الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[13]
من سورة محمد وقد شككنا في الروايات لأن مضامين الآيات وسياقها يحمل على التوقف بالإضافة إلى روايات أخرى تخالفها. ومع ذلك فعلى فرض صحتها فإنها ليس من شأنها أن تخلّ بما نقرره وأن تمنع أن يكون النبي قد أمر بإخراج بعض الآيات من سور مكية وإضافتها إلى سياق مناسب لها أكثر في سور مدنية بل إن في هذا نفس الدلالات التي ذكرناها آنفا.
وعلى كل حال فليس من المعقول أن يتصرف الصحابة بعد النبي فينقلوا آيات من سور مكية إلى سور مدنية وآيات من سور مدنية إلى سور مكية البتة، وأنه لا يكاد يتحمل شكا في أن نقل آيات نزلت في عهد إلى سور أو مجموعة آيات نزلت في عهد آخر إنما يكون وقع في حياة النبي وبأمره.
وقد يرد ما ذكرته الروايات عن آخر الآيات نزولا مثل آيات الدين أو الربا في سورة البقرة، فعلى صحة هذه الروايات فإنه ليس فيها ما ينقض ما قررناه من ترتيب آيات القرآن في السور في حياة النبي عليه السلام وبأمره، إذ من الممكن والمعقول أن يفرض أن النبي هو الذي أمر بوضعها في مكانها التي هي فيه الآن كما كان شأن آخر آيات سورة النساء، بل وإن وجود هذه الآيات في مواضعها ليقوم دليلا على صحة هذا الفرض بل وعلى أن لا يكون إمكان لغرض غيره. ففي سورتي البقرة وآل عمران مثلا آيات مقاربة لموضوع الآيات المذكورة، في سورة البقرة، فلو لم تكن الآيات موضوعة في مكانها بأمر النبي لكانت وضعت هذه الآيات المتقاربة في سلسلة واحدة. ويقاس على هذا غيره.
-
10-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال]
ورابعا: أما ترتيب السور في تسلسلها على ما هو في المصحف المتداول فليس في القرآن ما يمكن أن يستلهم منه على أن ذلك قد تم في حياة النبي وبأمره، إلا قرائن قليلة قد لا تكون شافية. منها عدم فصل سورة التوبة عن سورة الأنفال في البسملة وتقديم الأنفال عليها مع أنها ليست من الطوال ولا من المئين.
والسورتان إذا اجتمعتا تكونان سورة طويلة وتنسجمان مع السور الطوال الست
السابقة. والثابت المؤيد بمضامين السورتين أن الأنفال من أوائل ما نزل في المدينة في حين أن التوبة من أواخر ما نزل فيها فورودهما واحدة وراء الأخرى وفي سلك الطوال ودون فاصل ببسملة يلهم أنه بأمر النبي إذ لو كان هذا الترتيب بعده لو ضعت الأنفال في سلسة المثاني كما هو شأن سورتي النور والأحزاب المدنيتين اللتين جاءت كل منهما منفردة بين سور مكية ومنها ما يلاحظ من الشذوذ في ترتيب السور الأطول وما يليها. فسورة المائدة أقصر وأقل عدد آيات وحيزا من سورتي الأنعام والأعراف بل ومن سورة التوبة بمفردها ولكنها جاءت قبلها. وسورة الشعراء من حيث عدد آياتها تأتي بعد سورة البقرة فهي أكثر عدد آيات من سائر السور الطويلة وسور المئين وقد جاءت مع ذلك بعد ثلاث وعشرين سورة كلها أقل عدد آيات منها ومنها ما هو أقل حيزا أيضا وآيات سورة الصافات التي جاء ترتيبها متأخرا جدا أكثر عددا من آيات سور النساء والمائدة والأنعام وهي أكثر آيات من جميع السور باستثناء البقرة والشعراء والأعراف والنساء وسور إبراهيم والرعد، والحجر أقل حيزا وعدد آيات من سور النحل والإسراء والكهف ومريم وطه ومع ذلك فقد جاءت قبلها. وسورة الأحزاب أكبر حيزا وأكثر عدد آيات من سور الروم ولقمان والسجدة التي سبقتها. وسورة الأعراف أكثر عدد آيات وأكبر حيزا من سورتي الأنعام والمائدة اللتين تقدمتاها. وسورة القصص أكبر حيزا وأكثر عدد آيات من سور الفرقان والنور والحج وأكبر حيزا من سورة النمل التي تقدمتها.
وسورة غافر أكبر حيزا وأكثر عدد آيات من سور الزمر ويس وفاطر وسبأ وأكبر حيزا من سورة ص التي تقدمتها ومثل هذا يقال في سورة الزمر وما تقدمها من بعض السور وما ذكرناه هو الشذوذ البارز. وهناك غيره غير قليل مما يدخل في هذا النطاق من حيث الحيز وعدد الآيات أو الأمرين معا بين السور المتوسطة والقصيرة ففي هذا على ما يتبادر لنا ملهمات بأن الترتيب قد كان بأمر النبي للحكمة التي رآها اجتهادا أو بناء على وحي رباني، فلم يكن من شأن أصحابه من بعده أن يبدلوا أو يغيروا فيه ولو لم يكن الأمر كذلك لاجتهدوا في إتمام النسق وفقا للترتيب الذي رأوه وجيها من تقديم الأطول ثم الذي يليه دون ما شذوذ بارز على الأقل. وليست
السور مرتبة بحسب مكيتها ومدنيتها أو بحسب نزولها حتى يعلل هذا الشذوذ بذلك وليس هذا بعسير التعيين والعمل كما يبدو للمدقق في السور.
وننبه على أننا هنا بسبيل الاستلهام من القرآن. ونعتقد أن ما قررناه تعليقا على الروايات والأحاديث والأقوال بأن ترتيب الآيات في السور وترتيب السور في تسلسلها المتداول في حياة النبي وبأمره هو قوي بذاته فضلا عن ما تلهمه القرائن القرآنية، وقوته مستمدة بنوع خاص من اتساقه مع طبائع الأمور والظروف، ومن سكوت جميع الروايات والأحاديث المتصلة بأصحاب رسول الله عن القول بأن تحرير المصحف في زمن أبي بكر ونسخ المصاحف في زمن عثمان قد استهدفا ترتيب آيات في سور أو سور في تسلسل أو تناولاه ولهذا دلالته الخطيرة، ومن أن مصحف عثمان هو نسخة طبق الأصل لمصحف أبي بكر وهو أصل المصحف المتداول في ترتيب آياته وسوره.
هذا وأخيرا نريد أن ننبه على أمر مهم في صدد هذه المباحث ومداها فإن ما تناولته إنما هو بسبيل البحث العلمي والتاريخي، وليس من شأنه أن يمسّ لبّ الموضوع، وهو كون القرآن المتداول بين المسلمين والذي هو في متناول الجميع سوره وفصوله ومجموعاته وآياته وكلماته ونظمه متصلا بالنبي وصادرا عنه مباشرة بوحي رباني نزل على قلبه، وكون هذا لم يكن في وقت من الأوقات موضع أخذ وردّ ومحل شك وتوقف من قبل المسلمين على اختلاف نحلهم وفرقهم وأهوائهم ومن لدن مشاهدي العيان في حياة النبي إلى الآن، كما أن صدوره مباشرة عنه لم يكن محل ريب من قبل غير المسلمين أيضا، وكون ما جاء ذكره في الروايات جميعها وعلى ما فيها من علل كثيرة من الآيات والكلمات والحروف لا يزيد على أكبر تقدير عن واحد في المائة من آيات القرآن التي تزيد عن ستة آلاف ومئتين، وكلماته التي تزيد عن سبعة وسبعين ألفا وحروفه التي تزيد عن ثلاثمئة ألف، وكون هذه النسبة التافهة جدا مع العلل الكثيرة التي تجعلها غير صحيحة ليس من شأنها أن تخل بتلك الحقيقة المسلم بها، وأن القرآن كان وظلّ ولن يزال معجزة النبي العظمى الخالدة أصفى منبع للأحكام والعقائد والتشريع والإلهام والفيض والتوجيه
والتلقين، فيه الحق والهدى والصدق والرشد، وفيه المبادئ السامية والشفاء للصدور والعلاج للنفوس والحلول لمتنوع المشاكل الإيمانية والروحية والسلوكية للناس كافة، أنزله الله على قلب نبيه الكريم وخلفه النبي عليه السلام في المسلمين فلا يضلّون أبدا إذا ما اتبعوه وتمسكوا به، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
وإنه ليصحّ أن يقرر جزما أنه قد ظل سليما في حفظ الله محفوظا كل الحفظ من كل تبديل وتغيير وتحريف وزيادة ونقص مجمعا عليه في رسم واحد ونصّ واحد ومصحف واحد وترتيب واحد في مشارق الأرض ومغاربها، وظل يحتفظ بإشراقه وسنائه وروحانيته، ونفس ألفاظه وحروفه وأسلوب ترتيله وتلاوته التي تلاها رسول الله وبترتيبه الذي وضعه، وبكل ما فيه من معاتبات ومؤاخذات وبهت وتكذيب وهزء وزراية ونسبة افتراء وسحر وشعر وكهانة وتعلم واقتباس وجدل مع مختلف طبقات الناس، ومن تقريرات لحقيقة شخصية الرسول البشرية، وتطور في التشريع والمواقف المتنوعة مما لم يتيسر لأي كتاب سماوي ولا لأي نبي، وظل بعد هذا مرجع كل خلاف، والحكم في كل نزاع بين المسلمين على اختلاف فرقهم وأهوائهم والقول الفصل في كل مذهب وعند كل نحلة من مذاهبهم ونحلهم على كثرتها، فتحققت بذلك معجزة الآية الكريمة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وإنها لمعجزة كبرى تستحق التنويه في هذا المقام، ويكفي لتبيين خطورتها أن نذكر ما كان من فتن وخلاف وشقاق وحروب منذ صدر الإسلام الأول وما كان من اجتراء الناس في ذلك العهد وبعده على رسول الله والكذب عليه في وضع الأحاديث المتضمنة تأييد فئة على فئة ورأي على رأي ودعوة على دعوة ولإضعاف ذلك بالمقابلة، وما كان من وضع الروايات والأحاديث لصرف آيات من القرآن إلى غير وجهها بسبيل ذلك، وما كان من استعلاء قوم على قوم وشيعة على شيعة استعلاء القوة والسلطان مع اشتداد العداء والتجريح واشتداد تيار الأحاديث المفتراة، وأن نذكر أن هذا كان في حين لم يكن القرآن مطبوعا أو مصورا، وفي حين لم يكن من المستحيل أن يجرأ الذين اجترءوا على رسول الله وعلى كتاب الله