الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبي صلى الله عليه وسلم وحي الله وقرآنه. والضمير في الآية [23] يدعم هذا القول. ولقد ورد في الحديث المروي عن جابر بن عبد الله والذي ذكرناه في سياق تفسير سورة المدثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى الملك في أفق السماء. فالآية هنا على الأرجح في معرض التوكيد لهذه الرؤية الروحانية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها فكان المؤمنون يصدقونه والجاحدون يكذبونه. وتبكير نزول السورة يؤيد هذا، حيث لم يكن قد مضى وقت طويل على هذه الرؤية. والتوكيد والنفي والتنديد في الآيات قوي يبعث اليقين في نفس من لا يتعمد العناد والمكابرة في صدق هذه المشاهدة، ويجلّي صورة رائعة لصميمية النبي صلى الله عليه وسلم ويقينه بصحة ما رأى، ويؤيد صحة الحديث.
وعلى المسلم أن يؤمن بذلك ويقف عنده ولا يزيد في الظن والتخمين في صدد الماهية والكنه. فلا طائل من وراء ذلك وهما سرّ من واجب الوجوب وسرّ النبوة والوحي الذي تقصر عنه عقول الناس.
تعليق على العرش
وكلمة العرش تأتي هنا لأول مرة ثم تكررت كثيرا. وقد جاءت في سياق ذكر ملكة سبأ في آية سورة النمل هذه: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)، وجاءت جمعا في سياق ذكر القرى التي دمرها الله في آية سورة الحج هذه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)، وأكثر ما جاءت منسوبة إلى الله بمعنى ربّ العرش وصاحبه كما جاءت في هذه السورة أو بصيغة استواء الله على العرش كما جاء في آية سورة الأعراف هذه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)، وذكر في آية في سورة هود هكذا: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [7] ، وفي آية في سورة
الزمر هكذا: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [75]، وفي آية في سورة غافر هكذا: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [7] .
وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات عديدة ذكر فيها العرش، منها حديث رواه الترمذي عن أبي رزين جاء فيه:«قلت يا رسول الله أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء» «1» . وروى الإمام أحمد هذا الحديث بمغايرة يسيرة حيث جاء فيه بعد: «وما فوقه هواء» ، ثمّ خلق العرش بعد ذلك» ، ومنها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «بينما نبيّ الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا العنان هذه روايا الأرض يسوق الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: فإنّها سقف محفوظ وموج مكفوف. قال: هل تدرون كم بينكم وبينها؟
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّ فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع سموات ما بين كلّ سماءين كما بين السماء والأرض. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما به مثل ما بين السماءين. ثم قال: هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها الأرض.
ثم قال: هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن تحتها الأرض الأخرى مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع أرضين بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دلّيتم رجلا بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله ثم قرأ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
(1) التاج ج 4 ص 131.
عَلِيمٌ» «1» [الحديد: 3] .
ومنها حديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة جاء فيه: «ما السموات السبع وما فيهنّ في الكرسي إلّا كحلقة ملقاة بأرض فلاة. والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة، لا يقدر قدره إلّا الله عز وجل» «2» . ومنها رواية معزوة إلى (بعض السلف) جاء فيها: «إن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة. وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة وهو من ياقوتة حمراء» «3» . ومنها حديث رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «شأن الله أعظم من ذلك وإنّ عرشه على سمواته هكذا وأشار بيده مثل القبة» «4» . ومنها رواية عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده جاء فيها: «إن ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام، والعرش يكسى كلّ يوم سبعين ألف لون من النور. لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله. والأشياء كلّها في العرش كحلقة ملقاة في فلاة» «5» . ورواية عن مجاهد جاء فيها: «إنّ بين السماء السابعة وبين العرش سبعين ألف حجاب. حجاب من نور وحجاب من ظلمة. وحجاب من نور وحجاب من ظلمة» «6» والروايات الثلاث الأخيرة لم ترد كذلك في كتب الأحاديث الصحيحة.
وهناك قول معزو إلى بعض السلف بدون أسماء جاء فيه: «إنّ مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة وارتفاعه من الأرض
(1) التاج الجامع ج 4 ص 226- 227، وإذا صح الحديث الثاني فالواجب أن يحمل تعبير (هبط على الله) على غير المعنى الجسماني المادي المتبادر منها أو على معنى الوجود الشامل والإحاطة الكاملة لأن الله عز وجل منزّه عن ذلك.
(2)
تفسير ابن كثير للآية [7] من سورة هود.
(3)
تفسير المفسر نفسه للآية الثانية من سورة الرعد.
(4)
تفسير المفسر نفسه للآية [86] من سورة المؤمنون.
(5)
تفسير البغوي للآية السابقة من سورة غافر.
(6)
المصدر نفسه.
السابعة مسيرة خمسين ألف سنة» «1» . وقول معزو إلى كعب الأحبار جاء فيه: «إن السموات والأرض في العرش كالقنديل المعلّق بين السماء والأرض» «2» . وواضح أنه ليس في الآيات القرآنية ولا في الأحاديث النبوية الصحيحة وغيرها شيء صريح عن ماهية العرش بل باستثناء الرواية التي يرويها ابن كثير عن بعض السلف بأنه من ياقوتة حمراء والتي تتحمل التوقف ليس في الروايات الأخرى أيضا شيء صريح عن ماهيته.
ومهما يكن من أمر فإن من واجب المسلم الإيمان بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة عن العرش والوقوف عند حدّ ذلك بدون تزيد مع الإيمان بقدرة الله تعالى على كل شيء. وبأن ذكر العرش بالأسلوب الذي ذكر به لا بد من أن يكون له حكمة سامية.
ولما كانت الآيات والأحاديث التي ورد فيها ذكر عرش الله قد وردت في صدد بيان عظمة الله عز وجل وعلو شأنه وشمول ربوبيته وسعة كونه وبديع خلقه ونفوذ أمره في جميع الكائنات خلقا وتدبيرا وتسخيرا فإن هذا قد يكون من الحكمة التي انطوت في الآيات والأحاديث. ولا سيما أن الله عز وجل ليس مادة يمكن أن تحدّ بمكان أو صورة أو تحتاج إلى عرش مادي يجلس عليه أو تكون فوقه. وفي القرآن آيات نسبت إلى الله عز وجل اليد واللسان والروح والنزول والمجيء والقبضة والوجه مما هو منزّه سبحانه عن مفهوماتها ومما هو بسبيل التقريب والتشبيه والمجاز. وقد يكون هذا من هذا الباب والله تعالى أعلم.
هذا، وهناك أحاديث وأقوال في صدد استواء الله تعالى على العرش وحمل الملائكة للعرش نرجىء إيرادها والتعليق عليها إلى مناسباتها.
(1) تفسير ابن كثير للآية [86] من سورة المؤمنون وهناك روايات أخرى أوردها المفسران في سياق سور أخرى فاكتفينا بما أوردناه. [.....]
(2)
المصدر نفسه.