الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحكيم في الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور محمد جبر الألفي
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة العين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
ترتبط فكرة العدل والفصل في الخصومات ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة الدينية {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ، ومقتضى ذلك أن يكون للمؤمن وازع من دينه يدعوه إلى الخير ويحجزه عن الشر، وقد أفرد الإمام مسلم في صحيحه كتابًا جمع فيه الأحاديث التي تحرم الظلم وتتوعد الظالمين (1)، بدأها بالحديث القدسي:((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا)) (2) . وأورد في باب القصاص وأداء الحقوق يوم القيامة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال:((المفلس من أمتي: من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) (3) .
من أجل ذلك جاءت تعاليم الإسلام تأمر بالعدل والإحسان (4) والوفاء بالعقود (5) وترغب في العفو عن المسيء (6) ، وتنهى عن قربان ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء والسعي في الأرض بالفساد (7) . ومن شأن هذا كله أن يستتب الأمن بين المسلمين، ويسود السلام علاقاتهم بغيرهم.
ومع ذلك فقد وجدت ظروف وملابسات خفي فيها وجه الصواب، أو التبس الحق بالباطل، أو تعذرت إقامة الأحكام فظهرت الحاجة ماسة إلى النصح والإفتاء، أو إصلاح ذات البين، أو إقامة حكم عدل، أو نصب قاض يفصل بين المتنازعين، وهذه كلها وسائل مترابطة يسلم بعضها إلى بعض، وتنحو نحو هدف واحد.
وموضوع هذه الورقة يتناول إحدى هذه الوسائل، (التحكيم في الفقه الإسلامي) على الترتيب الذي أعده مجمع الفقه الإسلامي، ليشمل العناصر الجوهرية التي تؤدي إلى إماطة اللثام عن أحكامه، وليجيب عن التساؤلات التي تدور اليوم في أذهان المسلمين أفرادًا وجماعات.
فنخصص مبحثًا للحديث عن عموميات التحكيم، وآخر لبيان أركانه وشروطه، ونوضح في مبحث ثالث طبيعة عقد التحكيم، وستعرض في مبحث رابع أنواعًا خاصة من التحكيم يتطلبها الوضع الراهن، أما المبحث الخامس والأخير فنلقي فيه بعض الضوء على موقف الإسلام من مبدأ التحكيم الدولي.
والله ولي التوفيق.
(1) مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري، مطبعة الكويت: 1399 – 1979، ج2 ص 243 – 245، كتاب الظلم
(2)
المرجع السابق: حديث رقم 1828
(3)
نفس المرجع السابق: حديث رقم 1836
(4)
سورة النحل: 90
(5)
سورة المائدة: 1، وسورة الإسراء: 34
(6)
سورة النحل: 126 – 128، سورة الشورى: 40
(7)
على سبيل المثال: سورة البقرة: 188، 278 – 183، سورة النساء: 2 - 35، سورة الإسراء: 23 – 38، سورة الحجرات: 6 - 12
المبحث الأول
عموميات التحكيم
معنى التحكيم – الفرق بين التحكيم والإفتاء والقضاء – مشروعية التحكيم – أهمية التحكيم.
1-
معنى التحكيم
التحكيم في اللغة:
حكم بالأمر يحكم حكمًا: قضى، يقال: حكم له، وحكم عليه، وحكم بينهم، وحكم فلانًا في الشيء أو الأمر: جعله حكمًا، ومنه قوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، واحتكم الخصمان إلى الحاكم: رفعا خصومتها إليه، والحكم: من يختار للفصل بين المتنازعين، قال تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] . وحكمه في الأمر تحكيمًا: أمره أن يحكم. وحكمت الرجل: فوضت الحكم إليه. فالتحكيم في اللغة: اختيار شخص للفصل في نزاع. وقد يطلب التحكيم لغة على إجازة الحكم، فيقال: حكمنا فلانًا، أي أجزنا حكمه (1)
التحكيم في اصطلاح الفقهاء:
لا يضع كثير من الفقهاء تعريفًا للتحكيم اكتفاء بما وقر في الأذهان في معناه اللغوي وبما تواضع عليه العرف والعمل، وإنما يبينون حكمه بعبارات يمكن أن يستخلص منها تعريف للتحكيم، ومن ذلك قولهم: (لو أن رجلين حكما بينهما رجلًا، فحكم بينهما، أمضاه القاضي
…
) (2) . (وإذا حكما رجلًا ورضيا بحكمه، لزمهما حكمه
…
) (3) ، (إذا اختصم رجلان في حق من الحقوق المالية، فحكما رجلًا، هل ينفذ حكمه؟ قولان)(4) ، (ولو حكم خصمان رجلًا في غير حد الله تعالى، جاز مطلقًا
…
) (5) ، (وإن تحاكم شخصان إلى رجل للقضاء بينهما فحكم، نفذ حكمه
…
) (6) ،، (
…
إلا في قاضي التحكيم، وهو الذي تراضى به الخصمان ليحكم بينهما مع وجود قاض منصوب من قبل الإمام) (7) ، (وجاز للخصمين تحكيم رجل عدل ....)(8) .
(1) أساس البلاغة؛ تاج العروس؛ الزاهر: 972؛ الصحاح؛ القاموس المحيط؛ لسان العرب؛ المصبح المنير؛ المعجم الوسيط.
(2)
الحطاب، مواهب الجليل وبهامشه: التاج والإكليل للمواق، ط 2 / 1978، ج 6 ص 112
(3)
نفس المرجع السابق، ج 6 ص 113
(4)
ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء، بغداد: 1984، ج 1 ص 428
(5)
النووي، منهاج الطالبين مع مغني المحتاج للشربيني الخطيب، القاهرة: 1958، ج 4 ص 378
(6)
البهوتي، كشاف القناع عن متن الإقناع، بيروت، 1983، ج 6 ص 308
(7)
العاملي، الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية، القاهرة: 1378 هـ، ج 1 ص 238
(8)
الدردير، الشرح الصغير على أقرب المسالك، القاهرة: 1974، ج 4 ص 198
ومع ذلك، نجد في كتابات بعض الفقهاء تعريفًا للتحكيم لا يخرج عن هذه المعاني، من ذلك قول صاحب الدر:(وعرفًا: تولية الخصمين حاكمًا يحكم بينهما)(1) . وبهذا المعنى جاء في المجلة: (التحكيم: هو اتخاذ الخصمين برضاهما حاكمًا يفصل خصومتهما ودعواهما
…
) (2) .
الفرق بين التحكيم والإفتاء والقضاء
الإفتاء:
يقال: أفتى في المسألة، إذا بين حكمها، واستفتى: سأل عن الحكم (3)، قال تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127] ، والإفتاء عند علماء الفقه والأصول: إظهار الحكم الشرعي المتعلق بأمر من الأمور (4) .
وهكذا يتفق التحكيم والإفتاء في أن كلًّا منهما إخبار عن الحكم الشرعي في الواقعة، ولكنها يختلفان في كثير من الأمور:
1-
فالتحكيم يستلزم وجود نزاع بين طرفين، أما الإفتاء فقد يكون نتيجة طلب شخص يريد أن يعرف الحكم ليعمل به في خاصة نفسه.
2-
والتحكيم يجري في مسائل حددتها كتب الفقه واختلف في تعدادها الفقهاء. أما الإفتاء فمحله يتناول جميع المسائل والأحكام.
3-
والتحكيم – في رأي أكثرية الفقهاء – عقد ملزم لأطرافه وينبغي عليهم الالتزام بنتيجته. أما الإفتاء فليس عقدًا ولا تكون نتيجته ملزمة للمستفتي.
4-
وقد اشترط كثير من الفقهاء أن تتوافر في المحتكم إليه شروط القاضي. أما المفتي فلا يشترط فيه ذلك.
5-
والتحكيم يتطلب من المحتكم إليه تمحيص الوقائع التي تقدم إليه قبل أن يصدر حكمه فيها، أما المفتي فإنه يسلم بالواقعة التي طلب منه إظهار الحكم فيها دون مناقشتها.
(1) الحصكفي، الدر المختار شرح تنوير الأبصار، مع حاشية ابن عابدين، ط 2، القاهرة: 1966، ج 5 ص 428
(2)
مجلة الأحكام العدلية، المادة 1790
(3)
تاج العروس؛ لسان العرب؛ معجم مقاييس اللغة؛ المعجم الوسيط
(4)
ابن عبد الشكور، مسلم الثبوت مع المستصفى للغزالي، بولاق مصر: 1322 هـ، ج2 ص 403؛ السبكي، جمع الجوامع، الحلبي: 1356هـ 1937م، ج 2 ص 392، 395، 397؛ القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى في تمييز الفتاوى عن الأحكام، المكتب الثقافي: 1989، ص 25، 26؛ مصطفى السيوطي الرحيباني، مطالب أولى النهى، دمشق: 1961، ج 6 ص 437.
القضاء:
يقال: قضى يقضي قضيًا وقضاء وقضية: حكم وفصل، وقضى الله: أمر، قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . والقضاء الحكم، أو الأداء، أو عمل القاضي (1) .
وفي الاصطلاح: إظهار حكم الشرع في الواقعة فيمن يجب عليه إمضاؤه (2) . فلئن كان التحكيم والقضاء يشتركان في إظهار حكم الشرع في أمر من الأمور، إلا أن هما يختلفان من عدة وجوه:
1-
فالقاضي يستمد ولايته من عقد التولية، ولذلك يكون القضاء هو الأصل في فض المنازعات. أما المحكم فإنه يستمد ولايته من عقد التحكيم، فيكون التحكيم فرعًا عن القضاء.
2-
وبناء على ما سبق اشترط الفقهاء فيمن يتولى القضاء شروطًا لا تلزم فيمن يقوم بالتحكيم.
3-
وتطبيقًا لذلك جاز أن تكون ولاية القاضي عامة، أما المحكم فإنه يقتصر على الفصل في النزاع المطروح أمامه دون أن يتعداه إلى غيره، وخاصة ما يمتنع عليه أن ينظر فيه.
4-
وأهم ما يفترق فيه القضاء عن التحكيم: أن الأول لا يحتاج إلى اتفاق المتنازعين حتى ترفع الواقعة إليه – كما في التحكيم – وإنما لكل من المتنازعين أن يرفع الدعوى إلى القضاء، بإرادته المنفردة ودون الحاجة إلى رضاء خصمه.
5-
فإذا رفع الأمر إلى القضاء، التزم كِلَا الخصمين بالسير في الدعوى إلى حين صدور الحكم، أما في التحكيم فالعقد غير ملزم لأطرافه – عند البعض- ولا يصير ملزمًا إلا بعد صدور الحكم – عند البعض الآخر -.
(1) تاج العروس؛ لسان العرب؛ المصباح المنير، المعجم الوسيط
(2)
الشربيني الخطيب؛ مغني المحتاج: 4 / 372. وانظر في نفس المعنى: الكاساني؛ بدائع الصنائع: 7 / 2؛ مطالب أولي النهى: 6 / 437؛ الشرح الصغير للدردير: 4 / 186
3-
مشروعية التحكيم
ثبتت مشروعية التحكيم بالكتاب والسنة والإجماع
الكتاب:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] . أمر الله من يحكم بين الناس أن يحكم بالعدل والحكم بين الناس له طرق: منها الولاية العامة والقضاء، ومنها تحكيم المتخاصمين لشخص في قضية خاصة (1) .
وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ، وهذه الآية دليل على إثبات التحكيم ومشروعيته (2) . .
السنة:
ورد في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحكيم سعد بن معاذ فيما بين المسلمين وبني قريظة، وأنه أنفذ حكم سعد، وقال له:((لقد حكمت فيهم بحكم الملك)) (3)
وفي الحديث الشريف: ((من حكم بين اثنين تحاكما إليه وارتضيا به فلم يعدل بينهما بالحق، فعليه لعنة الله)) رواه أبو بكر. ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم (4)
الإجماع:
العمل بالتحكيم (وقع لجمع من كبار الصحابة، ولم ينكره أحد. قال الموردي: فكان إجماعًا)(5) . من ذلك:
كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب منازعة في نخل، فحكما بينهما زيد بن ثابت، ولم يكن قاضيًا (6) .
(1) تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب: 1973، ج 5 ص 139
(2)
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 5 / 179؛ تفسير المنار: 5 / 63 – 66.
(3)
اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، جمعه محمد فؤاد عبد الباقي، الكويت: 197، ص 451، حديث رقم 1155
(4)
كشاف القناع، ج 6 ص 309
(5)
مغني المحتاج، ج 6 ص 309
(6)
ابن الهمام، شرح فتح القدير: 5 / 498
اشترى طلحة بن عبيد الله مالًا من عثمان بن عفان، فقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار، فحكم بينهما جبير بن مطعم (1) .
حين اشتد القتال في موقعة (صفين) بين جيش علي بن أبي طالب وجيش معاوية بن أبي سفيان، تم التراضي على تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وكتب عقد التحكيم، وأعلنت الهدنة (2) .
اعتراض على التحكيم:
كان قبول علي التحكيم سببًا في انفصال عدد كبير من جيشه، لا يجيز العدول عن حكم الله إلى حكم الرجال، ولا يجيز مبدأ التحكيم في الدماء (3)، وهؤلاء هم الذين أطلق عليهم:(المحكمة الأولى) .
وبعدم جواز التحكيم قال بعض الشافعية، لما فيه من الافتئات على الإمام، وأجازه بعضهم بشرط عدم قاض بالبلد، ولوجود الضرورة حينئذ (4) . ومن المالكية من لم يجزه ابتداء (5) .
وقد أفتى بعض الحنفية بمنع التحكيم لكيلا يتجاسر العوام على تحكيم أمثالهم فيحكموا بغير ما شرع الله من الأحكام، وفي ذلك مفسدة عظيمة.
(1) الزيلعي، نصب الراية: 4 /10؛ النووي، المجموع: 9 / 316
(2)
ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الحلبي: 1303 هـ، ج 3 ص 134.
(3)
ابن الأثير، نفس الموضع السابق. وهم يقصدون بحكم الله ما جاء في سورة الحجرات:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ} .
(4)
مغني المحتاج: 4 / 379
(5)
الحطاب، مواهب الجليل: 6 / 112
4-
أهمية التحكيم
كان التحكيم في بادئ الأمر هو الوسيلة الوحيدة لحسم المنازعات إلى أن تكونت الوحدة السياسية ذات السيادة والسلطان، فنشأ نظام القضاء ليطبق شريعة هذه الوحدة السياسية، ومع ذلك ظل التحكيم قائمًا إلى جانب القضاء يؤدي دورًا هامًّا في المجتمع الإنساني:
1-
فهو يجنب الخصوم كثيرًا من النفقات التي تتمثل في رسوم التقاضي وأتعاب المحامين وما شابه ذلك.
2-
وهو يختصر الوقت الذي يستغرقه ببطء التقاضي، والتنقل بين درجاته، وإجراءات تنفيذ الأحكام.
3-
والتحكيم يتناسب وظروف أطراف النزاع، الذين يحددون بالاتفاق مع المحتكم إليهم ما يلائمهم من أوقات لا تتعارض من أعمالهم وارتباطاتهم.
4-
وقد يلجأ أطراف النزاع إلى التحكيم حفاظًا على الخصوصية التي تسود علاقاتهم، ولا يرغبون في عرضها علنًا أمام القضاء.
5-
ومما يشجع على تفضيل التحكيم، حرية أطراف النزاع في اختيار محكمين على درجة كبيرة من الخبرة الفنية التي لا بد منها في فهم طبيعة النزاع ودقة الحكم فيه.
6-
ويحتمل التحكيم مكانة مهمة في القانون الدولي العام، حيث التنظيم القضائي لا يزال قاصرًا.
7-
وللتحكيم دور بارز في حسم المنازعات التي تظهر في أوساط الأقليات الدينية أو العربية أو المذهبية، التي لا تقبل أحكام القانون السائد في البلد الذي تعيش فيه، فيجدون في التحكيم مخرجًا من تطبيق هذا القانون الذي قد يتعارض مع شرائعهم ومعتقداتهم وأعرافهم.
المبحث الثاني
أركان التحكيم وشروطه
أطراف التحكيم – صيغة التحكيم – محل التحكيم.
1-
أطراف التحكيم
يقوم التحكيم على اتفاقين متكاملين: الأول بين الخصمين، وبمقتضاه يتراضيان على شخص يفصل في النزاع القائم بينهما. والآخر فيما بينهما وبين هذا الشخص الذي ارتضياه، وبمقتضاه: يقبل أن يفصل في هذا النزاع. وقد يكون الخصمان اثنين أو أكثر، وقد يكون المحتكم إليه واحد أو أكثر. وسوف نبدأ باستعراض الشروط الواجب توافرها في طرفي النزاع، ثم شروط المحتكم إليه.
شروط طرفي النزاع:
لا يعرض الفقهاء لشروط كل واحد من أطراف النزاع، اكتفاء بأحكام الأهلية والولاية والتراضي، إلا قليلًا منهم ذكر هذه الشروط بإيجاز مجمل، مثل:(وشرط التحكيم أن يكن الخصمان عاقلين)(1) .
وقد وردت إشارات في كتب الفقه يفهم منها أن التحكيم وإن كان التولية في الصورة إلا أنه صلح في المعنى (2) ، وأن تحكيم الحكم في الخصومة يشبه الوكالة من وجه ويشبه حكم القاضي من وجه آخر (3) وبناء على ذلك، يمكن القول بأنه: يشترط في الخصم أن يكون أهلًا لرفع الدعوى وإبرام عقد الصلح ولما كان كل منهما تصرفًا يحتمل النفع والضرر، فإن جمهور الفقهاء يتشرطون فيمن يباشرهما أن يكون عاقلًا بالغًا غير محجور عليه، ويكفي عند الحنفية أن يكون عاقلًا مميزًا.
(1) سليم رستم باز، شرح المجلة، نسخة مصورة عن الطبعة الثالثة: الآستانة: 1305 هـ ج 2 ص 1194، نقلًا عن رد المحتار؛ ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 7 / 24.
(2)
ابن نجيم البحر الرائق: 7 24 – 25؛ سليم رستم باز، شرح المجلة، ج 2 ص 1194، نقلًا عن الفتاوى الهندية.
(3)
سليم رستم باز، شرح المجلة: 2/ 1196 (حيدر أفندي عن الزيلعي) .
وقد تعرض بعض الفقهاء عدة فروع، من ذلك ما جاء في مغنى المحتاج: (واستثنى البلقيني من جواز التحكيم: الوكيلين، فلا يكفي تحكيمهما، بل المعتبر تحكيم الموكلين والوليين، فلا يكفي تحكيمهما إذا كان مذهب المحكم يضر بأحدهما.
والمحجور عليه بالفلس لا يكفي رضاه إذا كان مذهب المحكم يضر بغرمائه، والمأذون له في التجارة وعامل القراض لا يكفي تحكيمهما، بل لا بد من رضاء المالك.
والمحجور عليه بالسفه لا أثر لتحكيمه. قال: ولم أر من تعرض لذلك (1) .
شروط المحتكم إليه:
الأصل عند جمهور الفقهاء: أن يكن المحتكم إليه أهلًا لولاية القضاء (2) ، وهذه الأهلية تختلف باختلاف المذاهب. ومع ذلك يتسامح الفقهاء في غياب بعض شروطها لدى المحتكم إليه، مراعاة لإرادة المتنازعين الذين وقع اختيارهما عليه لصفات قد لا تتوافر في القاضي؛ ولأن ولايته قاصرة على نزاع بعينه، ويمكنه التنحي قبل إصدار حكمه، فنستعرض فيما يلي أهم هذه الشروط:
1-
يشترط أن يكون المحتكم إليه معلومًا ومعينًا بالاسم أو بالصفة، فلو اتفق الخصمان على تحكيم أول من يدخل المسجد – مثلًا – لم يجز بالإجماع، لما فيه من الجهالة (3) .
2-
يشترط أن يكون المحتكم إليه مكلفًا، بأن يكون بالغًا عاقلًا، وذلك لنقص كل من الصبي والمجنون (4) . ولا يكتفى فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية حتى يكون صحيح التمييز جيد الفطنة بعيدًا عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل (5) .
3-
يتشرط أن يكون المحتكم إليه ذكرًا. وقال أبو حنيفة: يجوز أن تقضي المرأة فيما تصح فيه شهادتها، وشذ ابن جرير الطبري فجوز قضاءها في جميع الأحكام (6) .
(1) الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 / 379؛ وانظر كذلك: ابن عابدين: 5 /430؛ الفتاوى الهندية: 3 / 271. وقد نصت المادة (203 / 4) من القانون الاتحادي رقم (11) لسنة 1992 في شأن الإجراءات المدنية على أنه لا يصح الاتفاق على التحكيم إلا ممن له أهلية التصرف في الحق محل النزاع
(2)
الكاساني، بدائع الصنائع: 7 /3؛ الحطاب مواهب الجليل: 6 / 112؛ الشربيني الخطيب، مغنى المحتاج: 4/ 378؛ مصطفى السيوطي الرحيباني، مطالب أولي النهى: 6 / 471؛ العاملي، الروضة البهية: 1 / 238.
(3)
ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 26، الزيلعي، تبيين الحقائق: 4 / 194
(4)
الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 / 375، وقارن: حاشية الدسوقي: 4/ 136 – 137.
(5)
الموردي، الأحكام السلطانية، القاهرة: 1386 – 1966، ص 65
(6)
الأحكام السلطانية: 65؛ حاشية الدسوقي: 4 / 136 – 137؛ الشوكاني، نيل الأوطار: 8 / 274؛ ابن قدامة؛ المغني مع الشرح الكبير، ج 11، ص 380؛ وانظر: العاملي، الروضة البهية: 1 / 238، حيث يقول: وأما الذكورية فلم ينقل أحد فيها خلافًا، ويبعد اختصاص قاضي التحكيم بعد اشتراطها وإن كان محتملًا، ولا ضرورة هنا إلى استثنائها
4-
يشترط أن يكون المحتكم إليه مسلمًا، وأجاز الحنفية تقليد غير المسلم القضاء على غير المسلمين (1) .
5-
يشترط في المحتكم إليه العدالة، أي:(أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفًا عن المحارم، متوقيًا المآثم، بعيدًا من الريب مأمونًا في الرضا والغضب، مستعملًا المروءة مثله في دينه ودنياه، فإذا تكاملت فيه فهي العدالة التي تجوز بها شهادته، وتصح معها ولايته)(2) . وعند الحنفية: العدالة ليست شرطًا لجواز التقليد، ولكنها شرط كمال: فيجوز تقليد الفاسق، وتنفيذ قضاياه إذا لم يتجاوز فيها حد الشرع، وبذلك قال بعض المالكية (3) .
6-
كمال الخلقة، بأن يكون سميعًا بصيرًا ناطقًا، وقد جوز بعض أصحاب الشافعي قضاء الأعمى (4) ، فيصح الاحتكام إليه، وعند المالكية، يجب أن يكون الحاكم سميعًا بصيرًا متكلمًا، واتصافه بذلك واجب غير شرط، فينفذ حكم الأعمى والأصم الأبكم إن وقع صوابًا (5) .
7-
يشترط أن يكون المحتكم إليه من أهل الاجتهاد، وقال بعض الحنفية: يجوز أن يكون عامِّيًّا، فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض منه فصل الخصائم، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يحكم بقول المقومين (6) . وبمثل ذلك قال ابن فرحون المالكي (7) .
وقد نقل الكمال بن الهمام عن الغزالي: (أن اجتماع هذه الشروط، من العدالة والاجتهاد وغيرهما، متعذر في عصرنا، لخلو العصر عن المجتهد والعدل. فالوجه: تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة، وإن كان جاهلًا وفاسقًا)(8) . وإذا كان هذا القول ينصب على القاضي، فإنه – من باب أولى –يصدق بالنسبة للمحتكم إليه.
8-
ويشترط في المحتكم إليه ألا تكون بينه وبين أحد الخصمين قرابة تمنع من الشهادة، ويجوز أن يحكم الخصم خصمه، ويمضي حكمه إن لم يكن جورًا بينًا، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، وهو المعتمد عند المالكية، وبه قال بعض الشافعية (9) .
(1) ابن عابدين:4 /429؛ قال في مغنى المحتاج: 4 / 375: (وأما جريان العادة بنصب حاكم من أهل الذمة عليهم، فقال الماوردي والروياني: إنما هي رياسة وزعامة، لا تقليد حكم وقضاء، ولا يلزمهم حكمه ولا يلزم حكمه بإلزامه، بل بالتزامهم)
(2)
الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 66
(3)
الكاساني، بدائع الصنائع: 7 / 3؛ حاشية الدسوقي: 4 / 136 – 137؛ الفتاوى الهندية: 3 / 307
(4)
ابن قدامة، المغنى: 11 / 380 – 381
(5)
الدردير، الشرح الصغير: 4 / 191
(6)
ابن قدامة، المغني: 11 / 382؛ الموردي، الأحكام السلطانية، ص 66
(7)
ابن فرحون، تبصرة الحكام: 1 / 44
(8)
ابن الهمام، فتح القدير: 7 / 454؛ ابن عابدين: 4 /330، ويلاحظ أن الغزالي الذي نسب إليه هذا القول توفى سنة 505 هـ.
(9)
ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 28؛ البهوتي، كشاف القناع: 6 / 303؛ الدسوقي، حاشية على الشرح الكبير: 4 / 135؛ الماوردي، أدب القاضي: 2 / 385؛ ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء، بغداد: 1984، ج 1، ص 431
2-
صيغة التحكيم
سبق أن ذكرنا أن التحكيم ينتج عن عقدين رضائيين، يتم أولهما بين طالبي التحكيم أن أنفسهم، ويتم الآخر بينهم وبين المحتكم إليه.
وكما هو الشأن في العقود، لا بد من صيغة تعبر عن الإرادة بما يدل على مقصود العاقدين دلالة واضحة، من قول أو فعل أو غيرهما.
وقد اشترط بعض الفقهاء أن يتقدم التراضي على عقد التحكيم، ولم يشترط البعض الآخر ذلك، بحيث (إذا فصل واحد الدعوى الواقعة بين اثنين، ولم يكونا قد حكماه، صح حكمه ونفذ إذا رضيا به أجازاه) بشرط أن يكون الحكم موافقًا للأصول المشروعة (1) .
ولأطراف التحكيم تقييد الصيغة بشرط مشروع يتعلق بالزمان أو المكان أو اتباع مذهب معين أو استشارة شخص بذاته أو صفاته، أو غير ذلك مما يتعلق به غرضهم.
والغالب أن يتم تراضي أطراف التحكيم بمناسبة قيام النزاع ويطلق عليه القانون (مشارطة التحكيم) . وهذا لا يمنع من أن يدرج المتعاقدان في العقد شرطًا يتم بموجبه اللجوء إلى التحكيم في حالة وقوع نزاع حول تنفيذ هذا العقد، وهو ما يطلق عليه (شرط التحكيم) وقد اتفق الفقه على صحة التحكيم بمناسبة قيام نزاع وخصومة حول حق من الحقوق، ولم يتعرض البعض على صحة التحكيم مع عدم وجود خصومة، فقد جاء في مغنى المحتاج – تعليقًا على النووي (ولو حكم خصمان رجلًا: قوله خصمان، يوهم اعتبار الخصومة، وليس مرادًا، فإن التحكيم يجري في النكاح، فلو قال: اثنان، كان أولى (2) .
ولم يشترط الفقهاء الإشهاد أو الكتابة على اتفاق التحكيم، ومع ذلك: فإنهم يستحسنون الإشهاد خشية الجحود (3) . إلا أنهم يشترطون – لقبول قول الحكم برضاء الخصمين بحكمه – أن يشهد عليهما في مجلس الحكم (4)
(1) سليم رستم باز، شرح المجلة:2 / 1199 ح ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 25
(2)
الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 /378
(3)
السرخسي، المبسوط: 21 / 63؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير:4 / 135، مصطفى السيوطي الرحيباني، مطالب أولي النهى: 6 / 472) ينبغي أن يشهد المتحكم على الخصمين بالرضا بحكمه قبل أن يحكم بينهما (؛ العاملي، الروضة البهية: 1 / 238)
…
ومن أراد منهما ضبط ما يحتاج إليه أشهد عليه
(4)
البابرتي، العناية الهداية: 5 / 502؛ ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء:1 / 432؛ أحمد بن عبد الله القاري، مجلة الأحكام الشرعية، م: 2095 مع هـ 5.
3-
محل التحكيم
بعد استقراء الآراء المتنوعة في الفقه الإسلامية، يمكن القول بأن (ما يجري فيه التحكيم) يخضع لاتجاهين مختلفين:
1-
الاتجاه الأول: يغلب في التحكيم جانبه الرضائي المستند على إرادة أطرافه، فلا يجيز التحكيم فيما لا تملكه هذه الإرادة (1) ؛ لأن التحكيم بمنزلة الصلح (2) ويمثل هذا الاتجاه: الحنفية (3) ، وظاهر الروايات في مذهب مالك (4) ، وهو وجه من طريق في مذهب الشافعي (5) ، وبه أخذ القاضي من الحنابلة (6) .
وبناء على ذلك: لا يصح التحكيم، عن الحنفية، في الحدود أو القصاص أو فيما يجب من الدية على العاقلة، وكذلك لا يصح التحكيم في اللعان؛ لأنه يقوم مقام الحد (7) .
وعند المالكية: يجوز التحكيم في الأموال والجراحات، ويمتنع في الحدود والقصاص والولاء والنسب والرشد والسفه وأمر الغائب والحبس والطلاق واللعان والعتق والفسخ لنكاح ونحوه وما يتعلق بصحة العقد وفساده، (فلا يجوز التحكيم فيها لتعلق الحق فيها بغير الخصمين)(8) .
ولا يأتي التحكيم، عند الشافعية في حدود الله تعالى: إذ ليس لها طالب معين، (وفي وجه من طريق: يختص جواز التحكيم بمال؛ لأنه أخف دون قصاص ونكاح ونحوهما كلعان وحد قذف، لخطر أمرها، فتناط بنظر القاضي ومنصبه) (9) .
(1) علاء الدين الطرابلسي، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، بولاق مصر: 1300 هـ، ص 27: (يصح التحكيم فيما يملكان فعل ذلك بأنفسهما
(2)
نفس المرجع السابق، ص 28 نقلًا عن الخصاف: (
…
لأن حكم المحكم بمنزلة الصلح، فكل ما يجوز استحقاقه بالصلح يجوز التحكيم فيه، وما لا فلا)
(3)
ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 26؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 7 / 3
(4)
ابن فرحون، تبصرة الحكام: 1 / 2 – 44؛ الدردير: الشرح الصغير: 4 / 198 – 199. قال ابن عرفة: ظاهر الروايات أنه يجوز التحكيم فيما يصح لأحدهما ترك حقه فيه.
(5)
الشربيني الطيب، مغني المحتاج: 4 / 379
(6)
ابن مفلح، كتاب الفروع: 6 / 440؛ ابن قدامة، المغني: 11 /484
(7)
ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 26؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 7 / 3
(8)
الدردير، الشرح الصغير: 4 / 198 – 199. وقارن: تبصرة الحكام: 1 / 43 – 44
(9)
الشربيني الخطيب، مغني المحتاج، 4 /379
وفي الفقه الحنبلي: (قال القاضي: وينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء: النكاح واللعان والقذف والقصاص؛ لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها، فاختص الإمام بالنظر فيها، ونائبه يقوم مقامه)(1) .
2-
والاتجاه الآخر: يغلب في التحكيم جانب السلطة التي يستمدها المحتكم إليه من اتفاق التحكيم وصلاحيته للقضاء، فيجيز التحكيم في جميع الأمور.
ويظهر هذا الاتجاه بوضوح في الفقه الحنبلي، حيث يعتبر أن المحتكم إليه حاكم نافذ الأحكام، فإن حكم (نفذ حكمه في كل ما ينفذ فيه حكم من ولاه إمام أو نائبه، حتى في الدماء والحدود والنكاح واللعان وغيرها، حتى مع وجود قاض)(2) .
وعند المالكية: إن حكم المحتكم إليه في الأمور التي لا يجوز له الحكم فيها – بأن جعل فيه حكمًا – فحكم صوابًا مضى حكمه ولا ينقض؛ لأن حكم المحكم يرفع الخلاف (3) .
والصحيح – عند الشافعية – جواز التحكيم في المال والقصاص والنكاح واللعان وحد القذف؛ (لأن من صح حكمه في مال صح في غيره، كالمولى من جهة الإمام)(4) .
وفي شرائع الإسلام: (لو تراضى خصمان بواحد من الرعية، وترافعا إليه، فحكم بينهما، لزمهما الحكم
…
ويعم الجواز كل الأحكام) (5) .
(1) ابن قدامة، المغني: 11 / 484
(2)
الرحيباني، مطالب أولي النهى: 6 / 471 – 472؛ ابن قدامة، المغني: 11 / 484
(3)
الدردير، الشرح الصغير: 4 / 199 – 200
(4)
الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 / 379
(5)
الحلي، شرائع الإسلام، تحقيق عبد الحسين محمد علي، النجف: 1389هـ، 1969 م، ق4 ص 68
المبحث الثالث
طبيعة اتفاق التحكيم
مدى لزوم التحكيم – إلزامية الحكم – تنفيذ الحكم
1-
مدى لزوم التحكيم
المراد بمدى لزوم عقد التحكيم: مدى حرية أحد أطرافه في نقضه، وبعبارة أخرى: يجب أن يستمر الاتفاق على التحكيم بين الخصمين، وأن يستمر اتفاقهما مع المحتكم إلى حين انتهائه من المهمة التي أسندت إليه بإصداره الحكم؟
يبدو أن الفقهاء قاسوا عقد التحكيم على عقد الوكالة، وهو عقد غير لازم، فذهبوا إلى أن الأصل في التحكيم عدم اللزوم، بمعنى: أن كل واحد من المتنازعين يجوز له نقض التحكيم، وأن المتنازعين يمكنهما عزل المحتكم إليه وأن المحتكم إليه يستطيع عزل نفسه، وفي كل حالة من هذه الحالات ينتقض العقد ولا يكون للتحكيم أثر.
غير أن هؤلاء الفقهاء قد وضعوا لذلك ضوابط تضمن استقرار التعامل وتؤدي إلى احترام العقود.
فعند الحنفية: يجوز لكل واحد من الخصمين الرجوع عن التحكيم، كما يجوز لهما ذلك مجتمعين، وفي هذا عزل للمحتكم إليه، بشرط أن يكون الرجوع قبل صدور الحكم، وبعد صدور الحكم لا يكون لهذا الرجوع أثر، ويظل الحكم قائمًا؛ لأنه صدر عن ولاية شرعية للمحكم، كالقاضي الذي يصدر حكمه، ثم يعزله من ولاه (1) .
وتشعبت الآراء في مذهب مالك، فبينما يرى سحنون ضرورة دوام الرضاء بالتحكيم إلى حين صدور الحكم، يرى ابن القاسم ومطرف وأصبغ أن جواز الرجوع مشروط بعدم البدء في الخصومة وإقامة البينة أمام محتكم إليه، وقال ابن الماجشون: ليس لأحدهما أن يرجع مطلقًا في اتفاق التحكيم (2) .
والمذهب عند الشافعية – أن رضا الخصمين هو المثبت للولاية، (واشترط استدامة الرضا إلى تمام الحكم، وحينئذ، إن رجع أحدهما قبل تمام الحكم، ولو بعد إقامة البينة والشروع فيه، امتنع الحكم، لعدم استمرار الرضا)(3) .
(1) ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 26؛ ابن الهمام، فتح القدير: 5 / 500
(2)
ابن فرحون، تبصرة الحكام: 1 /43؛ الحطاب، مواهب الجليل: 6 / 112.
(3)
الشريبني الخطيب، مغني المحتاج: 4 /379؛ ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء: 1 /429.
(وفيه وجه بعيد: أنهما إذا رضيا أولًا، فلما خاض رجع أحدهما، لم يؤثر رجوعه ونفذ الحكم، وهذا الوجه حكاه الإمام واستبعد، وحكاه الماوردي عن أبي سعيد الإصطخري ولم يستبعده)(1) .
وعند الحنابلة: (لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم؛ لأنه لا يثبت إلا برضاه، فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن الحكم لم يتم، أشبه قبل الشروع. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع، فبطل المقصود به)(2) .
إلزامية الحكم
يكاد يتفق الفقهاء على أن حكم المحتكم إليه يلزم الخصمين بدون حاجة إلى رضاء جديد، مثله في ذلك مثل حكم القاضي (3) . (واختيار المزني: أنه لا يلزم حكمه ما لم يتراضيا بعد الحكم، لضعفه) (4) .
وإلزامية الحكم تقتصر على الخصمين فلا تتعداهما إلى غيرهما؛ لأن مصدر الحكم اتفاقهما على التحكيم، وهو اتفاق لا يمتد أثره إلى الغير (5) .
3-
تنفيذ الحكم
أثر التحكيم يظهر في لزوم الحكم ونفاذه، نتيجة للولاية التي نشأت من اتفاق التحكيم، فإذا رضي الخصمان بالحكم فإنهما يقومان بتنفيذه، وإذا سخطه أحدهما أو كلاهما فيكون مرد الأمر إلى القضاء، الذي يختص – بما له من الولاية العامة – بتنفيذ الأحكام.
وقد اختلف الفقهاء في مدى سلطة القضاء إذا رفع إليه حكم المحتكم إليه:
فعند الحنفية: لا يجيز القاضي على أن يأمر بتنفيذ هذا الحكم، بل ينظر فيه، فإن وجده يوافق مذهبه أخذ به وأمضاه، ويكون إمضاؤه بمنزلة الحكم – ابتداء – في هذا النزاع، وإن وجده يخالف مذهبه، كان له الخيار: إن شاء أمضاه وأمر بتنفيذه، وإن شاء أبطله (6) .
(1) ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء: 1 / 430.
(2)
ابن قدامة، المغني: 11 / 84، وفي نفس المعنى: مطالب أولي النهى: 6 / 472
(3)
ابن نجيم البحر الرائق: 7 / 26 – 27؛ ابن فرحون، تبصرة الحكام: 1 /3؛ الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 / 379؛ ابن قدامة، المغني: 11 /484
(4)
ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء: 1 / 329
(5)
ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 26؛ الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 /379؛ البهوتي، كشاف القناع: 6 /303.
(6)
ابن عابدين، حاشية: 5 /431؛ ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 27
وعند المالكية: لا يجوز للقاضي أن ينظر في حكم المحتكم إليه، بل يمضي حكمه ويأمر بتنفيذه، ولا ينقضه إلا إذا كان جورًا بينًا، وسواء في ذلك أكان هذا الحكم يوافق مذهبه أم كان مخالفًا له؛ (لأن حكم المحكم يرفع الخلاف)(1)
وعند الشافعية والحنابلة: لا يجوز للقاضي أن ينقض حكم المحتكم إليه إلا بما ينقض به قضاء غيره من القضاة (2) .
التحكيم بين الزوجين:
إذا تضرر أحد الزوجين أو كلاهما، وتكررت الشكوى، مع العجز عن إثبات الضرر، فينبغي بعث حكمين، استنادًا إلى قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] .
وقد اختلف الفقهاء في تحديد طبيعة هذا النوع من التحكيم ومدى السلطة المخولة للحكمين، على رأيين:
الرأي الأول: أن الحكمين وكيلان عن الزوجين، فلا يجوز لهما التفريق إلا بإذن الزوجين، وهذا رأي الحنفية (3) ، وقول في مذهب مالك (4) ، والأظهر عند الشافعية (5) ، والصحيح من المذهب عند الحنابلة (6) ، وهو رأي القاضي من الجعفرية (7) خلافًا للمشهور عندهم من أن (بعثهما يكون تحكيمًا، لا توكيلًا)(8) ، وإن كانت النتيجة واحدة؛ لأن الحكمين (إن اتفقا على التفريق لم يصح إلا بإذن الزوج في الطلاق، وإذن الزوجة في البدل إن كان خلعًا؛ لأن ذلك هو مقتضى التحكيم)(9) .
والرأي الآخر: أن الحكمين طريقهما الحكم، لا الوكالة ولا الشهادة، ولو كانا من جهة الزوجين، ويلزم من ذلك: أنهما إذا حكما بالتفريق، نفذ حكمهما بدون حاجة إلى رضاء الزوجين أو مراجعة القاضي. وهذا هو المشهور من مذهب مالك (10) ، والقول الآخر للشافعي (11) ، والرواية الثانية عند الحنابلة (12) .
(1) الدردير، الشرح الصغير: 4 / 199 – 200؛ الحطاب، مواهب الجليل: 6 / 112.
(2)
الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 / 379: (
…
ويمضي حكم المحكم كالقاضي، ولا ينقض حكمه إلا بما ينقض به قضاء غيره) ؛ ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء: 1 / 429: (
…
ولو رفع رحكمه إلى حاكم أجراه على وفق الشرع، كغيره من القضاة) ؛ الرحيباني، مطالب أولي النهى: 6 / 471: (
…
ولا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض فيه حكم من له ولاية، كنائب إمام) ؛ ابن قدامة، المغني: 11 /484 (إذا كتب هذا القاضي (المحتكم إليه) بما حكم به كتابًا إلى قاض من قضاة المسلمين، لزمه قبوله وتنفيذه كتابه؛ لأنه حاكم نافذ الأحكام، فلزم قبول كتابه كحاكم الإمام) .
(3)
ابن الهمام، فتح القدير: 3 /223.
(4)
الدسوقي، حاشية على الشرح الكبير: 2 /346
(5)
الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 3 / 261
(6)
المرداوي، الإنصاف: 8 / 280
(7)
العاملي، الروضة البهية: 2 / 134
(8)
العاملي، الروضة البهية: 2 / 134
(9)
العاملي، المرجع الساق: نفس الموضع
(10)
الدسوقي، حاشية على الشرح الكبير: 2 / 346 - 347
(11)
الشربيني للخطيب، مغنى المحتاج: 3 / 261؛ الشيرازي، المهذب: / 74.
(12)
ابن قدامة، المغنس: 8 / 168 (والثانية: أنهما حاكمان، ولهما أن يفعلا ما يريان من جمع وتفريق، بعوض وغير عوض، ولا يحتاجان إلى توكيل الزوجين ولا رضاهما
المبحث الرابع
أنواع خاصة من التحكيم
احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية – احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية – التحكيم في قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين في غير البلاد الإسلامية.
1-
احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية
يقتضي بحث هذا الموضوع التطرق إلى أمرين، الأول: هل تمتد ولاية القاضي المسلم لتشمل قضايا غير المسلمين؟ والآخر: إذا امتدت ولاية القاضي المسلم لهذه القضايا، فبأي شرع يحكم؟
أولًا: ولاية القاضي المسلم على غير المسلمين:
تحكم ولاية القاضي المسلم على غير المسلمين قاعدتان جوهريتان: إحداهما عامة، تتمثل في قول الفقهاء:(لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ، والأخرى خاصة، تتمثل في قولهم:(أمرنا بتركهم وما يدينون) .
ومقتضى القاعدة الأولى: أن يلتزم غير المسلم بأحكام وقوانين وتقاليد البلد الذي يوجد فيه، وبالتالي يخضع لقضاء هذا البلد: جنائيًّا كان أم مدنيًّا، مثله في ذلك مثل المسلم سواء بسواء (1) . وعلى هذا جرى العمل في صدر الإسلام، ففي كتاب عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر:(وبالله الذي لا يحلف بأعظم منه، إني لأقيم الحدود في صحن داري، على المسلم والذمي)(2) . وجاء في كتب التاريخ: (وفي عام 120هـ، ولي قضاء مصر: خير بن نعيم، فكان يقضي في المسجد بين المسلمين، ثم يجلس علي باب المسجد بعد العصر، فيقضي بين النصارى، ثم خصص القضاة للنصارى يومًا يحضرون فيه إلى منازل القضاة ليحكموا بينهم حتى جاء القاضي محمد بن مسروق الذي ولي قضاء مصر عام 177 هـ فكان أول من أدخل النصارى في المسجد ليحكم بينهم)(3) .
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 7 / 134؛ الحطاب، مواهب الجليل: 3 / 355؛ الشيرازي، المهذب: 2 / 358؛ ابن قدامة، المغني: 10 / 4390
(2)
محمد عطية خميس، الشريعة الإسلامية والأجانب في دار الإسلام، القاهرة: 1978، ص 14 نقلًا عن: الرياض النضرة في مناقب العشرة، للإمام الطبري.
(3)
الكندي، كتاب الولاة والقضاء، ص 351، 390؛ ابن حجر، رفع الإصر عن تاريخ قضاة مصر: 1 /132
ومقتضى القاعدة الثانية: ألا يكلف غير المسلمين بما له صبغة تعبدية أو دينية في نظر الإسلام، مثل الجهاد والزكاة، وليس للحاكم المسلم أن يمنعهم مما أحله لهم دينهم – وقد حرمه الإسلام – مثل شرب الخمر وأكل الخنزير، ولا يتدخل القاضي المسلم فيما يعتقدون حله من أمور الزواج والطلاق والميراث والوصية وغير ذلك من الأحوال الشخصية. وفي ذلك: أرسل عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري،يسأله: لماذا نترك النصارى يأكلون الخنزير ويشربون الخمر، ونترك المجوس يتزوجون بناتهم؟ فرد عليه الحسن: على هذا دفعوا الجزية، وعلى هذا أقرهم السلف، وإنما أنت متبع لا مبتدع (1)
وفي هذه الأحوال الشخصية، كان الذميون يلجئون إلى رؤساتهم الروحيين، يحتكمون إليهم فيما شجر بينهم، فكان هؤلاء الرؤساء يقومون بدور القضاة، وقد ألفوا كثيرًا من كتب القانون تتضمن الأحكام التي تتناسب ومعتقداتهم في مسائل الزواج والميراث وفي بعض المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم ولا تمس الدولة أو النظام العام، وفي الأندلس: كان النصارى يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، ولا يلجئون للقاضي المسلم إلا في مسائل القتل (2) .
ويبدو أن هذه الأحكام الكنسية لم يكن لها قوة الإلزام إلا من الناحية الدينية، نلحظ ذلك في تحليل عبارات الفقهاء:(ولا يجوز أن يقلد الكافر القضاء على المسلمين ولا على الكفار، وقال أبو حنيفة: يجوز تقليده القضاء بين أهل دينه. هذا وإن كان عرف الولاة بتقليده جاريًا، فهو تقليد زعامة ورئاسة، وليس بتقليد حكم وقضاء، وإنما يلزمهم حكمه لالتزامهم له، لا للزومه لهم. ولا يقبل الإمام قوله فيما حكم به بينهم، وإذا امتنعوا من تحاكمهم إليه لم يجبروا عليه، وكان حكم الإسلام عليهم أنفذ)(3) .
ولنا أن نفهم من قوله: (وإنما يلزمهم حكمه لالتزامهم له، لا للزومه لهم) أن هذا يكون نوعًا من التحكيم، فيخضع للأحكام التي سبق إيرادها في المبحث الثالث.
يبقى بعد ذلك أن نعرض لحكم ما إذا ترافع غير المسلمين إلى محاكم إسلامية في الأمور التي يختصون بها. وقد ميز الفقهاء في هذه المسألة بين الذميين (رعايا الدولة الإسلامية) ، وبين المعاهدين (الأجانب الذين سمح لهم بالدخول مدة محددة) .
(1) محمد عطية خميس، المرجع السابق، ص 52 والمراجع التي أشار إليها
(2)
يوسف القرضاوي، غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، مكتبة وهبة، القاهرة، ص 40 – 42 مع هـ، نقلًا عن: آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري.
(3)
الموردي، الأحكام السلطانية: 65 / 66
ففيما يتعلق بالمعاهدين: يكاد يتفق الفقهاء على ضرورة اتفاق المتنازعين ورضاهما بحكم القاضي المسلم، وفي هذه الحالة يكون للقاضي الخيار بين قبول الدعوى والحكم بيها، وبين رفض الدعوى فيرجعون إلى قضاء بلدهم، وحجتهم في ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] . حيث نزلت هذه الآية لبيان حكم المعاهدين (1) . ولا يشترط أبو يوسف ومحمد وزفر رضا الخصمين، فإذا رفع أحدهما الدعوى أمام القاضي المسلم وجب عليه أن يفصل فيها (2) .
وفيما يتعلق بالذميين: يشترط أبو حنيفة رضاء الخصمين برفع الدعوى أمام القاضي المسلم، أما أصحابه: أبو يوسف ومحمد وزفر فلا يشترطون هذا التراضي، كما هو الأمر بالنسبة للمعاهدين (3) . عند المالكية: لا بد من رضاء الخصمين باللجوء إلى القاضي المسلم، وحينئذ يكون له الخيار أن يحكم بينهما أو أن يعرض عنهما (4) . عند الشافعية: يرى البعض اعتبار رضاء الخصمين، (ولكن عامة كلام الأصحاب على اعتبار رضا واحد إذا استعدى على خصمه) . فإن كان الذميان متفقين في الملة – كنصرانيين – وجب علينا الحكم بينهما – في الأظهر – لأنه يجب على الإمام منع الظلم عن أهل الذمة، ومقابل الأظهر: لا يجب، بل يتخير.
أما إذا اختلفت ملتهما – كيهودي ونصراني – فإن الحكم يجب بينهما جزمًا (5) .
وفي الفقه الحنبلي: (إن تحاكم بعضهم مع بعض، أو استعدى بعض على بعض: خير الحاكم بين الحكم بينهم والإعراض عنهم)(6) . وفي الفروع: (وإن تحاكم إلينا ذميان، فعنه: يلزم الحكم
…
وعنه: إن اختلفت الملة. وعنه: يخير إلا في حق آدمي. والأشهر وفيه كمستأمنين، فيحكم ويعدي بطلب أحدهما. وعنه: باتفاقهما كمستأمنين. وفي الروضة – في إرث المجوس – يخير إذا تحاكموا إلينا، واحتج بآية التخيير (7) . وظاهر ما تقدم: أنهم على الخلاف؛ لأنهم ذمة) (8) . فنخلص من ذلك إلى أن الصحيح عند الحنابلة: أن الحاكم مخير سواء رضي الخصمان به أو استعدى أحدهما على خصمه، وسواء اتفقت ملتهما أو اختلفت (9) .
(1) ابن العربي، أحكام القرآن: 2 / 619؛ البيهقي، أحكام القرآن للإمام الشافعي: 2 / 73؛ الفخر الرازي، التفسير الكبير: 11 / 235؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 6 / 184؛ محمد عبده، تفسير المنار: 3 / 325؛ وانظر: مالك، المدونة الكبرى: 4 / 161؛ الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 3 / 195؛ منصور بن إدريس، كشاف القناع: 1 / 731
(2)
ابن الهمام، فتح القدير: 2/ 504؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 2 / 312
(3)
الرازي الجصاص، أحكام القرآن: 2 / 435 – 436؛ ابن الهمام، فتح القدير: 2 / 504 – 505
(4)
القرطبي، الجامع القرآن: 6 / 184 – 185؛ مالك، المدونة الكبرى: 4: 161
(5)
الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 3 / 195
(6)
ابن قدامة، المغني: 10 / 623 – 624؛ والشرح الكبير: 10 / 631
(7)
المائدة:42
(8)
ابن مفلح، كتاب الفروع، القاهرة: 1388 هـ 1967 م، ج 6، ص 281
(9)
المرداوي، تصحيح الفروع، أسفل كتاب الفروع السابق: 6 / 282 (الرواية الرابعة: يخير في حق آدمي وغيره، قال المصنف: وهو الأشهر، وكذا قال في المحرر. قال الزركشي: هو المشهور: وجزم به في المذهب والخلاصة والمقنع والوجيز وغيرهم. وقدمه في المغني والشرح والرعايتين والحاويين وغيرهم. قلت: وهذا هو الصحيح من المذهب
ثانيًا: القانون الواجب تطبيقه على غير المسلمين:
لا خلاف بين علماء المسلمين – من أهل التفسير أو الفقه – على أن القاضي المسلم لا يجوز له أن يحكم بغير الشريعة الإسلامية – سواء أكان ذلك بين المسلمين أم كان بين غير المسلمين، وذلك لقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]، وقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] ؛ ولأن الأصل في الشرائع هو العموم في حق الناس كافة، إلا أنه تعذر تنفيذها في دار الحرب لعدم الولاية، وأمكن في دار الإسلام فلزم التنفيذ فيها (1) .
ولكن القاضي في تطبيقه لأحكام الشريعة الإسلامية على غير المسلمين، يراعي القواعد والأحكام التي نص عليها الفقهاء، تطبيقًا لقاعدة (أمرنا بتركهم وما يدينون) ، باعتبارها قواعد موضوعية في الشريعة الإسلامية وليست قواعد إسناد تحيل إلى شريعتهم أو إلى قانون آخر غير الشريعة الإسلامية (2) .
وعلى ذلك: ذهب الحنفية إلى أن أحكام الإسلام تجري على غير المسلمين – كما تجري على المسلمين – فيما عدا الأنكحة ونفي المهر وتمليك الخمر والخنزير وتملكهما، فقد وضعوا لها قواعد موضوعية تفصيلية، يمكن الرجوع إليها في مظانها (3) . وعند المالكية: أنهم يقرون على أنكحتهم، وإن كانت فاسدة في ذاتها، ولا يمنعون من الزواج بالبنات والأمهات، على تفصيل في كتبهم (4) .
وقد فصل الشافعية أحكام أهل الذمة في عدة مواضع من كتبهم، بما لا يخرج في الجملة عما سبق إيراده (5) . ولا يختلف الأمر كثيرًا عند الحنابلة (6) .
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 2 / 311 نقلًا عن أبي يوسف يعقوب؛ وانظر: ابن العربي، أحكام القرآن: 2 / 619؛ البيهقي، أحكام القرآن للإمام الشافعي: 2 / 73؛ الطبري، جامع البيان: 6 / 268؛ الفخر الرازي، التفسير الكبير: 12 / 11؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 6 / 186؛ مالك، المدونة الكبرى: 4 / 162؛ الشافعي، الأم، 4 / 130؛ ابن قدامة، المغني: 10 / 624
(2)
عبد الكريم زيدان، نظام القضاء في الشريعة الإسلامية، بغداد: 1984، ص 28 فقرة 31، وص 254
(3)
ابن الهمام، فتح القدير: 2 / 483 – 504؛ السرخسي، المبسوط: 5 / 38؛ الفتاوى الهندية: 1 / 337؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 2 / 311
(4)
الإمام مالك، المدونة الكبرى: 4 / 162؛ الخرشي، شرح على مختصر خليل وحاشية العدوي عليه: 3 / 149؛ الدردير، الشرح الصغير: 2 / 422، 374، 4 / 103، 140، 331، 582؛ الزرقاني، شرح على مختصر خليل، وحاشية البناني عليه: 3 / 146، 8 / 178، 200
(5)
الشافعي، الأم: 4 /130 –133؛ الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 3 / 195 – 196؛ قليوبي وعميرة على المحلى على المنهاج: 3 / 32،43، 88، 100، 159، 256
(6)
ابن قدامة، المغني: 10 / 624؛ والشرح الكبير: 10 / 631؛ ابن مفلح، كتاب الفروع، وتصحيح الفروع للمرداوي: 6 / 269 – 289
2-
احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية
احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية – في الوقت الراهن – من الأمور التي عمت بها البلوى، فأغلب البلاد الإسلامية واقعة تحت تأثير خارجي شرس يمنعها من تطبيق الشريعة الإسلامية، فالقضاة الذين يحكمون على المسلمين منهم المسلم وغير المسلم، والقانون الذي يحكم به على المسلمين خليط من قواعد إسلامية وغير إسلامية، وهذه الدول الإسلامية ترتبط بمواثيق ومعاهدات دولية، وتسري عليها أحكام ومبادئ القانون الدولي وقرارات المنظمات الدولية. وتقدر بعض المصادر الإسلامية عدد المسلمين الذين يعيشون في دول غير إسلامية – سواء كانوا ينتمون بجنسيتهم إلى تلك الدول أو إلى دول أخرى أو كانوا من رعايا الدول الإسلامية – بنحو 230 مليون مسلم، ويعتقد بعض الباحثين أن هذا العدد قد يصل إلى حوالي ثلث مليار نسمة (1) .
وإزاء هذا الوضع، لا يسهل الأخذ بالحلول التقليدية التي وضعها الفقهاء إبان وحدة العالم الإسلامي وعزته، من نحو وجوب الهجرة على من يقدر عليها، وإقامة الحدود أو التعامل بالربا في دار الحرب
…
ونحو ذلك (2) . وإنما ينبغي مساندة الهيئات والمنظمات الإسلامية والإنسانية التي تهتم بأوضاع الشعوب الإسلامية التي لم تستقل بعد، والتي تعمل على تمتع الأقليات المسلمة بحقوقها السياسية والدينية الاجتماعية، وقد نص الشافعية على أن: من يقدر على إظهار دينه في دار الحرب، ويقدر على الاعتزال في مكان خاص، والامتناع من الكفار، فهذا تحرم عليه الهجرة؛ لأن مكان اعتزاله صار دار إسلام بامتناعه، فيعود بهجرته إلى حوزة الكفار، وهو أمر لا يجوز (3) .
إذا تقرر ذلك، فإن احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية يدخل في باب الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، وحينئذ يرخص للمسلم في الاحتكام إلى محاكم غير إسلامية، باعتباره نوعًا من التحكيم الفاسد، الذي ينفذ لموافقة الحكم قواعد القانون الطبيعي، ومبادئ العدالة (4) .
التحكيم في قضايا الأحوال الشخصية
للمسلمين في غير البلاد الإسلامية
والحديث موصول بالمسألة السابقة، ولكن خصوصية قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين تتطلب وقفة متأنية، ذلك أن أحكام الزواج والطلاق والنسب والمحرمات من النساء، وعدة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها وتوزيع التركات ونحو ذلك، قد ثبتت بنصوص من الكتاب والسنة، ومجال اجتهاد الفقهاء فيها محدود، فهي أقرب اتصالًا بالعقيدة، والفصل فيما ينشأ عنها من نزاع يقتضي الكثير من الخشية والاحتياط.
(1) عبد الله الأشعل، أصول التنظيم الإسلامي الدولي، القاهرة: 1988، ص 329 – 330، والمراجع التي أشار إليها في هامش 3
(2)
الكاساني، بدائع الصنائع: 7 / 30 – 31 ح الخرشي علي خليل: 3 / 226؛ الرملي؛ نهاية المحتاج: 8 / 82؛ المرداوي، الإنصاف: 4 / 121
(3)
الرملي، نهاية المحتاج: 8 / 82؛ النووي، روضة الطالبين: 10 / 6
(4)
قرب: فتوى الشيخ محمد رشيد رضا عن مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند، التي أثبتها في تفسير المنار: 6 / 335 – 338؛ وقد قرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني – ط دار الكتب المصرية – ج 8 ص 303 بمناسبة ترجمة الشاعر النصراني (الأخطل) تحت عنوان (كان حكم بكر بن وائل) ما يلي: أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا الخراز عن المدائني، قال: قال أبو عبد الملك: كانت بكر بن وائل إذا تشاجرت في شيء رضيت بالأخطل، وكان يدخل المسجد فيقدمون إليه. (كذلك قرأت في كتاب) مصر في العصور الوسطى من الفتح العربي إلى الفتح العثماني (لعلي إبراهيم حسن، الطبعة الثانية: 1949 م، ص 303، أنه: إذا حدث نزاع بين مسلم وقطبي، تقدم المتقاضون إلى مجلس مؤلف من قضاة يمثلون الفريقين المتنازعين.
والمسلمون الذين يعيشون في بلاد غير إسلامية على ضربين:
1-
أقليات إسلامية تتمتع بقدر من الاستقلال الداخلي أو الحكم الذاتي، إما بنص أو معاهدة، وإما بحكم الأمر الواقع: وهؤلاء ينبغي عليهم إقامة نظام قضائي شرعي، ويكون تعيين قضاتهم إما بتولية من كبيرهم (شيخ الإسلام – أمير الجماعة – الحاكم) ، وإما بتولية مباشرة من رئيس الدولة أو نائبه (غير المسلم) ، وإما باتفاق من الجالية الإسلامية على شخص تتوافر فيه صفات القاضي ليحكم بينهم، وأما بأي طريق آخر يتناسب وأوضاعهم.
وقد نص الفقهاء على صحة هذه التولية، ومن ذلك ما جاء في فتح القدير:(إذا لم يكن سلطان ولا من يجوز التقلد منه – كما هو في بعض بلاد المسلمين غلب عليهم الكفار، أقروا المسلمين عندهم -.. يجب عليهم أن يتفقوا على واحد منهم يجعلونه واليًا، فيولي قاضيًا ليقضي بينهم، أو يكون هو الذي يقضي بينهم)(1) . وفي قواعد الأحكام: (لو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر: إنفاذ ذلك كله؛ جلبًا للمصالح العامة ودفعًا للمفاسد السابقة)(2) . وفي تبصرة الحكام: (القضاء ينعقد بأحد وجهين: أحدهما عقد أمير المؤمنين .... والثاني: عقد ذوي الرأي وأهل العلم والمعرفة والعدالة لرجل منهم، كملت فيه شروط القضاء للضرورة الداعية إلى ذلك)(3) . وفي الأحكام السلطانية: (لو اتفق أهل بلد – قد خلا من قاض – على أن قلدوا عليهم قاضيًا – فإن كان إمام الوقت موجودًا بطل التقليد، وإن كان مفقودًا صح التقليد، ونفذت أحكامه عليهم)(4) .
2-
أقليات إسلامية في بلاد لا يسمح نظامها بغير قضاء الدولة: وهؤلاء ليس أمامهم إلا الالتجاء إلى التحكيم، فيختارون مسلمًا عدلًا عالمًا بالشرع يفصل في قضاياهم المتعلقة بالأحوال الشخصية، وغالبًا ما تتولى هذه المهمة اتحاداتهم أو روابطهم أو جمعياتهم أو المراكز الثقافية الإسلامية لديهم. وبعد صدور حكم المحتكم إليه، إما أن ينفذ الأطراف من تلقاء أنفسهم، بدافع من الإيمان أو بتأثير من الجماعة، وإما أن يرفع الحكم إلى القضاء ليأخذ صبغة تنفيذية.
والواقع أن نظام التحكيم – في كثير – من صوره – أصبح الآن معترفًا به في معظم الدول، ولا يتعرض عليه القضاء إلا إذا خالف النظام العام أو حسن الآداب.
(1) ابن الهمام، فتح القدير: /461.
(2)
عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1 / 81
(3)
ابن فرحون، تبصرة الحكام: 1 / 15
(4)
الماوردي، الأحكام السلطانية 76. ابن أبي يعلى، الأحكام السلطانية: 73
المبحث الخامس
التحكيم الدولي
محكمة العدل الدولية – احتكام المسلمين في نزاعاتهم مع غيرهم إلى المحكمة الدولية – احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعاتهم مع بعضهم - محكمة العدل العربية - محكمة العدل الإسلامية.
1-
محكمة العدل الدولية
لا يتسع المقام في هذه العجالة لحديث شامل عن محكمة العدل الدولية فمحل ذلك في الدراسات الخاصة بالقانون الدولي العام (1) ، وقد أرفقنا بهذا البحث النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. كل ما يعنينا – هنا – هو استعراض بعض العناصر الأساسية المكونة لهذه المحكمة حتى نقف على مدى مشروعية الالتجاء إليها من وجهة النظر الإسلامية.
أولًا – مبدأ التحكيم الدولي:
اتفاق دولتين أو وحدتين سياسيتين على اختيار من يفصل في نزاعهما وبيان إجراءات التحكيم، أمر عرفه الإسلام وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما عرف بوثيقة المدينة المنورة، وبين المسلمين كأمة، واليهود كطائفة لها ذاتيتها، وقد جاء في هذه الوثيقة (2) :(وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حديث، أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله) . كذلك تم تطبيقه فيما بين المؤمنين كأمة وبين نصارى نجران كوحدة مستقلة (3) . وقبل النبي صلى الله عليه وسلم تحكيم سعد بن معاذ بينه والمسلمين – من جهة – وبين يهود بين قريظة – من جهة أخرى (4) .
(1) إبراهيم محمد العناني، اللجوء إلى التحكيم الدولي، القاهرة: 1973؛ حامد سلطان، القانون الدولي العام في وقت السلم، ط 6، القاهرة: 1976؛ الشافعي محمد بشير، القانون الدولي العام في السلم والحرب، ط 3، القاهرة: 1979؛ عبد العزيز سرحان، مبادئ القانون الدولي العام، القاهرة: 1975؛ علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام، ط 11، الإسكندرية: 1975؛ محمس الشيشكلي، الوسيط في القانون الدولي العام، بنغازي: 1973؛ محمد منصور الصاوي، أحكام القانون الدولي، الإسكندرية: 1984
(2)
محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ط 4، بيروت: 1983، نقلًا عن كتب الحديث والسنن والمسانيد والسير
(3)
ابن قيم الجوزية، أحكام أهل الذمة، ط 2، بيروت: 1981: 1 / 3 وما بعدها
(4)
محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، الكويت: 1977، ص 451
ثانيًا – تشكيل المحكمة:
تتكون محكمة العدل الدولية من خمسة عشر قاضيًا، تختارهم الجمعية العامة ومجلس الأمن – بغض النظر عن جنسيتهم – من القائمة التي تتضمن أسماء من ترشحهم الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، من بين الأشخاص ذوي الخلق الرفيع، المؤهلين في بلادهم لتولي أسمى درجات القضاء، أو من كبار فقهاء القانون الدولي، على أن يراعى تمثيلهم المدنيات الكبرى والنظم القانونية الرئيسية في العالم (1) . وتنعقد المحكمة بكامل هيئتها، ويجوز لها تشكيل دائرة تختص بنظر قضية بعينها، وفي هذه الحالة يتحدد عدد القضاة برضاء الطرفين المتنازعين (2) . وإذا كان أحد القضاة يتمتع بجنسية دولة طرف في النزاع المعروض أمام المحكمة فإن للطرف الآخر – إذا لم يكن من بين أعضاء هيئة المحكمة من يتمتع بهذه الجنسية – أن يختار قاضيًا وطنيًّا، تتوافر فيه الشروط، ليمثله في هيئة المحكمة (3) .
ونحن لا نرى ما يمنع من اعتماد محكمة العدل الدولية كأداة لفض المنازعات بين الدول، فقد ضم (حلف الفضول) قبائل من قريش تحالفت في دار عبد الله بن جدعان، لشرفه وسنه، وكانوا: بني هاشم، وبني المطلب، وبني أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتميم بن مرة، وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى ترد مظلمته، وقد قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بعثته -:((لقد شهدت مع عمومتي حلفًا في دار عبد الله بن جدعان، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت)) (4) .
ثالثا – اختصاص المحكمة:
يفهم من نص المادة 36 / 1: أن ولاية المحكمة يكون اختياريًّا، أي أنها لا تنظر إلا فيما يتفق أطراف النزاع على رفعه إليها، وتستثني الفقرة الثانية من نفس المادة أربع حالات تكون ولاية المحكمة فيها إجبارية، وهي:
أ- المنازعات القانونية الخاصة بتفسير معاهدة.
ب- أي سؤال يتعلق بالقانون الدولي.
ج- التحقيق في وقائع النزاع إذا كانت تخالف التزامًا دوليًّا.
د- طبيعة أو مقدار التعويض الناجم عن مخالفة التزام دولي.
(1) المواد: 2 /4 من نظام المحكمة
(2)
المادة: 52
(3)
المادة: 31
(4)
ابن الأثير، الكامل: 2 /41 – 42؛ ابن كثير، البداية: 2 / 290 – 293؛ والحديث أخرجه البيهقي في السنن: 6 / 367 من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف مرسلًا. وأورده الهيثمي في المجمع: 8 / 172 وقال: رجاله رجال الصحيح
ويتضح من ذلك أن اختصاص المحكمة لا يتعارض مع سيادة الدول؛ لأنه يتعلق بمنازعات مادية – كتعيين الحدود – أو مالية – كالتعويضات المختلفة – أو فنية – كتفسير المعاهدات وتطبيق القواعد القانونية -.
رابعًا – القانون الواجب التطبيق:
نصت المادة (38) على القواعد الواجب تطبيقها فيما يعرض عليها من منازعات وذلك على الترتيب الآتي:
أ- الاتفاقات الدولية، سواء كانت عامة أو خاصة، التي تقرر قواعد تعترف بها صراحة الدول المتنازعة.
ب- العادات الدولية المتواترة، المقبولة بمثابة قانون.
ج- المبادئ القانونية العامة التي اعترفت بها الأمم المتمدنة.
د- أحكام القضاء وآراء جهابذة القانونيين في مختلف الأمم، على أن يكون الاعتماد عليها بصفة تبعية.
وهذه القواعد إما أن تكون معترفًا بها صراحة من أطراف النزاع، وإما أن تمثل المبادئ العامة للقانون وقواعد العدالة، ولا نرى في ذلك ما يمنع من قبول الحكم الصادر تطبيقًا لها، وخاصة أن هذا الحكم يجب أن يصدر بأغلبية الآراء، بعد مداولة سرية، متضمنًا أسماء القضاة الذين أصدروه، ومذكرة برأي الأقلية، كما يجب ان يكون الحكم مسببًا وعلنيًّا.
2-
احتكام المسلمين في نزاعاتهم مع غيرهم إلى المحكمة الدولية
من التعليق السابق على بعض العناصر الأساسية المكونة لنظام محكمة العدل الدولية، لا نجد ما يمنع من احتكام المسلمين إليها – بعد دراسة شاملة لموضوع النزاع وأنه لا يتعلق بالسيادة الإسلامية – إذا كان الطرف الآخر في النزاع من غير المسلمين، وقد سبق أن أشرنا إلى ما ذكره المؤرخين من أنه: كان إذا حدث نزاع بين مسلم وقطبي، تقدم المتقاضون إلى مجلس مؤلف من قضاة يمثلون الفريقين المتنازعين.
3-
احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعهم مع بعضهم
جماع الحكم في هذه المسألة جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) } [الحجرات: 9 – 10] . فالإسلام لا يعترف بتقطع المسلمين شراذم أممًا، تدعي كل شرذمة منها استقلالًا سياسيًّا في دولة لها حدود مصطنعة، وتختار داخل هذه الدولة نظامًا خاصًّا بها يجعل من المسلمين الآخرين أجانب عنها، تطبق عليهم من القواعد مثل ما تفرضه على غير المسلمين أو أدنى.
ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز أن تتعدد الدول الإسلامية، بل لا بد من دولة للمسلمين واحدة، لها إمام واحد؛ لأن في تعدد الدول الإسلامية مظنة للنزاع والفرقة، وهذا منهي عنه بقوله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وقال أبو عبيد: المراد بالريح في الآية الكريمة هو الدولة (1) . ومقتضى ذلك: أن مسألة احتكام المسلمين في نزاعاتهم الداخلية إلى جهة أجنبية عنهم لا يتصور وقوعها.
ومع ذلك: فقد لاحظ بعض الفقهاء والمفكرين الإسلاميين الضرورة العملية لوجود أكثر من دولة إسلامية، لكل منها إمام مستقل. فقد قال البغدادي: (لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان، واجبي الطاعة
…
إلا أن يكون بين البلدين بحر مانع من وصول نصرة أهل كل واحد منهما إلى الآخرين، فيجوز حينئذ لأهل كل واحد منهما عقد الإمامة لواحد من أهل ناحيته) (2) . وقال إمام الحرمين:(عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخالف غير جائز، وقد حصل إجماع عليه. وأما إذا بعد المدى، وتخلل بين الإمامين شسوع النوى، فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع)(3) . وقال ابن حزم: (اتفق من ذكرنا على أنه: لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم
…
إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي وأصحابهما: فإنهم أجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد) (4) . ولما رأى أن أهل الأندلس أجازوا العقد لخلفاء متعددين، علق على ذلك قائلًا:(اجتمع عندنا بالأندلس في صقع واحد خلفاء أربعة، كل واحد منهم يخطب له بالخلافة بموضعه، وتلك فضيحة لم ير مثلها) وقال مثل ذلك عبد الواحد المراكشي: (وصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة: أربعة كلهم يتسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخًا في مثلها)(5) .
(1) الماوردي، الأحكام السلطانية: 7، 37
(2)
البغدادي، أصول الدين، بيروت: 1981، ص 274
(3)
الجويني، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، القاهرة: 1950، ص 425؛ وانظر جواهر الإكليل: 1 / 251؛ مغني المحتاج: 4 / 132
(4)
ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، القاهرة: 1317 – 1321 هـ، ج 4، ص 88
(5)
أحمد مختار العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس، مكتبة الأنجلو المصرية، ط 2: 1986،ص 279
فإذا أجيز تعدد الدول الإسلامية المستقلة، وثار نزاع بين بعضها البعض، فلا يجوز الحكم والفصل في هذا النزاع إلا على أساس من الشريعة الإسلامية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] .
وقد لاحظ الحكماء – بعد سقوط الخلافة – أن المسلمين قد انفرط عقدهم فانقسموا إلى دول متعددة، يخضع بعضها للنفوذ الأجنبي، وانشغل بعضها الآخر بمشكلاته الداخلية، وكثر بينها النزاع والشقاق، واعتدى بعضها على البعض الآخر، أو تدخل في شؤونه الخاصة، وتحالف كثير منها مع أعداء الإسلام والمسلمين، مستعينًا بهم على إخوته في العقيدة، فقامت عدة دعوات تناشد المسلمين العودة إلى وحدتهم التي نادى بها كتابهم الكريم:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] . ولكن المسلمين كانوا في شغل عن هذه الدعوات إلى (الجامعة الإسلامية) أو (المؤتمر الإسلامي) أو (الجمعية الإسلامية) ، فانعقدت المؤتمرات في القاهرة وفي مكة وفي القدس وفي باكستان وفي المغرب وفي ماليزيا، حتى تم الاتفاق – أخيرًا – على ميثاق ط منظمة المؤتمر الإسلامي (في جدة، بتاريخ 18 / محرم 1392 هـ 4 مارس 1972م (1) .
وفي ظل هذا التفكك، لجأ المسلمون – في نزاعاتهم مع بعضهم – إلى محكمة العدل الدولية أو إلى مجلس الأمن؛ لأن الدول الإسلامية تشكل ما يقرب من ثلث أعضاء هيئة الأمم المتحدة، وقد قبلت ميثاقها، وانضمت إلى المنظمات المنبثقة عنها، ونحن نرى أن التجاء الدول الإسلامية إلى القضاء أو التحكيم الدولي يدخل في باب الضرورة، حتى تضمن الحفاظ على مصالح شعوبها، وتؤمن تنفيذ العدالة بما لهيئة الأمم من سلطات أدبية أو مادية، حتى إذا ما قام البديل الإسلامي الفعال، فإن هذه الضرورة تنتفي بانتفاء أسبابها.
(1) صلاح عبد البديع شلبي، التضامن ومنظمة المؤتمر الإسلامي، القاهرة: 1987؛ عبد الله الأشعل، أصول التنظيم الإسلامي الدولي، القاهرة: 1988؛ محمد ضياء الدين الريس، الإسلام والخلافة في العصر الحديث، القاهرة: 1976
4-
محكمة العدل العربية
كنت الدول العربية تعي جيدًا أهمية إنشاء محكمة عدل عربية، لحل المنازعات التي تنشأ فيما بينها. ولكن ميثاق جامعة الدول العربية – الذي أعلن في مارس 1945 – لاحظ أن كثيرًا من الدول العربية لا يزال يرضخ لضغوط خارجية، لا تمكنه من حرية اتخاذ القرار، فاكتفى بتخويل مجلس الجامعة أن يقوم بحل المنازعات التي تنشأ بين أعضائه، عن طريق الوساطة أو التحكيم الذي قد يصدر عنه حكم يلزم أطراف النزاع، إذا تم بناء على طلبهم، وقد جاء في المادة (19) من الميثاق: (يجوز بموافقة ثلثي دول الجامعة تعديل هذا الميثاق، وعلى الخصوص لجعل الروابط بينها أمتن وأوثق، ولإنشاء محكمة عدل عربية.
وقد وجدت دول الجامعة أن الحاجة ماسة لإنشاء هذه المحكمة، وخاصة بعد أن لاحظ أن كثيرًا من المحكمين الأجانب ينظرون إلى قوانين الدول العربية نظرة ازدراء، ويطبقون قوانينهم تحت مسميات مختلفة.
1-
ففي قرار التحكم الذي أصدره اللورد Asquih of Bishoptone في النزاع بين إمارة أبو ظبي وشركة التنمية البترولية المحدودة (سنة 1951) طبق المحكم القانون الإنجليزي، بدعوى أنه يمثل المبادئ العامة في الدول المتحضرة، واستبعد قانون أبو ظبي) باعتباره قانونًا متخلفًا لا يمكن استخدامه لتفسير أو لحكم المعاملات التجارية الحديثة) إلى آخر ما زعمه (1)
2-
في سنة 1958: رفض المحكم G.Sauser Hall تطبيق القانون السعودي المستمد من الفقه الإسلامي، في النزاع بين شركة أرامكو والمملكة العربية السعودية، بدعوى (عدم احتوائه لأي حل للمشكلة المطروحة) وطبق على النزاع ما سمي بالمبادئ العامة للقانون (2) .
3-
وكذلك فعل قرار التحكيم الصادر في سنة 1977، بشأن النزاع بين الحكومة الليبية وبين شركتي Texaco Galasiatic، حيث تم استبعاد القانون الليبي بدعوى تعارضه أو مناقضته لبعض المبادئ العامة في القانون الدولي (3)
(1) أبو زيد رضوان، الأسس العامة في التحكم التجارية، القاهرة:1981، ص 146 مع هامش 59
(2)
نفس المرجع السابق، ص 146 / 147 مع هامش 60
(3)
نفس المرجع السابق، ص 147 مع هامش 61
وهكذا برزت الدعوى إلى إنشاء محكمة العدل العربية كضرورة يفرضها الواقع وتحتمها الظروف، حتى يتسنى حل أهم المنازعات بين الدول العربية في ظل القانون الذي يجمع بينها، وتم تشكيل لجنة (سنة 1982) من كبار الخبراء العرب في القانون الدولي، وفي السياسة، ومنهم من تولى منصب القضاء في محكمة العدل الدولية، فاستلهموا مبادئ الجامعة والواقع العربي، واستأنسوا بأنظمة المحاكم الدولية، وأعيد تشكيل هذه اللجنة في سنة 1985، ثم في سنة 1991، وأعد مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية، وعرض على مجلس الجامعة في عدة دورات، وينتظر إقراراه في الدورة الرابعة بعد المائة.
وأبرز ما جاء في المشروع:
1-
لا يقتصر حق التقاضي أمام هذه المحكمة على الدول الأعضاء، بل تمنح الدول غير الأعضاء حق اللجوء إلى المحكمة إذا كانت تربطها بالدول الأعضاء اتفاقيات أو معاهدات وقبلت بولاية المحكمة.
2-
لمحكمة العدل العربية ولاية إلزامية في حالات محددة، من أهمها: النزاعات التي تهدد الأمن القومي العربي.
3-
تطبق المحكمة على النزاعات التي ترفع إليها أحكام الشريعة الإسلامية، والعرف العربي، والمبادئ العامة للقانون التي استقرت في الدول العربية بالإضافة إلى مبادئ وقواعد ميثاق الجامعة وأحكام القانون الدولي.
4-
تتألف المحكمة من سبعة قضاة، ينتخبهم مجلس الجامعة بأغلبية الثلثين، من بين مواطني الدول الأعضاء الحائزين على المؤهلات القانونية المطلوبة للتعيين في أعلى المناصب القضائية، ومن المشهود لهم بالكفاءة في الشريعة أو القانون الدولي.
5-
تكون اللغة العربية اللغة الرسمية للمحكمة، ويؤدي القضاة قبل أداء وظائفهم اليمين التالية:(أقسم بالله العظيم أن أؤدي واجبات وظيفتي بصدق وأمانة ونزاهة) .
5-
محكمة العدل الإسلامية
أقر مؤتمر القمة الإسلامي الخامس (الكويت 1407 هـ / 1987 م) مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية، لتكون حكمًا وقاضيًا وفيصلًا فيما ينشأ بين الدول الإسلامية من خلافات، بعد ما لاحظ – ببالغ الأسف – ما انتهت إليه الإنسانية المعاصرة، رغم مظاهر التقدم المادي واتساع المكاسب العلمية والتقنية، من الفقر الروحي ومن الانحلال في العقائد والأخلاق، وبعد ما لاحظ ما اعترى المجتمعات الإسلامية من الوهن في الذاتية، والضعف في الفاعلية الحضارية، وخضوع العديد منها للهيمنة الأجنبية، وتعرضها لشتى وجوه الظلم والعدوان، رغم ما تهيأ لها من مقومات الوحدة، وعوامل التقدم والنهضة، ودواعي العزة والرفاهية.
وقد أفردت لدراسة نظام محكمة العدل الإسلامية بحوث قيمة (1) ، يعنينا منها في هذا المقام استعراض بعض العناصر الأساسية التي تميز هذه المحكمة عن غيرها من التنظيمات القضائية الدولية.
أولًا – تشكيل المحكمة:
تشكل هيئة محكمة العدل الإسلامية من سبعة قضاة ينتخبون من قبل المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية لمدة أربع سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة. ويجري الانتخاب بالاقتراع السري من قائمة بأسماء الأشخاص الذين تشرحهم الدول الأعضاء في المنظمة، ويراعي في الانتخاب التوزيع الإقليمي والتمثيل اللغوي للدول الأعضاء. ويشترط لانتخاب عضو في المحكمة: أن يكون مسلمًا، عدلًا، من ذوي الصفات الخلقية العالية، ومن رعايا إحدى الدول الأعضاء في المنظمة، على ألا يقل عمره عن أربعين عامًا، وأن يكون من فقهاء الشريعة المشهود لهم، وله خبرة في القانون الدولي، ومؤهلًا للتعيين في أرفع مناصب الإفتاء أو القضاء في بلاده، ويحلف كل عضو من أعضاء المحكمة في أول جلسة علنية اليمين التالية:(أقسم بالله العظيم أن أتقي الله وحده في أداء واجباتي، وأن أعمل بما تقتضيه الشريعة الإسلامية وقواعد الدين الإسلامي الحنيف دون محاباة، وأن التزم بأحكام هذا النظام وأحكام ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي) .
(1) يمكن الرجوع إلى الكتابات الخاصة بمحكمة العدل الإسلامية، والتي تناولت كل جوانب النظام الأساسي لهذه المحكمة ومراحل تطوره، ونخص بالذكر من بينها: توفيق بوعشبة: منظمة المؤتمر الإسلامي؛ الحولية الفرنسية للقانون الدولي، باريس: 1982، ص284 وما بعدها (مرجع بالفرنسية) ؛ صلاح عبد البديع شلبي، التضامن ومنظمة المؤتمر الإسلامي، القاهرة: 1987، ص 89 وما بعدها؛ عبد الله الأشعل، أصول التنظيم الإسلامي الدولي، القاهرة: 1988، ص 185 وما بعدها.
ثانيًا: اختصاص المحكمة:
لمحكمة العدل الإسلامية ثلاثة اختصاصات:
1-
اختصاص قضائي: يجعل لها ولاية الفصل – بحكم قطعي غير قابل للطعن – في القضايا التي تتفق الدول المعنية الأعضاء في المنظمة على إحالتها إليها، أو الدول الأعضاء التي لها مصلحة ذات طابع قانوني قد تتأثر بالحكم في قضية معروضة على المحكمة، وكذلك الدول غير الأعضاء في المنظمة بشرط أن تعلن مسبقًا التزامها بأحكام المحكمة وألا يمانع أطراف النزاع في تدخلها.
2-
اختصاص إفتائي: يجوز للمحكمة أن تفتي في مسألة قانونية، غير متعلقة بنزاع مطروح أمامها، وذلك بناء على طلب من أي هيئة مخولة بذلك من قبل مؤتمر وزارة الخارجية.
3-
اختصاص بالوساطة والتوفيق والتحكيم: يمكن لمحكمة العدل الإسلامية أن تقوم بالوساطة أو بالتوفيق أو بالتحكيم، عن طريق لجنة من الشخصيات المرموقة، أو على عن طريق كبار المسؤولين في جهازها، لحل الخلافات التي قد تنشب بين عضوين أو أكثر من أعضاء المنظمة، إذا أبدت الأطراف المتنازعة رغبتها في ذلك، أو إذا طلبه منها مؤتمر القمة أو المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية بتوافق الآراء.
ثالثا- القانون الواجب التطبيق:
نصت على ذلك المادة (27) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية، بقولها:
أ- الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي الذي تستند إليه المحكمة في أحكامها.
ب- تسترشد المحكمة بالقانون الدولي، والاتفاقات الدولية الثنائية أو متعددة الأطراف، أو العرف الدولي المعمول به، أو المبادئ العامة للقانون، أو الأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية، أو مذاهب كبار فقهاء القانون الدولي في مختلف الدول.
وقد نصت المادة (28) على أن:
أ- العربية – لسان القرآن المبين – لغة المحكمة الأولى، وهي – مع الإنجليزية والفرنسية – اللغات الرسمية المعتمدة.
ب- للمحكمة – بناء على طلب أي من أطراف النزاع – أن تجيز استعمال لغة أخرى غير رسمية، شريطة أن يتحمل هذا الطرف الأعباء المالية المترتبة على الترجمة إلى إحدى اللغات الرسمية.
ج- تصدر المحكمة أحكامها باللغات الرسمية الثلاث.
كما نصت المادة (50) على ما يلي: حرر هذا النظام باللغات الرسمية الثلاث للمنظمة، وكلها متساوية في حجيتها، وعند الخلاف حول تفسيره أو تطبيقه تكون اللغة العربية هي المرجع.
إن إقرار النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامي يعتبر – بكل المعايير – إنجازًا هامًّا وقرارًا تاريخيًّا وطريقًا مستقيمًا يصل الدول الإسلامية بتراثها الخالد، ويجنبها استجداء العدالة ممن يجهلون شريعتها، أو يحتقرون تقاليدها، أو يتربصون بأهلها.
وسوف يتحقق هذا المعنى حين يكون قضاة المحكمة على قدر من فقه النفس، يؤهلهم لتطبيق روح الإسلام وسياسته الشرعية، ويبعد بهم عن أن يكونوا مضغة في الأفواه.
وسوف يتأكد هذا المعنى حين يكون الجهاز التنفيذي للمحكمة مؤثرًا فعالًا، يفرض على الجميع - ودون استثناء – احترام الحق والعدل، والخضوع لإرادة المجتمع الإسلامي.
وسوف يستقر هذا المعنى حين تتكون لدى المسلمين إرادة سياسية جماعية، واقتناع بالقيم الأخلاقية والروحية، وإيمان بقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] .
والله من وراء القصد
الدكتور محمد جبر الألفي