الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يتورعون عن العودة إلى شركهم بعد أن يكشف عنهم الضر ويبعد عنهم الخطر.
وهذا المعنى قد تكرر في آيات عديدة مرّ بعضها. وقوة الإفحام والتنديد آتية من هذه الناحية في الدرجة الأولى. وينطوي في الآيات تقرير كون المشركين إذ يشركون مع الله غيره في الاتجاه والدعاء إنما يشركونهم على أنهم وسائل وشفعاء لديه وهو ما تكرر تقريره في آيات عديدة مرّ بعضها أيضا.
وهناك من قال إن النهي عن اتخاذ إلهين اثنين عنى ما كان معروفا من عبادة الفرس لإلهين هما إلهين النور وإله الظلمات أو إله الخير وإله الشر. لأنه ليس هناك ملة غيرها كانت تعبد إلهين فقط في ظروف نزول الآيات. فالمشركون كان لهم آلهة كثيرون يشركونهم مع الله، والنصارى كانوا يقولون بالأقانيم الثلاثة، واليهود كانوا موحدين وكل ما هناك أنهم أو أن منهم من كان يقول ببنوة العزير على ما جاء في آية سورة التوبة هذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [30] ، فنسجل ذلك دون القطع بصحته أو نفيه لأنه ليس هناك أثر وثيق متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه في ذلك.
[سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 61]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
. (1) أيمسكه على هون: يسأل نفسه هل يستبقيه حيّا على مضض واستهانة شأن.
في الآيات حكاية لبعض عقائد وطقوس المشركين في معرض التنديد والتسخيف والإنذار بأسلوب قوي لاذع:
1-
فهم يخصصون قسما مما رزقهم الله لشركائهم الذين لا يستندون في إشراكهم مع الله إلى علم وبينة.
2-
وينسبون إلى الله سبحانه اتخاذ البنات في حين أنهم يرغبون عنهن ويشتهون لأنفسهم الأفضل أي البنين، وفي حين أنهم حينما يبشر أحدهم بولادة بنت يسودّ وجهه ويضيق صدره غيظا ويتوارى من الناس خجلا ويحار فيما يفعله بالمولودة هل يدسها في التراب فيتخلص منها أم يحتفظ بها مع الشعور بالهوان والغضاضة.
3-
ولسوف يسألهم الله عما كانوا يفترونه عليه ويحاسبهم، ولبئس ما يعتقدون من عقائد ويسيرون عليه من تقاليد.
4-
وهم يضربون في ذلك الأمثال السيئة لله عز وجل، وإن الأمثال السيئة للذين لا يؤمنون بالآخرة. أما الله القوي الحكيم فإن له المثل الأعلى في كل أمر.
5-
ولولا أن حكمة الله اقتضت أن يؤخر عقاب المجرمين الظالمين إلى أجل معين في علمه ولو أراد أن يؤاخذ الناس ويعاقبهم فورا بما يبدو منهم من انحراف وإجرام لأبادهم حتى لا يبقى على ظهر الأرض دابة تدبّ عليها، ولسوف يرجع الناس إليه حينما يحين الأجل ولن يستطيع أحد أن يتأخر عنه ولا أن يتقدم.
والآيات متصلة اتصالا استطراديا بالسياق والموضوع، والآية الأولى تشير إلى ما كان من تقاليد المشركين من تخصيص بعض أنعامهم وزروعهم لشركائهم مما احتوت تفصيله سورة الأنعام التي مرّ تفسيرها وشرحناه شرحا يغني عن التكرار. وما ذكرته الآيتان الثانية والثالثة من نظرة العرب إلى ولادة البنات قد ورد في سور أخرى مرّ تفسير بعضها مثل سورتي الزخرف والصافات وعلقنا على
الموضوع تعليقا يغني عن التكرار كذلك.
ولقد روى الطبري في سياق الشطر الأول من الآية [61] أن أبا هريرة سمع رجلا يقول إن الظالم لا يضرّ إلّا نفسه فالتفت إليه فقال بلى والله إن الحبارى لتموت في وكرها هزالا بظلم الظالم. وروى عن ابن مسعود قوله: «إن الجعل يكاد أن يهلك في جحره بخطيئة ابن آدم» .
وما ورد في هذا الشطر قد ورد في سور أخرى مرّ تفسيرها منها الآية [45] من سورة فاطر والآية [58] من سورة الكهف. ومعناها والهدف الذي هدفت إليه صريحان على ما شرحناه في الفقرة الخامسة. ولسنا نرى المقام يتحمل الروايات المروية في سياق الجملة وإن كان المعنى الذي أريد بالروايات قد يتسق مع آية سورة الأنفال هذه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [25] ، إلا أن تطبيق هذا المعنى أو استخراجه من الجملة التي نحن في صددها في غير محله في ما يتبادر لنا. وكل ما نرى أن الجملة قصدته من هذا المعنى هو بيان شدة إثم الظالم والظلم أكثر منه قصد إهلاك كل دابة على الأرض من غير بني آدم الذين وحدهم يظلمون وينحرفون عن قصد وعقل.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الشطر الثاني من الآية حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال: «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ الله لا يؤخّر شيئا إذا جاء أجله. وإنّما زيادة العمر بالذرّية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة في العمر» والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن صحته محتملة وقد ورد في هذه الكتب شيء من بابه حيث روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» «1» . وفي الحديث النبوي توضيح متساوق مع
(1) التاج ج 1 ص 66.