الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمجتمع الإنساني إلى مرتبة الكمال من حيث الطمأنينة العامة والسلامة الاجتماعية، وانتفاء أسباب الضغينة والحقد والقطيعة والخصام والبغي والبؤس والقلق التي تجتاح المجتمع حينما تنتشر فيه الفردية وتقوى الأنانية، ويشتد عدم مبالاة الفرد بغير نفسه ومصلحته وكيانه الخاص لضمان النفع لنفسه من أي سبيل، أو حينما يتسع المجال فيه لبغي الناس وعدوانهم بعضهم على بعض بدون رادع، أو حينما تداس فيه حقوق الضعفاء وتفقد فيه رغبة مساعدة المحتاجين، وتضعف أو تزول فيه عاطفة البرّ والتعاطف الاجتماعية.
وهذا المبدأ بهذه السعة من المبادئ الجليلة التي قررها القرآن مرة بعد مرة وبأساليب متنوعة، حتى كان من أهم أهداف الدعوة الإسلامية. ووروده في هذه السورة المبكرة وبهذا الأسلوب القوي يدل على أنه من أسس الدعوة الرئيسية، وإنه لكذلك. وإنه لمن أقوى مرشحات الإسلام للشمول والخلود.
ومثل هذا يقال في صدد الصبر والتواصي به. لأن ذلك الخلق الشخصي الاجتماعي من لوازم الحياة الإنسانية الصالحة وعمدها. ويهدف القرآن إلى تقويته في الأفراد والمجتمع وبثّ روح القوة والطمأنينة فيهم. ووروده في هذه السورة المبكرة وبهذا الأسلوب القوي يدل على اعتباره من أهم الأخلاق التي يجب أن تقوم عليها الشخصية الإنسانية الإسلامية، وعلى ما له من خطورة وضرورة في حياة الأفراد والمجتمع.
مدى التنويه القرآني بالصبر
ونرى بهذه المناسبة أن نشير إلى ما تكرر كثيرا في القرآن من التنويه بالصبر حتى لقد بلغ عدد المرات التي وردت فيها كلمة الصبر ومشتقاتها في القرآن المكي والمدني ونوّه فيها بخلق الصبر وحثّ عليه وأثنى على من يتخلق به ويلتزمه ووعد بالنجاح والأجر وأمر بالاستعانة به على مواجهة الخطوب والشدائد نحو مائة مرة حيث يدل هذا على مبلغ العناية الربانية بترسيخ هذا الخلق أو هذه الفضيلة التي هي من أجل الفضائل الأخلاقية في المسلمين. من ذلك في القرآن المكي هذه الآيات:
1-
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يوسف [90] .
2-
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) الرعد [22] .
3-
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) النحل [41- 42] .
4-
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) النحل [96] .
5-
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) الحج [35] .
6-
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) الزمر [10] .
7-
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) فصلت [34- 35] .
8-
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) الشورى [43] .
ومن ذلك في القرآن المدني هذه الآيات:
1-
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
(157)
البقرة [153- 157] .
2-
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) البقرة [177] .
3-
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) آل عمران [146] .
4-
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) آل عمران [200] .
وواضح من هذه الآيات ومن الآيات الكثيرة الأخرى التي وردت في سور عديدة، أن هدفها هو بثّ روح الجلد ورباطة الجأش وضبط النفس والسكينة والتضحية في نفس المسلم مما يضمن له الكرامة والعزة والنجاح ويجنبه الطيش والهلع والجزع والاضطراب والقلق في الأزمات والأخطار.
والصبر بعد يتجسد في أخلاق كثيرة، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد ومواقف الحق. والعفاف هو الصبر على الشهوات. والحلم هو الصبر على المثيرات.
والكمال هو الصبر على أمانة الأسرار. والزهد هو الصبر على الحرمان. فإذا ما رسخ هذا الخلق في امرئ صار له من القوة المعنوية والشجاعة والجلد ما يمكنه من مواجهة الخطوب دون فزع وجزع وتحمل المشاق والرضاء بالمكروه والحرمان في سبيل الحق والشرف والكرامة والعزوف عن الشهوات والمثابرة على المقاصد النبيلة مهما عسرت وطال أمدها وغدا محل رضاء الله عز وجل والناس واعتمادهم.
ولقد روى الخمسة عن أبي سعيد الخدري حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه:
«ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر» «1» . حيث ينطوي في الحديث التنويه العظيم بالصبر الذي ينطوي في الآيات القرآنية ويتساوق بذلك التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر مثل سائر الأمور.
ولقد يكون في القرآن المكي بل والمدني آيات تحثّ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الصبر على ما كان يقع من أذى الكفار وما كان من هؤلاء من مكابرة وعناد ومناوأة. غير أن المتمعن فيها يجد أنه ليس من تناقض بينها وبين ما قررناه. كما أنه ليس فيها ما يمكن أن يكون حثا على احتمال الظلم والجور والضيم والذل.
وكثير منها بل جميعها إنما توخت تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه من الحق وتهدئتهم إلى الوقت المناسب وحث النبي صلى الله عليه وسلم على الاستمرار في الدعوة والمهمة التي انتدب لها كما ترى في الأمثلة التالية وهي مكية ومدنية:
1-
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) يونس [109] .
2-
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) النحل [126- 128] .
3-
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) غافر [77] .
4-
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) الطور [48] .
5-
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) البقرة [109] .
(1) التاج ج 2 ص 32- 33.