الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على نعت الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالجنون من جهة. وقد حكى ذلك القرآن عنهم في آيات عديدة مثل آية سورة الحجر هذه: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)، ومثل آية سورة المؤمنون هذه: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)، ومثل الآية الأخيرة من سورة القلم نفسها:
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) .
ويلحظ الانسجام والتلاحق بين هذه الآيات وما بعدها، وهذا قد يضعف الرواية الأولى ويسوغ القول إنها نزلت هي وما بعدها سلسلة واحدة أو متلاحقة، وإن ترتيبها كثاني سورة غير صحيح، لأن الآيات التالية لها تضمنت مشاهد تكذيبية وجدلية، وحملة تنديدية وحكاية لقول المكذبين إن القرآن أساطير الأولين، مما لا يمكن أن يكون وقع إلّا بعد نزول جملة غير يسيرة من القرآن واتصال النبي عليه السلام بالناس وتلاوته عليهم واشتباكه معهم بالجدل والحجاج.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
والثناء من الله على خلق النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب البليغ التوكيدي، ووصفه بالعظمة رائع كل الروعة، يتضاءل أمامه كل ثناء ووصف وتكريم بشري، ثم كل ما حاوله بعض المسلمين في وصف شخصيته بأوصاف تكاد تخرجه عن نطاق البشرية، مما جاء في بعض كتب السيرة والشمائل «1» على غير طائل وضرورة، وعلى غير ما صرح به القرآن من أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر في جميع الأعراض والمظاهر، ورسول قد خلت من قبله الرسل، وليس بدعا فيهم كما جاء في آية سورة الأحقاف هذه: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) ، وفي آية سورة آل عمران
(1) انظر كتابنا «سيرة الرسول عليه السلام» ، ج 1 ص 24 وما بعدها.
هذه: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [144]، وفي آية سورة الأعراف هذه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [188]، وفي آية سورة الكهف هذه: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) ، والمتبادر أن ذلك متأتّ من قصور الأفهام عن إدراك ما في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من عظمة وما في نفسه من صفاء، وما في قلبه من إيمان وإخلاص جعله أهلا لاصطفاء الله، فحفزهم إلى البحث عن أسباب أخرى، فيها ما فيها من الغلو الذي لا ينسجم مع طبائع الأشياء، ولا يتسق مع نصوص القرآن.
والآيات من أوائل القرآن نزولا على كل حال، وهذا يعني أن الخلق العظيم الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، واستحق به هذا الثناء البليغ الرباني، قد كان مما تحلى به قبل البعثة، وهو الذي أهّله للاصطفاء والمهمة العظمى، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد جاء في حديث للبخاري عن عائشة أن السيدة خديجة رضي الله عنها حينما عاد إليها بعد نزول الوحي عليه لأول مرة، وقصّ عليها ما رآه وسمعه وقال لها:«إني خشيت على نفسي قالت له كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» «1» ، وجاء في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله «2» بن الزبير أنها قالت له حينما قال لها إني خشيت أن أكون شاعرا أو مجنونا:«أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك» وهذا مما يؤيد قولنا، لأن هذه الأخلاق الكريمة مما كان يتحلى به النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته.
(1) انظر كتاب «التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول» للشيخ منصور علي ناصف ج 3 ص 226 طبعة ثانية نشر دار إحياء الكتب العربية.
(2)
«تاريخ الطبري» ج 2 ص 47- 48.