الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد اطلعنا على تفسير حديث نشر معظمه للأستاذ المراغي «1» ومع أن قصد التحرز والتحاشي وعدم الإغراب والسير بأسلوب قريب المتناول على أوساط الأفهام ملموس فيه فإنه يأخذ كثيرا من الروايات والأقوال الضعيفة وغير المتسقة مع الآيات سندا أو كقضايا مسلمة ولا يندمج في جو القرآن ونزوله وبيئته، وليس فيه تلك الحرارة والحيوية اللتين تثيران الاهتمام والشوق فضلا عن تفصيلات كثيرة لا طائل من ورائها أدخلته في عداد كتب التفسير الضخمة التي لا تسمح لكثير من الراغبين بالإحاطة به واستيعابه حيث تبلغ صفحاته نحو سبعة آلاف ونيفا، وكل ذلك لا يجعله تفسيرا مثاليا فيما نعتقد.
-
8-[بحوث وآراء حول القرآن]
بالإضافة إلى ما شرحناه من الثغرات وأوردناه من التعليقات والمآخذ حول كل مبحث من مباحث هذا الفصل فإن هناك بحوثا وآراء دارت حول القرآن، وكانت فيما يتبادر لنا مظاهر عامة مشتركة بين هذه الثغرات يصح أن تشرح وأن يعلق عليها في هذا المقام.
روايات نزول القرآن جملة واحدة وأثرها:
فأولا: من ذلك الآثار المروية بأن القرآن قد نزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا ثم صار ينزل على النبي خلال مدة حياته بعد بعثته. فالذي يبدو لنا أنه كان لهذه الآثار أثر قليل أو كثير في بعض الثغرات التي ذكرناها أو بالأحرى في أكثرها، بحيث صارت عاملا بين حين وآخر وبقصد وغير قصد في إغفال صلة الفصول القرآنية بالسيرة والبيئة النبوية، ومفهوم الأساليب الخطابية العربية ومدارك سامعي القرآن ومألوفاتهم ومتداولاتهم وعاملا كذلك في إسباغ معان خاصة أو مستقلة على
(1) هو غير المرحوم شيخ الأزهر.
الجزء الأول من التفسير الحديث 17
الألفاظ والأساليب القرآنية، واستخراج معان خاصة منها تباعد بيننا وبين نزول القرآن وجو البيئة النبوية التي تتصل بالقرآن ونزوله وأساليبه وألفاظه اتصالا مباشرا ووثيقا على ما شرحناه في مناسبة سابقة.
ومع أن من العلماء من توقف في التسليم بمدى هذه الآثار ورأى فيها تعارضا مع ما في القرآن من ناسخ ومنسوخ وجدل، وقال إن القرآن كان ينزل على قلب النبي من عند الله منجما حسب الحوادث فإن كثيرا منهم أخذوا بها كما يبدو من التدقيق في مختلف الكتب والتفاسير القديمة التي كانت عماد كتب التفسير التالية قليلا أو كثيرا، ومنهم من جمع بين الأخذ بها وبين القول بنزول القرآن حسب الحوادث معا، وجل هذه الآثار إن لم يكن كلّها منسوب إلى ابن عباس مع اختلاف في النصوص والطرق:
1-
فقد أخرج الحاكم من إحدى الطرق عن ابن عباس أنه قال: «أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ثم قرأ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] .
2-
وأخرج الحاكم كذلك بطريق أخرى عن ابن عباس أنه قال «فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي» .
3-
وأخرج الطبراني من إحدى الطرق عن ابن عباس قال «أنزل القرآن في ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزل نجوما» .
4-
وأخرج الطبراني كذلك عن ابن عباس من طريق أخرى أنه قال «أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزله جبريل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم» .
5-
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس «أن القرآن دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة واحدة ثم جعل ينزله تنزيلا» .
6-
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال «نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة ونجمه جبريل على النبي عشرين سنة» . وقد سيقت هذه الروايات في سياق هذه الآيات:
1-
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] .
2-
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3] .
3-
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] .
ووردت متقاربة المدى مع بعض التباين في الصيغة في التفسير المنسوب إلى ابن عباس وفي تفاسير عديدة مثل الطبري و «الكشاف» والخازن وأبي السعود والبيضاوي جريا على العادة من اتخاذ المفسرين الروايات الواردة في أغلب الأحيان عمادا للتفسير مهما كان أمرها ورواتها على ما شرحناه في مناسبة سابقة.
ولم يقتصر الأمر على الروايات المعزوة إلى ابن عباس فإن بعض العلماء رووا روايات وقالوا أقوالا أخرى في الموضوع فقال أبو شامة وهو من علماء القرآن باحتمال أن يكون القرآن قد أنزل إلى السماء قبل نبوة النبي. وروي عن عكرمة أنه قال إن آية فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] ، تعني نزول القرآن منجما من السماء الأولى.
وعلّق بعض العلماء والمفسرين على ما تضمنته الروايات تعليقات تطبيقية وتوفيقية على اعتبار أنها قضية مسلمة فقال أبو شامة إن السرّ في إنزاله إلى السماء تفخيم أمره وأمر من نزل عليه، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليهم لننزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجما حسب الوقائع لهبط به الأرض جملة واحدة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين بإنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا.. وقال الحاكم والترمذي أنزل القرآن جملة واحدة إلى
سماء الدنيا تسليما منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد، وذلك أن بعثة محمد كانت رحمة فلما خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد وبالقرآن فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حدّ الدنيا ووضعت النبوة في قلب محمد، وجاء جبريل بالرسالة ثم بالوحي، كأنه تعالى أراد أن يسلم هذه الرحمة التي كانت حظ هذه الأمة من الله.. وقال السخاوي إن في إنزاله إلى السماء جملة واحدة تكريما لبني آدم وتعظيما لشأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم، ولهذا أمر سبعين ألفا من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام «1» ، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له، وفيه تسوية بين نبينا وبين موسى في إنزاله كتابه جملة، والتفضيل لمحمد في إنزاله جملة ومنجما..! وجاء في تفسير الخازن في سياق سورة القدر وبعد إيراد الروايات المذكورة سابقا: قيل إنما أنزله إلى سماء الدنيا لشرف الملائكة بذلك ولأنها كالمشترك بيننا وبين الملائكة فهي لهم سكن ولنا سقف وزينة، وذكر السيوطي في إتقانه أنه ورد في تفسير النيسابوري أن جماعة من العلماء قالوا نزل القرآن جملة ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له بيت العزة فحفظ جبريل وغشي على أهل السماوات من هيبة كلام الله فمرّ بهم جبريل وقد أفاقوا وقالوا ماذا أنزل ربكم قالوا الحق يعني القرآن وهو معنى قوله تعالى حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] ، فأتى به جبريل إلى بيت العزة فأملاه على السفرة الكتبة يعني الملائكة وهو معنى قوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)[عبس 15- 16] ، وآية سبأ جاءت في سياق مشهد من مشاهد الآخرة وفيه إنذار وتنديد بالكفار وحكي فيه موقف من مواقف الجدل بينهم وبين النبي ولا صلة قط بينه وبين المعنى أو المشهد الذي أورده النيسابوري، وفي هذا مثل آخر لأخذ المفسرين الآيات آية أو جملة من آية وعدم ملاحظتهم السياق الذي جاءت فيه.. ومنهم من ناقش ما إذا كانت جملة
(1) هناك حديث روي عن النبي بذلك.
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] من جملة القرآن الذي نزل جملة واحدة أم لا لأنها تتضمن إخبارا وتوهم التعارض، ثم خرجوها بأن معنى أنزلناه في الجملة قضيناه وقدرناه «1» .
كل هذا في حين أن هذه الأقوال وخاصة المعزوة إلى ابن عباس وهي الأصل فيها ليست مرفوعة إلى النبي، وهي أخبار عن غيب متصل بعلم الله وسرّ ملكوته ووجوده لا يمكن العلم بها إلا عن طريق النبي وهو ما لم يثبت فيما اطلعنا عليه، ونستبعد صدورها عن ابن عباس لما فيها من تخمين في أمر لا يصح أن يلقى الكلام فيه جزافا ومن غير سند نبوي ثابت أو صراحة قرآنية.
وفي الروايات الوثيقة الواردة أن الوحي نزل لأول مرة على النبي بأول آيات القرآن في ليلة من ليالي رمضان وهو معتكف في غار حراء على عادته من الاعتكاف في هذا الشهر، وما احتوته آيات البقرة والدخان والقدر هو فيما نعتقد إشارة إلى هذا الحادث، وقد جاءت كلمة القرآن في أوائل سورة المزمل التي هي من أوائل القرآن نزولا ثم ظلت تتكرر في السور المكية والمدنية وكانت تعني بطبيعة الحال الجزء الذي تم نزوله على قلب النبي، وفي هذا دليل على أن تعبير إِنَّا أَنْزَلْناهُ في آيتي الدخان والقدر وجملة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ في آية البقرة [158] لا تقتضي أن تكون قصدت جميع القرآن مما يمكن أن يكون محل إشكال أريد تخريجه على الوجه الذي خرج به.
ولقد أورد السيوطي في إتقانه حديثا نبويا برواية واثلة بن الأسقع جاء فيه أن النبي قال إن التوراة نزلت لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة والزبور لثمان عشرة والقرآن لأربع وعشرين خلت منه، وسيق هذا الحديث في معرض تلك الآيات والروايات والأقوال، ومهما يكن من أمره فليس من شأنه على فرض صحته أن يؤيد تلك الأقوال والروايات لأنه ليس فيه صراحتها، وليس من المستبعد أن يكون أريد به الإشارة إلى أول نزول الكتب السماوية بما فيها القرآن كما هو الواقع
(1) الأقوال التي أوردناها قد ورد جلّها في «الإتقان» للسيوطي.
المروي في الأحاديث الصحيحة بالنسبة إلى القرآن.
ومن الطريف أن بعض المعلقين استنبط على ما ذكره السيوطي من عدم الرد على الكفار فيما تحدوه من إنزال القرآن جملة واحدة صحة ما قيل من أن الكتب السماوية نزلت جملة واحدة وقال إنها لو لم تكن نزلت جملة واحدة لكان القرآن ردّ على المتحدين.
وإذا كان بعض العلماء توقف في ما إذا كانت جملة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] هي من جملة القرآن الذي نزل جملة واحدة أم لا لأنها تتضمن إخبارا وتوهم التعارض فكم بالأحرى الآيات الكثيرة المماثلة ثم الفصول الكثيرة جدا الواردة في مختلف السور والتي تحكي حجاج الكفار وجدلهم في القرآن وتحديه أو تحكي مواقف الكفار من الدعوة النبوية ومن إنذارات القرآن وتبشيراته باليوم الآخر وحسابه وثوابه وعقابه، وهزؤهم بالنبي وتحديه بإحداث المعجزات وإنزال الملائكة إلخ، ثم التي تحكي وقائع السيرة الجهادية والتشريعية، ثم التي تندد بالكفار وتصور عنادهم وتحتم لهم الخلود في النار وتلك التي تذكر إسلام كثير منهم وتوبة الله عليهم وانتقالهم من صف الكفار إلى صف المسلمين ومن مصير الخلود في النار إلى الخلود في الجنة وأمثال ذلك مما كان يقع نتيجة لسير الدعوة وظروفها الطارئة ومما يغلب عليه طابع الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسسه ودعوته. ولا ندري كيف سوغ القائلون لأنفسهم بعد هذا أن يقولوا إن القرآن- وهم يعنون جميع ما بين الدفتين من أسس ووسائل- قد نزل جملة واحدة يوم بعثة النبي أو قبله.
وعلى كل حال فإن ما ساقه القائلون في حكمة إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء عند بدء النبوة أو قبلها وكذلك ما علقوا به من تعليقات هي الأخرى أقوال تخمينية، وفيها من التكلّف والتزيد بل والتهافت ما يستطيع أن يلمسه المدقق الذي ينعم النظر، وأن القول في أصله يظل غير مفهوم الحكمة، وغير متسق مع طبائع الأمور وحقائق الأشياء، ولقد غاب عنهم فيما يتراءى لنا أن القرآن بصفته وحي الله