الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وظروف البيئة النبوية، واعتبار هذه الأحداث والظروف شأنا عابرا. وأن هذا قد أدى إلى ما قيل من أقوال وضمّن من تخمينات حول أسرار القرآن وحروفه ورموزه ومغيباته وماهيات ما جاء فيه من مشاهد الكون ونواميس الخلق وقصص التاريخ والأمثال ومطوياتها مما لا يتسق مع حقائق الأمور وأهداف القرآن الواضحة في الهداية والإرشاد والدعوة إلى الخير والحق وأسباب السعادة، ومما فيه تشويش على الأهداف وعلى الناظر في القرآن والراغب في تفهمه وتفهم السيرة النبوية والبيئة النبوية والأسس والمبادئ القرآنية، وما كان من سير التشريع القرآني وتطوره.
-
11- النهي عن التفسير بالرأي وأثره:
رابعا: ومن ذلك ما ورد في النهي عن تفسير القرآن بالرأي. وما قيل من وجوب الوقوف في تفسيره عند حدود الروايات المروية عن النبي والصحابة والتابعين أو علمائهم.
فقد قال بعض العلماء إنه لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي في ذلك، وقال بعضهم إن التفسير قسمان قسم ورد تفسيره بالنقل وقسم لم يرد، والأول إما أن يكون عن النبي أو الصحابة أو رؤوس التابعين، وإما لم يرد فيه نقل فهو قليل، وقال بعضهم إن ما ورد فيه حديث نبوي لا يعدل عنه فيه إلى غيره، وما لم يرد فيه حديث نبوي وورد فيه قول صحابي فلا يعدل فيه إلى غيره، وما لم يرد فيه قول صحابي وورد فيه قول عالم تابعي أو قول تابعي- على اختلاف في التخصيص والإطلاق- فلا يعدل فيه إلى غيره، وإنه إذا كان هناك أقوال عديدة من مصدر من هذه المصادر الثلاثة فيجتهد في التوفيق والجمع بينها. وقد روي عن الشافعي أنه قال إنه لا يحلّ تفسير المتشابه إلا بسنّة أو خبر أو إجماع «1» ، ولم يحدد المتشابه في هذا
(1) الأقوال ملخصة عن «الإتقان» للسيوطي.
القول مع أن مداه واسع جدا وموضوع خلاف كبير.
ولما كان قد ورد روايات منسوبة إلى المصادر الثلاثة المذكورة كثيرة جدا وصف ما ورد عن ابن عباس منها بوصف لا يحصى، وقيل إن ما روي منها منسوبا إلى النبي والصحابة نحو خمسة عشر ألفا، وتكاد تشمل كل آية في القرآن، بل وإن كثيرا ما ورد في آية واحدة أكثر من رواية وحديث، وقد روي تفسير كامل عن ابن عباس وحده، ونسب إلى تابعين وتابعي تابعين تفاسير عديدة كاملة أو ناقصة فإن من شأن الأقوال الواردة في إيجاب الوقوف في التفسير عند الروايات والأقوال المنسوبة إلى المصادر الثلاثة المشار إليها أن يؤدي إلى أن هذا الموقف يجب أن يشمل جميع آيات القرآن.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد روي حديثان نبويان أخرج أحدهما أبو داود والترمذي والنسائي جاء فيه «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وأخرج ثانيهما أبو داود جاء فيه «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» وفسّر بعضهم تعبيري «برأيه» و «بغير علم» في الحديثين بغير سند من حديث أو رواية أو خبر..
وقد التزم إمام المفسرين بعد عصر تابعي التابعين أي الطبري هذا المبدأ فألّف تفسيره الكبير في نطاقه، ويكاد يكون قاصرا على الروايات المروية عن المصادر الثلاثة المذكورة. وفعل قبله مثله البخاري في الكتاب الذي عقده في صحيحه على التفسير وبوّبه على ترتيب السور في المصحف مع التزامه شروطه في رواية الأحاديث والأقوال المنسوبة إلى هذه المصادر.
ومع أن من العلماء المتقدمين من خرّج الحديثين النبويين تخريجا من شأنه التوسيع فقال إنهما في صدد النهي عن التفسير بالهوى، وعن القول بقول يعلم قائله أن الحق غيره، وعن الكلام في القرآن بغير علم يساعد صاحبه على الاستنباط وحسن الإدراك من معرفة باللغة والفقه والناسخ والمنسوخ إلخ، وإن منهم من أورد بعض الأحاديث التي تسوغ النظر في القرآن والاجتهاد في الاستنباط منه مثل
الحديث الذي أخرجه أبو نعيم وجاء فيه «القرآن ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه» ، وإن منهم من قال إن المسلمين مأمورون بنص القرآن بالنظر فيه وتدبره وتفهم أحكامه وهذا هو متناول التفسير والتأويل، وإن نصوص القرآن تحتم صرف الأحاديث النبوية في حالة صحتها إلى مثل ما صرفت إليه، وأنه ما من آية إلا ويحب الله أن يعلم الناس فيما أنزلت وما أريد منها، ومع أن هذا التوجيه متسق مع طبائع الأشياء، بحيث يكون النهي في الأحاديث إذا صحت قد استهدف النعي على الذين يحاولون صرف نصوص القرآن ودلالاته إلى تأييد بدعة في القول أو رأي فيه انحراف عن جادة الحق وتلقينات القرآن الواضحة ومفهوماته المتواترة، وعلى الذين يلقون الكلام في القرآن على عواهنه ويحملون عباراته غير ما تتحمله ويخوضون في الماهيات الغيبية التي وردت الإشارات إليها بغير سند، ولم يستهدف خطر التدبر في آيات القرآن وأهدافه وتفهم معانيه بالعقل والتفكير والدراية والاستنباط والمقايسة، وخاصة في سبيل تجلية الأهداف السّامية والمثل العليا والأحكام الشرعية التي تنطوي فيه، لأن هذا هو الذي أوجبه القرآن على سامعيه وأنزل على النبي من أجله وجرى السلف الصالح عليه، وهو الذي تدل عليه الروايات الكثيرة جدا المعزوة إلى علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم والوارد كثير منها في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا إذ أن كثيرا من هذه الروايات إن لم يكن أكثرها تأويلات وتفسيرات اجتهادية شخصية، ويدل عليه كذلك سير المفسرين الذين جاؤوا بعد هذه الطبقة على هذا النمط متجاوزين أحيانا كثيرة حدود الروايات المعزوة إلى المصادر الثلاثة، ومدونين هم الآخرون تأويلات وتفسيرات اجتهادية شخصية نقول إنه مع ذلك كله فإن الروايات ظلت عماد التفسير الأقوى وركنه الأعظم.
ومما لا ريب فيه أن الفكرة من حيث أصلها وجيهة كل الوجاهة، لأن الصحابة والتابعين وخاصة علماءهم هم أعلم بمفهومات القرآن ودلالاته ومناسبات نزوله ومدى مقاصده على اعتبار أنهم أشد الطبقات اتصالا بظروف نزوله وجو نزوله، ومما لا ريب فيه أن القول أقوى صحة ووجاهة وصوابا وأولوية بالنسبة الجزء الأول من التفسير الحديث 18
للأحاديث النبوية، كما أن للنهي والتشديد ما يبرر هما لأن خطورة شأن القرآن من جميع الاعتبارات توجب حتما الاحتياط والتروي والتدبر وعدم إلقاء الكلام فيه جزافا، وتجعل الانحراف عن هذه الخطة والخطأ الناشئ عن غير علم وروية إثما كبيرا، لما يترتب عليه من آثار تمسّ بأمور الإيمان والعقيدة ومصالح الإنسانية عامة والمسلمين خاصة.
ومما لا ريب فيه أيضا أن هناك أحاديث نبوية وصحابية قوية الأسناد وردت في كتب الصحاح ومتسقة مع روح الآيات القرآنية ومضامينها كما أن هناك أقوالا منسوبة إلى الصحابة والتابعين وخاصة علمائهم وردت في كتب الحديث المعتبرة سائغة ومعقولة المتون كذلك في شرح العبارات القرآنية وتفسيرها وإيضاح مداها، فيجب الأخذ بتلك الأحاديث وهذه الأقوال والوقوف عندها وإدارة الكلام في نطاقها تبيانا وشرحا وتجلية وتطبيقا.
غير أنه مما لا ريب فيه أن الروايات والأقوال لا يصح أن تؤخذ قضايا مسلمة في هذا الصدد كما في غيره إلا بعد التمحيص متنا وسندا وتطبيقا ومقايسة على العبارات والدلالات القرآنية، وإنه قد تسوهل في هذا الباب تساهلا عظيما، وإن كثيرا مما ورد إن لم نقل أكثره مما يحمل على التوقف فيه من حيث أسناده ومتونه، لغلبة احتمال الخطأ والتحريف والتلفيق والدسّ والانتحال والغرض السياسي والطائفي والنحلي فيه وخاصة ما لا يتسق في مداه ومعناه مع روح الآيات والوقائع التي يلهمها القرآن، وإنه يصدق فيه قول ابن حنبل الذي أشرنا إليه في مناسبة سابقة «ثلاثة لا أصل لها التفسير والمغازي والملاحم» بل ولعلّه إنما قيل بسبب هذه العلات.
ومع أن العلماء والمفسرين قالوا بوجوب التمحيص والنقد، وتوقفوا في روايات وأقوال كثيرة وناقشوها وجرحوها، وفي طليعتهم إمام مفسري المأثور الطبري فإن النهي في أصله والقول بالأخذ بالروايات أولا، وكثرة الروايات كثرة عجيبة ثانيا جعل هذه الروايات تستفيض في مختلف كتب التفسير على علاتها،
وتكون عمادا قويا بل العماد الأقوى فيها، ولم يحظ إلا القليل منها بالنقد والتمحيص والجرح، بل وإن هذا المنقود المجروح لم يبعد من كتب التفسير، ومنها ما لم يشر إلى جرحه، وكان هذا من أسباب وعلل ما وقع في هذه الكتب من تشويش واضطراب وإغراب ومفارقة، وما أدى إليه من تشويش على الناظر في القرآن والراغب في تفهمه، ومن اتخاذه من قبل المغرضين وسيلة إلى الغمز والطعن وسوء التفسير والاستنباط، سواء أكان ذلك في أحداث السيرة النبوية المختلفة أم في ظروف البيئة النبوية، أم في ما احتواه القرآن من قصص ومشاهد كونية وأخروية وأخبار إيمانية غيبية، أم في انسجام الفصول والمجموعات القرآنية وتوجيهاتها وتلقيناتها ومداها الخاص والعام والزمني المستمر.