الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقارنة بين الذرائع والحيل
ومدى الوفاق والخلاف بينهما
إعداد
حمداتي شبيهنا ماء العينين
مكلف بمهمة بالديوان الملكي المغربي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
عندما ازدهرت الحضارة الإسلامية، استقطبت كل التطلعات الإنسانية، ثم امتد إشعاعها إلى غير الرقعة الإسلامية فأصبح الفكر الإسلامي إنتاجا حضاريا يتفيأ ظلاله بنو الإنسانية من غير المسلمين، لما قدم إليهم عطاءات تسامت بالإنسان، فاستلت رواسب الجاهلية العمياء، فمكن هذا الازداهار من نهضة علمية، لم تعرف لها الإنسانية مثيلًا قبل فقهاء الإسلام من خلال تعمقهم في الدراسات القرآنية والسنية، قال الله تعالى حاثا على التدبر في معاني القرآن والاستفادة من محتوياته:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] .
وقال عز من قائل {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الفهم والاجتهاد في قصة معاذ بن جبل عندما وجهه إلى اليمن، هذا التوجيه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تمسك به السلف الصالح، فكرسوا مواهبهم ومعارفهم لتقريب بعيد القرآن إلى عقول المسلمين ووضعوا ـ منهج التعامل، ليحاول العالم الاستفادة منه بطرق من المصطلح انفرد بها المسلمون وحدهم من بين جميع أهل الكتاب، وإذا سلكنا اليوم طريقهم وتتبعنا مناهجهم، تمكنا من فهم كثير من الأحكام حسب تطور وقائعها عبر الزمان ـ واستلمنا القيادة الفكرية لعالم حائر ومنفعل لا يدري أين يضع قدميه.
فالأحكام المأخوذة من الكتاب والسنة، أو المستنبطة من تلك النصوص هي: التي أعطت تلك السابقة الحضارية وهي وحدها الكفيلة إعادة الكرة اليوم لأول أمرها بالأمس.
فعلماء الإسلام حاولوا إيجاد الحلول لكل الوقائع التي تقذف بها الحياة إلى حاضر الإنسان، فخلص ذلك الإنسان من كثير من الضيق والحرج، وتبينت له الطريق المستقيم، ولقنته بعض الحيل لتجنبه الحرج في تطبيق حكم متشدد، مثل حيلة أيوب عليه السلام، وحيل يوسف مع إخوته، من خلال هذا المنهج القرآني اجتهد كثير من العلماء، إما ليجد مندوحة يخفف بها على المسلم تطبيق مباح لا تظهر فيه منفعة توازي ما يمكن أن ينجم عنه من مضرة، فنشأ بسبب هذا مبدأ الحيل التي تميز بأكثريتها الفقه الحنفي، ثم وقع الاتفاق على البعض منها ونشأ خلاف كبير حول أكثريتها، كما برز مبدأ آخر وأصل من أصول الفقه أطلق عليه: الذرائع، فوقع الاتفاق على بعض صوره أيضًا، بينما اختلف في كثير من حالاته، وقد تميز به المالكيون، وإن كان بعض فقهاء الحنبلية وافقهم في كثير منها، فلقد وجدت طائفة أن تطبيق بعض النصوص الظنية الدلالات على حالات لا يقطع بحصول المصلحة منها، وتوجد مظنة راجحة لنشوء المفسدة منها، ينبغي العدول عنه سدًا لذريعة ما يمكن أن ينشأ عن تطبيقها من مفسدة، ولمزيد من الإيضاح سأقسم هذه الدراسة إلى المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف موجز بالذرائع وبعض أحكامها العامة
المبحث الثاني: الذرائع في المذهب المالكي وموقف بقية المذاهب منها.
المبحث الثالث: العلاقة بين الحيل والذرائع ومدى التوافق والاختلاف بينهما.
ثم ننهي هذا العرض بخاتمة تكون صالحة للنشر والترجمة بحول الله
المبحث الأول
تعريف موجز بالذرائع وبعض أحكامها
التعريف: الذريعة جمع ذرائع يقال هو ذريعتي عند فلان بمعنى وسيلتي، وتأتي بلفظ (الذرعة) وتذرعت بفلان عند فلان تشفعت به عنده، وهي تؤدي معنى الوسيلة، ولذا يقال الوسيلة فيقصد بها الذريعة، وتقال الذريعة وتقصد بها الوسيلة، لتشابه ما ترميان إليه، (انظر التعريف اللغوي للذريعة في لسان العرب) .
أما عن مكانتها ووصفها ففيه خلاف، والراجح فيه أن الذريعة أصل من الأصول التي ذكرتها الكتب المالكية والكتب الحنبلية، بينما في المذاهب الأخرى لم ترد تحت هذا العنوان، وأيضًا المسميات التي وردت عليها يوجد فيها توافق واختلاف مع الصيغ والأحكام التي وردت عليها في المذهبين المالكي والحنبلي وفي الاصطلاح هي الطريق إلى الحرام، أو الحلال، ولذلك تأخذ حكمها مما أفضت إليه، فإذا كان حرامًا حرمت، وإذا كان مباحًا أبيحت، وإذا كان واجبًا وجبت؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لذا فانتبه.
وقد ثبت الأخذ بالذرائع وإعطاؤها حكم ما تؤول إليه بالكتاب، وهو قول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] لأن اليهود اتخذوا من لفظة راعنا ذريعة شتم النبي صلى الله عليه وسلم فنهى الله المسلمين عن ذلك سدا للذريعة، ومن السنة كف النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين حتى لا يقال إن محمدا صلى الله عليه وسلم قتل أصحابه.
ومن ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الدائن عن أخذ هدية من المدين حتى لا يجر ذلك إلى الربا وجعل الهدايا في محل الفوائد.
وقال القرافي: إن السلف الصالح من الصحابة ورثوا المطلقة طلاقا بائنا في مرض الموت لكيلا يكون ذلك الطلاق ذريعة للحرمان من الميراث.
ومنها النهي عن قطع أيدي السارقين في الغزو حتى لا يلتحقوا بالمشركين، ولأجل ذلك قال ابن القيم: يمنع أمير الجند من إقامة الحدود أيام الحرب مع الكفار.
ومنها النهي عن الاحتكار فقال عليه الصلاة والسلام: لا يحتكر إلا خاطئ؛ لأن الاحتكار ذريعة إلى أن يضيق على الناس، ومن ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل عن شراء صدقته ولو وجدها تباع في السوق سداّ لذريعة العود فيها، وحتى لا يعود فيما خرج من يده ولو بعوض، وقد يكون ذلك ذريعة للتحايل على الفقير بأن يدفع إليه صدقة ماله ثم يستردها بطريق الشراء بغبن فاحش!
ولاحظ ابن القيم أن الذرائع اتبع جلها لدفع الفساد، وأيضا يوخذ بها لجلب المنافع، وهذا يؤيده ما قال القرافي من أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتباح وتندب كما سيأتي قريبا عن القرافي في كتابه الفروق، فهي حرام إن كان أداؤها للفساد قطعيًا، ومثل ابن القيم لهذه الحالة بمن يعمد إلى حفر بئر قريب من باب داره في طريق مظلمة، فهذه مظنة قطعية لسقوط المارة فيها فيجب منعه من ذلك سدا لذريعة ما يجره من فساد، فإذا كان أصل الفعل مأذونا فيه ولكن سيجر إلى فساد مقطوع به، فإنه يكون ممنوعا هنا بإجماع فقهاء المسلمين بسبب الضرر الذي سيترتب عليه، فيرجح جانب الضرر على جانب النفع الشخصي الذي يمكن أن يحصل لصاحب البئر أو غيره من أصحاب الأمثلة التي ذكرنا.
القسم الثاني: الذي لم تسد فيه الذريعة هو احتمال ضرر بعيد، يمكن أن تأتي في استخدام وسيلة للحصول على غرض مباشر ومؤكد مثل غرس العنب، فلا تسد الذريعة فيه خشية أن يعصر منه خمر؛ لأن ما يترتب على الفعل من منافع أكثر مما يمكن أن يتولد عنه من مضار فهذا النوع من الأعمال حلال لا شك فيه.
القسم الثالث: أن يكون الغالب على الظن ترتب المفسدة على الفعل لا من باب العلم القطعي ولكن من باب الظن الغالب، ففي هذه الحالة يرى الشاطبي، ونقل عنه أبو زهرة أن الظن الغالب يقدم ويؤخذ به، فيكون سد الذريعة أحوط حتى لا يقع الفساد؛ لأن الاحتياط في الاحكام الظنية أن تجري مجرى الأحكام القطعية، درءا لما يمكن أن يترتب عن الاحتمال من الراجح من وقوع الفعل المحرم (1) .
القسم الرابع: أن يكون أداؤه إلى الفساد كثيرًا، ولكن كثرته لم تبلغ الظن الغالب للمفسدة ولا العلم القطعي كالبيوع التي تتخذ ذريعة للربا، فهذه الحالات تأديتها للفساد كثيرة، فرأى مالك وأحمد أن سد الذريعة فيها واجب، وهذا القسم كما سنشاهد موضوع اختلاف بين العلماء.
فهل يحرم الفعل ترجيحا للفساد، أم لا يحرم ويؤخذ بأصل الإذن بالفعل؟ فالشافعي وأبو حنيفة رجحا جانب الأخذ بالأصل المباح ومالك وأحمد غلبا جانب الفساد المحتمل احتمالا قويا وقالا بسد ذريعته.
هذه التعريفات والتوضيحات يدرك منها أن الذريعة ما كان من قول أو فعل طريقا مؤديا إلى غيره، واصطلاح مفهوم سد الذرائع هو: منع ما يجوز حتى لا يسوق في تطبيقه إلى فعل ما لا يجوز، وكونه أصلا من أصول الشريعة لا خلاف فيه، ولكن التوسعة في تطبيقه نسبت إلى الإمام مالك بسبب تحرياته وحذره ثم توسع المالكية في سدها من بعده في كثير من المعاملات التي خالفهم جل فقهاء الأمصار في موقفهم منها، وإن كانوا لا يخالفونهم في أصل القول بالذرائع في الحدود التي يسوق فيها تطبيق الحالات المباحة إلى أرجحية الوقوع في المفسدة المنهي عنها (2) . ولقد مثلنا في عدة فقرات من هذا البحث بالحالات التي وقع الإجماع عليها وقسمها ابن القيم أربعة أقسام هي:
(1) من كتاب الشاطبي بالمعنى وليس بالحرف.
(2)
أخذته بالمعنى من الموافقات للشاطبي ج2 ص 249، وتابعه أبو زهرة في كتاب أصول الفقه ص 191
1-
ذريعة تؤدي إلى المفسدة بدون شك وتلك مجمع على وجوب سدها كشرب المسكر والزنا وهذه محرمة بوسيلتها وغايتها.
2-
ذريعة مباحة بحسب أصلها، ولم يستعملها المكلف في غير ما وضعت له، لكنها قد تجر إلى مفسدة إلا أن المصلحة فيها أرجح مثل النظر إلى المخطوبة، وكلمة الحق عند الحاكم الجائر فهذا النوع مستحب وقد يجب أحيانًا؛ لأن احتمال المفسدة فيه مرجوح، والاحتمال المرجوح لا يعتد به.
3-
ذريعة مباحة بحسب أصلها، ولم يقصد بها المكلف غير ما وضعت له، لكنها تسوق حسب الغالب إلى المفسدة، كسب أصنام المشركين أمامهم خصوصا إذا كان سيدفعهم إلى سب الله عز وجل فابن القيم سجل الإجماع على المنع سدا لذريعة ما يمكن أن يجر إليه من مفسدة راجحة، فمن ذلك قول الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] الآية، ومن ذلك أيضا ما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) قالوا: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) متفق عليه واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عمر، ومنها نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشبهات بقوله عليه الصلاة والسلام:((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.)) .
4-
ذريعة مباحة بحسب الأصل ولكن المكلف قصد بها التوسل إلى مفسدة كهبة المال على رأس الحول فرارا من الزكاة، وعقد نكاح المحلل وبيع العينة، فأصل هذه المسائل مباح، ولكن استخدام المكلف لها في هذه الصور والغايات جعلها محرمة، ولا خلاف في وجوب سد ذريعتها بين أئمة الدين لوضوح وجه المفسدة التي تفضي إليه.
ونختم هذا المبحث بملخص لكلام ابن القيم في تعريفه لسد الذرائع فقال: لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت أسبابها وطرقها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والكراهة يجب المنع منها بحسب إفضائها إلى غايتها وارتباطاتها، ووسائل الطاعات والقربات يجب الإذن بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود.
المبحث الثاني
الأحكام العامة للذرائع
إن فتح الذريعة أو سدها يترتب بحسب الأثر الذي ينجم عن استخدام الذريعة فيحكم عليها بحسب الهدف الذي يتحقق إما باستعمال سدها أو تطبيق فتحها، فإذا تمسكنا بسدها ولم نقم بعمل مفيد راجح المنفعة فتخلينا عنه سدا لذريعة ظن بعيد ففاتتنا المصلحة المحققة خشية الوقوع في احتمال بعيد الوقوع لمفسدة، كان هذا السد مذموما لأنه فوت مصلحة محققة خشية الوقوع في مضرة بعيدة الاحتمال، وإذا فتحنا الذريعة بتطبيقها من أجل البلوغ إلى مصلحة ظنية الوقوع بعيدة احتمال التحقق أيضا يكون سدها أفضل من فتحها، ومن هنا يمكننا أن نقول بان سد الذريعة أو فتحها أمور نسبية تستخدم بحسب كل حالة على حدة، فليس لدينا قاسم مشترك يمكننا من فتح الذريعة فيكون فتحها محمودا إذا تحقق أو العكس، بل الدراسات والقواعد والتطبيقات في مختلف المصادر التي بين أيدينا تجعل نسبية الذريعة في الفتح أو السد هي الحكم الأسلم، ولعل مواقف الفقهاء التي سنسوقها تباعا توضح لنا ذلك.
إننا نجد بعض فلاسفة الغرب يتخذ الذريعة الباطلة إلى إدراك المصلحة شيئا مقبولا فهذا الفيلسوف الألماني (نيتشه) قرر أن الباطل إذا كان وسيلة ناجحة لحفظ الحياة، كان خيرا من الحقيقة، وهذا يسير قريبا من المبدأ الذي أباح فك أسرى المسلمين بمال يعطي لسلطان الكفار، فإعطاء المال للكفار حرام، ولكن إذا قصد به إحياء الأرواح المسلمة، كان جائزا على أن المبدأ الفلسفي لا يبقى على إطلاقه في كل الأشياء، إذ توجد بعض الغايات لا يجوز استعمال الوسيلة الباطلة لتحقيقها، فمن شارك في اليانصيب ليبني مسجدًا، أو مدرسة بالمال المتحصل منه، فشرف الغاية ونبل المقصد هنا لا يبرر استخدام تلك الذريعة المحرمة، بل الذي يجوز هو دفع خطر محقق يعرض روح الإنسان أو ماله لخطر لا مفر منه، إذا لم تستخدم تلك الوسيلة شريطة أن لا تكون لمن يستخدمها طريقة غيرها تمكنه من تجنب الخطر.
ولكن الفلاسفة تنزلق نظرياتهم عن الصواب عندما نجد هدفهم هو تحقيق النتيجة ليس شيئا غيرها، ذلك أنهم يطلبون هدفا معينا ولا تهمهم الوسائل أو الذرائع التي يمكن أن تستخدم لتحقيقه، فعندهم أن " أية فكرة أو رأي أو اعتقاد ما دام للإنسان فيه قيمة علمية فهو ذريعة بصرف النظر عن كونه صحيحا أو باطلا أو خطأ حقيقيا أو وهميا "(1) .
إذا كانت الذرائع في هذا المذهب لا تهتم بالأحكام، فإنها تهتم باستخدام الجانب اللغوي للذريعة كوسيلة من وسائل البحث العلمي إما عن الذات أو الأفكار، والآراء وبالتالي يبين أن الذريعة من المسميات، التي استخدمتها جل المعارف الإنسانية.
أما فقهاء الإسلام فإنهم بحثوها كما سلف في المقدمة انطلاقا من الغرض الذي يوصل إليه فتحها، وسدها فبما أن الذريعة هي الوسيلة، فإنها أصبحت ينظر إليها بحسب ما يمكن أن ينشأ عنها من المقاصد، لذلك كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة.
(1) كتاب سد الذرائع في الشريعة الإسلامية تأليف محمد هشام البرهاني "64" الريح
الذريعة عند المالكية:
قال القرافي بالحرف: " تفرع عن هذا الفرق فرق آخر، وهو الفرق بين كون المعاصي أسبابا للرخص، وبين قاعدة مقارنة المعاصي لأسباب الرخص، فإن الأسباب من جملة الوسائل، وقد التبس هاهنا على كثير من الفقهاء، ولذلك العاصي بسفره ليست لديه رخصة الصوم ولا قصر الصلاة، فهذه الأعمال الغير مشروعة يجب فيها سد الذريعة".
ومن الرخص التي قال المالكية بعدم جوازها سدا لذريعة المعاملات الربوية، أنواع من عقود " ضع وتعجل " ومن أمثلة ذلك الخلاف الحاصل في أن من باع شيئا ما، كما إذا اشترى بضاعة بمائة درهم إلى أجل ثم ندم البائع فسأل الإقالة، ودفع مقابلها عشرة دراهم نقدا أو إلى أجل، فالمالكية منعوا ذلك فرارا من سلف جر منفعة، ومن هذه الصور: أن يبيع الإنسان الشيء بثمن ثم يشتريه بأقل من ثمنه الأول نقدًا، ليستقر في ذمته الفرق بين الثمن الأول والثاني دون مقابل، فعند مالك هذا غير جائز، والشافعية قال بعضهم إنه استئناف بيع جديد ولا بأس به، وعند مالك لم يجزه خوفا من أن يكون سلفا جر نفعًا، أو بيع الذهب بالذهب بالتفاضل، أما إن كان البيع ثم بنقد الثمنين ثم وقعت مبايعة أخرى خفض فيها أحدهما ما أخذ سواء بأجل أو بغير أجل، فهذا لا خلاف في جوازه؛ لأنه لا يمكن أن يحسب ذريعة لأحدى المخالفات المنصوص عليها في البيوع.
ومن ذلك أيضا بيع طعام بطعام قبل القبض، منعه مالك وأبو حنيفة، وأجازه الشافعي والثوري والأوزاعي، وحجة من لم يجزه أنه شبيه ببيع الطعام نساء، والذين أجازوا فسروه بغير ذلك الافتراض، إذا قالوا: لا فرق بين أن يشتري الطعام من غير المشتري، وبين أن يشتريه من عنده هو نفسه، واعتبره مالك ذريعة إلى بيع الطعام قبل القبض، وقد ألحقت هذه الوقائع بباب الحيل المحرمة في كتابي الصورية بين الشريعة والقانون، وقد أتيت بها في باب الذريعة اقتفاء بكثير من العلماء الذين درسوها تحت اسم ذلك الباب، وتتجلى الذريعة من افتراض كثير من الصور منها: أن يشتري رجل من آخر طعاما إلى أجل معلوم، فإذا حل الأجل قال الذي عليه الطعام ليس عندي طعام ولكن اشتري منك الطعام الذي وجب لك علي، فقال له الآخر هذا لا يصح شرعًا؛ لأنه بيع الطعام قبل القبض، فيقول له بع طعاما مني وأرده إليك فتتم بذلك وسيلة جائزة في شكلها ولكنها جرت إلى محرم في جوهرها، هذه أيضا من الصور التي حرمها مالك سدا لذريعة المبايعات الربوية، وأجازها الشافعي لأن من قواعده عدم الأخذ بالتهم، فالذريعة في هذه الأشياء هي اتخاذ وسائل ظاهرة الجواز لتمرر بواسطتها تصرفات حرام، وقد أورد أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام صورا كثيرة لذرائع اتخذت، فأباح بعض فقهاء الأمصار بواسطتها تصرفات صريحة حرمتها في نصوص كثير من الآيات والأحاديث ونظريات كتب الأصول والفروع (1) .
(1) انظر 2 ص 153 الفروق للقرافي
وأشار أبو زهرة في كتابة على الأصول بما مضمونة: ومن الذرائع المحرمة ما يكون أداؤه إلى الفساد كثيرا ولكن كثرته لم تبلغ مبلغ الظن الغالب للمفسدة، ولا العلم القطعي، وذلك كالبيوع التي تتخذ ذريعة للربا، كعقد سلم يقصده به عاقداه ربا قد استتر في بيع كأنه يدفع ثمنا قليلا لا يتناسب مع ثمن البيع وقت الأداء قاصدا بذلك الربا فإن هذا تأدية إلى الفساد أم أنه لا يؤخذ به فيفسد العقد ولا يحرم الفعل أخذا بالأصل، وهو الإذن بالفعل، فأبو حنيفة والشافعي رجحا جانب الإذن ولم يحرما الفعل ولم يفسدا التصرف، وذلك لأن الفساد ليس غالبا فلا يرجح جانبه؛ لأن أساس التحريم أو البطلان هو أنه ذريعة إلى باطل فاسد حرام، ومع عدم الغالبية أو القطعية، لا يكون العقد أو الفعل ذريعة للبطلان فلا موجب للتحريم؛ لأن الأصل هو الإذن ولا يعدل عنه إلا بقيام دليل على الضرر فيه، وما دام الأمر ليس غلبة الظن فإن أصل الإذن باق (1) . هذا عن بعض آراء الحنفية والشافعية في الموضوع حيث لم يترددا في قول يسوق إلى ترك المباح خشية أن تجر بعض صور تطبيقه إلى المحرم ودون القطع على ذلك، وهذا الموقف اتسم بواقعية كبيرة في نظري حول ممارسة المسلم لتصرفاته داخل دائرة المباح مع التسلح بسلاح التشبث بأوامر الشرع كرادع عندما تصل الأمور إلى إمكانية الوقوع في الحد الأدنى من الحرام.
(1) تنقيح الفصول ابتداء من صفحة 200، والفروق ج2 ص 32
أما الإمام مالك وأحمد فإنهما نظرا إلى الموضوع من وجهة نظر أخرى، حيث اتبعا قاعدة الراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه واحترازا من إمكانية انتهاك حدود الله، يتعاطى بعض المعاملات المنصوص على حرمتها، فإنهما قالا بمنع التصرفات التي يمكن أن تجر إليها، سد لذريعة انتهاك الحرمة الوارد فيها نص قطعي، فقررا أن الفعل إذا حصل مشوبا ببعض تلك العيوب السالفة فإن العقد يبطل والتصرف يحرم، للاحتياط لأنه مع كثرة الضرر مع أصل الإذن، فإن ذلك ينجم عنه وجود أصلين هما: الإذن الأصلي، والأصل الثاني، ما في الأصل أو العقد من كثرة الإضرار بغيره فيرجح حينئذ جانب الضرر لكثرة المفاسد؛ لأن دفع المضار مقدم على جلب المصالح، ويستشهد لهذا الرأي بآثار صحيحة وردت بشأن تحريم أمور كانت في الأصل مأذونا فيها لأنها تؤدي في كثير من الأحوال إلى مفاسد، إن لم تكن غالبة ولا مقطوعا بها فإن الاحتمال القوي وارد في إمكانية حصولها، مثل الخلوة بالمرأة الأجنبية، وكسفر المرأة من غير مصاحبة زوجها أو ذي محرم منها فأتى التحريم عند أصحاب هذا الرأي نتيجة لما يترتب على ذلك الإجراء من مفاسد، ومع كثرتها ليست مقطوعة ولا غالبة، فأصبح سد الذريعة فيها أولى حتى لا يقع المسلم فيما تؤدي إليه من مفاسد وكذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والسلف حتى لا يجر إلى الربا، وكما قلنا قبل بأن القرافي قال بأن هذه الحالات وصلت إلى أزيد من ألف، وعبر عنها بالذرائع وعزا لمالك سدها جميعا وخالفه الشافعي في ذلك كله.
فمعنى هذه الذرائع في المذهب المالكي: هو حسم مادة الفساد دفعا لها، فمتى كان الفعل السالم وسيلة للمفسدة فمالك حرمه، قال ابن العربي إنه كل عمل ظاهره الجواز يتوصل به إلى المحظور كما فعل اليهود في احتيالهم لصيد الحيتان، ففي بيوع الآجال كما تقدم، مالك خشي أن يكون سلفا جر منفعة توصل إليه الطرفان بحيلة توهم أن الأمر يقتضي مبايعات تمت على الشروط التي يجب توافرها في أي عقد للبيع، أما الشافعي فحمل الأمر على الظاهر وترك ما في نيتهما إليه فالله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
قال التنوخي في شرحة لكتاب زروق على الرسالة: " قال ابن الحاجب: بيوع الآجال لقب لما يفسد بعض صوره لتطرق التهمة إليه لأنهما قصدا إلى ظاهر جائز ليتوصلا به إلى باطل ممنوع، حسما للذريعة، واعترضه ابن عبد السلام لأنه تدخله كثير من المبايعات التي لا تدخل حتى في بيوع الآجال (1) . لظاهر فسادها مما يسهل على غير المشبعين بالروح الإسلامية أن يتعاطوا من خلالها كثيرا من أشكال عقود الربا، أو سلفا جر منفعة تحت شكل تلك الوقائع التي تبدو في الظاهر غير محرمة"
قال أحمد بابا التنبكتي في شرحه نيل السول على مرتقى الأصول أثناء كلامه على الذريعة: " إذا أوصلتنا إلى أحسن المقاصد تكون محمودة، مثل السعي إلى الجمعة، أو الذهاب إلى الحج، ومثل عطش المجاهدين، وما يكتب لهم من أجر أثناء سيرهم إلى الجهاد بناء على قول الله عز وجل {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] ٍ لقد حصل لهم هذا الثواب بسبب توجههم للجهاد، كما ثبت لأهل الحج أجر بمجرد التوجه إلى الديار المقدسة بنية الحج، وكذلك التوجه إلى المسجد للصلاة يكتب به أجر، وليس الذهاب إلى الجهاد أو الجمعة أو الحج من صميم تلك الفرائض الثلاثة، وإنما هي وسائل لتحقيقها فحمدت بسبب ما تؤدي إليه واكتسب من عملها أجر، ولهذا هذه الذرائع محمودة عكس التي تؤدي إلى محرم، واستدرك صاحب نيل السول استدراكا هو الذي نستشهد به من كلامه إذ قال: ولكن اتباع حكم الوسيلة لحكم ما افضت إليه ليس على إطلاقه، فقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة لأنها أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوصل إلى فداء أسارى المسلمين بدفع مال للنصارى، وإن كان حراما عليهم لأنهم مخاطبون عندنا بفروع الشريعة، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقتتل مع صاحب المال ".
(1) أحمد بن أحمد بن عيسى الفاسي المعروف بزروق على الرسالة ج2، 140
أما قسم الذرائع الثالث الذي لا تظهر فيه مصلحة راجحة أو مقطوع بها، فإن مالكا حرمها، لأنها إما أن تسبب فعل الحرام أو إذاية محتملة احتمالا قويًا، وإلى ذلك أشار ابن عاصم في مرتقى الأصول في الضروري من علم الأصول بقوله:
وقسمها الثالث عند مالك
معتبر لديه في المسالك
كمثل دعوى الدم دون الما ل
في رأيه والبيع للآجال
فدعوى الدم التي لا شهود فيها، غيره من العلماء قال بتوجيه اليمين فيها على المدعي عليه " المتهم " بينما مالك لم يوجه إليه فيها اليمين خشية إذاية أعراض الناس بسبب تهم لا حجة عليها، وقد اتبع في المال القاعدة المبنية على الحديث الشريف " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " ففي هذه وافق غيره من فقهاء الأمصار وفي الأولى انفرد بسد الذريعة فيها اعتبارا لما بينا عنه حسب شارح مرتقى الأصول.
وما اتفق عليه من سد الذرائع منع سب الأصنام عند من يعلم أنها إن سبت بمحضره سيسب الله، وإليه أشار ابن عاصم بقوله:
وعندهم سد الذريعة انحتم
في مثل الامتناع عن سب الصنم
وكذلك اتفقوا على منع حفر الآبار في الطريق خشية سقوط المارة فيها فهذه وسائل اتفق العلماء على سدها.
بينما لم يتفقوا في كثير من الحالات التي قال بها مالك.
وأيضا لقائل أن يقول: إن السكنى المشتركة يمكن أن تؤدي للزنى، فهذا الأدعاء لم يقل أحد من الأئمة به وليس داخلا في حكم سد الذرائع خشية أن تجر للمخالفة أو للمضرة لأن احتمال ذلك التصور بعيد جدًا، ولا يوازي ما ينجم عن تلك الإجراءات من مصلحة، ولذلك إذا قربت المصلحة، وبعد شك المخالفة حصل الإجماع على عدم الأخذ بها حتى لا تعطل نظرية المباح الواسعة في الشريعة الإسلامية وإلى ذلك أشار ابن عاصم بقوله:
وبعضها لم يعتبر كالحجر
من اغتراس الكرم خوف الخمر
إن المبالغة في سد الذرائع نسبه العلماء للمالكية ولكتب الحنبلية، ولكن الأحكام التي اشتملت عليها الذرائع في المذهبين المذكورين موجودة في غيرهما من كتب الحنفية والشافعية تحت مسميات أخرى، وإلى ذلك أشار القرافي في كتاب الفروق بما مضمونه، وربما عبر عن الوسائل بالذرائع وهو اصطلاح أصحابنا، وهذا اللفظ المشهور في مذهبنا " يعني مذهب مالك " وعرف سد الذرائع بأنه حسم مادة وسائل الفساد، فإذا كان الفعل مباحا ولكنه سيفضي إلى فساد منع عند المالكية.
ثم قال القرافي: وليس سد الذرائع خاصا بالمذهب المالكي وحده كما توهم البعض، بل الذرائع ثلاثة أقسام: قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه، وحسمه كحفر الآبار في طريق المسلمين فإنه وسيلة إلى إهلاكهم ومثل إلقاء السم في أطعمتهم، وكسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه سيسب الله تعالى عندما نسب تلك الأصنام، وقسم أجمع علماء الأمة على عدم سده، وذلك مثل زراعة العنب خشية أن يصنع منها الخمر فهذا لم يقل به أحد من علماء الأمة، وكذلك لم يقل أحد منهم بمنع التجاور خشية تعاطي الزنا هذه الحالات أجمعت الأمة على عدم استخدام الذريعة لسدها إطلاقا أما القسم الثالث فهو الذي اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا؟ كبيوع الآجال، فمالك قال بمنعه، ومثل له القرافي بمن باع سلعة بعشرة إلى آخر الشهر ثم احتاج للدراهم ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر، فقد خرجت من يده خمسة، ثم دفع فيها عشرة، وهذا سلف جر منفعة توسلا بصورة ظاهر البيع، ثم منع مالك هذه الحالة، بينما الشافعي أجازها لحمل الأمر على ظاهره الذي هو بيع سلعة بثمن مرتفع إلى أجل، وقال القرافي: إن هذه المسألة تفرعت عنها ألف مسألة اختص بها مالك، وخالفه الشافعي فيها جميعًا، وكذلك يقول القرافي اختلف في النظر إلى النساء هل يحرم لأنه يؤدي إلى الزنى أو لا يحرم، والمقصود من النظر نظر المرأة في لباسها بحيث لا يظهر من الحرة إلا وجهها ويداها، أما غير ذلك من جسم المرأة فيحرم النظر إليه إذا كان عاريا اتفاقًا.
ومن ذلك الحكم بالعلم هل يحرم لأنه وسيلة للقضاء بالباطل، من طرق لقضاة المنحرفين، أو لا يحرم؟ وكذلك اختلف في تضمين الصناع لأنهم يغيرون أصل السلعة بصناعتهم فلا يعرفها ربها فهل يضمنون سدا للذريعة؟ أم لا يضمنون قياسا على غيرهم من الأمناء؟ فمالك قال بسد هذه الذرائع حسب ما نقله القرافي، ثم قال بأن الشافعي خالف المالكية فيها ولم يقل بسدها.
وقال ابن الشاط: وحول قاعدة الوسائل وقاعدة المقاصد بأن حكم الوسائل يجب أن تنبني على قاعدة ما لا يتم واجب إلا به فهو واجب، قال ابن الشاط في عمدة المحققين هذا ليس على إطلاقه لأن ذلك مبني في الأصح على قاعدة أن ذلك غير لازم فيما لم يصرح الشرع بوجوبه.
وكرر القرافي القول: بأن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتباح وتحرم، وحول كثرة المسائل التي استخدمت فيها الذريعة أورد ابن القيم تسعة وتسعين مثلا لسد الذرائع كلها رفع الحكم بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسجل خلافا في تلك المسائل، والتي منها على سبيل المثال: النهي عن سب الأصنام، عند من سيسب الله وقد تقدم الكلام عليه، ونهي النساء عن ضرب أرجلهن بعضها ببعض ليعلم ما يخفين من زينتهن فمنعن من ذلك لكيلا يكون ذريعة لإغراء الرجال على تعاطي الزنا معهن، وذلك لقول الله عز وجل:{لَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] ومنها إلزام الموالي والأطفال بالإذن من لم يبلغ الحلم منهم في أوقات معينة خشية اطلاعهم على العورات وذلك لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] ومنها عدم تنفير أعداء الله بالقول السيئ حتى لا يكون ذلك ذريعة لتنفيرهم من الإسلام، قال الله {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وقال الله أيضا {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ومن ذلك نهي الله عن البيع وقت صلاة الجمعة حتى لا يتخذ ذلك ذريعة للتهاون بها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] ومن ذلك تحريم القليل من المسكر حتى لا يتخذ ذريعة لحسو الكثير، ومن ذلك النهي عن بناء المساجد على القبور لئلا تتخذ تلك القبور أوثانا يسوق الاعتقاد فيها عند من لا يعرف حكمه إلى الإشراك بها ومن تلك الصور أيضا تحريم الجمع بين الأختين والمرأة وخالتها حتى لا يتسبب ذلك في قطع الرحم بينهما.
هذه نماذج من كثير من الوقائع التي كان سد الذريعة فيها محل إجماع عند كل الأئمة أتينا بها أثناء تحليلنا للأحكام العامة للذرائع لنبرهن بها على أن مبدأ الذرائع كأصل من أصول الفقه ليس عليه خلاف، وإن عدم المبالغة فيها أقرب إلى الإجماع، أما أحكام الذرائع عند المالكية والحنابلة فقد ذكرنا بعضها وسنبسط بعض القول فيها في الفقرات القادمة من هذا المبحث، لقد طبق ابن القيم سد الذريعة على كثير من أعمال الإنسان من عبادات ومعاملات، حتى أوصلها إلى ذلك العدد الذي أشرت إليه أعلاه ومن تلك الأمثلة حول سد الذريعة في المعاملات الجائزة حتى لا تسوق إلى تدليس أو غش قال:" الوجه الحادي والستون " أنه لا تتبع السلع حيث تباع حتى تنقل عن مكانها، وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى جحد البائع البيع وعدم إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح بها، فيغيره الطمع وتشح نفسه بالتسليم كما هو الواقع، واكمل هذا المعنى بالنهي عن ربح ما لم يضمن (1) ، وهذا من محاسن الشريعة وألطف باب لسد الذرائع.
(1) إعلام الموقعين لابن القيم ج3 ص 149، وتجدر الإشارة إلى أنه يرفع النهي هنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
أما سد الذرائع عند الأصوليين، فمنهم من جعله دليلا وأدخله في مصادر الفقه، فالقرافي في تنقيح الفصول جعل تلك المصادر تسعة عشر، وعد الذريعة في الرقم الثالث عشر (1) وكذلك عدها صاحب البهجة عند مالك فقال: ولم تزد تلك المصادر على ستة عشر من بينها سد الذريعة، ولا غرابة في هذه الأهمية عند مالك لأنه عرف تشبثه بالذرائع أكثر من غيره وتلك الأصول عند مالك هي:" القرآن الكريم يشتمل على خمسة من تلك المصادر وهي: نصه، وظاهره، وهو العموم، ودليله، وهو مفهوم المخالفة، ومفهومه، وهو باب آخر، ومراد مفهوم الموافقة، وتنبيه، وهو التنبيه على العلة كقوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) [الأنعام: 145] ، ومن السنة مثل هذه الخمسة، والإجماع والقياس، وعمل أهل المدينة، وقول الصحابي، والاستحسان، والحكم بسد الذرائع، ومراعاة الخلاف".
والحقيقة أن مواقف الأصوليين من وصف هذا المبدأ لا يمكن من الحكم بإعطائه اسما معينا ننعته به، فمنهم من جعله مصدرا وهم الذين تقدموا ومنهم طائفة جعلته وصفًا، فابن تيمية جعلها قاعدة، وبين أن الأدلة عليها أكثر من أن تحصي، وذلك يثبته ما رأينا قبل عند تلميذه ابن القيم الذي أورد تسعة وتسعين أثرا جلها مرفوعا للنبي عليه الصلاة والسلام، أورد ابن تيمية ذلك في الجزء الثالث من فتاويه، واستطرد كثيرا من الآيات والأحاديث على أنها قاعدة من قواعد الفقه، فقال بأن شواهد هذه القاعدة أكثر من أن تحصى، أما الشاطبي اقتفاء، بأعمدة المذهب المالكي فقد جعلها أصلًا، والشيخ محمد أبو زهرة جعلها أيضا مصدرًا، هذا كله تأكيد على ما سبق أن قال القرافي بأن القول بسد الذرائع ليس من أصول المذهب المالكي وحده، بل إنها قاعدة، أو أصل، أو وصف متبع عند كل المذاهب، لكن الخلاف الحاصل هو في التوسعة أو عدمها عند كل مذهب على حدة، وهذا ما سنحاول أن نستخلص منه بعد الأمثلة في الفقرات التالية.
(1) تنقيح الفصول ص 200 ط الثانية
(2)
كتاب سد الذرائع لمحمد هشام البرهاني ص 127 أخذا عن موسوعة جمال عبد الناصر الجزء النموذجي 16 وهو مثبت فعلا في المكان المذكور
الذرائع عند فقهاء المالكية: قال خليل بن إسحاق في المختصر: " ومنع للتهمة ما كثر قصده، كبيع وسلف، وسلف بمنفعة، لا ما قل: كضمان بجعل أو سلفني واسلفك، فمن باع لأجل ثم اشتراه بجنس ثمنة من عين وطعام وعرض " إلى آخر الفصل.
لقد تضمن صورا كثيرة من المبايعات التي تعقد وفق أحكام بيع جائز في الظاهر، لكنه يمكن أحد الطرفين من منفعة غير جائزة، كأن يحصل على منفعة درها عليه سلف، قال ابن عرفة: ومنع كل بيع جائز في الظاهر مؤد إلى ممنوع في الباطن كثر قصده فيمنع للتهم، كبيع وشرط سلف، وهو جائز في الظاهر لا خلاف في المذهب في منعه، أو سلف بمنفعة لما فيها من الزيادة، والنفوس مجبولة على حبها، ولا فرق بين أن يكون المتبايعان قصدا الممنوع وتحيلا عليه بالجائز في الظاهر أو لم يقصداه، وإنما آل أمرهما إلى ذلك. وفي التوضيح أن المتهم به كالدخول عليه إلا أن الداخل عليه آثم آكل للربا، وعند قول المختصر " لا ما قل " معناه لا يمنع البيع الجائز في الظاهر، خلاف داخل المذهب، ذكره عليش في شرح منح الجليل، وعزا لابن الحاجب بعد سرد ذلك الخلاف، أن ظاهر المذهب جوازه لبعد قصده، وهذا الذي رجحه المختصر بقوله " لا ما قل ".
ثم تعرض لبيوع الآجال فقال: وعن الجواهر أن المعتبر فيها ما خرج من اليد وما عاد إليها، فإن جاز التعامل، عليه مضى وإلا بطل، وبعد ضرب أمثلة كثير من الحالات التي يبدو فيها أنها تجعل العقد الظاهر وسيلة لتمرير النتيجة الفاسدة بين المتعاقدين قال:" إن وجدت في ذلك وجها محرمًا، أو أنهما عقدا عليه فسخت عقدهما، فامنع من هذا البيع لما تقدم من وجوب حماية الذرائع" ومن صور تلك المبيعات إذا باع المشتري السلعة لثالث ثم اشتراها البائع الأول من الثالث فيجوز، ألا يكون الثالث ابتاعه من المشتري الأول بالمجلس بعد القبض ثم ابتاعه الأول منه بعد في موضع واحد فيمنع لاتهمامهما بجعل الثالث محللا لابعاد التهمة عن نفسها، وقد فرع من هذه الصورة عدة تفريعات أجاب عنها بما نسب لابن القاسم: أنه من المكروه عند مالك ومنعه ابن رشد سدا للذرائع، وعن ابن القاسم في قول آخر أنه مكروه عند المالكية ويضرب عليه، وهذه البيوع التي أوصلها، تسعة عشر صورة كره منها خمسة عشر حالة (1) .
(1) منح الجليل على مختصر خليل ج5 ص 81
أما الخرشي فقد صدر شرحه لفصل المختصر المذكور بمنع بيوع الآجال التي عبر عنها المختصر " ومنع للتهم " وأيد العدوي هذا الحكم، ثم قال الخرشي:" كل ما قل القصد إليه لا يمتنع للتهمة إليه وإنما يمتنع صريحة"(1) .
قال ابن رشد في المقدمات تحت عنوان بيوع الآجال: أصل ما بني عليه هذا الكتاب " يعني كتاب بيوع الآجال " الحكم بالذرائع، ومذهب مالك رحمه الله القضاء بها والمنع منها، وهي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور
…
إلى أن قال: ومنع الذرائع: الشافعي وأبو حنيفة، واصحابهما، ورجح ما ذهب إليه مالك لأن ما جر إلى الحرام وتطرق به إليه حرام مثله: وقال: " وأبواب الذرائع في الكتاب والسنة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها " وأخذ يعدد الآيات والأحاديث التي تعرضت إلى أصل الذرائع ثم قال بالحرف: " والربا أحق ما حميت مراتعه ومنع منها لئلا يستباح الربا بالذرائع" وحصر ما ذكر من صور هذا الباب في ستة وثلاثين قال ابن المالكية منعت منها خمس عشرة مسألة ومن الأمثلة عليها.
1-
أن يبتاع منه مثل طعامه وقد ناب عليه بأقل من الثمن نقدًا.
2-
والثانية أن يبيع له الطعام بثمن ثم يسترده من عنده بشراء مستأنف فيدفع له ثمنا أقل من الثمن الأول إلى آخر تلك الحالات التي أستوفت الذرائع التي يمكن أن يمرر منها البيع لحاضر بثمن، وإرجاعه للبائع بثمن أقل نقدا أو ببعض البضاعة المبتاعة، ويترتب ثمنها كله في ذمة البائع، وفي تلك الصور قال ابن رشد بتحريم المالكية لكلها (2) ثم عدد ثلاث عشرة مسألة أخرى في بيوع الآجال قائلا أيضا أن المالكية منعوها سدا للذرائع، وهي كلها بيوع الآجال (3) .
3-
وفي بداية المجتهد أن مالكا منع العوض بأي وجه من الوجوه على الإقالة، وخشي أن يكون ذلك ذريعة إلى قصد بيع الذهب إلى أجل وإلى بيع ذهب وعرض بذهب، وفي هذه الواقعة تسع مسائل اختلف منها في مسألتين، واتفقوا في الباقي، فمثل ما اختلف فيه حديث عائشة مع أم ولد لزيد ابن أرقم عندما باعت له عبدا بثمن إلى أجل ثم احتاج إلى الدراهم فاشترته من عنده بثمن أقل من الثمن الأول نقدًا، فلما أبلغت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه المبايعة قالت لها بئس ما شربت، وبئس ما اشتريت أبلغي زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله، فقالت المرأة أرأيت إن استرجعت ما خرج من يدي فقالت أم المؤمنين لا بأس فالله قال:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فهذا الحديث أخذ به مالك وأصحابه، ومنعوا هذا النوع من البيع، أما الشافعي فلم يثبت عنده شىء نم ذلك،وقال لابأس إنما هو بيع مستأنف،وأيضا فإن زيدا خالفها، وإذا اختلف الصحابة فالمبدأ عند الشافعي حينئذ هو القياس، وروي عن ابن عمر ما يؤيد رأي الشافعي (4) . والصور التي يعتبرها مالك في الذرائع في هذه البيوع هي أن يتذرع منها إلى: أنظرني أزدك أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلًا، أو إلى بيع ما لا يجوز نساء أو إلى بيع وسلف، أو إلى ذهب وعرض بذهب أو إلى ضع وتعجل، أو بيع الطعام قبل أن يستوفى، أو بيع وصرف، فإن هذه هي أصول الربا (5) ومن أمثلة الخلاف الحاصل في هذه الصور بيع الطعام بالطعام قبل القبض، فمالك وأبو حنيفة منعاه، وأجازه الشافعي والثوري والأوزاعي وجماعة، فمن كرهه شبهه ببيع الطعام نساء، ومن أجازه لم ير ذلك.
(1) الخراشي ج5 ص 942
(2)
مقدمات ابن رشد ص 530
(3)
راجع الصفحة 532، من نفس المرجع ط السعادة بمصر.
(4)
بداية المجتهد ج2 ص 142
(5)
بداية المجتهد ج2 ص 142 لابن رشد الحفيد
والملاحظ في هذه المسألة توافق مالك وأبو حنيفة وقد رأينا موقفيهما متباينين في بيوع الذرائع، إلا في هذه المسألة حيث اتفقا على سد الذريعة فيها، في حين فتحتها الجماعة التي ذكرنا.
هذه نماذج من كتب أصول المذهب وفروعه القديمة ومن المتأخرين الناقلين عن القديم، جدنا الشيخ ماء العينين (1) ناظما كتاب الموافقات:
فواحد يكون غالبا كبيع
من أهل حرب للسلاح يا سميع
ثان كثير ليس غالبا كما
بيوع آجال ترى وتعلما
في الشرح استعرض المباديء العامة التي سبقت إشارات إليها فيما يخص الغرض الذي يتوصل إليه من خلال الذريعة والحكم الذي يعطى لنا بناءً على ما تحقق عن طريقها من مباح أو حرام أو مكروه، وأحيانًا من واجب وهي كلها أصول سد الذرائع.
وقال سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في كتابه فتح الودود على نظمه مراقي السعود عندما تعرض لشرح بيته:
سد الذرائع إلى المحرم
حتم كفتحها إلى المنحتم
الذريعة الوسيلة إلى الشيء ومعنى سدها حسم مادة وسائل الفساد دفعًا له، فمتى كان الفعل السالم من المفسد وسيلة المفسد منع ذلك الفعل وهو مذهب مالك، كما أوجب فتح الذريعة إن كان سدها سيجر إلى مفسد وجب فتحها، وكذلك إذا كان فتحها سيحمل إلى تحقيق واجب، ويكون مندوبًا إذا كان فتحها سيحمل إلى تحقيق مندوب.
(1) من علماء المغرب المشاركين له أزيد من ثلاثمائة مؤلف توفي بمدينة يقال لها تيزنيت بوسط المغرب سنة 1910
بعد هذه النظرة التي تتبعنا فيها بعض أقوال كتب المالكية وغيرهم في التعريف بالذرائع وأحكامها العامة نخلص إلى تحديد حكم الذرائع بالمعنى العام فنقسمه إلى أربعة أقسام حسب الغرض الذي استخدمناه إليه الوسيلة ومدى شرعية أو عدم شرعية هذه الوسيلة، ويمكن أن ننظر إلى ذلك من أوجه أربعة هي:
1-
الوسيلة الجائزة المؤدية إلى الجائز وهذه حكمها الإباحة بإجماع كل المذاهب، ثم يرقى هذا المباح من درجة الاختيار إلى درجة الطلب مثل الحث على اتباع أسباب التكسب، والحفاظ على الصحة.
2-
أما الوسيلة المحرمة المؤدية إلى المحرم فهي ممنوعة بإجماع كل فقهاء الأمة، ولا تقبل النصوص الواردة مثلًا بتحريم الربا، أو الخمر أو الزنى، أو المس من جسم المسلم أو ماله بغير حق، لا تقبل هذه النصوص أي تأويل يغير فحواها أو يعطل تطبيقها، فإذا اتخذت وسائل غير مشروعة للتحايل على تلك النصوص بقى الحرام حرامًا والوسيلة التي استخدمت إليه حرام هي أيضًا.
ويلحق بالوسيلة المحرمة المؤدية إلى محرم الوسيلة المكروهة، التي ستؤدي إلى مفسدة.
3-
الوسيلة الممنوعة لتحقيق الجائز فهي ليست جائزة على العموم؛ لأن علماء الشريعة جلهم خالف مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وعلى هذا تقطع يد السارق إذا سرق من أجل أن يبني مسجدًا، أو من أجل أن ينفق على المساكين، ويحرم الكذب لترويج البضاعة التجارية، فترويج البضاعة في حد ذاته مباح، ولكن استخدام وسيلة الكذب إليه حرام إجماعًا، وقد تستعمل وسيلة غير جائزة كما أسلفنا لتحقيق غرض جائز، لكن بشرط وجود ضرورة ملحة إلى ذلك، وليس بيد المسلم وسيلة غيرها لتخليص نفسه أو ماله أو نفس أو مال أخيه المسلم، قد ضربت لذلك مثلًا بالمال الذي يدفع للكفار لتخليص أسارى المسلمين منهم.
أما الوسيلة الجائزة المؤدية إلى ممنوع فتختلف الأحكام المطبقة عليها بحسب درجة المخالفة التي ستجر إليها، فإذا أدت إلى حرام فهي حرام، وإذا أدت إلى مكروه انقلبت إلى مكروه، وإذا أدت إلى مباح لكن أوقع ذلك المباح في المخالفة كاللهو الذي يجر إلى تأخير الصلاة حتى يخرج الوقت، فإذا تعمد كان حرامًا، وإذا لم يتعمد وجب الاحتياط (1) يؤيد هذا أن التحريم يغلب على الحلال إذا اجتمعا للحديث الشريف "ما اجتمع الحرام، والحلال، إلا غلب الحرام الحلال" أسوق ملاحظة أخيرة على الأحكام التي تعرضنا لها في هذا التخليص لأحكام الذرائع وهي:
في حالة فتح الذرائع، فإذا كانت تؤدي إلى مباح غير مطلوب، فللمرء الخيار في استخدام الذريعة أو تركها على حدٍ سواء أما إذا كان التذرع واردًا لفعل المندوب المطلوب فإن تركه مكروه مثل ترك الوضوء للنوافل (2) .
وإذا كان التذرع يرمي إلى تحقيق واجب كالسفر إلى الحج للمستطيع، فإن تركه من غير عذر مقبول فقهًا يكون حرامًا.
هذه نماذج من الأحكام العامة للذرائع أو جزتها في هذا المبحث لتسهل علينا مقارنة الذرائع مع الحيل ومدى التطابق الحاصل بينهما وهو ما سيكون موضوع المبحث القادم بحول الله.
(1) أُخِذ بالمعنى من كتاب الاعتصام للشاطبي ج 1 ص 228 وعزا إليه أيضًا محمد هشام السيد برهاني في كتاب الذرائع ص 206.
(2)
أُخِذ بالمعنى من كتاب الاعتصام للشاطبي ج 1 ص 228 وعزا إليه أيضًا محمد هشام السيد برهاني في كتاب الذرائع ص 206.
المبحث الثالث
المقارنة بين سد الذرائع والحيل الفقهية
ومدى الوفاق أو الخلاف بينهما
هذا المبحث يقتضي منا للإلمام به أن نعطي ولو نظرة موجزة عن الحيل الفقهية ليسهل اكتشاف أوجه الشبه أو الخلاف بينها وبين الذرائع، وهكذا سيتضمن الفقرات الآتية:
1-
تعريف بالحيل
2-
أنواع الحيل
3-
أوجه الاختلاف أو الخلاف بينها وبين الذرائع.
1-
تعريف بالحيل:
إن لفظ الحيل مشتق من التحول، وهو النوع أو الحالة، كالجلسة، والعقدة والركبة، ثم غلب استعمال الحيلة في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الإنسان إلى حصول غرضه، بحيث لا يدري قصده إلا بنوعٍ من الفطنة والتبصر، وهذا أخص من مفهوم الحيل في اللغة، ولكنه الغالب عليها في الدراسات الإسلامية. وقد ورد ذكرها بهذا المعنى في القرآن الكريم، عند قول الله عز وجل:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98] والحيلة من ذوات الواو لأنها: من حال يحول وإنما انقلبت الوالو ياء لانكسار ما قبلها.
إننا إذا تتبعنا التعاريف اللغوية والعرفية والفقهية للحيلة سيطول بنا المطاف، ثم إنها أيضا تتسع محتوياتها حتى تشمل كثيرا من أحكام العبادات والمعاملات، فكل مباشرة أسباب واجبة حيلة على حصول المطلوب، أما تطبيقاتها، فقديمة قدم الإنسان؛ لأن وسوسة الشيطان ـ عليه لعنة الله ـ لآدم في الجنة كتبت جميع التفاسير أنها تمت على إثر احتيالات اتبعها مع الملائكة، ثم سيدتنا حواء، ومنهم من قال مع الحية التي دخل في جوفها حتى أدخلته الجنة، بعد أن منعته الملائكة من دخولها، ومن ذلك التاريخ والحيل تتحرك داخل مختلف معاملات البشر، ولقد أشار القرآن الكريم إلى حيل إبليس اللعين مع النبي آدم عليه السلام بقوله عز وجل:{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) } [البقرة: 35 ـ 38] .
استعرضت تلك القصة، ثم أتت سورة الأعراف، لتصف حيل إبليس التي اتبعها لغواية آدم عليه السلام فقال الله فيها:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَاّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أو تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَاّهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 ـ 22]
هذه الحيلة من الحيل المذمومة ولكنها أول حيلة سجلها الفكر البشري في هذا الباب، ثم سجل الفكر الإسلامي حيلا أخرى كانت متقدمة جدا من حيث الزمن على ما يعرفه الغرب اليوم من خلال الصورية في الدراسات القانونية وتوجد تلك الحيل في قصة النبي سيدنا يوسف والنبي الكريم سيدنا موسى، والنبي سيدنا أيوب عليهم الصلاة والسلام.
فالحيل إذن والحالة هذه اتبعت في الطاعات والمعاملات، ومنها ما تقره الشريعة إذا لم يهدم نصا محكمًا، ولم يحلل حرامًا، وكان سيتوصل فاعله إلى عمل خير، أو درء مفسدة، لذا فإن كثيرا من أمهات الدراسات الإسلامية تضمنت صورا مختلفة من الحيل، فهذا الإمام البخاري خصص لها عدة أبواب في كتابه الجامع، ومثال ذلك الحديث الشريف ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) الحديث، ثم وردت حيل كثيرة تهم الزكاة والأنكحة والبيوع، والفرار من البلاء، واحتيال العامل ليهدي له، وغيرها كثيرا نصت عليها الأحاديث والآثار ظلت تتحرك في شتى المعاملات والعبادات، حتى أفردت كتب عدة للحيل، وهي مثلما سبق أن قلت حول الذرائع ما استخدم منها لتحقيق غرض مشروع يكون مباحًا، وما استعمل منها لتعطيل أحكام الله يكون مذمومًا.
فقد ثبت اتباع الحيل لتجنب الإنسان عقوبة أصبح لا مفر له منها، وقد عرف هذا المبدأ في قصة سيدنا أيوب مع زوجته عند قول الله عز وجل:{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) } [ص: 43 ـ 44] هذه الحيلة لم يرد نص بمنع استعمالها علينا نحن المسلمين.
ومن الحيل المباحة، قصة سيدنا بلال مع التمر الجيد الذي قدم به على النبي صلى الله عليه وسلم، لما قدم له تمرا جيدا فأكل منه واستحسنه، ثم لما قص عليه أنه أبدل مدين بمد نهاه عن ذلك وقال في الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم (بتمر برني) فقال له صلى الله عليه وسلم: " من أين هذا " أي التمر البرني قال بلال كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع واحد ليطعم النبي فقال النبي عليه الصلاة والسلام عند ذلك " أوه أوه عين الربا عين الربا، لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع بيعا آخر ثم اشتريه " رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
وفي فتح الباري على صحيح البخاري أن الحيل ينظر إليها بحسب الحامل عليها، فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق، أو إثبات باطل فهي حرام، وإن دفعت إلى إثبات حق، أو دفع باطل فهي واجبة، أو مستحبة، أو مباحة حسب درجة الغرض الذي ستحققه والأمر الوارد فيه، وإن أوصلت إلى ترك مندوب فهي مكروهة.
ووقع خلاف في القسم الأول، هل يصح مطلقا وينفذ ظاهرا، وباطنا؟ أو يبطل مطلقا؟ وقال بأن لكل من الفريقين أدلته واستنتاجاته فللمجوزين الأدلة التالية.
فقصة أيوب دليل على استعمال الحيلة ليتجنب وطأة تنفيذ حكم لا يتحمله جسمه، واستدلوا لذلك بحديث أماضة بن سهل الضعيف الذي زنى، ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2ـ 3]
ثم قال ابن حجر: وفي الحيل مخارج من المضايق ومنه مشروعية الاستثناء فإن فيه مندوحة من الحنث.
ثم أورد بعض الأدلة للمانعين منها قصة أصحاب السبت، وحديث حرمت عليها الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها، وحديث لعن الله المحلل والمحلل له.
وأحسن كلمة قيلت في موضوع الحيل المحرمة كلمة رواها النسفي عن محمد بن الحسن، إذ نسب إليه قوله:" ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق ".
ومن الحيل المشابهة لتفح الذرائع بأتفه الأسباب ما نسبه ابن حجر في فتح الباري إلى أبي حنيفة إذ زعم أن رجلا أراد أن يبيع داره لرجل آخر فخشيا من أن يشفع الجار فيها، فافتاه أبو حنيفة حسب ذكر الفتح بأن يبيعه منها قسطا ضئيلا مثلا 100/ 1 فهو شقص لا يثير انتباه الجار ولا الشريم حتى تملكه لذلك الشقص وإذا أصبح شريكا لم تعد الشفعة في حقه جائزة فقلة عدد الأسهم لا تخرج مالكها من جملة الشركاء وأولئك لا يمكن لبعضهم أن يشفع فيما اشتراه البعض (1) . ونحن هنا لا يهمنا من سرد أنواع الحيل إلا القدر الذي يمكننا من مقارنتها مع الذرائع، وفي كلاهما يجب أن تبعد الخديعة وإلا تعرض فاعلها لفعل الحرام فالحديث الشريف قال:" لا تحل الخديعة لمسلم ".
(1) كتاب فتح الباري على إرشاد الساري ج15 ص382
ومن الحيل المشابهة للذريعة احتيال العامل ليهدي له، فهي حيلة لأنه يحتال بالهدية على الرشوة، فيقضي لأصحابها أغراضهم بطرق غير مشروعة لكنها تتم بطرق لا يمكن أن يسائل أمام القانون عليها، وهي تشابه الذريعة لأن الهدية اتخذت ذريعة للتكسب غير الحلال، وأصل تحريم هذه المسألة حديث ابن اللتبية الذي اتفق عليه الشيخان ونصه كما جاء في البخاري قال: عن أبي حميد عبد الرحمن بن المنذر الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على صدقات بني سليم قال صاحب الإرشاد يدعى الرجل " ابن اللتبية " فلما جاء حاسبة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا ما لكم وهذه هدية أهديت لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك، إن كنت صادقاً" ثم خطبنا صلى الله عليه وسلم فحمد الله عز وجل، واثنى عليه بما هو أهله ثم قال: " أما بعد، فإني استعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا ما لكم، وهذه هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حق إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه يقول:" اللهم بلغت ".
نستطيع أن نقول من خلال هذه النماذج أن الذريعة والحيلة بينهما تشابه في كثير من الحالات، وأنها تتطابقان في بعض الأهداف وتتفرقان في كثير منها فتتفقان لأن كل واحدة منهما تستعمل لإدراك غاية تلك التي تبينت من النص الظاهر، فالذرائع المحرمة، والتي أورد ابن قيم منها تسعة وتسعين رأينا نماذج منها في أولى هذا العرض، ما هي إلا صورة من الحيل، فبيوع الآجال، والعينة إذا فتحت فيها الذريعة، ومن هنا تبدو الذريعة مناقضة للحيلة، فإذا ما تمنع الحيلة لحرمتها تدخل الذريعة كسد للطريق أمام ما كانت الحيلة ستجر إليه.
فحسب رأي كثيرين من فقهاء وباحثي الفقه الإسلامي على أن الحيل تناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فالحيلة إجراء يتوصل من خلاله إلى معاملة معينة، وسد الذريعة وسيلة لعدم حصول تلك المعاملات، لهذا فشكلا تجتمعان في أن كليهما وسيلة للوصول إلى هدف، وهذا تطابق أولي بينهما لكن عندما نصل إلى النتائج ندرك أن ما تهدف إليه هذه تسده الأخرى، وخصوصا يقع الاختلاف بينهما في موضوع الحيل المحرمة، فحيلة المحلل في النكاح لا يمكن أن تتفق مع أي نوع من أنواع سد الذرائع، وكذلك حيلة بيع العينة أو الآجال لا تنسجم عند المالكية مع الحياة الإسلامية فتأتي ذريعة سدها لتحول بينها مع التطبيق.
وفي إعلام الموقعين بعد أن حرم كثير من الحيل، أورد بعض الحيل في حدود اثنتي عشرة حالة مباحة لا تثير سد الذريعة فيها أي خلاف، وإذا كان الشارع حرم بعض الوقائع، فإنه يرمي من وراء ذلك إلى درء المفاسد، وما يجري مجراها، من أجل سلامة المجتمع، والمحافظة على طهارة الأبدان والأموال، فحرم أنوعا من الأنكحة.
وتحرم الحيل المفضية إليها، وحرم بعض المعاملات وتحرم الحيل التي تتخذ حتى يتوصل البعض إلى تعاطي تلك المعاملات وفق إجراءات تجعل العقد كوسيلة إلى تلك المعاملات المحرمة، فسلامة الوسيلة تبرر سلامة الغاية، بل الحيلة تستمد الجواز أو عدمه من الغرض الذي ستخدمه، وهذا الشيء نفسه تتسم به الذريعة فلقد رأينا في المبحث الأول أن الذريعة يحدد حكمها بحسب الغرض الذي سيتحقق من سدها، أو فتحها.
ولذا تزعم الفقه المالكي والحنبلي، ومعهما الشافعي في بداية ظهور مذهبه القول بتحريم الحيل، وعدم التسامح في أمرها، فتارة يتصدون إليها عن طريق سد الذرائع، وتارة عن طريق ما أسموه بفساد غرض أصحابها.
فلقد أفسد العلماء بيوعا لمظنة ما يمكن أن ينجم عنها من الوقوع في معاملات ربوية فمنعوها سدا لذريعة الوقوع في تلك النتيجة، ففي تنقيح الفصول:" أما ما يكون أداؤها إلى الفساد ولكن كثرته لم تبلغ مبلغ الظن الغالب للمفسدة، ولا العلم القطعي، وذلك كالبيوع التي تتخذ ذريعة للربا، كعقد سلم يقصد به عاقده ربا قد استتر في بيع كأنه يدفع ثمنا قليلا لا يتناسب مع ثمن البيع وقت الأداء، قاصدا بذلك الربا فهو حرام".
هذا نموذج من المسائل التي وقع فيها الخلاف، فمالك حرمها ذريعة للربا، والشافعي رجح أصل الإذن وعدم نص يعضد الشك بمظنة الفساد، وهي من بين الصور التي توضح أن سد الذريعة يأتي في مواجهة بعض الحيل المباحة، والتي لا تستند على أصل، ويصاحبها شك ظني ـ لا قطعي ـ يبعث على إمكانية الوقوع في الحرام من خلال تطبيقها، إذن فالحيلة طريقة إلى إمكانية فعل الشيء وسد الذريعة وسيلة للحيلولة مع تطبيق ذلك الشيء أما فتحها فقد تطابق في كثير من حالاته مع الحيل على مختلف أحكامها الجائزة وغيرها، وهكذا نستطيع القول بأن الحيل والذرائع تتطابقان، عندما تفتح الذريعة لتكون كل واحدة منهما وسيلة للحصول على غرض معين يحترم ظاهر النص ويتوصل إلى الغرض على شكل يؤدي إلى جوهر يهدمه، أما إذا سدت الذريعة فتكون حينئذ حاجزا يجعل حد لما تسوق إليه الحيلة من مخالفات، فالذرائع متعارضة تماما مع الحيل المحرمة، أو المشتبه فيها، فبينما المتحيل يحاول أن يوجد وسيلة تمكنه من الاستفادة من المنهي عنه بإجراء يجنبه المخالفة ظاهرًا، نجد الفقيه عندما يقول بسد الذريعة يقوم بذلك خشية أن تجر المعاملة إلى شبهة، أما الحيل المشروعة فهي في الواقع تطبيق لوجه من أوجه سد الذرائع، فمن خاف على نفسه أو ماله له الحق شرعا أن يدفع عنه الضرر بأية ذريعة تمكنه من ذلك، وسبق أن أشرنا إلى جواز إعطاء مال لغير مسلم لفك أسرى المسلمين، فكل من تعرض لخطر لم يستطع دفعه بوسيلة مشروعة أباحت له الشريعة أن يوازن بين المفسدة التي يمكن أن تنجم عن استخدام وسيلة غير مشروعة للتخلص من ذلك الضرر، وبين ما ستحققه من مصلحة، وإذا غلب ضرر الهدف وجب التخلي عنه وعن الوسيلة المؤدية إليه ولو كانت مشروعة، في حين إذا كانت مصلحة الهدف نفعها أكثر من ضررها جاز تحقيقه ولو بسلوك ذريعة غير جائزة.
ومن خلال هذه الحالات اتسعت الحالات التي التقت فيها الذرائع بالحيل، وأكثر ما وقع ذلك الاتصال في بيوع الآجال، التي ذكر القرافي في الفروق، وإدرار الشروق لابن الشاط: أنها وصلت ألف حالة، وهي التي اختلف فيها العلماء الخلفاء التي رأينا بعضها في أول هذا العرض.
قال في إدرار الشروق مبينا أن المالكية اعتمدوا في كثير من المسائل على سد الذرائع للحيلولة دون الوقوع في المخالفة التي يمكن أن تنجم عن بعض التصرفات فقال بالحرف: " فاختص مالك ـ رحمه الله تعالى ـ بالقول بسد الذرائع نظرا إلى أنه توسل باظهار صورة البيع (1) . " إلى المنهي عنه، أما الحيل فإن من قال بالذرائع وقف منها موقف التشدد، فبيوع الآجال التي ضبطت حيل كثيرة فيها عن مختلف الأئمة، بينما الذرائع جاهر المالكية بالقول بها وترجيح سدها في المعاملات التي يشك في سلامة محلها، فالشاطبي قال بأن مالكا حكمها في أكثر أبواب الفقه، ثم قال:" بأن حقيقتها التوسل إلى ما هو مصلحة، فإن عقد البيع أولا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهره الجواز من جهة ما يترتب على البيع من مصلحة (2) . فإذا تعاملا على أن يبيع له بضاعة حاضرة بعشرين مؤجلة، ثم اشتراها من عنده بعشرة حاضرة فالعشرة المؤجلة خمسة منها كانت بدون مقابل خرج من يديه وهذه عند المالكية صورة من صور الربا، أو سلف جر منفعة، فتكون حسب قول الشاطبي، المصالح التي لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شيء واشترط الشاطبي لعدم جواز هذه الصورة سد الذريعة ما يمكن أن ينجم عنها من مخالفة" أن يظهر ذلك قصدا أو يكثر في الناس، والشافعي أسقط الذريعة اعتبارا للمآل؛ لأن البيع إذا كان مصلحة جاز، إذ ليس هنا عند الشافعية مآل مفسدة، فالغرض هو البضاعة، وعلة الجواز العقد الصحيح على أصل الإذن لأن البيع الثاني إجراء منفرد يخضع لأصل الإذن في البيع، ثم يسوق الشاطبي قولا مهما جدا إذ قال:"فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر (3) "
(1) إدرار الشروق بحاشية الفروق ج2 ص 32
(2)
الموافقات ج3 ص 130
(3)
الموافقات ج 3 ص 130
هذه الأوجه التي تناول من خلالها المالكية التفرد بالقول بسد الذرائع فيها، هي التي سجلت فيها أيضا كثير من الحيل مثل نكاح المحلل، وسلف جر منفعة، وبيوع الآجال، فإذا درست الذرائع والحيل من خلال هذا المنظور بدا الخلاف وعدم التطابق واضحا بينهما.
أما إذا وقفنا عند المسميات، فإن كل واحد منهما تستخدم للوصول إلى غرض معين، فيحصل نوع من التطابق الشكلي بين الوسيلة والحيلة بصفة كل منهما طريقة لحصول الغرض، والشاطبي يسوي بين الذريعة والحيلة كقاعدتين منهما طبقت دون قصد المساس بمراد الشارع كانت جائزة، وأي استعمال لأحداهما كسد ذريعة جر إلى مفسدة، أو استخدام حيلة أوقع في محرم، فكلاهما هنا وقع الإجماع على عدم الأخذ بها ثم قال في هذا الصدد.
" وجميع ما مر في حقيقتي المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا، ولكن ينهي عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو ممنوعا لكن يترك النهي عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو ممنوعا ولكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وكذلك الأدلة على سد الذرائع كلها، فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع ".
هنا بدا التطابق واضحا إذ اتحد الهدف في كثير من الحالات، وحتى التعبير بالوسيلة هنا يعطي المعنيين صفة الحيلة والذريعة.
هذا عن أوجه التطابق والاختلال بين الحيلة والذريعة، أما ما يمكن أن نستخلص من أحكام تهم المعنيين وما نميل إليه تجاه السؤال المطروح في عنوان البحث فسنكرس له خاتمة هذا العرض بحول الله.
الخاتمة
تطلق الذريعة على معاني كثيرة منها الامتداد والتحرك، وذرع الرجل تذريعا ذراعيه في المشي وغيره، وحرك يديه، ومن معانيها التحمل والاتساع، ومنه قوله: ضاق بالأمر ذرعا، وضاق به ذرعه وذراعه.
وفي الاصطلاح تأتي بمعنى الوسيلة والسبب، وهي بهذا المعنى تشمل ما يمكن أن يتخذه الإنسان أداة للوصول إلى شيء معين، وبهذا الإطلاق العام، لا يشترط في ذلك الشيء أن يكون واجبا أو مباحا، أو حراما أو مكروها، وإلى ذلك أشار القرافي في كلامه المتقدم بقوله:"إعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتندب وتباح وتحرم" ولقد سبق الاستشهاد بهذا الكلام، فيحكم عليها بحسب ما أفضت إليه، فإذا أوصلت إلى واجب وجبت، وإذا اوصلت إلى حرام حرمت، وكذلك الأمر في المندوب والمكروه والمباح.
هذا عن استعمالات الذريعة العامة، والتي نص عليها الكتاب والسنة، كسب الأصنام عند المشرك الذي يعلم أنه سيرد على ذلك بسب الله، وكنكاح المحلل، والذريعة للوصول إلى الربا، وغير ذلك من الأصول التي عد منها ابن القيم تسعين استشهد عليها بآيات قرآنية وأحاديث نبوية كريمة، ولم يسجل فيها خلافا، أما الحالات التي تعني بالمعنى الخاص للذريعة والتي قال فيها البعض ومنهم القاضي عبد الوهاب في كتابه الإشراف على مسائل الخلاف إذ قال:"الذرائع الأمر الذي ظاهره الجواز، إذا قويت التهمة في التطرق به إلى الممنوع" إن هذا الو صف يجعل الذرائع والحيل تسوقان إلى نتيجة واحدة، وفي كتاب الباجي المسمى الإشارات:" الذرائع هي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها إلى فعل المحظور"(1) .
وهي كما رأينا تثبت بعض التوافق بين الحيل والذرائع وقد أخرجها ابن رشد في المقدمات من هذا التعريف العام فحصر استعمالها فيما أفضى إلى فعل محرم (2) .
(1) هذه الأصول المالكية أخذناها من مراجعها الأصلية، وقد رجع إليها أيضا محمد هشام البرهاني في كتابه سد الذرائع ص74
(2)
المقدمات: ج2 ص198
لقد سبق القول بأن الحيل المحرمة، أو المشكوك في حكم النتائج التي يمكن أن تؤدي إليها تختلف تمام الاختلاف مع الذرائع، التي تتداخل لسد الطريق على نتائج تلك الحيل، لكن هذا الاختلاف ليس على إطلاقه، فالحيل التي يتحقق بسببها غرض مشروع أو تدفع حرجا لم يلزمه الحكم الشرعي، فإن الذريعة أيضا تستخدم للتوصل إليه، وهنا وقع التلاقي بين الحيل والذرائع، وقد سبق أن ضربت أمثلة لذلك منها: اضطراب الاعتراف ببعض الجرائم، وفي كل الحيل المباحة مثل التحيل على إقامة الحد في قصة أيوب عليه السلام، وقصة أم موسى في وضعه داخل التابوت، وقصة يوسف عليه السلام مع إخوته، كلها تمت فيها حيل للتخلص من وطأة واقعة معينة، وكلها أيضا استخدمت فيها ذرائع غير مباحة للوصول إلى أغراض مباحة.
لقد قسم محمد هشام الذرائع إلى أركان ثلاثة وفي تقسيمه هذا سهل دراسة كل جانب من جوانب الذريعة على حدة، فجعل تلك الأركان هي: الوسيلة وقد عرفناها لغة واصطلاحا فالذرائع التي افضت إلى محرم اتخذت إليه معبرا حلالا كصورة البيع في سلف جر منفعة، أو ضع وتعجل، أو عقد نكاح تام الأركان، ولكنه يخفي قصد التحليل للزوج الأول فهذا هو المقصود لغيره.
أما الثاني فهو الاتجاه إلى الفعل دون أن يقصد التوسل إليه فهي أيضا وسيلة حرام، إن الخلاف حصل في هذا الركن من حيث نظر الفقهاء إلى حصول المفسدة بالفعل أو الخوف من حصولها، وما هي درجة ذلك، فالذين رجحوا إمكانية حصول المفسدة حرموا الوسيلة إليها فسدوا الذريعة خوفا من حصولها، والذين لم يساورهم تخوف رجحوا البقاء على أصل الإذن، إن الموقف الأول اعتمده المالكية، والثاني الشافعية وقد تقدمت إشارات إلى أدلتهم ومن أمثلتهم:"النظر إلى الأجنبية، أو التحدث معها، من حيث كونهما ذريعتين للزنى، وكبيوع الآجال فالبعض أجرى حكم الذريعة فمنع من ذلك سدا لها، والبعض الآخر فتح الذريعة ولم يعملها"(1) .
(1) الفروق والموافقات؛ والزرقاني على الموطأ ص5/ 98؛ وقد رجع إليهم محمد هشام البرهاني ص105
وركنها الثاني فهو الرابطة التي تصل الوسيلة بالمتوسل إليه، ويمكننا التعبير عنه بالقصد أو النية، فمن يلجأ إلى صورة بيوع الآجال قصده منها أن يأخذ الكثير ويدفع القليل، والمحلل نيته أن يفسح المجال للمحلل له، ففي هاتين الصورتين الإجماع منعقد على تحريم هذه الرابطة أو الطريقة أو الوسيلة.
أما الركن الثالث فهو المتوسل إليه وهو أثر الفعل أو نتيجة التوسل، كحصول زواج الأول بالمرأة المحللة، أو استلام المبلغ الكثير المؤجل في صورة من صور بيوع الآجال، وهنا تكون الوسيلة محرمة بسبب ما أفضت إليه، والإعداد أو الإفضاء أو الرابط حرام لأنه كان يعلم أنه سيوصلها إلى محرم، والنتيجة حرام بأصلها، فالبضع حرم بطلاق الثلاث، وأخذ الكثير في القليل حرام لأنه صورة من صور الربا، ولأن فيه بيعا وسلفا بتكرار البيع (1) .
بعد اختصار تعاريف الذريعة، وما يتعلق بدراسة تحقيقها نوجز مكانتها من الأدلة، ذلك أن الفقهاء لما اختلفوا في حكم سد الذرائع اختلفوا كذلك في وصفها كدليل فمنهم: من جعلها مصدرا من مصادر الفقه وقد ذكرت أن القرافي جعلها هي الثانية عشر أصلا وفي بعض الكتب المالكية الأخرى حصر تلك المصادر في ستة عشر من بينها الذرئع.
ومنهم من جعلها من القواعد وذلك ما انحازت إليه موسوعة جمال عبد الناصر الفقهية، وكذلك الشاطبي استطرد الذرائع تحت عنوان القواعد فقال:"وهذا الأصل تنبني عليه قواعد منها: قاعدة سد الذرائع". أما حكمها فأحسن ما يقال فيه ما قاله الشاطبي حول موقف مالك والشافعي من الذريعة فقال ما نصه: "وأيضا فلا يصح أن يقول الشافعي: إنه يجوز التذرع إلى الربا بحال، إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع، ومالك يتهم بسبب ظهور فعل اللغو وهو دال على القصد إلى الممنوع، فظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر" ولقد سبق الاستشهاد بهذا المبدأ.
(1) الموافقات ج4 ص140
وأشد من وجه انتقادا للمتمسكين بالذرائع هو محمد بن حزم الظاهري، إذ ادعى أن التحريم بواسطة الاحتياط غير جائز؛ لأنه استدرك على أمر الشارع، قائلا بأن خوفهم أن يتطرق منها إلى الحرام، ثم احتج بحديث البخاري بسنده عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم:((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه في الإثم كان لما استبان اترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه)) ، ثم قال:(إن هذا إنما هو مستحب للمرء خاصة فيما أشكل عليه وأن حكم من استبان له الأمر بخلاف ذلك)(1) وادعى أن هذا الحديث على معنى آخر غير ما ادعاه من سد الذرائع لأن حمى المحارم ليس هو المباح.
ثم قال بالحرف: "ومن حرم المشتبه، وأفتى بذلك للناس، فقد زاد في الدين ما لم يأذن به الله تعالى وخالف النبي صلى الله عليه وسلم، واستدرك على ربه بعقله أشياء من الشريعة"(2) ثم استدل بكون الصحابة كانوا يشترون من السوق أشياء لا يسألون عن أصلها ولا يهمهم شيء عن ما فيها حتى يقال إنها حرام، ثم استدل لعدم التخوف من أن يسوق البيع إلى تعاطي محرم بسؤال الصحابة رضي الله عنهم لسيد الوجود عليه الصلاة والسلام من كون الأعراب يأتونهم في سوق المدينة بلحوم ولا يدرون هل سموا الله عليها أم لا؟ فهل نأكلها أم لا؟
فقال عليه الصلاة والسلام ((سموا الله وكلوا)) أو كلام مثل هذا.
وطالب بحث الناس على الورع، وإفتائهم بترك ما حاك في الصدر، ولكن دون إلزام بحكم ولا التقيد بفتيا في هذا الموضوع.
وقال مواجها المالكية بأنهم (يحرمون حلالا كثيرا خوف مواقعة الحرام، وفي هذا عبرة لمن اعتبر، ليت شعري كما تشفقون في الاستباحة من مواقعة الحرام أما تشفقون في القطع بالتحريم)(3) .
(1) الإحكام في أصول الأحكام لمحمد بن حزم الظاهري ج1 ص 180
(2)
الإحكام في أصول الأحكام لمحمد بن حزم الظاهري ج1 ص 180
(3)
الإحكام في أصول الأحكام لمحمد بن حزم الظاهري ج1 ص 180
يتضح من كل ما سبق أن الذرائع والحيل بينهما تشابه واختلاف، ونظرا لكثرة الحيل المحرمة، فإن المواضيع التي اتفقت فيها الواقعتان أقل من تلك التي اختلفتا فيها.
وكلاهما أتتا نتيجة استمرار البحث العلمي في النصوص الأصلية للشريعة الإسلامية، ففي الحيل استنبط الجائز منها من حيل تعرض لها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مثل حيلة إبليس لآدم حتى أخرجه من الجنة، وحيلة إخوة يوسف عليه حتى ألقوه في غيابات الجب، وحيلته هو على إخوته ليأخذ أخاه، ثم حيلة أم موسى على عيون فرعون، وحيلة أختها على حاشية فرعون نفسه، وحيلة سيدنا أيوب عليه السلام في ضرب زوجته وفاء بنذره، هذه الحيل المباحة، وما استنبط منها يتلقي مع الذرائع التي يخدم فتحها تطبيق واجب أو مندوب أو مباح لتكون الحيلة المباحة ذريعة إلى تحقيق غرض مباح.
إلا أن الذريعة أكثر اعتبارا عند الفقهاء، إذ منهم من جعلها مصدرا من مصادر التشريع ومنهم من جعلها قاعدة، ولم أعثر على أحد منهم أعطى هذه الأهمية للحيل، فالمالكية والاجتهاد الحنبلي يتفقان في اعتبار المصالح أصلا يعتمد عليه في تقرير الأحكام وفي السير في توسيع هذا المبدأ اهتديا إلى جعل سد الذرائع أصلا من أصول "الفقه" لكن تطبيقات الذرائع تتداخل في كثير من الحالات مع صور من صور الحيل.
والله الموفق للصواب.
حمداتي شبيهنا ماء العينين