الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهما لا يتحققان إلا فيما هو معروف ومسلم به إجمالا من السامع وأن هذا أيضا من الحق الذي انطوى فيه حكمة التنزيل، وبوجوب الوقوف من هذه القصص عند الحدّ الذي استهدفه القرآن وعدم الاستغراق في ماهياتها على غير طائل ولا ضرورة، لأنها ليست مما يتصل بالأهداف والأسس على ما ذكرناه في مطلع البحث وهذا هو الجوهري فيه. وهذا القول يصح على المسألة الثانية مع التنبيه على أن الخلاف ظاهري ويمكن التوفيق فيه وتأويله، وعلى أنه متصل بالماهيات والحقائق التي لم تقصد لذاتها كما كررنا قوله.
ونريد أن ننبه على ظاهرة قرآنية مهمة فيها توكيد لما نقرره واتساق معه، وبالتالي فيها دليل انسجام في الأساليب القرآنية ومراميها مكية كانت أو مدنية.
وذلك أن أسلوب القرآن القصصي وهدفه قد اتسقا مع ما ورد فيه من ذكر الوقائع الجهادية والمواقف القضائية والحجاجية وغيرها من أحداث السيرة النبوية، بحيث إن الناظر في القرآن يجد أن ما ورد فيه من ذلك إنما ورد بقصد العظة والتذكير والتنبيه والحثّ والتحذير والإرشاد والتعليم والتأديب والتشريع، ولم يرد بأسلوب السرد التاريخي وقصده. وهذا ظاهر من كون تلك الوقائع والمواقف لم تحتو كل الصور والمشاهد والتفصيلات والأحداث، وإنما احتوت ما يحقق ذلك القصد منها. ولعل هذا هو الذي يفسر حكمة عدم ورود ذكر أو تفصيل لأمور كثيرة من أحداث السيرة وفيها ما هو مهم من وقائع جهادية كفتح مكة والطائف وغزوات مشارف الشام ومؤتة واليمن إلخ. فالظاهر أنه لم يكن فيها أمور تستوجب ذلك وتتصل بالقصد المذكور فاقتضت الحكمة عدم إنزال شيء في بعضها والاكتفاء بالإشارات العابرة بالنسبة لبعضها الآخر.
-
6- الملائكة والجن في القرآن:
سادسا: إن ما ورد من أخبار الملائكة والجنّ لم يكن هو الآخر غريبا عن السامعين جزئيا أو كليا، وإنه من وسائل التدعيم للدعوة وأهدافها وليس مقصودا بذاته.
ففي القرآن آيات عديدة تدل على عقيدة العرب في الملائكة ووجودهم وأنهم موضع أمل ورجاء ومصدر برّ ورحمة. وقد ذكر القرآن أن العرب يعتقدون أنهم بنات الله وذوو حظوة لديه وأنهم اتخذوهم آلهة وشفعاء ليقربوهم إليه زلفى وقد قرر كذلك أنهم كرام بررة متصلون بالله ومختصون بخدماته لا يعصونه في ما يأمر ويقدسونه ويسبحون بحمده على الدوام. وهكذا يبدو أن ما قرره القرآن عن عقائد العرب فيهم متصل بما قرره عن صفاتهم وأعمالهم وصلتهم بالله مع سوء فهم العرب وباطل تأويلهم لهذه الصلة مما كان سبب الحملة عليهم والتنديد بهم في القرآن ولقد حكى القرآن تحدي العرب النبي باستنزال الملائكة ليؤيدوه في دعوته ما دام يقول إنها بوحي الله وهذا التحدي متصل بعقيدتهم فيهم وبتقرير القرآن عنهم كما هو واضح.
كذلك في القرآن آيات عديدة تدل على عقيدة العرب في الجن ووجودهم وأنهم مبعث خوف ومصدر أذى وشر، وأنهم كانوا يعوذون بهم ويشركونهم مع الله في العبادة خوفا منهم وتزلفا إليهم وأنهم يختلطون في عقول الناس، وقد قرر القرآن في صددهم أنهم ذوو أعمال خارقة ومصدر غواية وخبث، وأن إبليس وجنوده والشياطين الذين ذكروا مرادفين لإبليس وجنوده أحيانا كثيرة هم منهم، وأنهم يوسوسون في صدور الناس، ويسترقون السمع من السماء ويلقون بأكاذيبهم إلى الأفاكين الكاذبين. وهكذا يبدو أن ما قرره القرآن عن عقائد العرب فيهم متصل بما قرره عن صفاتهم وأحوالهم كذلك «1» .
وفي كتب التفسير بيانات كثيرة في صدد الملائكة والجنّ وإبليس وماهياتهم وأعمالهم جاءت في سياق ما ورد عنهم في القرآن سواء فيما له صلة بعقائد العرب أم بأعمالهم وأخبارهم وأقوالهم مسهبة حينا ومقتضبة حينا آخر ومعزوة إلى علماء ورواة معينين حينا وبدون تعيين حينا آخر. ومهما يكن من أمر هذه البيانات فإن من
(1) في كتاب «عصر النبي وبيئته قبل البعثة» . بحثان مستفيضان عن عقائد العرب وتقريرات القرآن عن الملائكة والجن.
المستبعد أن تكون موضوعة كلّها بعد الإسلام، ونرجح أنها احتوت أشياء مما كان يدور في بيئة النبي عليه السلام حولهم، وأنها مما يمكن أن يستأنس به بأن العرب كانوا يتداولون عنهم أمورا كثيرة بقطع النظر عن صوابها وخطأها وزيادتها ونقصها، ومن الممكن أن يكون منها ما أتاهم عن الكتابيين لأن أسفار التوراة والإنجيل تحتوي أشياء كثيرة عنهم، كما أن من الممكن أن تكون أو يكون منها ما هو قديم لأن عقيدة وجود مخلوقات خفية طيبة وخبيثة من العقائد البشرية القديمة العامة التي تكاد توجد في جميع الأمم على اختلاف درجتها في الحضارة.
ومن المتبادر أن ما ورد عن الجن والشياطين وإبليس من صور قرآنية بغيضة ومن حملات على الكفار في سياقها متصل بما في أذهان العرب عنهم، وبسبيل تقرير كون الانحراف عن الحق والمكابرة فيه والاستغراق في الإثم والخبائث والانصراف عن دعوة الله هو من تلقيناتهم ودسائسهم ومظهرا من مظاهر الانحراف نحوهم وبسبيل التحذير من الاندماغ بهم لما في ذلك من مهانة ومسبّة. ومن هنا يأتي الكلام قويا ملزما ولا ذعا على ما هو ملموس في مختلف الآيات القرآنية، ويقوم البرهان على أن ذلك هو من الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسس الدعوة النبوية.
ولعلّ الحكمة الربانية في ما أوحى الله به من استماع نفر من الجنّ مرتين للنبي مرة في سورة الجن تلهم أن المستمعين يقولون بولد وصاحبة لله سبحانه- وهذا متصل من ناحية بعقائد العرب المشركين ومن ناحية بعقائد النصارى- ومرة في سورة الأحقاف تلهم أن المستمعين يؤمنون بكتاب موسى ومهتدون بكتاب هداه تنطوي من جهة ما على قصد التدعيم للرسالة النبوية بالإخبار بإيمان بعض طوائف الجنّ ممن يدين بديانات مختلفة منزلة وغير نازلة بالرسالة المحمدية ولهم ما لهم في أذهان العرب من صور هائلة.
ومن المتبادر كذلك أن ما ورد عن الملائكة من خضوعهم لله وعدم استكبارهم واستنكارهم واستنكافهم عن عبادته، واستغراقهم في تنفيذ أوامره
ومعرفتهم حدودهم منه، وعدم عصيان أمر له، وعدم إمكان شفاعتهم إلا بإذنه ورضائه، وما يكون من أمرهم في تلقي الكفار بالعنف والشدة وتلقي المؤمنين بالتطمين والبشرى في الآخرة، وما كان من أمرهم من المسارعة إلى السجود لآدم تنفيذا لأوامر الله بينما تمرد إبليس عن ذلك متصل هو الآخر بذلك القصد في بيان واقع الملائكة الذين لهم في أذهان العرب تلك الصور العظيمة الفخمة، وإن الكلام من هذه الناحية يأتي هو الآخر ملزما ومرهبا للكفار، ومطمئنا ومثبتا للمسلمين، ويقوم البرهان على أن ذلك هو من الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسس الدعوة النبوية.
ولعل المتمعن في الآيات التي جاء فيها ذكر الملائكة والجن وإبليس والشياطين وأعمالهم وتنوعها من جهة وما هنالك من آيات وجمل قرآنية عديدة فيها تقريرات حاسمة عن إحاطة الله بكل شيء في كل آن، وشمول قدرته لكل شيء، واستغنائه عن كل عون في تصريف ملكوت السماوات والأرض يلهم الناظر في القرآن أيضا أن تلك الآيات مع اتصالها بما في أذهان السامعين من صور قد جاءت بسبيل التقريب والتمثيل للناس الذين اعتادوا أن يروا الوسائل والوسائط في متنوع الأعمال ووجوه الحياة، ويعتبروها مظهرا من مظاهر العظمة والإحاطة ولا يدركوا المجردات إدراكا صحيحا.
فمن هذه الشروح يبدو واضحا كما هو المتبادر أن ما ورد عن الملائكة والجن ليس غريبا عن السامعين وإنه إنما استهدف كما قلنا التدعيم للدعوة النبوية وأهداف التنزيل القرآني أولا وليس هو مقصودا بذاته ثانيا، وإنه قائم على حكمة التدعيم بما هو معروف متداول ثالثا، وإن في ذلك تدليلا على أهمية ملاحظة ذلك في سياق النظر في القرآن تدبرا وفهما وتفسيرا، لأن من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر فيه في الماهيات والكيفيات لذاتها من مثل خلقة الملائكة والجن وكيفية اتصالهم بالله والناس وقيامتهم بأدوارهم على اعتبار أن هذه الماهيات والكيفيات غير مقصودة لذاتها أولا ولا طائل من وراء التنقيب والاستغراق فيها لأنها ليس مما يدخل في نطاق الأسس والأهداف ثانيا كما أنها ليس مما يدخل