الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بظروف البعثة والسيرة النبوية وتطوراتهما أوثق اتصال، وثانيا أصدق الصور وأوثقها للسيرة النبوية الشريفة في عهديهما المكي والمدني، وسواء في ذلك ما كان روحاني المظهر من حيث الصلة بالله ووحيه وتلقينه وتوجيهه ومدده وتأييده وتعليمه وتأديبه وتثبيته، أو ما كان متصلا بالناس من حيث مواقفهم من النبي عليه السلام ودعوته مسلمين وكتابين ومشركين، ومن حيث تأثرهم بهذه السيرة وهم شهود العيان لحادث «نبوة النبي» في شخص محمد عليه السلام، ثم من حيث موقف النبي من الناس ومن حيث تطور موقفهم منه وموقفه منهم بتطور الدعوة واتساع نطاقها.
فالقرآن من أجل ذلك كله كان وسيظل موضوع نظر وتدبر واستلهام واستنباط لدى الناس على مختلف الملل والنحل والأجناس بطبيعة الحال.
ونريد أن نستدرك بأننا لا نعني أن القرآن قد احتوى جميع صور السيرة النبوية والبيئة النبوية وأحداثها، أو أن ما احتواه منها قد جاء قصدا لها بالذات. فهناك من دون ريب أحداث وصور كثيرة من البيئة والسيرة النبوية لم ترد في القرآن، كما أن ما جاء منها فيه إنما جاء في الحقيقة عرضا وبسبيل الدعوة والموعظة والتذكير والتشريع والأمر والنهي مما اقتضته الحكمة ليكون مصدر إلهام وإيحاء وتوجيه، ومرجع تشريع وتلقين للمسلمين في جميع العصور، ولكن الذي نعنيه أن في القرآن من هذه الصور شيئا كثيرا منه ما جاء بصراحة ووضوح ومنه ما جاء إشارة وتلميحا.
-
6- الوحي الرباني والوحي القرآني:
وصلة النبي عليه السلام بالوحي الرباني التي كان القرآن مظهرها الرئيسي وإن كانت وظلت في حقيقة كنهها سرا على غيره، لأنها متصلة بسرّ النبوة فإن القرآن احتوى آيات عديدة قد تساعد بعض الشيء على فهم مظاهرها ومداها بقدر ما تسمح به اللغة البشرية وتتسع له أفهام البشر الذين يتخاطبون بها.
منها ما جاء في سورة التكوير:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) .
حيث ترد الآيات كما هو واضح على نسبة الجنون وصلة الشيطان بالنبي التي نسبها الكفار إليه حينما أخذ يخبر بحادث رؤياه ملك الله وخطابه له، وسماعه منه أولى آيات القرآن. ولعل هذه الآيات أقدم آيات واردة في الموضوع بهذه الصراحة والصميمية النافذة.
ومنها ما جاء في سورة النجم:
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) .
وهي كسابقتها مضمونا وتوكيدا بصدق تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عن صلته بالله أو ملك الله، ونزول وحي الله عليه. والآيتان الأخيرتان تشيران إلى أن رؤية النبي لملك الله كانت بعين بصيرته وفؤاده، وتتضمنان حجة قوية على انسداد مجال المماراة في هذه الرؤية الخاصة التي ليست قدرا مشتركا بين الناس. ولعل ما يصح التمثيل به- ولله ووحيه ونبيه المثل الأعلى- على سبيل التقريب لمفهوم الآيات ما يخطر ببال الإنسان من خواطر أو ما يراه الرائي في المنام، فهذه وتلك إحساسات أو رؤى خاصة ليست قدرا مشتركا بين الرائي أو الهاجس وغيره حتى تصح فيها المماراة والتكذيب كما تصح في تقرير رواية مشهد من مشاهد الكون كالشمس والقمر والشجر وغيرها. فإذا قال أحد إنه يرى القمر ولم يكن بازغا أو يرى شجرا ولم يكن هناك شجر فالمماراة واردة وصحيحة.
ومنها ما جاء في سورة الشعراء:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) .
والسياق الذي جاء بعدها يلهم أنها هي الأخرى بسبيل الرد على نسبة الكفار صلة النبي إلى الشيطان دون الملائكة والتوكيد بأن القرآن وحي رباني حيث جاء بعد قليل:
1-
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) .
2-
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) .
وفي الآيات الأولى 192- 195 إشارة إلى كيفية صلة وحي الله القرآني بالنبي وهي نزوله به على قلبه مما يتسق مع تقرير آيات النجم الأخيرة.
ومنها ما جاء في سورة النحل:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) .
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) .
وهي مثل سابقاتها تؤكد صلة النبي بالله ووحيه القرآني وتنفي صلة الشيطان المزعومة من الكفار من جهة وتنطوي على كيفية مقاربة لما جاء في الآيات السابقة من جهة أخرى.
ومنها ما جاء في سورة البقرة:
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) .
وقد جاءت الآية في سياق التنديد باليهود ومواقفهم وإعلانهم العداء لجبريل عليه السلام، وانطوت على كيفية مماثلة للكيفية التي احتوتها آيات الشعراء مع صراحة اسم ملك الله الذي كان اسمه معروفا في معرض الوحي الرباني عند اليهود والنصارى والذي ذكر اسمه في أحد الأناجيل في معرض بشارة مريم وحملها بالسيد المسيح عليه السلام.
وفي سورة الشورى آيات فيها بيان كيفيات اتصال الوحي الرباني بالبشر وبالنبي عليه السلام:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) .
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) .
ومع أن الوحي الرباني اصطلاحا هو ملك الله الذي يتصل بالنبي فإن الآية الثانية تلهم أنه أريد به المعنى اللغوي وهو القذف بالقلب والروع على ما فسّره العلماء مما هو متسق مع مضمون الآية الأولى التي احتوت إشارة إلى طريقتين أخريين كما هو ظاهر.
ومنها آيات في سورة القيامة:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) .
وآية في سورة طه مقاربة لهذا المعنى:
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) .
وآيات القيامة خاصة احتوت نهيا صريحا للنبي عن حركة آنية كانت تبدو منه حينما كان ينزل عليه الوحي القرآني وفيها صورة عظيمة المدى لصلة الشعور النبوي بالوحي الرباني، حيث كان النبي يردد ما كان يوحى إليه بلسانه مماشاة لإلقاء الوحي القرآني في آن نزوله عليه حرصا منه على أن لا يفلت منه آية أو كلمة أو حرف أو معنى مما كان يوحى إليه به.
وفي سورتي النحل وغافر آيتان وإن كانتا ليستا في صدد صلة النبي محمد عليه السلام بالوحي خاصة وشخصية فإنهما في صدد معنى ومدى صلة الله ووحيه بمن يختاره لرسالته من عباده:
1-
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ النحل [2] .
2-
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ غافر [15] .
والآية الثانية قد تلهم أن الروح فيها لا تعني جبريل الذي فسرت به الكلمة في أكثر ما ورد في صدد الوحي الربّاني وإنما قد تعني تجليا ربانيا يتصل بالشخص المختار. أما الآية الأولى فإنها تلهم أن هذا التجلي يحدث بمرافقة الملائكة وإطلاقا. وفي سورة فاطر آية تؤيد هذا الإطلاق والشمول:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) .
ولقد وردت في صدد صلة النبي بوحي الله أحاديث عديدة توضح أحيانا بعض ما احتوته الآيات من صور وتتسق أحيانا معها. منها حديث البخاري المشهور عن عائشة رضي الله عنها في كيفية بدء الوحي:
«أول ما بدأ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبّب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزح إلى أهله ويتزود إلى
ذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء.
فجاءه الملك فقال اقرأ. قال ما أنا بقارئ. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم قال اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربّك الأكرم. فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة وأخبرها الخبر. لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك أبدا. إنك لتصل الرّحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عم خديجة. وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع ابن أخيك. فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى. فأخبره رسول الله خبر ما رآه. فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على سيدنا موسى ويا ليتني فيها جذع. ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجيّ هم قال نعم. لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا» .
ومنها حديث رواه الطبري عن ابن الزبير:
«قال رسول الله فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ. فغطّني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ.
وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إليّ بمثل ما صنع بي. قال اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى قوله علّم الإنسان ما لم يعلم. قال فقرأته ثم انتهى ثم انصرف عني وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتابا. قال ولم يكن من خلق الله أبغض عليّ من شاعر أو مجنون. كنت لا أطيق أن أنظر إليهما. قال قلت إن الأبعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون. لا تحدّث بها عني قريش أبدا. لأعمدنّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحنّ. قال فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت
في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فرفعت رأسي إلى السماء فإذا جبريل في صورة رجل صافّ قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه وشغلني ذلك عما أردت فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك. فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي» .
ومنها أحاديث أخرى وردت في البخاري أيضا:
1-
عن عائشة رضي الله عنها أن الحرث بن هشام رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته يتنزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا.
2-
أخبر صفوان بن يعلى أن يعلى كان يقول ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه. قال فبينا النبي كان بالجعرانة وعليه ثوب قد أظلّ معه فيه أناسا من الصحابة إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمّخ بالطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل بعمرة في جبته بعد ما تضمخ بالطيب فأشار عمر إلى يعلى بيده أن تعال فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة ثم سرّي عنه فقال أين الذي يسألني عن العمرة آنفا. فالتمس الرجل فأتي به فقال أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجّك.
3-
أخبر زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 95] فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها قال يا رسول الله والله لو استطعت الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترضّ فخذي ثم
سري عنه فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
4-
عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام قالت وعليه السلام ورحمة الله قالت وهو يرى ما لا نرى.
ففي بعض النصوص القرآنية صراحة بنزول وحي الله بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها ما يمكن أن يلهم أن الوحي تجلّ روحاني رباني ينزل على من يختاره الله من عباده لرسالته تارة مترافقا مع الملائكة وبتخصيص مع جبريل وتارة بدون ذلك، وفي بعضها إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى الملك الرباني بعين بصيرته وكان يسمع كلامه ويتلقى عنه أيضا. والأحاديث الواردة تفيد تارة نزول الوحي على قلب النبي، وتارة رؤية النبي لملك الله وسماعه كلامه وتلقيه عنه كذلك.
وهذه وتلك وآثار عديدة أخرى تفيد أن الوحي كان ينزل على النبي وهو بين الناس أو هو في بيته فلا يشعر به غيره، وكل ما يكون من مظهره أن يأخذه الجهد ويطرأ عليه شيء من الانفعال الروحاني ويتصبب عرقا ثم ينفصم عنه وقد وعى ما نزل عليه فيبادر إلى إبلاغه وإملائه في مجلسه الذي يكون فيه، ويستأنف ما كان فيه من عمل أو حديث، وتفيد كذلك أن النبي كان يشعر بأن الوحي الرباني الذي نزل عليه بمختلف الطرق هو شيء منفصل عن ذاتيته، ولا تصح المماراة في ذلك لأنه المخبر الصادق بأمر لا يستطيع غيره أن يشعر به.
هذا ولقد أثر عن النبي النهي عن تدوين شيء غير القرآن عنه كما تواترت الأخبار بأنه كان يأمر أحد كتابه بتدوين ما كان ينزل عليه من الوحي القرآني فورا.
فهذا وذاك متصلان بشعوره الخاص بالفرق بين ما كان ينزل عليه من وحي قرآني وبين كلامه العادي أو ما يجول في نفسه من أفكار وخواطر أو ما يلهمه من الله إلهاما أو يوحى إليه إيحاء من غير القرآن وبالحرص على عدم الخلط بينهما.
ومما يتصل بهذا الإلهامات أو الإيحاءات الربانية للنبي في صدد أعمال وتشريعات عديدة. فغزوة بدر مثلا أقدم عليها النبي نتيجة لهذه الإلهامات، وسورة الأنفال إنما نزلت بعد وقوعها.
وفي هذه السورة آيات تحتوي، إشارات إلى وقوع تلك الإلهامات قبل الخروج إحداها في صدد القافلة وهي وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الأنفال: 7] واثنتان منها في صدد المعركة وهما إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ
…
[الأنفال: 9- 10] ومع ذلك فإن النبي لم يبلغ هذه الإلهامات على أنها وحي قرآني قبل الخروج أو قبل المعركة، ولكنه سار سير المسلمين إلى الهدف بها، ولم يبلغ الآيات نصا على أنها كذلك. إلا بعد الواقعة وحينما أوحيت إليه مع فصول أخرى من سورة الأنفال على أنها كذلك. ومن هذا رحلة الحديبية وما كان من النبي فيها ورحلة خيبر وتشريع الفيء والخمس والزكاة وصلاة الجمعة وكيفيات وأوقات الصلوات الخمس والوضوء والتنكيل ببني النضير وبني قريظة وغيره وغيره مما يصعب حصره لكثرته حيث كان ذلك بالإيحاء والإلهام الرباني فلم يبلغ النبي ذلك كوحي قرآني وإنما سار وسيّر المسلمين عليه بقوته ولعلّه بكفه للمسلمين على أنه إلهام أو إيحاء مطلق ولم يبلغ ما جاء في القرآن في هذا الشأن بعد السير والتسيير والعمل إلا حينما أوحي إليه على أنه وحي قرآني.
ومما يزيد هذا وضوحا ما يروى عن النبي من الأحاديث المعروفة بالأحاديث القدسية والتي تحتوي كلاما ربانيا.
فليس من أحد يمكن أن يفهم منطقيا بين هذه الأحاديث وبين ما يوحى إلى النبي قرآنا.
ومحتوياتها مما يتصل بمحتويات القرآن وعظا أو إنذارا أو تبشيرا أو إخبارا أو قصصا.
ومع ذلك فقد فرق بينها وبين القرآن ولم يأمر النبي بتدوينها قرآنا. ومما لا ريب فيه أن هذا التفريق يتصل بالصفة القرآنية التي كان يدركها النبي لما يوحى إليه به قرآنا.
ولعلّ في آيات سورة يونس هذه:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) .
دليلا قويا على ما نقرره من ذلك الشعور. كما أن فيها برهانا على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفكر في أي شيء من دعوة الناس والاستعداد لها وكل ما كان من أمره أنه كان مستغرقا في الله وآلائه وعظمته حتى صار مظهر رسالة الله والله أعلم حيث يجعل رسالته فأمر بها فصدع بما أمر.
ومما يجدر التنبيه عليه:
أولا- إن في القرآن آيات عديدة تبدو أنها جاءت على لسان النبي أو على لسان الملائكة مباشرة أي غير مسبوقة بأمر القول ولا معطوفة على آيات فيها ذلك.
مثل:
1-
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هود: [1- 4] .
2-
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا مريم: [64] .
3-
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ الصافات: [164- 166] .
4-
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ
الذاريات: [50- 51] .
وثانيا- إن فيه آيات أخرى احتوت تنبيها على حركة شخصيّة وفورية من النبي عليه السلام وليست متصلة بما سبقها أو بما لحقها من الآيات سياقا وموضوعا وهي آيات سورة طه [111] والقيامة [16- 19] التي نقلناها قبل قليل.
ومع أن المفسرين قالوا في صدد الآيات المذكورة في الفقرة الأولى وأمثالها إن هناك تقديرا وهو أن الله أمر النبي بأن يقول ما قال، وأن الله بلغ النبي ما قاله الملائكة، وأن الآيات على هذا التقدير هي من الوحي الربّاني القرآني فإن في هذه الآيات وتلك ما يسبغ على المعنى الذي نقرّره وضوحا على ما هو المتبادر حيث بلغت قرآنا مع ما جاءت عليه من صيغة وأسلوب.
وعلى كل حال فالنصوص والآثار تسوغ القول إن صلة الوحي الرباني بالنبي هي صلة روحية خاصة به، كان يشعر بها بالقوة التي اختصه الله بها دون أن يكون بإمكان غيره إدراكها، غير أن أثرها قائم قياما حاسما لا سبيل إلى المماراة فيه، وإن من الممكن أن يدرك بعض كيفياتها وصورها من الآيات والأحاديث والإيضاحات التي أوردناها آنفا.
وروحانية صلة النبي عليه السلام بالوحي الرباني وخصوصية ذلك بإدراك النبي عليه السلام قد تبدوان واضحتين أيضا بما كان من تحدي الكفار للنبي باستنزال الملائكة مما حكته آيات مكية عديدة مثل هذه:
1-
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ الأنعام: [8] .
2-
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ هود: [12] .
3-
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ الحجر:
[6- 8] .