الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المذكورة جدلا وحجاجا بين النبي والكفار حول «القرآن» وصحة الوحي الرباني مثل آيات القلم: [9- 15] والتكوير: [19- 29] والفرقان: [1- 6 و 32] والشعراء: [192- 226] والإسراء: [45- 47 و 105- 111] ويونس: [15- 17 و 37- 40] وهود: [13- 14] والسجدة: [1- 3] وسبأ: [31] وفصلت:
[40- 45] إلخ، والمعقول أن يكون الكفار قد جادلوا في أول الأمر في ما احتوته الأجزاء الأولى من القرآن وكادت تقتصر عليه من الأسس والمبادئ وكفروا بنبوة النبي وصحة الوحي الرباني فأخذت هذه الآيات وأمثالها تحكي أقوالهم وترد عليها ردودا مفحمة، وتضرب لهم الأمثال وتذكرهم بمن سبقهم من الأمم والأنبياء وتتوعدهم وتنذرهم بالآخرة وهولها وعذابها. وتتحداهم وتندد بما هم عليه من ضلال وسخف، وتبشر المستجيبين بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة وتثبتهم وتصبرهم وتسلي النبي وتطمئنه إلخ ثم استمر الأمر على ذلك كله مع تنوع في الأساليب حسب تنوع المواقف وتجددها فالإنذار والتبشير والتنديد والتنويه والوعد والوعيد والقصص والأمثال والإلزام والإفحام والجدال إنما هو كما هو واضح جاء تبعا للأسس والمبادئ والأهداف ودار حولها، بسبيل التدعيم والتأييد اللذين اقتضتهما ظروف السيرة والدعوة ومواقف الناس مسلميهم وكفارهم من تلك الأسس والمبادئ والأهداف التي هي الأصل والجوهر في التنزيل القرآني.
-
5- القصص القرآنية:
خامسا: إن ما ورد من قصص وأخبار متصلة بالأمم السابقة وأحداثها أولا لم يكن غريبا عن السامعين إجمالا، سماعا أو مشاهدة آثارا أو اقتباسا أو تناقلا، وسواء منه ما هو موجود في أسفار كتب الكتابيين وغيرهم المتداولة مماثلا أو زائدا أو ناقصا أو مباينا لما جاء في القرآن. أم ليس موجودا فيها مما يتصل بالأمم والأنبياء الذين وردت أسماؤهم فيها مثل قصص إبراهيم المتعددة مع قومه وتسخير الجن والريح لسليمان وقارون والعبد الصالح مع موسى ومائدة المسيح، أو
مما يتصل بغيرهم من الأمم والبلاد العربية وأنبيائهم مما لم يرد أسماؤهم فيها مثل قصص عاد وثمود وسبأ وتبع وشعيب ولقمان وذي القرنين. وثانيا لم يورد للقصة بذاتها وإنما ورد للعظة والتمثيل والتذكير والإلزام والإفحام والتنديد والوعيد.
وفي القرآن شواهد وقرائن ونصوص عديدة مؤيدة للنقطة الأولى مثل ما جاء في آيات سورة الروم: [9] وسورة غافر: [21] وسورة الحج: [45- 46] وسورة الصافات: [133- 138] وسورة القصص: [58] وسورة الفرقان: [40] وسورة العنكبوت: [38] وسورة هود: [100] وسورة إبراهيم: [45] .
وفي أسلوب القصص القرآنية الذي لم يكن سردا تاريخيا كما هو الحال في قصص التوراة والذي تخلله الوعظ والإرشاد والتبشير والإنذار بل والذي جاء سبكه وعظا وإرشادا وتبشيرا وإنذارا، ثم في سياق إيراد القصص عقب التذكير والتنديد والتسلية والتطمين والموعظة وحكاية مواقف الكفار وعنادهم وحجاجهم أو بين يدي ذلك، وتكرارها لتنوع المواقف النبوية دعوة وحجاجا وتنديدا وبيانا وعظة سنين طويلة وتجاه فئات مختلفة تأييد للنقطة الثانية، يضاف إلى هذا ما في القرآن من شواهد ونصوص خاصة وكثيرة أيضا مما يؤيدها كما يبدو واضحا لمن يتمعن في آيات الأعراف:[101 و 163- 166 و 175- 177] والمائدة: [28- 33] والأنفال: [53- 54] والتوبة: [69- 70] ويونس: [12- 13 و 71- 98] وهود: [100- 103] ويوسف: [111] والرعد: [38- 42] وإبراهيم: [9- 14] ومريم: [54- 63] وطه: [99- 101] والفرقان: [35- 40] والنمل: [45- 58] والقصص: [1- 6 و 58- 59] والعنكبوت: [37- 41] ويس: [13- 31] وص: [12- 17] . واللازمة التي اتبعت بكل قصة في سورة الشعراء وهي إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) . وهناك آيتان في سورتي الأنبياء والقصص جديرتان بالتنويه بصورة خاصة لما فيهما من دلالة قوية على أن العرب كانوا يعرفون أخبار الأنبياء ومعجزاتهم وهما هاتان:
1-
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما
أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ
…
الأنبياء: [5] .
2-
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا «1» أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى.. القصص: [47] .
وحكمة النقطة الأولى ظاهرة جلية فيما يتبادر لنا. فالمخاطبون إنما يتأثرون بما احتوته الحادثة أو القصة التي تورد عليهم من موعظة أو مثل أو تذكير وزجر وتنبيه ودعوة إلى الاعتبار والارعواء والتأسي والتدبر في العاقبة إذا كانت مما يعرفونه أو مما يعرفه بعضهم جزئيا أو كليا مفصلا أو مقتضبا. أما إذا لم يكونوا يعرفونه فإنه لا يأتي مستحكم الإلزام والإفحام والتأثير والعبرة، ولا سيما على مخاطبين كافرين بأصل الدعوة التي يراد التذكير بمواقف الغير والسابقين من مثلها وبمصائرهم بسبب هذه المواقف أو جاهلين للحادثة التي يراد استخراج العبرة من سيرها وظروفها وعواقبها.
وهذه الملاحظة مهمة وجوهرية جدا، لأن من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر في القرآن في ماهيات ووقائع ما احتوته القصص التي لم تقصد لذاتها، وأن تغنيه عن التكلف والتجوز في التخريج والتأويل والتوفيق أو الحيرة والتساؤل في صدد تلك الماهيات والوقائع، وأن تجعله يبقي القرآن في نطاق قدسيته من التذكير بالمعروف والإرشاد والموعظة والعبرة ولا يخرج به إلى ساحة البحث العلمي وما يكون من طبيعته من الأخذ والرد والنقاش والجدل والتخطئة والتشكيك على غير طائل ولا ضرورة.
ونريد أن نبحث في ما يمكن أن يرد على موضوع الملاحظة وخاصة نقطتها الأولى.
فلقد ورد في سورة هود بعد قصة نوح خاصة وورد في سورة يوسف بعد إتمام القصة وورد في سورة آل عمران في سياق نشأة مريم آيات جاء فيها تنبيه على
(1) بمعنى هلا.
أن ذلك من أنباء الغيب كما ترى فيها:
1-
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ هود: [49] .
2-
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ يوسف: [102] .
3-
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ آل عمران: [44] .
وظاهر الآيات ينقض تلك النقطة كما هو المتبادر. غير أننا نلاحظ أن قصتي نوح ويوسف خاصة قد وردتا في التوراة قريبتين جدا مما وردتا في القرآن، وإن التوراة كانت متداولة بين أيدي الكتابيين الذين كان كثير منهم يعيشون في بيئة النبي قبل بعثته وبعدها، كما أن أهل هذه البيئة كانوا على صلة وثيقة بهم وبالبلاد المجاورة الكتابية الدين أي الشام ومصر والحبشة والعراق العربي، وأن القرآن قد أكثر من ذكر التوراة مصدقا حينا ومنوها بما احتوته من نور وهدى وحق حينا ومتحديا بها اليهود حينا، وأن فيه آيات تفيد صراحة أو ضمنا أن أهل بيئة النبي كانوا يسمعون من الكتابيين أشياء كثيرة عن كتبهم كما ترى في الأمثلة التالية:
1-
أَتَأْمُرُونَ «1» النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ.. البقرة: [44] .
2-
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا «2» فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.. البقرة:
[89]
.
3-
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ
(1) يعني اليهود.
(2)
يعني العرب.
بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ البقرة: [76] .
4-
أَمْ تُرِيدُونَ «1» أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ البقرة:
[108]
.
5-
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ «2» مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.. آل عمران: [78] .
6-
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ آل عمران: [93] .
7-
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ المائدة: [43- 44] .
وإن أهل هذه البيئة كانوا يثقون بما عند الكتابيين من علوم ومعارف، مما ينطوي في ذلك حكمة ما تكرّر في القرآن من الاستشهاد بهم على صحة الرسالة النبوية مما أوردنا آياته في مناسبة سابقة.
والروايات متضافرة على أن اليهود كانوا يتبجحون بالتوراة في سياق الدعوة النبوية وأحداثها. وأنهم نشروها مرة أو أكثر في مجالس النبي، وعلى أنه كان من أهل بيئة النبي العرب من كان يدين بالنصرانية واليهودية ومطلعا على التوراة والإنجيل فضلا عن من يدين بالنصرانية خاصة من العرب الذين يقطنون في أنحاء أخرى من الجزيرة العربية وأطرافها والتوراة كتاب النصارى كما هي كتاب اليهود فضلا عن اختصاص الأولين بالإنجيل كما هو معروف. وفي حديث البخاري عن
(1) يعني المسلمين.
(2)
يعني المسلمين.
بدء الوحي وقد أوردناه في الفصل الأول صراحة بمعرفة ورقة بن نوفل اللغة العبرانية واطلاعه على التوراة والإنجيل.
فليس مما يصح فرضه أن لا يكون من العرب السامعين للقرآن من يعرف هاتين القصتين. ومثل هذا يقال بالنسبة لقصة مريم التي ورد في بعض الأناجيل شيء قريب مما ورد عنها في القرآن وفي بدء قصة يوسف آية هذا نصها:
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [7] والسؤال عن أمرهم لا بدّ من أن يكون آتيا من معرفة شيء ما أو سماع شيء ما عنهم من دون ريب.
لذلك فإن في الآيات الثلاث المذكورة إشكالا يدعو إلى الحيرة، ولا يستطاع النفوذ إلى الحكمة الربانية فيه نفوذا تاما. وليس من مناص إزاء الواقع ومداه من أن قصص نوح ويوسف ومريم من القصص المشهورة إلا بتأويل هذه الآيات وتخريجها بما يزيل الإشكال ويتسق مع الواقع. وقد رأينا المفسر الخازن يعلق على آية هود فيقول إن قصة نوح مشهورة وإنه ليس مما يحتمل أن لا تكون معروفة، وإنه يجب صرف الآية على محمل قصد عدم معرفة النبي وقومه بجميع تفصيلاتها. وفي هذا التعليق وجاهة ظاهرة كما أنه لا معدى عنه أو عن ما يقاربه كصرف الغيب إلى معنى البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر في صدد القصص التي وردت عقبها خاصة هذه الآيات. وننبه على أن بقية الفصول القصصية في سورتي هود وآل عمران، وكذلك الفصول القصصية المتنوعة الواردة في مختلف السور بما في ذلك قصص نوح ومريم ويوسف لم يرد فيها مثل هذا التعليق والتقييد، وأن قصة نوح ذكرت بتفصيل أو اقتضاب مرات كثيرة في السور التي نزلت قبل سورة هود مثل ص والأعراف والقمر والشعراء، وأن قصة مريم وولادة عيسى ذكرت بتفصيل أيضا في سورة مريم التي نزلت هي الأخرى قبل سورة آل عمران وأشير إليها باقتضاب في سور متعددة أخرى ولم يرد كذلك في سياقها مثل هذا التعليق والتقييد مما يجعل التأويل والتخريج سائغا وصوابا.
ولعل مما يحسن إيراده في صدد قصة نوح مسألة أصنام قوم نوح المذكورة
في سورة نوح وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر فقد كانت الأصنام من الأصنام المعبودة عند بعض قبائل العرب في عصر النبي وقد تسمّى كثير من الأشخاص المعاصرين للنبي بعبودية بعضها مثل عبد ودّ وعبد يغوث وفي بعض الروايات أن العرب اقتبسوا هذه الأصنام وعبادتها من قوم نوح ولعل هذا ما كان متداولا بينهم قبل البعثة. وعلى كل فإن هذا قرينة على أن العرب لم يكونوا جاهلين قصة نوح ومواقفه من قومه بالكلية.
ومما يصحّ إضافته إلى الآيات القرآنية الكثيرة التي احتوت دلائل وقرائن تفيد أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم والأنبياء التي تتلى عليهم من القرآن على سبيل العظة والتذكير أن المفسرين قد أوردوا بيانات كثيرة في سياق كل قصة من القصص القرآنية مسهبة حينا ومقتضبة حينا آخر، ومعزوة إلى علماء السير والأخبار إطلاقا حينا وإلى علماء بأسمائهم مثل ابن عباس ومقاتل ومجاهد والضحاك والكلبي وابن إسحاق ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم حينا، واحتوت تفاصيل وجزئيات حول هذا القصص أو قصصا بسبيلها مهما كان فيها من إغراب ومفارقات فإننا نستبعد أن تكون كلها موضوعة بعد النبي عليه السلام، ونميل إلى القول بل نرجح أنها احتوت أشياء كثيرة مما كان يدور في بيئة النبي قبل البعثة وبعدها حولها، وأنها مما يمكن الاستئناس به في تأييد النقطة الأولى من الملاحظة مما هو متسق مع المنطق وهدف التذكير والوعظ القرآني.
ومما يصح إضافته أيضا صيغة أعلام القصص مثل طالوت وجالوت ويونس وأيوب وفرعون وهامان وقارون وهارون وإبراهيم وآزر وسليمان وداود وإدريس ونوح والمسيح عيسى وموسى وهاروت وماروت إلخ فإن هذه الأعلام قد جاءت في القرآن معربة وعلى أوزان عربية ومن المستبعد أن تكون قد عربت لأول مرة في القرآن، ومن المرجح أن تكون قد عربت وتداولت بأوزانها العربية قبل نزولها وبهذا وحده يصح أن يشملها تعبير إنزال القرآن بلسان عربي مبين لأنها جزء منه وتداولها معربة قبل نزول القرآن يعني كما هو بديهي معرفة العرب شيئا من أخبار أصحابها على الأقل.
وفي ما تكررت حكايته في القرآن عن الكفار من قولهم إنه أساطير الأولين وأن النبي كان يستكتبها وتملى عليه، وإنه كان أناس آخرون يعينونه عليها، وأنهم لو شاؤوا لقالوا مثلها كما جاء في آيات الأنعام:[25] والأنفال: [30] والفرقان:
[5]
والقلم: [8 و 15] مثلا قرينة قوية كذلك إن لم نقل قرينة حاسمة على أن العرب كانوا يسمعون من قصص القرآن ونذره وبشائره وتذكيراته ما اتصل بهم علمه وكان من المتداول بينهم. ولقد يرد أن الكفار حينما كانوا يرددون على النبي تعبير أساطير الأولين خاصة كانوا في موقف المكابر المستخف ومع التسليم بهذا فإن كلمة أساطير لا تقتضي دائما أن تعتبر مرادفة لكلمة قصص خرافية كما هو من مفهوماتها فإنها قد تفيد أيضا معنى المدونات لأنها مشتقة من «سطر» بمعنى «كتب» كما هو وارد في القرآن ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [القلم: 1] وآية الفرقان الخامسة وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا تلهم أن هذا من المعاني المقصودة للكلمة. ومهما يكن من أمرها فإنها تعني على كل حال أنهم يسمعون أخبارا وقصصا وصلت إلى علمهم عن الأمم السابقة حقيقة كانت أو خرافية.
ومما يرد على ما نخمّن سؤال عن مدى ما بين القصص القرآنية وأسفار التوراة والإنجيل المتداولة من مباينات. فقد قلنا قبل قليل إن في القرآن قصصا مقاربة لما في هذه الأسفار كما أن فيه قصصا مباينة في الأسماء والأحداث أو بزيادة ونقص، وأن فيه قصصا متصلة بأسماء رجال هذه الأسفار من أنبياء وغيرهم دون ورودها فيها. والذي نعتقده أن ما قلناه ينطبق على هذا أيضا، وأن ما ورد في القرآن هو الأكثر اتساقا مع ما كان معروفا ومتداولا عند السامعين إجمالا وهذا هو المتمشي مع الحكمة التي نبهنا عليها في القصص القرآنية ونراه طبيعيا ومتسقا مع الواقع والمألوف وهو تداول الناس أخبارا وأسماء على غير الوجه المدون في الكتب والصحف بل وكون المتداول أحيانا كثيرة هو الأكثر صحة من المدون أيضا. فليس والحالة هذه ما يمنع أن يكون لدى النصارى واليهود في عصر النبي
وقبله متداولات مدونة وغير مدونة تساق وتورد على هامش ما ورد في أسفار التوراة والإنجيل وبقصد التوضيح والتفسير والتعليق، هذا بقطع النظر عن احتمالات الاختلاف والمباينة بين الأسفار المتداولة اليوم والأسفار المتداولة قديما. وفي كتب تفسير القرآن روايات كثيرة معزوة إلى الصحابة والتابعين احتوت بيانات عن أحداث تاريخية واجتماعية عربية وغير عربية، وعن أحداث متصلة ببيئة النبي وسيرته ولم ترد في القرآن، وإنما وردت إشارة إليها قريبة أو بعيدة، فأوردت على هامش تفسير الآيات القرآنية وبقصد تفسير بعض الوقائع والأحداث والإشارات والمفهومات التي احتوتها والتعليق عليها ولا يمتنع أن تكون صحيحة كليا أو جزئيا.
ولقد تكون قصص إبراهيم خاصة لافتة للنظر أكثر من غيرها في هذا الباب لأن جلّ ما ورد منها في القرآن لم يرد في التوراة. والمدقق في القصص التي لم ترد في التوراة يجد أنها متصلة بالحياة والظروف والتقاليد التي كانت عليها البيئة النبوية، وبمواقف الكفار العرب وعقائدهم أيضا اتصالا وثيقا سواء في أمر إسكان ذرية من إبراهيم في مكة أو في إنشاء الكعبة، أو في أصول الحج وتقاليده، أو موقفه من أبيه وبراءته منه، أو حملته على عبادة الأصنام وموقفه من قومه من أجلها وتكسيره إياها وإلقائه في النار بسبب ذلك، أو محاجّته مع الملك أو نظرته في النجوم وانصرافه عنها، ويجد أنها داعية إلى التأسي لأنه أبو العرب. والذي نعتقده أن هذه القصص كانت متداولة بين العرب ومتناقلة فيهم جيلا عن جيل دون ما حاجة إلى أن تكون مستقاة من اليهود مع احتمال أن يكون اسما إبراهيم وإسماعيل قد اقتبسا من اليهود لأن التوراة هي أول ما جاء يحمل هذين الاسمين مدونين، وأن من تلك الناحية خاصة تجيء قصص إبراهيم ملزمة للعرب، وتورد في القرآن بقوتها التلقينية والتذكيرية المستحكمة النافذة التي وردت بها كما يمكن أن يبدو لمن يتمعن في آيات البقرة:[124- 141 و 258 و 260] وآل عمران:
[65- 68 و 94- 97] والأنعام: [74- 90] والتوبة: [113- 114] وإبراهيم:
[35- 41] ومريم: [42- 50] والأنبياء: [51- 70] والحج: [26- 37 و 78]
والزخرف: [26- 28] والممتحنة: [4- 6] ، وهذا هو هدف القصة القرآنية بالذات.
ونظن أنه ليس من شيء يرد من مثل هذا على موضوع القصص الأخرى التي لم يرد أسماء رجالها ومواضيعها في أسفار التوراة والإنجيل ولا سيما أن جل هذه القصص عربي الأمم والأنبياء والبلاد، وأن كونها مما كان متداولا عند العرب لا يصحّ أن يكون موضع شك وجدل، وفي الآيات القرآنية دلالات قوية على هذا خاصة مثل آيات العنكبوت:[36- 38] والأحقاف: [37] والصافات: [137- 138] والقصص: [58] والحج: [45- 46] .
هذا، ومعلوم أنه يوجد في القرآن قصص أنزلت جوابا على سؤال صريح مثل قصص ذي القرنين ويوسف وأصحاب الكهف والرقيم، كما أن هناك قصصا أوردت مباشرة مثل قصة نشأة موسى وسيرته في مطلع سورة القصص. ولقد يرد أن في هذا نقضا لما قلناه من أن القصص القرآنية لم تورد لذاتها كما أنه قد يكون بالنسبة لبعض هذه القصص نقضا لما قلناه من أن القصص الموحاة مما كان متداولا وليس غريبا على الأسماع بالمرة.
ولقد قلنا قبل في صدد قصة يوسف إن السؤال عنها لا يمكن أن يكون ورد إلا من أناس سمعوها وعرفوها أو سمعوا وعرفوا شيئا عنها. وهذا ينطبق على قصة ذي القرنين كما هو بديهي، ومضامين آيات أصحاب الكهف والرقيم تلهم أنه كان جدل حول قصتهم وعددهم وسني لبثهم، وهذا يعني أن السؤال وجّه على سبيل الاستفسار- وهذا ما روته الروايات- وبالتالي أن السائلين قد سمعوا وعرفوا شيئا عن القصة. ومعرفة السائلين بعض الشيء لا تقتضي بالبداهة أن لا يكون هناك أناس آخرون يعرفون أشياء كثيرة عنها كما لا تقتضي أن يكون أناس يعرفون ثم أرادوا التحقيق أو الاستفسار أو التحدي إلخ.
وفي كتب التفسير بيانات وتفصيلات جزئية كثيرة عن هاتين القصتين أيضا مما يمكن أن يكون فيه- بسبب كونه مستندا إلى روايات متصلة بعهد النبي- دلالة على تداوله في هذا العهد أيضا. أما قصة موسى فلا نظن أنه يرد أنها كانت غريبة
عن الأسماع وفي القرآن دلالات حاسمة على عكس ذلك أوردنا بعض الآيات عنها.
هذا بالنسبة للنقطة الأولى. أما بالنسبة للنقطة الثانية فإن قصة موسى في سورة القصص قد أعقبها آيات تنديدية وتذكيرية ووعظية معطوفة عليها وكنتيجة لها كما يبدو من الآيات [37- 50] .
وهذا ما يدخلها في نطاق القصص الأخرى الواردة في معرض التذكير والتمثيل والإنذار والدعوة والاعتبار. وكذلك قصة يوسف فقد أعقبها آيات مثل تلك وهي الآيات [103- 111] وانتهت بآية فيها قصد العبرة صراحة حيث جاء هذا التعبير لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111] آخرها.
وقصة أصحاب الكهف والرقيم قد جاءت بعد آيات فيها حملة على الكفار لنسبتهم الولد إلى الله وهي الآيات [4- 8] ، كما أعقبها آيات فيها استمرار في الحملة وهي الآيات [23- 31] ، وأسلوبها متسق مع أسلوب سائر القصص أي أنه تضمن المواعظ والتلقينات الأخلاقية والاجتماعية والدينية واستهدف التدعيم والتأييد للدعوة النبوية وأهدافها حتى ليبدو أن هذا هو المقصود بها عند إنعام النظر في سلسلة آياتها [1- 31] وخاصة في أمر النبي بعدم المماراة كثيرا في شأنهم وإيكال علم ذلك إلى الله. ومع أن قصة ذي القرنين جاءت جوابا على سؤال صريح فإنّ أسلوبها مثل ذلك الأسلوب وقد أعقبتها آيات تضمنت حملة على الكافرين الجاحدين ومتصلة بآيات القصة اتصالا وثيقا نظما وانسجاما. وهذا وذاك يبدوان بارزين عند إنعام النظر في سلسلة الآيات.
وعلى هذا فإن من الصواب أن يقال إن هذه القصص لا تشذ عن الطابع العام للقصص القرآنية الذي نوهنا به في مطلع البحث.
ومما هو جدير بالتنويه ومتصل بالمعنى الذي نقرره وخاصة بالنسبة للنقطة الأولى من الملاحظة أنّ محتويات القصص القرآنية على تنوعها لم تكن موضع جدل ومماراة لا من مشركي العرب ولا من الكتابيين بدليل أنه لم يرد في القرآن أي
إشارة تفيد ذلك صراحة أو ضمنا مع أنهم كانوا يحصون على النبي كل شيء ويترصدون لكل ما يتوهمون فيه تناقضا أو شذوذا عما يعرفونه ويعتقدونه ويتداولونه ويتوارثونه ويسارعون إلى إعلان استنكارهم وتكذيبهم، ويستغلونه فرصة للصد والدعاية والتأليب مما حكى القرآن شيئا كثيرا منه.
وقد يؤيد هذا أن العرب جادلوا في الحياة الأخروية أشد جدال وكذبوا وأنكروا أعنف تكذيب وإنكار فحكت ذلك آيات قرآنية كثيرة حتى لقد شغل هذا الجدل والتكذيب والإنكار وما اقتضاه من ردود وتوكيدات متنوعة الأسلوب حيزا كبيرا من القرآن المكي ولقد كان من أسباب هذا الإنكار والتكذيب والجدل أن العرب كانوا يسمعون ما لا علم لهم به سابقا وما لم يسمعوا عنه شيئا مهما من الكتابيين الذين كانوا مصدرا رئيسيا من مصادر معارفهم لأن أسفار هؤلاء لم تكد تحتوي عن الحياة الأخروية شيئا.
وليس ما نقل عن العرب من قولهم عن القرآن إنه أساطير الأولين مما يفيد تكذيبهم للقصص التي يسمعونها ومماراتهم فيها لأن هذا التعبير كما قلنا عنى كما تدل عليه مضامين الآيات القرآنية مدونات الأولين وقصصهم إطلاقا، ولأنهم كانوا يردّدون هذا القول بقصد تكذيب صلة الله ووحيه بالنبي وصحة التنزيل القرآني والدعوة النبوية والحياة الأخروية لا بقصد المماراة في هذه القصص وتكذيبها وإنكارها كما يظهر من التمعن في هذه الآيات التي ورد فيها التعبير:
1-
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام: [25] .
2-
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ الأنفال: [31- 32] .
3-
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ النحل: [24] .
4-
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً الفرقان: [5- 6] .
5-
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ القلم: [5- 15] .
ولقد أنكر اليهود أمورا واردة في التوراة فتحداهم القرآن بالإتيان بالتوراة وتلاوتها إن كانوا صادقين في إنكارهم كما جاء في آية آل عمران: [93] صراحة وآيات المائدة: [43- 45] ضمنا. ولقد حاجّوا في ما قرره القرآن عن إبراهيم وملته، وقدم الكعبة وصلته بها كما يفهم من آيات البقرة:[132- 141] وآل عمران: [66- 99] صراحة وضمنا.
فلو رأى العرب فيما يسمعونه من القصص تناقضا أو تباينا أو شذوذا عما يعرفونه منها إجمالا أو تفصيلا، أو لو سمعوا أشياء لا عهد لهم بها بالمرة ولو رأى الكتابيون وخاصة اليهود في ما يسمعونه مباينة لما كان متداولا في أيديهم من الكتب وتفسيرها وشروحها أو لما هو متداول ومتناقل بينهم على هامشها مما يتصل بأسماء أنبيائهم لجادلوا وطعنوا وغمزوا، ولذكر ذلك عنهم القرآن في معرض التكذيب والردّ كما ذكر عنهم جدالهم وحجاجهم وإنكارهم وطعنهم في هذا المعرض في الأمور الأخرى التي توهموا فيها تناقضا أو تغايرا أو جديدا لا عهد لهم به، ولا غتنموه فرصة للغمز والطعن والدعاية والتهويش.
ولقد يرد سؤال عما إذا كان النبي يعرف أيضا القصص القرآنية قبل بعثته أو
عن غير طريق الوحي، وعما إذا لم يكن فيما نقرره تعارض معا مع نزول الوحي بها. والذي نعتقده أن النبي خلافا لما قاله بعضهم كان يعرف كثيرا مما يدور في بيئته من قصص الأمم والأنبياء السابقين وأخبارهم ومساكنهم وآثارهم سواء منها المذكور في أسفار التوراة والإنجيل أو غيره كما أنه كان يعرف كثيرا من أحوال الأمم والبلاد المجاورة للجزيرة العربية بالإضافة إلى ما كان يعرفه من أحوال سكان الجزيرة أيضا وتقاليدهم وأفكارهم وعاداتهم وأخبار أسلافهم، وأن هذا هو المتسق مع طبيعة الأشياء، وأن النبي قد اتصل قبل بعثته بالكتابيين الموجودين في مكة وتحدث معهم حول كثير من الشؤون الدينية وحول ما ورد في الكتب المنزلة واستمع إلى كثير مما احتوته، ونرجح أن هذه الصلة قد استمرت إلى ما بعد بعثته، وأنها انتهت بإيمان الذين اتصل بهم بنبوته لما رأوا من أعلامها الباهرة فيه. ولعل فيما ورد في بعض آيات القرآن قرينة على ذلك، فقد جاء في سورة الفرقان هذه الآية وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وفي سورة النحل هذه الآية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) فهذه الأقوال الصادرة عن الكفار التي حكاها القرآن لا بد من أن تكون مستندة إلى مشاهدة اتصال النبي ببعض أشخاص كانوا يعرفون أنهم ذوو علم أو مظنة علم وتعليم ومعاونة، ومنهم غرباء، والمرجح أن الغرباء خاصة منهم كتابيون، فوهموا أنه يستعين بهم أو يعينونه على نظم القرآن وتأليفه فقالوا ما قالوه. والآيات تنفي التعليم والإعانة ولكنها لا تنفي الاتصال. وقد وردت في كتب التفسير روايات تذكر وقوع شيء من هذا الاتصال، وقد جاء في «كشاف» الزمخشري مثلا أنه كان لحويطب بن عبد العزى غلام اسمه عايش أو يعيش وكان صاحب كتب وقيل هو جبر غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي وقيل عبدان جبر ويسار كانا يصنعان السيوف في مكة ويقرآن من التوراة والإنجيل، فكان رسول الله إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآن. وحديث بدء الوحي للبخاري صريح بأن النبي اجتمع بورقة بن نوفل الذي تنصر وقرأ العبرانية وكان يقرأ الإنجيل ويكتبه، وفي روايات السيرة أن
ورقة هذا تولى تزويج النبي وكان عمره خمسا وعشرين سنة بخديجة ابنة عمه، ففي كل هذا ما يستأنس به على صحة ما ذكرناه.
ومن الواضح أن هذا ليس بمخلّ بقدر النبي عليه السلام وعظمته التي إنما كانت تقوم في الحقيقة على ما امتاز به من عظمة الخلق وقوة العقل وصفاء النفس وكبر القلب وعمق الإيمان والاستغراق بالله، ولقد قرر القرآن طبيعة النبي البشرية، وهذا متصل بهذه الطبيعة التي من البديهي جدا أن لا تتناقض مع وقوف النبي على ما كان متداولا في بيئته أو في أي بيئة ونحلة تيسّر له الاتصال بأهلها من أقوال وأفكار وأخبار وعقائد وتقاليد وظروف وأحداث حاضرة وغابرة، بل إن من البديهي جدا أن يكون واقفا على كل ذلك غير غافل عنه، وإن هذا هو المعقول الذي لا يمكن أن يصح في العقل غيره. وإننا لنشعر بالدهشة مما أبداه ويبديه بعض العلماء من حرص على توكيد كون النبي لم يكن له معارف مكتسبة مما لا يتسق مع المنطق والمعقول والبديهي توهما بأن في هذا مأخذا ما على كون ما بلّغه النبي من القرآن إنما أتى من هذه المعارف، ونرى في هذا التوهم خطأ أصليا في تلقي معنى الرسالة النبوية التي هي هداية وإرشاد ودعوة والتي لا يعهد بمهمتها العظمى إلا لمن يكون أهلا لها في عقله وخلقه وقلبه وروحه كما ذكرت آية الأنعام [24] اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ كما أنه آت فيما يتبادر لنا من عدم ملاحظة كون القرآن قسمين متميزين أسسا ووسائل.
ومما يورده هؤلاء حجة آيات العنكبوت هذه:
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ [48- 49] .
حيث يظنون على ما يبدو أن اكتساب المعارف والاطلاع على ما عند الناس من أخبار وأفكار إنما هو حصر على القارئ الكاتب، وليس هذا صحيحا دائما كما أنه ناشىء عن قياس الغائب بالحاضر وهو قياس مع الفارق. والآيات بسبيل تقرير
كون الدعوة التي يدعو إليها النبي وما يبلغه في صددها إنما هو وحي رباني ولم يقتبسه من كتاب، ولا ينبغي أن يكون عندهم محلّ للشك في ذلك لأنهم يعرفون أنه لم يكن يقرأ ولا يكتب، ولا يجحد بآيات الله التي تصدر عن الذين يختصهم الله بمهمته وبيناته إلا المكابرون الظالمون على ما يتبادر. وليس في هذا نقض لما قررناه.
والذي نعتقده أنه ليس في ما قررناه أو في كون القصص القرآنية متسقة إجمالا مع ما كان معروفا متداولا تعارض من ناحية ما مع نزول الوحي الرباني بها على قلب النبي عليه السلام وهو سبب القول أن النبي لم يكتسب معارفه اكتسابا- لأنها لم تنزل لذاتها بقصد القصص والإخبار وإنما أنزلت بالأسلوب والمدى والنحو الذي اقتضت الحكمة نزولها به، في معرض التنديد والموعظة والتذكير والجدل، وكوسيلة من وسائل تدعيم أهداف القرآن وأسس الدعوة النبوية إزاء مواقف المكابرين والمجادلين والجاحدين مما هو موضوع هذا البحث وفوائد الملاحظة التي عقد عليها.
ولقد ورد في القرآن فصول كثيرة جدا مما له صلة ببيئة النبي وحاضر تقاليد أهلها وحياتهم وأمثالهم ومعايشهم وما في أذهانهم من صور متنوعة مما هو معروف مشهود بأسلوب الموعظة والتذكير والتنديد وكوسيلة من وسائل التدعيم والتأييد، وليس من فرق من حيث الجوهر بين هذا وذاك وليس مما يصح في حال أو يمكن أن يرد على بال ولا مما ادعاه أحد أن النبي لم يكن يعرفه عن غير طريق الوحي.
وقد بقيت مسألتان قد تبدوان مشكلتين، أولاهما ما إذا كان ما احتواه القرآن من قصص صحيحا في جزئيات وقائعه وحقائق حدوثه، وثانيتهما ما بين بعض القصص القرآنية المتصلة بنبي أو أمة من بعض الخلاف مثل وصف عصا موسى بالحية في سورة والثعبان في سورة أخرى، ومثل ذكر وقت ما كان يقع على بني إسرائيل من فرعون من قتل الأبناء واستحياء النساء حيث ذكر هذا الوقت في سورة أنه قبل بعثة موسى وفي سورة أنه بعد بعثته. فنحن كمسلمين نقول إن كل ما احتواه القرآن وحي رباني واجب الإيمان وإنا آمنا به كل من عند ربنا، كما أننا نقول بوجوب ملاحظة كون القرآن في قصصه إنما استهدف العظة والتذكير فحسب، الجزء الأول من التفسير الحديث 12