الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد روى البغوي في سياق الآية الأولى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه:
«بعثت أنا والساعة كهاتين- وأشار بإصبعيه- وإن كادت لتسبقني» «1» . وروى ابن كثير في سياقها حديثا كذلك أخرجه ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي مناد فيها يا أيّها الناس فيقبل الناس بعضهم على بعض هل سمعتم، فمنهم من يقول نعم ومنهم من يشكّ. ثم ينادي الثانية يا أيّها الناس فيقول الناس بعضهم لبعض هل سمعتم فيقولون نعم ثمّ ينادي الثالثة أي. أيّها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فو الذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا وإنّ الرجل ليمدّنّ حوضه فما يسقي فيه شيئا أبدا وإنّ الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا، قال ويشتغل الناس» .
والحديث الأول وارد كما أشرنا في الذيل في كتب الأحاديث الصحيحة، واحتمال صحة الحديث الثاني وارد. واقتراب الساعة مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مما ذكر صراحة في بعض الآيات القرآنية منها آية سورة القمر: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث إنذار الناس وهذه الحكمة ملموحة في الآيات كما هو المتبادر.
[سورة النحل (16) : الآيات 5 الى 18]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) .
(1) روى الشيخان والترمذي هذا الحديث بصيغة قريبة عن سهل وهذه الصيغة «بعثت أنا والساعة هكذا ويشير بإصبعيه فيمدّهما. وفي رواية بعثت أنا والساعة كهاتين وضمّ السبابة والوسطى» التاج ج 5 ص 301.
(1)
لكم فيها دفء: لكم فيها ما تستدفئون به. والمتبادر أن القصد من الجملة الإشارة إلى شعر الأنعام وصوفها ووبرها الذي يصنع منه الثياب التي تبعث الدفء في الأجسام.
(2)
لكم فيها جمال: المتبادر أن المقصد الإشارة إلى ما في منظر الأنعام وهي تغدو وتروح من مشهد جميل ومأنوس وبخاصة بالنسبة لأصحابها والحياة التي كان يحياها العرب الذين هم أول من خوطبوا بالقرآن.
(3)
تريحون: ترجعون الأنعام إلى مراحها أي حظائرها وزرائبها بعد الرعي.
(4)
تسرحون: تذهبون بها إلى الرعي في الصبح المبكر.
(5)
لم تكونوا بالغيه إلّا بشق الأنفس: لم تكونوا لتصلوا إليه لولا الأنعام إلا بكل مشقة وقرئت الشين بالفتح والكسر والجمهور على الكسر.
(6)
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر: معنى قصد السبيل سلوك الطريق الحق، ومعنى جائر المعوج عن الطريق الحقّ. والجملة تنطوي على تقرير كون هناك طريقان واحدة مستقيمة وأخرى معوجة وأن الله يدعو ويهدي إلى الأولى أو
أن عليه أن يبين الطريق المستقيم.
(7)
فيه تسيمون: فيه ترعون أنعامكم.
(8)
ذرأ لكم: خلق لكم، أو نمّى، أو أكثر، أو سخّر لكم.
(9)
مواخر: من المخر وهو الجريان والسير في البحر.
(10)
أن تميد بكم: لئلا تميد وتضطرب.
(11)
وعلامات: دلائل يستدل بها المسافرون في أسفارهم من معالم الطرق أو النجوم على ما ذكره المفسرون.
في الآيات تعداد لنعم الله على الناس وتذكير بما هيأه وسخّره لهم من وسائل الحياة والمعاش ونواميس الكون. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد جاءت كاستطراد بياني لما احتوته الآيات السابقة وبخاصة الآيتان الأخيرتان منها كما هو المتبادر بحيث يصح القول أنهما سياق واحد. وكل ما فيها قد مرّ في سور سابقة وشرحناه وعلقنا عليه. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكراره لتكرر المواقف وتنوعها، وهي موجهة إلى القلوب والعقول معا، ويزيد في استحكامها وإلزامها أن السامعين يعتقدون أن الله عز وجل هو الذي خلق كل ذلك وأغدق عليهم بكل هذه الأفضال ويسّر لهم كل هذه الوسائل على ما حكته عنهم آيات عديدة مرّ منها بعض الأمثلة، وأسلوب الآيات ينطوي على تقرير هذا أيضا.
والآيات وإن كانت مطلقة الخطاب فإن الآية (17) تنطوي على تنديد. وهذا التنديد موجه على الأرجح إلى الكفار المشركين الذين ندد بهم في الآيات السابقة وهذا مما يؤيد ما قلناه آنفا من صلة الآيات بسابقاتها وكونها سياقا واحدا.
ومع أن التذكير بنعم الله وأفضاله على الناس ولفت أنظارهم إلى مشاهد الكون ونواميسه منبث في كثير من السور القرآنية وإن معظم ما جاء في هذه الآيات قد جاء في سور أخرى فإن هذه السلسلة أطول السلاسل القرآنية من حيث الشمول والروعة.
وننبه مرة أخرى إلى ما نبهنا إليه قبل من أن أسلوب هذه الآيات وما سبق من
أمثالها لا يقتضي أن يكون الله قد خلق هذه الأكوان لأجل البشر وكل ما يعنيه أن ناموس الله في خلقه جعل البشر أكثر انتفاعا منها وعبر عن ذلك بالأسلوب الذي جاءت به والله تعالى أعلم.
والآيات وإن كانت موجهة إلى سامعي القرآن لأول مرة فإن الخطاب فيها عام موجه لجميع الناس في كل ظرف أيضا من حيث إن ما احتوته متصل بما يقع تحت مشاهدة الناس ومتناولهم وانتفاعهم في كل ظرف، ومن حيث إنها بسبيل التذكير بنعم الله على الناس والتنويه بالإنسان الذي اختصه الله دون غيره من الحيوان بقوى قابلة للانتفاع بنواميس كون الله في مختلف الوجوه والتكيف معها والحثّ على التفكير في آلاء الله ونواميسه للتوصل من ذلك أولا إلى القناعة بأن وراء هذه المشاهد والنواميس العظيمة البديعة المتقنة الدقيقة قوة عاقلة مدبرة حكيمة وبوجوب وجودها والخضوع لها وحدها والإيمان برسلها وكتبها والتزام حدود شرائعها التي أوحت بها لرسلها وثانيا إلى استعمال ما أودعه الله في الناس من قوى للانتفاع منها.
وفي هذا الفصل صور من ارتفاقات العرب الذين يخاطبون به قبل غيرهم ومعايشهم ونعم الله عليهم بها في الأنعام والدواب والأسفار البحرية والاهتداء بالنجوم والطرق والأنهار وصيد السمك واستخراج اللؤلؤ والمرجان واستعمالهما في التحلي والتزين مما تكرر ذكره في آيات سابقة لأنها متصلة بحياة الناس ومعايشهم.
وفي جملة وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ تكرار لمعنى في آيات عديدة مرت في سور سابقة بأسلوب جديد بقصد بيان أن هناك طريقة واحدة مستقيمة وأخرى معوجة وأن على الله أن يبين للناس معالم الطريق المستقيمة ليسيروا فيها دون المعوجة، ولو شاء لهداهم جميعا إلى الأولى ولكن حكمته شاءت أن يدعهم لاختيارهم واجتهادهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا ويجزي كلا منهم بما يستحق.