الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على جملة كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدى من يشاء
وتنبيه إلى ما ينبغي ملاحظته والتعويل عليه في صدد ما قد يتوهمه بعضهم من إشكال في بعض العبارات القرآنية التعليق على هذه الجملة يتناول أمرين أو وجهين: الأول مداها في مقامها الذي جاءت فيه. والثاني مداها من وجهة عامة. ففي صدد الأول نقول إن أسلوب ومضمون الآية [31] جميعها يلهمان أن فيهما تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم وتنويها بالمؤمنين، واستشهادا بالكتابيين مع الوثوق بشهادتهم الإيجابية وإنذارا للكفار ومرضى القلوب وتنديدا بهم وأنهما يعنيان الذين كانوا يسمعون القرآن في الدرجة الأولى من مؤمنين وكتابيين ومرضى قلوب وكفار.
وفي صدد الأمر الثاني نقول إن الآية وبخاصة الجملة بسبب أسلوبها المطلق يكون مداها عاما شاملا لغير السامعين الأولين للقرآن. وينطوي في الجملة من هذه الناحية قصد تقرر كون امتحان الله تعالى الناس يؤدي إلى اهتداء من حسنت نيته وأنار الله قلبه وإلى ضلال من كان قاسي القلب سيء الطوية والقصد. وليس فيها قصد تقرير أزلية تقدير الهدى والضلال على الناس بأعيانهم أو تقرير كون هدى الناس وضلالهم هو تقدير رباني حتمي لا كسب لهم ولا خيرة لهم فيه. ولعل في الآية التالية مباشرة قرينة حاسمة حيث جاء فيها فيما جاء: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر/ 37] وفي آية أخرى تأتي بعد قليل قرينة حاسمة أخرى تقرر كون الإنسان رهنا بما يكسب: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر/ 38] كما أن في الآيات بصورة عامة قرائن حاسمة أيضا على صحة هذا التوجيه. وفي سور البقرة والرعد آيات مقاربة لهذه الجملة وفيها زيادات توضيحية تصح أن تورد كدلالة حاسمة على هذا التوجيه أيضا. ونص آيات البقرة هو: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ
(27)
ونص آيات الرعد هو: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) ، حيث تنطوي الآيات على تقرير كون الذين يهديهم الله هم أصحاب السيرة الطيبة والرغبة الصالحة في الإنابة إلى الله، والمؤمنون الذين يعملون الصالحات، وكون الذين يضلهم الله هم الفاسقون المتمردون على الله المفسدون في الأرض الناقضون لعهد الله القاطعون ما أمر الله به أن يوصل. وفي سورة الرعد آيات فيها صورة أخرى وهي أن الذين يتذكرون ويتأثرون هم أولو الألباب الموفون بعهد الله والواصلون ما أمر الله به أن يوصل دون الذين يتعامون عن الحق المنطوي في ما أنزل الله على رسوله وبمعنى آخر أن الهدى إنما يكون لهؤلاء بسبب ما عندهم من رغبة في الحق والهدى وهي: فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ
(22)
وجاء بعدها إشارة إلى صفات الذين لا يهديهم الله: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) . وفي سورة الأعراف آية مهمة في بابها تفيد أن الذين حقت عليهم الضلالة هم الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) . وفي سورة إبراهيم آية مؤيدة لهذه المعاني وهي: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) . كذلك في سورة غافر آيات مهمة فيها مماثلة لهذه الآية مع التوضيح وهي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي
آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ
(74)
. وفي سورة يونس آية مهمة أخرى في هذا الباب وهي: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) . وفي سورة الزمر آيات هامة جدا في هذا الباب، وهي: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) ، حيث
تدعو الآيات عباد الله المسرفين على أنفسهم إلى الإنابة إلى الله واتباع أحسن ما نزل إليهم قبل مداهمة العذاب حتى لا يتحسروا على ما فاتهم من الفرص، ويقولوا فيما يقولونه أن لو هدانا الله لا هتدينا وكنا من المتقين فقد جاءتهم آيات الله ليهتدوا بها فكذبوا واستكبروا وكفروا فحق عليهم العذاب.
وقد اهتممنا لتوضيح هذه الآية وبخاصة جملة: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [31] لأنها وأمثالها التي تكررت في القرآن كانت وما تزال موضوع جدل وتشاد بين علماء الكلام في صدد الاستدلال على قابلية الإنسان لاختيار الهدى والضلال ومسؤوليته عن اختياره، ولأنها وأمثالها كانت وما تزال تبدو لبعض الباحثين محل إشكال من حيث توهمهم أن الله يقدر الهدى والضلال على أناس بأعيانهم تقديرا حتميا لا دخل لإرادتهم واختيارهم وكسبهم وأفعالهم فيه.
ونحن نعرف أن هناك أحاديث نبوية صحيحة قد يتعارض ظاهرها مع هذا التخريج. من ذلك حديث رواه الشيخان عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل قد وكّل بالرحم ملكا فيقول أي ربّ نطفة، أي ربّ علقة، أي ربّ مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال الملك أي ربّ ذكر أو أنثى. شقيّ أو سعيد. فما الرزق. فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه» «1» . وحديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن علي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال ما منكم من نفس إلّا وقد علم منزلها من الجنة والنار. قالوا: يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتّكل قال اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له. ثم قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) والآية التالية لها» «2» . وحديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه: «قيل يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ففي العمل أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل قال لا بل فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟
قال: كلّ عامل ميسّر لعمله» «3» . وفي رواية للترمذي: «قال عمر يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما قد فرغ منه فقال فيما قد فرغ منه يا ابن الخطاب كل ميسر، أمّا من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، وأمّا من كان من أهل الشّقاء فإنّه يعمل للشقاء» «4» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ فلذلك أقول جفّ القلم على علم الله تعالى» «5» .
غير أنه ما دام هناك آيات صريحة بأن الله إنما يضل الظالمين وإنه لا يضل
(1) التاج، ج 5 ص 173.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه ص 173- 174.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه.
إلّا الفاسقين وإنه يهدي إليه من أناب وما في باب ذلك فينبغي حمل هذه الأحاديث وأمثالها على سبق علم الله تعالى بما سوف يختار عباده من طرق الهداية والضلال.
وهذا الموضوع متصل من ناحية ما بموضوع القدر وسيأتي تعليق مسهب عليه في مناسبة آتية أيضا، وما تقدم هو من ناحية العبارة بالذات. أما من ناحية جعلها موضوع تشاد كلامي فنقول أولا: إن الآية كما قلنا قبل قد عنت سامعي القرآن الأولين بقصد التنويه بالمؤمنين منهم وإنذارا للكفار ومرضى القلوب وتثبت النبي صلى الله عليه وسلم وإن الأولى أن تؤخذ على هذا الاعتبار ويوقف عنده. ومع ذلك فإن المدقق في الآيات وما يماثلها يجدها تهدف بصورة عامة إلى غير ذلك من حيث إنها تهدف إلى التدعيم والتثبيت والوصف والتقريب والتسلية على ما سوف ننبه إليه في المناسبات الآتية ويجد أن التشاد حولها لا محل له. ولا يتسق مع أهداف القرآن وحكمة إرسال الرسل وإنذار الناس وتبشيرهم، وإن الحق يوجب ألا يخرج القرآن عن نطاقه من التبشير والموعظة والدعوة إلى نطاق الجدل والنقاش ولا سيما فيما يتعارض مع تلك الأهداف والحكمة.
هذا، ولقد رأينا عبد الحميد الخطيب المكي يؤول في تفسيره «تفسير الخطيب» الذي نشره حديثا جملة: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بنسبة المشيئة إلى الإنسان أي إن الله يضل من يشاء لنفسه الضلالة بالكفر والإثم ويهدي من يشاء الهدى لنفسه بالإيمان والعمل الصالح. وقد هدف بتأويله إلى تثبيت قابلية المشيئة والاختيار للإنسان وتنزيه الله عن إضلال الناس وهدايتهم بدون أن يكون في ذلك أثر لكسبهم واختيارهم وأخلاقهم. ومع أن وجهة نظره تلتقي مع وجهة نظرنا التي شرحناها فإننا نرى في تأويله تكلفا وغرابة على غير ضرورة. ولا سيما وهناك آيات تنسب الهدى والضلال إلى الله وليس فيها جملة «من يشاء» مثل آية البقرة [26] التي أوردناها آنفا ومثل آية سورة الأعراف هذه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)، ومثل آية سورة الشورى هذه: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) .