الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
10- القرآن والعرب في عهد النبي:
والناظر في القرآن يجد أن موضوع (القرآن) وصلته بالوحي الرباني كان موضوعا رئيسيا بل من أهمّ المواضيع الجدلية بين النبي وبين زعماء الكفار ونبهائهم. وقد نسبوا إلى النبي في سياق ذلك أنواع النسب فقالوا إنه شاعر وإنه كاهن وإنه ساحر وإنه كاذب وإنه مفتر وإنه يقتبس ما يتلوه من أساطير الأولين وكتبهم وقصصهم، وإن هناك من يعلّمه ويساعده في ما ينظمه ويتلوه، وإنه مسحور وإنه مجنون وإن الذين يوحون إليه به هم الشياطين والجن على ما كانوا يعتقدون ذلك في شأن السحرة والكهان والشعراء. وتآمروا سرا وعلنا على التشويش عليه واللغو عند تلاوته، والإعراض والصدّ عن سماعه، واستغلّوا بعض الظروف «1» في صدده فحملوا بعض ضعفاء الإيمان على الارتداد إلخ، ويجد أن هذا الموضوع قد شغل حيزا غير يسير من سور القرآن وخاصة المكي منه «2» ، وإن القرآن قد حكى عنهم ما قالوه وفعلوه بكل ما في ذلك من جرأة وصراحة وبذاءة وسوء أدب واتهام ومكابرة، وردّ عليهم ردودا قاطعة قوية عنيفة كانت تتلى عليهم على ملأ الناس وتقذف في وجوه الجاحدين والمعاندين والمكذبين والصادقين والمحاجين مسفهة تارة ومنددة تارة ومتحدية تارة ومبينة للأسباب الحقيقة التي
(1) اقرأ آيات النحل [98- 110] وكتابنا «سيرة الرسول» ج 1 ص 241- 244.
(2)
الآيات كثيرة جدا ومبثوثة في سور القرآن عامة المكي منها خاصة ومع ذلك فإننا نشير إلى بعضها للرجوع إليه والتمعن فيه: البقرة: [21- 25 و 40- 46 و 89- 91]، والنساء:
[163- 170]، والأنعام:[68- 69 و 124]، والأنفال:[31- 32]، ويونس:[15- 17 و 36- 40]، وهود:[13- 14]، والحجر:[6- 15]، والإسراء:[45- 48 و 89- 93]، والكهف:[1- 6]، والأنبياء:[2- 10]، والمؤمنون:[66- 67]، والفرقان:
[1- 6 و 30- 34]، والشعراء:[192- 227]، والنمل:[1- 6]، والعنكبوت:[45- 52]، والسجدة:[1- 3]، وسبأ:[1- 9 و 31- 35 و 43- 48]، والحج:[72- 78]، وفاطر:[29- 43]، ويس:[1- 11 و 69- 70]، وفصلت:[26 و 44 إلى 46] .
تمنعهم من الإيمان والتصديق تارة كالاستكبار والتعاظم والاعتداد بالمال والجاه والعصبية، وخشية فقدان المنافع والمصالح وعدوان الخارج وقطيعة الناس وانفضاض الجمهور عنهم إلخ. ثم ظل النبي بتأييد الله ووحيه وقوته وتثبيته لا يزداد إلا استغراقا في مهمته وفناء في ربّه واستمرارا في الدعوة إليه وإشفاقا على قومه لينقذهم ثم لينقذ البشر جميعا من الضلال ويخرجهم من الظلمات إلى النور، إلى أن يسّر الله أمر الهجرة إلى المدينة المنورة وأيد نبيه بنصره وحقق له وعده فنصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب، وأهلك أكثر الزعماء الأقوياء المستكبرين الصادين الذين قادوا حملة المعارضة وتولوا كبرها، ودخل الناس في دين الله أفواجا وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. فالقرآن يمثل فيما يمثل هذه القوة الروحانية العظمى التي كانت وما زالت الحاسمة في الموقف والمثيرة للإعجاب والإعظام والإجلال.
ومن الجدير بالذكر أن كل ما يمكن أن يقوله كافر جاحد عنيد شديد العداء عن القرآن والنبي قد قاله كفار العرب في حضرته مباشرة، وبكل عناد وقوة ولجاجة، وإن النبي قد ردّ عليه بلسان القرآن بكل قوة وعنف وقطعية وإفحام وصمد له صمودا رائعا عظيما. وكان ذلك على مرأى ومسمع من مختلف الفئات ثم استمر في تبليغ الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق وأسباب سعادة الدارين، وفي كل هذا دليل قوي أخاذ على ما كان من عمق شعوره عليه السلام بصدق رسالته وصدق صلته بالوحي الرباني وإدراكه التام لمدى مهمته العظمى واستغراقه فيها.
وإن المرء ليشعر بها شعورا يملك عليه نفسه إذا كان حسن النية متجردا عن الهوى إذ يقرأ في القرآن آيات النساء [167] والأنعام [93] والشورى [24] والأحقاف [8] والحاقة [38- 52] التي نقلناها قبل ويقرأ منها آيات يونس هذه:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا الجزء الأول من التفسير الحديث 5
أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) .
ومن العجيب أن يظل المغرضون من المبشرين والمستشرقين يأخذون ويردون ويعيدون ويبدئون فيما لم يقصر به زعماء كفار العرب مع النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وبعد أن احتوى القرآن ما احتواه في صدد ذلك من آيات رائعة وردود قوية وتحدّ مفحم وصميمية نافذة مستولية، وأن يتمسكوا كما تمسك أولئك بالقشور دون اللباب وبالعرض دون الجوهر وأن لا يتورعوا عن البذاءة والغثاثة والصغار والمراء بالباطل وأن لا يكون تقدم الأدب الإنساني والحضارة الإنسانية والتفكير الإنساني ذا أثر رادع في مكابرة المكابرين ومماراة الممترين وخروجهم فيهما عن نطاق الأدب والحق والمنطق.