الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد تحققت فيه جميع معاني التعظيم والتفخيم والتكريم، وإنه ليس في حاجة إلى المزيد بمثل هذه المظاهر كما غاب عنهم أنهم يقررون ماهيات مادية عن السماء الأولى وبيت العزة والحفظة والسفرة والتوزيع على جبريل وتلقي جبريل عنهم، ويصفون مشاهد إبصارية لا يصحّ إلقاء الكلام فيها جزافا، وليس عندهم أي دليل نقلي ثابت وصحيح صادر عن النبي الذي هو وحده صاحب الحق في الإخبار عن الغيبيات.
ومهما يكن من أمر فإن هذه الأقوال تدل على أن كثيرا من الناظرين في القرآن وعلمائه ومفسريه اعتبروا أو يقع الوهم بأنهم اعتبروا القرآن- ومن جملته الفصول الوسائلية والتدعيمية والوقائع الجهادية والأسئلة والأجوبة ومواقف التحدي والجدل والحجاج المتقابلة- مستقلا في أصله عن الأحداث التي نزل بمناسباتها، وكون هذه الأحداث ليست إلا ظروفا عابرة لنزوله حتى مع قولهم إن القرآن قد نزل منجما حسب الحوادث- لأن هذا يبدو غريبا إزاء القول إن القرآن نزل في بدء نبوة النبي أو قبلها جملة واحدة إلى سماء الدنيا- فقالوا ما قالوه وولعوا بما ولعوا به من أسرار القرآن، واستقراء حروفه ورموزه ومغيباته، واستغرقوا في ماهيات ما جاء فيه من مشاهد كونية وقصص تاريخية، وحاولوا أن يستخرجوا حقائق ما كان ويكون من الوقائع والعلوم ونظرياتها، وفي هذا ما فيه من التكلّف والتجاوز والتشويش وتعريض القرآن للمغامز والمطاعن في حين أنه لا طائل من ورائه ولا ضرورة له ولا أسناد وثيقة تدعمه.
-
9- روايات نزول القرآن بالمعنى وأثرها:
ثانيا: ومن ذلك ما قاله بعض العلماء من نزول القرآن على قلب النبي بالمعنى لا باللفظ. فقد ذكر صاحب «الإتقان» هذا الموضوع في فصل كيفية نزول القرآن على قلب النبي بالمعنى لا باللفظ. فقد ذكر صاحب «الإتقان» هذا الموضوع في محل كيفية نزول القرآن، وقال إن هناك أربعة أقوال:(1) إنه نزل باللفظ
والمعنى وإن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به. (2) إن جبريل إنما نزل به بالمعاني خاصة وإن النبي علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب، واستند قائلو هذا القول بظاهر قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 193- 194] . (3) إن القرآن ألقي إلى جبريل بالمعنى وإنه عبر عن المعاني بالألفاظ العربية وبها نزل على النبي، وإن أهل السماء يقرأونه بالعربية. (4) إن الوحي نزل باللفظ حينا وبالمعنى حينا فما نزل باللفظ فهو القرآن وما نزل بالمعنى فهو السنّة، أي أن الأحاديث النبوية هي أيضا وحي رباني ولكنها نزلت بالمعنى، وعلّل أصحاب هذا القول إنه كان يقصد التخفيف عن الأمة، ولذلك جازت رواية الأحاديث النبوية بالمعنى.
ويلاحظ أن هذه الأقوال تخمينية، ولم يورد قائلوها أسنادا موثقة لها في حين أن الموضوع متصل بسرّ وحي الله وسرّ النبوة كذلك، فهو أمر غيبي إيماني لا يصح قول شيء فيه إلا بنصّ صريح من قرآن أو حديث ثابت عن النبي، وما دام أنه لم يرد شيء من ذلك، وإن النبي قد بلغ القرآن الموحى به إليه بألفاظه العربية التي دوّنت وحفظت عنه بالتواتر اليقيني فليس من محل للقول إن القرآن أوحي إليه بالمعنى كما أنه ليس من ورائه طائل، وإن الحق في هذا هو ما يتسق مع الواقع وحسب وهو أن ما بلغه النبي من ألفاظ القرآن هو ما نزل الوحي به على قلبه، وأنه لا يصح أن يعدل عن هذا إلى غيره بالظنّ والتخمين.
على أن النصوص القرآنية هي في جانب ما نقول أيضا أكثر منها في الجانب الآخر أو في جانب السكوت. فآيات يوسف [2] والزخرف [3] والزمر [28] وفصلت [3 و 44] التي تذكر تنزيل القرآن عربيا وجعله عربيا- وقد نقلناها في مناسبات سابقة- تحتوي قرائن بل دلائل قوية على قصد تقرير كون الألفاظ العربية التي بلغها النبي هي ما نزل الوحي به على قلبه.
ومن الغريب أن القائلين بنزول القرآن بالمعنى استندوا إلى آيتي الشعراء:
[193- 194] اللتين نقلناهما وغفلوا عن ما بعدها بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) ، كما
هي العادة من أخذ آية دون آية ودون سياق للتدليل بهما على رأي ما، في حين أن بعدهما أي الآية [195] يحتوي ما ينقض ذلك بصراحة، ومن الغريب أكثر أن لا يحتج القائلون بنزول القرآن بألفاظه بهذا النصّ القرآني الصريح القاطع.
ومما يجدر التنبيه عليه في هذه المناسبة أن القول بأن الأحاديث النبوية مما كان ينزل به الوحي بالمعنى على إطلاقه لا يتسق مع الواقع والنصوص القرآنية.
فقد احتوت آيات عديدة عتابا للنبي على بعض الحوادث والوقائع والمواقف والأقوال التي صدرت منه بل وعلى بعض الأفكار والخطرات التي دارت في ذهنه في العهد المكي والعهد المدني على السواء مما تشير إليه آيات سورة عبس: [1- 10] والإسراء: [73- 75] وهود: [12] والأنفال: [67- 68] والتوبة: [43 و 113- 117] والأحزاب: [37] والتحريم: [1- 2] والنساء: [105- 112] .
فلو كان كل ما قاله النبي وفعله وفكر فيه وحيا على إطلاق القول لما كان محل لمعاتبته. ولقد أثر عن النبي حوادث وأخبار وأحاديث كثيرة ووثيقة في تقرير كونه بشرا قد يخطىء ويصيب في اجتهاداته في أمور الدنيا وسياستها وفي ما يبدو له من ظواهر الأمور التي لا يكون مطلعا على بواطنها وملابساتها، وإنه لا يحلف على شيء فيرى ما هو خير إلا كفّر عن يمينه وأتى الذي هو خير إلخ.
ولقد استند القائلون بالوحي العام الشامل إلى آيتي سورة النجم وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) ، مع أن روح الآيات وسياقها هما في صدد توكيد صحة ما أخبر به النبي عن اتصال وحي الله به بصورة عامة كما هو المتبادر منها، وهو ما تكررت في صدده الآيات واستهدفته، وإن من التجوز تشميل مداها لكل قول صدر عن النبي لتعارض ذلك مع الوقائع والنصوص.
ونريد أن ننبه على نقطة هامة، فنحن لا نعني بما نقرره أن لا يكون النبي في كثير مما قاله وفعله وأمر به ونهى عنه وخاصة مما لم ينزل فيه قرآن ناقض أو معدل أو معاتب ملهما به من الله، ففي القرآن دلائل عديدة على أن كثيرا مما وقع من النبي قبل نزول قرآن به قد وقع بإلهام رباني، وإن القرآن الذي نزل بذلك جاء مؤيدا
له فيه، كما أن جميع ما ثبت عن النبي من سنن قولية وفعلية، وأوامر ونواه مات عنها دون أن ينقضها هو أو القرآن هو تشريع واجب الاتباع بنص القرآن «1» ، وإنما الذي نعنيه التعليق على القول بأن جميع ما صدر عنه من قول وفعل إطلاقا، وبأن جميع السنن النبوية القولية والفعلية وحي من جنس الوحي القرآني مع فارق واحد وهو أن هذا باللفظ وذاك بالمعنى مما لم يرد ما يؤيده من حديث نبوي ثابت أو نص قرآني صريح، ومما لا يجوز الكلام فيه بالظن والتخمين والاجتهاد. وفي القرآن مشاهد كثيرة تدل على أن النبي كان يجتهد في أمر فينزل القرآن مؤيدا له ومثبتا فيه ومنددا بالذين وقفوا منه موقف المخالفة أو التردد أو التمرد، فلو كان ذلك وحيا من جنس الوحي القرآني مع ذلك الفارق لكان يقتضي أن ينصّ عليه حين صدوره عن النبي، أو حين تثبيت النبي فيه قرآنيا بعد صدوره أنه كان وحيا ربانيا وهذا لم يقع.
ولقد استهدف بعض الذين قالوا ذلك تقرير العصمة النبوية. وننبه على أن ما نقرره لا يمسّ هذه العصمة، عدا أنه قائم على براهين محكمة قرآنية وواقعية.
فالعصمة النبوية تتناول ما يبلغه النبي عن الله، وآيتا النجم مصوبتان على هذا المعنى، والمبلغ عن الله بصراحة هو القرآن فقط ثم تتناول امتناع النبي عن اقتراف إثم أو جريمة أو فاحشة أو مخالفة للقرآن قولا وفعلا، ولا تتناول فيما نعتقد الأقوال والأفعال والمواقف الاجتهادية والعادية التي لم تؤيد بقرآن وليس فيها نية الإثم والضرر والشر والمخالفة، والتي قد يكون فيها الخطأ والصواب وخلاف الأولى الذي في علم الله والذي لا ينكشف للنبي إلا بوحي. وفي القرآن مشاهد عديدة تدل على أن النبي كان يجتهد في أمر فيصدر عنه قولا أو فعلا فينزل القرآن معاتبا حينا ومنبها أو مذكرا حينا بما هو الأولى كمشاهد أسرى بدر وتحريم النبي على نفسه زوجاته واستغفاره لأقاربه من المشركين وإذنه للمعتذرين عن الانضمام لحملة تبوك، وزواجه بمطلقة متبنيه وحادث الأعمى وخطرات نفسه في التساهل
(1) اقرأ آيات الحشر: [7]، والنساء:[80]، وآل عمران:[31] .
مع المشركين مما احتوت الإشارات إليه سورة الأنفال والتحريم والتوبة والأحزاب وعبس والإسراء، مما لا يمكن أن يحتمل القول معه أن ذلك كان إلهاما ربانيا في معنى الوحي البتة. ونحن من المؤمنين بالعصمة النبوية ولكن لا على ذلك المعنى الذي يجعل النبي يمتنع عليه أن يصدرمنه أي اجتهاد في خلاف الأولى المغيب عنه علمه أو أي خطأ بريء مما لا يمكن أن ينتفي عن الطبيعة البشرية النبوية المقررة في القرآن، ومما تنعدم به حكمة الثناء العظيم الذي أثناه الله في القرآن على أخلاقه، وحكمة اختصاصه من دون الناس بالرسالة، ولكن على المعنى الذي يتحقق في الكمال النبوي خلقا وروحا وعقلا والذي لم يصل النبي إلى درجة الاصطفاء الرباني إلا بعد أن وصل إليه، فصار من سموّ الأخلاق وصفاء الروح وعظم القلب ورجاحة العقل إلى ما يرتفع به عن كل ما يشين، ثم على معنى عصمته من أي خطأ في تبليغ ما أوحي إليه والتزامه له بكل دقة وأمانة وصدق واستغراق.
ومهما يكن من أمر، ومع أن كثيرا من العلماء على رأي أن القرآن نزل بألفاظ عربية، وأن ما بلغه النبي من ألفاظه هو ما ألقي إليه من الوحي فالذي يتبادر لنا أن لتلك الأقوال أثرا في الروايات الكثيرة عن خلافيات القراءة وخاصة الخلافيات اللفظية والنظمية من بدل كلمة بكلمة ومن تقديم وتأخير مما أوردنا أمثلة عديدة عنه في مناسبة سابقة، أو أن الذين تداولوا ودونوا هذه الخلافيات دون تمحيص ونقد قد تأثروا بهذه الأقوال، أو أن الذين اخترعوا ودسوا هذه الخلافيات أو بعضها بقصد التشكيك قد استغلوا وروجوا هذه الأقوال، أو أن كل هذا قد وقع معا، كما أنه مما يتبادر لنا أن تكون هذه الأقوال قد أثرت أو تأثرت بأحاديث الأحرف السبعة وتأويلاتها العجيبة التي ذكرنا بعضها سابقا، وخاصة ما ورد في بعض وجوهها من أنها بقصد تقرير أن القرآن قد نزل بمعان متسق مفهومها مختلف مسموعها حيث يجوز التغاير إذا لم تبدل كلمة عذاب بكلمة رحمة.
ولعل ما عزي إلى أبي حنيفة من تجويزه الصلاة بقراءة القرآن بالترجمة الفارسية، وتقريره أن المهم في القرآن هو المعنى متصل بهذه الأقوال. وقد ذكر الزمخشري أن أبا حنيفة استند إلى ما روي عن ابن مسعود من إجازته لقارىء بقراءة