الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في ما ورد عن أصحاب رسول الله وأولي الشأن فيهم من ثناء وتنويه في القرآن ومن ثناء وتنويه من النبي ومن وصف شدة فنائهم واستغراقهم في النبي، وعمق إيمانهم بنبوته وبصلة القرآن بالوحي القرآني، فالعمل لم يكن عملا شخصيا أو سياسيا بل عمل متصل بأقوى عمد الدين وأعظم مظاهر النبوة وأكبر تراث خلّفه النبي فيهم، فمن المعقول الحق أن يكون حرصهم على استقصائه وتحريره وضبطه أشد حرص وأقومه وأتمه.
وننبه على أننا استعملنا تعبير «جميع ما مات النبي عنه وهو قرآن» ولم نستعمل تعبير «جميع القرآن الذي نزل على النبي» قصدا لأن في القرآن نصوصا صريحة مكية ومدنية مثل:
1-
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها البقرة: [106] .
2-
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ النحل:
[101]
.
تفيد أنه وقع بعض التبديل والنسخ في بعض آيات القرآن في عهدي النبي المكي والمدني بوحي الله مما هو مؤيد بأحاديث عديدة مثل حديث مروي عن أبي موسى الأشعري جاء فيه «نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت» ومثل حديث أخرجه الطبراني عن ابن عمر جاء فيه أن النبي أقرأ رجلين سورة فكانا يقرآن بها فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله فذكرا له ذلك فقال إنها مما نسخ فالهوا عنها، ومثل حديث رواه البخاري عن أنس أنه نزل في قصة أصحاب بئر معونة قرآن قرأناه ثم رفع إلخ.
-
7-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال]
ولقد أدرنا الكلام في الفقر السابقة في نطاق الروايات المروية المتعارضة والتعليقات الواردة عليها، وما يتسق مع طبائع الأمور والظروف وما لا يتسق.
ونقول الآن إن في القرآن ملهمات تؤيد النتائج التي قررناها، وتوثق الروايات التي
تستند إليها، وتدلّ أو تقوم قرينة على أن القرآن كان يدوّن بانتظام ويحفظ بانتظام وإن آياته قد رتبت في السور وسوره قد رتبت في تسلسل في حياة النبي عليه السلام، مما يعدّ جديدا في هذا الباب لم نطلع على مثله.
فأولا إن في بعض السور آيات احتوت قرائن قوية على أن ما كان ينزل من القرآن كان يدوّن حال نزوله وأن مدوناته كانت تحفظ وتتلى على ملأ الناس:
1-
ففي سورة القيامة الآيات التالية:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
. فهذه الآيات جاءت معترضة بين آيات متصل قبلها بما بعدها اتصال موضوع وخطاب ونظم، في حين أنها غير متصلة بهذه الآيات موضوعا ولا خطابا ولا نظما كما يبدو حين قراءة السياق بطوله «1» .
وقد روي بمناسبتها حديث يستفاد منه أنها نزلت على النبي لأنه كان حينما يتلقى وحي القرآن يحرك شفتيه بما ينزل على قلبه خشية نسيانه. ووجود هذه الآيات في موضعها يلهم بقوة أنها أوحيت إلى النبي في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها. ولا يصح فرض غير هذا فيما نعتقد لفهم حكمة وجودها في السياق، ولا مناص من فرض ثان مع الفرض الأول وهو أن النبي أمر بتدوين آيات السورة فور وحيها، وأملى على الكاتب هذه الآيات في سياق آيات السورة لأنها أوحيت إليه مع آيات السورة، مع أنها كانت خطابا خاصا له وبقصد تعليمه كيفية تلقي الوحي فدونت كما جاءت. وفي هذه الآيات في موضعها ملهمات أخرى
(1) لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ. يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ. فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ. يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ. بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ. لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ. كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ إلخ
…
عظيمة الخطورة أيضا في صدد القرآن، فهي تقف أمام أي شك حتى من أشد الناس تشككا بأن ما كان يبلغه النبي من آيات القرآن إنما كان وحيا يشعر به في أعماق نفسه ويدركه ويستمع إليه بإذن بصيرته ويعيه بقلبه، وهي تبين مقدار عظيم حرصه على أن لا يفلت منه أي كلمة أو حرف أو معنى مما كان يوحى إليه به قرآنا فكان يسارع إلى ترديده وإملائه حتى يبلغه تاما كاملا لا تبديل فيه ولا زيادة ولا نقصا ولا تقديما ولا تأخيرا. وهي تقرر معنى من معاني العصمة النبوية في صدد ما يبلغه النبي من وحي القرآن الرباني في توكيدها بأن الله سيثبت في قلبه ما يلقى عليه ويجعله يحيط به ويلهمه فهمه وبيانه. فالنبي بهذا قد عصم من الغلط والنسيان والخطأ والتقديم والتأخير والزيادة والنقص في القرآن، فكل ما بلغه من آيات القرآن هو وحي رباني، وقد بلغ كل ما أوحي إليه به بتمامه وحرفيته. ولعلها تقوم قرينة على أن لا محل ولا معنى للقول إن القرآن نزل على النبي بالمعنى لا باللفظ أيضا. وإذا لاحظنا أن ضمير الآيات هو ضمير المتكلم وأن القرآن كلام الله وأوامره أمكننا أن نقول إن في الآيات دلالة على أن القرآن كان وحيا ربانيا مباشرا ينقذف في قلب النبي فيعيه ويبلغه، أو على الأقل إن هذه الطريقة من الطرق التي كان يوحي الله إلى النبي بما يشاء أن يوحي إليه به وهذا القول يتسق مع طرائق اتصال الله بأنبيائه على ما جاء في آيات سورة الشورى [51- 52] التي شرحناها في بحث سابق. كذلك فإن هذه الآيات تفيد أن ما كان يوحى به إلى النبي عليه السلام كان النبي يبادر إلى الأمر بتدوينه وتسجيله حتى ولو كان موضوعه خاصا به وبصدد تعليمه تلقي الوحي واستيعابه، وأن النبي قد جرى على هذا منذ أوائل نبوته لأن هذه السورة من أوائل القرآن نزولا. وهذا المعنى عظيم من وجهة عصمة النبي في تبليغ كل ما كان ينزل على قلبه من وحي الله بما في ذلك من خطرات النفس وأسلوب تلقي القرآن والتصرف الشخصي أو الحركة الشخصية اللاشعورية، وهو مؤيد بآيات عديدة علّقنا عليها في مناسباتها من التفسير الكامل الذي كتبناه.
2-
في سورة طه آية فيها مشهد مماثل لهذا المشهد في معناه وظروفه وهي هذه: