكتاب الذي لا يتطرق الشك إلى صحة نصه خلافًا لكل الكتب الأخرى.
(1) سنن النسائي ج 8، ص 226
(2)
تم المثل في بيته يؤدي الحكم مثل قديم جاهلي حكاية الأرنب التي التقطت ثمرة فاختلسها منها الثعلب وأكلها فحكما الضب بينهما وذهبا إليه وسمع منهما وطلبا منه أن يخرج إليهما فقال: في بيته يؤتي الحكم (مجمع الأمثال للميداني ج 1، صفحة 183) .
وروى ابن جرير عن عامر قال:
جاء رجلان إلى القاضي شريح فقال أحدهما إن شاة هذا قطعت غزلًا لي فقال شريح: نهارًا أم ليلًا؟ إن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشاة وإن كان ليلًا ضمن. ثم تلا قوله سبحانه وتعالى {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] .
وهكذا قضى شريح بما جاء في الحديث السابق مطبقًا الآية الكريمة باعتبار أن أصل الضمان محمول على كاهل رب الغنم التي تنهمل ليلًا بدون راع وتفسد أشياء الآخرين.
وقد اختلف الفقهاء فيما أفسدته المواشي والدواب على أربعة أقوال:
الأول: إن كان دابة مرسلة غير محفوظة فصاحبها ضامن لما أفسدته.
الثاني: أن لا ضمان على صاحب الدابة.
الثالث: إن أرباب الدواب يضمنون ليلًا لا نهارًا.
الرابع: وجود الضمان في غير المنفلت دون المنفلت.
وقد ذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه إلى الضمان ليلًا لا نهارًا؛ إذ العادة الغالبة حفظ الزرع نهارًا والدابة ليلًا، ولذا فإن كل واحد يتحمل مسؤولية حفظه لما يملك، ويؤيد ذلك ما ذهب إليه الإمامان الشافعي والحنبلي رضي الله عنهما.
أما الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه يرى أن لا ضمان إطلاقًا وأن البهائم إذا أفسدت زرعًا ليلًا أو نهارًا فإن صاحبها لا يغرم وإن حديث البراء منسوخ بحديث آخر وقوله عليه الصلاة والسلام ((جرح العجماء جبار)) . . . . أي هدر.
وعمدة مالك والشافعي وابن حنبل آية {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] . وحديث ناقة البراء المتقدم، ويقولون إن حديث جرح العجماء جبار. لم يكن ناسخًا بل هو عام وخص منه الزرع بحديث البراء، هذا وقد استفاد التقنين الوضعي من هذا الاختلاف الفقهي واعتمد واضعوه تلكم المبادئ في مسؤولية صاحب الحيوان عما أتلفه حيوانه من الزرع وإن اختلفت الفروع فقد اتحد الأصل (يراجع في ذلك الأحكام المتعلقة بالفصل 94 من المدونة المدنية التونسية والمادة 176 من القانون المدني المصري الفصل 177 من القانون المدني السوري والمادة 243 من القانون الكويتي كما يراجع ما كتبه السنهوري في هذا الموضوع (1)
(1) راجع السنهوري: 1 / 1192
والآية الكريمة تضمنت موضوع الاجتهاد القضائي وأن المجتهد إذا اخطأ في حكمه فلا إثم عليه لأن الله أثنى على سليمان بصوابه وعذر داود باجتهاده ولم يذمه بل قال: {وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] .
وقد روى مسلم وغيره عن عمرو بن العاص (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) .
قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته (1) .
والحديث رواه مسلم في الأقضية إذا حكم فاجتهد، بدأ بالحكم قبل الاجتهاد مع أن الاجتهاد مقدم على الحكم والمعنى – والله أعلم – إذا أراد أن يحكم كما في قوله سبحانه وتعالى.
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] .
والمجتهد المصيب في اجتهاده وفي قضائه له أجر من أجل إعمال الفكر والتدبر والاجتهاد وله أجر آخر من أجل الإصابة.
أما الآخر فله أجر واحد من أجل الاجتهاد وإعمال الفكر وتحريض على السير حتى يصل إلى الصواب دون تحجر.
قال علي بن الجعد، أنبأنا شعبة عن سيار عن الشعبي قال:
أخذ عمر فرسا من رجل على سوم فحمل عليه فعطب فخاصمه الرجل.
فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلًا: أي حكما
فقال صاحب الفرس إني أرضى بشريح العراقي ولم يكن وقتها قاضيا
فقال شريح: أخذته صحيحا سليما فأنت له ضامن حتى ترده صحيحا سليما فأعجب به عمر وقال في شأن اجتهاد القاضي كلمته الخالدة:
(ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه فإن لم يستبن من كتاب الله فمن سنة رسوله فإن لم تجد في السنة فاجتهد رأيك) .
وطبعي أن القاضي المجتهد الذي له أجر واحد هو القاضي العالم الباحث عن وجه الحق والصواب، والدارس للأحكام وفقه القضاء السابق، والذي أداه نظره إلى الحكم بما رآه صوابا وعدلا أو ظنه صوابا وحقا وعدلًا، لأن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يقول:
((القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاض يجهل فهو في النار، وقاض عرف الحق فجار فهو في النار)) .
(1) ج10 صفحة 115
والآية الكريمة: (وداود وسليمان) التي أوردناها كأصل ثابت في شأن التحكيم قد تضمنت عدة مبادئ قضائية منها: مبدأ رجوع القاضي عن اجتهاده ورأيه الأول إلى اجتهاد أرجح، وقضاء أفضل في إصابة الحق ونشر العدل، فإن سيدنا داود عليه السلام وهو النبي قد رجع إلى رأي ابنه وقضى بتنفيذه.
كما تضمنت الآية الكريمة موضوع تعقب الأحكام بالمراجعة والمناقشة وإمكانية نقضها وإبرامها من جديد متى اتضح الصواب، وألهم الله القاضي طريق الحق في القضية المعروضة عليه وقد أطنب الماوردي رحمه الله وبسط القول في هذه النظرية في كتاب أدب القاضي ج1 صفحة 685 وما بعدها.
فالتحكيم هو الالتجاء إلى محكمين لا سلطة قضائية لهم ويقع الفزع إليهم مع وجود سلطة القضاء الرسمي.
والتحكيم عمل قضائي صرف لا محالة، وما يصدر عن المحكمين لا يمكن أن يوصف بأنه الصلح الذي يشترط فيه حصول اتفاق ورضا كافة الأطراف، وكذلك لا يمكن أن يقال إن المحكمين وكلوا من طرف من انتبدهم، لأن الوكيل ملزم باتباع مصلحة من وكله، لا اتباع طريق العدل والإنصاف والحق، ومن هنا فإن العمل الذي كان يقوم به شيخ القبيلة وزعيمها هو أقرب للقضاء لا للتحكيم، ونحن نجزم بأنه لم يوجد تحكيم قبلي قبل الإسلام يحمل تلكم المواصفات التي أشرنا إليها سابقًا، وكما علمنا فإن القضاء مختلف عن التحكيم مهما كان النظام القضائي القائم والمعمول به.
وقد رأينا بعض من كتب في الموضوع يشير إلى وجود تحكيم سابق عن الإسلام له أساس ومد قبلي، فالأستاذ محمد مصطفى حسن نائب رئيس هيئة التحكيم الدولية لغرفة التجارة ومقرها باريس يكتب في نشرية التحكيم التجارية الدولي في مايو سنة 1992 فيقول:
(وقد كان هناك نوع من التحكيم في الإسلام وحتى في العصر السابق على ظهور الإسلام غير أن هذا التحكيم ذا الأساس والمد القبلي أو الذي ينصب على مسائل من الأحوال الشخصية كالزواج أو الذي تكون أهدافه أقرب إلى الناحية السياسية ليس هو بالتأكيد التحكيم التجاري الدولي الذي اكتسب منذ عهد ليس بالقريب ولا يزال يكتسب بسرعة فائقة خصوصيات حية حتى بالنسبة للتحكيم التجاري الداخلي) .
وقد اختلطت في نظره الأمور فهو يجعل تصرف القادة والزعماء القبليين تحكيما ثم لا يعترف بفضل الأسبق الذي بنى الأسس، لأن من جاء بعده سعى إلى الزيادة والتحسين وهو أمر طبعي لا ينفي الأصل بل يقره مع الاعتراف بفضله ولا يمكن جحوده ونكرانه.
الاحتكام إلى المحاكم الأجنبية
هذا موضوع جدير بالدرس والعناية والمراجعة وأخذ القرار.
فالمسلم الخاضع لجنسية بلاده والذي يتمتع بحقوقه المدنية ويلتزم بما سنته له دساتير وطنه وحددته قوانينه قد يجد نفسه في يوم ما فريسة ضياع وضحية حيرة بسبب عمل ما قام به وساقه إلى هذا الضياع وتلك الحيرة.
فالهجرة إلى البلاد الأجنبية والإقامة بها والاستقرار هناك والالتحام مع شعوب لا تدين بدين الإسلام، وتخضع لقوانين وضعية تجافي المبادئ الإسلامية، مع وفرة المهاجرين من بلدان إسلامية إلى بلاد أوربا، كون مشكلة عويصة الحل اختلفت فيها الآراء وتطورت مع الزمن، حتى آلت إلى مكانة من الخطورة تستحق المراجعة السريعة والاحتكام إلى مبادئ الشريعة الإسلامية ورح الحضارات المنبثقة عنها.
فأبناؤنا المهاجرون للعمل في البلاد الأوروبية والآسيوية والأمريكية قد يجدون أرباحا مادية تغريهم بالإقامة هناك، والتزوج من الأجنبيات لاكتساب الجنسيات، ثم النزوح النهائي عن البلاد التي خرجوا منها، والبعد عن تعاليم دينهم وثوابت ومبادئ وقيم أوطانهم، والالتجاء عند التقاضي إلى الاحتكام إلى محاكم تقضي حتى في أحوالهم الشخصية، التي لها التصاق تام بدينهم وماضيهم، تقضي فيها بأحكام وقوانين وضعية تتعارض مع ذلكم الدين وذلكم الماضي وتتجافى مع المثل العليا التي وضعها لهم تشريعهم الإسلامي.
والعمل المضمون في بلاد الكفر وإن كان حلالا إلا أن البعض قد يندفع بإغراء المنافع والمصالح المادية إلى طلب التجنس بجنسية البلاد التي يقيم فيها، وهكذا تنقطع كل صلة له بوطنه وقومه وبلاده، ويصبح أبناؤه في انبتات وضياع حتى التلاشي التام، وتونس في نهضتها الحديث سعت إلى تلافي بعض تلكم المضار، فربطت الصلات وكونت الإذاعات المسموعة والمنظورة المشاهدة وكثفت من البعثات، وحرضت على تعلم العربية للبراعم الصغار، وجلبت الأنظار إلى الأوطان، وحببت الأبناء الصغار في أوطانهم ومدنهم وقراهم، وكونت رحلات تربط الحاضر بالماضي، وتشهد المجد التالد بهذه الحياة الجديدة المتقلبة الغربية في صورها وألوانها.
وقد ينفع هذا ويجنبنا الكارثة ويبعدنا عن الهاوية وهو عمل مشكور وجهد مبارك وسعي حميد يصد ويرد ويقي.
أما ما يهمنا هنا: فهو ما حكم احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة؟ ثم الخضوع إلى أحكام الأحوال الشخصية بالأخص والتحكم فيها؟ والنزاعات التي تحدث بين المتخاصمين وموضوع اكتساب الجنسية الأجنبية والرضوخ لقوانينها والالتزام بالعمل بها؟ واخترنا لإيضاح هذا الموضوع فتاوى صدرت عن علماء جلة من أكابر علماء المسلمين قديما وحديثًا. وفي عرض هذه الفتاوى بيان يمهد الطريق وينير السبيل.
وأولى هذه الفتاوى فتوى صدرت حوالي 1290 / 1873 عن قاضي تونس وعالمها المرحوم محمد الطاهر النيفر المتوفى 1311 / 1893 في شأن قبول شهادة المقيم ببلاد الكفر عن اختيار وطواعية أو عدم قبول شهادته (نشر هذه الفتوى حفيده من جهة الأم المرحوم الأستاذ الطيب العنابي بمجلة القضاء والتشريع) .
يقول فيها: (إن من احتمى حماية دينية حتى يخلص بذلك من أحكام قضاة المسلمين هو كافر لا تقبل شهادته ولو كان متزيئا ًبزي المسلمين) .
وقد علق على هذه الفتوى الصديق العالم الأستاذ أحمد حماني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر بقوله: إن الذين تخلوا عن جنسيتهم ورفضوا الشريعة الإسلامية قد ارتدوا عن الإسلام وقد أفتى بذلك علماء الجزائر سنة 1938.
هذا وقد أفتى شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع – رحمه الله – بكفر من ينبذ الأحكام الشرعية ويلتزم أحكام الكفار، وكان ذلك جوابا عن رسالة وجهها إليه ملك البلاد أحمد باشا الأول في جمادى الأولى سنة 1260 في شأن شهادة الشهود المقيمين بديار للكفر.
وهو يقول فيها: إذا كان حال الخروج عن ربقة الأحكام الشرعية ونبذها والتزام أحكام الكفار فذلك موجب للكفر.
والفتوى الثالثة: صدرت عن عالم من متأخري علماء تونس الشيخ محمد المختار بن محمود المفتي الحنفي – رحمه الله – وكان مدرسا بالكلية الزيتونية ويرأس تحرير المجلة الزيتونية العلمية وقد نشر بها دراسة قيمة تحت عنوان:
(حكم الله في المتجنس) بتاريخ 1356 / 1957 المجلد الأول ج 10 نقتطف منها بعض الفقرات:
…
من المصائب التي ابتلي بها المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا فتنة التجنيس، لأنها ترجع إلى المساس بروح الدين الذي يضحي في سبيله المسلمون بكل عزيز ونفيس، وقد كان التجنيس مثار فتن كبرى واضطرابات متنوعة وسببا في تشتيت شمل بعض العائلات وإحداث الإحن والأحقاد بين الأخوة والأقارب.
يقوم شيخنا ابن محمود برد الله ثراه وجعل الجنة مأواه:
(وينبغي أن نضبط الموضوع بذكر صورة عقدة التجنيس لنبني عليها الأحكام) .
يكون الإنسان مسلما يعمل بالإسلام ويهتدي بهديه ويأتمر بما جاء به، فيتعلق غرضه بالانسلاخ عن الجنسية الإسلامية والعياذ بالله – لغرض أدبي سافل أو مادي زائل، فيعتنق جنسية دولة من الدول الأجنبية التي تدين بالمسيحية، ويصير كفرد من أفرادها، ويلتزم في عقدة التجنيس بالانسلاخ عن أحكام الشريعة الإسلامية، وعن العمل بمقتضاها، ويلتزم بالعمل بقوانين الدولة التي تجنس بجنسيتها، سواء في أحواله الشخصية أو في المعاملات أو في العقود والالتزامات، أو في جميع الجزئيات، فيكون بذلك قد نبذ الإسلام وانسلخ عنه، ودخل في الكفر راضيا مختارًا، ويترتب عن ذلك تغيير في أحواله من جميع النواحي، يطلق امرأته فيكون طلاقه غير نافذ، ويجبر على البقاء معها والإنفاق عليها، ويموت فتقسم تركته على غير الفريضة الشرعية ويصير مجبورا على التحاكم إلى غير قضاة الشرع.
وقبل أن يمضي على عقد التجنيس يكون عالما بجميع ذلك مطلعا عليه، فهذه هي عقدة التجنيس، ولا شك أن انتقال الإنسان من جنسيته الأصلية إلى جنسية أخرى هو اعتراف باحتقار جنسيته، وازدرائه بها، فهو كمن ينكر أباه لحقارته أو ينكر نسبه لوضاعته، أو بلاده لانحطاطها، والمتجنس يجني على وطنه بعمله الشنيع وانتحاله لجنسية أخرى.
ومن الناحية الشرعية فإن حكم الله في المتجنس (إنه مرتد يعامل معاملة المرتدين وتنطبق عليه جميع أحكامهم) .
وقد نقل الشيخ ابن محمود كلام الفقهاء في هذا الموضوع مستندا لما جاء في الخيرية والفتاوى الهندية وغيرها من كتب التفسير والحديث.
ودراسة الشيخ ابن محمود جديرة بالنشر والاهتمام لأنها تحقيق من رجل عالم فقيه كاتب نحرير.
هذا وقد كانت البلاد التونسية لها كلمة الفصل في هذا الموضوع منذ القديم فقد كان وزير المعارف بها المرحوم حسين استصدر فتوى في الموضوع من علماء تونس، في شأن تونسي يهودي سرق أموال الدولة التونسية وذهب لإيطاليا وتجنس بجنسيتها.
فأفتى شيخ الإسلام المنعم أحمد ابن الخوجة بعدم تجنسه، ووافقه على ذلك عدة علماء: منهم الشيخ مصطفى رضوان والشيخ الشاذلي ابن القاضي والشيخ محمود بيرم وهذه الفتوى مؤرخة في جمادى الأولى سنة 1294 الملاقي سنة 1877 وقد نشر هذه الفتوى بنصها المرحوم الجيلاني الفلاح سنة 1342 / 1924 في كتابه الشعب التونسي والتجنيس.
ثم إن تونس كانت استصدرت فتاوى من عدة علماء وفقهاء قصد إيضاح الموضوع.
فقد نشر من علماء الهند الشيخ عبد العزيز الحيدر أبادي فتوى نشرت بجريدة الخلافة في بمباي عدد 2 ج 3 يوم 11 جمادى الآخرة جانفي سنة 1342 / 1924 نصت على ردة المتجنس.
كما أفتى بذلك عدة علماء منهم الشيخ محمد أمين الحسيني مفتي بيت المقدس، والشيخ محمد شاكر وكيل شيخ الأزهر، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ علي محفوظ، والشيخ محمد عبد الباقي الزرقاني، والشيخ محمد رشيد رضا.
وهكذا تضافرت الفتاوى متحدة شارحة حكم الله في المتجنس الذي اختار عن طواعية جنسية الكفار وارتضى أحكامهم.
واليوم تصدر اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتواها في الموضوع بإمضاء العلماء الفقهاء المشائخ السادة: عبد الله قعود وعبد الرحمن عفيفي وعبد العزيز بن عبد الله بن باز جاء فيها:
(لا يجوز لمسلم أن يتجنس بجنسية بلاد حكومتها كافرة لأن ذلك وسيلة إلى موالاتهم والموافقة على ما هم عليه. وقد أجمع المسلمون على وجوب الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام مع الاستطاعة) .
(الفتوى رقم 2393 صفحة 69) .
وبمثل ذلك صدرت الفتوى رقم 6582 بإمضاء السادة العلماء المشائخ عبد الله قعود وعبد الله بن غذيان وعبد الرزاق عفيفي وعبد العزيز بن عبد الله بن باز ونشرت بصفحة 72 من المصدر. تقول هذه الفتوى:
انتقال المسلم من جنسية دولته المسلمة إلى جنسية دولة أخرى كافرة لا يجوز.
وبمثل ذلك جاءت فتوى رقم 8073 صفحة 73 من نفس المصدر: يجري ذلك على المسلم المتجنس بالجنسية الكافرة لكن مع جواز العمل في الدولة الكافرة إذا أمن على نفسه من الفتنة في دينه. نفس المصدر صفحة 75.
وقد كتب بعضهم يتلمس طرق الجواز ويسوغ انتحال الجنسيات بدافع المنافع والعمل والقضاء على البطالة واستفادة البلاد من هذا الصنيع المادي.
والمشكلة لازالت مطروحة على بساط الحل خاصة وأن المجمع الفقهي المتفرع عن رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة صانها الله كان أصدر توصية رقم 7 سنة 1403 / 1983 لم ينته فيها إلى رأي بات إذ قال في هذه التوصية:
إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة المنعقدة بمقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قد اطلع في جلسته السابعة صباح يوم الأحد 16 من ربيع الآخر سنة 1403 المصادف 23 جانفي سنة 1983 على البحوث والتقارير المقدمة إليه من بعض أعضائه وسواهم بشأن الحكم الشرعي فيمن يتجنس بجنسية دولة أجنبية غير إسلامية أو يقيم فيها بأسرته ويعيش هناك في ظل نظام غير إسلامي.
وتدارس المجلس هذا الأمر فوجدت فيه ملابسات كثيرة مختلفة وظروف متفاوتة جدا بين الأفراد والجماعات الإسلامية التي تؤلف أقلية في بلد أجنبي هو بلدهم الأصلي أو هم طارئون عليه لأسباب معاشية أو للقيام بالدعوة الإسلامية أو لتلبية حاجات تلك الأقليات في الإفتاء وتعلم الدين الإسلامي واللغة العربية أو لأسباب أخرى.
وتدارس أيضا ما ينتج عن التجنس من التزامات بقوانين تلك الدول غير الإسلامية في سائر ما تفرضه تلك القوانين على مواطنيها ورعاياها.
وقد رأى المجلس أن الموضوع تحف به الاعتبارات المختلفة من سلبية وإيجابية ومصالح ومفاسد وضرورات وعدمها مما يجعل من غير الممكن إصدار رأي عام وإنما يجب فيه رعاية وضع كل فئة وواقعة وظروفها بحسبها.
لذلك رأى المجلس أن يترك ذلك للفتوى بحسب ظروف الجهة المستفتية في الجواز الشرعي والله ولي التوفيق وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الإمضاء: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس المجمع ومحمد أحمد قمر مقرره – 1هـ.
فهل يمكن اعتبار هذا القرار حاسما أم أنه إجراء للنظر إلى فرصة أخرى وهل حلت المشكلة إذا على مستوى الفتوى أم بقيت على حالها؟
والمجمع الفقهي الإسلامي كان ناقش هذا الموضوع نقاشا عميقا صريحا واضحا شارك فيه أفذاذ من علماء الإسلام وذلك في دورته المنعقدة بعمان عاصمة المملكة العربية الأردنية الهاشمية من 8 صفر إلى 13 من سنة 1407 الملاقي 11 – 16 أكتوبر سنة 1986.
وقد كلف المجمع ثلة من أعضائه ومستشاريه بدرس الموضوع والإجابة عنه فأدى هؤلاء الأمانة وقدموا تقاريرهم ودراساتهم واتحدت كلمتهم على نبذ كل متجنس أراد نبذ أحكام دينه والتجأ إلى أحكام البلاد الكافرة التي لبس جنسيتها.
وانتهى بعضهم إلى أن التجنيس بجنسية دولة غير إسلامية معصية لا تبلغ درجة الكفر إذا كان إقدام المتجنس على ذلك الفعل لتسوية أوضاعه المادية مع اقتناعه وإيمانه بأن الإسلام هو الدين الوحيد، وأنه يغضب لله من كل من يحاول النيل من الإسلام أو التطاول عليه، أما إذا كان أمر الدين عنده لا يوازي مصالحه، وأنه متهاون به لا يشعر برابطة بينه وبين دينه إلا برابطة تاريخية ضعيفة فلا شك حينئذ في ردته.
والمطالع للمناقشات بين أعضاء المجمع في جلساته يستنتج مدى الأهمية التي تخضع لها الحلول المعروضة لحل هذه المشكلة ومدى أهمية الدراسات المقدمة في الموضوع.
لكن المجمع أرجأ اتخاذ القرار في الموضوع إلى دورة أخرى لاحقة ولم يقع البت بصفة نهائية.
(انظروا مجلة المجمع الفقهي الإسلامي – الدورة الثالثة الجزء الثاني سنة 1408 ففيها بسطة مفيدة جدا) .
التحكيم في الفقه الإسلامي
سوف نحاول هنا بإيجاز واقتضاب إعطاء صورة عن التحكيم الفقهي الإسلامي في كلياته ومحاوره الكبرى، ضاربين صفحا عن الجزئيات والشرح لأن ذلك له مراجع ومصادر يمكن الرجوع إليها، وقد أشرنا إلى بعضها لمن يريد التبسط والضبط والتدقيق. ونرغب هنا في بيان الأسس الموضوعة لهذا التحكيم حتى يتمكن الدارس من إجراء المقارنة بين هذا الأساس القويم وبين ما قنن وصنع بعد ذلك في العصور الحديثة مما وضعه الإنسان ونشير إليه في فصل آخر من هذه الدراسة.
يقول الإمام مالك رضي الله عنه: (إذا حكم رجل رجلا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه إلا أن يكون جورا) .
ويقول سحنون: يمضيه إذا رآه صوابا وهو يشير بذلك إلى التنفيذ كيف يكون؟ وهل القاضي مجبر على تنفيذ ما صدر به حكم المحكم دون مراجعة منه أو نظر؟. ويقول ابن فرحون المالكي:
إذا حكم الخصمان بينهما رجلا وارتضياه لأن يقضي ويحكم بينهما فذلك جائز في الأموال وما في معناها (التبصرة لابن فرحون)
ويقول الونشريسي المالكي في المعيار: من لم يكن مقدما من إمام للقضاء فلا يحق له الحكم في شيء إلا ما تراضى عليه الخصمان بين يديه، وحكماه فيه، ولم يرجعا قبل نفاذ حكمه على خلاف هذا.
وجاء في كتاب التفريع لأبي القاسم عبيد الله بن الجلاب البصري المالكي المتوفى سنة 278 هـ في تحكيم غير القاضي:
(إذا حكم الرجلان رجلا فحكم بينهما فرضى أحدهما بحكمه وسخط الآخر لزمه حكمه – إذا كان من أهل العلم – وحكم بما يجوز بين المسلمين سواء وافق قاضي البلد أو خالفه ما لم يخرج بحكمه عن إجماع أهل العلم) .
ويقول الماوردي الشافعي في كتابه: أدب القاضي:
إذا حكم خصمان رجلا من الرعية ليقضي بينهما فيما تنازعاه في بلد به قاض أو ليس فيه قاض جاز.
وفي المغني لابن قدامة: إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء جاز ذلك ونفذ حكمه ولا ينقض.
ويقول ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد (1) : واختلفوا في نفوذ حكم من رضيه المدعيان ممن ليس بوال على الأحكام فقال مالك يجوز، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: يجوز إذا وافق حكمه حكم قاضي البلد
ونقل في العناية على الهداية إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز التحكيم (2) .
فالتحكيم حينئذ جائز شرعا متفق على شرعيته وجوازه. والأصل في ذلك القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35] .
يقول القرطبي في تفسيره (3) : وآية {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} دليل على إثبات التحكيم وليس كما جاء على لسان الخوارج أن ليس التحكيم لأحد سوى الله سبحانه وتعالى لأن هذه كلمة حق يريدون بها الباطل.
ويقول الكاساني في البدائع (4) : إن التحكيم جائز ومشروع لقوله سبحانه وتعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} – الآية فكأن الحكم من الحكمين بمنزلة القاضي المقلد.
موضوع التحكيم:
التحكيم يكون في حقوق يملك التصرف فيها الخصمان المتنازعان حقوق ترجع لهما، ولهما حق التصرف والتفويت فيها.
يقول القرطبي في تفسيره (5) : الضابط في موضوع التحكيم أن كل حق اختص به الخصمان يجوز التحكيم فيه.
ويقول ابن فرحون (6) : التحكيم جائز في الأموال وما في معناها والمحكم لا يقيم حدًا ولا لعانًا ولا يحكم في قصاص أو قذف أو طلاق أو نسب.
الونشريسي في المعيار يضيف أنه لا يجوز له النظر في الوصايا والأحباس والمواريث.
(1) بداية المجتهد جـ 2 ص 382
(2)
العناية هامش فتح القدير جـ 5 ص 498
(3)
جـ 5 ص 179
(4)
جـ 7 ص 3
(5)
تفسير القرطبي: جـ 6 / 180
(6)
التبصرة: 1 / 43
والماوردي يقول في كتابه أدب القاضي (1) : التحكيم يكون في أحكام مخصوصة فهو جائز في الأموال والمعاوضات وما يصح فيه العفو والإبراء.
ولا يجوز فيما اختص به القضاة من حقوق الله تعالى والولايات على الأيتام وإيقاع الحجر على مستحقيه واختلف في النكاح واللعان والقذف والقصاص.
وقال القاضي ابن عبد الرفيع في كتابه معين الحكام (2) : (ولا يجبر على الأيتام إلا القاضي وكذلك على كل سفيه مستوجب الولاية. وهذه إحدى المسائل الأربع التي لا يحكم فيها إلا القضاء والثانية الغائب والثالثة إقامة الحدود والرابعة القسم بين الصغار والكبار) .
وجاء في الشرح الصغير للدردير بحاشية الصاوي: إن التحكيم جائز في الأموال والجراح وكل حقوق العباد لا يجوز في الحدود كجلد أو رجم ولا قتل في ردة أو حرابة أو قصاص أو لعان أو نسب أو طلاق أو فسخ نكاح، لأن هذه الأمور إنما يحكم فيها القضاة فلا يجوز التحكيم فيها لتعلق حق الغير فيها بغير الخصمين إما لله تعالى كالحدود والطلاق وإما لآدمي كاللعان الذي يقطع نسب الابن (3) .
وقد جاء في حاشية رد المحتار لابن عابدين: (التحكيم في مالك لغيرك وتولية الخصمين حاكمًا يحكم بينهما)(4) .
وقالت مجلة الأحكام العدلية: إن التحكيم عبارة عن اتخاذ الخصمين واحدًا أهلًا للحكم حاكمًا برضاهما لفصل خصوماتهما ودعواهما – المادة 1790.
وجاء في شرح المجلة على هذه المادة لعلي حيدر: (إن ركن التحكيم هو إيجاب المتخاصمين بقولهما للمحكم: احكم بيننا وإننا نصبناك حكمًا ثم قبول المحكم ذلك)(5) .
أما الموضوع فقد نصت المادة 1841 من مجلة الأحكام العدلية على أنه يجوز التحكيم في دعاوى المال المتعلقة بحقوق الناس.
والخلاصة أن التحكيم يمكن أن يكون في الحقوق المدنية المالية وما إليها وكذلك في الحقوق الشخصية في اختلاف الوجهين حسبما يأتي شرحه. أما ما هو راجع للحق العام فلا.
(1) أدب القاضي: 2 / 380
(2)
معين الحكام: 2 / 610
(3)
حاشية الصاوي: 4 / 198
(4)
حاشية رد المحتار: 5 / 428
(5)
جـ 4 ص 640
رضا الخصوم والرجوع في التحكيم:
المحكمون لا صفة رسمية لهم فهم أشخاص اختارهم الخصوم لفصل نزاعاتهم في أمور معينة محددة يمكن تجاوزها، ولذا فإنه لا يمكن تصور وجود تحكيم دون موافقة ورضا الخصوم من البداية ودون الاتفاق على المحكم والعمل بما يقضي به.
ومن هنا فإن الخصوم تشترط فيهم أهلية الرضا بشروطها وحدودها المعروفة ذلك لأن التحكيم قد يكون فيه تفريط في حقوق أو تنازل عنها وضياع وهدر لها.
يقول ابن فرحون المالكي في كتاب التبصرة: ولا يتشرط دوام الرضا إلى حين نفوذ الحكم، ويرى أصبغ وسحنون أنه إذا ترافع عنده فليس لهما الرجوع ويرى ابن الماجشون أنه ليس لأحدهما العدول عن التحكيم قبل أن يقاعد صاحبه ويطارحه الخصومة (1) .
وجاء في المغني لابن قدامة – معجم الفقه الحنبلي: (إذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما ولا يجوز نقض حكمه لكن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان)(2) .
من هو المحكم:
يشترط فيه أن يكون ثقة، اشتهر بالنزاهة لم يعرف عنه سوء، عالمًا أو مسترشدًا يطلب المعرفة ويستعين بمشاورة أهل العلم، فطنًا عارفًا بعرف وعادات الناس وأقضيتهم ومعاملاتهم وشؤون حياتهم.
وإذا عين له الخصمان مذهبًا فإنه يتقيد به حسب الأرجح من الأقوال لأن اتفاق الخصمين من شأنه أن يحدد له خطى سيره.
ويلاحظ الإمام المازري في هذا الشأن:
إذا كان المحكم من أهل الاجتهاد مالكيًا ولم يخرج باجتهاده عن مذهب مالك لزم حكمه، وإن خرج عن ذلك لم يلزم إذا كان الخصام بين مالكيين، لأنهما لم يحكماه على أن يخرج عن قول مالك وأصحابه، وكذلك إن كانا شافعيين أو حنفيين وحكماه على مثل ذلك لم يلزم حكمه إن حكم بينهما بغير ذلك.
والمالكية والشافعية والحنابلة يشترطون العدالة، خلافًا للحنفية الذين يسوغون قضاء الفاسق عند الحاجة لذلك.
جاء في الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني: (يشترط في المحكم أن يكون أهلًا للقضاء أي أهلًا لتحمل الشهادة)(3) .
واشترط الشيخ الدردير في الشرح الصغير بحاشية الصاوي أن يكون غير خصم وعالمًا بموضوع الخلاف (4) .
التحكيم بين الزوجين
إذا ظهر الشقاق بين الزوجين دون معرفة المتسبب في ذلك أو إذا خيف الشقاق بينهما قبل حدوثه وقبل وقوعه بتشكك أحد الزوجين فالقرآن الكريم يرشد إلى علاج ذلك في آية صريحة واضحة يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35] .
والشقاق هو المنازعة والمجادلة والمخالفة، أصله من الشق وهو الجانب فكان كل واحد من شق غير شق صاحبه.
قال الشاعر:
وإلا فاعملوا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
وقيل إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه.
قال الله سبحانه وتعالى:
والمخاطب بقوله سبحانه: فإن خفتم هو القاضي الذي رفع إليه النزاع حسب المشهور الراجح.
من هما الحكمان وما هي شروطهما؟
يشترط في الحكمين هنا أن يكونا من أهل الزوجين إلا إذا تعذر ذلك فيقع الالتجاء إلى بعث الأجانب عنهما.
والله سبحانه يشير إلى بعث حكمين من الأهل لأنهم أعرف الناس ببواطن الأمور، والنفوس ترتاح لمن كان قريبًا صديقًا فيقع البوح له من الزوج أو الزوجة بالسر وحقيقة ما يشكو منه، ويفضي إليه بما قدم يخفيه عن غيره من الناس، وعلى كل فالقاضي يحاول الكشف عن أسباب الخلاف والشقاق، ويسعى لإزالتها وقطع دابر الخلاف لإرجاع العلاقة الحسنة إلى سالف عهدها، وعودة الصفاء والود إلى عمدتي الأسرة، فهو لذلك يختار من يرسله ويرى فيه صلاحية القيامة بالمهمة.
يقول القرطبي: الحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة إذ هما أقعد بأحوال الزوجين، بشرط كونهما من أهل العدالة وحسن النظر والتبصر بالفقه فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل غيرهما من أهل الثقة والعدل، كل ذلك إذا أشكل الأمر، فإن علم القاضي من الظالم من الزوجين فإنه يأخذ منه الحق ويجبره على إزالة الضرر) (5) .
(1) التبصرة: 1 /43
(2)
المغني: 2 / 810.
(3)
جـ 3 ص 108
(4)
انظر الشرح الصغير: 4 / 198
(5)
الجامع لأحكام القرآن الكريم: 5 / 174.
ويقول شيخ الإسلام المرحوم محمد الصالح ابن المراد: الحكمان اللذان أمر الله بإرسالهما لإصلاح ذات البين بين الزوجين، هما اللذان تتوفر فيهما شروط الكفاءة من الصلاح والإقناع والعدل والمعرفة، مع كونهما حسني السياسة والنظر في حصول المصلحة ليهتديا إلى المقصود من البعث ويرجى نجاحهما.
وكون الحكمين من الأقارب ليس شرطًا لزوميًا في نظر الشارع كما هو مقتضى إطلاق الآية، إذ قد تفوت الكفاءة ولا تتوفر الشروط اللازمة فيهما، فيفوت المعنى المقصود من إرسالهما ولا يقدران على إنهاء القضية وإزالة الخلاف، فلم يجعل سبحانه القرابة شرطًا، نعم إن إرسالهما مع كونهما قريبين متوافرة فيهما الشروط أمر مستحب شرعًا، لأنهما أعرف ببواطن أحوال الزوجين، وإليهما تسكن نفوسهما فيبرزان لهما ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة وموجبات كل من الأمرين. انتهى (1) .
وقد اقتبس التقنين هذا المبادي وأدرجها في بنود أحكامه، فقانون الأحوال الشخصية المصري رقم 44 لسنة 1979 جاء في مادته السابعة: يشترط في الحكمين أن يكونا عدلين من أهل الزوجين إن أمكن وإلا فمن غيرهم ممن لهم خبرة وقدرة على الإصلاح.
وبينت بقية المواد طرق عمل الحكمين وما يقدمانه من تقارير للمحكمة.
وجاءت المادة الخامسة عشرة من القانون السوداني الصادر سنة 1915 قائلة: إذا تشاق الزوجان وتعددت شكوى الزوجة من ضرر الزوج إياها بدون حق شرعي، ولم تستطع إثبات ذلك، بعث القاضي حكمين واحدًا من أهله وواحدًا من أهلها إن أمكن، والأفضل أن يكونا جارين فإن لم يكن ذلك بعث أجنبيين، ويشترط أن يكون الحكمان عدلين عالمين بأحكام النشوز فإن لم يكونا عالمين علمهما القاضي ذلك.
أما مجلة الأحوال الشخصية التونسية فقد جاء الفصل الخامس والعشرون منها قائلًا: (إذا اشتكى أحد الزوجين من الإضرار به ولا بينة له، وأشكل على الحاكم تعيين الضرر بصاحبه، يعين حكمين، وعلى الحكمين أن ينظرا فإن قدرا على الإصلاح أصلحا ويرفعان الأمر إلى الحاكم في كل الأحوال.
(1) الشيخ ابن مراد: كتاب الحداد: 71
وجاء الفصل السادس والخمسون من مدوّنة الأحوال الشخصية المغربية قائلًا:
(إذا ادعت الزوجة على زوجها إضراره بها بأي نوع من أنواع الضرر الذي لا يستطاع معه دوام العشرة بين أمثالها وثبت ما ادعته وعجز القاضي عن الإصلاح بينهما طلقها عليه.
وإذا رفض طلب التطليق وتكررت الشكوى ولم يثبت الضرر بعث القاضي حكمين للسداد بينهما، وعلى الحكمين أن يتفهما أسباب الشقاق بين الزوجين ويبذلا جهدهما في الإصلاح، فإن أمكن على طريقة معينة قرراها، وإذا عجزا عن الإصلاح رفعًا الأمر إلى القاضي لينظر في القضية على ضوء تقريرهما) .
ونصت المادة 56 من قانون الأسرة الجزائري على ما يلي:
(إذا اشتد الخصام بين الزوجين ولم يثبت الضرر، وجب تعيين حكمين للتوفيق بينهما، ويعين القاضي حكمًا من أهل الزوج وحكمًا من أهل الزوجة، وعلى هذين الحكمين أن يقدما تقريرًا عن مهمتهما في أجل شهرين) .
وجاءت لائحة القانون العربي الموحدة للأحوال الشخصية الصادرة عن وزراء العدل العرب ناصة: (لكل من الزوجين طلب التطليق للضرر الذي يتعذر معهد دوام العشرة بينهما.)
وإذا لم يثبت الضرر واستمر الشقاق بين الزوجين وتعذر الإصلاح، يعين القاضي حكمين من أهلهما إن أمكن. وإلا فممن يوسم فيه القدرة على الإصلاح ويحلفهما على أن يقوما بمهمتهما بعدل وأمانة ويحدد لهما مدة التحكيم.
ومما سبق بسطه نشاهد أن مبدأ التحكيم بين الزوجين قد أسسه القرآن الكريم وعبد به الطريق لإصلاح ذات البين بين الزوجين وسن بذلك فكرة التحكيم في عموم مفهومها ومع اتساع دائرتها.
التحكيم في الحج
اعتماد التحكيم في أمور العبادات من أول الأنظمة الشرعية الحكيمة التي أرشد القرآن ودل على اعتمادها عند مخالفة المحرم بالحج أو العمرة بالإقدام على قتل الصيد مع أنه منهي عنه.
وقد سن الله سبحانه وتعالى كفارة لذلك تمحي الذنوب، وترد الفاعل إلى طريق الحق والصواب وترشده إلى الخير وتفتح في وجهه أبواب رحمة الله وعفوه.
وهذا الضرب من التحكيم له قواعده وشروطه وحاجياته وسوف نشرحها باختصار في الأسطر التالية:
جاء في تحريم الصيد على من كان محرمًا بالحج أو بالعمرة بقول الله سبحانه وتعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] .
وقوله حرم بضمتين جمع حرام أي المحرم بالحج أو بالعمرة، وإن كان في الحل واحتيج لمعرفة جزاء وعقاب من يعمد إلى قتل الصيد وهو محرم وكيف يحصل الجزاء وبماذا يحصل ومن يحكم به؟
وافترع الإسلام الحكيم في هذا الموضوع الذي يخص عبادة هي من أركان الإسلام وهي الحج والإحرام له أو لقربة وعبادة العمرة والإحرام لها.
قال الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة الآية 95: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] .
قال المفسرون: لأن المحرم جاء راجيًا متذللًا عابدًا والقتل يتنافى مع ذلك وقد استثنى من ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب (وفي رواية الحية) والفأرة والكلب العقور)) .
وقد أوكل أمر تقدير – المثل – في هذه المخالفة إلى رأي مجتهدين عدلين لهما فطنة ونباهة.
وقد انتدب لهذه المهمة في مناسبات حدثت خيرة من الصحابة كابن عباس وعمر وعلي وأبي عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم وعينوا المثل من النعم حسب المخالفة وأهميتها.
جاء في الأثر: اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن قبيصة بن جابر قال: حججنا زمن عمر فرأينا ظبيًا فقال أحدنا أتراني أبلغه فرمى حجرا فما أخطأ حشاه فقتله، فأتينا عمر بن الخطاب فسألنا عن ذلك وإذا إلى جنبه رجل (هو عبد الرحمن بن عوف) فالتفت إليه فكلمة، ثم أقبل على صاحبي فقال: أعمدًا قتلته أو خطأ؟ قال الرجل: تعمدت رميه وما أردت قتله، قال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واسق إهابها – يعني ادفعه إلى مسكين يجعله سقاء، فقمنا من عنده فقلت لصحابي: أيها الرجل أعظم شعائر الله، والله ما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى شاور صاحبه اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذلك.
قال قبيصة: وما أذكر الآية في سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] .
قال: فبلغ عمر مقالتي فلم يفاجئنا إلا ومعه الدرة: فعلا صاحبي ضربًا بها وهو يقول:
أقتلت الصيد في الحرم وسفهت الفتيا؟
ثم أقبل علي يضربني قلت:
يا أمير المؤمنين، لا أحل لك مني شيئًا مما حرم الله عليك، قال: يا قبيصة إني أراك شابًا حديث السن فصيح اللسان فسيح الصدر، وإنه قد يكون في الرجل تسعة أخلاق صالحة، وخلق سيء، فيغلب خلقه السيء أخلاقه الصالحة، وإياك وعثرات الشباب (1) .
ونقل السيوطي تفسيرًا لذلك قال:
عن ابن جرير عن بكر بن عبد الله المزني قال:
كان رجلان من الأعراب محرمين فأجاش أحدهما ظبيًا فقتله الآخر فأتيا عمر وعنده عبد الرحمن بن عوف فقال له عمر: ما ترى؟
قال: شاة. قال عمر وأنا أرى كذلك. أذهبا فأهديا شاة، فلما مضيا قال أحدهما لصاحبه: ما دري أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه، فسمعهما عمر فردهما وأقبل على القائل بالدرة ضربًا وقال: تقتل الصيد وأنت محرم وتغمض الفتيا، إن الله يقول {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ثم قال: إن الله لم يرض بعمر وحده فاستعنت بصاحبي هذا.
(1) الدر المنثور للسيوطي: 2 / 329.
ونقل القرطبي في تفسيره:
روى مالك عن عبد الملك بن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين لنستبق إلى ثغرة ثنية (1) . فأصبنا ظبيًا ونحن محرمان فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل كان جالسًا إلى جنبه: تعال نحكم أنا وأنت. فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلًا يحكم معه، فسمع عمر قول الرجل فدعاه وسأله هل تقرأ سورة المائدة؟
فقال: لا، قال هل تعرف الرجل الذي حكم معي؟ فقال لا، فقال عمر رضي الله عنه لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربًا ثم قال: إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ،وهذا الذي معي هو عبد الرحمن بن عوف، ومن هنا نستروح أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه طبق أحكام القرآن في هذا التحكيم، فانتخب الحكمين وتشاورا وحكما وهو بذلك يكون فقهًا قضائيًا يشرح وينير الطريق أمام المجتهدين.
ومثل هذا الأثر تقريبًا ما جاء في تفسير ابن جرير:
وقد أطنب المفسرون في بيان جزاء هذه المخالفة والحاجة فيها إلى حكم الحكمين لأن المماثلة بين النعم من إبل وبقر وغنم وبين الصيد الوحشي وله عدة أنواع أمر قد يخفى على أكثر الناس (2) .
قال ابن جرير: ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول أن ينظرًا إلى المقتول وإن كان قد فقداه يستوصفاه فإن ذكر أنه أصاب ظبيًا صغيرًا حكمًا عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله سنًا وجسمًا وإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرًا حكما عليه من الضأن بكبير.
أما إذا أصاب حمار وحش فالحكم عليه يكون ببقرة، وإن كان المقتول ذكرًا فمثله من ذكر البقر، ،إن كان أنثى فمثله من إناث البقر.
وقال ابن حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن نعيم الفضل بن دكين حدثنا جعفر بن نرقان عن ميمون بن مهران أن أعرابيًا أتى أبا بكر فقال: قتلت صيدًا وأنا محرم فما ترى علي من الجزاء؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيما قال الأعرابي؟
فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك وأنت تسأل غيرك!
فقال أبو بكر: وما تنكر من ذلك والله سبحانه يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] فشاورت صاحبي إذا اتفقنا على أمر أمرناك به.
فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه جاهلًا بهذا الأمر ناسيًا ما انزل في شأنه في حكم القرآن.
وفي هذه القصة، وفي قضاء عمر رضي الله عنه بيان لهذا التحكيم الذي لم يكن معروفًا سابقًا، وبيان لكيفية تطبيق إجراءاته، وهو إنشاء وسن تطبيقي لأمر صار الآن محط الأنظار في مختلف الأقطار والأمصار بعد أن تطور واتسعت رقعته وشمل عدة ميادين.
(1) الثنية: كل عقبة مسلوكة في الجيل
(2)
تفسير ابن جرير: 7 / 29.
- منظمات التحكيم -
محكمة العدل الدولية بلاهاي
حسب ميثاق الأمم المتحدة المؤرخ في 26 جوان سنة 1945 حددت مهمة محكمة العدل في الفصل الأول من نظامها ونص هذا الفصل: محكمة العدل الدولية تأسست بموجب وثيقة هيئة الأمم المتحدة كأداة قضائية أساسية لهذه الهيئة تتكون وتعمل بموجب هذا النظام، ومحكمة العدل هي الأداء القضائية الرئيسية للأمم المتحدة حلت محل محكمة العدل الدولية الدائمة التي أنشئت عقب الحرب العالمية الأولى، وتباشر محكمة العدل الدولية وظائفها وفقًا لأحكام نظامها الأساسي وهو جزء من ميثاق الأمم المتحدة، وجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أطراف في القانون الأساسي للمحكمة، ويجوز لدولة ليست عضوًا في الأمم المتحدة الانضمام للنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية بشروط تحددها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتتألف المحكمة من خمسة عشر قاضيًا، ينتخبون بغض النظر عن جنسيتهم، من الأشخاص ذوي الصفات الخلقية العالية والحائزين في بلادهم لأرفع المناصب القضائية أو من المشهود لهم بالكفاءة في القانون الدولي، ولا يجوز أن يكون بالمحكمة أكثر من قاض واحد من دولة واحدة، وقضاة محكمة العدل الدولية تنتخبهم الجمعية العامة ومجلس الأمن من الأشخاص الذين رشحتهم الشعب الأهلية في لجنة التحكيم الدائمة، ويراعى في انتخاب قضاة محكمة العدل الدلوية تمثيل الدول الكبرى والنظم القانونية الرئيسية في العالم، وينتخب القضاة لمدة تسع سنوات، ويجوز إعادة انتخابهم: وللدول وحدها الحق في أن تكون أطرافًا في النزاعات التي ترفع للمحكمة، ويشمل نظر المحكمة جميع القضايا التي يعرضها الأطراف عليها، وكذلك جميع المسائل المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، أو في المعاهدات والاتفاقات المعمول بها، والدول ليست ملزمة بعرض قضاياها على المحكمة لأن ولاية محكمة العدل الدولية ولاية اختيارية أصلًا، غير أن للدول الأطراف في نظام المحكمة أن تصرح بأنها تقر الولاية الإجبارية للمحكمة على النظر في جميع المنازعات القانونية التي تقوم بينها وبين دولة تقبل نفس الالتزام، وذلك وفقًا للشروط الواردة في هذا الإقرار، وتفصل المحكمة في المنازعات التي ترفع إليها وفقًا لأحكام القانون الدولي ويجوز لها أن تفصل في القضية وفقًا لمبادئ العدل والإنصاف متى وافق الأطراف، وللمحكمة وظيفة أخرى هي الإفتاء في أية مسألة قانونية، بناء على طلب الجمعية العامة أو مجلس الأمن، ويجوز للفروع الأخرى للأمم المتحدة وللدول إذا أذنت لها الجمعية العامة في ذلك أن تطلب من المحكمة إفتاءها فيما يعرض لها من المسائل القانونية الداخلة في نطاق أعمالها.
محكمة العدل الإسلامية الدولية
في جانفي سنة 1981 انعقدت بالمملكة العربية السعودية القمة الإسلامية الثالثة، وفيها تقدمت دولة الكويت باقتراح يقضي بإنشاء محكمة عدل دولية إسلامية مهمتها فصل وتسوية ما ينشب من نزاع وخلاف بين منخرطيها من الدول الإسلامية.
وتشكل لجنة أنهت وضع مشروع لذلك قدمته سنة 1986 تبنى وصاية القمة ووضع الخطط الأساسية لنظام هذه المحكمة.
والأستاذ عبد الله الأشعل المستشار القانوني لمنظمة المؤتمر الإسلامي يتفضل فيحدثنا عن مكونات هذه اللائحة ومحاورها ومشمولاتها فيقول مشكورًا:
أ- إن ما يصدر من قرارات عن هذه المحكمة أساسه الشريعة الإسلامية.
ب- تشكل المحكمة من سبعة قضاة مسلمين ينتمون إلى الدول الأعضاء في المنظمة لهم خبرة فقهية وقانونية يقع انتخابهم من طرف مؤتمر وزراء الخارجية لمدة اربع سنوات ولا يقال القضاة إلا برغبة منهم.
ج- المحكمة لها اختصاص قضائي وآخر إفتائي، ولها اختصاص يمكن أن يطلق عليه الاختصاص الدبلوماسي والتحكيمي.
فالمحكمة تقوم بمساعي الوساطة والتوفيق.
والتحكيم يكون إما بطلب مباشر من الأطراف المتنازعة أو بقرار من المؤتمر الإسلامي غير مفروض بل صادر عن تراضي كل الأطراف.
وإذا أبت تنفيذ ما صدر عن المحكمة فالدولة الأخرى تفزع إما إلى مؤتمر وزراء الخارجية للدول الإسلامية أو إلى مؤتمر القمة نفسه.
د- تستخدم المحكمة اللغات الرسمية الثلاث في منظمة المؤتمر الإسلامي وهي العربية والإنجليزية والفرنسية. وعند الاختلاف يقع الاعتماد على النص العربي.
منظمة التحكيم الدولية التابعة لغرفة التجارة الدولية
غرفة التجارة الدولية هي: (منظمة دولية لرجال الأعمال)
أنشئت سنة 1919 تهدف إلى تأمين عمل ناجع ومتواصل في الميادين الاقتصادية والقانونية من أجل الإسهام في الإنماء المتناسق للمبادلات الدولية وحريتها ومن أجل تقديم الخدمات العملية والمتخصصة لعالم الأعمال الدولي.
هذه المنظمة أوجدت بعد سنة واحدة من إنشائها مركزًا للتحكيم من أجل حل المنازعات التجارية، وهذا المركز له نظام مستقل عن تلكم المنظمة الأم، ومقر الجميع الآن بباريس، وتصدر هيئة التحكيم الدولية التابعة لغرفة التجارة الدولية نشرة مرتين في السنة وعن النشرة الصادرة في مايو سنة 1992 نقلنا بعض المعلومات عن هذه المؤسسة ويمكن الرجوع إلى نشراتها لمزيد التعمق في معرفة أعمالها وتصرف حكامها.
مركز دولي للتحكيم بتونس
تطمح تونس إلى بعث مركز دولي للتحكيم بها، وقد بدأت هذه الفكرة تتبلور أثر صدور مجلة التحكيم التونسية في 26 أبريل سنة 1993 وسوف نتحدث عنها فيما بعد.
تقول جريدة الصباح الغراء عن هذا الموضوع:
منذ فترة قصيرة طرحت فكرة بعث مركز دولي للتحكيم بتونس والواقع أن هناك نخبة كبيرة من رجال القانون التونسيين وحتى الأجانب إلى جانب عدد هام من رجال المال والأعمال قد تحمسوا لهذا المشروع واعتبروا أن إقامة هذا الفضاء القانوني الجديد قد حان وقته في ظل المنافسة الدولية، وكل عوامل نجاحه متوفرة، فموقع بلادنا التونسية الجغرافي والاستقرار السياسي الذي تتمتع به إلى جانب وجود الضمانات العديدة للاستثمار التجاري بكل أنواعه يدعم جدوى بعث مركز دولي للتحكيم في تونس.
والتحكيم يشكل إطارًا استثماريًا متميزًا اقتصاديًا، وتونس أقدمت على خوض تجربة التحرر الاقتصادي، ووفرت من أجل ذلك ضمانات في مقدمتها جملة الاستثمارات الموحدة ومحكمة التحكيم، وتدفق الاستثمارات وازدهار المعاملات لا يخلو من عوامل تستوجب الفزع إلى طريقة حضارية هي التحكيم.
وقد وقع ملتقى دولي بتونس نظمه مركز الدراسات القانونية والقضائية بوزارة العدل خلال يومي 26 – 27 نوفمبر سنة 1993 حضرته وجوه عالمية في مجال التحكيم تتمتع بخبرة واسعة في هذا الميدان، أمثال الدكتور نبيل انتاكي المقيم بكندا والمشرف على مركز التحكيم الدولي هناك، وهو سوري الأصل، والدكتور محمد نادر جابر من المملكة العربية السعودية، متخصص في ميدان التحكيم ويشرف على مراكزه في جده والقاهرة ولندن، وكذلك الدكتور حسين عبد الغفار من الإمارات العربية المتحدة وهو محكم دولي له نشاطات في أوروبا وأمريكا.
وحضر هذا الملتقى من تونس الدكتور الأستاذ نور الدين الغزواني الأستاذ الجامعي والمحامي رئيس جمعية الإجراءات القضائية والتحكيم، والأستاذ توفيق بو عشبة الأستاذ الجامعي المتخصص في تدريس موضوع التحكيم، وكذلك الدكتورة أليفة فاروق المديرة بوزارة التعاون الدولي والاستثمار الخارجي.
وقد طرحت في هذا الملتقى عدة قضايا وأبدى الحاضرون آراءهم حول موضوع التحكيم الذي هو هام جدًا.
التحكيم في القانون
عالجنا فيما مضى التحكيم في التشريع الإسلامي وفي الفقه المنبثق عنه. وعرفنا باختصار معالمه وتاريخ وآثاره وأحكامه، وشاهدنا أن الإسلام حدد أركانه وأوضح شروطه وعالج كلياته وجزئياته وذلك منذ قرون خالية.
ولابد أن نوضح هنا ولو في حدود ضيقة معاني التحكيم في القانون وبالأخص في القانون التونسي الذي قنن أحكام التحكيم منذ فترة بعيدة. ثم عالج الموضوع من جديد في مجلة التحكيم حديثة العهد والوضع.
يقوم التحكيم في القانون على عنصرين اثنين:
- الإرادة الثابتة للخصوم أطراف النزاع
- موافقة القانون على هذه الرغبة والإرادة.
فالتحكيم إذا: هو اتفاق يحصل بين أطراف الخصومة على انتخاب أشخاص معينين بأسمائهم وصفاتهم ليتولوا فصل النزاع والتحقيق فيه، دون الالتجاء إلى المحاكم القضائية ذات النظر وذات الاختصاص حسب القوانين المعمول بها تراضيًا.
فإرادة الخصوم ورغبتهم هي التي تكون هيئة التحكيم وتنتخب أفرادها للفصل في النزاع، وهذه الإرادة هي التي تحرك النظام القانوني للتحكيم وتوضح معالمه وتحدد خطواته وعلى أساس هذه الإرادة وذلك الاتفاق يقع التحكيم وتنفذ قراراته، ولكن كل ذلك بشرط إعطاء الضوء الأخضر من القانون، ولا بد من وجود نص يجيز هذا التحكيم ويباركه ويسمح به في نطاق الشكل الذي تسمح به الإجراءات بصورة عامة.
وحكم المحكمين الذي توفرت أركانه وإجراءاته يعد حكمًا قانونيًا نافذًا رغم أنه صادر من أشخاص لم تكن لهم ولاية قضائية ذلك أن المقنن أراد ذلك احترامًا لإرادة الخصوم.
يقول أحد شراح القانون:
(التحكيم قضاء حقيقي يسعى إليه الأطراف بمحض إراداتهم ويطرحون نزاعهم على مجرد أشخاص عاديين ليفصلوا فيه.) .
وقد شرحت مجلة الأحكام العدلية في مادتها 1842 موضوع التحكيم بقولها:
(هو عقد بين طرفين متنازعين يجعلان فيه برضائهما شخصًا آخر حاكمًا بينهما لفصل خصومتهما، وقد يكون بين أكثر من اثنين وقد يكون معينًا من قبل الخصوم أو من طرف القاضي، فكل من الطرفين المتنازعين محتكم والشخص الذي اختارا تحكيمه حكم (بفتحتين) أو محكم بضم الميم.
وسوف نشرح هنا المعطيات التي حددها القانون في هذا النطاق وبذلك نوضح السبل الموصلة إلى تحقيق هذا النظام الاستثنائي الذي سمحت به الإجراءات المدنية في نطاق مخصوص وتحت قيود وشروط خاصة.
التحكيم في الإجراءات المدنية
جاءت أحكام في مجلة المرافعات المدنية والتجارية والتونسية سابقًا قبل صدور مجلة التحكيم من الفصل 258 حتى الفصل 284 ثم صدرت مجلة التحكيم حسب القانون عدد 42 في 26 أبريل سنة 1993 ونشرت بالرائد عدد 33 لنفس العام.
وجاءت إجراءات التحكيم بقانون المرافعات المصري المادة 818 وما بعدها.
وكذلك بقانون المرافعات المدنية والتجارية الكويتي المادة 173 وما بعدها.
وسوف نتعرض بإيجاز تام إلى التحكيم في بعض هذه القوانين لنوضح أحكامه وشروطه وآثاره.
موضوعه:
يجوز الاتفاق على التحكيم في كل نزاع معين موجود كما يجوز اشتراط التحكيم فيما قد ينشأ من النزاعات المتعلقة بالالتزامات والمبادلات التجارية، والنزاعات بين الشركاء في شأن الشركة – المادة 258 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية، ومن هنا نفهم أن التحكيم نوعان: عقد التحكيم، واشتراط التحكيم في عقود الشركة.
أما العقد فهو الذي ينبرم عند حدوث المنازعة والخلاف فعلًا.
فإذا حدث الخلاف وصعب الوفاق فقد يعمد طرفا الخلاف إلى إبرام اتفاق بينهما يقتضي إقامة محكمين للنظر في هذا الخلاف وفضه بإصدار قرار ينهي الشقاق والنزاع ويلتزم الطرفان بتنفيذه.
أما القسم الآخر اشتراط التحكيم في صلب عقود الشركات: فإنه يقع ويتقرر عند التعاقد قبل نشوب أي خلاف بين أطراف العقد، فهم يسعون إلى فصل ما قد يحدث من خلافات بأسهل طريق وأيسره، وذلك بالالتجاء إلى نظام التحكيم الذي من شأنه أن يسرع بفصل النزاع وإنهاء الخصام ويحد من المصاريف والخسائر، وهو أخصر من التقاضي الاعتيادي حسب درجاته خاصة وأن التحكيم معين له أجل لإنهاء الخصومة.
وهذا التقسيم الذي تحدثنا عنه هو الذي تحدثت عنه المادة 818 من قانون المرافعات المصري:
يجوز للمتعاقدين أن يشترطوا بصفة عامة عرض ما قد ينشأ بينهم من النزاع في تنفيذ عقد معين على محكمين.
(ويجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين) .
هذا التقسيم نجده في بقية قوانين المرافعات. فالمادة 173 من قانون المرافعات الكويتي تنص:
(يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين كما يجوز الاتفاق على التحكيم في جميع المنازعات التي تنشأ عن تنفيذ عقد معين) .
وما دمنا نتحدث عن موضوع التحكيم بعد تعريفه نذكر أن بعض القوانين تحجر وتمنع التحكيم في بعض مواضيع منصوص عليها بالذات، فقد جاءت المادة 259 من مجلة الإجراءات المدنية التونسية ناصة على منع التحكيم في الأمور المتعلقة بالنظام العام والجنسية وبالمسائل التي لا يجوز فيها الصلح.
وهذا ما أشارت إليه المادة 819 مرافعات مصرية.
وفي خصوص من له حق التحكيم اتفقت الكلمة على أنه لا يصح التحكيم إلا ممن له أهلية التصرف في حقوقه، ولا يصح تحكيم القاصر أو المحجور عليه أو المفلس أو المحروم من حقوقه المدنية، المادة 259 مرافعات مدنية تونسية والمادة 819 مصرية والفقرة الثالثة من المادة 173 كويتية.
وكيف يثبت التحكيم؟ جاءت المادة 261 مرافعات تونسية قديمة تنص على أن التحكيم لا يثبت إلا بكتاب سواء كان رسميًا أو بخط اليد أو بتحرير محضر جلسة ممضى من كافة الأطراف. وتقول المادة 821 مرافعات مصرية أن التحكيم لا يثبت إلا بالكتابة.
وفسر فقه القضاء المصري بأنه لا صيغة خاصة أو شكلًا خاصًا لهذا الكتاب الذي هو وسيلة إثبات فقط لا لإيجاد العقد وتكونه.
هذا وقد نصت القوانين على وجوب تعيين موضوع النزاع وعلى أسماء المحكمين في كتب الاتفاق على التحكيم.
ومن هم المحكمون وكيف يقع اختيارهم وما هي واجباتهم وشروطهم وكيف يقع عزلهم ، كيف يتخلون عن مهمة التحكيم؟
كل ذلك عالجته مجلة المرافعات المدنية التونسية سابقًا وبينت واجبات المحكمين وإمكانية تخليهم أو موت أحدهم، وبينت كيفية التجريح فيهم وآجال عملهم وكيفية المناقشة والمفاوضة وما يشتمل عليه الحكم الذي يصدر؟ وكيف ينفذ؟ ووسائل الطعن وإمكانية طلب إبطال أحكام المحكمين النهائية حتى مع شرط الخصوم خلاف ذلك في أحوال خاصة مثل إذا اشتمل الحكم على أمور لم يقع طلبها.
كل ذلك تعرضت له المواد من 262 حتى 284 مرافعات تونسية، والمواد المصرية من 823 حتى 850. ويقال ذلك المواد 178 حتى 188 مرافعات كويتية.
مجلة التحكيم التونسية
هذه المجلة عوضت أحكام هذا الموضوع بصفة عامة وشاملة وجامعة
وقد أصدرها القانون عدد 42 لسنة 1993 المؤرخ في 26 أبريل سنة 1993 ونشر هذا القانون بالرائد عدد 33 لنفس السنة وتضمن أمر الإصدار أربعة فصول.
يقول الفصل الأول:
تصدر بمقتضى هذا القانون: مجلة التحكيم المنظمة لإجراءات التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي، وينص الفصل الثاني على أن أحكام هذه المجلة لا تمس بالقوانين الخاصة التي يتضح أنها تحجر تسوية منازعات معينة عن طريق التحكيم، أو تفرض إجراءات خاصة للاتجاء إليه، وألغى البند الثالث من هذا القانون أحكام الفصول من 258 حتى 284 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية الصادرة سنة 1959 وقد كنا تعرضنا لها سابقًا.
ونص الفصل الرابع الأخير منه على أن بداية العمل بمجلة التحكيم يكون بعد ستة أشهر من صدور أمر إدراجها أي أواخر أكتوبر سنة 1993.
وقد عرف الفصل الأول والثاني من مجلة التحكيم التونسية: موضوع التحكيم بأنه: طريقة خاصة لفصل بعض أصناف النزاعات من قبل هيئة تحكيم يسند إليها الأطراف مهمة البت فيها بموجب اتفاقية تحكيم، وهي التزام أطراف على أن يفضوا بواسطة التحكيم كل أو بعض النزاعات القائمة أو التي قد تقوم بينهم بشأن علاقة قانونية معينة تعاقدية كانت أو غير تعاقدية وتكتسي الاتفاقية صيغة الشرط التحكيمي أو صيغة الاتفاق على التحكيم.
وعرف الفصل الثالث والرابع ذلك التقسيم بقوله:
الشرط التحكيمي هو التزام أطراف عقد بإخضاع النزاع التي قد تتولد عن ذلك العقد للتحكيم.
أما الاتفاق على التحكيم فهو التزام يتولى بمقتضاه أطراف نزاع قائم عرض هذا النزاع على هيئة تحكيم.
وقانون مجلة التحكيم يحتوي على 82 فصلًا تشمل ثلاثة أبواب الأول: في أحكام مشتركة وبه خمسة عشر فصلًا، والباب الثاني: في التحكيم الداخلي وبه 30 فصلًا، والثالث: يتعلق بالتحكيم الدولي ويشتمل على 36 فصلًا.
وتعرضت المجلة إلى كليات وجزئيات التحكيم التي تعرضنا إليها سابقًا وألمت إلمامًا كاملًا بالموضوعي من كافة أطرافه.
ونظرًا لحداثة صدور هذه المجلة وجدة التطبيق وعدم وجود فقه قضائي يشرح النصوص ويبين غموضها: فإن الباحث يعسر عليه إلقاء الأضواء الكافية ولابد من الانتظار فترة أو ، فترات لإعادة الشرح والتعليق.
ولكن نلاحظ من الآن عناية التقنين التونسي ورغبته في تركيز عمليات التحكيم على أساس متين، فقد صدر القانون عدد 56 المؤرخ في 16 مايو سنة 1994 المنشور بالرائد عدد 40 لسنة 1994 بإعفاء عمليات التحكيم من إجراء التسجيل وذلك بإضافة فقرة لمجلة معالم التسجيل والطابع الجبائي تقتضي أن اتفاقات وقرارات التحكيم والأحكام والقرارات الصادرة لتنفيذها أو للطعن فيها معفية من إجراء التسجيل.
ملاحق
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على رسوله الآمين وعلى آله وأصحابه والتابعين.
تقديم
اعتاد المجمع الفقهي الإسلامي دراسة مواضيع معينة في كل دورة من دوراته ينتهي فيها إلى حل المشاكل المعروضة عليه وإبداء الرأي الفقهي في شأن هذه الحلول وعرضها على المجتمع لتطبيقها.
ولقد وفق المجمع بجهود أمينة العام إعانة أعضائه ومستشاريه إلى بناء صرح عتيد أصبح من المراجع المعتمدة بما وضعه من تحارير قيمة ودراسات معمقة نشرها في دورياته التي أضافت الكثير إلى المكتبة الإسلامية وأثرتها وغذت الباحثين الدارسين.
وفي هذه الدورة التاسعة طرح المجمع على أعضائه ومستشاريه الكتابة في عدة مواضيع قيمة منها (مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي) .
ونظرًا لأهمية هذا الموضوع الذي أعتني به أخيرًا من عدة دول وعقدت في شأنه لقاءات ومؤتمرات ونظرًا لصلتي الوثيقة بالقضاء الذي مارست مهامه مدة أربعين عامًا زيادة عن تدريس مواده في الكليات فقد اخترت هذا الموضوع وحررت فيه الدراسة المصاحبة.
وقد مهدت لنا الطريق وعبدت السبيل إدارة المعهد بأن وضعت محاور الموضوع وعينت المنهج الذي ينبغي اتباعه في البحث واشترطت الاختصار وعدم الإطالة.
وهذه هي المحاور المعروضة والمعينة:
1-
معنى التحكيم
2-
الفرق بين التحكيم والقضاء والإفتاء.
3-
بيان قواعد وشروط التحكيم في الخلاف.
4-
ما يجري فيه التحكيم.
5-
عزل المحكمين.
6-
الرجوع عن التحكيم، هل يجوز للحكم أن يرجع عن حكمه؟ وهل له أن يرجع عن الحكم لأحدهما بمحل النزاع ويقضي للآخر؟
7-
تنفيذ حكم المحكمة مباشرة أو باتصال القضاء به.
8-
احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية في دولة إسلامية.
9-
احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة.
10-
قضايا الأحوال الشخصية بين المسلمين في غير البلاد الإسلامية، التحكيم فيها ورفع نتائج ذلك إلى المحاكم المحلية لتكتسي صبغة التنفيذ.
11-
مبدأ التحكيم في الخلاف وموقف الفرق الإسلامية من مشروعيته، ذكر بعض الوقائع والقضايا التي حصل فيها التحكيم في عهد الصحابة، رضوان الله عليهم.
12-
الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي، نبذة مختصرة عن نشأة محكمة العدل الدولية، ومشروع محكمة العدل الإسلامية – الكويت.
13-
احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعاتهم فيما بينهم، وحكم ذلك إذا كان النزاع فيما بين المسلمين وغيرهم.
وقد حاولت في هذه الدراسة الإحاطة بقدر الإمكان بكل تلكم العناصر والإلمام بكلياتها وجزئياتها واعتنيت بإجراء المقارنة بين الفقه الإسلامي وما وضع لموضوع التحكيم أخيرًا.
مع الملاحظة أن كل عنصر من عناصر الموضوع حسب الجدول السابق يصلح أن يكون موضوع دراسة كاملة فكل العناصر لها أهمية قصوى وهي تستدعي المزيد من العناية والبحث ولا يمكن غمط حقها وأهدراه.
تعرضت في بحثي المعروض على جنابكم إلى عدة نقط هامة لا زال الغموض يغمرها والظلام يعم جوانبها وسعيت في غضون العرض والتحليل إلى الإشارة إلى الحل.
1-
عرفت بالتحكيم لغة واستعمالًا وأبنت أن العرب مارسوا التحكيم في استعمالهم اليومي وأن رسول الرحمن الأمين عليه الصلاة والسلام حكمه العرب وارتضوه وأثنوا على خلاله وصفاته فوضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة بيديه الشريفتين.
2-
تعرضت إلى موضوع التفرقة بين القضاء والإفتاء والتحكيم.
3-
شرحت مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي والأصل فيه القرآن الكريم والسنة النبوية وعمل الصحابة وبينت حوادث وقعت وقضايا نزلت وأسماء المحكمين ثم شرحت آية – {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} .
4-
الاحتكام إلى المحاكم الأجنبية. أثرت هنا مشكلة عويصة صعب حلها وعم ضررها هي احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة وأثرت موضوع اكتساب الجنسية الأجنبية وذكرت الفتاوى الصادرة في شأنها من علماء جلة من بلاد إسلامية مختلفة.
وذكرت بمناقشة المجمع لهذا الموضوع في دورته المنعقدة بعمان في 8 صفر سنة 1407 الملاقي 11 أكتوبر سنة 1986.
5-
التحكيم في الفقه الإسلامي. بسطت آراء المذاهب وبينت وجوب رضا الخصوم وشرحت أوصاف المحكم.
6-
ثم شرحت ما سنه القرآن الكريم من التحكيم بين الزوجين وهو تحكيم معمول به واقتبست أحكامه كل القوانين بالبلاد الإسلامية وبينت بنود هذه القوانين في بعض البلاد الإسلامية مثل تونس والسودان والمغرب والجزائر ولائحة القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية.
7-
وشرحت نوعًا من التحكيم سنة القرآن الكريم في شأن المحرم بالحج أو بالعمرة الذي يقتل صيدًا مع النهي عن ذلك.
8-
ثم تعرضت لمنظمات التحكيم وأولها محكمة العدل الدولية بلاهاي.
وتعرضت إلى الاقتراح بإنشاء محكمة عدل دولية إسلامية من طرف القمة الإسلامية وبينت عناصر المشروع ومحاوره.
ثم تعرضت لمنظمة التحكيم الدولية التابعة لغرفة التجارة الدولية وتاريخ إحداثها ومناطق عملها ومقرها ونشرياتها.
9-
وتحدثت باختصار عن طموح تونس لإنشاء مركز دولي للتحكيم بها وما قيل في شأن ذلك.
10 – وأخيرًا وإكمالًا للفائدة عرضنا باختصار شديد موضوع التحكيم في القانون لأن المقارنة مفيدة جدًا وكذلك الاطلاع على أفكار الآخرين ثم بيان الاقتباسات عن الفقه الإسلامي.
11-
وأخيرًا كتبنا هذه المقدمة وأضفنا جدولًا في المراجع والمصادر حتى يتمكن الباحث الدارس من الرجوع بسهولة إلى مصادر البحث.
وترجمنا تراجم مختصرة لبعض العلماء الذين جاء ذكرهم في هذه الدراسة اعترافًا بفضلهم وتنويهًا بشأنهم.
* * *
المصادر والمراجع
- تفسير البيضاوي
- تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
- تفسير الفخر الرازي طبع المطبعة العامرة الشرقية.
- تفسير الألوسي
- تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا.
- أحكام المنار للشيخ محمد رشيد رضا.
- أحكام القرآن للجصاص.
- الدر المنثور للسيوطي.
- الفروق للقرافي.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري.
- مسند الإمام أحمد.
- شرح السنة للبغوي
- سنن النسائي
- سنن البيهقي
- المدارك للقاضي عياض تحقيق أحمد باكير ج 2.
- الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحيان لمحمد عزت دروزه.
- لسان العرب لابن منظور.
- المدونة ج 2 طبع بيروت.
- مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب المالكي.
- التحفة لابن عاصم.
- التبصرة لابن فرحون.
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد.
- الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك (باب القضاء)
- كتاب المعيار للونشريسي أحمد بن يحيى.
- كتاب معين الحكيم للقاضي إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرفيع.
- كتاب حدود الإمام ابن عرفة وشرح الرصاع عليها.
- كتاب أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء لمصطفى سعيد الخن.
- كتاب الصلح لمحمود محجوب عبد النور.
- الموسوعة الفقهية الكويتية الجزء العاشر صفحة 233
- الفقه الإسلامي وأدلته وهبة الزحيلي.
- البديع من شرح التفريع لعبد الله بن عبد الرحمن (مخطوط)
- كتاب التفريع لأبي القاسم عبيد الله بن الجلاب تحقيق حسين الدهماني.
- البدائع للكاساني.
- الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني.
- شرح فتح القدير لابن همام.
- حاشية رد المحتار لابن عابدين على الدر المحتار.
- فتح القدير للكمال بن الهمام وبهامشه العناية على الهداية ج 5 باب التحكيم.
- الفتاوى الهندية طبعة بولاق الثانية.
- البحر الرائق
- فقه السيرة لمحمد سعيد رمضان البوطي
- تحفة المحتاج لابن حجر.
- نيل الأوطار للشوكاني محمد بن علي بن محمد.
- المغني لابن قدامة ج 1 المكتبة السلفية بالمدينة المنورة
- اللباب شرح الكتاب للميداني.
- معجم الفقه الحنبلي ج 2 والتحكيم في الحرب ج 1 منه صفحة 213
- كتاب الحداد للشيخ محمد الصالح بن مراد
- كتاب الطريقة المرضية للشيخ عبد العزيز جعيط.
- أدب القاضي للقاضي أبي الحسن علي بن حبيب الماوردي الشافعي.
- أدب القاضي للقاضي شهاب الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن أبي الدم الحموي الشافعي.
- شرح قانون الأحوال الشخصية السوري لعبد الرحمن الصابوني.
- أدب القاضي للخصاف.
- الأحكام السلطانية للماوردي.
- القضاء في الإسلام لمحمد سلام مدكور.
- تاريخ القضاء في الإسلام لعرنوس.
- تاريخ قضاة الأندلس للنبهاني المالقي الأندلسي وهو كتاب المراقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا.
- كتاب قضاة قرطبة لمحمد بن الحارث الخشني.
- كتاب الولاة وكتاب القضاة لمحمد بن يوسف الكندي.
- تاريخ قضاة الأندلس للنبهاني.
رسالة عمر رضي الله عنه في القضاء التبصرة ج 1 صفحة 20 وصفحة 28.
- مبحث التحكيم في التبصرة ج 1 صفحة 43.
- التحكيم في الفقه الإسلامي للمستشار السيد محمد جيل آق بيق.
- دراسة نشرت بمجلة القضاء والتشريع عدد 6 في رمضان جوان سنة 1405 / 1985.
- المجلة الزيتونية مجلد أول ج 10 سنة 1356 / 1937.
- سبل السلام لمحمد بن إسماعيل الصنعاني.
- مجلة المجمع الفقهي الإسلامي عدد 3 ج2 سنة 1408 / 1987
- حاشية محمد المهدي الوزاني على شرح التاودي على التحفة لابن عاصم في الفقه المالكي.
- جامع الأصول للجزري مجد الدين بن محمد بن الأثير.
- مجلة الأحكام العدلية العثمانية شرح علي حيدر.
- مجلة الأحوال الشخصية التونسية.
- قانون الأحوال الشخصية المصري.
- القانون السوداني للأحوال الشخصية.
- مدونة الأحوال الشخصية المغربية.
- قانون الأسرة الجزائري.
- لائحة القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية.
- محاضرات عن نظام الأحوال الشخصية بالسودان الصديق محمد الأمين الضرير.
- كتاب التنظيم القضائي بالسعودية – سعود الدريب.
-كتاب الخلافة باللسان الهندي تصدر في بومباي عدد 12 ج 3 سنة 1342 / 1924.
- جريدة الفتح المصرية محي الدين الخطيب في ربيع الآخر سنة 1352 / 1934.
- كتاب تاريخ حكماء الإسلام لظهير الدين البيهقي.
- كتاب الشعب التونسي والتجنيس للمرحوم الجيلاني الفلاح طبع مطبعة العرب سنة 1342 / 1924.
- جريدة الإرادة التونسية في 29 ربيع الأنوار = الملاقي 9 جوان سنة 1356 / 1937.
- مجلة المنار سنة 1352 / 1934 وسنة 1356 / 1937.
- كتاب فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء جمع وترتيب الشيخ أحمد بن عبد الرزاق الدويشي طبعة أولى سنة 1411 هـ.
- كتاب السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي لمحمد عبد الرحمن البكر.
- بحوث ودراسات بالعربية القانون الدولي الخاص الباشا البحار مجلة القضاء التونسية في ديسمبر 1976.
- العالم العربي في تحكيم غرفة التجارة محمد بجاوي.
- المبادي العامة في الشريعة الإسلامية في التحكيم التجاري الدولي حسان محاسني.
- شرط التحكيم في الشريعة الإسلامية وفي القانون الوضعي العربي بقلم خالد الكاديكي.
- استقلالية المحكم، حميدة الأندلسي.
- دور محاكم الدول في إجراءات التحكيم في دول مجلس التعاون الخليجي لحسن علي رضا.
- التحكيم التجاري الدولي في التشريعات العربية بقلم فوزي سامي أستاذ بجامعة بغداد وعضو مجلس تحكيم الغرفة التجارية العربية الإيطالية.
- التحكيم في العالم العربي حسن البحارنة عضو لجنة القانون الدولي للأمم المتحدة.
- التحكيم في العالم العربي والاتفاقيات العربية المتعلقة بالتحكيم = لحمزة أحمد حداد المحامي مركز القانون والتحكيم عمان وعضو مجلس تحكيم الغرفة التجارية العربية السويسرية هذه الدراسة منشورة أيضًا بالفرنسية.
- كتاب صبح الأعشى للقلقشندي.
- بحوث ودراسات بالفرنسية.
- دراسة إبراهيم فضل الله، نوعية التحكيم التجاري الدولي أستاذ بباريس.
- دراسة الأستاذ محسن شفيق أستاذ شرفي بكلية القاهرة لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي في 24 10 – 1989.
- دراسة المحامي بباريس عبد الحي السفريوي في الموضوع.
- دراسة عن العلاقات بين المحاكم العدلية والتحكيم في البلدان العربية بقلم سمير صالح مستشار قانوني – لندرة.
- مقال ايريك سافر: إجراءات التحكيم = المأمورية بالأمس واليوم.
- مقال صلاح الدين سلمي تيكناي موضوعه: انضمام تركيا لاتفاقية جينيف ونيورك.
- مقال سارج لازاراف الدليل التطبيقي واستعماله بالنسبة للعقد.
تراجم
ألحقت بهذه الدراسة تراجم لبعض من استندت إليهم أو نقلت عنهم حتى يزن القاري بميزان المعرفة بين القائل ومقاله وعمله ومن ثم يكون الأثر عن عالم معروف معرف به موثوق بنقله ورأيه.
شيخ الإسلام محمد العزيز جعيط:
ولد سنة 1303 /1886 تعلم بجامع الزيتونة ثم يتولى التدريس به وبالمدرسة الصادقية وتقلد الخطة الشرعية حتى أصبح رئيسًا لها وسمي في خطة شيخ الإسلام المالكي سنة 1364 / 1945.
وباشر خطة وزارة العدل من مشيخة الإسلام وكان لها بها نشاط كبير إذ وضع مجلة الإجراءات الشرعية.
وإثر استقلال البلاد التونسية وقع انتخابه لخطة الإفتاء بها فباشرها حتى سنة 1381 / 1962 وله عدة مؤلفات علمية فقهية قيمة منها كتاب مجالس العرفان ومواهب الرحمن، توفي رحمه الله رحمة واسعة في 27 شوال سنة 1381 هـ الملاقي 5 جانفي سنة 1961
أبو بكر الجصاص
هو أبو بكر الجصاص أحمد بن علي بن حسين الرازي الجصاص إمام حافظ محدث فقيه من أئمة الحنفية ببغداد له عدة مؤلفات
اختلف في تاريخ وفاته. والراجح أنه توفي سنة 370 / 980.
القاضي محمد الطاهر النيفر:
ولد سنة 1246 هـ، تخرج من جامع الزيتونة وتولى خطة الإشهاد والتدريس بجامع الزيتونة وأسندت إليه الإمامة والخطابة بجامع النفافتة ثم بجامع باب البحر. وتولى خطة القضاء سنة 1290هـ / 1893. كان عالمًا جليلًا قاضيًا نزيهًا.
توفي سنة 1311 هـ رحمه الله.
القاضي شريح:
أبو أمية شريح بن الحارث بن قيس بن الجهيم ابن معاوية بن عمر الكندي.
اختاره عمر بن الخطاب رضي الله عنه للقضاء واستمر عليه مدة طويلة جدًا أربت على السبعين عامًا حتى استقال منه في عهد عبد الملك بن مروان بالكوفة توفي عن مائة وعشرين عامًا بالكوفة سنة 78 هـ / 697 م.
شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع:
هو محمد أو محمد بالفتح الرابع ابن محمد بيرم الثالث ابن محمد بيرم الثاني ابن بيرم الأول بن حسين بن أحمد – بن حسن بيرام – أي عيد –
ولد سنة 1220 هـ / 1805 م وهو أول من حمل لقب شيخ إسلام بتونس.
كان عالمًا فقهيًا كاتبًا نحريرًا يعد من رجال الإصلاح بتونس وينسب إليه إدخال إصلاحات عميقة على المحاكم الشرعية – وهو الحامل على وضع قانون عهد الأمان.
توفي رحمه الله في الرابع من جمادى الأولى سنة 1278 الملاقي 5 نوفمبر سنة 1861. ورثاه صديقه شاعر تونس أبو الثناء محمود قباد بقصيد رائع طالعه.
(وقد كان طودًا للأنام وموردًا
واليوم عاد ذخيرة تستودع)
محمد المختار بن محمود:
عالم أديب كاتب نحرير له نشاط كبير في حقل التدريس والمحاضرات والكتابة والمشاركات العلمية والثقافية. له جرأة في قول الحق والإصداع به والدفاع عنه، أسس مع نخبة من زملائه مجلة علمية ذات مستوى علمي رفيع هي المجلة الزيتونية وأشرف على تحريرها وساهم في الكتابة فيها بدراسات قيمة وبقلم بليغ.
باشر التدريس بجامع الزيتونة والمدرسة الصادقية.
وأسندت إليه خطة الإفتاء على المذهب الحنفي. رحمه الله.
شيخ الإسلام أحمد بن الخوجة:
قال عنه الشيخ العلامة البحر محمد الفاضل ابن عاشور عندما ترجم له في كتابه تراجم الأعلام:
(لقد كان اسم الشيخ أحمد ابن الخوجة عنوانًا شهيرا عن معنى العلم الصحيح والعقل الراجح والمنزلة السامية في النبوغ العلمي) .
وهو نسيج وحده في فقه الفتوى بما أوتى من الذكاء وما اكتسب من الضلاعة في علم أصول الفقه. تولى مشيخة الإسلام سنة 1294 هـ.
وتوفي سنة 1313هـ. رحمه الله.
عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي الملقب سحنون:
ولد سنة 160هـ / 777 م بالقيروان.
وهو فقيه عالم جليل تولى القضاء فأحسن إداراته وانصف الناس ووقف في وجه الظلم وله مواقف مشهورة سجلها له تاريخ القضاء بالقيروان توفي بالقيروان سنة 240 – 854 رحمه الله.
محمد المهدي الوزاني:
أبو عيسى محمد المهدي بن محمد الخضر بن قاسم بن موسى العمراني الوزاني الشريف الفاسي ولد بوزان بفاس سنة 1266 – 1850 هـ وتوفي سنة 1342 – 1923 مفتي فاس – فقيه مشارك في كثير من العلوم له مؤلفات علمية قيمة منها حاشية على التاودي على تحفة ابن عاصم في الفقه المالكي.
وله كتاب المنح السامية من النوازل الفقهية في أربعة أجزاء يعرف بنوازل الوزاني.
وله كتاب المعيار الجديد ويعرف بالنوازل الجديدة الكبرى في أحد عشر جزءًا.
وله حاشية على شرح المكودي لألفية ابن مالك.
كما له كتاب الكواكب السيارة مطبوع وله عدة تآليف ورسائل أخرى.
القاضي ابن عبد الرفيع:
أبو إسحاق إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع الربعي التونسي قاضي القضاة بتونس.
كان علامة وقته ونادرة زمانه علمًا وفقهًا ألف كتابه معين الحكام على القضايا والأحكام في مجلدات وهو كتاب غزير العلم نحا فيه إلى اختصار المتيطة حققه وعلق عليه محمد بن عياد وطبعه، وتولى إمامة جامع الزيتونة.
توفي رحمه الله سنة 733 – 1332 وقيل 734 – 1333 م.
الحطاب محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المعروف بالحطاب:
ولد سنة 902 هـ – 1497م ومات سنة 954 هـ – 1547 م فقيه مالكي له عدة كتب فقهية منها كتابه مواهب الجليل في شرح مختصر خليل مطبوع في ست مجلدات.
ابن رشد:
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن رشد الشهير بالحفيد ولد ونشأ بقرطبة وهو قاضي الجماعة بها كأبيه وجده،
ولد على الأرجح سنة 520 – 1126 وتوفي في 9 صفر سنة 595 – 1198 م بمراكش ثم نقل إلى قرطبة حيث دفن بروضة أسلافه بمقبرة ابن عباس.
كان فقيهًا فيلسوفًا أربت مؤلفاته على السبعين وأشهرها كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد وهو أفضل مرجع فقهي مالكي مختصر يرجع له المبتدي ولا يستغني عنه المنتهي.
الكاساني:
علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني أو الكاشاني فقيه حنفي جليل من أهل حلب وكتابه بدائع الصنائع في ترتيب الشرايع مرجع من أهم المراجع في الفقه الحنفي يقع في 7 مجلدات مطبوع أضيف لها مجلد آخر في الفهارس توفي رحمه الله بحلب سنة 587 هـ – 1191 م.
ابن فرحون:
هو أبو الوفاء برهان الدين إبراهيم بن الإمام شمس الدين بن محمد فرحون اليعمري المغربي المالكي.
فقيه مالكي محقق له كتب مطبوعة منها كتاب تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومنهاج الأحكام وكتاب الديباج المذهب في تراجم أعيان المذهب.
توفي بالمدينة المنورة سنة 799 – 1397.
الدردير:
هو أحمد بن محمد بن أحمد العدوي ولد سنة 1127 هـ 1715 م وتوفي بالقاهرة سنة 1201 – 1786، فقيه مالكي له كتاب أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك مطبوع وله كتاب آخر مطبوع أيضًا تحفة الإخوان في علم البيان.
الدسوقي:
محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي ولد ببلدة دسوق من قرى مصر.
قال عنه المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي:
(كان فريدًا في تسهيل المعاني وتبيين المباني يفك كل مشكل بواضح تقريره، ويفتح كل مغلق برائق تحريره)
من مؤلفاته حاشية على مختصر السعد على التلخيص وحاشية على شرح الشيخ الدردير على مختصر خليل في الفقه المالكي.
توفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 1230 – 1815 ورثاه الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر المتوفى سنة 1250 – 1835 بقصيد مؤثر طالعه:
أحاديث دهر قد ألم فأوجعا وحل بنادي جمعنا فتصدعا
يمينا لقد جل المصاب بشيخنا دسوقي وعاد القلب بالهم مترعًا
سيدي خليل:
هو سيدي خليل بن إسحاق بن موسى ضياء الدين الجندي، كان مفتيًا على المذهب المالكي بالقاهرة وكتابه المختصر في الفقه مشهور متداول وقد ترجم إلى الفرنسية توفي رحمه الله سنة 776 هـ – 1374م.
ابن عابدين:
هو محمد بن عمر بن عبد العزيز ابن عابدين ولد بدمشق سنة 1198 هـ – 1784 م وتوفي سنة 1252 هـ – 1836 م.
ألف كتابه (رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار) في خمسة أجزاء وقد شرحه محمد علاء الدين الحصكفي في كتاب سماه (الدر المختار شرح تنوير الأبصار) .
ولابن عابدين عدة مؤلفات أخرى منها كتابه (العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية) وهو مطبوع وكتابه رد المحتار أكمله ابنه محمد علاء الدين بكتاب آخر هو (قرة عيون الأخبار لتكملة رد المحتار) مطبوع في جزءين. والابن محمد علاء الدين كان عضوًا في اللجنة التي باشرت وضع مجلة الأحكام العدلية برئاسة أحمد جودة وتوفي في 1306هـ – 1889 م.
الرصاع:
هو أبو عبد الله محمد بن قاسم الرصاع التونسي.
فقيه مالكي من عائلة علم وفقه كان قاضي الجماعة بحاضرة تونس وتولي الإمامة بجامع الزيتونة توفي سنة 894 – 1489 له عدة مؤلفات قيمة منها شرحه على حدود ابن عرفة.
شيخ الإسلام محمد الصالح ابن مراد:
هو محمد الصالح بن أحمد بن محمد ابن مراد ولد سنة 1298 – 1881 في بيت علم لوالده مفتي تونس الشيخ أحمد ابن مراد فقيه حنفي وكاتب نحرير أسس مجلة سماها: شمس الإسلام كانت منارًا تنير السبل.
تولى مشيخة الإسلام وألف كتابه الحداد في انتقاد بعض المؤلفين سنة 1399 امتحن في آخر حياته بسبب مواقفه الوطنية وتوفي سنة 1979.
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة هو (مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي) ، والعارض هو الشيخ محمد بدر يوسف المنياوي والمقرر هو الشيخ محمد جبر.
الشيخ محمد بدر المنياوي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد النبي الأمي الكريم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الجمع الكريم، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
يسعدني أن أبدأ كلمتي بشكر مجمع الفقه الإسلامي في رئاسته الحكيمة وأمانته المبجلة على اختيار موضوع التحكيم، وذلك لأنه موضوع يجمع بين الأصالة والحداثة في وقت واحد، وبقدر ما كانت تلجأ إليه المجتمعات البدائية فإن المجتمعات الحديثة تدعو إليه وتحرص على نشره كما يحقق لها من سرعة في الحسم وتخصص في الخبرة مع الحفاظ على أسرار المتخاصمين والعمل على سرعة تنفيذه ما يحكم به وذلك إلى جانب ترحيب الإسلام بنظام التحكيم، واهتمام الفقه الإسلامي ببيان مشروعيته، وحرص الدول الإسلامية على الأخذ به، والتصديق على المعاهدات والاتفاقات الدولية الصادرة بشأنه بل وإنشاء مراكز تحكيمية في ربوعها اشترط في بعضها أن تكون الشريعة الإسلامية وحدها هي القانون الواجب التطبيق.
وقد حرصت في بحثي على استخلاص أحكام التحكيم من الفقه الإسلامي مشيرًا إلى الأفكار السائدة في الفقه المقارن وموضحًا ما تبنته الأنظمة في الدول الإسلامية من قواعد في هذا الشأن مهتمًا بشكل خاص بأحدث النظم المطبقة في الدول الإسلامية والعربية ومنها نظام التحكيم السعودي الصادر به المرسوم رقم 26 وتاريخ 21 / 6 / 1403 هـ والذي امتاز بأخذه بكثير من التطورات والأفكار الحديثة مع حافظه على المبادئ الشرعية الأصلية المستقاة من الفقه الإسلامي.
والأبحاث التي أتشرف بعرضها على الجمع الكريم هي سبعة أبحاث، موضحة أسماء من قاموا بها بجدول الأعمال الموزع علينا وحضراتهم، وهم: فضيلة الدكتور عبد العزيز الخياط، الباحث العارض، سعادة الدكتور عبد العزيز التويجري، فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري، فضيلة الدكتور محمد جبر الألفي، فضيلة الدكتور عبد الله محمد عبد الله.
وهذه الأبحاث جميعها تمتاز بالعمق والتأصيل، وتكشف عن الجهد الكريم الذي بذل في إعدادها مما يستلزم أن أبادر إلى شكر الباحثين العشرة على ما قدموه سائلًا المولي – عز وجل – أن يثيبهم عنا خير الجزاء.
وقد ترون حضراتكم معي أن تسهيل العرض يقتضي أن نقسم الدراسة في البحوث والأحد عشر إلى ثلاثة محاور، ويتطلب كل منها طريقًا للعرض يختلف عما يتطلبه الآخر.
المحور الأول: التعريف بالتحكيم وأحكامه:
المحور الثاني: وسائل تطبيق التحكيم داخل المجتمع الإسلامي وطرق الاستفادة منه خارجه.
المحور الثالث: محاكم العدل الدولية القائمة والمرتقبة.
وأستأذن جمعكم الكريم في أن أكتفي في المحور الأول باستخلاص المبادئ التي تستنبط من الفقه الإسلامي على ضوء ما تكشف عنه البحوث مكتفيا ًبالإشارة إلى المصدر الهام منها، وقد يكون شفيعي في ذلك أن الأمر لا يعدو أن يكون استخلاصًا من الفقه الإسلامي لم يعتوره خلاف ذو شأن بين الباحثين الكرام.
أما بالنسبة للمحور الثاني فقد يشاركني الجمع الكريم الرأي في أنه يستأهل شيئًا من الإيضاح لأنه يتناول الاستفادة العلمية المرتجاة من البحوث والتطبيقات المستحدثة في التحكيم على ضوء التطورات الاجتماعية والقانونية الدولية.
وبالنسبة للمحور الثالث فإن الأمر قد لا يسمح بأكثر من استعراض رؤوس موضوعات لأنه ميدان تترامى أطرافه وتستعصي قواعده على الجمع بوريقات قليلة أو دقائق معدودة. أما عن المحور الأول الخاص بالمبادئ المستخلصة فيمكن إيجازها فيما يلي:
أولًا: التعريف بالتحكيم أو معنى التحكيم وحكمه:
اختلفت الأمانة في العناصر التي عرضتها للبحث – الكلام عن التعريف بالتحكيم – ولم تطلب تعريف التحكيم وهذا يكشف عن دراسة الأمانة مسبقًا لما تطلبه، فالشائع في كتب الفقه الإسلامي التعريف بالتحكيم وليس تعريفه، وليس له تعريف جامع مانع وعلى هدي ذلك يمكن أن يقال: إن التحكيم اتفاق بين طرفي خصومة معينة على تولية من يفصل في منازعة بينهما بحكم ملزم يطبق شرع الله. وقد نص الفقه الإسلامي على مشروعيته سواء كان بين الأفراد أم كان في المنازعات الدولية
…
وواضح من هذا التعريف أن التحكيم يختلف عن الصلح الذي يتم عن طريق نزول كل من المتصالحين عن بعض ما يتمسك به، كما يختلف عن الفتيا في أنه لا يكون إلا في خصومة وأنه ملزم للطرفين، ويختلف عن القضاء في أن المصدر المباشر الذي استصدر فيه هو رضا الطرفين لا تولية ولي الأمر، وقد أصدر على الإطلاق لفظ (خصومة) في التعريف، أن تشمل الخصومة الحالة والمستقبلة، وذلك لأن الفقه الإسلامي وإن كان لا يتضمن بصورة واضحة تقسيم صورة الاتفاق على التحكيم إلا ما يسبق نشوء المنازعة وما يلحق بها فإن عباراته تسع ذلك ولا تتأبى أن يستعمل معها ما اصطلح عليه رجال القانون من إطلاق شرط التحكيم على ما يكون منصوصًا عليه في العقود من قبول الالتجاء إلى التحكيم فيما قد ينشأ مستقبلًا في المنازعات في هذه العقود ، من إطلاق اسم اتفاق التحكيم أو مشارطة التحكيم أو وثيقة التحكيم عن الاتفاق اللاحق على شئون المنازعات. وإصباغ وصف المشروعية على التحكيم قصد به أن التحكيم لا ينبغي أن يستقى حكمه من الأحكام والقواعد العامة التي تبيح الأفعال أو تسمح بالعقود طالما أنها لا تخالف نصًا أو تصادر إجماعًا فالأمر يستلزم أن يكون هناك دليل على المشروعية، وذلك لأن التحكيم ينتقص من ولاية القضاء بعزل بعض الخصومات عن اختصاصه ويلزم الدولة بأن تسهم في التنفيذ جبرًا لحكم صدر عما لا تنبثق سلطته من سلطتها ولا تتفرع ولايته من أي ولاية من ولاياته، وقد ترون حضراتكم أن توافقوا على ما انتهجه بحث العارض وبعض البحوث الأخرى من حصر الأدلة الشرعية فيما ينصب منها على التحكيم الرضائي الذي تحدث عنه ونتحدث عنه وأن نستبعد الأدلة التي تداور التحكيم في الشقاق بين الزوجين أو التحكيم عند قتل الصيد. فالتحكيم الأول الخطاب فيه قوله تعالى:{فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] ، إنما هو للحكام العائد إليهم أيضًا ضمير {وَإِنْ خِفْتُمْ} ، وهذا رأي كثير من المفسرين وقد صرح به في (البحر الرائق) كما صرح أيضًا به في (فتح القدير)، وقالوا صراحة إن هذا لا يصلح دليلًا على التحكيم الرضائي. والأمر الثاني والذي هو الاستدلال بالتحكيم عند قتل الصيد ليس في حقيقته خصومة لأحد وإنما هو جزاء قد يكون مثل ما قتل من النعم أو إطعام مساكين أو صيام. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] .
ثانيًا: الموضوع الثاني أو الأمر الثاني المستخلص من القواعد الفقهية: حكم العقد يستخلص من البحوث أن التحكيم عقد غير لازم بالنسبة للطرفين وبالنسبة للحكم، فيجوز لهم الرجوع فيه ما لم يشرع الحكم في التحكيم ويجوز للحكم أن يعزل نفسه ولو بعد قبوله ما دام لم يصدر حكمه، ولا يجوز له أن يستخلف غيره دون إذن لأن الرضاء ينصب على شخصه. وهذا الاستخلاص يتناول حالات ثلاث من الرجوع: الرجوع قبل التحكيم، الرجوع بعد صدور الحكم، والرجوع بعد الشروع في التحكيم وقبل الحكم.
ورجوع المتحكمين قبل التحكيم مبني على أن الإرادة معتبرة في أصله وتعتبر في لزومه، وهو قول الأئمة الأربعة ولم يخرج عنه إلا نفر قليل كابن الماجشون من المالكية. أما عدم جواز الرجوع بعد الحكم فلم يخرج عليه إلا بعض الشافعية بمقولة:(إن حكم المحكم إنما يلزم بالرضا وهو لا يكون إلا بعد معرفة حكمه) . أما عدم جواز الرجوع بعد الشروع في التحكيم فهو الرأي الراجح لدى المالكية والمشهور عند الحنابلة، والقول بغيره يجرد التحكيم من المقصود منه لأنه كما يقولون يؤدي إلى أن كل واحد من المتحاكمين إذا رأى من الحكم ما يوافقه رجع فبطل المقصود منه. أما عزل المحكم نفسه فجائز طالمًا لم يصدر حكمًا ولا يستطيع المحتكمون أن يحولوا بينه وبين هذا الانعزال بدعوى أن له حقًا مكتسبًا تولد بقبوله التحكيم ذلك أن انعزال الحكم كقاعدة عامة لا يضر بهم إذ هو يردهم إلى الطريق العادي لفض الخصومات والقضاء.
ثالثًا: من القواعد المستخلصة أيضًا ما يجري فيه التحكيم. والقاعدة المستخلصة من مجموعة البحوث هي أنه لا يجري التحكيم في كل ما هو حق لله تعالى كالحدود، ولا استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه من غير المتحاكمين ممن لا ولاية للحاكم عليهم كاللعان، ولا ما اقتضى عظم قدره وخطره أن يعهد به إلى القضاء المولي دون غيره. فإذا قضى الحكم فيما لا يجوز فيه التحكيم فحكمه باطل ولا ينفذ.
ويتناول هذا الاستخلاص في شقه الأول تحديد نطاق التحكيم وهو يجنح في هذا الشأن نحو المالكية الذي يضعون معيارًا يمتاز بالمرونة ويتجاور مع متطلبات العصر الحاضر وهو معيار يلتقي – ولا أقول يتفق – مع ما أخذ به نظام التحكيم السعودي ونظام التحكيم الكويتي، كما أنه قريب من معايير النظام العام الذي تأخذ به أغلب الدول في العالم المعاصر. ثم هو من ناحية أخرى يدور داخل النطاق الذي يراه الغالبية العظمى من الفقهاء الإسلاميين بما في ذلك من يجيزون التحكيم في كل شيء كبعض الحنابلة فيما يرويه صاحب (كشاف القناع) أو بعض الشافعية فيما ينقله الشربيني الخطيب في (مغنى المحتاج) . أما الشق الثاني من الاستخلاص فيأخذ برأي الجمهور فيبطلان التحكيم إذا جرى فيما لا يجوز له أن يجري فيه، فهذا الرأي أقوى حجة من رأي المالكية الذين يقولون بإمضاء الحكم في هذه الحالة إن كان صوابًا فإن كان خطأ يترتب عليه إتلاف عضو فالدية على عاقلته، وإن ترتب عليه إتلاف مال كان
…
للطرفين من شأنه أن يعلي عوامل الثقة على عوامل الكفاءة فيجيز الترخص في شروط الحكم مقارنة بشروط القاضي المولي، وذلك ما لم يصطدم هذا الترخص بالنص كشرط الإسلام في الحكومة بين المسلمين، أو بالعقل كشرط أن يكون المحكم عاقلًا مميزًا.
وشروط الحكم التي يشير إليها هذا الاستخلاص هي بحسب الأصل العام كشروط القاضي المولى غير أنه يترخص في بعض منها وفق ما يراه كثير من فقهاء المسلمين وذلك باعتبار أن الحكم يتم اختياره بإرادة الطرفين وبناء على ثقتهما فيه ليحكم في أمور حدداها له سلفًا، ولا يكون لحكمه أثر يتعدى إلى غيرهما، مما من شأن ذلك كله أن يعلي عوامل الثقة على عوامل الكفاءة يجبر رضاء الطرفين بعض ما قد يلحقه من نقص وتصح حكومته مع ما يعتورها من مثالب لو تحققت في القاضي المولى لم يصح قضاؤه. وتطبيقًا لذلك فإنه يجوز في المذهب الحنفي تحكيم الفاسق أو الجاهل الذي يستشير أو المرأة، وينفذ – على مذهب المالكية – تحكيم الأعمى أو الأخرس أو الأصم.
رابعًا: الإشراف القضائي على التحكيم:
وهذا الموضوع هو الذي أشارت إليه عناصر الأمانة بقولها: تنفيذ حكم المحكمة مباشرة أو باتصال القضاء به. وفي بحث هذا العنصر نجد البحوث قد تناثرت في المواضع التي ذكرتها فيه، وقد رأيت أن أجمع شتاته مقام العرض على مسامعكم الكريمة، والقاعدة المستخلصة بشأنه تجمل في الآتي:
للقضاء على التحكيم حق الإشراف والرقابة فيجوز أن يخول القاضي الموالى الحق في تعيين الحكم إذا لم يختره الطرفان، أو حالت ظروف دون مباشرة مهمته وتشمل رقابة القضاء التحقق من رضاء الطرفين، وأهليتهما، وأهلية الحكم وعدم خروجه عما فوض إليه الحكم فيه، وعدم مخالفته شرع الله فيما حكم، ونقض حكمه إذا خالف فيما ليس فيه اجتهاد.
ويستند حق القضاء في الإشراف والرقابة على التحكيم – المشار إليه في هذا الاستخلاص – إلى عمادين أساسيين وذكرتهما البحوث، وهما:
أولهما: أن تنفيذ حكم التحكيم جبرًا لابد له من ولاية عامة، وهو ما يفتقده التحكيم بينما يوفره القضاء.
ثانيهما: أن منازعة التنفيذ لا تعدو أن تكون منازعة كسائر المنازعات التي يختص القضاء بالفصل فيها.
ويقتضي الإشراف أن يكون من حق القضاء إزالة العقاب التي تقوم سبيل تحكيم يصر أطرافه عليه، وذلك مثلًا بتعيين الحكم إذا لم يختره المحكمان، أو اختاراه وحالت ظروف دون مباشرته المهمة التي أوكلت إليه.
أما الرقابة القضائية فتتمثل في وجوب التحقق من سلامة الإجراءات وصحة الحكم قبل الأمر بالتنفيذ. فعلى القاضي أن يتحقق من رضاء الطرفين ومن أهليتهما، وأن يتحقق من قبول الحكم وأهليته، وأنه لم يخرج عما فوض إليه الحكم فيه، وأنه لم يخالف شرع الله فيما حكم، فإنه خالفه فيما ليس فيه اجتهاد وجب نقض الحكم أو الأمر بعدم تنفيذه إذ لا حجية في مخالفة الشرع ولا اجتهاد فيما لا يجوز الاجتهاد فيه. أما إذا كانت المخالفة فيما يجوز الاجتهاد فيه فالجمهور يرى أنه لا يجوز نقض الحكم ولو خالف اجتهاد القاضي، وذلك لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله وإلا تتوالى نقض الأحكام وعز الاستقرار وغلبت الفوضى على نحو ما عبر به الإمام الغزالي في كتابه (المستصفى) .
هذا هو المحور الأول وهي القواعد المستخلصة من الفقه الإسلامي وقد جمعتها من مجموعة البحوث جميعًا، واكتفيت بتعليل أو بتأصيل ما احتاج إليه تأصيل – في نظري – من هذه القواعد:
المحور الثاني: وهذا عرضه يقتضي اختلافًا في العرض عن الأول – المحور الثاني: وسائل تطبيق التحكيم الإداري داخل المجتمع الإسلامي وطرق الاستفادة منه خارج هذا المجتمع.
وهذا الموضوع يتناول ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: احتكام غير المسلم داخل الدول الإسلامية.
النقطة الثانية: احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة.
النقطة الثالثة: التحكيم الدولي بين الدول والمؤسسات الدولية.
أما عن النقطة الأولى وهي احتكام غير المسلم في داخل الدولة الإسلامية، فقد ورد في عناصر الموضوع كما وضعتها الأمانة العامة للمجمع تحت بند ثامنًا:
احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية في دول إسلامية، وقد فهم بعض الباحثين الأفاضل أن المقصود هو التساؤل عن حكم التجاء غير المسلم للقاضي المولى أو إلى الإمام، فاستعرضوا رأي المفسرين في تفسير قوله تعالى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] وأما إذا كانت منسوخة بقوله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] أو أن التخيير ما زال قائمًا. كما استعرضوا أيضًا آراء الفقهاء في ذلك. وممن نهج هذا النهج الأستاذ الدكتور عبد الله محمد عبد الله، الذي فصل الأقوال في المسألة تفصيلًا جميلًا، وأيضًا حجة الإسلام الشيخ التسخيري الذي اختار وجوب الحكم بينهم إذا ترافعوا للقاضي المسلم أو كانوا مختلفين في الملة، أو كان أحدهما حربيًا والآخر ذميا، كما اختار فضيلته أيضًا إقرار حكمهم إذا لجأوا إلى محكم منهم ثم رفع الأمر إلى القاضي فوجد أن الحكم عدلًا صحيحًا، أما إذا كان جورًا فلا يجوز إقرارهم عليه. وفصل الدكتور محمد جبر الألفي آراء المذاهب الأربعة في جواز الإعراض أو الحكم إذا ترافعوا إلى القاضي أو ترافع أحدهما فقط. وقد رأى جانب آخر من الباحثين ومنهم الباحث العارض ألا يخرج عن أحكام التحكيم إلى الأحكام الخاصة بالقضاء وآثر أن يهتم في هذا الصدد باحتكام غير المسلم إلى حكم غير مسلم داخل الدولة الإسلامية، وهو الأمر الذي يرى الأحناف جوازه بشرط ألا يكون الحَكَم أدنى درجة من المحتكم. وتأصيل هذا الحَكْم لدى هذا المذهب يمتاز بقوة الدليل العقلي الذي يخلص في:
1-
إن غير المسلمين إذا تحاكموا إلى حكام من أهل دينهم فإنهم يلتزمون بما يحكمون به لالتزامهم له وليس لأنه لازم من الأصل.
2-
ولأن القضاء المولي يمثل صمام الأمان الذي يحول دون الإجبار على تنفيذ حكم ولا يتفق مع الشرع.
3-
ولأن السماح لمحكم غير مسلم بأن يتولى منازعات غير المسلمين جمع بين مقتضى قاعدة عدم ترك خصومة بها قاض في الإسلام، والقاعدة التي تمنح القاضي الحق في الإعراض عن خصومة غير المسلمين في الحالات التي يراها المالكية وغيرهم من فقهاء المذاهب الأخرى.
وقد خلص أصحاب هذه الدراسة من الباحثين إلى أنه في داخل الدولة الإسلامية يجوز أن يحتكم غير المسلمين إلى حكم غير مسلم فيما أمرنا أن نتركهم وما يدينون، وذلك اعتمادًا على أن القضاء يمثل في ذلك صمامًا يحول دون الإجبار على حكم يخالف شرع الله.
الموضوع الثاني: احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة.
ممن تكلم في هذا الموضوع بإسهاب جميل الأستاذ عبد الله محمد عبد الله فقد رجع إلى كتاب (السير الكبير) لمحمد بن حسن الشيباني وخلص إلى نقاط أهمها: أن المسلم لم يمنع من رفع خصومته إلى السلطان الكافر في بلاد الكفر بدليل ما وقع للمسلمين الأوائل عند الهجرة إلى الحبشة، وأنه لو تغلب الكفار على المسلمين واضطر ولي الأمر إلى مهادنتهم على شروط فيها حط من شأن المسلمين كحق الفصل في الخصومات بين الكفار والمسلمين فإن ذلك جائز.
أما سائر البحوث بما في ذلك بحث العارض فقد تناولوا من محاور ثلاثة:
المحور الأول:
أنه لا يجوز التجاء المسلمين إلى محاكم غير إسلامية خارج الدولة الإسلامية إلا في حالة الضرورة وبقدر ما تمليه هذه الضرورة، وذلك أخذًا بما يراه جمهور الفقهاء. وقد سمى الباحث الدكتور محمد جبر الألفي ذلك نوعًا من التحكم الفاسد الذي ينفذ رغم فساده. وأشار الباحث العارض في هذا الشأن إلى عدم الاعتداد بما نسب إلى بعض فقهاء الأحناف من قبول حكم الذمي بين مسلم وذمي إذا كان الحكم لمصلحة الذمي بدعوى أن الذمي يصلح شاهدًا على غير المسلم ولا يصلح شاهدًا على المسلم، وذلك لأن هذا الحكم المنسوب إلى الحنفية محل اعتراض من سائر الفقهاء ولمخالفته الأدلة العديدة التي تمنع ولاية غير المسلم على المسلم، فضلًا على أن هذا الرأي يؤدي إلى حكم قلق غاية القلق إذ سينفذ أو لا ينفذ حسب درجة الخصم المحكوم ضده، فإن قضى على غير مسلم نفذ حكمه وإن قضى على مسلم لم ينفذ هذا الحكم ويعلل الدكتور عبد العزيز عثمان التويجري في بحثه عدم الجواز أن يكون الحكم غير مسلم في منازعات المسلمين بقوله: إن اشتراط أن يكون الحكم مسلمًا في المنازعات بين المسلمين لا يتعلق بعدم الثقة في غير المسلمين، فالإسلام يبيح التعامل الحر والثقة بين الناس على اختلاف مللهم، وإنما شرط إسلام الحكم تتعلق بحسن تطبيق الشريعة، إذ جرت العادة على ألا يكون غير المسلم على إلمام عميق بعلوم الشريعة نظرًا لطبيعتها الإيمانية.
المحور الثاني:
هو مدى جواز الالتجاء إلى المحاكم غير الإسلامية لإضفاء الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم.
وفي هذا الصدد يرى بعض السادة الباحثين أن ذلك لا يجوز أن نلجأ إليه إلا للضرورة، بينما يرى آخرون وهم كثرة ومنهم الباحث العارض، وحجة الإسلام التسخيري، والدكتور عبد الله محمد عبد الله، والدكتور الألفي، يرون أنه لا شيء في الالتجاء إلى المحاكم غير الإسلامية لهذا الغرض، بل ويضيف الباحث العارض أن ذلك يجب أن يوضع في الاعتبار منذ أول الأمر حتى يرعى الحكم والمحتكمون القيود التي يفرضها البلد الذي يحتكمون فيه أو يجري التنفيذ على أرضه. ويعرض الباحث الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي في هذا الصدد نموذجًا من واقع تجربة الهند في فترة الاحتلال الإنجليزي يتلخص في قيام أهل الحل والعقد في الولاية المحتلة باختيار شخص ينصب قاضيًا ليحكم في القضايا العائلية والمالية وغيرها، وأن هذا وإن أخذ مظهر القضاء الشرعي إلا أنه في حقيقته نوع من التحكيم الجماعي، وقال الباحث الشيخ: إن هذا الحكم كان ينفذ بالضغط الاجتماعي اعتمادًا على الجذوة الإيمانية، فضلًا على أنه يرى أن التنفيذ أمر خارج عن الحكم في ذاته للأدلة العديدة التي ساقها فضيلته في بحث ممتاز عن صلة التنفيذ بالحكم ذاته.
المحور الثالث:
الذي تناوله الباحثون في هذه المسألة فيقوم على وجوب أن يكون مصدر الحكم في هذا التحكيم هو الشريعة الإسلامية.
ثالثًا: اتفق الباحثون على أن الإسلام يرحب بالتحكيم الدولي الرضائي كوسيلة لحل المنازعات بين الدول أو المؤسسات. أما التحاكم في هذا الشأن إلى غير المسلمين فإنه وإن كانت غالبية البحوث ترى ما يراه حجة الإسلام التسخيري – حفظه الله – من أنه لايجوز إلا إذا كانت تمليه ضرورة دولية تعاونية، باعتبار أنه لا يمكن أن تنفرد دولة إسلامية بمسيرة خاصة بها في العلاقات الدولية إلا أنه مع ذلك قد يكون من المفيد أن أشير إلى ما جاء في بعض البحوث الأخرى في هذا الشأن. فبحث العارض يقترح بأن يؤخذ برأي من يسمح بأن يمثل الجانب غير المسلم ممثل غير مسلم تقديرًا للمصالح التي تقتضي ذلك والتي يقرها الشرع في مواضع كثيرة وذلك على نحو ما ينادي به بعض فقهائنا المعاصرين كالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي – حفظه الله – من أن إشراك غير المسلم في هيئة التحكيم بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول أصبح أمرًا لا مفر منه حتى يطمئن كل طرف إلى أن ممثله سوف ينقل وجهة نظره ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة في البيان والبرهان.
أما الأستاذ الدكتور عبد العزيز خياط فقد أشار في بحثه إلى رأي للدكتور وهبة الزحيلي في كتاب في موضع آخر من كتب فضيلته يتكلم فيها عن تطبيق المادة (37) من اتفاقية لاهاي، فيقول: إنه طبقًا لنص المادة (37) من اتفاقية لاهاي: فإن القانون واجب التطبيق في محكمة العدل الدولية هو قواعد العدل والحق، وأن ذلك لا يتنافى مع الشريعة الإسلامية. وقد أورد ذلك الدكتور الخياط ثم عقب عليه بأن اللجوء إلى المحكمين يقتضي أن يكون منهم مسلمون، وأن يلتزموا بأحكام الشريعة الإسلامية في التحكيم وأنه لا يكفي في هذا الصدد الاستناد إلى قواعد العدل والإنصاف فهي قواعد مبهمة، ولا الاستناد إلى الأعراف الدولية، إذا أن منها ما هو صحيح ومنها ما هو فاسد. أما الأستاذ الدكتور عبد الله محمد عبد الله فقد ناقش في بحثه حكم الاستعانة بغير المسلمين واستعرض آراء الفقهاء في هذا الشأن، ثم انتهى إلى أن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية ليس فيه استعانة بالمعنى الدقيق فقضاء المحكمة هو استجلاء للحقيقة ومعرفة من هو صاحب الحق ومن هو المعتدى عليه، فإن امتنع هذا عن رد الحق إلى صاحبه كان في حكم الباغي من كل وجه، ومن ثم تكون الاستعانة هي الخيار الحقيقي المبني عليه والسبيل الوحيد للظفر بحقه.
المحور الثالث في البحوث وهو الكلام عن محكمة العدل الدولية القائمة المرتقبة. استعرضت البحوث المحاكم الدولية إبان قيام عصبة الأمم المتحدة وبعد العمل بميثاق الأمم المتحدة، وأشار بعضها إلى النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وبعض البحوث قد أشار إلى ذلك بإيجاز وبعضها أسهب كثيرًا في استعراض النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. كما أشار بعضها إلى مشروع محكمة العدل العربية المنتظرة، وإلى مشروع محكمة العدل الإسلامية الدولية الذي أقره مؤتمركم الموقر بناء على اقتراح دولة الكويت. وقد ركز بحث العارض في هذه النقطة على إيضاح الأصول التي تجمع هذه المحكمة الإسلامية بسائر المحاكم الدولية، وكشف عن الطابع الذي يميزها عن غيرها. كما عدد العوامل التي سوف توفر مناخًا ملائمًا لازدهارها والإقبال عليها، إن شاء الله، وهي أمور رغم أهميتها القصوى فإني مضطر لضيق الوقت في أن أحيل إلى البحث الذي بين أيدي حضراتكم.
وقد جرى مؤتمركم الموقر أن يدعو مجددًا الدول الإسلامية المشاركة في منظمة المؤتمر الإسلامي إلى المبادرة بالتصديق على نظام محكمة العدل الإسلامية الدولية تحقيقًا للأهداف التي أشار إليها المؤتمر في ديباجة قراراه الذي أصدره بإنشاء هذه المحكمة والتي منها تعزيز دور المنظمة ومكانتها والإسهام في تحقيق أهدافها وتنقية الأجواء بين الدول الأعضاء في المنظمة كضرورة ملحة في المواجهة المشتركة لكافة الأقطار والتحديات التي يواجهها العالم الإسلامي.
ولله الأمر من قبل ومن بعد، وشكرًا للرئاسة الكريمة والأمانة الرائدة على إتاحة هذه الفرصة، وشكرًا لكم على حسن الاستماع واعتذارًا بالغًا للسادة الباحثين الذين لم يسع الوقت لاستعراض أقوالهم بالتفصيل. وشكرًا لكم،،
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم،
قبل كل شيء أود أن أشكر الأستاذ الكريم المنياوي على هذا العرض العلمي الشيق الطيب، والجامع بملاحظة الوقت المخصص.
لا أرى بحاجة للحديث إلا في نقطتين بسيطتين وسوف أختمه بسرعة.
جاء في التقرير أن شروط قاضي التحكيم هي نفس شروط القاضي المعين تقريبًا. أنا أعتقد أن الكثير من شروط القاضي – والتي ربما نتفق عليها – المعين، أو قد نختلف في شيء من جزئياتها غير المشترطة، يعني لا دليل على اشتراطها في قاضي التحكيم، إنه رجل أو حتى امرأة تم التوافق على رأيها في قضية تحل بشكل طبيعي. فلذلك شروط الذكورة وشرط طهارة المولد، وشرط حتى غلبة الحفظ وبالخصوص شرط الاجتهاد الذي يرى الأكثر أنه ضروري في القاضي، هذه الشروط كلها لا أراها ضرورية وإن كانت محسنات لقاضي التحكيم. لم أجد دليلًا يفرض علينا في هذا المجال هذه إشارة.
الإشارة الثانية: مسألة رقابة القضاء من قبل الدولة على قضاة التحكيم شيء ضروري جدًا، ولا يحق لقاضي التحكيم أن يخدش شيئًا من سلطة الدولة الإسلامية. فالرقابة شيء جيد، ولكن إذا كانت القضية لا تحد من سلطة الدولة، قضية تحل بشكل طبيعي جدًا، هذه القضية لا داعي لأن نفترض لزوم إرجاعها إلى القضاء، نعم إذا احتاجت إلى أمر تنفيذي وإلى عمل – كما قلت – يزاحم سلطة القضاء ومظلته فينبغي أن تكون تحت المظلة.
السماح لمحكمة غير مسلمة أو لقاضي تحكيم غير مسلم في دولة إسلامية يرتضيه ذميان إما من ملة ومن ملتين، لا مانع منه إذا تم تحت إشراف القضاء العام، شيء آخر، مسألة الاحتكام للمحاكم الدولية. يجب أن نلاحظ تمامًا أنه خلاف القاعدة وخلاف ما أمرنا به، وفي الواقع ركون إلى قوانين غير إسلامية وركون إلى أفهام وعقول غير إسلامية وقضاة تشبعوا بالقضاء المادي. فالأصل فيه أنه يجب ألا يتم، ويجب أن يحل المسلمون قضاياهم فيما بينهم، ولكن لا يعني هذا أننا نغلق الباب بشكل كامل. إذا توقف الأمر والإصلاح ورضي الطرفان، يعني المحكمة الدولية محكمة تصالح وليست محكمة مفوضة من ولي الأمر، محكمة تصالح إذا رضي الطرفان وكانت هناك ضرورة وحرج، وأمثال ذلك بشكل استثنائي يجب أن ينعكس هذا المعنى، لا مانع لكن كما قلت في مرحلة الضرورة والحرج. والأصل أننا يجب أن نعيش في إطارانا وتحكمنا الأخوة الإسلامية.
هناك نقطة أخرى وهي أن سيادة الدكتور أشار إلى أن محكمة العدل الإسلامية أقرها هذا المؤتمر، أتصور أن هناك خطأ، الذي أقر محكمة العدل الإسلامية منظمة المؤتمر الإسلامي أقرت النظام الأساسي. وأنا أضم صوتي لسيادته في دعوة الدول الإسلامية جميعًا لتطبيق نفسها بالشكل الذي يجعلها تنسجم مع هذا القرار ولننجو من مسائل اللجوء إلى المحاكم الكافرة. ولذلك هذه الدعوى في محلها، وحبذا لو تمت توصية في مسألة الإسراع في قضية المحكمة الإسلامية وهي محكمة تحكيم أيضًا، يعني محكمة صلح يتصالح عليها الطرفان، وشكرًا جزيلًا.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نشكر فضيلة المستشار العارض على حسن عرضه واستيفائه في البحوث وببيان. وأشكر أيضًا المجمع الفقهي على جعله هذا الموضوع ضمن الموضوعات التي تناولتها هذه الدورة لأهمية هذا الموضوع واتصاله بمصالح كثيرة خصوصًا في عصرنا الحاضر لا سيما إذا نظرنا إلى كثرة قضايا التحكيم التي تعرض على المحكمين الدوليين والتي أحد أطرافها دولة مسلمة. ولهذا كان المجمع موفقًا في طرحه هذا الموضوع. وكذلك موفقًا في بيان العناصر – عناصر الموضوع – بتفصيل. وقد حاولت أن أوفي الكلام على جميع العناصر، ثم عملت ملخصا لهذا البحث في صفحتين ببيان أهم العناصر في كل نقطة من النقاط.
والذي يهمني الآن أن أركز عليه بعض النقاط البسيطة.
أولًا موضوع التحكيم يمكن تقسيمه إلى قسمين أو تشعيبه إلى شعبتين:
الشعبة الأولى: تختص في التحكم بين المسلمين في الدول الإسلامية أفرادًا وجماعات.
الشعبة الثانية: التحكيم الدولي الذي أحد عناصر أو أطرافه دول إسلامية مع دولة غير إسلامية أو شركة إسلامية مع شركة غير إسلامية. وهذا الرأي يعالجه القانون بجعل التحكيم الدولي أو التجارة الدولية
…
التجارة الدولية الآن تخضع معظمها لحل مشاكلها عن طريق التحكيم الدولي. وهناك هيئات دولية تختص في حل هذه المشاكل. وقد استعرضت في المقدمة جملة من القضايا المرفوعة أمام المحكمين الدوليين والتي أحد أطرافها دولة إسلامية. ولهذا أنا فرقت بين الشعبة الأولى والشعبة الثانية. فالقسم الأول هذا الذي تحدث عنه الفقهاء والذي تناوله الفقهاء في كتبهم، والشروط التي يشترطونها في المحكم، وهل المحكم قريب من القضايا فيتقاربان من حيث حفظ الشروط أم لا؟.
أما الشعبة الأخرى فتخضع إلى مسألة أخرى. بالنسبة للفرد المسلم الذي يذهب إلى بلاد غير إسلامية. فالفقه الإسلامي أجاز للمسلم أن يعمل بالتجارة في بلاد غير إسلامية أن يذهب بعقد أمان، كما يدخل المستأمن الكافر في بلاد المسلمين بعقد أمان. فهنا مسألة الولاية غير واردة (وَلَنْ يَجْعَلَ الْلَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) ، غير وارد في هذا المكان لأن هذه بلاد كافرة ولا سلطة للمسلم فيها وليست له عزة الاحتكام ولا قوة يلجأ إليها، فهو يتعامل مع الناس ومن خلال هذه المعاملات تحدث مشاكل في العقود، في البيع والشراء، وفي الإجارة، في العقود التي قد يبرمها مع هؤلاء ومع الشركات الأجنبية، فهو معرض لهذه الأمور ولابد من سبيل للوصول إلى حقه، فإما أن نقول خذ حقك بيدك وهو أضعف من الضعيف، وأما أن نقول له ألجأ إلى الجهات التي تجعلها هذه الدول لوصول الإنسان إلى حقه. وهناك كلمات ذكرتها طيبة جدًا للإمام ابن تيمية يقارن بين الدولة الكافرة إذا كانت عادلة والدولة المسلمة إذا كانت جائزة، وأن العدل والظلم لا يرتبطان دائمًا بالإسلام والكفر، فقد تكون هناك دولة كافرة ولكن يستطيع الإنسان أن يصل إلى حقه أو تمنع عنه المظالم وقد يعيش الإنسان في دولة إسلامية وهو مهدد في حياته وفي ماله وفي عرضه. فذكرت هذه الكلمات في بحثي. واستشهدت لهذه الواقعة بالمهاجرين الأولين الذين هاجروا إلى الحبشة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:((اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحد)) ، وقد تعقبتهم قريش وأرسلت عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وهناك محاولة طويلة عريضة ذكرها صاحب (الروض الأنف شرح السيرة لابن هشام) وذكرت كثيرًا من هذه الوقائع، واتفقوا مع القساوسة أو مع الرهبان أن يحولوا بين النجاشي وبين الاجتماع بالمسلمين، ولكن أصر على استدعاء المسلمين لسماع أقوالهم. فهناك لكلمات رائعة لجعفر بن أبي طالب وهو يعرض وضع المسلمين بعد الرسالة وكيف وقف ضدهم المشركون وآذوهم حتى اضطروا إلى الهجرة إلى بلاده وأنهم ينشدون العدل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأنه ملك عادل لا يظلم عنده أحد، فلما سمع منهم أصدر حكمه العادل بأن منعهم من القرشيين وقال لهم: امكثوا ولن تتعرضوا لأي أذى وأن من يتعرض لكم بسوء يُغَرَّم وكرر هذه الجملة ثلاث مرات، وكلام طويل في هذا. فاستشهدت بهذه الواقعة عند المسلمين هنا
…
حضروا إلى مجلس النجاشي وكان كافرا؟ في ذلك الوقت، والكل يذكر على أنه كان يعبد المسيح وما كان يقول بأنه عبد الله وحتى أراد عمرو بن العاص أن يستغل هذه الحالة فقال له: والله لأوقعن بهم، أو كذا، إنهم يقولون على المسيح إنه عبد، فلما أتى بهم سمع منهم النجاشي وقالوا: والله لن نقول إلا كما قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرنا الله أن المسيح عبد الله ورسوله، قال: والله ما زاد
…
فأخذنا من هذه الواقعة أنه يجوز للمسلم أن يحتكم إلى الكفار في بلادهم.
وهناك مسائل كثيرة ذكرها محمد بن الحسن الشيباني في كتابه (السير الكبير) عن المسلم يذهب إلى بلاد الكفار فيغتصب منه ماله أو تغتصب منه وديعته فيلجأ إلى السلطان الكافر فيحكم له أو عليه. ولكن هنا مسألة بسيطة لابد أن نقف عندها وننبه لها. وهناك فرق بين المسائل الدينية والمسائل الدنيوية (الخلافات المالية) ، فإذا كان المسلم يفتتن في دنيه فلا يجوز أن يبقى في بلاد الكفر وهذا معروف، المسائل الدنيوية الخاصة كمسائل الزواج وغيرها فلا يجوز أن يحتكم فيها إذا كانت زوجته مسلمة قد يلجأ إلى الكفار في هذه الأمور، ولهذا إذا وضع للكفار مسلم يحكم بين المسلمين في هذه الأمور فهذا أمر طيب، أما إذا كان يفتن لا يترك لهم الفصل في هذه الأمور فهناك تعتبر فتنة في الدين ولا يجوز لهم البقاء في بلاد الكفر.
المسألة الأخرى، احتكام المسلمين كدول إلى المحاكم الدولية أو المحافل الدولية، أيضًا ذكرت هذه المسألة للعهود والمواثيق. هناك الآن ميثاق الأمم المتحدة، هذا الميثاق وافق عليه جميع دول العالم، العربية والإسلامية وغير الإسلامية، فهناك معاهدات على حسن الجوار، وعلى التعاون، وعلى عدم الاعتداء على بعض أنا شبهت هذا الميثاق بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وكيف آخى بين المهاجرين والأنصار ثم كتب كتابين وهو بين اليهود على أن يتناصروا ويدفعوا الظلم عن المظلوم يهودًا كانوا أم غير يهود. وأخذت من هذا دليلًا على أن ميثاق الأمم المتحدة بالتعاون على حل المشاكل وحلها سلميًا دون اللجوء إلى الحرب تدخل في هذا الباب.
وأصلت أيضا باب الاستعانة بالكافر، فهنا الاستعانة قد يكون الخلاف بين دولة إسلامية ودولة غير إسلامية، وفي هذه الحالة الاستعانة بدولة إسلامية على دولة غير إسلامية أمر ميسر والخلاف فيه بسيط أيسر من لو كان الخلاف بين دولتين إسلاميتين وكان الأمر يستدعي الانتصار بالحرب. فهنا ذكرت مذاهب العلماء في هذه المسألة، طبيعي الجمهور يمنع وفريق يذهب إلى الاشتراط بالا يكونوا أقوى منا، وفريق يطلق بهذا وهم طائفة من الزيدية. وذكرت هذه النصوص وأخضعت اللجوء إلى المحاكم الدولية لهذا. وأشرت إلى إنشاء محكمة العدل الإسلامية وهذا هو الأساس للتصدي لمشاكل المسلمين وبينت أن الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة لا يعارض في إنشاء كيانات أو هيئات تتصدى لحل المشاكل الإقليمية. وهناك عدة هيئات لهذا الخصوص ومحكمة العدل الدولية ليست بدعًا من هذه الهيئات الموجودة. وشكرًا لكم،،
الدكتور عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم،
أشكر لأخي المستشار المنياوي عرضه القيم ولكن تفضل سيادته فقال: إن المذهب الحنفي يجيز – فيما أذكر – أن يكون الحكم ذميًا في قضية فيها ذمي ومسلم، ونسب ذلك إلى الحنفية. وأخذ ذلك من كتاب السير الكبير للإمام محمد، أو شرحه للسرخسي، لا أذكر بالضبط، ولكن هنا أقل عند كلمة (مذهب الحنفي) . الواقع كما تعلمون أيها السادة العلماء الأجلاء أن مذهب الحنفية إذا قلنا مذهب الحنفية يعني فتوى والفتوى عند الحنفية تقررت على رد المحتار لابن عابدين في الأعم والأغلب، وتقريراتها. وكلام الإمام محمد بن حسن على جلالته وجلالة صاحبه أحيانًا قد يترك في المذهب، فكم من الفروع أخذ فيها بقول الشيخين، أبي حنفية وأبي يوسف وترك قول الإمام محمد؟ وربما أخذ بقول الإمام محمد وترك قول الشيخين، أو أخذ بقول الصاحبين وترك قول الإمام. هذه مسائل ينبغي الرجوع فيها إلى كتب الفتيا. فتوقفت في قضية مذهب الحنفية. أنا لا أذكر، لا أقول ليس هناك أو أنفي وجود الفرع في المذهب، لا، لأنه ليس لدي الآن حاشية حتى أراجعها، والذي أذكره في مذهب الحنفية – والله أعلم – وقد راجعت في ذلك أخي وزميلي الأستاذ الشيخ خليل الميس وهو حنفي أنه لا يوجد هذه الفرع في مذهبنا على أساس الفتيا، يعني أنه لا يفتي به في دار الإسلام، وأن يكون الذمي له ولاية التحكيم في قضية فيها مسلم ولو أن فيها ذميا آخر أيضًا وبالنسبة للقضايا الفردية لا القضايا الدولية، وفي دار الإسلام لا في دار الحرب ولا في دار العهد. أما الأمر يختلف تمامًا في دار العهد أو في دار الحرب، فكما تفضل سلفي الخير – حفظه الله – فهذا كلامه صحيح لكن نتكلم عن الخلافات الفردية لأنه كما تقرر في جمهرة المذاهب الإسلامية أنه لا ولاية لكافر على مسلم، والتحكيم نوع ولاية لأنه هو جزء من القضاء، ولذلك فإنني أطالب أخي وصديقي بمراجعة هذا الفرع في حاشية رد المحتار على الدر وتكملتها، وتقريراتها الرافعي، حتى نتوثق من أن هذا الكلام هو مذهب الحنفية أو كلام الإمام محمد. أما قوله من كلام الإمام محمد فمسلم أنه نقل عنه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. فأنا أسلم أن هذا الكلام كلام الإمام محمد بن حسن، ولكن لا أسلم أبدًا أن هذا هو مذهب الحنفية، حتى يرجع سيادته مشكورًا إلى حاشية ابن عابدين ويوافينا بالنص. هذه نقطة.
والنقطة الثانية، هي أن التحكيم بالنسبة للأفراد في دار الإسلام أمور موجودة في كتب الفقه ولا حاجة لأن نعيد صياغة الفقه من جديد في مؤتمرنا الموقر هذا. نحن نريد أن نبحث في أمور مستجدة، والأمور الجديدة هي التحكيم الدولي. يعني الذي أراه أو الذي يظهر لي أن جهودنا يجب ألا تكون مهدورة، وألا نتكلم فيما يتكلم فيه أسلافنا العلماء القدامى – رضي الله تعالى عنهم – وأشبعوه بحثًا. هنالك اليوم تحكيم دولي مثلًا بين دولة عربية ودولة عربية، وبين دولة عربية ودولة إسلامية، بين دولة إسلامية ودولة إسلامية، بين دولة – مثلًا – إسلامية ودولة غير إسلامية (كافرة) . فمثلًا التحكيم في دار الحرب ينبغي أن نعطيه حقه، التحكيم في دار العهد، لقد سمعنا من أخينا وحبيبنا الذي تفضل قبل قليل ودخلت الجلسة الموقرة فسمعته يتكلم عن دار الحرب ولكن دار العهد لم نسمع كلامًا عن ذلك، ودار العهد لها قيمة في الفقه الإسلامي لأنه ليست الكرة الأرضية دارين، دار حرب ودار إسلام. هنالك دار إسلام ودار حرب ودار عهد – فمثلًا – وسويسرًا دار عهد، السويد دار عهد، النرويج وذلك على سبيل المثال، أما بالنسبة لإسرائيل دار حرب. فما الحكم في دار العهد؟ هل تجوز ولاية الذمي أم لا تجوز؟ لأن في دار العهد الأمر يختلف، للإنسان المسلم قيمته فيه. دار الحرب لا، المسلم لا قيمة له أبدًا لأنه خصم، بينما نجد مثلًا في دولة اسكندنافية (السويد، النرويج، الدنمارك، سويسرا) أكثر المعاهد الإسلامية والمراكزالإسلامية الموجودة هناك ويعترفون بنا وبفقهنا وبجمعياتنا الإسلامية ومراكزنا، فهناك أكبر مركز إسلامي موجود في جنيف. إذن ما هو الحكم في دار العهد؟ هذا المهم.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
في الحقيقة أعتقد أن هذه البحوث تدور حول كثير من القضايا المعروفة فيما يتعلق بالتحكيم بين المسلمين وفي أرض المسلمين ولكن الذي يجب أن نتوقف عنده هو ثلاث قضايا:
القضية الأولى:
تتعلق بالجالية الإسلامية في بلاد الكفر، هذه الجالية التي قد تلجأ إليها أحكام غير مسلمين وتلجؤها الضرورة إلا هؤلاء الحكام. وهذه ينبغي أن نوجه إليها كلمة.
القضية الثانية:
الجهات الإسلامية التي قد تكون في خصومة أو طرفًا في قضية مع شركات غير إسلامية وفي الغالب في هذه القضية الكبيرة ينص في عقد الاتفاق على جهة تعتبر حكمًا بين الخصمين في حال نشوب نزاع بينهما. وهذا أيضًا تحتاج إلى كلمة.
القضية الثالثة:
هي النزاع الذي قد ينشأ بين الحكومات الإسلامية، وهذا النزاع قد لا يوجد له حل إذا لم يلجأ إلى تحكيم أجنبي.
هذه المسائل كلها هي تحت باب الضرورات. يجب أن نجعلها تحت هذا العنوان لأن البحث عن أحكام تفصيلية تجيزها الأصل أنها غير جائزة ويجب أن نعترف بها الأصل. الأصل أن المسلم لا يجوز له أن يتحكم أو أن يحكم غير المسلم ولكن الضرورات لها أحكامها، فإذا خيف ضياع مال كثير فإنه يجوز للمسلم في هذه الحالة وفي دار يتعذر فيها وجود مسلم ليكون حكمًا أن يلجأ إلى هذه الجهات لإنقاذ ماله.
والكلمة الثانية في هذا نطلب من هذه الجاليات أن تعين مجموعة من الحكماء إذا لم نقل من الحكام ليتولوا هذا الأمر لأنه مع الوقت والنزاع يكون بين مسلمين قد يطمئن الناس إلى هؤلاء الحكام أو إلى هؤلاء الحكماء من المسلمين في هذه الجاليات. في بعض المناطق وفي بعض الدول توجد جاليات كبيرة تعدادها بالملايين في أمريكا، فرنسا، في كثير من البلاد، هذه الجاليات يجب أن نعوّدها وأن يفتي لها مجمعنا لأنها تهتم كثيرًا بفتاوى المجمع، وكنت السنة الماضية في فرنسا وكنا في لقاء إسلامي فهم يهتمون كثيرًا بهذه القضايا. هذا بالنسبة للجاليات. بالنسبة للشركات يجب أن نطلب منها أن تعتمد جهات إسلامية في التحكيم. هذه الجهات الإسلامية يجب أن تكون على مستوى عال لمعرفة قوانين التجارة والأنظمة الإدارية التي تحكم العالم حتى تجتذب وتنتزع الثقة ولتكون حكمًا ومرجعًا في خصوماتها.
بالنسبة للحكومات الإسلامية يجب أن نطلب منها أن تنشئ منها محكمة عدل إسلامية في أسرع وقت ممكن، وإذا لم تنشأ هذه المحكمة فإن الاحتكام إلى تلك الجهات أولى من الدخول في حروب ومنازعات. وشكرًا،،،
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قد ترون مناسبًا أن تتألف اللجنة من أصحاب الفضيلة: العارض والمقرر، الشيخ عبد الله محمد، الشيخ عجيل، الشيخ وهبة.
وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 95 / 8 / د9
بشأن مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبي ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415 هـ، الموافق 1 – 6 أبريل 1995 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله:
قرر ما يلي:
أولًا: التحكيم اتفاق بين طرفي خصومة معينة، على تولية من يفصل في منازعة بينهما، بحكم ملزم، يطبق الشريعة الإسلامية.
وهو مشروع سواء أكان بين الأفراد أم في مجال المنازعات الدولية.
ثانيًا: التحكيم عقد غير لازم لكل من الطرفين المحتكمين والحكم، فيجوز لكل من الطرفين الرجوع فيه ما لم يشرع الحكم في التحكيم، ويجوز للحكم أن يعزل نفسه – ولو بعد قبوله – ما دام لم يصدر حكمه، ولا يجوز له أن يستخلف غيره دون إذن الطرفين لأن الرضا مرتبط بشخصه.
ثالثًا: لا يجوز التحكيم في كل ما هو حق لله تعالى كالحدود، ولا فيما استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه بالنسبة لغير المتحاكمين ممن لا ولاية للحكم عليه، كاللعان لتعلق حق الولد به، ولا فيما ينفرد القضاء دون غيره بالنظر فيه.
فإذا قضى الحكم فيما لا يجوز فيه التحكيم فحكمه باطل ولا ينفذ.
رابعًا: يشترط في الحكم بحسب الأصل توافر شروط القضاء.
خامسًا: الأصل أن يتم تنفيذ حكم المحكم طواعية، فإن أبى أحد المحتكمين، عرض الأمر على القضاء لتنفيذه، وليس للقضاء نقضه ما لم يكن جورًا بينًا أو مخالفًا لحكم الشرع.
سادسًا: إذا لم تكن هناك محاكم دولية إسلامية يجوز احتكام الدول أو المؤسسات الإسلامية إلى محاكم دولية غير إسلامية توصلًا لما هو جائز شرعًا.
سابعًا: دعوة الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إلى استكمال الإجراءات اللازمة لإقامة محكمة العدل الإسلامية الدولية وتمكينها من أداء مهامها المنصوص عليها في نظامها.