المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد التاسع

- ‌بحث فيالذهب في بعض خصائصه وأحكامهإعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تجارة الذهبفي أهم صورها وأحكامهاإعدادد. صالح بن زابن المرزوقي

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعدادد. محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌السلم وتطبيقاته المعاصرةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌السلموتطبيقاته المعاصرةإعداد نزيه كمال حماد

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. سامي حسن حمود

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌الحسابات والودائع المصرفيةإعدادد. محمد علي القري

- ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الودائع المصرفية(تكييفها الفقهي وأحكامها)إعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌أحكام الودائع المصرفيةتأليفالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الحسابات الجاريةوأثرها في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادد. مسعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الاستثمار في الأسهموالوحدات والصناديق الاستثماريةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌ موضوع الاستثمار في الأسهم

- ‌الاستثمار في الأسهمإعدادد. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثماريةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌مناقصات العقود الإداريةعقود التوريد ومقاولات الأشغال العامةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المناقصات(عقد الاحتياط ودفع التهمة)إعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخمالنقدي وأثره بالنسبة للديون السابقةوفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكسادإعدادالدكتور مصطفى أحمد الزرقا

- ‌التضخم والكسادفي ميزان الفقه الإسلاميإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم ربط الحقوق والالتزاماتبمستوى الأسعارإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌أثر التضخم والكسادفي الحقوق والالتزامات الآجلةوموقف الفقه الإسلامي منهإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌مفهوم كساد النقود الورقيةوأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلةحدود التضخمالتي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدةإعدادالدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم

- ‌كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصهاوأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزاماتإعدادالدكتور محمد علي القري بن عيد

- ‌كساد النقود وانقطاعهابين الفقه والاقتصادإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ خليل محي الدين الميس

- ‌سد الذرائعإعدادأ. د وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌سد الذرائععند الأصوليين والفقهاءإعدادالأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور علي داود جفال

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌مقارنة بين الذرائع والحيلومدى الوفاق والخلاف بينهماإعدادحمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌سد الذرائعإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌سد الذرائعإعدادالدكتور أحمد محمد المقري

- ‌مبدأ التحكيمفي الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر يوسف المنياوي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميمبدؤه وفلسفتهإعدادالدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

- ‌التحكيمإعدادالأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌التحكيم في الفقه الإسلاميإعداد الأستاذ محمود شمام

- ‌نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌الأسرة ومرض الإيدزإعدادالدكتور جاسم علي سالم

- ‌إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإسلاميمن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)إعدادالشيخ أحمد موسى الموسى

- ‌ملخصلأعمال الندوة الفقهية السابعة

- ‌الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهيةوثيقة مقدمة منالدكتور محمد علي البار

الفصل: ‌الودائع المصرفيةحسابات المصارفإعدادد. حسين كامل فهمي

‌الودائع المصرفية

حسابات المصارف

إعداد

د. حسين كامل فهمي

المعهد الإسلامي للبحوث والتنمية

البنك الإسلامي للتنمية بجدة

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وأصلي وأسلم على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الأنام وعلى آله وأصحابه السادة الأعلام.. وبعد.

فيعتبر موضوع الودائع المصرفية من أهم الموضوعات التي طالما شغلت بال كثير من رجال البنوك، والعديد من الباحثين الاقتصاديين، والمسؤولين عن رسم السياسات الاقتصادية في جميع أنحاء العالم. ولا غرابة في هذه المقولة إذا علم أن الودائع المصرفية تعد من أهم وأخطر المتغيرات الاقتصادية سواء بالنسبة للدولة على المستوى الكلي، أو بالنسبة للوحدات المكونة للقطاع المصرفي على المستوى الجزئي. وتبرز أهمية وخطورة هذا المتغير من كونه يعد سلاحا ذا حدين. فالودائع إذا أحسن اختيار جمعها ووضعت لها القواعد الصحيحة والأسس العادلة لطرق استخدامها، كانت مصدرا من مصادر الأمن والقوة والرخاء بالنسبة للدولة ولوحدات القطاع المصرفي، ولسائر أفراد المجتمع جميعا. إذ إنها في هذه الحالة تمثل وعاء جيدا للمدخرات اللازمة لدعم مسيرة العملية الإنمائية داخل الدولة، وموردا رئيسيا لتمويل الأنشطة الاستثمارية للبنوك، ومصدرا لدخل منتظم لكثير من الأفراد على مختلف المستويات الاجتماعية داخل المجتمع. هذا فضلا عن كونها تشكل جزءا هاما من المعروض النقدي لدى الدولة. أما إذا أسيء استخدام هذه الودائع فهي إذن مصدر نقمة وسبب للتظالم بين الناس وعامل من العوامل الأساسية وراء كثير من المشكلات الاقتصادية وعدم الاستقرار داخل الأسواق المختلفة (نقدية – رأسمالية – سلعية) .

ص: 505

ولقد كان للباحث الشرف في كتابة بحث سابق حول أحد الأبعاد الأساسية لهذا الموضوع، تم نشره مؤخرا في مجلة جامعة الملك عبد العزيز جدة. (1)

ويدور المحور الأساسي لهذا البحث حول بيان معالم المنهج الإسلامي في علاج إحدى المشكلات الاقتصادية الهامة التي يعاني منها بصفة مستمرة كثير من دول العالم في عصرنا الحالي سواء الإسلامي منه أو غير الإسلامي، وهي مشكلة إسراف البنوك غي خلق الائتمان وما يترتب عليها عادة من مفاسد عظيمة. ومن الفأل الطيب أن يتضمن ذلك البحث بعض النقاط التي يتناولها الموضوع الرابع لهذا المؤتمر الموقر، (الودائع المصرفية – حسابات المصارف) . ولعل السبب في ذلك يكمن في أن الحل الذي تقدم به الباحث من خلال البحث المذكور يحتوي على اقتراح بضرورة إعادة النظر في هيكل الودائع المعمول به حاليا في البنوك الإسلامية. ويقتصر هذا الاقتراح على كل من الحسابات الجارية والحسابات الاستثمارية على أساس أن معظم الحسابات المفتوحة لدى البنوك مهما اختلفت في مسمياتها، لا بد وأن تندرج في النهاية تحت أحد هذين النوعين من الحسابات. أما عن أسباب هذا الاقتراح فتتلخص فيما يراه الباحث في وجود تشابه كبير بين الهيكل الحالي لموارد واستخدامات البنوك الإسلامية وبين الهيكل القائم في البنوك التقليدية. وأن هذا الهيكل (سواء بالنسبة للحسابات الجارية أو الحسابات الاستثمارية) يتعارض مع ما قصده الشارع من نشر العدل بين الناس واستتباب الأمن والاستقرار في المعاملات فضلا عن تعارضه مع بعض الأحكام والشروط الأساسية للعقود الشرعية التي تحكم التعامل من خلال هذه الحسابات.

وإذا كان الباحث قد استعرض في بحثه السابق بعض الأدلة والدوافع التي تبرر وجهة نظره في هذا الموضوع، فإنه في هذا البحث الجديد وحول موضوع (الودائع المصرفية – حسابات المصارف) يسترسل في إضافة أبعاد جديدة لتدعيم وجهة نظره السابقة بالنسبة لكل نوع من الحسابات (الجارية – الاستثمارية) ، مع التركيز على الحسابات الجارية بصفة أساسية. ومراعيا أن يتضمن ذلك جميع المحاور المطلوب تغطيتها في هذا المؤتمر الموقر بالنسبة لهذا الموضوع، داعيا الله عز وجل أن يكون عمله هذا خالصا لوجهه الكريم. بناء على ذلك، فإن البحث سينقسم بعد هذه المقدمة القصيرة إلى ثلاثة أجزاء: يتناول الجزء الأول منها موضوع الحسابات الجارية، ويشتمل على عرض مفصل للنقاط الجديدة التي سيطرحها الباحث حول هذا الموضوع. أما الجزء الثاني فيتناول موضوع الحسابات الاستثمارية، وسيتبع فيه الباحث نفس الأسلوب الذي اتبعه بالنسبة للحسابات الجارية، ولكن بشيء من الاختصار. أما الجزء الثالث والأخير فسيخصص للخلاصة وأهم الاستنتاجات.

(1) انظر: د. حسين كامل فهمي، (نحو إعادة هيكلة النظام المصرفي الإسلامي) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي –جامعة الملك عبد العزيز-جدة – المجلد (4) ، 1412هـ -1992-ص (3) .

ص: 506

الحسابات الجارية:

الحساب الجاري في البنوك هو: القائمة التي تقيد بها المعاملات المتبادلة بين العميل والبنك. وتكون هذه المعاملات متشابكة يتخلل بعضها بعضا بحيث تكون مدفوعات كل من الطرفين مقرونة بمدفوعات من الطرف الآخر. ويتميز هذا الحساب بأنه قابل للسحب منه عند الطلب، ولذلك يسمى في بعض الأحيان بالحساب تحت الطلب. ولا تمنح البنوك عادة على هذا النوع من الحسابات أي عائد، وإنما قد تطلب من العميل في بعض الأحيان رسوما قليلة نظير الخدمات المؤداة له.

وعادة ما يقترن الحساب الجاري في البنوك التقليدية بنوع واحد من أنواع التكييف القانوني وهو (القرض) . فيعتبر الإيداع في هذا الحساب من الناحية القانونية كقرض من العميل للبنك. (1)

أما بالنسبة للبنوك الإسلامية فيتبع بعضها نفس هذا الأسلوب ويشترط اعتبار صفة الإيداع في الحساب الجاري كقرض حسن من العميل إلى البنك. أما البعض الآخر فيفضل إضفاء صفة الوديعة المأذون باستعمالها على هذا الحساب، رغم أنه من الناحية الشرعية لا فارق بين هاتين الصورتين للحساب فمن المعروف أن الوديعة المأذون باستعمالها تؤول في حالة النقود إلى القرض. وتفسير ذلك يرجع إلى اعتبار الفقهاء هذه الوديعة كعارية، ويطبق عليها أحكامها. إلا أنه لكون أن هذا الوصف يختص بإعارة الأعيان التي ينتفع بها، ولأن الأمر في حالة أرصدة الحسابات الجارية يتعلق بالنقود، وهي بطبيعتها لا ينتفع بها إلا باستهلاكها فإن إطلاق صفة الإعارة عليها تعتبر من طريق المجاز وبالتالي فهي في حقيقتها قرض (2)

بناء على ذلك فإنه على مدى ما سيتبقى من هذا الجزء من البحث فسيفترض الباحث أن التكييف الفقهي للحساب الجاري المعمول به حاليا لدى البنوك الإسلامية هو عقد قرض بين العميل والبنك. ويترتب على هذا النوع من التكييف كل من الأحكام التالية:

(1) انظر: د. محيي الدين إسماعيل علم الدين، (موسوعة أعمال البنوك) الجزء الأول 1987،331.

(2)

انظر: د. نزيه حماد (عقد الوديعة) دار القلم 1414هـ -1993م، ص 117. وانظر أيضا د. وهبة الزحيلي، (الفقه الإسلامي وأدلته) ، دار الفكر 1405هـ -1985م – 5/58.

ص: 507

-أن عقد الإيداع يعتبر عقدا غير لازم في حق البنك (المقترض) ، فله في أي وقت رد رصيد الحساب إلى العميل (المقرض) . كما أنه يعتبر عقدا غير لازم في حق العميل (المقرض) . فله المطالبة برصيد حسابه (الدين) من البنك (المدين) في أي وقت شاء. (1)

- انتقال ملكية الأموال المودعة في الحساب من العميل (الدائن) إلى البنك (المدين) بحيث يمتلكها الثاني ملكا تاما يخوله حق التصرف فيه. إلا أن الفقهاء اختلفوا فيما يختص بتوقيت نقل الملكية في القرض على أربعة أقوال وهي: انتقال الملكية بالعقد وإن لم يتم القبض (المالكية) – انتقال الملكية بالتصرف (لبعض الشافعية) -انتقال الملكية بالاستهلاك (لأبي يوسف) . انتقال الملكية بالقبض (للحنابلة والحنفية في القول المعتمد والشافعية في الأصح) . (2)

-يتفق الفقهاء على أن المقترض في عقد القرض بمجرد تملكه للعين المثلية أن يثبت في ذمته مثلها لا عينها وبالتالي يصير ملتزما برد بدل مثلها. (3) وهو نفس الشيء الذي ينطبق على النقود المودعة في الحساب الجاري حيث يتم استهلاكها بمجرد الاستعمال.

وفي واقع الأمر فإن تفضيل البنوك بصفه عامة (تقليدية – إسلامية) لإضفاء صفة عقد القرض على الحساب الجاري يرجع إلى سببين أساسيين، هما على وجه التحديد كالآتي:

أ - أن الأحكام والآثار المترتبة على عقد القرض تتواءم تماما مع طبيعة استخدام هذا النوع من الحسابات حيث يقوم العملاء عادة بتجنيب جزء من أموالهم لإيداعها في هذا الحساب لمقابلة مدفوعاتهم الجارية خلال الفترات الدورية الواقعة بين تواريخ حصولهم على الدخل المتكرر. مما يترتب عليه احتمال تقدم العميل لسحب كل أو جزء من رصيد حسابه لدى البنك في أي وقت.

(1) يعتبر القرض عقد غير لازم في حق المقرض عند جمهور الفقهاء باستثناء المالكية –انظر: د. نزيه حماد، (عقد القرض) ، دار القلم 1411هـ -1991م الطبعة الأولى ص 41.

(2)

د. نزيه حماد-مرجع سابق، ص 43.

(3)

د. نزيه حماد، مرجع سابق، ص (46-47)

ص: 508

ب- الاستفادة من الفرصة غير المكلفة المتاحة لهذه البنوك والتي تتمثل في القدرة على تحقيق شيئين هما:

- استثمار الأرصدة المتجمعة لديها في هذه الحسابات بدون مقابل، وتحقيق الأرباح من وراء ذلك.

- مضاعفة حجم هذه الأرصدة بطريقة تلقائية من خلال ما هو معروف وشائع في جميع الأوساط المصرفية باسم مقدرة البنوك على خلق الائتمان، (أو خلق النقود) .

ومن المعروف أيضا – وكما سبقت الإشارة إليه – أن البنوك التقليدية تمتنع عن منح أي عائد على أرصدة الحسابات الجارية بحجة أن هذه الأرصدة قابلة للسحب في أي وقت وفقا للطلبات التي قد ترد إليها من المودعين، مما قد يعوق فرصة استثمارها بالشكل الملائم. وتنتهج البنوك الإسلامية نفس هذا المنهج وتبرر ذلك بعدة أسباب منها: أن ملكية هذه الأرصدة تنتقل إليها بموجب عقد القرض المحرر بينها وبين العميل، ويتعين عليها نتيجة لذلك أن تضمنها، وبالتالي يحل لها العائد المترتب على تشغيلها وفقا لقاعدة (الخراج بالضمان)(1) ومن ناحية أخرى فإن منح البنوك الإسلامية أي عائد لعملائها على هذه الأرصدة يتعارض مع كونها في حكم القرض، لما يترتب على ذلك من نفع للعميل وهو غير جائز للحديث الوارد عن سيدنا على بن أبي طالب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:((كل قرض جر منفعة فهو ربا)) (2)

(1) انظر: فضيلة الشيخ أحمد الزرقا (شرح القواعد الفقهية) –دار القلم –دمشق، الطبعة الثانية 1409هـ -1989م ص 429.

(2)

رواه الحارث ابن أبي أسامة في مسنده من حديث على بن أبي طالب بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن قرض جر منفعة) وفي رواية (كل قرض جر منفعة فهو ربا) .

ص: 509

تحديد محور الخلاف:

يعتقد الباحث أن طريقة الاختيار الواجب النظر إليها بعين الاعتبار عند تحديد نوع التكييف الفقهي للحسابات الجارية المفتوحة لدى البنوك الإسلامية، يجب أن لا تقتصر على مجرد الوقوف على المصالح الخاصة التي تخدم اهتمامات هذه البنوك فقط، وإنما يجب أن تتسع دائرة الترجيح لتشمل أي احتمال لترتب مفاسد معينة من وراء هذه المصالح، هذا فضلا عن ضرورة البحث أيضا عن أي احتمالات لوجود مصالح أخرى قد تكون أكثر شمولا واتساعا من حيث الأثر وتتعارض مع المصالح الخاصة بالبنوك؛ وذلك لأنه إن كانت شريعة الله قائمة على أساس اعتبار مصالح العباد، فالمقصود بمراعاتها أن لا تكون هذه المصالح واهمة بحيث يترتب عليها مفاسد أعظم منها، أو أن يكون هناك مصالح أخرى أرجح منها وأشمل. (1)

يرجع اهتمام الباحث بهذه الاعتبارات لكون أن إضفاء صفة القرض على الحسابات الجارية لدى البنوك الإسلامية في ظل الميكانيكية التلقائية المتاحة لها لخلق النقود من خلال نشاطها الائتماني، قد يترتب عليه مفاسد عظيمة تتلخص في حدوث غبن وظلم للعملاء من أصحاب الحسابات الجارية، فضلا عن ورود احتمال لتعرض البلاد لموجات تضخمية نتيجة لميل البنوك في كثير من الأحيان إلى الإسراف في خلق الائتمان سعيا وراء تحقيق الربح في ظل تكلفة تكاد تكون معدومة. هذا بالإضافة إلى ما تشهد به الأحداث التاريخية على مستوى العالم خلال هذا القرن من تعرض كثير من الأسواق العالمية سواء نقدية أو سلعية للارتباك عدة مرات مما نتج عنه سقوط عدد كبير من البنوك وإفلاس قطاع كبير من الشركات، وتدهور مستوى المعيشة لفئات كثيرة من الأفراد داخل المجتمعات المختلفة.

(1) د. محمد سعيد رمضان البوطي، (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) . مؤسسة الرسالة، 1402هـ -1982م.

ص: 510

بناء على ذلك فإنه تمشيا مع الأحكام والمقاصد لشريعتنا الغراء، والتي تهدف إلى حفظ كيان المجتمع الإسلامي ورفع المستوى المعيشي لأفراده في كل زمان ومكان، فإن الباحث يرى ضرورة إعادة النظر في التكييف الفقهي المعمول به حاليا بالنسبة للحسابات الجارية في البنوك الإسلامية، ليصبح: وديعة (بمفهومها الشرعي) لدى كل من البنك الإسلامي، والبنك المركزي في نفس الوقت، مع الإذن للبنك المركزي فقط باستخدامها. وقد يتمشى هذا الاقتراح مع الحكم بجواز تعدد المستودع للوديعة (1) لكون أن أرصدة الحسابات الجارية تحتمل القسمة، ولاحتمال بقاء الأموال تحت يد المستودع الأول (البنك الإسلامي) لفترات قصيرة أثناء عمليات تحويلها من وإلى المستودع الثاني (البنك المركزي) . وهذا الاقتراح، وهو ما يطلق عليه بالمفهوم المصرفي: الاحتفاظ باحتياطي 100 % من أرصدة الحسابات الجارية لدى البنك المركزي، يؤدي نفس الوظائف المتعلقة بخدمة العملاء من حيث تلقي إيداعاتهم والاستجابة لمسحوباتهم الدورية، إلا أنه فضلا عن ذلك، يخرج بنا عن الخلاف الذي يثيره البعض بشأن بقاء جزء من المعروض النقدي لدى البنوك بدون استخدام. وهو موضوع الاقتراح السابق الذي تقدم به الباحث من قبل. (2)

فالاقتراح الجديد يكفل دفع المفسدة المحتملة من وراء سوء استغلال البنوك التجارية للودائع الجارية، وذلك بمنعها من استخدام تلك الودائع لحسابها. وبالإضافة إلى ذلك فإنه يضمن أيضا عدم تعطيل الأموال أثناء فترة الإيداع لدى الجهاز المصرفي ككل، وذلك بإتاحة الفرصة للبنك المركزي لاستخدامها في الإنفاق العام مع تضمينه رد مثلها للعملاء المودعين عند الطلب ويتميز هذا الاقتراح كذلك بأن استخدامات البنك المركزي لا تهدف إلى تحقيق الربح، وبأنه في حد ذاته يمثل السلطة النقدية في الدولة مما يتيح إحكام الرقابة المباشرة على هذه الأرصدة في حالة استخدامها.

(1) انظر: نزيه حماد –مرجع سابق، ص (177) .

(2)

يقتصر ذلك الاقتراح على اعتبار الوديعة لدى البنوك بأنها وديعة بمفهومها الشرعي دون إيداع الأرصدة لدى البنك المركزي أو استخدامها بمعرفته انظر: د. حسين كامل فهمي –مرجع سابق-ص (32)

ص: 511

الأسباب والمبررات الأخرى لإعادة التكييف:

وإذا كنت بهذا قد تناولت بعض جوانب هذه المشكلة، فإنني أضيف إلى ذلك أسبابا أخرى قد تكون في حد ذاتها كافية كمبرر للأخذ بالاقتراح الجديد المذكور.

وهذه الأسباب كالتالي:

أولا: أن استخدام النوع الأول من التكييف (اعتبار عقد الحساب الجاري كعقد قرض) يؤدي إلى مشاركة القطاع المصرفي الخاص للدولة في حق إصدار النقود عن طريق خلق النقود الائتمانية كما سبقت الإشارة إليه في بداية هذه الورقة. ولا شك أن ذلك فيه تعارض مع ما ذهب إليه عديد من الفقهاء من عدم جواز تفويض الحاكم للأفراد للقيام بهذه المهمة. فيقول الإمام النووي: (قال أصحابنا: يكره أيضا لغير الإمام ضرب الدراهم والدنانير إن كانت خالصة لأنه من شأن الإمام، ولأنه لا يؤمن فيه الغش والإفساد)(1)

ويقول الإمام أحمد: (لا يصح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان؛ لأن الناس إذا رخص لهم ركبوا العظائم)(2)

وبشأن محاولة تعمد بعض الناس غش النقود (وهو ما يترتب أيضا على الإسراف من جانب البنوك في خلق الائتمان)، يقول ابن العربي المالكي في كلامه عن عقوبة من يكسرون الدراهم والدنانير:(قال مالك: يعاقبه السلطان على ذلك عقابا مطلقا من غير تحديد عقوبة.)(3) ويقول الإمام النووي في ذلك أيضا: (يقول الإمام الشافعي: يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة للحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من غشنا فليس منا)) (4)

(1) انظر الإمام النووي: (المجموع) ، 5/468.

(2)

انظر: القاضي أبي يعلي (الأحكام السلطانية) –طبعة مصطفى الحلبي، ص181.

(3)

انظر: ابن العربي، (أحكام القرآن)(3/1065-1066) .

(4)

انظر الإمام النووي، مرجع سابق ص (468) .

ص: 512

ثانيا- قد يرد البعض على ما جاء بالنقطة السابقة بالقول بأنه طالما كان في استطاعة السلطات النقدية في الدولة الإسلامية إحكام سيطرتها على حجم المعروض النقدي، من خلال الرقابة على العمليات الائتمانية التي تقوم بها البنوك الإسلامية. فلا محل للادعاء بأن زيادة هذا المعروض عن طريق تلك البنوك قد يؤدي إلى عدم الاستقرار أو إلى فقدان الثقة في الجهاز المصرفي.

والإجابة على ذلك باختصار هي كالآتي:

لا شك أن القرارات الخاصة بتطبيق ما يسمى بالسياسات النقدية على اقتصاد الدولة الإسلامية يجب أن تخضع في إطارها العام لأحكام وقواعد الشريعة الإسلامية. وهذه الحقيقة هي المحك الأساسي للفرق بين نظام العمل في الاقتصاد الإسلامي وبين نظم العمل المتبعة في الاقتصاديات التقليدية.

ويدعي الباحث بأن الأخذ في الاعتبار لهذه الأحكام والقواعد من شأنه أن يؤثر تأثيرا سلبيا على فاعلية السياسة النقدية والأدوات المختلفة التي تستخدمها للوصول إلى الأهداف المرجوة منها. وبالتالي قد يقلل من أهمية الاعتماد عليها في تحقيق التوازن والاستقرار النقدي داخل الدولة الإسلامية بالمقارنة بما يمكن أن يكون عليه الوضع في حالة التطبيق على البلدان غير الإسلامية.

ورغم أن تفصيل ذلك يحتاج إلى إفراد بحث مستقل بذاته يخصص لهذا الغرض، إلا أنه يمكن اختصار أهم الملامح الخاصة بهذا الادعاء بتتبع الآثار المختلفة المترتبة على تطبيق الأحكام والقواعد الشرعية على أدوات السياسة النقدية عند محاولة استخدامها في الدولة الإسلامية لتحقيق الأهداف المرجوة منها.

وسنبدأ أولا باستعراض أهم أهداف السياسة المذكورة، ثم نتلو ذلك ببيان عن أهم الآثار المترتبة على تطبيق الأحكام في هذا الشأن.

ص: 513

أ - أهم أهداف السياسة النقدية:

لا شك أن أهم هدفين للسياسة النقدية هما كالآتي:

1-

تمكن السلطات النقدية من إحكام الرقابة على النشاط الائتماني للبنوك للتأكد من عدم إسرافها في خلق النقود الائتمانية.

2-

التأثير على مسار المتغيرات الاقتصادية الكلية (الاستثمار -الادخار-الاستهلاك..الخ) من خلال التغيير في حجم المعروض النقدي، للتوصل من ذلك إلى تحقيق الاستقرار داخل السوق النقدي، والمحافظة على مستوى قريب من العمالة الكاملة، ومنع حدوث فجوات تضخمية أو موجة من موجات الكساد.

ب - الآثار المتوقعة من جراء تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أدوات السياسة النقدية:

فيما يلي تحليل مختصر لأهم الآثار والعوامل المنتظر ترتبها على تطبيق الأحكام الشرعية على الأدوات المباشرة للسياسة النقدية، مبينة حسب الأهداف المرجوة منها:

بالنسبة للهدف الأول (مراقبة عمليات الائتمان) :

تعتبر الأداة الأساسية التي تستخدمها البنوك المركزية للتوصل إلى هذا الهدف هي (نسبة الاحتياطي الإلزامي) . وتتلخص طريقة العمل من خلال هذه الأداة في طلب البنك المركزي من البنوك الإسلامية إيداع نسبة معينة من أرصدة الحسابات الجارية المفتوحة لديها بدون مقابل طرفه. ويكون لهذا البنك، بالإضافة إلى ما سبق ذكره الحق في رفع هذه النسبة أو خفضها بحسب ما قد يراه مناسبا لتحقيق الهدف المطلوب.

أما بالنسبة للآثار المتوقعة من تطبيق الأحكام الشرعية على الميكانيكية التي تعمل من خلالها هذه الأداة، ومقارنة هذه الآثار بالآثار المترتبة على الاقتراح الذي يتقدم به الباحث. فيمكن بيانها في كل من النقطتين التاليتين:

-إذا افترض أن التكييف الفقهي للحسابات الجارية لدى البنوك الإسلامية، هو أنها قرض. وأراد البنك المركزي أن يستخدم أداة نسبة الاحتياطي، فإن ذلك سيضعه في حالة من الحرج. والسبب في ذلك يرجع إلى أن أرصدة هذه الحسابات ستعتبر مملوكة للبنوك (قطاع خاص) ، وبالتالي لا يجوز له مصادرتها أو استعمالها بطريقة تعسفية نظرا لأنه لا يجوز للإمام مصادرة أموال الرعية إلا لضرورة. (1)،مصداقا لقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] . ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير حق، وذلك لما حرم الله مال المسلم على المسلم)) . (2) وقوله عليه الصلاة والسلام وهو في حجة الوداع ((: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) . (3) إلا أن معنى الضرورة في هذه الحالة قد لا يكتمل للبنك المركزي حتى في حالة حدوث بعض القلاقل في السوق النقدي ونظرا لأنه من شروط الضرورة (بمعناها الشرعي) أن تكون الأداة التي يدفع بها الخطر، أداة لازمة لدفع هذا الخطر، بمعنى أنه لا يوجد لها بديل حلال. (4) . وفي حالتنا هذه سيكون البديل متوفرا أمام البنك المركزي، وهو الاقتراح الذي يتقدم به الباحث، وهو في حد ذاته كاف تماما لمنع أي فرصة لخلق ائتمان جديد من خلال الحسابات الجارية.

(1) يلاحظ أن ما ينطبق على أداة نسبة الاحتياطي القانوني من محاذير شرعية ينطبق أيضا على ما يسمى بالأدوات النقدية غير المباشرة كفرض حد أقصى على عمليات البنك الائتمانية سواء كان هذا الحد على الحسابات الجارية أو الاستثمارية أو كلاهما معا.

(2)

الحديث أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي سعيد عن أبي حميد العدي.

(3)

الحديث رواة الشيخان وابن ماجه وأحمد بن حنبل.

(4)

انظر: د. يوسف قاسم: (نظرية الضرورة) ، دار النهضة العربية، 1401هـ -1981م – ص 203.

ص: 514

وبالتالي كف لاقتلاع أسباب المفاسد الاقتصادية من جذورها وقبل وقوعها

وهو لهذا السبب أولى بالإتباع، وأفضل من حيث الأثر النهائي.

-أنه يلاحظ أن الهدف الأساسي من استخدام أداة نسبة الاحتياطي الإلزامي هنا هو تمكين البنك المركزي من وضع يده على جزء كبير من أرصدة الحسابات الجارية طرفه (بل أن الأمر قد يمتد أيضا إلى جزء من أرصدة الحسابات الاستثمارية مما يترتب عليه ضياع حقوق المودعين الخاصة بتمكنهم من الحصول على عائد مناسب) بالشكل الذي يحد به من ميل البنوك إلى الإسراف أو التمادي في خلق الائتمان. وبمقارنة هذا الوضع بالوضع المترتب على الاقتراح الذي يتقدم به الباحث، يتضح أن الأثر النهائي في كلتا الحالتين واحد، وهو استقرار أرصدة الحسابات الجارية لدى البنك المركزي. وبالأخذ في الاعتبار للواقع التاريخي الذي يعكس فشل السلطات النقدية في الكثير من الأحيان في التحكم في تصرفات البنوك في تماديها في خلق الائتمان، وكذا لكل ما سبق استعراضه حول هذه النقطة من قبل، فإنه يتبين أفضلية الاقتراح الأخير للاتباع.

أما بالنسبة للهدف الثاني للسياسة النقدية (التأثير على المتغيرات الاقتصادية الكلية) :

فتتضافر بشأنه ثلاثة أنواع أساسية من الأدوات التقليدية. وهي على الترتيب كالآتي:

نسبة الاحتياطي الإلزامي (السابق الإشارة إليها) – السوق المفتوحة- سعر الخصم. وأما عن الآثار المتوقعة لتطبيق الأحكام الشرعية على هذه الأدوات، فيمكن القول بأن المجهودات المبذولة لاستخدام أدوات رقابة نقدية إسلامية بدلا من الأدوات التقليدية، قد لا تأتي بالثمار المرجوة منها لوجود احتمال كبير لعدم قدرتها في التأثير على المتغيرات الاقتصادية الكلية. وبصفة خاصة بالنسبة لكل من الاستثمار والادخار.

ص: 515

وتفسير ذلك يأتي من أن هناك فارقا بين الميكانيكية التي تعمل من خلالها السياسة النقدية التقليدية، وبين الميكانيكية المنتظر أن تعمل من خلالها الأدوات النقدية الإسلامية. ففاعلية السياسة التقليدية في تحقيق الأهداف المرجوة منها تتوقف على كونها تعمل للتأثير على سوق واحد هو السوق النقدي، من خلال عمليات ضخ وامتصاص تدفقات متتالية من وإلى القطاع المصري تتم كلها في إطار سلسلة واحدة متصلة الأطراف. كما تعتبر هذه العمليات متجانسة في طبيعتها ويحكمها نوع واحد من العقود هو القرض. كما يؤثر فيها مؤشر واحد هو سعر الفائدة. أما الميكانيكية المنتظر أن تعمل من خلالها السياسة النقدية الإسلامية، فتتم من خلال عمليات متنوعة تخضع في إنشائها لعقود غير متجانسة سواء في طبيعتها أو في الآثار المترتبة عليها، ويكون محل التعاقد فيها عددا لا نهائيا من السلع (وليس النقود) التي تخضع في تسعيرها لقوى السوق (العرض والطلب) الخاص بكل منها. ويترتب على ذلك وجود احتمال كبير لعدم قدرة كل من البنك الإسلامي والبنك المركزي في التأثير على أسواق هذه السلع وبالتالي على قطاع رجال الأعمال (المستثمرين) سواء في فترات الرواج أو في فترات الكساد. وهو ما يترجم في النهاية بعجز السياسة النقدية عن تحقيق الأهداف المرجوة منها. (1) أما فيما يتعلق بأثر هذا الاستنتاج على موضوع الحسابات الجارية الذي نحن بصدد بحثه: أنه في حالة إضفاء صفة القرض على الحساب الجاري لدى البنوك الإسلامية، فإن ذلك سيسمح لهذه البنوك بالتحكم في جزء من المعروض النقدي (النقود الائتمانية) بحيث يكون لها السلطة في زيادة هذا الجزء كيفما شاءت، أن يكون للبنك المركزي أو السلطات النقدية بصفة عامة أي قدرة للسيطرة عليها. أما في حالة ما إذا تم تكييف هذه الحسابات على أساس أنها وديعة غير مأذون باستعمالها، إلا بواسطة البنك المركزي، فسيترتب على ذلك حجب أي فرصة لتوليد ائتمانية جديدة، وهي بالتالي طريقة فعالة للوقاية من العديد من المشاكل الاقتصادية المستعصية التي يعاني منها كثير من بلدان العالم في عصرنا الحالي.

(1) يكتفي الباحث بهذا القدر لتفسير هذه الظاهرة لمجرد الإشارة إلى وجود احتمالات كبيرة لفشل ما يسمى بالسياسة النقدية في التأثير على المتغيرات الاقتصادية الكلية داخل اقتصاد الدولة الإسلامية أما التفصيلات الفنية الخاصة بهذا الموضوع فهي محل بحث مطول جار إعداده حاليا بمعرفة الباحث لتقديمه إلى المعهد الإسلامي للبحوث التابع للبنك الإسلامي للتنمية.

ص: 516

ثالثا: إن اختيار البنوك إضفاء صفة القرض لا يعني بالضرورة أو بطريقة تلقائية موافقة العميل على نفس هذا الاختيار أو ما قد يشتمل عليه من شروط مختلفة. وبمعنى آخر فإن الباحث يدعي بأن توقيع العميل (المودع) على عقد الإيداع في الحساب الجاري بهذا الشكل قد لا يكون معبرا عن إرادة تعاقدية حقيقية أو رغبة مؤكدة منه لتحمل الآثار الناتجة عن هذا التعاقد.

ويستند الباحث في هذا الاستنتاج على عدد من الأسباب التي تعبر في رأيه عن عيوب مباشرة في الإرادة التعاقدية نتيجة لاهتزاز عنصري الرضا والاختيار عند مباشرة العقد. وهذه الأسباب كالآتي:

أ-عدم فهم كثير من العملاء للعبارات والألفاظ الفقهية الواردة في العقد:

فكثير من البنوك الإسلامية تورد في عقد فتح الحساب شرطا على العميل مثل: (الحساب الجاري هو قرض تحت الطلب لا يستحق المتعامل مع المصرف بمقتضاه أية أرباح كما لا يتحمل أية خسارة، ويلتزم المصرف بناء على ذلك بدفع الرصيد كاملا عمد طلبه من المتعامل) .

أو

(للبنك في أي وقت من الأوقات الحق في استخدام رصيد الحساب الجاري، ولا يحق للعميل المطالبة بأي عائد عليه وفي مقابل ذلك يضمن البنك سداد هذا الرصيد للعميل عند أي مطالبة به)

وبطبيعة الحال فإن كلا الشرطين يؤديان إلى نفس النتيجة. وهي اعتبار الحساب الجاري كقرض من العميل إلى البنك كما سبقت الإشارة إليه في بداية هذا البحث. إلا أن العميل بسبب عدم فهمه لما يتضمنه كل من هذين الشرطين من معاني شرعية فإنه قد يفهم ما يوحي إليه بأحد المعنيين التاليين أو بكلاهما معا:

ص: 517

- أن الطريقة الوحيدة التي تلزم البنك برد قيمة الوديعة، هي السماح له باستخدامها.

- أنه طالما كانت الوديعة مضمونة من قبل البنك فإنه (أي العميل) سيكون دائما في مأمن من ضياع أمواله في حالة تعرض البنك للإفلاس أو تعرضه لأزمة من أزمات السحب المفاجئ. وبالتالي فإن الجزاء العادل لذلك يكون بالسماح للبنك باستخدام هذه الوديعة. ولا شك أن كلا المعنيين يشوبهما الخطأ والخلط وعدم الفهم كنتيجة لعدم الإلمام بالأحكام الشرعية الخاصة بالوديعة مما يترتب عليه نتائج في غير صالح العميل كما سيأتي تفصيله بعد ذلك.

فبالنسبة للمعنى الأول، لا شك أنه يكون من العدل والإنصاف إتاحة المعلومات الكافية أمام العميل عن البدائل الأخرى التي يمكنه الاختيار من بينها كما هو الحال بالنسبة للاقتراح الذي نتقدم به (1) ، خاصة وأنه يتيح في الأحوال العادية نفس الميزة التي تتيحها طريقة التكييف المعمول بها الآن (القرض) وهي التزام البنك برد قيمة الوديعة كاملة وعلى الفور عند المطالبة بها، مصداقا لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] . ويقول ابن المنذر في هذا الشأن: (وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها، الأبرار منهم والفجار)(2) . إلا أن البنوك تفضل حجب هذه المعلومة تماما عن العميل مما يجعل حرية الاختيار أمامه مقيدة وغير كاملة.

وقد يرد على ذلك بأن تطبيق البنوك للمفهوم الشرعي للوديعة والذي بمقتضاه لا يؤذن لها باستخدامها سيتبعها عدم تضمين البنك للوديعة عند التلف أو الفقدان.

(1) هناك بدائل سيرد ذكر أحدها في الصفحات التالية لهذا البحث.

(2)

انظر: ابن المنذر، (الإجماع) ، دار طيبة النشر والتوزيع –الرياض-1402-1982م ص 129

ص: 518

فنقول: إنه يتعين في هذه الحالة إحاطة العميل بمعنى عدم الضمان بطريقة واضحة لا لبس فيها بحيث تتاح له فرصة الاختيار السليم. لأنه يتبين من الأحكام الخاصة بالوديعة أن عدم الضمان يقتصر على الحالات الخارجة عن إرادة المستودع (البنك) وبعد التأكد من استيفائه للإجراءات المختلفة التي تكفل، في أغلب الظن، حرز وصيانة الوديعة. وبالتالي يشترط لتمتع البنك بميزة عدم الضمان هذه في حالة التلف أو الضياع، ضرورة إثبات توفير القدر المعتاد من وسائل الحفظ اللازمة لضمان سلامة الأموال المودعة لديه، وكذا إثباته بأن تلف الوديعة لم يكن بسبب استعماله لها، أو أنه كان خارجا عن إرادته. ويقول ابن المنذر:(وأجمعوا على أن على المودع إحراز الوديعة وحفظها) . وقال (أجمع أهل العلم على أن المودع إذا أحرز الوديعة ثم تلفت من غير جناية. لا ضمان عليه) ويقول أيضا: (وأجمعوا على أن المودع ممنوع من استعمال الوديعة ومن إتلافها)(1) .

ومن ناحية أخرى، فإنه من البديهي أن تخوف العميل في عصرنا الحالي، الذي أصبحت فيه البنوك كقلعة من القلاع المحصنة، من احتمالات فقدان أمواله نتيجة لوقوع أحداث غير عادية وخارجة عن إرادة البنك كالسرقة أو الحريق، يكون أقل بكثير من تخوفه من الفقدان نتيجة لاستعمال البنك لهذه الأموال، خاصة إذا اشتمل هذا الاستعمال على عمليات استثمارية عالية المخاطر، كالمضاربة على السلع في الأسواق العالمية على سبيل المثال.

(1) انظر: ابن المنذر، مرجع سابق –ص (129-130) .

ص: 519

أما بالنسبة للمعنى الثاني الذي قد يتصوره العميل المودع نتيجة إلزامه جبرا بالشرط الخاص بإقراض البنك، وكذا لعدم تفهمه أو إلمامه بالمعاني الشرعية التي يتضمنها العقد، وعما إذا كان لها بدائل أخرى أم لا. فنقول، إنه لما كان اكتساب الحساب الجاري لصفة القرض يفيد من الناحية الشرعية انتقال ملكية الأموال المودعة في هذا الحساب إلى البنك. فإن وقوع البنك في حالة من حالات الإفلاس، لا قدر الله، سيترتب عليه دخول أرصدة هذه الحسابات ضمن قسمة الغرماء وتعرض أصحابها لفقدان جزء أو كل من أموالهم المودعة. ويعني ذلك أن ضمان البنك على استعماله للوديعة لن يشفع لهم في هذه الحالة لاسترداد أموالهم كاملة. وذلك على العكس تماما لما قد يوحي به النص الوارد بالشرط المذكور للعميل. أما إذا أضفيت صفة الوديعة بمعناها الشرعي (عدم الإذن بالاستعمال) على الحساب الجاري، ووفقا للاقتراح الذي نتقدم به، فإن ذلك في حد ذاته كفيل بأن يضمن لأصحاب هذه الحسابات استرداد أموالهم كاملة وذلك لسببين هما: أولا – لأن الأموال سيحتفظ بها عند طرف ثالث وهو البنك المركزي. وثانيا –لأنها غير مملوكة للبنك وإنما هي على سبيل الأمانة المحضة. وبالتالي لن يشملها وعاء قسمة الغرماء.

ص: 520

ب - الغبن:

من الأمور المتعارف عليها في مجال العمل المصرفي أن معظم العملاء الذين يحتفظون بحساب استثماري لدى بنك من البنوك، يكون لهم في أغلب الظن حساب جار طرف نفس هذا البنك، والعكس صحيح. وعادة ما تعتبر البنوك هذا الوضع كفرصة طيبة لتحقيق الربح السهل في ظل طريقة التكييف المعمول بها بالنسبة للحساب الجاري واعتبار رصيده كقرض حسن من العميل للبنك. إذ يمكن للبنك في هذه الحالة اتخاذ كافة الوسائل الممكنة لزيادة حجم الإيداعات في الحساب الجاري وبالتالي جني مزيد من الأرباح. ولا شك أن من ضمن الوسائل التي تلجأ إليها البنوك الإسلامية الآن وتعتبرها فعالة في هذا الشأن سياسة رفع الحد الأدنى لكل إيداع جديد في الحساب الاستثماري. إذ تؤدي هذه السياسة –مع غيرها من السياسات-إلى اضطرار كثير من العملاء من متوسطي الدخل إلى إيداع أموالهم في الحسابات الجارية بدون مقابل انتظارا لاستكمال الحد الأدنى الذي تشترطه هذه البنوك ويترتب على ذلك زيادة تدريجية في مجموع أرصدة هذه الحسابات لتشكل في النهاية حجما كبيرا من الأموال، قد يفوق في مقداره إجمالي حجم رأس المال المدفوع للبنك بعدة مرات. وما على البنوك في هذه الحالة إلا إضافة هذه الأرصدة إلى رأسمالها المدفوع واعتبار الإجمالي رأسمالها الجديد الذي تشارك به العملاء في أموالهم. أي أن البنوك تأخذ أموال عملائها المودعة في الحسابات الجارية لتشاركهم بها في أموالهم المودعة في الحسابات الاستثمارية!! ونورد فيما يلي على سبيل الاستدلال جدولا يبين حجم الأرصدة المتراكمة في الحسابات الجارية لدى بعض البنوك الإسلامية، بالمقارنة بحجم رأس المال المدفوع الخاص بكل منها، وذلك وفقا للمركز المالي المعلن لكل منها في 30/12/1409هـ.

ص: 521

(مليون دولار)

اسم البنك رصيد الحسابات الجارية

(1)

رأس المال المدفوع

(2)

%

1-

2

دبي الإسلامي 131.4 54.50 241.1

بيت التمويل الكويتي 440.6 97.60 451.1

التنمية التعاوني السوداني 25.3 1.50 1686.6

البحرين الإسلامي 16.7 15.0 111.3

البنك الإسلامي ببنغلاديش 31.8 2.50 1272.0

البركة السوداني 61.7 12.30 501.6

الإسلامي الأردني 37.3 (م. دينار) -6.0 (م. دينار) 621.7

المصدر: الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية – الميزانية المجمعة للبنوك الإسلامية الأعضاء بالاتحاد عن 1409هـ-والتقرير السنوي لعام 1988 بالنسبة للبنك الإسلامي الأردني.

ويتضح من الجدول السابق أن معظم البنوك الممثلة للعينة يزيد رصيد الحسابات الجارية المتجمع لديها عن حجم رأسمالها المدفوع بعدة أضعاف.

فإذا أخذ في الاعتبار أن مصادر تحقيق الإيرادات في البنوك تتكون عادة من مصدرين أساسيين هما:

1-

إيرادات الخدمات المصرفية: وهي ناتجة عن الخدمات المختلفة التي يؤديها البنك لعملائه.

2-

إيرادات أنشطة المرابحة والمضاربة والمشاركة.

وإذا علم بالإضافة إلى ذلك، أن كثيرا من البنوك الإسلامية تخصص في الوقت الحالي النوع الأول من الإيرادات بأكمله لصالح المساهمين فقط، ولا ينال أصحاب الودائع الاستثمارية منه شيئا. وذلك من منطلق أن هذا النوع لم يتحقق كنتيجة مباشرة لاستخدام تلك الودائع. وأن حجم هذا النوع من الإيرادات قد تتراوح نسبته ما بين 7 إلى 35 % من إجمالي حجم الإيرادات لأي بنك من البنوك. فإنه بناء على ذلك كله يمكن تصور الغبن الذي يبتلى به أصحاب الحسابات الجارية نتيجة إصرار البنوك على إضفاء صفة القرض عليها.

ص: 522

كما يمكن بهذا الشكل حصر العناصر المكونة لهذا الغبن في الأنواع التالية من الأرباح والإيرادات التي تفوت على أصحاب الحسابات الجارية:

1-

الأرباح المحققة على استخدام أرصدة الحسابات الجارية والتي كان من الممكن أن يتقاسمها العميل مع البنك إذا تم تكييف الحساب الجاري بأنه عقد مضاربة قصير الأجل على سبيل المثال. وكما سبق ذكره، فإن هذه الأرباح تؤول في مجموعها إلى البنك ويحرم منها العميل. ووجه الاعتراض على ذلك هو أنه طالما كان البنك قادرا على استغلال هذه الأرصدة وتحقيق الأرباح من ورائها لنفسه، وفي نفس الوقت يقابل بانتظام طلبات السحب اليومية جميعها التي ترد إليه من عملائه، فمن الأولى أن يكون للعميل نصيب في هذه الأرباح ولا يحرم منها.

2-

جزء من الإيرادات الخاصة بالخدمات المصرفية، والتي تشترك أرصدة الحسابات الجارية مع رأس المال المدفوع من المساهمين في تحقيقها.

3-

جزء من الأرباح المحققة على الحسابات الاستثمارية والتي تأتي كنتيجة لرفع بعض البنوك الحد الأدنى للوديعة الاستثمارية لديها مما يضطر العميل إلى تجنيب جزء من أمواله في حساب جار لحين استكمال المبلغ المطلوب إيداعه في الحساب الاستثماري. مع الأخذ في الاعتبار بأن معدل العائد على النوع الأول من الأرباح قد يختلف عن قرينه الخاص بالنوع الثالث لاختلاف فترة التشغيل.

ومن ذلك كله يتضح أن عميل الحساب الجاري لدى البنك قد يتعرض لأنواع مختلفة من الغبن، بالإضافة إلى نقص في المعلومات الكافية لإرشاده إلى الاختيار الصحيح، مما قد يعيب جانب الرضا في التعاقد وبالتالي يستلزم فسخ العقد.

ص: 523

ج- الاضطرار:

فلا شك أن المودع الذي يرغب في التعامل مع البنوك الإسلامية ابتغاء مرضاة الله وتحاشيًا من الوقوع في التعامل الربوي مع البنوك التقليدية ، يضطر مرغمًا لقبول الشروط المعروضة عليه في عقد الإيداع في الحساب الجاري حتى ولو كان على علم ودراية بمعانى الألفاظ المستخدمة في ذلك العقد طالما أن جميع البنوك الإسلامية تضع نفس هذه الشروط. ولأنه إذا لم يوافق على ذلك فلن يكون أمامه إلا أحد بديلين: إما أن يضع أمواله في منزله، أو أن يودعها لدى بنك من البنوك التقليدية. ولا شك أن كلا هذين البديلين يصعب على هذا العميل اتباعه. فيضطر إلى الإذعان لما يملى عليه.

رابعاً: بالنسبة للاستفسار عن ضمان الحسابات الجارية، وهل هو على المساهمين والمودعين أم على المساهمين وحدهم. فيتضح من كل ما سبق أن البنك ويمثله المساهمون هو الذي يتعين عليه ضمان الوديعة الجارية في حالة استعمالها. لأن البنك كما رأينا تنتقل إليه ملكية أرصدة الحسابات الجارية ويضيفها إلى رأس ماله، ويستحوذ على جميع الأرباح والإيرادات التي قد ترد نتيجة استغلال هذه الأرصدة. أما صاحب الوديعة الجارية فهو دائمًا الطرف المغبون، فإذا كان لديه حساب استثماري بالإضافة إلى الحساب الجاري فكيف نطالبه بضمان أمواله المأخوذة منه جبراً، المستخدمة لصالح البنك فقط.

وجدير بالذكر أن مثل هذا التناقض لا يمكن حدوثه في حالة الأخذ بالاقتراح الذي يتقدم به الباحث في هذا الموضوع.

خامساً: فيما يتعلق باستخدام العميل أمواله المودعة في حساب جار كرهن، فإنه في حالة تكييف هذا الحساب على أنه قرض فسيتناقض ذلك مع الشروط الخاصة بعقد الرهن من وجهين، هما كالآتي:

أ-أنه يشترط في الرهن أن يكون مملوكًا للراهن. ومع التسليم بأن ذلك يعتبر شرطًا لنفاذ الرهن وليس شرط صحة ، إلى أن رصيد الحساب بموجب التكييف المشار إليه يخرج من ملكية الراهن (المودع) إلى ملكية المستودع (البنك) ، مما يمثل تناقضًا مع طبيعة هذا العقد.

ص: 524

ب-يرى الجمهور أنه ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن (1) إلا أن هذا الحكم يصعب تنفيذه في حالة إضفاء صفة القرض على الحساب الجاري لدى البنوك الإسلامية، وفي ظل بقاء يد البنك على رصيد هذا الحساب.

وتفسير ذلك هو أنه إذا قام البنك باستثمار هذا الرصيد وغل من ورائه عائد. وهو ما يجري عليه العمل في البنوك حاليا، يصبح المرتهن به (القرض الذي اقترضه العميل من البنك) قد جر نفعا وهو غير جائز. أما إذا ترك البنك رصيد الحساب بدون استثمار فإنه –على أقل تقدير-سيعمل على إيداعه طرف البنك المركزي ليستوفي به نسبة الاحتياطي الإلزامي المفروضة على إجمالي أرصدة الحسابات الجارية المحتفظ بها طرفه. وهذا يوفر للبنك قدرا مماثلا من المبالغ التي كان سيضطر إلى إيداعها طرف البنك المركزي من أرصدة حسابات أخرى ليست على سبيل الرهن. ويكون بذلك قد جر أيضا نفعا من وراء لقرض المتعلق به الرهن.

وهكذا يتضح أنه إذا تم تكييف الحساب الجاري على أنه وديعة غير قابلة للاستخدام طرف البنك الإسلامي أو وديعة قابلة للاستخدام بمعرفة البنك المركزي فإن هذا الاقتراح يكون أفضل وأوقع من حيث التطبيق بالمقارنة بالوضع القائم حاليا (وهو اعتبار هذا الحساب كقرض من المودع للبنك) .

(1) انظر: د. وهبه الزحيلي-مرجع سابق -5/256 ويستثنى من هذا الحكم ما أجازه الحنابلة من انتفاع المرتهن بالرهن إذا كان مركوبًا أو محلوبًا – فيركب أو يحلب عندهم بقدر العلف – انظر المغني مرجع سابق 4/288. كما يستثني أيضًا إذا كان الرهن مشروطًا في بيع واشترط جعل المنفعة للمرتهن خصمًا من القيمة الأصلية للقرض. انظر الخطيب الشربيني-مغني المحتاج، 2/121.

ص: 525

الحسابات الاستثمارية

أكرر ما سبق أن أشرت إليه في موضوع الحسابات الجارية من أن هيكل الحسابات المعمول به حاليا في البنوك الإسلامية قد لا يتفق مع الأحكام والقواعد والشروط التي تحكم عقود المعاملات في الشريعة الإسلامية.

فمن المعروف بالنسبة لهيكل الحسابات الاستثمارية في البنوك الإسلامية أن التكييف الفقهي لهذا النوع من الحسابات هو أنه عقد لشركة مضاربة. ويعتبر المودع وفقا لهذا العقد كشريك في ملكية على المشاع لصافي قيمة أصول البنك في لحظة الإيداع. ولأن هذا التكييف يختلف تماما عن التكييف القانوني لنفس هذا النوع من الحسابات في البنوك التقليدية والذي يعتبر كعقد قرض فكان من المنتظر أن تنعكس آثار هذا الاختلاف على طبيعة التعامل بين البنك وعملائه وبصفة خاصة فيما يتعلق ببعض الشروط التي يختص بها عقد المضاربة والتي من أهمها ما يلي:

1-

عدم السماح بخلط أموال جديدة بالأموال القديمة في وعاء المضاربة بعد بدء النشاط سواء كان ذلك بإذن رب المال أو بدون إذنه. (1) .

2-

عدم السماح بالتخارج للعملاء وسحب أرصدة أموالهم المودعة قبل انتهاء ونض المال نضا فعليا.

إلا أن الوضع القائم يشير بوضوح إلى ابتعاد البنوك تماما عن تطبيق هذين الشرطين حيث تقبل بصفة مستمرة أي حجم من الودائع المتدفقة عليها من العملاء بعد بدء النشاط. كما تستجيب لرغباتهم بسحب أرصدة ودائعهم الاستثمارية في أي وقت يشاؤون دون أن يرتبط بنض المال أو بتصفية عمليات المضاربة.

وقد ترتب على هذا الوضع خلط بين الأموال المستثمرة كما حدث تداخل بين الأرباح والخسائر المحققة خلال الفترات الزمنية المتتابعة وأصبح دخول وخروج المودعين غير مرتبط من قريب أو بعيد بفترة حياة المشاريع التي يديرها البنك، مما يتيح الفرصة لوقوع غبن غير يسير بين مختلف العملاء.

وما أود أن أضيفه بالنسبة لهذا الموضوع هو كما يلي:

أولا-من البديهي أن احتساب مراكز مالية مؤقتة _ أو ما يسمى بالنض الحكمي) لا يضمن منع وقوع الغبن الناشئ من خلط الأموال في الحسابات الاستثمارية وفقا لما يجري عليه العمل الآن وذلك لبقاء جزء من رأس المال غير ناضٍّ.

(1) انظر: المدونة الكبرى للإمام مالك 4/60. وانظر: الإمام النووي (روضة الطالبين) 5/148؛ وانظر ابن قدامة المقدسي، (المغني) طبعة الرياض، 5/16؛ وانظر: أيضا الفتاوى الهندية، 4/309.

ص: 526

ولأنه قد يبتلى أي بنك من هذه البنوك بخسائر في جزء من ودائعه خلال الفترة الواقعة بين إعلان مركزين ماليين متتابعين ومع ذلك يظل العمل على ما هو عليه من تقبل ودائع جديدة لا دخل لها بالخسائر التي ابتلي بها البنك ثم خلطها بالودائع القديمة. هذا مع السماح بخروج بعض من المودعين وسحبهم لرؤوس أموالهم كاملة مضافا إليها عائد معين رغم أنه يفترض تحمل هذه الأموال لجزء من الخسائر السابقة.

لذلك فإن الوضع الأمثل المقترح هو التزام البنك بعدم خلط الأموال بعضها ببعض بعد بدء النشاط. ويكون ذلك بإنشاء أوعية استثمارية مختلفة في نوعياتها وفي آجالها بحيث يستقل كل وعاء ببداية ونهاية محددة للنشاط كما يستقل أيضا بنتيجة هذا النشاط من ربح أو خسارة دون خلط بالأوعية الأخرى فإذا أراد عميل الخروج فيمكن منحه جزءا فقط من أمواله تحت حساب التسوية النهائية التي تتم عند انتهاء النشاط ونض المال نضا كاملا.

ثانيا-إن ما يقترحه بعض الإخوة الزملاء من إنشاء حساب لتجميع احتياطي لمقابلة مخاطر عمليات الاستثمار وذلك بخصم نسبة معينة من الإيرادات المحققة عند ظهور كل مركز من المراكز المالية المؤقتة، يتسق تماما مع الاقتراح الذي تقدمنا به، وهو إنشاء صناديق استثمارية مستقلة بحيث يختص كل صندوق بحساب للاحتياطي يوجه لهذا الغرض، وتكون الأرباح المتجمعة فيه ملكا للشركاء المالكين وقاصرة عليهم.

وهذا الاقتراح لا يضيف شيئا جديدا على شروط عقد المضاربة لأن الأصل في الأمور هو ضمان الأرباح المحققة لرأس المال. (1) . فلا يتم توزيع الربح إلا بعد استرداد صاحب رأس المال لأمواله، وما يتبقى بعد ذلك فيتم توزيعه وفقا لنسب التوزيع المتفق عليها بين الأطراف المتعاقدة.

(1) انظر: ابن قدامة المقدسي-مرجع سابق،5/41.

ص: 527

أما إذا أريد بهذا الاقتراح أن يكون حلا لمشاكل الغبن في توزيع الربح المترتبة على هيكل الودائع القائم والذي يسمح بدخول وخروج الأموال وخلط الودائع الجديدة بالقديمة بعد بدء النشاط استنادا إلى ما جاء بالمدونة من جواز اشتراط المقارضين لجزء من الربح لطرف ثالث (المساكين)(1) . فإن ذلك مردود عليه بما جاء بعد ذلك في المدونة أيضا من عدم جواز خلط أموال جديدة بوعاء بعد بدء النشاط (2) . مما يؤكد على أن القول المشار إليه للإمام مالك، يقتصر على حالة وعاء المضاربة المغلق على أطرافه، ولا ينطبق على ما يسمى الآن بالمضاربة المشتركة أي التي تسمح بالدخول أو الخروج المستمر. وبالتالي فإن الاقتراح المذكور في هذه الحالة يكون فيه نظر.

ثالثاً-أن ما قد يشير إليه بعض الإخوة الباحثين من أن التطور الكبير في أجهزة الحاسب الآلي يساعد على إعداد مراكز مالية من أي وقت من الأوقات. وأن ذلك قد يصل إلى الحد الذي يمكن فيه إعداد هذه المراكز يومياً. فهذا القول يرد عليه من ناحيتين:

أ-أنه طالما بقي جزء من رأس المال غير ناض-في شكل بضاعة-فإن احتمال تغير النتيجة بعد ذلك سواء إلى خسارة أو ربح يظل قائمًا مهما تعددت المراكز المالية.

وبالتالي لا يمكن التعويل على هذه الطريقة.

ب-أنه إذا كان في الإمكان إعداد مراكز مالية مستقلة بحيث يمكن الفصل بين الإيداعات المتدفقة واستقلال كل منها بنتيجة النشاط الذي أودعت الأموال من أجله فإن ذلك أدعى إلى تدعيم وجهة نظرنا بشأن إنشاء أوعية متعددة يستقل كل منها ببداية ونهاية ونتيجة فعلية للنشاط الذي تقوم عليه بحيث لا يتعرض المودع الداخل بعد إعلان المركز المالي عن الفترة السابقة لأي نوع من أنواع الغبن.

(1) انظر الإمام مالك –المدونة-4/29.

(2)

انظر الإمام مالك –المدونة-4/60

ص: 528

رابعاً- بالنسبة لموضوع إدراج حسابات الاستثمار (الودائع الاستثمارية) في موجودات المصرف أم في المطلوبات. فإنه في حالة الأخذ بالاقتراح الذي أشرنا إليه في النقاط السابقة فيتعين على البنك إعداد ميزانية مستقلة خاصة به. بحيث يقتصر جانب الخصوم منها على رأس ماله وحقوق المساهمين فيه.

أما في جانب الأصول فيظهر فيه حجم الأموال التي يستثمرها البنك في أي من الصناديق التي سيديرها بصفته شريكًا بماله علاوة على كونه شريكًا بعمله.

وفي هذه الحالة تظهر أرصدة الودائع الاستثمارية كالتزامات عرضية (بند حسابات نظامية خارج الميزانية) على البنك، بحيث تظهر من ناحية حجم النشاط الذي يتعامل هذا البنك فيه، مع إثباتها من ناحية أخرى وجود احتمال دائم لمطالبة المودعين البنك ضمان هذه الودائع في حالة الإهمال أو التقصير من جانبه.

أما بالنسبة للصناديق الاستثمارية المختلفة فيقترح أن يكون لكل منها مركز مالي مستقل بذاته حسب نوع النشاط والفترة الزمنية التي يرغب كل عميل الاستثمار فيها.

وبناء على ذلك تظهر الودائع الاستثمارية في جانب الخصوم كرأس مال للصندوق. بينما تظهر الأصول النقدية والعينية المستثمر فيها في جانب الأصول من ذلك المركز.

ص: 529

الخلاصة:

تناولت هذه الورقة عرضًا مفصلًا لبعض الأسباب والمبررات التي تحتم إعادة النظر في الهيكل الحالي للودائع المستخدم في البنوك الإسلامية، سواء كان ذلك متعلقًا بالحسابات الجارية أو الحسابات الاستثمارية التي تفتحها تلك البنوك لعملائها المودعين.

ومن أهم هذه الأسباب ما يتعلق بمشكلة الإسراف في خلق الائتمان وأثره على اقتصاديات الدول الإسلامية ، ومشكلة الغبن الواقع على كل من أصحاب الحسابات الجارية والاستثمارية المفتوحة لدى هذه البنوك.

ويتضح من هذا العرض أن كلًّا من الاعتبارات الاقتصادية والشرعية سيكون لها وزن هام عند التفكير في بناء هيكل جديد تستطيع البنوك الإسلامية التعامل من خلاله، بحيث ينأى بهذه البنوك من الوقوع في أي أخطاء شرعية في تعاملها مع جمهور عملائها من المودعين أو المستثمرين. كما يدفع عنها مخاطر التعرض لأزمات قد تؤدي إلى إرباكها أو توقفها عن العمل، هذا فضلًا عما يوفره هذا الهيكل من استقرار للتعامل في الأسواق المختلفة (نقدية-رأسمالية-سلعية) داخل الدولة.

والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

د. حسين كامل فهمي.

ص: 530

أهم مراجع البحث

1-

ابن عابدين حاشية ابن عابدين، طبعة مصطفى الحلبي، 1966م.

2-

ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع، 1978م.

3-

ابن الهمام، الكمال، تكملة فتح القدير. طبعة مصطفى الحلبي، طبعة أولي، جزء 8.

4-

أورنك، محيي الدين محمد، الفتاوى الهندية، الجزء الرابع، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.

5-

البوطي، محمد سعيد رمضان، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية. مؤسسة الرسالة، 1402هـ /1982م.

6-

حماد، نزيه، عقد الوديعة في الشريعة الإسلامية، دار القلم- دمشق، ط أولى 1414هـ.

7-

عقد القرض في الشريعة الإسلامية، دار القلم-دمشق ط أولى 1411هـ.

8-

الدردير،أبو البركات أحمد، الشرح الكبير، المكتبة التجارية، 1373هـ.

9-

الزحيلي، وهبه، الفقه الإسلامي وأدلته. دار الفكر، دمشق 1984.

10-

نظرية الضرورة الشرعية. مؤسسة الرسالة، 1985م.

ص: 531

11-

الزرقا، مصطفي أحمد الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، دار الفطر، دمشق ط تاسعة 1967.

12-

السنهوري، عبد الرازق نظرية العقد. دار الفكر، دمشق، 1934م.

13-

الشاطبي، أبو اسحق الموافقات في أصول الشريعة. دار المعرفة، بيروت، لبنان.

14-

عليش، محمد منح الجليل على مختصر خليل، بدون ناشر، أو سنة نشر.

15-

عوض، على جمال الدين موجز عمليات البنوك من الوجهة القانونية. دار النهضة العربية، 1969م.

16-

فهمي، حسين كامل. نحو إعادة هيكلة النظام المصرفي الإسلامي، (مجلة جامعة الملك عبد العزيز، الاقتصاد الإسلامي) المجلد (4) 1412هـ.

17-

قاسم، يوسف نظرية الضرورة في الفقه الجنائي الإسلامي والقانون الجنائي الوضعي. دار النهضة العربية 1981م.

18-

المصري، ابن نجيم غمز عيون البصائر، شرح كتاب الأشباه والنظائر. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1985م.

19-

المقدسي، ابن قدامة "المغني" طبعة مكتبة القاهرة، 1969م.

20-

النووي، أبو زكريا يحيي بن شريف "روضة الطالبين"، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، دمشق 1966م.

ص: 532